البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

«ما قبل» «ما بعد العلمانية»

الباحث :  د. حميد لشهب
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  8
السنة :  السنة الثالثة - صيف 2017 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  August / 13 / 2017
عدد زيارات البحث :  1128
تحميل  ( 376.458 KB )
يسعى الباحث المغربي حميد لشهب في هذه المقالة إلى جلاء اللَّبس الذي تثيره المصطلحات والمفاهيم التي نشأت حديثاً في الغرب، ومنها على الأخص مصطلح "ما بعد العلمانية".

في مقالته التالية يركز على الوجه المنهجي في مقاربة هذه القضية الإشكالية. ثم يمضي ليبيِّن المشكل المعرفي الذي تولِّده الموجة المفاهيمية حول ثنائية "الما قبل" و "الما بعد" حتى بين النخب الغربية نفسها.

المحرر

قد يبدو عنوان هذه الدراسة غريباً بعض الشيء، لكنه في العمق محاولة للبرهنة على أطروحة ندافع عنها منذ سنوات تتمثل في كون الحديث عن «ما بعد العلمانية» لا يعدو أن يكون إلا «تقلعة» لـ «عصر» «ما بعد»[1]: ما بعد الديمقراطية، ما بعد الميتافيزيقا ما بعد الحداثة إلخ. فلكي نمر، منطقيا «لما بعد»، لابد من أن نتأكد أن هذا «المابعد» قد حصل بالفعل على مستوى الفكر والتسلسل التاريخي. والواقع أن «العلمانية»، كما نظَّر لها بعض المفكرين الغربيين منذ عصور النهضة إلى اليوم، لم تبرح مكانها ولم تتطوّر إلى نسق فكري فلسفي، بقدر ما ظلت مثالاً يُرجى الوصول إليه وتحقيقه على المستوى الفكري وشعاراً منفوضاً من كل محتوياته الجوهرية في يد الساسة الغربيين من غير استثناء تقريباً، وكيفما كان توجههم الإيديولوجي.

1. «وهم العلمانية»

قد أكون هدمت بهذه السطور التمهيدية الكثير من الأفكار الرائجة في العالم المسلم عن العلمانية الغربية، وهي أفكار غرسها الغرب في بيئتنا الثقافية موهماً إيانا بأدوات شتى أن «المفتاح السحري» لتقدم الأمم، وبالخصوص المسلمين هو «التمييز الدقيق» بين الدين والسياسة. أملنا في هذا النص هو إظهار بأن هذا الإدعاء ما هو في واقع الأمر إلا ادعاء؛ لأن هذا التمييز لا يوجد حتى في الغرب ذاته. وحتى فرنسا التي تُعتبر في نظر العديد من المنظرين المسلمين «رائدة العلمانية الغربية»، لم نتجح إلى حد الساعة في «التحرر» من جذورها الدينية، بل إن هناك العديد من الأحزاب السياسية الفرنسية ممن تُشهر علانية انتمائها الديني، ومن بين هذه الأحزاب من حكمت فرنسا.

النتيجة هي أن «ما بعد العلمانية» لا يمكن أن يكون في عُرفي إلا «نهاية العلمانية»، أو بالتحديد نهاية ما أسميه شخصياً «وهم العلمانية». والمقصود من مفهوم «النهاية» هنا هو نهاية تاريخ صراع بين منظومتين فكريتين وثقافتين وإيديولوجيتين تحكمتا في النقاش الفكري الإنساني منذ قرون طويلة وطبعتا الفكر البشري إلى يومنا هذا، بل تسببت في إنشاء معسكرين فكريين: العلماني واللاهوتي. أتحدث عن «النهاية» هنا في الفضاء الفكري والديني الغربي، وبالخصوص في جناحه الأوروبي؛ لأن كل ملامح هذه «النهاية» قد اجتمعت ولم تعد مناقشات لا العلمانية ولا الدين تحضى باهتمام كبير، سواء أكان ذلك عند المفكرين أم عند الناس العاديين. ما حصل في الغرب هو هذا النوع من فَرْقَعَة فقاعات الصابون التي كانت العلمانية والدين معا يتسليان بها، في نقاشات عديمة الجدوى تقريبا.

قد يكون تاريخ 21 يناير 2004 توثيقا «للنهاية» التي أتحدث عنها. فبهذا التاريخ جلس على منصة إحدى أعرق الكنائس في ألمانيا الفيلسوف الألماني المشهور يورغن هابرماس إلى جانب الكاردينال الكاثوليكي راتسنغر (الذي أصبح بابا الكنيسة المسيحية فيما بعد)[2]، ليعلنا أمام الملأ أن المشكل ليس هو لا الدين ولا العلمانية، بل الإنسانية برمتها، لأن خطر مسحها من على خارطة الكوكب الأرضي هو خطر فعلي وليس خياليا، وبأن العدو الحقيقي بالنسبة للإثنين هو العلم التطبيقي، وبالخصوص البيولوجيا، التي أصبح بإمكانها «خلق» الإنسان، أو "صنعه"، بكل ما يتضمن ذلك من نتائج أخلاقية وإنسانية. شَخَّصَا معا إذن الخطر المحذق بالإنسانية وتمت «هدنة» بين العلمانية والدين من أجل التصدي للعدو المشترك، مع العلم أن «المعركة» بين العلمانية والدين لم تحسم ولم تنته، بل تم نوع من الإتفاق على حط السلاح، إلى أجل غير مسمى. للإشارة فحتى في زمن احتدام الصراع بين العلمانية والدين في أوروبا، وباستثناء التجربة الفرنسية العنيفة من الجانبين، فإن هذا الصراع كان في مجمله فكرياً، ولربما اجتماعياً، أكثر من كونه نضالياً دموياً[3].

3. فهم العلمانية في العالم العربي والمسلم

في المقابل نجد وضعاً خاصاً في العالم المسلم عموما والعربي منه بالخصوص، ابتداء من احتكاك المفكر العربي مباشرة بالثقافة الغربية، في عز السيطرة السياسية والاقتصادية على كل الدول العربية. ذلك أن البعثات الطلابية إلى أوروبا، بقدر ما كانت إيجابية، بقدر ما كانت سلبية. من سلبياتها الأساسية هي ذاك النوع من الانبهار أمام عالم الفكر الأوروبي، الذي كان قد قطع أشواطا كبيرة وطويلة في تطوره. فالحماس للعقل والليبرالية والحرية والعدالة الاجتماعية والعلوم الحقة إلخ[4]، كانت توهم بحلم «عتق» الأمة العربية من براثن مشكلات كثيرة. لكن كان في هذه الحماسة نوع من السذاجة، لأن المرء كان يعتقد أن هذه الأفكار، التي كانت تُلقن في مدرجات الجامعات، هي ما يعيشه الناس في الواقع الإجتماعي الفعلي في الغرب الأوروبي. زد على ذاك، أن طلاب البعثات هذه، لم يهضموا بما فيه الكفاية ما كانوا يتلقونه من أساتذتهم، بل لم يعوا حتى بأن ما يوصلونه لهم قد عرف تاريخاً طويلاً لبلورته فكريا.

