الباحث : عماد الدين إبراهيم عبد الرازق
اسم المجلة : الاستغراب
العدد : 7
السنة : السنة الثالثة - ربيع 2017 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث : May / 9 / 2017
عدد زيارات البحث : 2846
ليست ظاهرة الإلحاد بجديدة على المجتمعات الإنسانية ولا هي بغريبة عنها، إنها ظاهرة قديمة تنمو وتتطور، ثم تخفت لتنتهي أخيراً إلى الذبول والفناء. ولقد بات نقد الفكر الإلحادي بوجه عام، والمعاصر فيه بوجه خاص ضرورة ملحة، ليس لأنه امتلك مناهج ومعطيات علمية جديدة زادته قوة وتأثيراً وحسب، وإنما لأنه يحظى بالتوجيه والتمويل من دول وجامعات لمحاربة الإيمان وأهله أيضاً.
هذا البحث يلقي الضوء على ظاهرة الإلحاد في الغرب في أطوارها القديمة والمعاصرة، كما يبيِّن المسارات التي سلكتها العملية النقدية للإلحاد من جانب فلاسفة ومفكرين أثروا أزمنة الحداثة بمنجزاتهم، وأسهموا في نقاش لا تزال مسفاعيله سارية إلى يومنا هذا.
المحرر
لو تساءلنا عن أهم لحظة تاريخية ظهر ونما فيها الإلحاد في الفكر الغربي سيكون القرن الثامن عشر هو العلامة الفارقة في تاريخ الإلحاد الغربي. فقد شهد هذا القرن حملة فكرية شاملة مناهضة للدين طغت على الثقافة الغربية. ويجب أن نؤكد حقيقة أن ظهور الفكر الإلحادي المناهض للدين تزامن مع انحسار الفلسفة وانحطاطها. لقد كانت حقبة سقراط وأفلاطون وأرسطو حقبة إيمان واعتقاد أياً كان هذا الإيمان والاعتقاد. وفي حقبة أبيقور سادت الأسئلة الإلحادية الشهيرة المرتكزة على إشكالية وجود الشر في العالم. أما القرن السابع عشر فهو قرن عملاق في غزارة إنتاجه الفلسفي، في هذا القرن ظهر فلاسفة أثروا الحياة الفكرية في أوروبا مثل ديكارت ـ مالبرانش ـ اسبينوزا وغيرهم، وهم فلاسفة مؤمنون معتقدون، حتى اسبينوزا الذي كان حلولياً فإن نزوعه الفكري يتسم بنزوع اعتقادي ديني عميق. وإذا كانت الحركات الإلحادية قديمة قدم البشرية ذاتها، فإننا نشير إلى أن أول هذه الحركات والبذور الإلحادية المسجلة تاريخياً كانت في الهند تقريباً في عام 1000 قبل الميلاد، حيث كانت أول علامات الشك في النص المكتوب Rig-Veda ومن يعلم عن يقين؟ وبعد ما يقرب من 500 عام قبل الميلاد حاول بوذا أن ينقل الفكر من التركيز في الآلهة إلى التركيز في معاناة الإنسان. وفي الفلسفة اليونانية ظهرت النزعة المادية، وصار مبدأ الذرات كعنصر واحد عند ديمقريطس وألغي وجود الإله الوثني. وبحلول القرن الرابع قبل الميلاد ظهر أبيقور الذي يعد بحق أول ملحد في التاريخ بسؤاله عن وجود الشر في العالم. وفي العصور الوسطى كانت بداية الحملة على الإيمان حيث بدأ الرفض لفكرة الإله صاحب الوحي الذي خلق البشر. وكان وليم الاوكامي أول من دعا صراحة إلى إنكار إمكانية وجود إله. ثم أصبحت فلسفات العقلانية والطبيعانية والتجريبية التي ظهرت في عصر النهضة هي الأساس النظري الذي تم عليه بناء الفكر الفلسفي الإلحادي.أما في عصر التنوير فقد كانت السمة السائدة في هذا العصر هي النقد الحاد للدين. أما في الفلسفة المعاصرة فقد ظهر تيار الإلحاد الجديد والذي توَّج العلم على عرش الكون والإنسان. ولقد ارتبطت نشأة الإلحاد المعاصر ارتباطاً وثيقاً بظهور الفكر المادي. حتى يمكن القول من دون مبالغة أن الإلحاد هو الابن الشرعي لهذا الفكر. ولقد انطلق الإلحاد الجديد في معارضته للدين من رفض الكثير من المناهج المسيحية التي تتعارض مع المنطق والعلم الحديث. وسوف نوضح هذا لاحقاً من خلال الإشارة إلى أنه على الرغم من تبني بعض العلماء والفلاسفة في الغرب الإلحاد وإنكار وجود إله، إلا انه أن نقداً جدّياً لفكرة الإلحاد في الغرب من جانب فلاسفة وعلماء كثيرين، تفصح عن حقيقة أن الإلحاد ابن غير شرعي للغرب، ونغمة نشاز في منظومة الفكر الغربي.
