البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

فلترقدي بسلام أيتها العلمنة، الوقائع تدحض النظرية الرمادية

الباحث :  رودني ستارك - Rodney Stark
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  8
السنة :  السنة الثالثة - صيف 2017 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  August / 13 / 2017
عدد زيارات البحث :  4638
تحميل  ( 432.389 KB )
في هذه الدراسة لعالم اجتماع الدين الأميركي رودني ستارك سوف نقرأ تحليلاً سوسيولوجياً معمّقاً للأطروحة العلمانية في اختباراتها ونظرياتها متعددة الظهورات في التاريخ الحديث.

اللاَّفت في دراسة ستارك أنه يصدر حكماً معلّلاً يبيّن فيه مناطق الإشكال في التجارب العَلْمنيةَ سواء في أوروبا أو في أميركا الشمالية. كما يحدد إخفاقاتها في مواجهة الإيمان والأصوليات الناهضة في المذاهب المسيحية الغربية.

المحرر

منذ البداية، استقبل متخصصو العلوم الاجتماعية الطرح العلماني بحفاوة بالغة على الرغم من أنه لم يتفق قط مع الواقع المجرب. منذ أكثر من قرن ونصف أشار توكفيل إلى أن «الوقائع لا تتفق بأي شكل من الأشكال مع النظرية [العلمانية]»، ومع مرور الوقت لم تزدد حالة عدم التوافق هذه إلا سوءاً، فالجزئية الوحيدة التي تضفي أي هالة من الصدقية على القول بأن العلمنة تحدث بالفعل تعتمد على المقارنة بين وضعنا الراهن وعصر إيماني انطوى منذ أمد بعيد. سأجمع في مقالي هذا أعمال الكثير من المؤرخين المعاصرين الذين اتفقوا على القول إن عصر الإيمان ليس إلا نتاج محض حنين إلى الماضي؛ فإن كان بمقدورنا أن نقول أي شيء عن القرون الوسطى فهو أن الافتقاد إلى المشاركة الدينية كان فيها شائعاً أكثر حتى مما هو اليوم. سأبين بعد ذلك أن البلاد المسيحية لم تشهد في الواقع أي تغيرات دينية حديثة تتفق مع العلمنة، حتى بين العلماء؛ بعدها سأوسع مناقشتي لأقيم امتداد المبادئ العلمانية إلى المجتمعات غير المسيحية، ولأبين أن حتى الأديان الآسيوية الشعبية التي تعتمد على مقدار كبير من الخرافات السحرية لم تظهر أدنى إشارة للانحسار أمام مد متسارع للحداثة. وفي النهاية، سأقول بعض الكلمات الأخيرة قبل أن أدع العلمنة تقر في مثواها الأخير!

لقرابة القرون الثلاثة، ظل متخصصو العلوم الاجتماعية المختلفة والمثقفون الأوروبيون بجميع أطيافهم يعدون بنهاية الدين، وما فتئ كل جيل جديد يبرز من هذه الشريحة الاجتماعية يتحدث بيقين عن «نضج الإنسانية الذي سيتجاوز الماورائيات» والآتي لا محالة «خلال عقود قليلة آتية أو أكثر بقليل». أصبح هذا الطرح يعرف بالطرح العلماني، ويبدو لي أن أوائل دعاته كانوا بريطانيين، فقد أدى عهد عودة الملكية في بريطانيا والذي بدأ سنة 1660

إلى حقبة من الهجمات الشرسة على المعتقدات الدينية حتى أصبح ذلك الأمر شائعاً بل رائجاً بين الطبقات الراقية من اللندنيين (ديورانت وديورانت 1900). بحسب ما تمكنت من الوصول إليه في المراجع المتوافرة لدي فقد كان توماس وولستون أول من حدد تاريخاً لانتصار الحداثة على الإيمان حين كتب سنة 1710 معبراً عن يقينه بأن الديانة المسيحية ستكون قد أصبحت من مخلفات الماضي مع حلول سنة 1900 (وولستون 1733). بعد نصف قرن من ذلك رأى إمبراطور بروسيا المشهور فريدريك الأكبر أن هذه التوقعات كانت في الواقع متشائمة! فقال في رسالة له إلى صديقه الكاتب الفرنسي فولتير: «ذلك الرجل الإنجليزي وولستون... لم يكن ليقدر على حساب ما جرى مؤخراً... فالدين يتداعى على نفسه، ولن يكون انهياره إلا أسرع» (في ردمان، 1949: 26). فما كان من فولتير إلا أن غامر بالإدلاء بتخمينه الخاص الذي قال فيه إن النهاية ستحل ضمن الخمسين سنة التالية. بعد ذلك، لم تمنع حتى حركة الصحوة البروتستانتية الثانية في الولايات المتحدة توماس جيفرسون من التكهن سنة 1822 بأنه «لا يوجد شاب يعيش في الولايات المتحدة اليوم إلا وسيموت وهو توحيدي العقيدة[2]» (هيلي 1984: 373)، ولكن بالطبع وحتى بعد مرور جيل كامل على هذا الكلام ظل التوحيديون طائفة أقلية بينما شهدت الطوائف الميثودية والمعمدانية معدلات نمو مذهلة (فينكه وستارك 1992).

لكن هذا لم يفت في عضد «أنبياء» العلمنة التالين الذين لم يكونوا أقل يقيناً من سابقيهم؛ ففي الوقت الذي كانت نبوءة جيفرسون قد أثبتت فشلها في الولايات المتحدة، أعلن أوغست كومت أن المجتمع الإنساني، وكنتيجة حتمية للحداثة، كان يتجاوز في نموه «المرحلة اللاهوتية» من نشوء المجتمع وارتقائه، وأن فجر عهد جديد قد أشرق ستحل فيه العلوم والتكنولوجيا محل الدين بوصفه أساساً للأحكام الأخلاقية؛ لكن كومت تجنب الخوض في ذكر توقيت محدد تتم فيه هذه النبوءة. بالطريقة ذاتها، لم يخل تباهي إنجلز من الشماتة حين قال إن الثورة الاشتراكية ستجعل الدين يتبخر دون رجعة، لكنه لم يزد أيضاً عن القول إن هذا «سيحدث قريباً»! في عام 1878 اشتكى ماكس مولر (الصفحة 218) من أنه:

 في كل يوم وكل أسبوع وكل شهر وكل ربع سنة لا يبدو لي أن المجلات والجرائد واسعة الانتشار تتوقف عن القول إن الدين قد أصبح أمراً من الماضي، وإن الإيمان ليس إلا هلوسة أو مرضاً طفولياً، وإننا وأخيراً قد وصلنا إلى الآلهة ونجحنا في تفجيرها!

مع بداية القرن العشرين، لاحظ آي إي كرولي (1905: 8) أنه «يزداد في كل مكان انتشار الرأي القائل بأن الدين ليس إلا مجرد بقايا من عصر... بدائي، وأن انقراضه ليس إلا مسألة وقت». بعد ذلك بسنوات قلائل وبينما كان ماكس فيبر يوضح الأسباب التي ستجعل التحديث يتسبب بـ»قشع أوهام» العالم، وبينما كان سيغموند فرويد يؤكد لمريديه أن الدين الذي اعتبره أعظم الأوهام العصابية سيموت قريباً على أريكة المعالج النفساني، لم يتمكن أي من العالمين الوقورين من تقديم أي تكهن حول وقت حصول نبوءاتهم إلا قولهم: «سيحدث قريباً».

بعد جيل من الزمن تقريباً، حلت عبارات مثل: «الأمر جار» أو «على الطريق» محل «قريباً»؛ على سبيل المثال بيَّن عالم الأنثروبولوجيا اللامع آنثوني إف سي والاس (1966: 264-265) لآلاف من الطلاب الجامعيين الأميركيين أن «المستقبل الارتقائي للدين هو الانقراض»، وعلى الرغم من اعترافه بأن العملية ستتطلب «بضع مئات من السنين» حتى تكتمل، إلا أنها «جارية على الطريق» بالفعل ضمن الدول المتقدمة؛ وما فتئ برايان ويلسون (1982: 150-151) خلال مساره المهني المتميز الطويل يصف العلمنة بأنها «عملية طويلة المدى تحدث الآن في المجتمع الإنساني»، وأشار إلى أن «العملية الضمنية في مفهوم العلمنة تقر مباشرة بوجود حالة مسبقة من الحياة لم تكن علمانية، أو على الأقل كانت أقل علمانية مما هي عليه في زماننا».

بعد ذلك وفي سنة 1968، وخلاف جميع التحفظات الجبانة التي جعلت المثقفين السابقين يحجمون عن الإدلاء بتكنهناتهم، أخبر بيتر بيرغر (1968: 3) جريدة نيويورك تايمز بأنه «من الأرجح أن المؤمنين بالديانات سيصبحون مع حلول القرن الحادي والعشرين مجرد طوائف قليلة مكومة مع بعضها لتقاوم ثقافة علمانية ستسود العالم بأسره»، ولم يتردد بيرغر في إطلاق العنان لموهبته في رسم الصور التي يصعب نسيانها إذ قال: «إن معضلة المؤمن اليوم تبدو وبشكل متزايد وكأنها مثل حالة منجم من التيبت يقوم بزيارة طويلة إلى جامعة أمريكية». لا تخلو صورة بيرغر من المفارقة بالطبع إذا أخذنا بعين الاعتبار الصورة الشجاعة التي رسمها الإعلام الأميركي للدلاي لاما والتي يظهر فيها وكأنه أسد من أسود الحرية والنضال وكذلك الترحاب المهذب الذي لا يخلو من التبجيل الذي يلقاه مختلف الجامعات الأميركية، فإن هذا الانقلاب في مسار الأحداث يجعل تشبيه بيرغر حمالاً لأوجه مختلفة تماماً عن تلك التي عناها في ذلك الوقت! على جميع الأحوال، وقبل انقضاء أجل الموعد الذي ضربه بيرغر لنا بثلاث سنوات، حافظ أستاذنا على ماء وجهه وتخلى عن إيمانه (الراسخ سابقاً) في العلمانية (وهو أمر سأناقشه في نهاية هذا المقال). السبب الوحيد الذي دفع بي إلى ذكر التصريحات التي أدلى بها بيرغر في نهاية ستينيات القرن الماضي هو أنها تعبر خير تعبير عن مزاج ذلك الزمن، وهو مزاج لا أنكر أني كنت مشاركاً فيه (أنظر: ستارك، 1963).

علينا أن نلاحظ خمسة أشياء في جميع «نبوءات العلمنة» التي سردناها هنا:

الأول هو الاتفاق العام حول كون الحداثة هي المحرك السببي الذي سيجر «الآلهة نحو التقاعد»؛ أي إن المبادئ العلمانية كانت دائماً تجد مرتكزها ضمن الإطار النظري الأوسع لنظريات الحداثة، فتتقدم بطرح مفاده أنه وبينما يزداد التحديث والتمدن والتصنيع فإن التدين لا بد وأن يتناقص (هادن، 1987؛ فينكه 1992). علينا أن نتذكر هنا أن التحديث عملية طويلة وتدريجية وثابتة نسبياً؛ وأن الحروب والثورات وغيرها من الكوارث قد تتسبب بنكسات مؤقتة عرضية في خطوط مسار هذا التوجه، لكن العملية ككل متينة غير قابلة للتغيير. إذا كانت العلمنة إذن نتيجة التحديث، إن لم نقل بأنها إحدى أوجه ذلك التحديث، فإنها عملية غير متقلبة، وبدلاً من أن تنبع من عمليات مفاجئة ومتشنجة فإنها ستعكس بدورها توجها ثابتاً نسبياً من الانحسار الديني يتناسب عكسياً مع أوجه الحداثة المختلفة المتجلية في التنمية الاقتصادية والتمدن وتقدم العلم والتعليم. إذا ما أخذنا الأمر من زاوية تسلسل الزمن، فإن التحديث يتخذ شكل منحنى طويل خطي يتجه إلى الأعلى؛ ويفترض أن العلمنة تتبع عكس هذا المسار؛ أي منحنى خطي طويل يتجه إلى الأسفل؛ وبما أن الحداثة قد حلت على الكثير من الأمم وتطورت بحيث أصبح مصطلح «ما بعد الحداثة» هو «آخر صرعة» ثقافية، فهذا يعني أن علينا أن نفترض أن العلمنة لا تزال «على الطريق» بقدر ما نرى توجهاً مهماً إلى الأسفل في التدين.

الشيء الثاني الذي نلاحظه في تنبؤات العلمنة هو أنها بالدرجة الأولى غير موجهة نحو التفرقة بين أدوار المؤسسات، فهي لا تتكهن بالتفرقة بين الكنيسة والدولة فحسب، أو حتى بانحسار سلطة القادة الكنسيين الدنيوي المباشر؛ فما تهتم به هذه النبوءات هو بالدرجة الأولى التقوى الشخصية الفردية وخاصة مسألة الإيمان؛ ولهذا تكهن جيفرسون أن الجيل التالي له سيجد المعتقدات المسيحية وخاصة تلك المتعلقة بألوهية السيد المسيح أموراً غير قابلة للتصديق؛ ولذا فلن يحتفظ أبناء ذلك الجيل إلا بالحد الأدنى من الحضور الإلهي ومفهوم الألوهية كما يمثله المعتقد المسيحي التوحيدي. الأمر نفسه ينطبق على إنجلز الذي لم يهتم بشأن الباباوات والمطارنة، ولكنه كان يهتم أشد الاهتمام بـ»الخرافات الدينية» التي تعتنقها الجماهير؛ وكذلك فرويد الذي كتب حول «الأوهام الدينية» وليس حول ضرائب الكنيسة؛ وكذلك والاس (1966: 265) الذي أكد أن «الإيمان بالقوى الغيبية محكوم عليه بالموت في كل أرجاء العالم» لأنه، وكما شرح بريان ويلسون (1975: 81): «بنية المجتمع العقلانية في حد ذاتها ستحول دون الاستغراق في التفكير الماورائي».

