البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

اللائيكية والمجتمع ما بعد العلماني

الباحث :  روجيه مونجو - Rojer Monjo
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  8
السنة :  السنة الثالثة - صيف 2017 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  August / 13 / 2017
عدد زيارات البحث :  787
تحميل  ( 385.637 KB )
يُسلط هذا المقال الضّوء على أصالة و (فرادة / (originalité مفهوم «المجتمع مابعد العَلْمانيّ» من خلال إثارة مسألة تَمفْصُل و (تشابك(articulation /  هذا المفهوم مع النظريّات التقليديّة للعلْمنة (sécularisation). على وجه الخصوص.

هل يهدف هذا المفهومُ إلى التهيئة لـ «عودةٍ للدّينيِّ» (retour du religieux)؟ أو أنّ المقصود، هو خلاف ذلك؛ أي ترسيخ سيرورة العلمنة نفسِها؟

يحاول الباحث الفرنسي روجيه مونجو الإجابة عن هذا السؤال عبر إعادة إثارة سؤال استطرادي حول مسألةَ تطبيق مبدأ اللّائيكيّة (laïcité) في سياقٍ مابعدعَلمانيٍّ، والنتائج المترتبة على ذلك.

المحرر

1 ـ إنّ بادئَة «مابعْد» (post) قد بدأ استعمالُها، أخيرًا، على نطاقٍ واسِعٍ، لتمييز المجتمعاتِ المعاصِرةَ: مجتمعات مابعدحديثة، مابعدصناعيّة أو مابعدأجْريّة (post-salariales) مابعدقوميّة ومابعداستعمارية، لكن أيضاً مابعدعلمانيّة. الأعمُّ ممّا ذكرنا هو، بوضوح، التعبيرُ الأوّل، نظراً إلى أنّ كلَّ واحدة من السّمات التي أُبْرِزت بواسطة التعبيرات اللاحقة، على التّوالي، يمكن اعتبارُ أنّها تُشير، بالّسلب (en négatif)، إلى بُعدٍ غالبٍ، أو على الأقلّ إلى بعدٍ مهم، للمجتمعات «الحديثة»: هيمنة العمل الصناعي وهيمنة النظام الأجْريّ الذي أمّن له الانتشار، وظهور الدّولة-الأمّة ونزعتها التّوسّعية، في شكلها الغربيّ بالخصوص، وأخيراً العلمنة (أو «إزالة السّحر عن العالم» le désenchantement du monde)، وبدقّة أكبر، في ما يخصّ فرنسا، لَيْأَكة (laïcisation) العلاقات الاجتماعيّة والسّياسيّة.

2 ـ كثيرةٌ هي السّيروراتُ التّاريخيّةُ المهمة التي طَبعتِ المجتمعاتِ المُسمّاةَ «حديثة»، طَبعتْ ظهورَها وتطوُّرَها، بسبب انخراطها، الواعي بتفاوت، في مشروعٍ : هو، تحديدًا، مشروع الحداثة، كما صِيغ ونُظِّرَ له في القرن الثّامن عشر، من قِبل فلاسفة الأنوار بالخصوص. إنّه، في المقام الأول، مشروع تحرّر/تحرير (émancipation)، يقوم على الثقة الممنوحة للعقل البشري لاجتثاث أشكال الاستلاب والهيمنة غير المُبرّرة كلها، لكنّه المشروعُ الذي اتّخذ، أيضاً، شكلَ دعوى عقلنة العالم، والذي خلّف آثاراً عديدة، تَكَشّف، مع طول الزّمن، أنّها «ضارّة»:

أوّلا: تعميم استغلال العمل البشريّ (لكنْ، استغلال الطبيعة أيضاً) في إطار نظام الأُجَراء (salariat) ذاك، الذي لم يكن ماركس يتردّد في تشبيهه بشكلٍ جديدٍ من العبوديّة.

 ثانياً: المركزيّة-العرقيّة الغربيّة (ethnocentrisme occidental) والتي تقف، في شكلها القوميّ، خلف المواجهات (الحروب) الأشدّ دمويّة التي عرفتها البشريّة طوال تاريخها.

ثالثاً: الرّفع التّدريجي التّصاعديّ لجميع الكوابح (الضوابط) الأخلاقيّة، وعند الاقتضاء، السّياسيّة، التي كان بإمكان الدّين، وبشكل أوسع، [كان بإمكان] الاهتمام بالمقدَّس وبالرّوحانيّة، أنْ يُواجهوا بها الانتشار، غير المحدود، للأنانيّة الفرديّة.