إلى جانب رواد البعثات الطلابية، كان هناك شيوخ وفقهاء في العالم العربي، حاولوا «تأصيل» الحرية والعدالة والعلمانية إلخ في الإسلام، وسيلةً لتحرير الأرض بداية و«الاستيلاء» على السلطة. وهذا ما حصل في الكثير من الدول العربية. وبدأ الصراع بين ممثلي العلمانية على النمط الغربي وممثلي الالتصاق بالتراث (بالدين)، إلى أن انتهى إلى ما انتهى إليه حاليا: تمزيق المناظرة العلمية وفتح الباب على مصراعية للاقتتال الفعلي ومحاولة تصفية الآخر، كل بطريقته ومرجعياته[5].

السؤال الذي يجب أن يقلق راحة كل مفكر عربي ومسلم يستحق هذا الاسم هو هل يعي «العلماني» العربي ما يدافع عنه من أفكار ولماذا تُهرق دماء عربية طيبة باسم منظومة فكرية؟ هل يعي «المسلم الملتزم» دينه، أو يلوك ويقاتل ويَقتل ويُقتل من أجل أيديولوجية فرقة مسلمة معينة؟[6] بأي منطق للعدالة والحرية والفكر والوعي ينشط هؤلاء «الأعداء»؟ لماذا أوصلا أكثر من مليار نفس مسلمة للعيش في قلق وجودي وتذبذب عقائدي وخوف مستمر وسقم من الدنيا وما فيها وهدم مجاني للأخلاق والحياة؟ ألم يكن من الضروري، نظرياً على الأقل، أن يكونوا مثالاً وقدوة للمسلمين البسطاء الغارقين في هموم الحياة، الغاطسين في الجهل والأمية وقصر اليد، من أجل تنويرهم وتحريرهم من عبوديات حقيقية، إن على المستوى العقائدي أو الاقتصادي أو السياسي؟ ألا يتصارع الفريقان على أوهام حقيقيةعلى حساب كرامة الإنسان المسلم وحقه في العيش في سلام؟

4. النموذج «العلماني» الفرنسي

اعتبر النموذج العلماني الفرنسي أهم مثال للعلمانية الغربية، ومنه «وَردَ» المدافعون عن العلمانية في العالم العربي والمسلم عموما، إما مباشرة (شمال إفريقيا) أو عن طريق ترجمات إلى الإنجليزية (الشرق العربي وبلاد فارس). لكن ما حقيقة هذا النموذج؟

يقدم المفكر الفرنسي إيمانويل طود في كتابه: «ما بعد الديمقراطية»، الصادر عام 2008 عن دار النشر غاليمار، تشخيصاً دقيقاً لما وصل إليه النموذج الديمقراطي الفرنسي من أزمة، وخصص حيزاً واسعاً للدين في فرنسا، مستعرضاً أسباب انزلاق فرنسا إلى صف «المعادين للإسلام».

يعتبر عام 1791 حاسماً في تاريخ المسيحية في فرنسا في نظر طود. ففي هذه السنة ظهرت الملامح الأولى للخارطة الدينية ـ المسيحية الفرنسية بشكل ملفت للنظر. وهي خارطة حددت البنية السياسية لهذا البلد وأثرت فيها على امتداد قرنين من الزمن إلى الآن. ومن المعلوم أن الشرخ في الكنيسة الفرنسية قد حدث سنة 1790 عندما طولب رجال الدين بالالتحاق بالثورة. من طبيعة الحال كان منهم من قبل وآخرون رفضوا، ومثّل الرافضون فيما بعد ثكنات أحزاب اليمين. ففي الوقت الذي تحررت فيه مناطق فرنسية بأكملها من جبروت الكنيسة، ظلت أخرى وفية لها. ولم تفرض الثورة التفريق بين الدين والدولة في فرنسا إلا عام 1905، ردَّ فعل على «الخطر» الذي مثله لها الدين والمناطق التي حافظت على المسيحية. ومنذ ذلك الوقت وفرنسا تعيش على إيقاع الأزمة الكنسية، وهذا شيء عادي إذا استحضرنا إلى الذهن تشجيع الناخب المسيحي الذي كان قد اختار عام 1790 الخضوع للثورة الجمهورية للحزب الإشتراكي، بينما استمر اليمين المسيحي في الاختفاء والضعف إلى أن «احتضر» عام 2002 بعد تأسيس حزب «الوحدة من أجل حركة شعبية».

أدى اختفاء الكنيسة، التي اقترحت على المستوى النفسي حلاً لإشكالية الإشكاليات الوجودية للإنسان، يعني الموت، إلى نوع من الفراغ واللامعنى الوجودي، لأن الإنسان المتحرر من قيود الدين وبالخصوص الإنسان الملحد في حاجة إلى «عدو« من غيره تصبح الحياة دون مذاق وتٌفتح أبواب العدم والموت في وجه الفرد. وفي بحر التسابق لإيجاد معنى جديد للحياة وبموت فكرة الفردوس الذي كان الدين يعد به، يُعَدُّ الفردوس الأرضي الذي وعد به اليمين واليسار على حد سواء مفقوداً كذلك. لم يبق أمام الإنسان إلا محاولة العثور على معنى جديد للحياة: المال/ الجنس/ العنف؛ أي ما كان الدين سابقا يراقبه.