إن هذه النقطة في غاية الأهمية لأن العلمنة قد حظيت في السنوات الأخيرة بأكثر من تعريف (هانسن 1997؛ تشانين 1991؛ دوبلآير 1987؛ شاينر 1967) وهذا، وللأسف، يتيح المجال أمام بعض مناصري هذا الطرح لكي يغيروا تعريفاتهم له للتهرب من الحقائق المزعجة (أنظر: دوبلآير 1987، 1997؛ ليخنر 1991، 1996؛ يامين 1997). إحدى هذه التعريفات –وعادة ما يشار إليها بالنسخة المكبرة أو الماكروية (أنظر ليخنر 1996)- تميز العلمنة على أنها التحرر من المؤسسات (deinstitutionalization) (دوبلآير 1987؛ مارتن 1978). ما يعنيه هذا هو الإشارة إلى انحسار السلطة الاجتماعية التي كانت المؤسسات الدينية تتمتع بها يوماً ما حيث تخلصت المؤسسات الاجتماعية الأخرى –وخاصة تلك السياسية والتعليمية- من الهيمنة الدينية التي كانت ضحية لها.

إذا كان هذا هو ما تعنيه العلمنة، فليس لدينا ما نتجادل حوله؛ لا يختلف اثنان بأن رجال الدين الكاثوليكيين في أوروبا المعاصرة مثلاً لم يعودوا يتمتعون بالسلطة السياسية التي كانوا يحظون بها يوماً ما؛ والأمر نفسه ينطبق على رجال الدين اللوثريين والأنجليكانيين (مع أن الحقيقة هي أن رجال الدين لربما لم يحظوا في تاريخهم كله بالسلطة الواسعة التي نحسب اليوم أنهم كانوا يتمتعون بها)؛ كما أن الرموز والخطابيات والطقوس الدينية لم تعد تتخلل مظاهر الحياة العامة الرئيسة. لقد أثارت هذه التغيرات بالطبع الكثير من الاهتمام الأكاديمي، وأدت إلى دراسات مميزة بالفعل (كازانوفا 1994؛ مارتين 1978). لكن «أنبياء» نظرية العلمنة هؤلاء لم يقوموا بمجرد الكتابة عن شيء بدهي أو ضيق إلى هذا الحد؛ فالأمر لا يتعلق بمجرد تكهن ضيق حول تزايد الانفصال بين الكنيسة والدولة بل –وكما رأينا- كان تركيزهم ومنذ البداية على التقوى الفردية، ولم يعبروا عن اهتمام شمولي بهذا الأمر إلا بقدر زعمهم بأن انحسار التدين الشمولي لا بد وأن يعني تدنياً في التدين الفردي والعكس صحيح؛ فإذا خسرت الكنيسة سلطتها فإن التقوى الفردية ستتضاءل إلى أن تختفي؛ وإذا تضاءلت التقوى الفردية فإن الكنيسة ستفقد سلطتها. وقد كان بيتر بيرغر –الذي ظل لمدة طويلة الداعم المعاصر الأكثر قدرة والأشد حنكة لطرح العلمنة- فقد كان شديد الوضوح بالنسبة إلى هذه النقطة؛ ففي رسمه الخطوطَ العريضة المتعلقة بالعلمنة أبدى الملاحظات التالي (1967: 107-108):

كذلك فإن عملية العلمنة لديها جانبها الذاتي الشخصي أيضاً، فكما أنه ثمة علمنة في المجتمع وفي الثقافة فثمة علمنة في وعي الفرد الإنساني. وما يعنيه هذا بكلمات مبسطة هو أن الغرب الحديث قد أنتج أعداداً متزايدة من الأفراد الذين ينظرون إلى العالم وإلى حياتهم الخاصة من غير أن يستعينوا بالتأويلات الدينية لها.

لكن وكما قلنا من قبل، فقد سحب بيرغر (1997) بلطف دعمه نظريةَ العلمنة، وقد ذكرت هذه الفقرة من أعماله السابقة ليس للتشديد على خلافاتي السابقة مع بيرغر –الذي لطالما أعجبني عمله- بل لأشدد على التكتيكات التي أصبح مناصرون آخرون للعلمنة يتبعونها اليوم سعياً لتجنب مواجهة جبل الأدلة المتراكمة التي تناقض نظريتهم عبر الادعاء بأن ما تعنيه نظرية العلمنة هو فقط التحرر من المؤسسات، وأن أي توجهات ضمن التقوى الشخصية الفردية أمور لا أهمية لها؛ ودعوني هنا أشير إلى عملية  التجنب المشوقة التي اتبعها كاريل دوبلآير في مقال له حول هذه القضية حين قال: «إن تدين الفرد ليس مؤشراً ذا قيمة في تقييم عملية العلمنة».

لكن هذه النزعة التعديلية –إن لم نقل التحريفية- ليست زائفة تاريخياً فحسب، بل هي غير صادقة أيضاً؛ وسرعان ما نجد أصحابها أنفسهم يستشهدون بـ»موت التقوى الشخصية» في أي مناسبة يجدون فيها أدنى دليل يساند نظرتهم هذه أو حين يعتقدون أنهم يتحدثون إلى جمهور من «الرفاق في الالتزام» العلماني؛ ولذلك رأينا كاريل دوبلآير نفسه هو وليليان فوييه (194: 95) يبيِّنان في مؤتمر في روما سنة 1993 أنه: «لأن العلم وجهة نظر علمانية حتى النخاع» ولأنها أصبحت هي المهيمنة على المناهج الدراسية فقد أدت إلى إزالة هالة القداسة عن تعلم الطلبة ومنظورهم إلى العالم»، وبعد الاقتباس من مقالات سابقة لدوبلآير، تابع الباحثان ليقولا:

إن نجاح العلوم في إزالة جميع أنواع «الأنسنة» من أفكارنا حول المفهوم التقليدي لـ"الإله كشخص» إلى اعتقاد في طاقة حياتية أو قوة روح، وذلك بدوره روج تدريجياً للنزعة اللاأدرية والإلحاد – وهذا يفسر انحسار الممارسة الدينية على المدى البعيد!

هذا بالضبط ما كانه الطرح العلماني طوال الوقت! ولو كانت المزاعم التجريبية التي تقدم بها دوبلآير وفوييه صحيحة لكانت هذه النتيجة ستحقق كل ما تنبأ به وولستون –وإن كان في إطار زمني متأخر بعض الشيء عنه! لكن، وكما سنبين لاحقاً، فإن هذه المزاعم التجريبية ليست صحيحة في الواقع، ما هو صحيح هو أن الطرح العلماني كان ولا يزال وسيظل يتنبأ بانحسار النزعة الدينية من الفرد وليس فقط من المجتمع أو الدولة.

ثالث شيء علينا أن نلاحظه حول الطرح العلماني، وهو أمر تتضمنه سائر صيغه، هو الزعم بأنه وفي جميع أوجه التحديث فإن العلم هو الذي سيحمل المضامين الأشد فتكاً بالدين؛ فيستوي كومت ووالاس وفوييه ودوبلآير جميعهم في زعمهم بأن العلم سيحررنا «من قيود الخرافات العقائدية»؛ أو، إذا كان لنا لنقتبس الصياغة الغريبة التي تقدم بها برايان ويلسون (1968: 86): «لقد خسرت المسيحية تحت تأثير آخر ما أدركته العلوم والعلوم الاجتماعية عموم مصداقيتها اللاهوتية». لكن، لو كان الأمر كذلك لكان علينا أن نتوقع من العلماء أن يكونوا أبعد الناس، ولو نسبياً، عن التدين. لكن، وكما سنرى، فإن العلماء متدينون بقدر أي شريحة اجتماعية أخرى، فليس إذن عدم التوافق المفترض بين الدين والعلم إلا محض خيالات.

رابعاً؛ النظرة السائدة إلى العلمانية هي أنها «حالة امتصاصية»؛ أي إنها في اللحظة التي يتم التوصل إليها فلا يمكن التراجع عنها لأنها في نظر مناصريها تحظى بحصانة تكاد تكون غيبية. لكن الاتجاه الذي اتخذته أوروبا الغربية ودول الاتحاد السوفيتي السابق لا تدعم هذه التوقعات أبداً؛ بل، وكما عبر عن ذلك آندرو غريلي (1994: 272) خير تعبير، فبعد سبعين سنة من الجهود الشرسة التي بذلتها الدولة لتحقيق العلمنة «نجح القديس فلاديمير في طرد كارل ماركس»!

خامساً وأخيراً: مع أن معظم الجدل الدائر حول العلمنة يركز على العالم المسيحي، فإن مناصري هذا الطرح يطبقونه على المستوى العالمي؛ فليس إذن هو مجرد الاعتقاد بأن «المسيح كإله سيكون مصيره المحتوم هو الموت»، بل وكما أوضح والاس في الفقرة التي اقتبسناها من قبل فإن الأمر ينطبق «على الإيمان بالقوى الغيبية» في جميع أشكاله، وأن هذا سيحدث «في كل العالم»؛ وبالتالي وبحسب هذا الطرح فلن يظل من اسمي «الله» و«يهوه» إلا «ذكرى تاريخية مثيرة للاهتمام». لكن لم يكلف أحد نفسه حتى الآن بأن يبين هذا للمسلمين أنفسهم كما سنرى!

والآن: إلى التفاصيل!

أسطورة الانحسار الديني

يعتقد معظم الباحثين بأننا لو كان لنا أن نرسم رسماً بيانياً يمثل معدلات الاعتقادات الدينية لدى الأفراد في دول الشرق والغرب ومدى مشاركتهم في طقوسها لوجدناها تتناسب عكسياً مع اتجاهات التحديث في كل دولة؛ فإذا بدأنا مع مستويات الإيمان العالية التي كانت موجودة في أوائل القرن الثامن عشر فإنه من المفترض للاتجاهات الرئيسة في هذا المجال أن تظل تتجه إلى الأسفل حتى وصلت اليوم إلى مستويات في غاية التدني من التدين لا ينظر إليها إلا على أنها بقايا لا تكاد تستحق الذكر ستختفي بدورها قريباً (ويلسون 1966، 1982؛ بروس 1995؛ ليخنر 1991، 1996). ولإثبات هذه الفرضية يوجهنا الباحثون المذكورون لنلاحظ الهبوط الحاد في عدد الحضور في الكنائس في معظم أوروبا كي تستنتج من ذلك وجود تآكل في الإيمان الشخصي أيضاً على أساس أن قلة الحضور يعني لا محالة الافتقاد إلى الإيمان الدافع إلى الحضور.

لكن هذه الفرضيات خاطئة من جميع أوجهها؛ وقد كان ديفيد مارتن (1965) أول عالم اجتماع معاصر يرفض طرح العلمنة بشكل تام وواضح؛ بل اقترح أن علينا أن نزيل مفهوم العلمنة من خطابيات العلوم الاجتماعية لأن الوظائف الوحيدة التي قام بها هذا المفهوم كانت أيديولوجيةً وجداليةً وليس نظرية، ولأنه لا يوجد أي دليل لصالح أي تحول عام أو حتى ثابت «من المرحلة الدينية في الشؤون الإنسانية إلى مرحلة علمانية» (مارتن 1991: 465). مع أن هذا قد يبدو لنا مذهلاً، إلا أن طرح العلمنة كان يفتقر إلى الانسجام والترابط منذ البداية؛ فعلى سبيل المثال لاحظ ألكسيس دو توكفيل رواج المبادئ العلمانية بين فلاسفة القرن الثامن عشر وعلق عليه قائلاً:

لسوء الحظ لا تتفق الوقائع مع النظرية بأي شكل من الأشكال؛ إذ توجد شعوب في أوروبا لا يعادل مدى عدم إيمانها إلا مستوى جهلها وحقارتها؛ بينما إذا نظرنا إلى أميركا –وهي إحدى أكثر دول العالم حرية وتنويراً- نجد الناس فيها يلبون بكل حماسة جميع الواجبات الخارجية التي يتطلبها منهم الدين ([1840] 1956: 319).

الآن وبعد مرور أكثر من 150 سنة على إبداء توكفيل ملاحظته هذه، لا يزال التدين الأميركي كما هو، بل في الواقع لقد ازدادت نسب الانتماء إلى إحدى الكنائس بثلاثة أضعاف (فينكه وستارك 1992). أما مؤشرات الالتزام الديني الأخرى فقد ظلت ثابتة أو ارتفعت بشكل متواضع (غريلي 1989). ومع أن الحالة الأميركية تقدم تحدياً مدمراً للفرضيات التي قامت عليها مبادئ العلمنة إلا أن الأرقام تظهر أن هذه الفرضيات تفشل حتى في معقلها في أوروبا. فأولاً وقبل كل شيء: لا يوجد أي تراجع ظاهر بعيد المدى في المشاركة الدينية في أوروبا! لا شك بأن مستويات المشاركة تختلف من وقت إلى آخر استجابة لبعض الأحداث التي تتسبب بالإزاحة الاجتماعية مثل الحروب والثورات، إلا أن النقطة الأهم هي أن المشاركة الدينية كانت متدنية في شمال أوروبا وغربها لقرون طويلة قبل مقدم التحديث.

أما السبب الثاني الذي يدفعنا إلى رفض مزاعم علمنة أوروبا فهو أن البيانات الحالية لا تظهر وصول «عصر جديد من الإلحاد»، بل إن مستويات التدين الشخصي لا تزال مرتفعة، وتصنيف أي دولة بأنها على درجة عالية من العلمانية بينما لا يزال معظم سكانها يؤمنون بالإله لهو طرح سخيف مناقض لنفسه. بل، وكما قالت غريس دايفي (1990: 395)، فإن السؤال المهم فيما يتعلق بالدين في أوروبا ليس: «لماذا لم يعد الناس يؤمنون؟»، وإنما هو: «لماذا يظل هؤلاء الناس يؤمنون من غير أن يروا أي ضرورة للمشاركة وحتى بأدنى درجات الانتظام في مؤسساتهم الدينية؟»

من بين الحجتين اللتين سقتهما للتأسيس لرد المزاعم حول العلمنة في أوروبا، لعل القارئ يجد الزعم أن المشاركة الدينية لم تكن قط عالية المستوى في شمال أوروبا وغربها هو أكثرها إثارة للشبهات ولذلك سوف نبدأ به.