3 ـ إضافةً إلى ذلك، هل السّؤالُ الأوّلُ، الذي يفرض نفسه، يتعلّق بالتّأويل: هل يجب أن نَفهم من هذه الأشكال المختلفة من تخطّي (dépassement) الحداثة، دلائلَ إرادة واعية، بتفاوت، للتّراجع عن تلك التجاوزات (débordements)، والتخلّي، برمْي الرضيع مع [ماء] الغُسالة، عن السّرديّة (récit) العظيمة للتحرّر/التّحرير، بسبب علاقتها الحتميّة مع أسوأ الانحرافات التي عرفتها البشريّة؟ في الخلاصة: هل العودةُ إلى الأشكال ما قبل الحديثة (post-modernes) يمكن أنْ تكون هي الهدفَ: التنمية السلبيّة (décroissance) والقضاء على العولمة (démondialisation) وإزالة التّسليع (démarchandisation) بل حتى القضاء على هيمنة المال (démonétarisation) في دائرة الإنتاج وتحفيز الاستكفاء الاقتصادي (autarcie économique)، وإعادة تنشيط الجماعات «الحمِيمِيّة» (communités chaudes) العائلية والمحلّية، و«إعادة السّحر» (ré-enchantement) إلى العالم (بمعنى إعادة الدين والروحانية). إلخ...

إنّ «الأزمنة المعاصرة» يمكن أن تبدوَ إذاً، في الخاتمة، كنوع من البرزخ العابر، المُحاط بحِقب «ما قبل حديثة» (لكنْ أيضاً ما قبل صناعيّة، ما قبل سياسيّة، إلخ...) وحقب «مابعدحديثة»، يمكن أن تتقاسم، في العمق، الحكمة نفسها القائمة على، استشرافًا بالنسبة للأولى، وتعلُّمًا من خلال التجربة بالنسبة للثانية، أنْ تتقاسم الحكمةَ القائمةَ على الإعراض عن الأطماع البروميثّية (أنْ نكون أسياد الطبيعة ومالكيها) المميّزة لحقبتنا «الحديثة»، والتخلّي بالتالي عن آثارها القاتلة على الوضع البشريّ. أو هل يجب أنْ نَفهم هذا التخطّي «dépassement» في معنى أكثر هيغلية (Aufhebung)؛ أيْ أنْ نَفهمه بوصفه امتدادًا لسيرورة الحداثة، امتدادا ينبغي أن يُستعاد على نمطٍ آخرَ، تأمّليٍّ أكثرَ، ومحترسٍ أكثرَ من الانحرافات المحتملة، بحيث لا يُؤدّي إلى التخلّي عن مشروع التحرّر/التحرير (émancipation) بل، خلاف ذلك، يسوقه إلى منتهاه بالنّظر إلى أن «الآثار الضارّة» قد نُسِبت، إذًا، في الواقع، إلى الطابع غير المكتمل لهذا المشروع؟ الحداثة بوصفها «مشروعًا غيرَ تامٍّ» (projet inachevé) كما عبّر هابرماس.

4 ـ إذاً، لمّا نقارن بين عبارة «مابعدحديث» وتسميات أخرى قريبة منها (الحداثة المتأخّرة، الحداثة الثانية، الحداثة التأمّلية (reflexive)، فإنّ الفرضية التالية يمكن تبنّيها: في المرحلة الأولى، تُرجِمت تنمية القيم الخاصّة بالحداثة (الحرّيّة (autonomie)، العقل، المساواة، إلخ...) عبر إحداث أجهزة ومؤسّسات ومعايير، قد استعارت الكثير من ملامحها من العالم ما قبل الحديث، أي التقليديّ السابق. لم يحدث إلّا لاحقًا (الحداثة الثانية)، أنْ صار المطلوب من تلك الترجمة نفسها أن تتحدّث (تتحدْثنse / moderniser) جِدِّيًّا، وذلك بأنْ تنزع عن نفسها، نهائيًّا، ذلك الغطاءَ القديمَ الذي رافقها في مرحلتها الأولى[2]. كما سوف نرى، فإنّ هنا يَكمُن جوهرُ أطروحة أولئك الذين، لمّا يستحضرون «اللائيكية المسيحية» (catho-laïcité) (مصطلح نحته جان بوبيرو Jean BAUBEROT)، فإنّهم َيرَوْن أنّ النشأة التاريخية للائكية، على النمط الفرنسي، هي ردٌّ على هيمنةٍ إكليركيةٍ ودينيّةٍ، وازنة، لا بلْ مُستلِبة، لكنّها، على الرغم من ذلك، تستعير منها الجوهريَّ من تدابيرها وإجراءاتها، بحيث إنّ الجدالات المستعادة، اليوم، في موضوع هذه المسألة يمكن أن تكون، أوّلّا، مؤشِّرًا على ضرورة القيام بخطوة إضافية في اتجاه العلمنة النهائية للمجتمع، لكن خطوة تستلزم، حسب مفارَقة غير منظورة، الاعتراف لبعض الحقائق الدينية بأنّها تنتمي، بحقٍّ، للحيِّز العامِّ.