ماهية الإلحاد وهويته
1 - الإلحاد لغوياً: في لسان العرب، الإلحاد يتأتى تارة من قولهم ألحد يلحد إلحاداً، وتارة من فعل ثلاثي لحد يلحد لحدا. وهو مأخوذ من مادة لحد التي تدل على ميل عن الاستقامة، ويقال: ألْحَدَ الرجل إذا مال عن طريق الحق.[2].
والإلحاد هو المَيْل والعدول عن الشيء، والانحراف عن الوسط العدل. وكذلك هو الجدال والمراء، يقال لحد في الدين لحداً وألحد إلحاداً لمن مال وعدل. فهو موضوع للميل عن الوسط.
2 - المعنى الاصطلاحي: الإلحاد بمعناه الواسع هو رفض الاعتقاد أو الإيمان في وجود الإله، أما المعنى في الضيق يعتبر الإلحاد موقفاً مؤدَّاه أنه لا توجد آلهة[3].
إذن الإلحاد Atheism هو مصطلح مفترض من قبل جماعات تنكر وجود اللَّه وتعطي الدور الأول للعلم، ويتركّز هذا المصطلح على فكرة واحدة أساسية وجوهرية هي إنكار وجود اللَّه بزعم عدم توافر الأدلة المادية، مثل الحواس الخمسة وغيرها[4].
3 - الجذور الإلحادية في البيئة الغربية: السؤال الذي يطرح نفسه هنا بقوة متى بدأ الإلحاد في الغرب.. وكيف انتشرت البذور الإلحادية في التربة الغربية؟
الإجابة عن هذا السؤال ستكون متضادة بين اثنين من الآراء، أولها يعود بالإلحاد إلى فجر الحضارة الغربية نفسها، أي إلى القرن الخامس قبل الميلاد حيث يربط جيمس ثرويرJames Thrower في كتابه الإلحاد الغربي Western Atheism بين الإلحاد والطبيعانية. فالإلحاد كرفض للأطروحات الميتافيزيقية مقابل التفسيرات العلمية المادية استهلَّه فعلياً فلاسفة عصر ما قبل سقراط أمثال طاليس ـ اناكسمندر ـ أنا كسمنيس وجميعهم من الأيونين الذين قالوا بأن الطبيعة يمكن أن تدرك بما هي عليه بناء علي الفهم الإنساني لها، وليس من داعٍ لإسقاط تصورات من خارج الطبيعة أو فوقها لاستيعاب كيف تعمل هذه الطريقة حولنا. من جهة أخرى إذا جرى ربط الإلحاد بالعقلانية فسيعود ظهور الإلحاد إلى فترة متشابهة حيث دُحِضت الخرافات الميتافيزيقية وتفضيل ما هو أكثر عقلانية من تفسيرات. أما الإجابة عن سؤال زمن ولادة الإلحاد فإنها تتعارض مع الإجابة الأولى وتعتمد على فرضية أن الإلحاد كفكرة متكاملة المعالم لم تُطرح على الملأ إلا في القرن الثامن عشر، وهو ما سماه دافيد بيرمان الإلحاد العلنيAvowed Atheism. ولذا فإنّ مثل هذا النوع من الإلحاد ظهر في كتاب نظام الطبيعة لكاتبه بارون دى هولباخ المنشور عام 1770. ويشير ثروير في كتابه الإلحاد الغربي إلى أن هولباخ هو أول من طرح الإلحاد علناً جهاراً كمصطلح له تعريف واضح في الفكر الغربي[5].