أسطورة تقوى الماضي

الكل «يعرف» بأن العالم في الماضي كان «مكاناً تحفه التقوى» ؛ أي إن الناس في الأزمنة القديمة كانوا يظهرون مستويات أعلى من الممارسة الدينية والاهتمام بشؤون العقيدة وبطرائق مركزية في حياتهم لم نعد نراها إلا في بعض الثقافات الاجتماعية الفرعية في زمننا المعاصر كما هي الحال بين طائفة الآميش المسيحية أو اليهود الأرثوذكس المتزمتين أو الإسلاميين الأصوليين. للأسف، وكما هي الحال في أي قصة ترسمها مخيلتنا حول جمال الأزمنة الماضية الساحرة، فإن هذا التصور حول «الماضي التقي» لا يزيد عن كونه حنيناً إلى ما لا وجود له. يتفق معظم المؤرخين البارزين الذين درسوا الدين في القرون الوسطى بأنه لم يكن لدينا «عصر إيمان» قط (موريس 1993؛ دافي 1992؛ سومرفيل 1992؛ بوسي 1985؛ أوبلكيفيتش 1979؛ موراي 1972: توماس 1971؛ كولتون 1938). حتى في القرن الحادي عشر، كتب الراهب الإنجليزي ويليام أوف مالميسبوري شاكياً ندرة حضور الطبقة الأرستقراطية للكنيسة، فالأتقياء أيضاً من بين أبناء هذه الطبقة كانوا «يحضرون» القداس في منازلهم وهو مستلقون على فراشهم:

هم لا يذهبون إلى الكنيسة في الصباح كما هي طريقة المسيحية؛ بل في غرف نومهم وهم مستلقون في أذرع زوجاتهم، حيث لا تكاد هيبة القداس الصباحي حتى تلامس آذانهم إذ يستجلبون راهباً يقوم بأداء القداس لهم بسرعة وعلى عجلة من أمره (في فليتشر: 1997: 476).

أما بالنسبة إلى الناس العاديين، فإن معظمهم في أثناء العصور الوسطى وفي عصر النهضة كانوا لا يكاد الواحد منهم يدخل الكنيسة في حياته، بل وقد كانت عبادتهم الشخصية الخاصة موجهة إلى مجموعة من الأرواح والوسائط الروحية التي لا يمت الكثير منها إلى المسيحية بصلة (جنتايلكور 1992؛ شنايدر؛ ديلومو 1977؛ توماس 1971). يعتبر تقييم أليكساندر موراي للحياة الدينية في إيطاليا القرون الوسطى نموذجياً: «كانت شرائح كبيرة من مجتمع القرن الثالث عشر تكاد لا تحضر إلى الكنيسة أصلاً»؛ أضاف موراي ملاحظاً أن رئيس الدير الدومينكاني هامبرت دو رومان كان قد نصح الرهبان في كتابه الإرشادي «حول تعليم الوعاظ» بأن «السعي إلى الوصول إلى جمهور المؤمنين يتطلب الإمساك بهم في الأسواق والمسابقات والسفن وغير ذلك»، وقد فسر موراي ذلك بأنه «إشارة كافية لتدل على أنه لم يكن من الممكن الإمساك بعموم المؤمنين في الكنائس!» وبالفعل اعترف هامبرت بوضوح أن «الجماهير تكاد لا تأتي إلى  الكنيسة [وإذا حضروا] فمن النادر أن يأتوا إلى خطب الوعظ؛ ولذلك فهم لا يكادون يعرفون شيئاً عما يتعلق بأمور خلاصهم الأخروي!». وأخيراً، اعترف هابرت بأن رجال الدين العاديين كانوا مستغرقين في لعب القمار والسعي وراء الملذات «وأمور أسوأ» إلى درجة أنهم «لا يكادون هم أيضاً يأتون إلى الكنيسة»!

وبالطريقة نفسها، سجل جيوردانو دو ريفالتو أنه حين وصل إلى فلورنسا كي يعظ فيها، اقترح على إمرأة من أهل المدينة أن تأخذ ابنتها إلى الكنيسة على الأقل في أيام الأعياد فقط لتخبره بأن «هذه ليست العادة» (موراي 1972: 92-94). كذلك اشتكى مؤلف كتاب Dives and Pauper الإنجليزي المجهول ([حوالي 1410] 1976: 189) بأن «الناس في هذه الأيام... تشمئز من الاستماع إلى عظة الرب [وحين يكون عليهم الحضور] فإنهم يأتون متأخرين ويغادرون مبكرين. إنهم يفضلون الذهاب إلى حانة على الذهاب إلى الكنيسة المقدسة»! في حوالي سنة 1430، كتب القديس أنطونينو (في كولتون 1938: 192) بأن الفلاحين التوسكانيين نادراً ما يحضرون القداس وأن «الكثير منهم لا يكاد يقوم بالاعتراف مرة في السنة، وعدد الذين يأخذون المناولة قليل جداً جداً... ويستخدمون السحر لأجل أنفسهم وحيواناتهم... لأنهم جهلة لا يهتمون كثيراً بأرواحهم أو بالالتزام بوصايا الرب التي لا يعرفونها أصلاً» ثم تابع أنطونينو ليلقي بمعظم اللوم على «ضمائر رهبان الأبرشية المهملة والشريرة».

وما يقدم المزيد من الدعم لهذه التقارير هو المسح الواسع الذي أجري لكنائس الأبرشيات في أجزاء مختلفة من أوروبا، والذي أظهر أن هذه الكنائس أصغر من أن تتسع إلا لنسبة ضئيلة للغاية من السكان المحليين (بروك وبروك 1984)؛ بل وحتى لم يكن هناك إلا عدد قليل للغاية من كنائس الأبرشيات خارج المدن والبلدات الكبيرة (إذا استثنينا دور الصلاة الخاصة التي كانت مخصصة لاستخدام النبلاء المحليين فقط) في وقت كانت فيه الغالبية الساحقة من سكان البلاد الأوروبية يعيشون في الأرياف. ومما يزيد الطين بلة ما لاحظه إيمون دافي من أن نسبة كبيرة من الأبرشيات الريفية الموجودة كانت تفتقد إلى قسيس يقودها معظم الوقت؛ فقد قدّر دافي أنه وخلال القرن السادس عشر -على سبيل المثال- لم يكن في ربع أبرشيات مطرانية ستراسبورغ و80 في المائة من أبرشيات مطرانية جنيف رجال دين أصلاً، وما يجعل الأمر أسوأ أنه حتى لو توافر قس لأبرشية محلية فإن «التغيب كان متفشياً» (دافي 1987: 88) فخلال زيارة المطران لعدد كبير من الأبرشيات بلغ 192 أبرشية في أوكسفوردشاير سنة 1520 وجد أن 58 منها كان رجال الدين متغيبين عنها (كولتون 1938: 156). بل إن بي إتش سوير (1982: 139) لاحظ أنه وفي أوروبا الشمالية «لم يكن وجود مطارنة لم يزوروا أبرشياتهم قط أمراً مستغرباً»، بل كانت الكثير منها تعطى لأتباع بابويين غير ملزمين بالإقامة فيها (كولتون 1938).

ينبغي لنا ألا نتفاجأ حين نكتشف أن المشاركة الدينية كانت قليلة حتى في المدن حين نتذكر أن الذهاب إلى القداس في القرن الخامس عشر مثلاً كان يتطلب من الإنسان العادي أن يقف في مبنى غير مدفأ ليستمع إلى عظة باللغة اللاتينية التي لم يكن يفقه منها شيئاً يلقيها رهبان لم يكونوا هم أيضاً يعرفون هذه اللغة، بل يتمتمون مقاطع صوتية من غير حتى أن يدركوا معانيها وإذا كانوا يلقونها بطريقة صحيحة أصلاً! أبدى القديس بيدا المكرم ([730] 1955: 340) ملاحظته لإغبيرت -الذي كان سيصبح مطراناً في المستقبل- المتعلقة بأن عدد الرهبان الإنجليز الذين كانوا يعرفون اللغة اللاتينية كانوا قلة قليلة «فقد كان علي كثيراً أن أترجم عقيدة الرسل وصلاة الرب إلى اللغة الإنجليزية لعدد كبير من الرهبان الجهلة»؛ وفي سنة 1222 كان الجهل لا يزال متفشياً بين الرهبان إلى درجة دفعت بمجمع أوكسفورد لوصف رجال دين الأبرشيات بـ»الكلاب الأغبياء» (كولتون 1938: 157). حتى بعد مرور ألف سنة تقريباً على ملاحظة بيدا حول الجهود التي بذلها لتعليم رجال الدين صلاة الرب على الأقل لم يكن شيء قد تغير، فقد لاحظ ويليام تيندال سنة 1530 بأنه لا يكاد أحد من الرهبان والكهنة في إنجلترا يعرفون صلاة الرب ولم يكونوا قادرين على ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية، وما يؤكد هذه المعلومة أن مطران غلوستر قام سنة 1551 باختبارات منهجية لرجال الدين للأبرشيات الواقعة تحت سلطته ليجد أنه ومن بين 311 قساً اختبرهم لم يكن 171 قادرين على إعادة تلاوة الوصايا العشر وأن 27 منهم لم يعلم حتى من هو مؤلف صلاة الرب! (توماس 1971: 164)؛ وفي السنة التالية وجد المطران هوبر «حشوداً من رجال دين الأبرشيات الذين لا يعلمون من هو مؤلف صلاة الرب وأين يمكن أن توجد» (كولتون 1938: 158). أما في أوروبا القارية فقد اكتشف القديس فينسنت دو بول سنة 1617 أن راهبه المحلي لم يكن يعرف أي كلمة باللغة اللاتينية، ولا حتى كلمات الحل من الخطايا التي تقال بعد الاعتراف! (ديلومو 1977). وكذلك في سنة 1547 اكتشف بوفيو، رئيس أساقفة أبرشية برينديزي-أوريا في جنوب إيطاليا أن معظم رهبانه «بالكاد قادرون على القراءة ولا يمكنهم فهم اللغة اللاتينية» (جينتايلكور 1992: 42).

إن حالة الجهل الديني هذه غير مفاجئة إذا عرفنا أنه «لم يكن هناك تقريباً أي مدارس كهنوتية» وبالتالي فقد كان معظم الرهبان «يتعلمون رؤوس الأقلام وبعض المبادئ السطحية للغة اللاتينية» كمتدربين عند «راهب لم يكن هو نفسه قد نال إلا القليل من التدريب والتعليم إن كان تلقاهما أصلاً». في القرن الخامس عشر رصد القديس بيرناردينو دو سيينا راهباً «لا يعرف إلا صلاة ‘السلام عليك يا مريم’ والتي كان لا يردد غيرها حتى في أثناء نصب القداس» (دافي 1987: 88). وقد أظهر إيمون دافي (1992) بفعالية جهل رجال دين الأبرشيات من خلال عرض محتوى أوائل «الكتب التمهيدية» التي كتبت لرجال الدين والتي بدأ توزيعها في القرنين الرابع عشر والخامس عشر؛ فقد كتبت هذه الكتيبات باللغة المحلية وليس باللاتينية وكانت موجهة إلى أشخاص كانوا يخدمون في السلك الكهنوتي بالفعل ولكنها ظلت محدودة بأبسط جوانب العقيدة والممارسة، فتحتوي مثلاً على لائحات بسيطة بأسرار الكنيسة والخطايا التي ينبغي للناس أن يعترفوا بها، ومن الواضح لقارئها أن مسؤولي الكنيسة آنذاك كانوا يرون أن مقدار معرفة معظم رجال الدين الذين يخدمون في الأبرشيات بالدين في عقائده وممارساته أقل بكثير مما يعرفه اليوم أي تلميذ في العاشرة من عمره في المدارس الدينية!.

فإذا كان رجال الدين على هذا المقدار الكبير من الجهل، فينبغي لنا ألا نفاجأ إذا كان عموم الناس لا يكادون يفقهون شيئاً حتى عن أساسيات الدين المسيحي؛ في سنة 1215 قرر مجمع لاتيران أنه على جميع المسيحيين الكاثوليكين أن يقوموا بطقسي الاعتراف والمناولة مرة على الأقل كل سنة في موسم عيد الفصح، وكذلك تقدم بفكرة القيام بحملة كبيرة من التعليم الديني الأساسي لعموم المؤمنين؛ ومع حلول وقت مجمع لامبيث سنة 1281 استجاب المطارنة الإنجليز برسم هدف تعليم عموم الناس صلاة الرب وصلاة السلام على مريم وعقيدة الرسل، ثم تم توسعة البرنامج لاحقاً ليشمل الوصايا العشر وأعمال الرحمة السبعة والخطايا المميتة السبع (دافي 1992) وقد رسمت خطط شبيهة لتعليم العامة أمور الدين المسيحي في أوروبا كلها. لكن على الرغم من تواضع هذه الأهداف إلا أنه من غير المرجح أن يكون عدد كبير من العوام من غير طبقة النخبة المتعلمة قد تمكنوا من تحصيلها، خاصة وأن عدداً كبيراً من الرهبان لم يكن يعرف هذه المعلومات حتى يوصلها إلى غيره أصلاً. وكما عبر عن ذلك كولين موريس (1993: 232): «كان الجهل بمحتوى العقيدة الرسمي عاماً بين الناس»، ثم ذلك موريس مثالاً عن راهب قرية تمكن من تعليم الكثير من رعيته تلاوة صلاة الـ»أبانا» باللغة اللاتينية، ملاحظاً أن الرعية القروية لم يكن لديها أدنى فكرة عن المعنى الذي تتلوه (ولربما لم يكن لدى الراهب أدنى فكرة أيضاً!).