5 ـ بشكلٍ أعمَّ، تَحكُم هذه الفرضية منظومةَ الاستدلال كلَّها التي أثارها مارسال غوشي (Marcel GAUCHET) في مقال قديم عنوانه (المدرسةُ للمدرسة نفسِها /(l’école à l’école elle-même، والذي يُلخِّص عنوانُه  روحَه. يمكننا أن نقرأ فيه، مثلا، الصياغات التالية:

[...] نحن نكتشف أنّ المدرسة (...) قد سارت طيلة قرون عديدة، في جانبها الواعي، على نماذج مثالية متخلفة جداً بالنسبة للمسلَّمات الكامنة المحدِّدة لوجودها. لقد تكوّنت ودامت، متابِعةً نظامَ معايير قديمةٍ داخل مفاصلها الأساسية الأجدّ. ما حدث خلال الثلاثين سنة الأخيرة تَمثّل، من وجهة النظر هذه، في إعادةٍ نظرٍ في هذا الجانب الماضَوِيِّ من المؤسسة [المدرسة]... إنّ المطلوب، في الواقع، من المدرسة، في أعمق العمق، هو أن تدرك، في محتواها وفي مناهج فعلها، العللَ والمسوّغات التي تَحكُم وجودَها – أي أن تَشيد عملَها الظاهرَ الصريحَ على أساسِها الكامنِ المُضْمَرِ». (GAUHET, 1985b, p. 79)

6 ـ إنّ الفتنة الراهنة حول مسألة اللّائيكية في المدرسة، بل وأبعدَ من المدرسة أيضا، في الحياة اليومية لمواطنينا، لا يمكن، إذًا، إلّا أن تكون أَمارةً على الصعوبات الحتمية التي تواجه مسيرة التاريخ لمّا تُشرِف على لحظة فارقة نَعبُر فيها نحو مرحلة جديدة، باتجاه التحرّر الجماعيّ.

7 ـ من خلال انخراطنا، بتروٍّ، في منظور هذه الفرضية الثانية[3]، فإنّنا سوف نجتهد، في مرحلة أولى، في إبراز أصالة (فرادة / (originalité مفهوم «مجتمع مابعدعلماني»، عبر إثارة، بالخصوص، مسألة تمفصل (articulation) هذا المفهوم مع النظريات التقليديّة للعلمنة (sécularisation). هل تُختزل [ما بعد العلمانية]، بناءً على الأهمية التي توليها لمسألة حضور الدين في الحيّز العام، في الإثبات، المذعور غالبا، لـ «عودةٍ للدّينيّ» مُتصوَّرةٍ وفق مثال عودة المطرود.

وبالتالي هل تشير [ما بعد العلمانية] إلى ارتدادٍ عظيمٍ عن مشروعٍ حديثٍ هدفُه إرساء السلام (pacification) في العلاقات الاجتماعية، إرساءٌ يتمُّ تحقيقه من خلال عمليّتَيْ تحجيمٍ (تنسيب/ (relativisation وتخصيصٍ (privatisation) للانتماءات الدينية المتعددة، وبشكل أعمّ، للانتماءات الثقافية التي يمكن للأفراد أن يستندوا إليها؟ أو هل يتعلق الأمر، خلاف ذلك، وحول مثالِ ما بعد حداثةٍ (post-modernité) مُتصوَّرٍ كـ حداثة فائقة (hyper-modernité) (أو حداثة ثانية)، هل يتعلق الأمر، هنا، بتعميقٍ لسيرورة العلمنة نفسِها، لكنْ، هو تعميق يستلزم رفع الطرد اللائكوي (ostracisme laïciste) الذي كانت المعتقدات الدينيّة ضحية له في البداية؟