واستناداً إلى كتاب الباحثة الأميركية كارين أرمسترونج فإن تاريخ الخالق الأعظم يشير تحديداً إلى ظهور الإلحاد بقوة منذ نهايات القرن السابع عشر وبدايات التاسع عشر. ومع التطور العلمي والتكنولوجي الذي شهده الغرب بدأت بوادر تيارات أعلنت استقلالها عن فكرة وجود إله للكون. وهذا على وجه التعيين هو عصر ماركس ودارون وفرويد ونيتشه، وهم الفلاسفة والعلماء الذين بدأوا تحليل الظواهر العلمية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية بطريقة لم يكن لفكرة الخالق الأعظم أي دور فيها[6].
4 - مسوغات نشأة الإلحاد في الغرب: لقد تضافرت وتكاملت عدة عوامل لانتشار ونشأة الإلحاد في الغرب نذكر منها:
أولاً: الكنيسة الأوروبية: لقد كانت الكنيسة الأوروبية سبباً مباشراً وغير مباشر في نشر الإلحاد بوجود الله، وذلك لان القائمين على هذه الكنيسة من الرهبان والقساوسة أدخلوا في دينهم كما يقرر المؤرخون الكثير من الخرافات، وجعلوها عقائد دينية. وعندما بدأ عصر النهضة الأوروبية واكتشف بعض العلماء حقائق جديدة عن الأرض والكون، هبّ الرهبان ورجال الكنيسة ينكرون ذلك ويتهمون من يعتقد بالحقائق الجديدة ويصدق بها بالكفر والزندقة، فاندفع الناس نحو الإيمان بالعلم المادي وأرادوا التخلص إلى غير رجعة من السلطان الكهنوتي والقهر الزمني الذي مارسته الكنيسة، فكان الرفض الكامل لكل المعتقدات الدينية هو النتيجة الطبيعية.
ثانياً: مظاهر العالم الرأسمالي: ما كادت أوروبا تتخلص جزئياً من سلطان الكنيسة، وتكتشف قوة البخار والآلة حتى تحول الناس من الزراعة إلى الصناعة، وهرع الإقطاع إلى التصنيع فامتلكوا المصانع الكبيرة، وحازوا الثروات الضخمة، واستغلوا العمال استغلالاً فاحشاً وانتشرت المظالم الهائلة، شكّلت مساندة السلطات الكنسية لتلك الممارسات عاملاً أساسياً انتشار الإلحاد.
ثالثاً: ظهور المذاهب الاقتصادية الإلحادية: كان لظهور المذاهب الاقتصادية الإلحادية خاصة الشيوعية أثر في نمو الظاهرة الإلحادية. وعلى الرغم من أن المذهب الشيوعي ينطلق من مبدأ الصراع الطبقي في مواجهة المظالم الرأسمالية، إلا أن القائمين على هذا المذهب أضفوا عليه صبغة أيديولوجية، فزعموا أن الحياة التي يعيشها الناس هي محض حياة فقط، ولا ثمة روح ولا بعث ولا إله.
رابعاً: اقتران الإلحاد بالقوة المادية: لم تتقدم الشعوب الأوروبية وتمتلك القوة المادية إلا بعد الثورة على سلطة الكنيسة. وأن دولة كروسيا مثلاً لم تصبح دولة عظمى إلا بعد أن أعلنت إلحادها. وقد ساد وعي عام قوامه أن الدول التي ما زالت تتمسك بالدين هي دول متخلفة وأن الإلحاد هو سبب للقوة والعلم[7].
خامساً: تيار الإلحاد الجديد ومنطلقاته: يتردد بين الملاحدة الجدد أن كل تقدم علمي يسحب من رصيد الألوهية، ومن ثم يدق مسماراً جديداً في نعشها. يجسد بيتر أتكنز هذا الرأي بقوله إن على البشرية أن تقبل أن العلم قد قضى على أي مبرر للاعتقاد بوجود غاية من الموجودات. ويذهب زعيم الملاحدة الجدد تشارلز دوكنز إلى القول بأن الإيمان بالإله ينبغي أن يزول، ويشير إلى أننا إذا كنا نعتبر أن مرض الإيدز ومرض جنون البقر من الأخطار التي تهدد البشرية، فالإيمان بإله هو أحد أكبر الشرور في العالم، بل يفوق الجدري الذي جرى القضاء عليه. وبناء على ذلك فالإيمان هو رذيلة كل دين، فهو يمثل اعتقاداً لا يقف وراءه دليل[8].