تشمل الأمثلة الأخرى على هذا الجهل عمليات الاستقصاء التي أجريت لعدد كبير من حوادث رؤية «أطياف دينية» (غالباً للسيدة مريم العذراء) في إسبانيا خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر. كشفت هذه التحقيقات أن معظم أعضاء الأبرشيات الذين كانوا يبلغون عن هذه الرؤى كانوا يجهلون ما الوصايا العشر أو الخطايا العشر المميتة، ولم يكن الأمر مجرد عجزهم عن تلاوتها باللغة اللاتينية، بل كانوا على جهل تام حتى بمحتواها، ومن الأمثلة النموذجية على ذلك رجل ادعى أنه رأى السيدة مريم عدة مرات، وخلال التحقيق الذي جرى معه سنة 1518 سئل إذا كان يعرف ما الوصايا العشر والخطايا السبع المميتة «فأجاب بأنه لا يعرف أياً من هذه الأشياء لا في كليتها ولا جزءاً منها... وسئل إذا كان الكبر أو الحسد أو قتل رجل أو إهانة شخص بكلمات مسيئة كانت خطايا أم لا؛ وأجاب في كل مرة بأنه لا يعلم.؛ وأما حين سئل إذا كانت السرقة خطيئة فأجاب: فليحفظنا الرب، السرقة خطيئة كبيرة للغاية!» (في كريستيان 1981: 154).

 كما أن علينا أن نلاحظ أنه وحتى حين كان الناس يذهبون إلى الكنيسة فكثيراً ما كانوا يذهبون رغماً عنهم وكانوا يتصرفون بشكل غير لائق في أثناء ذلك؛ وقد لاحظ المؤرخ البارز كيث توماس أنه في زمن العصر الوسيط المتأخر «كان من المشكل تحديد ما إذا كانت شرائح اجتماعية معينة من السكان [في بريطانيا] لديها ديانة من أي نوع»، ولكن وبالإضافة إلى ذلك «كان الكثير من الناس [الذين يذهبون إلى الكنيسة] يفعلون ذلك مع مقدار كبير من التردد».

أما حين كان عوام الناس يأتون إلى الكنيسة، وكثيراً ما كان هذا يحدث تحت الإجبار، وبحسب توماس فقد كانت تصرفاتهم فيها مشينة «إلى درجة أنها كانت تحول الطقوس الدينية إلى صورة مضحكة مشوهة عما كان ينوى أن تكونه»، وتدون لنا أعداد كبيرة من سجلات المحاكم الكنسية والمذكرات الكهنوتية كيف «قام بعض الناس بالتصارع والازدحام للجلوس على المقاعد، ووكز الأشخاص الجالسين بجوارهم، والتنحنح والبصاق، والقيام بأعمال النسيج، وإبداء الملاحظات الفظة أو إخبار النكات أو النوم أو حتى إطلاق النار من المسدسات في أثناء حضورهم في الكنيسة»، بل حتى حفظت لنا سجلات الكنيسة قضية رجل في كامبريدجشاير حول إلى المحكمة بتهمة إساءة الأدب في الكنيسة سنة 1598 نتيجة «ضراطه الكريه للغاية وخطاباته اللاذعة الساخرة» مما أدى «إلى شعور عام بالمهانة بين الناس الطيبين والسعادة والضحك بين الأشرار» (توماس 1971: 159-162). يستحيل في يومنا هذا على رجل يطلق «ضراطاً كريهاً للغاية»  أن يحظى بهتافات مؤيدة له من قسم من حضور كنيسة بريطانية حتى لو ترافق هذا مع إطلاقه خطابات ساخرة ولاذعة!

ومن المؤشرات ذات الدلالة على تلك الأزمنة هي أن الناس كانوا كثيراً ما يجتمعون بانتظام وشوق في الكنيسة لأداء نشاطات غير دينية أبداً، فقد دان رئيس أساقفة فلورنسا تصرفات الفلاحين التوسكانيين في أبرشيته لأنهم كانوا «في بعض الأحيان يرقصون ويتقافزون ويغنون مع النساء في الكنائس نفسها» (في كولتون 1938: 193)، وقد شهدت العصور المتعاقبة دفقاً من الشكاوى والتهديدات الموجهة نحو أبرشيات محلية وحتى نحو المسؤولين عن الكاثدرائيات ليوقفوا استخدامها كأسواق مغلقة أو لتخزين المحاصيل الزراعية أو حتى لإيواء المواشي. في أنجلترا وحدها مثلاً شهدت المدة ما بين 1229 و1367 «احتجاجات أسقفية ضد عقد الأسواق... في الكنائس» (كولتون 193: 189).

وفي خلاصة مسحه الحياةَ الدينية الشعبية في إيطاليا في أثناء القرن الثالث عشر، اعترض أليكساندر موراي على «فكرة عصر الإيمان» (1972: 83)، وبدلاً من ذلك أشار (1972: 106) إلى أن «الرهبان لم يكونوا أشخاصاً معتادين في عصر غريب، بل كانوا أشخاصاً غريبين في عصر معتاد. وكانت حياتهم الطفيلية تشكل لغزاً دائماً لمعاصريهم، وكانوا أقلية صغيرة، وكما قال الراهب جيوردانو: ‘العذارى قلائل، الشهداء قلائل، والوعاظ قلائل’».

بالطبع فقد كانت هناك نوبات دورية من الحماسة الدينية في العصور الوسطى، خاصة حين تبرز حركات طائفية جديدة مثل الولدينيسية والكاثاريين الذين اجتذبوا عدداً كبيراً من الأتباع (لامبرت 1992)، لكن وكما أوضحت في مكان آخر فلا يمكننا أن نتوقع هذه النوبات في أماكن تكون فيها المؤسسات الدينية التقليدية قوية، بل في الأماكن التي تشيع فيها مشاعر عدم الاكتراث بالدين والبعد عنه (ستارك 1996أ، 1996ب). وما أعنيه هنا هو أن شيوع حركات التمرد الديني في القرون الوسطى ليست إلا دليلاً إضافياً على الصور المعتادة حول المشاركة العامة في الدين المنظم المؤسساتي.

بعد خروج أوروبا من القرون الوسطى، لا يبدو أن المشاركة الدينية تحسنت، ما تحسن هو الإحصائيات حول السلوكيات الدينية. يمكننا أن نجد أفضل هذه الإحصائيات في التقارير التي كتبها الأساقفة الأنغليكانيون بعد رحلات زيارة مطولة لأبرشياتهم؛ وهكذا سجلت الزيارات الأبرشية في أوكسفود أنه في سنة 1738 اجتذب مجموع 30 أبرشية في أوكسفوردشاير 911 ممارساً للطقوس في الأعياد الأربعة الكبرى: الفصح والصعود والعنصرة والميلاد؛ وقد كان هذا المجموع أقل بكثير من 5 في المائة من مجموع سكان هذه الأبرشيات. وقد أظهرت تقارير زيارات أخرى معدلات متدنية مماثلة في أثناء بقية القرن الثامن عشر (كاري والجميع؛ 1977)، فبحسب ما وثقه بيتر لازليت (1965) في قرية إنجليزية في أواخر القرن الثامن عشر لم يتجاوز عدد الحضور 125 من 400 شخص بالغ فيها، ومن بعد ذلك وثق «أعداد حضور أصغر بكثير» في قرى أخرى. ما لا يصدق في عمل لازليت الذي أشرنا إليه (والذي سماه: العالم الذي فقدناه، «The World We have Lost»[3]) هو أنه استخدم هذه البيانات لإثبات الإجماع على الإيمان في تلك الحقبة؛ ولكن لو صدرت هذه الإحصاءات في القرن العشرين لكانت استخدمت مراراً وتكراراً كدليل على توجه واسع نحو العلمنة!

إذا ما استخدمنا سنة 1800 كالسنة الفاصلة بين ذلك العالم المفقود وحقبتنا المعاصرة، فخلاف المتوقع ازدادت نسبة الأشخاص الأعضاء في كنيسة ما في بريطانيا بشكل كبير اليوم عن ذلك الزمن؛ ففي سنة 1800 لم ينتم إلا 12% من السكان البريطانيين إلى رعية دينية محددة، ومع حلول سنة 1850 كانت النسبة قد ازدادت إلى 17%، ومن بعد ذلك استقرت على ذلك، فقد كانت النسبة هي نفسها سنة 1990 (ستارك وأياناكوني 1995). في عمل مارك سميث (1996) المتميز في إعادة بناء الصورة الحقيقية للمشاركة الدينية في مجتمعين بريطانيين هما أولدهام وسادلوورث وجد أنه لم يكن هناك أي تغير يذكر في المدة الممتدة بين 1740 و1865، وهي الحقبة التي شهدت توجهاً حاداً نحو التصنيع. كما سنبين فقد أعاد أياكوني بدوره (1996) بناء سلسلة زمنية تظهر تراجعاً طفيفاً في نسب الحضور في الكنائس في بريطانيا خلال القرن العشرين، لكن أي نتيجة قد تنبني على هذا الاكتشاف يناقضها عدم وجود أي تراجع مماثل في معظم الدول الأوروبية الأخرى من ناحية، وكذلك ومن ناحية أخرى الدراسات الحديثة التي تقترح وجود ارتفاع في المشاركة في حضور الكنائس مؤخراً في أحياء المدن البريطانية التي يقطنها أناس من الطبقات الدنيا والتي لطالما تميزت بانخفاض معدلات الحضور فيها (جي سميث 1996). أما نظريتي حول «السوق» الدينية والتي بنيتها في أعمال لي نشرتها سابقاً (ستارك 1985، 1998ب، ستارك وأياكوني 1993، 1994؛ فينكه وستارك 1988، 1992) فتتوافق مع التنوع الديني: مع ازدياد التدين وكذلك مع تناقصه، بل إن توقعاتها المعتادة هي بوجود مستويات مستقرة نسبياً من الالتزام الديني في المجتمعات؛ أما الطرح العلماني فلا يتفق لا مع استقرار هذه المستويات ولا مع زيادتها، ولا يمكن لها أن تقدم أي تسويغ لتقارير مثل تلك التي تقدم بها غابرييل لابرا (1963) والتي تظهر أن الكاثوليكيين الفرنسيين اليوم يشتركون دينياً طوعاً وبشكل أكبر ومع فهم أفضل بكثير لما يفعلونه مما كان الوضع عليه قبل قرنين من الزمن.

تشير الأدلة بوضوح إلى أن المزاعم حول انحسار كبير في المشاركة الدينية في أوروبا مبنية على تصورات مبالغ فيها بشدة حول التدين في الماضي، قد تكون المشاركة اليوم متدنية في الكثير من الدول، ولكن هذا ليس بسبب التحديث، ولذلك فإن الطرح العلماني غير ذي أهمية في هذا السياق. لكن ماذا عن الأوقات الأكثر حداثة، فلربما كان منظرو العلمنة متسرعين في توقعاتهم؟ فكما قلنا من قبل: تمكن لورنس أياكوني (1996) من استخدام بيانات المسح لإعادة بناء تصور حول معدلات الحضور في الكنائس في 18 دولة معظمها أوروبية بداية من سنة 1920. في 15 من 18 دولة لم يجد أياكوني أي دليل حتى على تغير طفيف يتوافق مع تكهنات الطرح العلماني، وكانت الاستثناءات الوحيدة لهذا هي ألمانيا الشرقية وسلوفينيا وبريطانيا حيث كانت الاتجاهات نحو الأسفل بحيث تتفق مع تكهنات الطرح العلماني. لكن كما أسلفنا فإن هذا التوجه البريطاني قد تغير وعاد إلى الارتفاع، أما الانحسار في ألمانيا الشرقية وسلوفينيا فلم يبدأ إلا بعد فرض أنظمة شيوعية عليهما.

إذن، فلا عجب من انزعاج المؤرخين الدائم من «علماء الاجتماع أصحاب الأذهان غير المتناغمة مع حركة التاريخ» والذين تشبثوا بأسطورة «التقوى الأوروبية المفقودة»، ولا عجب من شكواهم من علماء الاجتماع بأنهم «لم يكونوا عادلين مع حجم عدم الاكتراث والنزعات الهرطوقية واللاأدرية والتي لطالما وجدت في أوروبا وانتشرت فيها قبل حلول عصر الثورة الصناعية بكثير» (توماس 1971: 171) وكما عبر أندرو غريلي (1995: 63) بوضوح عن الأمر: «لا يمكن لزوال الديانة المسيحية من أوروبا أن يحدث... لأن تحول أوروبا إلى الديانة المسيحية لم يحدث أصلاً. أوروبا المسيحية لم توجد قط!»

الفشل في التحول إلى الديانة المسيحية

تثير عبارة غريلي سؤالاً في غاية الأهمية: لماذا لم يتحقق تحول أوروبا إلى الديانة المسيحية؟ في بداية القرن الرابع الميلادي كان الديني المسيحي حركة جماهيرية انتشرت بسرعة في أرجاء الإمبراطورية الرومانية، ومع حلول منتصف ذلك القرن كانت معظم شعوب أوروبا قد اعتنقت ذلك الدين (ستارك 1996أ)، فماذا حدث بعد ذلك؟ لا يخرج فشل الكنيسة في بداياتها لتحويل الأطراف الخارجية من الإمبراطورية وبقية أوروبا إلى المسيحية عن نموذج السوق في التدين (ستارك 1985؛ ستارك وأياكوني 1994؛ ستارك 1998ب). الدين المسيحي الذي انتصر في روما كان حركة اجتماعية جماهيرية في بيئة شديدة التنافس، ولكن المسيحية التي شاعت في أوروبا لم يتحول إليها معظم أبناء القارة إلا بشكل اسمي في أفضل الظروف، وقد قامت على كنيسة مؤسساتية تدعمها الدولة تحاول مد سلطانها ليس عبر توجيه البعثات التبشيرية إلى عموم الناس، بل من خلال تعميد الملوك (ديفيز 1996: 275) ومن بعد ذلك تحويلهم إلى قديسين قوميين (فواتشيز 1997). بعبارة أخرى: كانت المسيحية التي سادت في أوروبا مزيجاً مرقعاً متقن التفاصيل يتألف من كنائس الدولة التي رضيت بولاء النخب لها وبفرض متطلبات رسمية لضمان الطاعة والامتثال دون بذل أي مجهود ثابت لتحويل الجماهير من الفلاحين إلى الديانة (دافي 1987؛ غريلي 1995). فليس الأمر إذاً هو أن كنائس الدولة في إسكندنافيا وأوروبا الشمالية تفتقر حالياً إلى الحافز والطاقة لملء معابدها بالناس، بل إن الأمر دائماً كان كذلك؛ فقد كان تحويل إحدى ممالك شمال أوروبا إلى المسيحية في الماضي لا يتطلب إلا تعميد النبلاء واعتراف الدولة رسمياً بسلطة الكنيسة الدينية واستقلالها. وقد ترك هذا مسألة توجيه البعثات التبشيرية لتحويل الجماهير إلى الديانة لرجال دين يستمدون سلطتهم الروحية من مؤسسة الكنيسة والدولة وباستقلال تام عن رفض الجماهير لهم أو قبولهم، مما أدى إلى افتقاد متوقع للنتائج الملموسة بين الجماهير.