وسوف نتطرّق، في مرحلة ثانية، إلى مسألة تطبيق مبدأ اللائيكية (laïcité) في مثل هذا السياق مابعد العلماني. ماذا عن هذا التطبيق ما دامت ليْأَكة المجتمع (laïcisation de la société)، على الأقلّ، في المعنى الذي اتخذه هذا المشروع في إطار الإيديولوجيا الفرنسية، لم يعد أبدا يبدو بوصفه العلة النهائيّة للحداثة (le telos de la modernité)؟ بل أيضا، ألا يمكن للافتتان (engouement) الذي يبدو أنّ وصفَ المجتمعات المعاصرة بـ «مابعدعلمانية» يثيرُه، ألا يمكن لهذا الافتتان أن يغذّيَ شيئا من التواطؤ (connivence) الخطير عبر التغاضي عن الانحرافات الصادرة عن التجمعات الحالية، خاصة لمّا تكون منطلِقة من إلهامٍ وإرشادٍ دينيّيْن، وذلك لمّا تُؤمَّنُ لها، نوعًا ما، شرعيّةٌ فكريّةٌ؟ وهكذا، يمكننا أن نتساءل حول التعديلات التي لا بد لتبنّي هذه المقاربة مابعد العلمانية من أنْ يَحْمِل على القيام بها في مجال التربية  مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ اللائيكية قد وقع فَرْضُها، في التقليد الجمهوري بالذّات، بوصفها إحدى قيم التريبة المؤسِّسة. هل يحمل المنظور المابعدعلماني، معه، إعادةَ نظرٍ جذريةً في هذا التقليد.

(2). ما المقصود بمجتمع مابعدعلمانيّ؟

8 ـ هنا، سوف يكون الفيلسوفُ الألمانيُّ، يورغن هابرماس (Jürgen HABERMAS)، مرجعَنا الأساسيَّ، لأنّه هو الذي أقحم هذا المصطلح «المجتمع مابعد العلماني» في دائرتَيْ الجدل: الفلسفيّ والعامّ[4]. في مقالته في مجلة «الجدل» (Le Débat)، بدأ بالتذكير بتلك الحقيقة البديهية التي لا يمكن أنْ تكون إلّا مجردَ تحصيلٍ للحاصل إذا لم نُضِف إليها إيضاحًا فاصلا: «إنّ المجتمع مابعد العلمانيّ يجب أن يكون مجتمعًا علمانيًّا». لكن مع الإشارة، في الحال، إلى أنّ مجتمعا مابعد علمانيٍّ هو مجتمع مستمرٌّ في الانقياد لسيرورة العلمنة، لكنْ، سيرورة قد بلغت مستوًى متقدّمًا كفايةً بما يسمح بانفتاح آفاق غير مسبوقة في الحيّز العامّ، آفاق تتعلق بمكانة الدينيّ والأديان في هذا الحيّز. وذلك لأنّ الفرضيّات الثلاثة التي يقوم عليها التصوّر الكلاسيكي للعلمنة (وهي: أولا- التقدم التقنيّ-العلميّ يُيسّر فهمًا مركزيًّا-بشريّا  (anthropocentrique) لواقعٍ مُزالٍ عنه السّحر (désenchanté)، لأنّه، بكامله، خاضع للتفسير على أساس نظام العِلّيّة. ثانيا- سلطان الكنائس يتراجع بناءً على تخصيص (خصخصة (privatization / الاعتقاد الدينيّ. ثالثا- التقدم الاقتصادي والاجتماعي هو حاملٌ لوعد الرفاهية، الذي يضعف الحاجة لطلب المدد من «ماوراءٍ» مُسَلٍّ) وذلك لأنّ هذه الفرضيات الثلاث هي اليوم موردُ إعادة نظر، كما أنّ الاعتقاد اللّائكويّ (laïciste)، بالزوال المبرمَج للدين، قد تزعزع بالنظر إلى الحيويّة المتنامية التي تعرفها بعض الحركات الدينية، وبالذات تلك التي تحرّكها رؤية كونويّة(visée universaliste)، في مختلف بقاع العالم.