أكان المرء واعيا بذلك أم لا، فإن هناك أزمة دينية تجتاح مجموع أوروبا حالياً في نظر طود. فالتركيز السلبي لعشر السنوات الأخيرة على الإسلام في الغرب عموماً من طرف النخبة السياسية والثقافية لا يمكن فهمه حتى ولو استحضرنا تجربة سابقة عليها ـ في فرنسا بالخصوص، أي حركات ضد العرب في ثمانينيات القرن السابق، حتى ولو كانت هذه الحركات قد قيدت من طرف أحزاب يمينية لاستقطاب الطبقات الشعبية في عز أزمة اقتصادية واستفحال العطالة والحضور القوي للعامل العربي. ما يميز الحملات المعادية للإسلام الحالية هي أنها لم تعد حكراً على جزء كبير من الطبقات الشعبية، بل أصبحت نقطة اهتمام مجموعة من المفكرين والصحافيين سواء أكانوا من الصفوة السياسية والإقتصادية أم «النخبة الشعبية». ولم يعد هذا الهجوم محصوراً على بلد غربي بعينه، بل تعداه ليشمل هذه البلدان كلها تقريبا. والواقع أن أطروحة صدام الحضارات هي تنظير إمبريالي لموازين القوى وتأكيدٌ لتفوق أميركا والغرب عموما على باقي الأمم وبالخصوص ضد العالم الإسلامي والصين. يتعلق الأمر إذن، حسب طود، بنوع جديد من النرجسية الثقافية الغربية وهي تعبير واضح إلى حدود بعيدة عن الفراغ الروحي للغرب. إضافة إلى هذا فإن هناك نوعاً من التصعيد النفسي للغرب حاليا، الذي يرفض مواجهة أزماته على اختلاف أنواعها، مشيرا بالأصابع إلى أزمات العالم الإسلامي الناتجة من مروره بمرحلة انتقالية إذ أصبحت الأمية شبه عامة فيه وأصبح غياب أي توجيه أيديولوجي وديني واضحاً، يُنتج بدوره القلق والبلبلة الاجتماعية، والعنف في صفوفه. أكثر من هذا فالإسلام بوصفه ديناً، في رأي طود، يعرف هو بدوره أزمة، لأن الاعتقاد فيه يتدهور رويدا رويدا بطريقة غير عيانية، وما تكثيف الممارسة الدينية في بعض الدول المسلمة إلا عربوناً على نجاعة مفعول تأثير الحداثة، التي تبدأ بمثل هذه الدوخة الدينية لتنتهي بتحجيم هذا الأخير إلى حدوده الطبيعية كديكور ثقافي باستطاعته تقديم بعض الخدمات الإجتماعية المعينة والمحدودة. وإذا كان الكثير من المسلمين يهابون العلمانية، بل لم يكونوا يعيرون لها اهتماماً يذكر في ربع القرن الماضي، لأنها كانت منشغلة بالمسيحية، فإنهم قد وجدوا أنفسهم، بعدما انتصرت اللائيكية، وجها لوجه أمام هذه الأخيرة. من هذا المنطلق، فإن الإسلام بوصفه ديناً هو كبش الفداء الذي تقدمه اللائيكية أو كما يقول طود: «في أوروبا بداية الألفية الثالثة، يصبح (أي الإسلام) أضحية لحالتنا الميتافيزيقية المزرية، لصعوبة عيشنا دون إله مع تأكيدنا أن حداثتنا هي الحداثة الوحيدة الممكنة والصالحة». إن العداوة التي يواجهها الإسلام من طرف الغرب، كما يؤكد ذلك طود، هي تعبير واضح عن الكساد الروحي والأيديولوجي للغرب وهي تصعيد لجملة من النقائص التي يعيشها على دين مغاير للدين الذي راج فيه لمدة قرون طويلة، وكساد للعلمانية.

5. العلمانية ممارسةً سياسيةً وسلوكاً فردياً في الواقع الاجتماعي الغربي.

تعتبر التجربة العلمانية الغربية، والأوروبية بالخصوص، نموذج المدافعين عن المنظومة العلمانية في العالم العربي. وكما سبقت الإشارة إلى ذلك، فإن الأسس التي بنى عليها «العلماني» العربي هي في العمق أكاديمية أساسا. لم تحتك الغالبية العظمى من «المدافعين» المسلمين عن العلمانية بالواقع الغربي الفعلي والمُعاش اليومي للإنسان الغربي العادي، لتتيقن من الأفكار التي تشبعت بها ومدى مطابقتها الواقعَ الذي أُنتجت فيه. يعني غابت الأبحاث الأنثروبولوجية والإثنولوجية الجادة كلها لدراسة هذه القضية من الجانب العربي في الغرب. وهذا أمر جد مهم، قبل أخذ موقف إيجابي أو سلبي من أفكار، قد تكون نبيلة على المستوى المثالي، لكن تطبيقها في الواقع، لا يفشي بأنها متجدرة في الغرب بالطريقة التي يتوهمها «جنود العلمانية» في العالم الإسلامي.

لن أعود إلى تاريخ صراع الأفكار بين «العلمانية/العقل» و«الكنيسة/الدين»، ما يهمني في هذا المقام هو تقديم بعض النماذج الحية من الواقع الفعلي للغرب فيما يخص تطبيقات العلمانية.

أ. الواقع الفعلي لتطبيقات العلمانية في الغرب

- «إعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله» هو الشعار العام الذي يبتغي التفريق بين الممارسة السياسية والممارسة الدينية. على المستوى الفكري القح، هو مبدأ نبيل جداً، لكنّ هناك شروخاً واضحة على مستوى التطبيق في الواقع. باستثناء النموذج الفرنسي، الذي قد نلمس فيه هذا الأمر نسبياً، فلا أرى لحد الساعة أي بلد غربي يطبق هذا الأمر. لا أتحدث عن الولايات المتحدة الأميركية، لأن „God bless America“ هو المؤسس لدستور هذا البلد. هناك أمثلة لا حصر لها يمكن تقديمها في هذا الإطار وسأكتفي بأهمها في نظري:

- هناك بلدان أوروبية لحد كتابة هذه السطور في إطار مناقشة التفريق بين السلطة الدينة والسطة السياسية، كإمارة اللكتنشطاين مثلا.

- كل المملكات والإمارات الأوروبية مؤسسة بدهياً على «انتمائها المسيحي» الواضح، بل لها قساوسة القصور وكنائس معينة لصلاة يوم الأحد أو أيام الأعياد.

- في كل الدول الأوروبية هناك أحزاب سياسية تمثل القيم المسيحية وتدافع عنها في برامج انتخاباتها. وهذه الأحزاب هي التي تحاول إدخال «الله» في «الدستور الأوروبي» بكل الوسائل.

- تخصص الكثير من البلديات الأوروبية، وخاصة في العالم الجرماني، نصيباً من ميزانيتها السنوية لترميم كنائس وأديرة تعبد، من غير حرج ولا مناقشات مبدئية.