وقد أصبح بالفعل الفساد والكسل بالإضافة إلى الصراع على السلطة والطاعة المفروضة بحد السيف هي السمات التي تميزت بها الحركة المسيحية في القرن الرابع؛ أي مباشرة بعد أن أصبحت ديانة الدولة الرسمية (جونسون 1976). وخلاف الوهم السائد بين الكثيرين، لم يتسبب اعتناق قسطنطين الدينَ المسيحي بانتصار هذا الدين، بل كان أول الخطوات وأهمها نحو الإبطاء من تقدمه وتفريغه من حيويته وتشويه رؤيته الأخلاقية؛ إذ إن معظم الشرور التي ارتبطت مع المسيحية الأوروبية منذ القرون الوسطى ترجع إلى تحول هذا الدين إلى مؤسسة.

يعطينا تاريخ «تحول» إسكندنافيا إلى المسيحية دليلاً على هذا التوجه، فقد كانت الدنمارك أول دولة «مسيحية» في الشمال بعد أن تراوحت مواقف سلسلة من ملوكها تجاه المسيحية بين القبول والرفض وعدم الاكتراث، بعد ذلك في سنة 1016 توج مسيحي ملتزم هو الملك كانوت العظيم ملكاً على البلاد (سوير 1982؛ رويزدال 1980؛ جونز 1968؛ بروندستيد 1965). تُعدّ هذه السنة اليوم هي التاريخ «الرسمي» لتحول الدنمارك إلى المسيحية، لكن معظم المؤرخين لا يساوون بين هذا التاريخ وتاريخ تحول الشعب الدنماركي إلى المسيحية إذ قالوا إن ذلك لم يحصل إلا «تدريجياً» (بروندستيد 1965: 310)، كما أنهم يبدون ملاحظتهم أن تحول الملوك هذا «لم يكن قط نتيجة مطالب شعبية» (سوير 1982: 139).

بعد ذلك جاء «تحويل» النرويج إلى المسيحية، فحين استولى رجل قد تربى في إنجلترا واعتنق المسيحية هو أولاف تريغفاسون على عرش البلاد سنة 995، حاول تحويل البلاد بالقوة، وقتل بعض من عارضه وحرق ممتلكاتهم؛ لكن إجراءاته القمعية هذه وغيرها أثارت ما يكفي من المقاومة لحكمه بحيث تعرض للهزيمة في معركة سفولدر (في حوالي السنة 1000 ميلادية) حيث مات خلال المعركة. بعد ذلك بخمس عشرة سنة غزا أولاف هارالدسون –الذي تعمد في فرنسا- النروج واستخدم هو أيضا الحديد والنار في محاولة لفرض الديانة المسيحية، واستثار هو أيضاً كراهية واسعة أدت إلى ثورة دفعت به إلى الهروب إلى المنفى. لكنه لم يستسلم وحاول العودة على رأس جيش حشده في كييف، ولكنه انهزم وقتل في معركة ستيكلستاد سنة 1030. على الرغم من هذا التاريخ المثير للجدل حولته الكنيسة إلاّ القديس أولاف ونسب إليه فضل تحويل النرويج إلى الديانة المسيحية، لكن ما فعله في الحقيقة لم يتجاوز كونه إعادة فرض سياسات التعصب التي سنها الأولاف السابق له (سوير 1982؛ جونز 1968).

أما تحول آيسلندا فقد تبع النمط ذاته إذ بسط كل واحد من الأولافين النرويجيين جهوده إلى فرض التحول إلى المسيحية على المستعمرة النرويجية آيسلندا. في اجتماع في آلثنغ حوالي سنة 1000 ميلادية استسلم الآيسلنديون للضغوط النرويجية واعتمدوا قانوناً ينص على أن «جميع الناس عليهم أن يصبحوا مسيحيين، وأي واحد على هذه الأرض لم يتلقَّ التعميد يجب أن يعمد». ولكن القانون استمر لينص على التالي: «يمكن للناس أن يضحوا للآلهة القديمة في منازلهم الخاصة» وعلى الرغم من أن الوثنية حظرت لاحقا إلا أن جوانب كثيرة منها لا تزال باقية مع الآيسلنديين حتى يومنا هذا، ولم يؤد تحولهم إلى الديانة المسيحية إلا إلى أدنى درجات المشاركة في الكنيسة.

ظل البلاط السويدي وثنياً حتى القرن الثاني عشر، وكذلك الفنلندي فقد ظل رسمياً وثني العقيدة حتى القرن الثالث عشر (سوير 1982؛ بروندستيد 1965)؛ ومما يكشف مقدار عدم الاكتراث ببذل أي مجهود لتحويل عموم الناس إلى الدين المسيحي حقيقة أنه لم يتم حتى إرسال أي مبشرين إلى منطقة لابي شمال النرويج والسويد إلا في منتصف القرن السادس عشر (بولدوين 1900) وفي الواقع فإن الوقت الحقيقي الذي بدأ فيه اضمحلال الوثنية في إسكندنافيا ليس واضحاً، وفي حالة آيسلندا لدينا أسباب وجيهة تدفعنا إلى القول إن الوثنية لم تضمحل فيها بالكلية أصلاً (سوير وسوير 1993). كتب آدام فون بريمن -المبعوث المسيحي الشهير إلى إسكندنافيا- مطولاً حول طقوس وثنية شملت أضحيات بشرية تم إجراؤها في معابد وثنية باذخة في أوبسالا في السويد في القرن الحادي عشر (جونز 1968؛ بروندستيد 1965). بل ويبدو وأنه كان من المعتاد بالنسبة إلى أهل شمال أوروبا أن «يعتنقوا المسيحية» فقط من خلال إدخال السيد المسيح وعدد من القديسين المسيحيين (وخاصة أولاف) ضمن مجمع آلهتهم، ولذا نجد مكتوباً في كتاب «لاندنامابوك» (Landnumabok) الآيسلندي أن «هيلغي النحيل كان مختلطاً في عقيدته، فقد كان يؤمن بالسيد المسيح ولكنه كان يتضرع إلى ثور في مسائل السفر في البحر وأوقات الحاجة الشديدة» (في بروندستيد 1965: 306). لاحظ يوهان برونستند (1965: 307) أن «تغيير الآلهة عند نخبة مجتمع ما قد يحصل بسهولة كافية، ولكن الاتجاه نزولاً في المجتمع بهذا التغيير قد يلاقي مقاومة طبيعية» ويقترح بروندستيد أن تحويل إسكندنافيا إلى الدين المسيحي «لم يحدث إلا حين استولت الديانة المسيحية على الخرافات والاستخدامات الدينية الوثنية القديمة وسمحت لها بالاستمرار في الحياة تحت مظاهر جديدة». وهكذا نرى أن الديانة المسيحية الشعبية التي برزت آخر الآمر كانت توليفة غريبة تشمل الكثير من التقاليد والاحتفالات الوثنية التي لم تحول إلى الدين المسيحي إلى تحت ستر رقيق لا يكاد يغطي أصلها القديم (ديفيز 1996)، وكانت النتيجة كما أشار أندرو غريلي (1996: 66) أن الالتزام المسيحي في شمال أوروبا لم يكن قط عميقاً بما فيه الكفاية ليجتذب حضوراً جماهيرياً واسعاً «ولا عميقاً كفاية ليصمد أمام تغير انتماء قادتهم السياسيين الديني خلال مرحلة الإصلاح الديني، والذي كان يحصل في بعض الأحيان ذهاباً وعودة عبر خطوط دينية متنوعة».

من السهل علينا أن نظهر نقاط غريلي بشكل كمي، وقد بدأت بست عشرة دولة من أوروبا الغربية[4]، وفي كل واحدة قمت بحساب عدد القرون التي مرت منذ تحولها المفترض إلى المسيحية (20 ناقص القرن) حيث ترواحت النتائج بين 16 في إيطاليا و7 في فنلندا (ديفيز 1996؛ باريت 1982؛ سوير 1982؛ رويزدال 1980؛ شيبرد 1980؛ جونز 1968؛ بروندستيد 1965). هذا المتغير مبني على الافتراض بأنه كلما كانت عملية التحول إلى المسيحية متأخرة أكثر كان الدين في هذا البلد سطحياً أكثر. بعد ذلك وعند الالتفات إلى مسح القيم العالمية لسنة 1990-1991، صنعت متغيراً على أساس معدل الحضور في الكنائس وكما توقعت تبين أن مرحلة التحول إلى المسيحية لها علاقة كبيرة بنسب الحضور في الكنائس (0. 73). وبالطريقة ذاتها فمن المعايير القابلة للتصديق لحساب مدى اشتراك الدول في حركة الإصلاح الديني البروتستنتي (بما أن معظم الدول الحديثة شملت الكثير من المناطق التي كانت تعتبر دولاً مستقلة في القرن السادس عشر) هو المقارنة بين نسبة الكاثوليكيين فيها مع طول مدة تحولها إلى المسيحية لنجد العلاقة المباشرة بين الأمرين كبيرة جداً (0. 89).

التدين الذاتي الشخصي

لطالما كان ستيف بروس من جامعة أبردين من أشد مناصري الطرح العلماني استماتة، ولكن حتى هو اعترف مؤخراً بأنه ومن حيث المشاركة المنتظمة فإن عصر الإيمان الذهبي لم يوجد قط؛ بل وقد اقترح أيضاً (1997: 674) بأن كنائس العصور الوسطى لم تكن مهتمة كثيراً باستجلاب الناس لحضور القداس «كما هو واضح من عمارة الكنائس وأشكال الطقوس المقدمة فيها». ولكن بدلاً من أن يستسلم بروس ويتخلى عن طرح العلمنة ادعى الآن أن عصر تدين القرون الوسطى الذهبي كان في الواقع ذاتياً وشخصياً، وأن الناس اعتنقوا بقوة معتقدات غيبية سواء أكانت مسيحية أم تنتمي إلى أي ديانة أخرى. وبعبارة أخرى: يدعى بروس أنه حتى لو كانت الجماهير في القرون الوسطى لا تذهب إلى الكنيسة إلا نادراً فإن علينا أن ننظر إلى معظم الناس في تلك الحقبة على أنهم متدينون؛ لأنهم كانوا على المستوى الشخصي يؤمنون بشيء ما.

أنا أتفق مع هذا، فعلى ما يبدو قد كان لدى معظم الناس في القرون الوسطى معتقدات دينية حتى لو كانت مبهمة بعض الشيء وتشمل عناصر من السحر وعبادة الأرواح الطبيعية بقدر ما تشمل عناصر من الدين المسيحي، ولذا فإن علينا أن نعتبر هذه المجتمعات في عقيدتها، إن ليس في ممارستها، مجتمعات دينية (أنظر: دافي: 1993) لكن علينا أن تذكر أن نسبة كبيرة من الناس في أوروبا القرون الوسطى كانوا لا يأخذون معتقداتهم الدينية بالكثير من الجدية. كذلك علينا ألا ننسى أن عدداً كبيراً –ربما لا يقل عن العدد الموجود اليوم- من الناس رفض المعتقدات الدينية جملة وتفصيلاً كما عبر فرانكلين باومر (1960: 99) عن ذلك بقوله: «بخلاف المعتقد السائد، كان هناك الكثير من النزعات الشكوكية في القرون الوسطى، وبعضها كان متطرفاً بالفعل!» ويمكننا أن نرى من خلال عبارات التجديف على الآلهة المكتوبة بالغرافيتي على جدران بومبي أن الأمر ذاته ينطبق على الحقبة الإغريقية-الرومانية (مكالين 1981؛ ستارك 1996 أ).

على الرغم  من ذلك فأنا أفترض أيضاً أن الإيمان كان واسع الانتشار، وأفسر شيوع المعتقدات الدينية على أنها تمثل طلباً محتملاً للديانة المنظمة في مجتمعات الناس في ذلك الوقت، وهي إمكانية كانت تتطلب موزعين عدائيين مثل الولدينيسيين كي يشغلوه؛ ولكن بدلاً من الرجوع إلى تقوى الماضي لنستخدمها بوصفها علامة نقارنها كي نظهر من خلالها مدى العلمنة التي وصلت إليها أوروبا العصر الحاضر فإن الملاحظة نفسها تنطبق وبالقوة ذاتها اليوم؛ فمع أن معدلات المشاركة الدينية في أوروبا أقل بكثير من الولايات المتحدة إلا أن الفروقات تصغر كثيراً حين تصبح المقارنة على أساس معايير الإيمان الشخصية (ستارك وأيانوكوني 1994؛ ستارك 1998ب).

لم نكن أنا ورفاقي أول من لاحظ هذا الأمر، إذ يوجد الكثير من الأدب البحثي البريطاني حول ما تشير إليه غريس ديفي (1990أ؛ 1990ب؛ 1994) بـ:»الاعتقاد دون الانتماء». في زيادة أخيرة على هذا الأدب لخص كل من مايكل وينتر وكريستوفر شورت (1993: 635، 648) الأمر بقولهما: «الأمر الواضح هو أن معظم عمليات المسح حول المعتقدات الدينية في شمال أوروبا تظهر استمرار معدلات عادية من الإيمان بوجود الله وبعض أركان العقيدة المسيحية العامة من ناحية ومستويات متدنية من الحضور إلى الكنائس من ناحية أخرى»؛ ثم أضافا أن بحثهما «كشف عن مستوى من العلمنة مفاجئ في تدنيه النسبي» – ولربما كان هذا هو سبب تجنب علماء الاجتماع الأوروبيين الآخرين للاقتباس من بحثهما؛ لكن تظل النتائج التي توصلا إليها صحيحة: لا تزال مستويات التدين الشخصي عالية في دول لطالما أشير إليها كأمثلة للعلمنة وأماكن في العالم زعم علماء الاجتماع أن الناس فيها قد وصلوا إلى درجة من النضج لم يعودوا فيها بحاجة إلى الدين أبداً. وقد يكون من المفيد لنا أن نتفحص مثالاً واحداً بتفصيل أكبر.