9 ـ بالتأكيد، إنّ سيرورةَ العلمنة قائمةٌ، دائماً فعلاً، في مجتمع مابعدعلمانيٍّ إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن المجتمعَ مابعد العلمانيَّ يظل مجتمعَ «الخروج من الدين»، طبقا لعبارة مارسال غوشي (Marcel GAUCHET). لكنّ هذا «الخروج من الدِّين»، الذي هو الاسم الآخر للعلمنة، يعني، بدْءًا، جعْل القرار السياسي (الدولة) مستقلّا إزاء المعيار الدينيّ، الذي تجسّده الكنيسة، بحيثُ تتماهى هذه الحركة تماما مع الدّقْرطة (إرساء الديموقراطية / (democratization المفهومة كتقرير ذاتيّ للمصير (autodétermination). إنّ هذا «الفصل» (séparation)، وخلاف تصويرٍ متصلِّبٍ لكنْ خاطئٍ، لا يعني التقسيمَ بين الحياة الشخصية والحياة العامّة، إلّا إذا اعتقد بعضهم أنّ هذه الأخيرة (السياسة) تُختزَل في نطاق الدّولة. إنّ الدولة، لكونها هيئةَ القرار السياسي، ولكي تستحقّ عن جدارة وصف «ديموقراطية»، من المفترض منها أنْ تضمن أنْ تكون صياغةُ هذا القرار نتيجةً لجدلٍ عامٍّ، يستطيع كلُّ مواطن أن يُدلِيَ فيه برأيه بحرّيّة، ضمن احترام بعض القواعد التي تَحكُم شكلَ لا مضمونَ الحججِ التي يمكن أن تُثار في إطار النقاش العامّ. وذلك بحيثُ إنّ الاعتقادات الدينية، وإن لم تستطع، بما هي كذلك، أن تكون حاسمةً في الاختيارات السياسية في مجتمعٍ يدّعي أنّه ديموقراطيٌّ، لكنّها، مع ذلك، تبقى مقبولةً في النقاش الجماعي الذي سوف يحضِّر لصياغة تلك الاختيارات بحيثُ تتمكّن، لاحقًا، من التعبير [عن آرائها] في قالب لغة دنيوية (profane). نقول ذلك بعبارات أخرى: إنّ العلمنة تعني التخفيف المتصاعد تدريجيًّا من التأثير المباشر للدِّين على التوجّهات وعلى الاختيارات السياسية للمجتمع، أكثر ممّا تعني اجتثاثَ الدِّين. لكنّ تأثيرَ الدِّين يبقى مُحتمَلًا، بل ومَرْجُوًّا، إذا ما تحقّق بشكل غير مباشر أو بوساطة. ما دامت الاعتقادات الدينية، التي تقف وراء بعض التدّخلات أو بعض المواقف المتّخذة في الجدل العامّ، تتوفّق في التعبير عن نفسها عبر استدلالٍ مقبولٍ على المستوى العامّ، فإنّها تتمتّع بحقوق المواطنيّة تماما كما هي الحال مع الاعتقادات الغنوصيّة (اللّاأَدريّة) والملحدة.

10 ـ صحيح أنّ تلك الإرادة لتحديد تأثير الدّين (وتأثير الكنيسة) كانت قد اِتَّخذت، في مرحلة أولى، دورًا نِزاعيًّا، لا أَدْريًّا. حصل ذلك، بالذات، في فرنسا، حيثُ، ولأسباب تاريخيّة، أنتجت سيرورةُ العلمنةِ اللّائكويّةَ (laïcisme)، أيْ تلك المنافحةُ (الدّفاع التبريريّ / (apologie عن اللّائيكيّة (laïcité) التي عُرضت في شكل دينٍ مضادٍّ (contre-religion) لكن، ومن هنا بالذّات، تأسّست ديناً بديلاً (مدارس تكوين المعلمين (écoles normales)، هذه الصروح لتكوين معلِّمي الجمهورية، المتصوَّرة كمدارس إكليريكية (séminaires) لائكية، والمعلِّمُ متصوّرٌ بوصفه النِدَّ المنافسَ المحاكي للكاهن...). لكنْ، حيثُ إنّ السلطاتِ الدينيةَ قد عبّرت عن ولائها وإخلاصها لقواعد دولة القانون الديموقراطية (فصل الكنائس عن الدولة والحيادية الدينية لهذه الأخيرة، الاعتراف ببعض الحقوق الفردية الأساسية مثل حرية الفكر، والاستعمال العامّ للعقل بوصفة الأساس للمعيارية الاجتماعية والسياسية والقانونية)، فإنّ مشاركتها في الجدل العامّ قد تمكنت من كسب الاعتراف بشرعيتها. إنّ التعدُّدَ الدينيَّ الذي طرأ في المجتمعات المعاصرة كان (ينبغي أن يكون)، هو نفسُه، عاملاً غير قابل للإغفال في عملية إرساء السلام (pacification) هذه[5].

11 ـ وبالتالي، فإنّ المجتمع مابعد العلماني يتميّز بمُقتضَيَيْن: هو يتطلّب من الأديان نوعا من التحديث (modernisation) الذي يمرّ عبر:

 أ- أنْ تضع ما تعتبره حقيقتَها في سياقه الصحيح، وعبر:

 ب- تبنّي نظرة نقدية ذاتية لتاريخها الخاصّ.

 إنّ ههنا شرطًا لمشاركتها في حيّزٍ عامٍّ ديموقراطيٍّ. لأنّ:

«الدولة الدستورية يجب ألّا تتحرك، فقط، بطريقة محايدة في ما يتعلق برؤي العالَم (visions du monde)، بل يجب عليها، أيضا، أن ترتكز على الأسس المعيارية التي يمكن تعليلها بعِللٍ هي أيضا محايدة في ما يتعلق برؤي العالَم» (HABERMAS, 2008a, p. 149).