كذلك يدعي هؤلاء الملاحدة الجدد أن الإيمان هو اصطلاح ديني، ويعرِّفونه بأنه التصديق من دون برهان، ومن هاتين المغالطتين يمضون في ترهات القول في خطر أكبر، إذ يعتبرون أن كل من الإلحاد والعلم لا يشتملان على إيمان، بينما الحقيقة أن العلم لا يخلو من إيمان. وأن ادعاء دوكنز أن العلم لا إيمان فيه خطأ من جانبه، فكل العلماء في ممارستهم للعلم ينطلقون من إيمانهم بأن الكون منطقي وقابل للتأويل، كما يؤمنون بأن أحكام العقل صحيحة، وينبغي الانقياد لما يقدم من براهين وأدلة، وبذلك فالإيمان يقع في قلب العلم[9].
قد يكون من أهم نظريات الملاحدة الجدد التي ينطلقون منها في رفضهم لوجود الإله هي قضية مبدأ الصدفة، إذ ينكرون وجود إله خالق حكيم للكون، وأن الوجود والكون وجدا عن طريق مبدأ الصدفة والعشوائية. لذا فإنهم يركزون في أسئلة معروفة من مثل: كيف حدث الكون بالصدفة وكيف ابتدأت الحياة بالصدفة؟ دوكنز مثلاً يتحدث عن مبدأ الحياة والوعي ويقيم ذلك من مبدأ الصدفة [10].
يرفض الملاحدة الجدد القول بأسس فطرية للحضور الإلهي والديني والأخلاقي. ويعتبرون ظهور متتالية "الألوهية الدين الأخلاق" أحد أبرز نتائج نظرية التطور الدارويني أثناء صراع الإنسان في مواجهة قوى الطبيعة والشرور والآلام. كأن لم يكف هؤلاء الملاحدة عدم الإقرار بوجود اللَّه تعالى حتى أخذوا يوجهون قذائفهم ضد الآلهة، لا في القضايا العلمية وحسب، بل على المستوى الأخلاقي أيضاً. فالملاحدة الجدد يصرحون بأنّ الكتب المقدسة تطرح مفاهيم أخلاقية متدينة، ويؤكدون أن البشرية ستكون أحسن حالاً بدون هذه المفاهيم[11].
من هنا يتبين أن الإلحاد الجديد يمتاز بنزعة علمية متطرفة، حيث يلاحظ أن العلم قادرٌ على اكتشاف كل الحقائق، وأنه ينفي أي حقيقة متجاوزة للعالم المادي. هاريس مثلاً يرى أن الإرادة الحرة فكرة متناقضة، وأن العلم اكتشف أن ليس الإنسان إلا دمية بيوكيميائية. وعلى الخط نفسه يرى دانيت أن الثقافة ليست سوى منتجات مناظرة للجينات معتمداً في ذلك على أفكار دوكنز عن الجين الأناني ذي الأثر السلوكي[12].
سادساً: الإلحاد ابن غير شرعي للغرب: ثمة قول بليغ عن الإلحاد يلخص واقع أنه كان منبوذاً ومرفوضاً شكًلا وموضوعاً في الغرب. هذا ما يقوله ألفن بلانتنجا بأن من المفارقات المؤلمة أن بعض رجال الدين في نهاية العصور الوسطى وقفوا في وجه العلم لأنه يهدد إيمانهم بالله، وفي القرن العشرين يقاوم البعض ما توصل إليه العلم لأنه يمهد للإيمان بالإله. ويجب أن نشير إلى حقيقة هامة وهي برغم وجود تيار في الغرب يتبني الإلحاد من منطلق الانتصار للعلم على حساب الدين، إلا أن الإلحاد كان بوجه عام نغمة نشاز ولحن غير متّسق مع الخلفيات الدينية المؤمنة في الغرب.