لأن آيسلندا تستخدم كأول دولة على الأرض وصلت إلى علمانية كاملة (أو شبه كاملة) (أنظر: تومسون 1980) فقد يكون من المناسب أن نبدأ باختبارها. يظن الكثيرون أن علو مستوى العلمنة في آيسلندا أمر بدهي على أساس الكنائس الفارغة، إذ لا يحضر إلى 2% من الشعب الآيسلندي إلى الكنائس أسبوعياً؛ لكن العمل الميداني الواسع الذي قام به ويليام سواتوس (1984) أظهر أنه ثمة مستويات عالية من «التدين في المنزل» في آيسلندا اليوم بالإضافة إلى مستويات عالية من التعميد، كما أن حفلات الزفاف كلها تقريباً تحدث في الكنيسة. وحتى فيما يتعلق بأمر الوفاة فإن الإشارة إلى «الخلود الشخصي» أمر معتاد في سطور النعي التي يكتبها صديق مقرب للشخص المتوفى في الجريدة. إذا أخذنا هذه الظواهر الاجتماعية بعين الحسبان فلن نتفاجأ حين نعلم أن عمليات مسح القيم العالمية التي أجريت سنة 1990 تظهر أن 81% من سكان آيسلندا يعبرون عن ثقتهم بالحياة بعد الموت، و88% يعتقدون أن الإنسان له روح، بل وتجد أن 40% منهم يؤمنون بتناسخ الأرواح. أما حين سئل الناس الذين غطاهم المسح: «هل تصلي لله خارج إطار الطقوس الدينية؟» أجاب 82% أنهم يفعلون ذلك في بعض الأحيان، وقال واحد من أربعة أشخاص أنهم يفعلون ذلك كثيراً. بالإضافة إلى ما سبق، فلم تتجاوز نسبة الأشخاص الذين قالوا إنهم «ملحدون عن قناعة ويقين» إلا 2. 4% من مجموع الآيسلنديين، وهذا دون ريب ليس ما يعنيه المنظرون حين يشيرون إلى «مجتمع تسوده العلمانية». كذلك فمن البين مما سبق أن أربعة من عشرة أشخاص في آيسلندا يؤمنون بتناسخ الأرواح، وعلى هذا أن يذكرنا بأن نظرية العلمنة لم تك قط محصورة بالديانة المسيحية لأن الإيمان بالغيبيات له صلة وثيقة للغاية بالإيمان بجميع أوجهه وضروبه، وحتى نقلة هائلة من الإيمان بيسوع إلى الإيمان بالإلاهة الهندوسية كالي لا يعني توجهاً نحو العلمانية. ومما يستحق الملاحظة في هذا السياق أن النزعة الروحانية واسعة الانتشار في آيسلندا، وقد امتد رواجها حتى بين كبار المثقفين والأكاديميين (سواتوس وغيسورارسون 1997)؛ وفي ضوء هذه البيانات تبدو المزاعم بأن آيسلندا هي أو دولة حققت العلمانية الكاملة أو شبه الكاملة سخيفة لا تقل في سخافتها عن المزاعم التي راجت يوماً ما بين اليساريين الغربين بأن الشيوعية الحقيقية على وشك أن تتحقق في الصين تحت قيادة ماو تسي تونغ.

الدين والعلم

إذا كان للعلمانية أن تظهر بالكامل في مكان ما فلا بد أن يكون ذلك بين العلماء! في دراسة سابقة قمت بها أنا وزملائي تفحصنا أدلة تشير إلى أن التعارض بين العلم والدين ليس إلا محض خيال وأن العلماء ليسوا غير متدينين بشكل ملحوظ وأنهم لا يقلون قابلية لحضور الكنيسة عن عموم الناس. ومما يزيد هذه النقطة توكيداً هو حقيقة أنه بين الأكاديميين الأميركيين كلما كان مجالهم أكثر علمية كانت نسبة من يرون أنفسهم متدينين أعلى؛ فعلى سبيل المثال وجدنا أن إمكان أن يعرّف أحد علماء الفيزياء والطبيعية –وبما في ذلك علماء الرياضيات- نفسه على أنه «شخص متدين» هو أكثر من ضعف هذه الإمكانية ضمن الأنثروبولوجيين وعلماء النفس (ستارك وزملاؤه 1996، 1998). لكن؛ أليس بعض العلماء من أمثال ريتشارد دوكينز وكارل سيغان ملحدين متشددين إلى درجة أنهم ألفوا كتباً لغاية تكذيب الأديان من جذورها؟ بالطبع! لكن مما يستحق الملاحظة أيضاً هو أن معظم هؤلاء –من أمثال دوكينز وسيغان- يعتبرون هامشيين ضمن مجتمع العلماء نتيجة عدم قيامهم بأي عمل علمي ذي قيمة، وثمة حقيقة حتى أهم من هذه وهي أن علماء اللاهوت (أنظر كابيت 1997) وأساتذة العلوم الدينية (أنظر ماك 1996) يشكلون مصدراً أكثر خصباً للأعمال الشعبية الرائحة حول الإلحاد.

نشرت مجلة الطبيعة (Nature) مؤخراً بيانات سلسلة زمنية مذهلة حول معتقدات العلماء؛ ففي سنة 1914 أرسل عالم النفس الأميركي جيمس لويبا استبيانات إلى عينة عشوائية من أشخاص مذكورين في «رجال علم أمريكيين»، وقد طلب من كل واحد منهم في الاستبيان أن يختار إحدى العبارات التالية «فيما يتعلق بالإيمان بالله» (والكتابة المائلة هي في أصل الاستبيان):

أؤمن بإله يمكنني أن أصلي له متوقعاً أن أتلقى إجابة منه، وأعني أكثر من تأثير الصلاة النفسي الشخصي.

لا أؤمن بالإله كما هو معرف أعلاه.

ليس لدي عقيدة محددة فيما يتعلق بهذا السؤال.

لقد كانت معايير لويبا فيما يتعلق بالإيمان بالله صارمة إلى درجة أنها ستستثني الكثير من رجال دين «التيار العام»، وواضح أنه كان يتعمد ذلك[5]؛ فقد كان يريد أن يثبت أن رجال العلم ليسوا متدينين. لكن لويبا صدم حين وجد أن 41. 8% من عينته من العلماء البارزين اختاروا الخيار الأول، متخذين الموقف الذي قد يعتبره الكثيرون «أصولياً»؛ وكذلك اختار 41. 5% آخرون الخيار الثاني (والذي اعترف لويبا أنه يعني أن الكثير منهم من غير شك يؤمنون بإله لكنه ذو صفات أقل فاعلية في العالم)، ولم تتجاوز نسبة من لم يتخذ موقفاً محدداً من القضية 16. 7%. لا شك بأن هذه النتائج لم تكن ما يتوقعه لويبا ويأمل في حدوثه ولذلك ركز أشد التركيز على حقيقة أن المؤمنين «الأصوليين» ليسوا هم الأكثرية، ومن ثم تابع ليعبر عن ثقته بالمستقبل زاعماً أن هذه البيانات تظهر رفضاً «للعقائد الدوغمائية الأصولية – وهو رفض يبدو أنه سيمتد بموازاة انتشار العلم والمعرفة» (1916: 280).

في سنة 1996 كرر كل من إدوارد جاي لارسون ولاري ويتهام (1997) تجربة لويبا بحذافيرها ليجدوا في أيامهم أن 39. 3% من العلماء البارزين اختاروا الخيار الأول –وهذا ليس اختلافاً هائلاً عن 41. 8% الذين اختاروه سنة 1914- وفي هذه المرة اختار 45. 3% الخيار الثاني، بينما اختار 14. 5% الخيار الثالث. وهكذا نرى أنه وخلال 82 سنة وبكامل معنى الكلمة لم يحدث أي انحسار في الإيمان بالإله بين العلماء! يا لها من علمنة!

الصحوات الشرقية

كان لانهيار الاتحاد السوفيتي الكثير من التبعات المذهلة، وليس أقلها كشف الفشل الذريع الذي منيت به أجيال متتابعة من الجهود المكرسة لجعل الإلحاد العقيدة السائدة في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفيتي السابق، وكما عبر أندرو غريلي (1994: 253) عن ذلك إذ كتب: «لم يسبق في تاريخ الإنسان أن بذل أحد مجهوداً منسقاً كهذا ليس فقط لمحو دين ما، بل لمحو كل أثر لدين... كانت الشيوعية الإلحادية تتصور نفسها على أنها تدفع إلى الأمام عملية علمنة لا مناص منها سيختفي الدين على أثرها عن وجه الأرض بالكلية – وهي العملية نفسها التي يتعبرها الكثير من علماء الاجتماع الدوغمائيين ‘ركناً عقائدياً’ وإن كان ذلك بصورة ألطف وأقل تطرفاً من الشيوعيين».

ولكن ما النتائج؟ لا يزال عدد الملحدين قليلاً لا يزيد عن نسبة الملحدين في أي بلد في أوروبا الغربية ناهيك عن الولايات المتحدة؛ في أغلب هذه البلاد لا يزال معظم الناس يصلون، ومع حلول سنة 1990 كان مستوى الحضور في الكنائس قد عاد بالفعل إلى مستويات قريبة من مستويات الحضور في أوروبا الغربية ولا تزال هذه المستويات ترتفع كما يحصل مع جميع أشكال التدين الأخرى. في هنغاريا مثلاً ارتفع مستوى الحضور في الكنائس من 16% سنة 1981 إلى 25% سنة 1991، بينما تراجع مستوى الذين لا يحضرون إلى الكنيسة إلا مرة في السنة أو أقل من 62% إلى 44%. وفي الوقت ذاته تراجعت نسبة الهنغاريين الذين يقولون عن أنفسهم إنهم ملحدون مقتنعون من 14% إلى 4%. في روسيا أجاب 53% من الأشخاص الذين شملهم مسح سنة 1991 بأنهم ليسوا متدينين، ولكن خلال خمس سنوات فقط تراجع هذا المعدل إلى 37%.

بجميع المعايير، يمكننا القول بيقين إن صحوات دينية كبرى تحصل الآن خلال الأيام الأولى من مرحلة ما بعد الشيوعية في الكتلة السوفيتية السابقة، ويبدو أن هذا قد فاجأ معظم علماء الاجتماع مفاجأة تامة وصاعقة (كما فعلت جميع العلامات الإشارات الأخيرة التي تدل على تجدد الحيوية الدينية)؛ وحتى في سنة 1982 أشارت ماري دوغلاس إلى التالي:

لكن لا أحد تكهن بعودة حياة الأشكال الدينية التقليدية التي حدثت مؤخراً... بحسب أدبيات علم الاجتماع الواسعة التي ألفت حول هذا الموضوع، فإن التغير الديني في الأزمنة الحديثة لا يحصل إلا بإحدى طريقتين: سقوط الكنائس المسيحية التقليدية [أو أي من التوجهات الدينية التقليدية لمجتمع ما] أو ظهور طوائف شعبوية جديدة لا يتوقع لها أن تستمر طويلاً. لم يعتقد أحد أن الأديان التقليدية تمتلك من الحيوية ما يجعلها تلهم ثورة سياسية على نطاق واسع... لكن انتفاضة بولندا ذات الطابع الكاثوليكي الواضح والتي أثارت الكثير من الإعجاب في الغرب كانت غير متوقعة بمقدار ما كان الارتقاء الذي شهدته الكنائس الأصولية في أميركا غير متوقع.

أجد اقتباس ما قاله مختلف علماء الاجتماع الذين كانوا على يقين في يوم من الأيام بأن «المربين المستنيرين» في «الأمم الإشتراكية» يقومون «بتحرير الأطفال» من قبضة الخرافات ويشيدون لمدة جديدة من العلمانية الدائمة تصرفاً انتقامياً غير مفيد؛ لكن إرادتي ليست قوية كفاية لتمنعني من بعض التبجح والتباهي، ولذلك سوف أقتبس من مقال قدمته في مؤتمر سنة 1979:

لا يمكن للدول العلمانية أن تقتلع الدين من جذوره... وبقدر ما تحاول اجتثاثه ستجد نفسها عرضة للمعارضة الدينية... قد يكون جسد لينين محنطاً ومعروضاً تحت الزجاج، لكن لا يفترض أشد أتباعه إعجاباً والتزاماً ناهيك عن غيرهم أنه صعد إلى مكان ما ليجلس على يمين، أو حتى على يسار، ماركس! وبغض النظر عن عظمة إنجاز السدود على نهر الفولغا، فإنها لا تضيء الطريق أمام أحد لفهم معنى الكون. علاوة على ذلك، يبدو أن الدول القمعية تزيد مستوى الحرمان الفردي، ومن خلال ذلك تصب الوقود على نار الدافع الديني في ذلك الفرد. حين تجعل الدولة الإيمان أمراً مكلفاً للشعب، فإنها تجعل منه أكثر ضرورة وأغلى قيمة. يصل الدين إلى أقصى درجات حيويته حين يتحول إلى كنيسة باطنية سرية (ستارك 1981: 175).

وهكذا كان بالفعل!

الإسلام

لقد حصرنا الأدلة التي عرضناها حتى الآن ضمن الدول المسيحية؛ فدعونا الآن ننتقل إلى الاتجاهات الدينية في الإسلام؛ ففي تناقض استثنائي مع عقائد العلمنة يبدو أن ثمة توافقاً عميقاً بين الدين الإسلامي والتحديث – فعدة دراسات في أجزاء مختلفة من العالم تقترح أن الالتزام الديني يزداد مع التحديث!