12 ـ لكن، في الوقت نفسه، لا يمكنها [الدولة الدستورية] أن تتطلّب من مواطنيها المتدينين ما يمكن أن يكون غير قابل للتوفيق مع وجودٍ مَعيش، شرعيًّا، ‘في الإيمان’ (ibid., p. 149).

13 ـ لأنّها [الدولة الدستورية]، إذا كانت تُؤمِّن لمواطنيها، بالتساوي، حرية الممارسة الدينية، فهي لا تفعل ذلك حفاظا على الهدوء الاجتماعي فحسب، بل كذلك لسببٍ «معياريّ»: يجب عليها أن تحميَ حرية الإيمان (liberté de foi) وحرية المعتقد (liberté de conscience) لكل مواطن.

بحيثُ إنّ مجتمعا مابعدعلمانيٍّ يقتضي، بالمقابل، أن ينفتح العقلُ اللّائكيُّ، العلمانيُّ، على العقل الدينيّ، وذلك بالتخلّي عن الرأي المُسبَّق الطبيعوِيّ والعِلمَويّ (préjugé naturaliste et scientiste) الذي يعتبر أنّ «الاعتقادات الدينية هي، في ذاتها (per se)، غير صحيحة، ووهميّة وفاقدة للمعنى» (ibid., p. 56-57).

14 ـ لأنّه، في هذا المنظور الأخير، الذي هو منظور التعارض بين العقل والدين، سِمة العصر الحديث بامتياز، يُنظَر إلى أشكال الاعتقاد الديني بوصفها تقاليد قديمة (archaïsmes) وتُفهَم الحرية الدينية، أقلَّ من كونها حقًّا أساسيًّا، على أنّها

«إجراءٌ للحماية الثقافية لصالح نوعٍ آيلٍ للانقراض» (ibid., p. 199).

15 ـ إنّ العقلَ العلمانيَّ، بالنسبة لـ يورغن هابرماس، يمكنه، مع بقائه غنّوصيًّا (لا أَدْريًّا)، ومن غير أن يتبرّأ من قناعاته، أنْ يُصْغيَ إلى الاعتقادات الدينية وأن يعترف لها بقيمةٍ إدراكيّةٍ وأخلاقيّةٍ، كونيّةٍ، وملائمة (portée cognitive et morale, universelle, pertinente)، من وجهة نظر المسائل التي يثيرها معاصِرونا. بهذا المعنى فإنّ

«وظيفة العَلمانيّة هي كونها محوِّلًا (tranformateur) يعدّل التيّار الآتي من التقليد، أكثرَ من كونها مصفاةً يمكن أن تَحُول دون مرور المضامين التقليدية (ibid., p. 145)[6].

16 ـ لقد سبق أنْ تمكّن العقلُ الحديثُ، مع ذلك، من أنْ يُترجِم، إلى لغة لائكية يفهمها الجميعُ، بعضَ العناصر الأخلاقيّة للتقليد الدينيّ (على سبيل المثال، إعادة صياغة (re-formulation) البِرّ (الإحسان / (charité في معاني التضامن الاجتماعي). تيسّر لنا أن نرى، أيضا، في الماركسية وفي اليوتوبيا الشيوعيّة، استعادةً للرسالة الإنجيليّة، على أصولٍ مختلفةٍ تمامًا. وبعض الكُتّاب ممّن كان، في القرن العشرين، يستند إلى هذه اليوتوبيا، استطاع أن يروّج موضوعاتٍ مستعارةً من التقليد الديني وذلك بعد ليْأكتها (laïcisation): مثالٌ أوّلُ، والتر بنجامين (Walter BENJAMIN) أعاد صياغة منظور «يوم الحساب» (jugement dernier) في مشروعِ تاريخٍ مكتوبٍ «من وجهة نظر المهزومين» (du point de vue des vaincus) [7]؛ مثالٌ ثانٍ، أرنست بلوخ (Ernest BLOCH) الذي ارتبط من جديد مع «مبدأ الرّجاء» (principe espérance).

17 ـ ببساطة، «سوف يقع حصرُ معنى [...] ‘إدراكيّ’ (cognitif) في جميع المضامين الدلالية التي يمكن ترجمتها في خطاب يمكن في ثناياه رفع ‘مفعول التّوقّف’ (effet d’arrêt) الذي يرتبط بالحقائق الوحيانيّة (vérités révélées) (ibid., p.158).