وإذا كان من أهم منطلقات الإلحاد في الغرب الانتصار للعلم علي حساب الدين، وعدم الاعتراف بوجود إله للكون، ونشأة الكون صدفة، وكذلك قضية وجود الشر في العالم وكيف يوجد هذا الشر مع وجود إله خير. فقد تصدي فلاسفة وعلماء لتفنيد مثل هذه القضايا وبينوا أنها واهية ولا أساس لها من الصحة، نذكر من هولاء الفلاسفة على سبيل المثال لا الحصر:
1 - جون لوك: لقد انتقد لوك الإلحاد وأفكاره من خلال رسالته في التسامح. يرى لوك أن الملحد غير مقبول في المجتمع المدني، وأنه لا يمكن التسامح مطلقاً مع الذين ينكرون وجود الله، فالوعد والعهد والقسم من حيث هي روابط المجتمع البشري ليس لها قيمة بالنسبة إلى الملحد. فإنكار اللَّه حتى لو كان بالفكر فقط فإنه يفكك جميع الأشياء. لذا دعا لوك في رسالته عن التسامح إلى القضاء على بنية التفكير الإلحادي المطلق، وروح التعصب الديني المغلق، وإقامة الدين على العقل وبناء منظومة حقوق تؤسس لمفهوم التسامح، وتعتمد على مبدأ فصل المهام بين دور الكنيسة والدولة ومبدأ المساواة في الحقوق بين جميع الطوائف الدينية. وغرضه من ذلك أن خلاص النفوس هي من شان الله[13].
2 - فولتير: بداية نشير إلى تحول فولتير من تبني الإلحاد إلى نقد الإلحاد والملحدين وهذا يتضح جلياً في كتابه مبحث في الميتافيزيقا يقول إنّ الرأي المنكر لوجود الله أي الإلحاد يبعث على الضحك، وتعتبر مسرحية سقراط لسان حاله. تقول المسرحية ليس هناك سوى إله واحد ذي طبيعة لانهائية، وما من أحد بمستطيع أن يشاركه هذه الطبيعة اللاّنهائية.. ارفع عينك نحو السماء ونجومها وكواكبها، ثم انظر إلى الأرض والبحار سوف تجد تناغما بين ما هو كائن في السماء وما هو كائن في الأرض. فكل منهما تربطه بالآخر أدق الروابط، وكل شيء جزء من نظام واحد، ومن ثم فليس هناك سوى خالق واحد وسيد واحد وحافظ واحد[14].
يناظر فولتير الملاحدة في أهم مدَّعياتهم وهي قضية عدم وجود مدبِّر للكون، وأن الكون نشأ عن طريق الصدفة. فهو يقوض هذه القضية من جذورها ويؤكد وجود إله خالق حكيم مدبر للكون. وأن هناك توافقاً واتساقاً وغاية في الكون تدل على أن هناك إلهاً لهذا الكون. وفي مقاله عن الموتى يسير فولتير في الاتجاه نفسه في نقد الإلحاد، ويقول إنَّ من الأفضل بكثير من الناحية الأخلاقية أن نؤمن بوجود إله من عدم الإيمان بوجوده، ويرى أن من المؤكد أن مصلحة البشر تقتضي الإيمان بوجود إله يعاقب ما تعجز العدالة الإنسانية عن عقابه فضلاً عن أنه في مصلحة أي حكومة أن يؤمن شعبها بوجود إله يعاقب الشر ويثيب الخير[15].
3 - أنتوني فلو: يعتبر أنتوني فلو من أشهر الفلاسفة الغربيين الذين تصدوا نقدياً لتيار الإلحاد الجديد من خلال كتابه «هناك إله» وتصدٍّ للإلحاد من خلال إثبات وجود الإله، وبيان أن قضية الشرّ في العالم لا تلغي وجود الإله الخير. ويشير إلى أن التقدم العلمي والاكتشافات العلمية في النصف الثاني من القرن العشرين برهنت وجود إله خالق لهذا الكون، ولا يمكن أن نرجع نشأة الكون إلى الصدفة والعشوائية.ويرى أن العلم الحديث يجلي ويكشف خمسة أبعاد تشير إلى وجود خالق للكون هي الكون له بداية وقد خرج من العدم، وإنّ الكون نشأ من العدم، وتسير الطبيعة وفق قوانين ثابتة مترابطة، وإنّ هناك غائية في الكون، العقل خصوصية الإنسان، فقدرة العقل الإنساني علي التفكير المنطقي في الأمور المادية لا يمكن أن تكون صادرة عن المخ البشري[16].