في دراسة أجراها جوزيف تامني (1979، 1980) حول المسلمين في جزيرة جاوة، وجد أن الالتزام الديني يتلازم إيجابياً مع مستوى تعليم الفرد ومكانة وظيفته؛ أي إن الأشخاص الذين يدرسون في الجامعة و/أو يشغلون وظائف ذات وضع اجتماعي عالٍ هم من يرجح أن يقيموا الصلوات الخمس المفروضة في اليوم وأن يؤدوا الزكاة وأن يصوموا شهر رمضان وأن يلتزموا بالممارسات الإسلامية القويمة من المسلمين الذين لم يتلقوا الكثير من التعليم و/أو يشغلون وظائف وضيعة. كذلك ميز تامني أن اكتشافاته تعني أن الممارسة الإسلامية سوف تزداد مع ازدياد الحداثة. في عمله التالي حلل تامني (1992) «صلابة» الدين، وكيف تمكن من التكيف مع تحديات الحداثة.

كذلك وجدت دراسة لحركة إسلامية «أصولية» قيادية في باكستان أن قادتها على درجة عالية من التعليم إذ تلقوا جميعاً شهادات جامعية عليا، أما مناصرو الحركة فكانوا بأغلبيتهم الساحقة من «الطبقة الوسطى الجديدة» (أحمد 1991)؛ ويؤكد هذا البيانات حول الطلبة الأتراك على أساس سلسلة وقتية حقيقية، فمنذ سنة 1978 تزايد عدد طلبة جامعة أنقرة الذين يحملون معتقدات إسلامية تقليدية، ومع حلول سنة 1991 كانت الغالبية الساحقة من الطلبة يحملون هذه الآراء. ففي سنة 1978 كان 36% من الطلبة يعتقدون بجزم أنه «ثمة جنة ونار» بينما كان ثلاثة أرباع الطلبة يحملون هذه الآراء سنة 1991، وكما بين كاهيان موتلو (1996: 355) فإن الإيمان «بالعناصر الأساسية من العقيدة الإسلامية قد انتشرت بين طلبة الجامعات، أي بين النخبة المستقبلية، في أنقرة»؛ وهؤلاء الطلبة سيصبحون يوماً ما هم القياديون في مجالي الثقافة والسياسة يوماً ما، كما سيكونون هم مهندسين وأطباء المستقبل. كذلك فإن تركيا في معظم النواحي هي أكثر الدول الإسلامية حداثة وقد بدأت من عشرينيات القرن الماضي بتجربة استمرت عقوداً طويلة من علمانية الدولة رسمياً إلى درجة ومن حالة شبه رسمية من اللادينية، مع أن هذه السياسات قد بدأت بالاضمحلال مؤخراً لأسباب توضحها البيانات خير تمثيل.

بالطبع فإن هذه البيانات عن الدول الإسلامية متشرذمة، ولكن ومن ناحية أخرى لا يحتاج المراقب صاحب أدنى معرفة بخلفية الدول الإسلامية إلى بيانات كهذه ليرى الحيوية المتفجرة التي يتمتع بها الإسلام في زمننا المعاصر وكي يدرك تناسب هذه الحيوية المباشرة مع التحديث والحداثة في الدول الإسلامية.

الأديان «الشعبية» الآسيوية

بعد الحرب العالمية الثانية توقع معظم المراقبين حصول تغيرات سريعة وعميقة في الأديان الآسيوية وخاصة في اليابان والجيوب الصينية المتحولة إلى الغرب مثل تايوان وهونغ كونغ وماليزيا. وبشكل أشد تحديداً افترض هؤلاء المراقبون أنه وفي هذا المحيط الجديد سوف تختفي الأديان التقليدية «الشعبية» المغرقة في سحريتها وغيبيتها لتحل الحداثة محلها، وقد لخص جون نيلسون (1992: 77) الإجماع العلمي إذ قال ملاحظاً: «يبدو أنه من المرجح أن تنقرض الممارسات الدينية الشنتوية في المجتمع الياباني الاستهلاكي الحديث المرتكز على التكنولوجيا المتطورة»؛ لكن ليس هذا ما حدث في الحقيقة. أما في تايوان، فنسبة معابد الديانات الشعبية اليوم إلى عدد السكان يبلغ أكبر من النسبة نفسها قبل قرن من الزمن، ونسبة مرتادي هذه المعابد من السكان (70 في المائة) أكبر من أي وقت مضى (تشنغ 1995). كذلك تشهد هونغ كونغ ازدهاراً في الديانات الصينية الشعبية حيث يحظى معبد وونغ تاي سِن –وهو معبد «الإله المنفي» المستورد من الصين عام 1915- بأكبر عدد من الأتباع (لانغ وراغفالد 1993). في ماليزيا تستمر الأديان الصينية الشعبية بالازدهار (تان 1994: 274). في الوقت ذاته تظل الديانة الشنتوية حيوية للغاية في اليابان (نلسون 1992). في جميع هذه السياقات الأربعة أثبتت عقيدة «قديمة الطراز» أنها قابلة للتكيف بما فيه الكفاية بحيث تعتبر مناسبة خصيصاً للحياة الحديثة؛ وما يعنيه هذا هو أن الأديان الشعبية هذه ليست محصورة بالكبار في العمر والفلاحين غير المتعلمين، بل تزدهر بين شباب متعلمين وناجحين يقطنون في المدينة (تشن 1995؛ تان 1994؛ لانغ وراغفولد 1993؛ نيلسون 1992). ولذلك فمن المعتاد أن «تبارك» السيارات الجديدة في اليابان عند مزار شنتوي، وأن تبنى المنازل والمكاتب والمصانع الجديدة بعد إجراء طقوس لطرد الأرواح لتطهير الأرض وتهدئتها هي وإلهها، وأن يتم تكريس الأولاد هناك (نيلسون 1992: 77). وبالفعل، تلعب طقوس الشنتوية اليوم دوراً أكبر في اليابان مما فعلت أيام ما قبل الحرب العالمية الثانية حين كان الناس يعتقدون أن الإمبراطور إلاهي وحين كانت الشنتوية هي دين الدولة الرسمي. ولا ننسى هنا أن حقيقة كون الشنتوية قد تعززت من خلال إزالة مؤسستها الدينية هو أمر يتوافق تمام التوافق مع نظرية السوق الدينية.

ماذا عن التغيير؟

تحدثت مؤخراً مع مجموعة من المؤرخين المسيحيين، ووجد بعضهم ما عرضناه هنا حول عدم تقدم العلمنة كثيراً أمراً صعب التصديق؛ فذكر أحدهم أن التدين زاد بشكل ملحوظ في ألمانيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر فقط ليتهاوى بشكل كبير في القرن العشرين، وأطال آخر في تبيان تغيرات المذاهب العقائدية عبر القرون الأخيرة، بينما بدأ ثالث بتأنيبي لعجزي عن رؤية العلمنة في انحسار الإيمان بالسحر والشعوذة. بالنسبة إلي أنا شخصياً، وجدت مشكلة في رؤية كيف كان هذا كله ذا علاقة بالطرح العلماني حتى أدركت أن هذه الملاحظات تخرج من أناس يعتقدون بشكل أو بآخر أن هذا المقال يفترض عدم وجود شيء مثل التغير الديني! بالطبع فالدين يتغير، وفي بعض الأزمنة والأمكنة توجد مشاركة دينية حتى درجة أعلى من الإيمان من الأزمنة والأمكنة الأخرى كما تحظى المنظمات الدينية بسلطة دنيوية أكبر في بعض الأزمنة والأمكنة. بالطبع، فإن أسس العقيدة تتغير مع الأزمنة أيضاً، فتوما الأكويني ليس هو القديس أوغسطين بكل تأكيد، وكلاهما إذا قرأ عمل آيفري ديولز فسيجد فيه عناصر من الهرطقة، لكن التغير لا يعادل الانحسار ناهيك عن الانهيار! فلو تحول كل سكان كندا إلى الديانة الهندوسية السنة المقبلة فسيكون لهذا الكثير من التفسيرات التي تستحق الدراسة، لكن العلمنة لن تكون من بينها. ما نحتاج إليه بالفعل هو نظام من النظريات يفسر لنا التغير الديني؛ أي يخبرنا لماذا تبرز جوانب معينة من التدين وتهوي جوانب أخرى ولماذا تظل غيرها ثابتة (ستارك 1998ب) وبهذا الاعتبار فإن نظرية العلمنة لا فائدة لها تذكر كما أن المصعد الذي يذهب إلى الأسفل فقط لا فائدة منه.

الخلاصة

دعوني أشدد هنا أنه ليس بمقدور أحد أن يثبت أن الدين لن يزول يوماً ما، فقد يأتي يوم لا يبقى فيه من الدين سوى الذكريات والمتاحف؛ لكن لن يحدث هذا نتيجة الحداثة، وإذا كان مصير الإيمان أن ينتهي يوماً ما فلن يحمل ذلك أي شبه للعملية التي افترضتها العقيدة العلمانية؛ لذلك دعونا وللأبد نعلن نهاية إيمان العلوم الاجتماعية الأعمى بالنظرية العلمانية ونعترف بأنها كانت نتاج تفكير مستغرق في الأماني، وكخطاب نعي لهذه النظرية سأقدم بعض الملاحظات الأخيرة قدمها ثلاثة علماء بارزون: عالم أنثروبولوجيا، بعد ذلك مؤرخ للقرون الوسطى، وأخيراً عالم اجتماع.

جادلت ماري دوغلاس (1982: 29) بقوة وإقناع ضد عقيدة العلمنة قائلة بأنها «بنيت لتجامل أفكاراً متحيزة» ينبغي التخلص منها «حين يلتحق علم الاجتماع الديني بركب الحداثة». لاحظت دوغلاس أنه ببساطة من غير الصحيح القول إن الحياة الحديثة تتناقض بحدة مع المجتمعات البسيطة من حيث هيمنة المعتقدات الدينية؛ ورأت مع كليفورد غيرتز (1966) أن عدم الإيمان لم يكن أمراً غير موجود حتى في مجتمعات ما قبل انتشار التعليم أو حتى في أزمنة العهد القديم:

الحنين الخالي من النقد إلى الماضي لعهد منصرم لا مكان له في الدراسات الدينية، ودعونا نلاحظ فوراً أنه لا توجد أدلة جيدة على أن الإنسانية بعموم جماهيرها وصلت إلى مستوى عال من الروحانية في الأزمنة الغابرة... ولا تظهر لنا الأنثروبولوجيا أن الأزمنة الحديثة تظهر انحطاطاً في المستويات القديمة من التقوى.

أما ألكساندر موراي (1972: 106) فقد بين أن المصادر الأصلية تكاد تجمع في اعترافها بانتشار البعد عن التدين في القرون الوسطى، متسائلاً من أين جاءت فكرة «عصر الإيمان» قبل أن يستنتج قائلاً:

لقد أغوي التنوير العلمي حتى تصور الإيمان على أنه ليس فضيلة بل على أنه خطيئة أصلية جاء «مسيح المعرفة» كي ينقذنا منها. ما يتبع من هذا الرأي هو أن الرجال في الماضي لا بد وأنهم صدّقوا ما أخبرتهم به الكنيسة كله، وقد حاول هذا المقال أن يهز أركان الجزء التاريخي من هذا التصور.

وأخيراً، يقول بيتر بيرغر (1997: 974):

أعتقد أن ما كتبته أنا وغيري من علماء الاجتماع الديني في ستينيات القرن العشرين كان خطأ، فقد كانت حجتنا الأساسية هي أن العلمنة والحداثة يأتيان يداً بيد: مع المزيد من التحديث يأتي المزيد من العلمنة. لم تكن هذه نظرية مجنونة فقد كانت هناك بعض الأدلة التي تشير إلى صحتها، لكني أعتقد أنها كانت في أساسها خاطئة إذ إن أغلب العالم اليوم هو بكل تأكيد ليس علمانياً، بل هو متدين للغاية.

بعد ثلاثة قرون تقريباً من النبوءات الخاطئة بشكل كامل وإساءة تمثيل الماضي والحاضر، أعتقد أن الأوان قد حان كي نحمل عقيدة العلمنة إلى مقبرة الأفكار الخاطئة ونهمس هناك: فلترقدي بسلام!

المراجع

Ahmad،  M. 1991. Islamic fundamentalism in South Asia: The Jamaat-i-Islami and the Tablighi Jamaat of South Asia. In Fundamentalisms observed،  edited by M. E. Marty and R. Scott Appleby،  457-528. Chicago،  IL: University of Chicago Press.

Anonymous. [circa 14101 1976. Dives and pauper. London: Oxford University Press.

Antonino،  St. [circa 1430] XXXX. Summa major.

Baldwin،  S. L. 1900. Foreign missions of the Protestant churches Chicago،  IL: Missionary Campaign Library.

Barrett،  D. B. 1982. World Christian encyclopedia Oxford: Oxford University Press.

Baumer،  F. L. 1960. Religion and the rise of skepticism New York: Harcourt،  Brace.

 Bede. [7301 1955. Ecclesiastical history of the English people. London: Penguin.

Berger،  P. 1967. The sacred canopy. Garden City،  NY: Doubleday.

-1968. A bleak outlook is seen for religion. New York Times،  25 April،  3.

- 1979. The heretical imperative: Contemporary possibilities of religious affiliation. New York: Doubleday..

- 1997. Epistemological modesty: An interview with Peter Berger. Christian Century 114: 972- 75،  978.

Bossy،  J. 1985. Christianity in the West: 1400-1700. New York: Oxford University Press.

Brondsted،  J. 1965. The Vikings. Baltimore: Penguin.

Brooke،  R.،  and C. Brooke. 1984. Popular religion in the Middle Ages. London: Thames and Hudson.

 Bruce،  S. 1992. Religion and modernization. Oxford: Clarendon..

1995. The truth about religion in Britain. Journal for the Scientific Study of Religion 34: 417- 30.

1997. The pervasive world-view: Religion in pre-modem Britain. British Journal of Sociology 48: 667- 80.

Byock،  J. L. 1988. Medieval Iceland: Society،  sagas،  and power. Berkeley: University of California Press.

Casanova،  J. 1994. Public religions in the moder world Chicago،  IL: University of Chicago Press.

Chen،  H. 1995. The development of Taiwanese folk religion،  1683- 1945. Ph. D. diss.،  University of Washington

Christian،  Jr.،  W. A. 1981. Apparitions in late medieval and renaissance Spain. Princeton،  NJ: Princeton University Press.