- تمنح الكثير من الحكومات الغربية مبالغ مالية جد مهمة، سنوياً، لمنظمات إحسانية اجتماعية دينية لمزاولة أنشطتها الخيرية داخل بلدانها وخارجها. والمنظمة الخيرية الأكثر استفادة من هذا هي «الكاريطاس Caritas»، النشيطة في إفريقيا وأسيا وأمريكا الجنوبية. طبعا هناك في كل أنشطتها، سراً أو علناً، نفحة تبشيرية دينية.

- عند إنهاء بناء الكثير من المنشآت العمومية: مدارس، مسارح، مستشفيات إلخ. يبارك القساوسة هذه المنشآت في الكثير من الدول الأوروبية، في حفلات افتتاح عمومية وعلنية، جنباً إلى جنب مع الساسة والمنتخبين.

- يبدأ الموسم الدراسي وينتهي في الكثير من الدول الأوروبية بقداس ديني وحضور الصليب في أقسام الدرس، لا يمثل أي مشكلة لأي أحد.

- تنقل صلوات الأحد أو الأعياد الدينية المهمة (عيد ميلاد المسيح، الفَصح مثلا) على شاشات التلفزات العمومية، الممولة من طرف الدول.

- استمرار تعليم الدين (ونعني المسيحي) في المدارس العمومية في الكثير من الدول الأوروبية.

- تعميد أغلبية الأوروبيين أبناءهم بعد ولادتهم في كنائس، على الرغم من أنهم يدعون بأنهم «ملاحدة» أو من غير أي توجه ديني. وعند السؤال لماذا يتم تعميد الأبناء، يكون الجوابه شبه البدهي: «استجابة للتقليد وحسب».

- البرنامج السنوي للعطل الرسمية في الدول «العلمانية» في الغرب مليء بالعطل الدينية.

- المسيحيون الأوروبيون، الذين يعترفون بروما وكنيستها، يدفعون ضرائب سنوية للكنيسة مباشرة، حسب ما يربحونه، وتُخصم هذه الضرائب من الضرائب التي تُدفع للدولة. بعبارة أخرى، تدفع الدولة بطريقة غير مباشرة ضرائب للكنيسة إلى حد الآن.

- ما تزال أجراس الكنائس تدق يومياً ولمرات عديدة في قرى أوروبا ومدنها، كما دقت في العصور الوسطى وأزمنة القياصرة والملوك قبل الثورات الفكرية والسياسية ابتدء من عصر الأنوار.

- يصادف المرء وهو يتجول في الكثير من أزقة المدن الأوروبية وأريافها الصليب في المجال العمومي أو في الحدائق الخاصة للمواطنين.

ماذا يمكن أن نستنتجه من هذه الأمثلة الحية؟ بأي معنى يمكن الحديث عن العلمانية وعن الدين في الغرب؟ أتخلص الغرب كليا من موروثه الديني كما نتوهم؟ ألا تستغل السياسة الدين، ويستغل هذا الأخير الأولى؟ أين نحن من مبدأ التفريق بين الدولة والكنيسة في الغرب؟ أتُعتبر كنيسة روما ديناً أو دولة؟

ما يمكن تأكيده بدهيةً لا نقاش فيها هو أن الدين لم يفارق العلمانية، ولم تفارق العلمانية الدين في الغرب، بل يمشيان يداً في يد في المجال العمومي الغربي كشقيق وشقيقته، يتبادلان المساعدات والخدمات ويقفان معا أمام كل المخاطر التي تعترضهما. فكم مرة مثلاً دافع الدين في الغرب عن مواقف علمانيين أساؤوا عمدا للإسلام والمسلمين (كاريكاتورات وأفلام وكتب إلخ) باسم حرية التعبير، وكم مرة دافعت العلمانية عن مواقف رجال دين هاجموا الإسلام مباشرة، بما في ذلك هجوم بابا الفاتيكان السابق (بينيدكت 16).

ب. العلمانية سلوكاً اجتماعياً نفسياً في الغرب.

ما تحقق بالتأكيد وأصبح بدهية واضحة عند الإنسان الغربي العادي هو القضاء النهائي على الإكراه الديني. كل إنسان، بغض النظر عن مستوى تكوينه وانتمائه الطبقي، يسلك طبقاً لاختياراته الشخصية وقناعاته، حتى وإن كان تربى في وسط عائلي متدين أو علماني. فكم من إنسان تلقى تربية دينية وأخذ موقفا من دينه عندما أصبح راشداً، وكم من آخر تربى تربية «علمانية» وأصبح متديناً فيما بعد.

ما حدث بالتأكيد في الغرب هو أن الدين فقد هالته القدسية عند الإنسان العادي وأصبح من الممكن الحديث عنه من غير إكراهات ولا مراقبة ولا حساب ولا عقاب أو خوف من المتابعة تحت ذريعة الهرطقة والإسائة للعقيدة. لا أحد يحاكم أو يلقى القبض عليه لتشكيكه بالدين أو الجهر بعدم وجود الله أو إظهار إلحاده علانية أو التصريح بعدم إيمانه بالتثليت وكل المنظومة الدينية المسيحية. وصل السلوك العقائدي العادي/الشعبي إلى مرحلة يقرر فيها الشخص/الفرد مصيره بمصيره بوعي تام من غير إملاءات أسرية واجتماعية، بل انطلاقا من قناعاته الذاتية وميوله في الحياة. وبهذا فإن الوعي بتقرير المصير النهائي للإنسان، يعني بعد الموت، لم يعد مؤسساتياً لا دينياً ولا سياسياً، بل فردياً خالصاً. ومعنى هذا أن حرية المعتقد قد تحققت بالفعل في الغرب.

ما وصلت إليه أوروبا «العلمانية» بالتأكيد هو فهمها أن الدين المسيحي، الذي أسس الوعي واللاوعي الغربي طيلة قرون، ليس إلا ديناً من بين الأديان، ليس هو الأفضل أو الأسوء، بل يعيش – ولربما يتعايش- مع مجموعة من الأديان الأخرى في رقعة جغرافية واحدة. ويعني هذا واقعياً، أن «امتلاك الحقيقة النهائية» لم يعد حكراً على دين دون سواه، بل أتيحت الفرصة ليعبر كل معتقد عن حقيقته، وبفعل منطق المقارنة بين الأديان، استطاع الإنسان العادي في الغرب أن يصل إلى وعي مبدأ تعدد الحقائق الإيمانية.