ويختتم فلو عرض حججه الإيمانية بالقول: ليست معطيات العلم الحديث فقط هي التي دفعتني لتغيير قناعاتي ولكن أيضاً النظر في البراهين الفلسفية التقليدية التي قادتني من قبل إلى الإلحاد، ثم طبقت القاعدة السقراطية نفسها المنهجية التي اتبعتها طوال حياتي في الفلسفة الملحدة أن أتتبع البرهان إلى حيث يقودنا فقادني البرهان هذه المرة إلى الإيمان. ثم يعرج على مشكلة الشر وجودها في العالم، ويقول إن الإله الخير ومعضلة الشر والألم لاشك في أنها معضلة كبيرة وهامة، ويرى أن عدم فهم المشكلة لا ينبغي أن يلغي القناعة بوجود الإله. وبعد أن أثبتت البراهين الفلسفية والعقلية العملية ذلك الوجود، فإن وجود الشر والألم في حياة البشر له علاقة بصفات الإله ولا بوجود الإله أو عدمه. وقد قسم الشر إلى نوعين: نوع من كسب الإنسان ويعود إلى ما يشوب النفس البشرية من نقائص، فالإله ترك المجتمعات لإرادة وفعل واختيار الإنسان الذي كثيراً ما ينزل الضرر والألم بأخيه، وهناك شرّ لا علاقة للإنسانية فيه وهو ما يسمى بالشرّ الطبيعي أو الميتافزيقى مثل الزلازل والبراكين[17].
4 - سوين بيرن: لقد تصدّى الفيلسوف المؤمن سوين بيرن لادعاءات الملحدين بإعادة طرح ما يعرف ببرهان فترة التَرك يقول إذا كان العدم يمتدّ إلى ما لانهاية في القدم، وإذا كان للكون بداية، فلم نشأ الكون في هذا الوقت الذي نشأ فيه، لما ترك الكون دون نشأة لفترة، ثم حدث في وقت ما في الزمن اللانهائي أن خرج للوجود، لا بدّ أن هناك عاملاً مرجحاً دفعه للوجود، النتيجة هو إله قديم خلق من العدم[18].
موقف سوين بيرن أيضاً من رفضه لفرضية الأكوان المتعددة هو موقف رافض للإلحاد بكل أشكاله. يقول سوين بيرن من السُّفهِ اللجوء إلى القول بوجود تريليونات من الأكوان التي ترجع إلى تريليونات من السنين، تفسير وجود الظروف الملائمة لنشأة الحياة في كون واحد هو كوننا في الوقت الذي يمكن أن يفسر القول بوجود واحد وجود الإله الأمر كلّه أنّ فرضية الأكوان المتعددة التي حدث أن كانت ظروف أحدهما مناسبة لنشأة الحياة، لم تجب على السؤال البديهي نفسه كيف نشأت قوانين هذا الكون المناسب، وإذا رفضنا فرضية الأكوان المتعددة كتفسير لنشأة الحياة في كوننا، لا يبقي أمامنا إلا أن نقر بوجود الإله الخالق للكون والحياة، الذي يستند إليه برهان التناغم[19].
5 - ألفين بلانتنجا: لقد لاحظ بلانتنجا أن الإيمان شعور فطري في الإنسان، وان الاعتقاد في وجود الإله مثل الاعتقاد في مفاهيم أساسية آخرى كالاعتقاد بان للآخرين عقولاً كعقولنا، والاعتقاد في صحة حواسنا، والقول بأنّ الكل أكبر من الجزء، أننا نؤمن بصحة هذه المفاهيم من دون الحاجة إلى أن نسوق الدليل، وكذلك الإيمان بوجود اللَّه هو من الأدلة الفطرية التي لا تحتاج إلى إثبات أو دليل[20].