Comte،  A. 1830- 1842. Cours de philosophie positive. Paris: Bachelier. 1896. The positive philosophy. Translated and edited by Harriet Martineau. London: George Bell and Sons.

Coulton،  G. G. 1938. Medieval panorama Cambridge: Cambridge University Press.

Crawley،  A. E. 1905. The tree of life London: Hutchinson.

Cupitt،  D. 1997. After God: The future of religion. London: Weidenfeld and Nicolson.

Currie،  R.،  A. Gilbert،  and L. Horsley. 1977. Churches and churchgoers: Patterns of church growth in the British Isles since 1700. Oxford: Clarendon Press.

Davie،  G. 1990a. “An ordinary God”: The paradox of religions in contemporary Britain. British Journal of Sociology 41: 395420..

1990b. Believing without belonging: Is this the future of religion in Britain? Social Compass 37: 455- 69..

1994. Religion in Britain since 1945: Believing without belonging. Oxford: Blackwell.

Davies،  N. 1996. Europe: A History Oxford: Oxford University Press.

Delumeau،  J. 1977. Catholicism between Luther and Voltaire: A new view of the Counter-Reformaton Philadelphia،  PA: Westminster Press.

Dobbelaere،  K. 1987. Some trends in European sociology of religion: The secularization debate. Sociological Analysis 48: 107- 137.

Douglas،  M. 1982. The effects of modernization on religious change. In Religion and America: Spirituality in a secular age،  edited by M. Douglas and S. M. Tipton،  25- 43. Boston: Beacon Press.

 Duffy،  E. 1987. The late middle ages: Vitality or decline. In Atlas of the Christian Church،  edited by H. Chadwick and G. R. Evans،  86- 95. New York: Facts on File. - 1992. Stripping of the altars. New Haven،  CT: Yale University Press.

Durant،  W.،  and A. Durant. 1965. The age of Voltaire. New York: Simon and Schuster.

Finke،  R. 1992. An unsecular America. In Religion and modernization،  edited by S. Bruce،  145- 169. Oxford: Clarendon.

Finke،  R.،  and R. Stark. 1988. Religious economies and sacred canopies: Religious mobilization in American cities،  1906. American Sociological Review 53: 41- 9..

 1992. The churching of America،  1776- 1990: Winners and losers in our religious economy. New Brunswick،  NJ: Rutgers University Press.

Fletcher،  R. 1997. The barbarian conversion. New York: Holt.

Geertz،  C. 1966. Religion as a cultural system. In Anthropological approaches to the study of religion،  edited by M. Banton،  1-46. London: Tavistock Publications.

Gentilcore،  D. 1992. Bishop to witch. Manchester UK: Manchester University Press.

Greeley،  A. M. 1989. Religious change in America Cambridge،  MA: Harvard University Press.

-1994. A religious revival in Russia?Journal for the Scientific Study of Religion 33: 253- 72.

- 1995. Religion as poetry. New Brunswick،  NJ:Transaction Publishers.

Hadden،  J. K. 1987. Toward desacralizing secularization theory. Social Forces 65: 587- 611.

Hanson،  S. 1997. The secularization thesis: Talking at cross purposes. Journal of Contemporary Religion 12: 159- 79.

Healy،  R. M. 1984. Jefferson on Judaism and the Jews: “Divided we stand،  united،  we fall!” American Jewish History 78: 359- 74.

lannaccone،  L. R. 1996. Looking backward: Estimating long-run church attendance trends across eighteen countries. Paper presented at the annual meeting of the Society for the Scientific Study of Religion.

 Johnson،  P. 1976. A history of Christianity. New York: Harper & Row.

Jones،  G. 1968. A history of the Vikings London: Oxford University Press.

 Lambert،  M. 1992. Medieval heresy: Popular movements from the Gregoran Reform to the Reformation،  2nd ed. Oxford: Blackwell.

Lang،  G.،  and L. Ragvold. 1993. The rise of a refugee god: Hong Kong’s Wong Tai Sin. Oxford: Oxford University Press.

Larson،  E. J.،  and L. Withan. 1997. Belief in God and immortality among American scientists: A historical survey revisited. Nature 386: 435.

Laslett،  P. 1965. The worl we have lost London: Keagan Paul.

 Le Bras،  G. 1963. Dechristianisation: Mot fallacieus. Social Compass 10:448-1.

Lechner،  F. J. 1991. The case against secularization: A rebuttal. Social Forces 69: 1103- 19..

- 1996. Secularization in the NetherlandsJournal for the Scientific Study of Religion 35: 252- 64.

Leuba،  J. H. [19161 1921. The belief in God and immortality. Chicago،  IL: Open Court.

Mack،  B. L. 1996. Who wrote the New Testament?: The making of the Christian myth San Francisco،  CA: HarperSanFrancisco.

 MacMullen،  R. 1981. Paganism in the Roman Empire. New Haven،  CT: Yale University Press.

Martin،  D. 1965. Towards eliminating the concept of secularization. In Penguin survey of the social sciences،  edited by J. Gould. Harmondsworth (UK): Pengiun Books..

-1978. A general dwory of secularization New York: Harper & Row.

-1991. The secularization issue: Prospect and retrospect. British Journal of Sociology 42: 465- 74.

Morris، C. 1993. Christian civilization (1050-1400). In The Oxford history of Christianity،  edited by J. McManners،  205- 42. Oxford: Oxford University Press.

Muller،  F. M. 1878. Lectures on the origin and growth of religion London: Longmans Green.

Murray،  A. 1972. Piety and impiety in thirteenth-century Italy. Studies in Church History 8: 83- 106.

Mutlu،  K. 1996. Examining religious beliefs among university students in Ankara. British Journal of Sociology 47: 353- 59.

Nelson،  J. 1992. Shinto ritual: Managing chaos in contemporary Japan. Ethnos 57: 77- 104.

Obelkevich. J. 1979. Religion and the people،  800- 1700. Chapel Hill: University of North Carolina Press.

Redman،  B. R. 1949. The portable Voltaire. New York: Penguin.

Roesdahl،  E. 1980. The Scandinavians at home. In The Northern World،  edited by D. M. Wilson،  145- 58. New York: Harry N. Abrams.

Sawyer،  P. H. 1982. Kings and Vikings: Scandinavia and Europe،  AD 700-1100. London: Methuen.

Sawyer،  P.،  and B. Sawyer. 1993. Medieval Scandinavia: From conversion to reformation،  circa 800- 1500. Minneapolis: University of Minnesota Press.

Schneider،  J. 1990. Spirits and the spirit of capitalism. In Religious orthodoxy and popular faith in European society،  edited by E. Badone،  24- 53. Princeton،  NJ: Princeton University Press.

Shepherd،  W. R. 1980. Shepherd’s historical adas،  9th ed. Totowa،  NJ: Barnes & Noble.

Shiner،  L. 1967. The concept of secularization in empirical research. Journal for the Scientific Study of Religion 6: 207- 20.

Smith،  G. 1996. The unsecular city: The revival of religion in East London. In Rising in the East: The regeneration of East London،  edited by T. Butler and M. Rustin. London: Lawrence and Wishart.

Smith،  M. 1996. Religion in industrial society: Oldham and Saddleworth 1740 -1965. Oxford: Oxford University Press.

Sommerville،  C. J. 1992. The secularization of early modem England. New York: Oxford University Press.

Stark،  R. 1963. On the incompatibility of religion and science: A survey of American graduate students. Journalfor the Scientiflc Study of Religion 3: 3- 20..

-1981. Must all religions be supernatural?In The social impact of new religious movements،  edited by B. Wilson،  159- 77. New York: Rose of Sharon Press..

-1985. From church-sect to religious economies. In The sacred in a secular age،  edited by P. E. Hammond،  139- 49. Berkeley: University of California Press.

-1996a. The rise of Christianity: A sociologist reconsiders history. Princeton،  NJ: Princeton University Press..

-1996 b. Why religious movements succeed or fail: A revised general model. Journal of Contemporary Religion 11: 133- 46..

-1998 a. Sociology،  7th ed. Belmont،  CA: Wadsworth. *

-1998b. Explaining international variations in religiousness: The market model. Polis. Special Issue.

 Stark،  R.،  B. D. Foster،  C. Y. Glock،  and H. E. Quinley. 1971. Wayward shepherds: Prejudice and the Protestant clergy. New York: Harper & Row.

Stark،  R.،  and L. R. lannaccone. 1993. Rational propositions about religious groups and movements. In Handbook of cults and sects in America،  edited by D. G. Bromley and J. K. Hadden،  241-61. Greenwich،  CT: JAI Press..

-1994. A supply-side reinterpretation of the “secularization” of Europe. Journal for the Scientific Study of Religion 33: 230- 52..

-1995. Truth? A reply to Bruce. Journal for the Scientific Study of Religion 34: 516- 19.

Stark،  R.،  L. R. lannaccone،  and R. Finke. 1996. Religion،  science،  and rationality. Papers and proceedings of American Economic Review: 433- 437..

-1998. Rationality and the religious mind. Economic Inquiry 36: 373- 89.

Swatos،  Jr. W. H. 1984. The relevance of religion: Iceland and secularization theory. Journal for the Scientific Study of Religion 23: 32- 43.

Swatos، Jr.،  W. H.،  and L. R. Gissurarson. 1997. Icelandic spiritualism: Mediumship and modernity in Iceland. New Brunswick،  NJ: Transaction Publishers.

Tamney،  J. B. 1979. Established religiosity in modern society: Islam in Indonesia. Sociological Analysis 40: 125-35.

-1980. Fasting and modernization. Journal for the Scientific Study of Religion 19: 129- 37.

-1992. The resilience of Christianity in the modem world Albany: State University of New York Press.

Tan،  C. B. 1994. Chinese religion. In Religions sans Frontieres،  edited by R. Cipriani،  257- 289. Rome: Dipartimento per L’Informazione e Editoria.

Thomas،  K. 1971. Religion and the decline of magic New York: Scribner’s.

Tomasson،  R. F. 1980. Iceland. Minneapolis:University of Minnesota Press.

Tocqueville،  A. de. 1956. Democracy in America. 2 vols. New York:Vintage.

Tschannen،  0. 1991. The secularization paradigm: A systematization. Journal for the Scientific Study of Religion 30: 395- 415.

Vauchez،  A. 1997. The saint. In The medieval world،  edited by J. L. Goff،  313 -45. London: Parkgate Books.

Voye،  L.،  and K. Dobbelaere. 1994. Roman Catholicism: Universalism at stake. In Religions sans frontires?،  edited by R. Cipriani،  83-113. Rome: Dipartimento per LInformazione e Editoria.

Wallace،  A. F. C. 1966. Religion: An anthropological view. New York: Random House.

Wilson،  B. 1966. Religion in secular society. London: C. A. Watts..

-1968. Religion and the churches in contemporary America. In Religion in America،  edited by W. G. McLoughlin and R. N. Bellah،  77- 84. Boston: Houghton Mifflin..

-1975. The debate over secularization: Religion،  society،  and faith. Encounter 45: 77- 84..

-1982. Religion in sociological perspective. Oxford: Oxford University Press.

Winter،  M.،  and C. Short. 1993. Believing and belonging: Religion and rural England. British Journal of Sociology 44: 635- 51.

Woolston،  T. 1733. Works of Thomas Woolston. London: J. Roberts.

Yamane،  D. 1997. Secularization on trial: In defense of a neosecularization paradigm. Journal for the Scientific Study of Religion 36: 109- 22.

--------------------------------

[1]*ـ  عالم اجتماع دين أميركي، بروفسور في علم اجتماع الدين ـ جامعة واشنطن.

ـ العنوان الأصلي للمقال:  Secularization, R.I.P

ـ المصدر: http://web.csulb.edu/~plowentr/Secularization_Stark.pdf

ـ ترجمة: رامي طوقان. مراجعة: جاد مقدسي.

[2]- التوحيدية هي حركة لاهوتية مسيحية دينية سميّت كذلك استنادًا إلى مفهومها بوحدانيّة الله حيث ترفض عقيدة التثليث، بالمقابل تعتبر عقيدة التثليث معتقداً دينياً يعني أن الله الواحد ثلاثة أقانيم أو ثلاث حالات في الجوهر المتساوي نفسه. أصحاب عقيدة التوحيد يؤمنون أن يسوع هو بشكل من الأشكال «ابن» الله، ولكنه ليس هو الإله الواحد [المترجم].

[3]- وقد كتب فيه أيضاً: «جميع أسلافنا كانوا مؤمنين مسيحيين طوال الوقت»!

[4]- القرون التي يفترض أن تكون كل واحدة منها قد تحولت إلى المسيحية: النمسا (التاسع)، بلجيكا (السابع)، الدنمارك (الحادي عشر)، فنلندا (الثالث عشر)، فرنسا (السادس)، ألمانيا (التاسع)، آيسلندا (الحادي عشر)، إيرلندا (الخامس)، إيطاليا (الرابع)، هولندا (الثامن)، النرويج (الحادي عشر)، البرتغال (الرابع)، إسبانيا (الرابع)، السويد (الثاني عشر)، سويسرا (الثامن).

[5]- في عينة من رجال الدين البروتسننت في كاليفورنيا تم انتخابها سنة 1968 وجدنا أن فقط 45% من كهنة «كنيسة يسوع الموحدة» قادرون على قبول العبارة: «أؤمن حقاً بوجود الإله وليس لدي أي شك حول ذلك» (ستارك والجميع 1971). أما بين المثوديين فلم تتجاوز النسبة 52%. علينا أن نلاحظ أن هذه العبارة أقل صرامة بكثير من تلك التي استخدمها لويبا إذ إن رجال الدين لديهم حرية أكبر في تعريف الإله بالطريقة التي يريدونها. علينا أن نلاحظ أيضاً أن معظم من غطتهم هذه العينة من رجال الدين كانت لديهم شكوك حول ألوهية السيد المسيح، ولذا فإن علينا أن نفترض بأنهم يؤمنون بتصور أبعد وأكثر إبهاماً حول الإله، لا الإله الشخصي الذي يستمع إلى الصلوات ويستجيب لها.