18 ـ لكنْ، يُمكن للأديان، اليوم، وبشكلٍ أكبرَ أيضًا، - وهذا جانبٌ مهم آخرُ من استدلال يورغن هابرماس – يمكن للأديان، وخاصة السماويّة منها، كما يمكن لتقاليدها التّأويلية العريقة أنْ تكشف عن أنّها مصادرُ للمعنى قيّمةٌ في عالَمٍ هو، كعالَمنا، مصابٌ بأمراضٍ اجتماعيّة عميقة (خطيرة). لأنّ الإيديولوجيا المهيمِنةَ (التي هي خليط من العِلمويّة (scientisme) ومن الاقتصادويّة (économisme) ومن التَّقنويّة (technicisme))، وبعيدا عن أن توفِّر سنداً لمحاربة تلك الأمراض، بل حتّى ببساطة، عن أنْ توفّر عناصر مواساة وسلوى تجعلها قابلة للتحمّل، هي، بالأحرى، تُضاعفها عبر ترْك الجميع، بدْءًا بالأضعف والأشدّ محروميّةً من الناس، وحيدين في مواجهتها. لقد فتح العلمُ بالذات، الذي هو إيديولوجيا الأزمنة الحديثة، آفاقًا تقنيّةً (التحكّم في الطاقة، التكنولوجيات الحيويّة...) أثارت مشكلات أخلاقيةً غير مسبوقة (العلاقة بالموارد الطبيعيّة، صناعة الحيّ (fabrication du vivant)، إلخ.) يجد هذا العلمُ نفسَه عاجزًا على حلّها. وفي عالَمٍ يتميّز، علاوة على ذلك، بنضوب كلِّ حركة ثوريّة، مسيحيّة (messianique) أو يوتوبيّة، عالَمٍ مُؤسَّسٍ على فلسفة للتّاريخ (وللتقدّم) متبنّاةٍ بشكل واسعٍ، في هذا العالَم من الطبيعيِّ، بنحوٍ ما، أن يظهر الدِّينُ خياراً مقبولاً، مانحَ للمعنى، للكثيرين وفي المقام الأوّل لجميع المستضعفين في الأرض (les damnés de la terre). لأنّ

« [...] العقلَ العمليَّ يخطئ غايَته إذا لم يعُد يملك القدرةَ على أنْ يجعل القلوبَ الدنيويّةَ (cœurs profanes) تَعي أنّ التّضامن مُساءٌ إليه في كل مكان من العالَم، وكذلك إذا لم يعُدْ لهذا العقل القدرةُ على أنْ يوقِظ وعْيًا بما ينقص، وبما يسبّب الزّلل، وعلى أن يتعهّد هذا الوعيَ ويرعاه». (ibid., p. 146).

19ـ  أيضا، يواصل يورغن هابرماس، كلَّ مفكّر تقدّميّ يتبنّى فلسفةَ الأنوار ويتبنّى العقلَ، وكذلك، هو حريصٌ على إعادة تنشيط الحياة الديموقراطية التي هي اليوم ضعيفة ومُنهَكة، ومدفوعٌ بمشروعِ «مواجهة التهديدات التي تُثقل، اليوم، كاهل المضمون المعياريّ للحداثة» (ibid., p. 47)، أيْ مشروع التحرّر الفرديّ والجماعيّ، وبعيدًا عن احتقار الاعتقادات الدينية بحجة أنّها تقاليد قديمة، وبعيدًا عن السعي لمنع ولوجها إلى الحيّز العامّ بحجة انحرافها الأصوليّ، ينبغي عليه [المفكر التقدّمي]، خلاف ذلك، أن يشجّعها وأنْ ييسِّر لها هذا الولوج، مع الحرص، في الوقت نفسه، على مساعدتها في إعادة صياغة «مخزونها النّقديّ»[8]  في قالب لغة العقل، أيْ في قالب لغةٍ دنيويّة مفهومة ومقبولة من الجميع.

(3). اللّائيكيّة والمجتمع المابعدعَلمانيّ

20 ـ ماذا، إذا، في سياقٍ مابعدعلمانيٍّ كهذا، حول تطبيق مبدأ اللّائيكيّة بوصفها مبدأً قانونياً؟