ج. حضور الدين على الرغم من «العلمانية»

هناك الكثير من العلماء الغربيين ممن اهتموا بالدين وأعطوه حقه في الدراسة، إيماناً منهم أن البعد الروحي هو ركيزة أساسية في حياة الإنسان، وأن التدين مرتبط بطبيعة الإنسان كإنسان، بل يُعتبر حاجة نفسية للفرد. ولا يُمثل هذا الاتجاه أتباع الديانة المسيحية وحدهم، بل أيضا الكثير من علماء النفس والاجتماع والفكر والفلسفة. ومن بين أهم مفكر في هذا الإطار، نجد المحلل النفساني وعالم الاجتماع الألماني إيريك فروم. فقد جُمِعَت دراساته حول الدين في المجلد السادس من أعماله الكاملة، الصادر عام 1989 بمدبنة ميونيخ الألمانية، ابتداء بأول نص له في هذا الميدان سنة 1927 ونهاية بآخر نص سنة 1976، أي بمجموع 10 دراسات دام إنجازها ما يناهز النصف قرن. وهي كلها دراسات منهجية لموقف التحليل النفسي من المعتقدات الدينية، خرجت عن مألوف هذا التخصص العلم-إنساني، المعروف عموماً برفضه الدينَ والمعتقدات؛ لأنها في نظر الكثير من علمائه «وَهْم» أصاب الإنسان ويصيبه. ففرويد (1856-1939) يرى أن ضعف الإنسان في مواجهة قوى الطبيعة الخارجية والقوى الغريزية داخله، يعمل للتغلب عليها باستخدام «العواطف المضادة» وهو ما يؤدي إلى الوهم. كما يعتبر الدين «عصاباً جماعياً قائماً على رغبات الإنسان». أما يونغ (1875-1961) فإنه يعتبر الدين حقيقة سيكولوجية وهو عنده «الخضوع لقدرات أعلى من أنفسنا، فهو يستولي على الذات البشرية التي هي بالأحرى ضحيته دائمًا وليست خالقته».

لكن فروم يرى أنهما لم يختلفا في نظرتهما للدين من حيث المضمون: يقر فرويد بالدين من حيث الجوهر الأخلاقي ويرفض السمات التأليهية الفائقة للطبيعة. أما يونغ فإن له موقفاً استسلامياً للقوة العليا. في حين تعامل فروم مع الموضوع تعاملاً مغايراً تماماً، فعلى الرغم من أنه أخذ موقفاً واضحا من الدين، وبالخصوص الدين اليهودي حيث نشأ وترعرع، فإنه لا يُنكر أهميته القصوى بالنسبة لنفسية البشر. كما أنه اختلف مع فرويد ويونغ في تعريف الدين مشيرا إلى أنه: «أي مذهب للفكر والعمل تشترك فيه جماعة معينة، ويعطي للفرد إطارًا للتوجيه وموضوعًا للعبادة». ويؤكد أنه يدرس الدين بوصفه ظاهرة إنسانية شاملة ويميز نوعين من الدين:

- الدين التسلطي الذي يطالب بالاستسلام لقوة متعالية وبطاعتها العمياء والابتعاد عن العصيان. يضطر الإنسان في هذا النوع من الدين إلى بناء صورة وهمية عن كائن متعال، تلبي حاجاته ويتمسك بها إلى أن يعتقد بأنها حقيقة قادرة على تقديم أجوبة عن كل تساؤلاته. وهذا ما يجعل علاقاته بهذا الكائن المتعالي تتحول إلى علاقة ذات طابع خاضع مازوخي: «إذ يصبح الإنسان عديم الثقة في إخوانه البشر وفي نفسه ومن غير تجربة لحبه وقوة عقله الذاتيين». ويدخل الدين التسلطي العلماني في هذا النوع من الدين، حيث يصبح الزعيم، القائد، أبا للشعب وموضوعًا للتقديس الواعي أو غير الواعي. ومن تم تصبح حياة الإنسان تافهة وفارغة من كل المضامين.

- الدين الإنساني ويقصد فروم أدياناً مثل البوذية، فبوذا مثلا أدرك حقيقة الوجود الإنساني وتحدث باسم العقل وليس باسم قوة فائقة على الطبيعة. من هنا يكون هدف الإنسان في مثل هذا الدين هو تحقيق أكبر قدرة من القوة لا العجز، الذات لا الطاعة.

يؤكِّد فروم أنّ ما يهدد الدين ليس هو العلم، بقدر ما هي الممارسات السّائدة في الحياة اليومية. فلم تكن المواقف المناهضة للدين في ظاهرها ضدّ الدين في حد ذاته، بل ضد المؤسسات الدينية، التي كانت تدعي امتلاكها الحقيقةَ المطلقة وميلها إلى تقديس مؤسساتها، مسببة في تعطيل العقل وتحريم التفكير النقدي الحرّ. وكبت التفكير النقدي من شأنه إيقاف القدرات العقلية في مجالات أخرى.

ينتقد فروم علم النفس الأكاديمى الذى جعل منه أصحابه علماً يعالج كل شيء باستثناء مشكلات الروح، بزعمهم أن الشعور ومعرفة الخير والشر هي تصورات ميتافيزيقية، ليست من مسؤولية علم النفس. ويستخدم فروم مصطلح «روح Seele» لا «نفس Psyche» أو «عقل Geist»، لأنه مصطلح  يتضمن في نظره القوى الإنسانية العليا: الحب والعقل والقيم. وهو المصطلح الذي يلتقي حوله الفيلسوف ورجل الدين وعالم النفس.

يرجع فروم إلى كتابه «الإنسان لنفسه» ليصف مشكلة الإنسان المعاصر، مؤكداً بأن ظهور العقل، وملكة التخيل، والوعى بالذات قادت الإنسان إلى ثنائية عويصة: يملك العقل الذى يساعده على إدراك حقيقة عجزه ومحدويته ويعي نهايته المحتومة: الموت. ويملك جسداً يدفعه إلى إرادة الحياة والبحث الدائم على إشباع غرائزه الحيوية (أكل، شرب، جنس). وهذه الثنائية بالضبط هي التي تدفع الإنسان إلى البحث المستمر عن حلول جديدة إلى ما لا نهاية.