الإلحاد في ميزان الإسلام
هذا هو موقف بعض الفلاسفة المحدثين في الغرب من نقد الإلحاد وتقويض قضاياه وأسسه وثوابته التي انطلق منها.نشير الآن إلى موقف بعض العلماء وخاصة نيوتن في موقفه الرافض للإلحاد والذي يتقاطع إلى حد بعيد مع الرؤية الدينية الإسلامية. يقول نيوتن إنّ هذا النظام الأكثر روعة الذي يحتوي الشمس والكواكب والمذنبات لا ينشئه إلا موجد فائق الذكاء والقدرة، موجد يتحكم في كل شيء ليس روح العالم، ولكن كإله فوق الجميع[21].
هنا يهدم نيوتن أحد أهم القضايا التي ينطلق منها الإلحاد وهي قضية عدم وجود إله للكون، وأن الكون نشأ صدفة. ويؤكد وجود خالق للكون ومدبر له.
خاتمة:
يتبين مما سبق أن الإلحاد بذرة غريبة وطفيلية حتى في الغرب، وأن إنكار وجحود اللَّه لا يتفق مع الفطرة الإنسانية السوية. وأن الغرب نفسه هدم ونقد الأفكار الإلحادية لما تمثله من دمار للعقول، وهدم لكل محاولات الإصلاح البشري على مستوي الجماعات والأفراد. وأن الإلحاد غالباً ما ينتشر ويترعرع في غياب الفكر التنويري وفي غياب الدور التنويري للفلسفة أيضاً. كذلك رأينا أن هذا الفكر الإلحادي يرتبط بالنزعات المادية التي ترى في العلم الإله الجديد وتتعبّد في محرابه، ونسي هؤلاء الملاحدة أن فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها أن يوجد في الإنسان جسم وروح، لكل منهما مطالب تختلف عن الآخر، ولقد أثبتت الحقائق التاريخية والفكرية أن الإلحاد غريب على المجتمعات بصورة كبيرة، حتى إن وجد فقليل من يتبناه، وسرعان ما يزول ويتلاشي متى ظهر زيفه وضعف أدلته وخواء قضاياه.
[1]*ـ باحث وأستاذ الفلسفة المعاصرة في جامعة بني سويف ـ جمهورية مصر العربية.
[2]- أبن منظور:لسان العرب، مجموعة من المحققين، مطبعة صادر، ج3، ص389. وأيضا انظر المعجم الوسيط، مادة لحد817 /2.
[3]-رأفت شوقي: الإلحاد نشأته وتطوره، دار الكتاب الحديث، القاهرة، ص35.
[4]- حلمي القمص يعقوب: رحلة إلى قلب الإلحاد، كنيسة القديس مار مرقص، ج1، الإسكندرية، ص15.
[5] - p175، 2013’the Encyclopedia’Atheism and Agnosticism:smart
[6]- عبد اللَّه بن صالح العجيري: ميلشيا الإلحاد(مدخل جديد لفهم الإلحاد الجديد)، دار تكوين، ط2، 2014، ص67.
[7]- عمرو شريف: خرافة الإلحاد، مكتبة الشروق الدولية، ط1، القاهرة، 2014، ص45.
[8]- المرجع السابق: ص75.
[9]- عبد الرحمن حنبكة: صراع مع الملاحدة حتى العظم، دار القلم، دمشق، ط5، ص168.
[10]- المرجع السابق:ص170.
[11]-رمسيس عوض:الإلحاد في الغرب، الانتشار العربي، بيروت، ط1، 1997، ص17
[12]-عمرو شريف: خرافة الإلحاد، ص316.
[13]- جون لوك:رسالة في التسامح، ترجمة.عبد الرحمن بدوي، دار الغرب الإسلامي، المغرب، 1988، ص75.
[14] 13- رمسيس عوض: الإلحاد في الغرب، ص135.
[15]- رمسيس عوض: الإلحاد في الغرب، ص152.
[16]-عمرو شريف: رحلة عقل، مكتبة الشروق الدولية، ط4، القاهرة، 2011، ص417.
[17]-عمرو شريف: رحلة عقل، ص419.
[18]- p6، 2004، calrendon press، swine burn:the Existence of God
[19]- عمرو شريف: رحلة عقل، ص435.
[20]-المرجع السابق:ص58.
[21]-المرجع السابق:ص60.