يحلل فروم في كتابه هذا الموقف الدينى فى المجتمع الغربي المعاصر، موضحاً أن هناك رجوعاً إلى أشكال بدائية للدين ويعتبر بعض الظواهر الموجودة في هذا المجتمع أمراضاً عُصَابِية، مُضمرة في أشكال من الدين البدائى مثل: عبادة الأسلاف والطوطمية والفتشية والطقوسية وعبادة الطهارة وغيرها. فالتثبيت العصابى ليس سوى شكل من أشكال عبادة السلف، والحب الأعمى للدولة أو فرد منها هي شكل من الطوطمية المعاصرة. وبعض الأنواع من العصاب القهري يكون فيها الاغتسال القهرى تعبيراً عن شعور عميق بالذنب والحاجة إلى الكفارة. لكن فروم يؤكد أن هناك فرقاً بين الموقف الدينى والموقف العصابي، فالعصابى إنسان معزول ووحيد، بينما الدين يسمح لأكبر عدد من الناس المشاركة فيه، وهذا ما يعطي الفرد الشعور بالانتماء والقوة والأهمية.

يعتقد فروم أن هناك نقط التقاء بين الدين ونموذج التحليل النفسي الذي طوره، رافضاً رفضاً قاطعاً الموقف الفرويدي المعادي للدين، لأن فروم يعتبر هذا الأخير من الحاجات الأساسية في حياة الإنسان، على الرغم من أنه يميز بطريقة دقيقة الدين من التَّدَيُن. فالأول قد يكون خطيرا على الإنسان، وبالخصوص إذا كان سلطوياً، أما الثاني فإنه في عرفه مرتبط بالبعد الروحي للإنسان ولا يقتصر على دين بعينه وليس من الضروري أن يمارس في دين محدد. ما يعيبه فروم على اليهودية والمسيحية هو اعتقاده في كون هذين الدينين قد ابتعدا كثيرا عن المُثل التي يدعوان لها، بل يقاومانها في الكثير من المواضع وفي مختلف الحقب التاريخية. وفي هذا الإطار يجب فهم أخذه موقفاً من دينه الأصلي (اليهودية) بل تخلصه منه.

إن التدين الإيجابي قادر في نظر فروم على تحقيق حاجات إنسانية لم تستطع المؤسسات الدينية تحقيقها. فالتدين الذي يساعد مُمَارِسَه على تحقيق الانتماء (إلى الأفراد والمؤسسات الاجتماعية بديلاً نفسياً للعلاقة بالطبيعة) والتجاوز (أن يتخطى حدوده الحيوانية إلى حالة الخلق والإبداع) والتجذّر (الحاجة إلى عائلة ومقر عيش) والهوية (الحاجة إلى تأسيس هوية خاصة به: «أنا.. أنا» ولست» ذاك الذي ترغب أن أكونه») والإطار المرجعي ( يعني تكامل الحاجات السابقة لتشكل إطارا مرجعيا للتوجه نحو الكون الذي يعيش فيه). وإذا حققت هذه الحاجات للإنسان، فإنه لا يكون في تناقض ولا في عداوة مع التحليل النفسي، طالما أن الهدف المشترك يكون واحدا وهو مساعدة الإنسان ليعيش في توازن داخلي وخارجي، وينسج علاقات اجتماعية لا تكون قائمة على السيطرة أو الخوف، والتضامن والتكافل ضد «جبروت» القدر والطبيعة والمحبة المتبادلة والسعادة المشتركة والوعي بالثنائيات التي تتحكم في وجودنا وعدم كبت الشعور المُمزق الذي ينتج منها، بل مواجهته بتحكيم العقل وعيشها من غير ترك طرف من هذه الثنائيات يتغلب على الطرف الآخر إلخ.

قد يبدو دفاع فروم عن أطروحاته في مختلف هذه الدراسات حول الدين، دفاعاً طوباوياً، يُنَظِّرُ لمدينة فاضلة؛ لكنه في واقع الأمر قابل للتحقيق والممارسة في الواقع الفعلي، شريطة أن تحدث تلك الثورة المنتظرة بوعي الإنسان بأن مصيره في الحياة لن يكون شيئا آخر من غير الحياة ذاتها، ولهذا السبب من الضروري أن يعيشها بكامل وعيه ورغبته في المحافظة، ليس فقط على كرامته فيها، بل وأيضا على كرامة الآخرين. وهذا هو عمق أي دين يحترم نفسه وكل تحليل نفسي لا يحتقر التدين في الإنسان.

6. نتائج ما «قبل» «ما بعد العلمانية» على العالم المسلم

يسبح العالم المسلم بكامله في بحر أفكار لا حصر لها تُغمِّسه يومياً في تناقضات أصبح من العسير تجاوزها لتتضح الرؤية ويستقيم الطريق. ومرد هذا في اعتقادنا إلى أننا عاجزون على القيام بنوع من تركيب الأفكار وفحصها بالتأمل العميق بإعمال العقل النظري وليس العقل العملي البراغماتي، الذي نستعمله بلا هوادة مُتوهمين أنه يقودنا إلى رؤية الواقع بموضوعية وحياد كاف من أجل الفعل فيه بأخذ مسافة إبستمولوجية ضرورية وليس اختيار الإبحار في محيطات الأفكار الرائجة والأطروحات المستهلكة.

لم نكترث في تفكيرنا في الحداثة الغربية بأصولها الفكرية الحقيقية، بل لم نتجاوز لحظة الانبهار واعتبارها العصا السحرية التي يمكنها إنقاذ الأمة من كل أمراضها، بل لم نع البتة أن الحداثة في صيغتها الحالية قادتنا أفراداً وجماعات إلى اختزالها في مكون وحيد، وهو أخطر مكوناتها، ألا وهو جانبها التقني. هذا الجانب بالضبط هو المشكل الحقيقي للحداثة، حتى في أوطانها الأصلية[7]، لأنه يقود إلى منطق مناقض تماما لعقل الحداثة الفكرية، التي كان هدفها الأول والأخير تنمية الإنسان وليس آلات تحكم سيطرتها على هذا الأخير، موهمة إياه بأنها تسهم في حريته، في الوقت الذي تُقَيِّده يومياً بقيود استهلاك وخلق إنسان جديد يحمل في ثنايا وجوده كل المتناقضات. لم يكن العالم الإسلامي مهيئاً بما فيه الكفاية لا فكرياً ولا روحياً لاستقبال الحداثة، لأنها أُقْحِمَت في العالم العربي المسلم وهو في عز استعماره من طرف الدول الغربية، وهو نائم في سبات عميق في جهله وفقره المادي والمعنوي[8].

ما حصل في العالم المسلم في محاولة الترويج للعلمانية الغربية هو تشويه فهم هذا المصطلح، تماما كما وقع في فهم مصطلحات غربية أخرى كمفهوم الفردانية بكل خصوصياته الفلسفية والميتافيزيقية، بما في ذلك الحرية الشخصية. فقد انفجر هذا المفهوم في الذات المسلمة وشتتها تشتيتاً، إذ إنها أصبحت نرجسية فردية وجماعية وأفرزت لامبالاة عامة اتجاه الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، بل أصبحت المصلحة العامة غريبة في مجتمع لا يبحث أفراده إلا عن مصالحهم النرجسية الحضيضية ولو على حساب كرامتهم الإنسانية الأنطلوجية. أصبحت المحرمات مُحللة وأصبح قتل الغير من أجل إشباع النرجسية الذاتية معمولاً به، حتى ولو تعلق الأمر بالأم أو الأب أو الزوجة والأطفال. هذا النوع من الجرائم الجديدة، هي تعبير واضح على أن النرجسية هي التي أُنْتِجَت في لاوعي الفرد العربي المسلم وليس الفردانية، كمبدأ وجودي يضمن حق الاختلاف عن الآخرين ويُظهِر وعي الفرد، ليس بحقوقه فقط، بل قبل كل شيء بواجباته تجاه ذاته وتجاه الآخرين. والنتيجة هي رفع كل كرامة الجسد، الذي أصبح سلعة معروضة في المزاد العلني ومُستباحاً للعيون المكبوتة كلها. فالجسد المسلم أصبح في ملك الشركات العالمية الكبرى المتخصصة في إنتاج مواد تجميل ولباس وترويجهما، مُوهمة الإنسان المسلم، رجلاً كان أو امرأة، بأن أهم شيء في الحياة هي بيع الواجهة بكل السبل؛ مُقحمة اللاوعي الإسلامي في تناقضات جسد-نفسية لا حصر لها: تبرج مُصاحب للجلباب والحجاب، وبيع اللحم البشري بأبخس الأثمنة من أجل «ليلة حارة» أو «متعة عابرة»، وكأن الإنسان المسلم ينتقم من فقره وحرمانه وجهله وقمع لجسده.

في بحر توهمنا بأننا فهمنا «العلمانية الغربية» وانجرافنا مع آخر صيحة للغرب في هذا الاتجاه، والمتمثلة في تقديم «وهم جديد»: «ما بعد العلمانية»، وجدنا أنفسنا مرة أخرى أمام رفض للدين جملة وتفصيلاً أو أمام فهم الدين بطريقة «مَرَضية». فقد أصبح الإسلام أداة قهر وسلاح سياسي في أيدي متطرفين، وبخاصة عند الكثير من الفرق السنية. أصبحت هذه الحركات الدينية-السياسية أوكار طيور ضالة، أنهكتها متناقضات المجتمع الإسلامي بعامة، والعربي بخاصة، وتحاول شراء خلاصها بالتضحية بالجسد المستباح، على أمل أن يكون قربانا يكفر عن السيئات التي اقترفت في حقه كلها. إذا كانت عهارة الجسد المرتبطة بذاك الفهم المقلوب للحداثة تبحث عن إشباع كيفما كان نوعه، فإن عهارة الجسد المرتبطة بالدين المتطرف هي بحث عن الإشباع نفسه، لكن بطرق مختلفة. لم يعد للجسد أية قيمة أخرى في نظر المتطرف، من غير إحراقه وتعذيبه وتشتيته في معارك «جهادية»، تضمن له - في وهمه- الجنة التي حُرم منها في هذه الدنيا.

تقود هذه العوامل كلها وغيرها كثير إلى فقدان الهوية وزعزعة الشعور بالانتماء إلى وسط اجتماعي يشبه في نظر الكثيرين بركة أخلاقية قدرة، اجتمعت فيها ميكروبات الحداثة والدين المتطرف، لتُفرز اللامبالاة تجاه هذا المجتمع الذي ينبذ فيه المجتمع الفرد، وهذا الأخير المجتمع ويعزز النرجسية الذاتية بالنتائج السلبية لهذه الأخيرة على الأفراد والمجتمع.

خلاصة

البديل الحقيقي في نظرنا هو إيجاد طريق ثالث، لا يروم إلى التوفيق بين الحداثة كما نعيشها اليوم والتطرف الديني؛ لأنهما قطبان متناقضان ومتنافران، كلما حاول التطرف الديني محاربة هذا النوع من الحداثة، تقوّت هذه الأخيرة وأفرزت آلاف ردود الفعل وطورت ميكانيزمات دفاع لا تخطر على البال. وكلما حاولت هذه الحداثة القضاء على التطرف الديني بوصفه هدفاً أسمى أو تحجيمه كحد أدنى، كلما انبهرت في صلابة مقاومته وعناده، حتى وإن كان المنتمون له لا يمثلون إلا نسبة قليلة جداً من عموم المسلمين. الطريق الثالث هو مسؤولية فئتين متكاملتين، قد يكون خلاص الأمة رهيناً باستعدادها للتضحية من أجل هذه الأمة. الفئة الأولى مُمثلة في المفكرين الأحرار، الذين استوعبوا مقومات الحداثة الفكرية والفلسفية والأيديولوجية، والذين بإمكانهم أخذ مسافة إبستملوجية منها لفحصها وعدم الوقوف في حدود «طُرق الحطب» التي تفرضها، بل تتبع المسارب الضيقة لغاباتها الكثيفة المعقدة. كل «داعية حداثي» لم يفقه العمق الفكري للحداثة، لا يختلف البتة عن أي «داعية ديني»، لم يفقه من دينه إلا القشور. أما الفئة الثانية فهي فئة «رجال الدين» العارفين بدينهم والمستعدين لأخذ موقف مما وُرث ومما هو مفروض إلى حد الساعة على عامة المسلمين من أيديولوجيات سياسية في ثوب ديني، وبالخصوص «إسلام النفط» السعودي والخليجي. ما تحتاجه الأمة المسلمة حاليا هم فقهاء ينغمسون في سبر أغوار فلسفة الحياة في الإسلام وحب هذه الفلسفة كينونة غائبة في الإسلام الشعبي، ما يجب التركيز عليه في هذا الطريق الثالث هو التخلص النهائي من أشباه المفكرين في الحداثة وأشباه الفقهاء في الدين، وبخاصة أولئك الذين يضعون أقلامهم وفكرهم رهن إشارة «أمراء المؤمنين». ما نحتاج إليه هم مفكرون لا يعتبرون ما يتقاضونه من أجر على فكرهم علاوة من «أصحاب القرار»، بل حقا طبيعيا لما يقدمونه للمجتمعات العربية الإسلامية من خدمات من أجل توفير أسس فلسفة الحياة في الإسلام، وليس فلسفة الموت والتدمير. إن تكامل عمل هاتين الفئتين من المفكرين ضروري وحاسم لتثبيت أسس الطريق الثالث هذا، لكي نفهم بأن «العلمانية» الغربية مثال في الثقافة الغربية، لم يتحقق بعد كاملاً، وهو مثال لا يصلح بالضرورة لكل الثقافات والجغرافيات، وليس من حقنا بوصفنا مسلمين الترويج له، لأننا نسقط في فخ الترويج للإمبريالية، بل علينا أن نجتهد في فكرنا وديننا لنجد طريقاً ثالثاً أصيلاً، نفهم فيه أن «التدين» هو حق من الحقوق المشروعة للإنسان، بما أنه حاجة نفسية وروحية واجتماعية للبشر. كما سبقت الإشارة إلى ذلك، لم تبارح «العلمانية» مكانها النظري في الواقع الغربي، بل لم تتحقق إلا جزئياً في بعض الدول، وإذا كان واقع الأمر هكذا، فبأية شرعية يتحدث المرء عن «مابعد العلمانية»، اللّهم إذا كان هذا يعني نهايتها بوصفها منظومة فكرية لا يمكن أن تتحقق في الواقع، لأسباب لا حصر لها.

إحالات مرجعية

محمد الحبيب المرزوقي:

- شروط نهضة العرب والمسلمين دار الفكر، 2001.

- وحدة الفكرين الديني والفلسفي دار الفكر 2001.

عبدالله السيد ولد أباه:

-الدين والهوية – بيروت 2010.

-الثورات العربية الجديدة: المسار والمصير بيروت 2012.

- الإسلام والمجتمع المفتوح (ترجمة) بيروت 2012.

عبد الله العروي: مفهوم الحرية، بيروت،  دار الفارابي، 1981.

محمد بوهلال: جدل في السياسة والدين والمعرفة، بيروت 2011.

صادق جلال العظم: دراسات في الفلسفة الغربية الحديثة، بيروت 2012.

حسن حنفي:

- مقدمة في علم الاستغراب، الدار الفنية، القاهرة، 1991.

- من العقيدة إلى الثورة، 1988.

محمد سبيلا:

3. في تحولات المجتمع المغربي، 2011.

2. الحداثة وما بعد الحداثة، 2000.

1. المغرب في مواجهة الحداثـة، منشورات الزمن، الرباط، 1999.

محمد شحرور:

- الدين والسلطة - قراءة معاصرة للحاكمية 2013

- دراسات إسلامية معاصرة في الدولة والمجتمع 1994

جورج طرابيشي:

- العقل المستقيل في الإسلام: نقد نقد العقل العربي (ج4)، 2004

- المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي، 1991

محمد عابد الجابري:

- «مسألة الهوية: العروبة والإسلام والغرب» (1995)

- «الدين والدولة وتطبيق الشريعة» (1996)

علي عبد الرزاق – الطاهر بن عاشور- محمد الخضر حسين: - حوار وردود حول الاسلام وأصول الحكم، بيروت 2011.

إدريس هاني:

- أخلاقنا: في الحاجة إلى فلسفة أخلاق بديلة، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، 2009.

- الإسلام والحداثة؛ إحراجات العصر وضرورات تجديد الخطاب،، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، 2005.

بعض المراجع الأجنبية:

أرتور شوبنهاور: نقد الفلسفة الكانطية، بيروت 2013.

إيريك فروم: حب الحياة، بيروت 2015.

هانس كوكلر: تشنج العلاقة بين الغرب والمسلمين، بيروت 2013.

يوسف سايفرت: البرهان الفينومينولوجي الواقعي على وجود الله، بيروت 2015.

يورغن هابرماس / جوزيف راتسنغر (البابا بندكتس VIΧ): جدلية العلمنة.. العقل والدين، بيروت 2013.

راينر فونك: الأنا والنحن.. التحليل النفسي لإنسان ما بعد الحداثة، بيروت 2016.

-----------------------------------------

حميد لشهب : باحث في الفلسفة ـ المملكة المغربية.

[2]-انظر ترجمتا هذا اللقاء تحت عنوان: «جدلية العلمنة. العقل والدين»، دار النشر والتوزيع والترجمة «جداول» بيروت، 2013.

[3]- حين منح اتحاد الناشرين الألمان “جائزة السلام” يوم 10 أكتوبر 2001 ليورغن هابرماس، قدم هذا الأخير في أثناء حفل التسليم محاضرة حول موضوع “الإيمان والمعرفة” (Glauben und Wissen) تضمّنت أفكاراً وملاحظات تردّد صداها في الساحة الثقافية العالمية، والألمانية بخاصة، لمدة طويلة. وركز المرء على مساءلة فكرة “مجتمع ما بعد العلمنة” والدعوة إلى تغيير النظرة للدين باعتباره أكثر “من بقايا ماضٍ ولّى ولن يعود”. انظر في هذا الإطار: «حقيقة مجتمع ما بعد العلمنة عند هابرماس»، لمحمد المهذبي، الأربعاء 10 شباط (فبراير) 2010،

http://www. alawan. org/article6848. html

[4]-عبد الله العروي «مفهوم الحرية»، الطبعته الرابعة، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2008.

[5]-انتظر في هذا الإطار مثلا: «الإصلاح بين السلفيــة والعلمانيـــــة «، حسن حنفي، الخميس، 1 فبراير/شباط، 2007، http://www. addustour. com

[6]-هناك استثناء في تاريخ الفكر العربي وهي المناظرة الدينية التي جرت بين الإمام محمد عبده (1849ــــ 1905) وفرح أنطون (1874ــ 1922) قبل أكثر من قرن من الزمن، والتي نشر ميشال جحا طبعتها الثانية.

[7]- من بين أبرز الفلاسفة الغربيين المشهورين، ممن انتقدوا هذا التوجه التقني في الحداثة الغربية هناك مارتين هيدغر في كثير من نصوصه.

[8]- انظر في هذا الإطار مؤلفات الفيلسوف المغربي محمد سبيلا حول كيفية «تسلل» الحداثة إلى المجتمعات المسلمة ونتائج هذا التسلل.