في جوابه، يؤكّد فيليب فورايْ (Philippe FORAY)، بصفة خاصّة، نقطةً: إنّ اللّائيكية لا تُختزَل في الفصل بين الكنيسة والدولة (وفي قانون سنة 1905). إنّها [اللائيكية] تستلزم، أيضا، إرساء (والانخراط في) مشروعٍ، سياسيٍّ، للعيش المشترَك (vivre ensemble) في «عالَمٍ مشترَك» (monde commun)، بمعنى تَشَارُكِ ثقافةٍ واحدةٍ. هذا ما يسوّغ أنّه يُنظَر إليها [اللّائيكية] بوصفها مبدأً دستورياً (أو «مبدأ عدالة» بالمعنى الذي قدمه جون راولز (John RAWLS)) باعتبار أنّ وظيفتها هي ضمان تعايش الحريات الفردية، وبالخصوص حرية المعتقد (liberté de conscience). لكنّ مفهومَ «العالَم المشترَك» هذا هو، من نواحٍ عديدة، مُعقَّدٌ وإشكاليٌّ، كما يعترف فيليب فورايْ. يتطلّب مضمونُه أنْ يُحدَّد، ولأجل هذا الغرض هو يشتغل للبحث عن مسلكٍ وسَطيٍّ، ضيِّقٍ بالضرورة، ما بين قراءة قانونيّة صارمة (تحرّريّة (متسامحة / (libérale، أو أيضا «سلبيّة») لمبدأ اللّائيكية الذي يتمسّك، في هذا الصدد، بالفصل بين الدولة والكنيسة، أيْ بالمطالبة بالحياد الدينيّ للسلطة السياسية، وبين قراءةٍ أخلاقية-سياسية (éthique-politique) (قراءة الجمهورِيَّوِيّة الجديدة (néo-républicanisme)) الرّاهنة التي تدّعي إعادة الربط مع لائكويّة الأصول (laïcisme des origines) التي تجعل من اللّائيكية عقيدةً فلسفيّةً جوهريّةً (substantielle) حقيقيّةً (نظرية للخير أو «عقيدة متسامحة» (doctrine comprehensive)، لكي نستعيد، مرّة أخرى عبارة جون راولز) منافِسةً، في بُعدها الجامِع (dimension englobante)، لكلّ عقيدة دينيّة. إذا ما كانت هذه المقاربة الثانية تذهب، بشكل جليّ، بعيدًا جدّا باتجاه أخلقة )إضفاء مسحة أخلاقية / (moralisation اللّائيكية وتخاطر، بالتالي، بأنْ تعيد إشعال «حرب الـ فرنسيَيْن» (guerre des deux france) بتقديم نفسها بديلاً للدّين (للأديان)، فإنّ لها الفضْلَ في لفت الانتباه إلى نقطة مهمة: إنّ اللّائكيّة، وبالخصوص في بُعْدها المدرسيّ، لا تُختزَل فقط في الحياد تجاه العقائد الدينية، يقول فيليب فورايْ إنّها «تستلزم أيضا فعلًا إيجابيًّا يمكن وصفُه بمشروعِ تنميةِ حرّيّة التّفكير عند كلّ إنسان»، بحيثُ إنّ المسلكَ الوسطيَّ بين الحياد (اللّائيكيّة السلبيّة /laïcité negative ) واللّائكويّة (اللّائيكيّة الايجابيّة / (laïcité positive، المنظور إليها هنا، يمكن أن تقوم على توازُنٍ، هَشٍّ بالضرورة، بين حرية العقيدة (liberté de conscience) (حرّيّة أن تعتقد أو ألا تعتقد) وبين حرّيّة التّفكير (تربية النفس على «التّفكير الذاتي» (penser par soi-même)) وعلى الروح النقديّة اللتين نادت بهما الفلسفةُ الكانطيّة، وبشكل أوسع، فلسفةُ الأنوار التي ألهمت مشروع الحداثة[9].

21 ـ وهكذا، فإنّ ثقافة السياسة المشتركة، التي تُمثّل الجانب (السفح / (versant الآخر من اللائيكية، الأكثر إيجابية من الجانب القانوني الصارم، سوف تقوم على هذا المقتضَى الثنائي «المتسامح»: من جهة الاعتراف الذي لا يُقهر اليوم، بتعددية التصورات حول الخير، اعتراف يجعل التعايش والتعاون الاجتماعي، بين المؤمنين (الذين، هم أنفسهم، جُموع) وغير المؤمنين، مُمكنًا؛ ومن جهة أخرى، الدفاع عن فكرة الحرية الفردية (autonomie individuelle)، المؤسِّسة للحداثة والتي تسمح لأي فرد أنْ ينفصل، في أي لحظة، عن كل انتماء (دينيّ أو ثقافيّ أو فلسفيّ، إلخ).

22 ـ إنّها، إذًا، «لائكية المقابَلة» (laïcité de confrontation) (أو «اللائيكية التشاورية» (laïcité délibérative)) التي يستند إليها فيليب فورايْ، بإعلانه أنّه يساند الاعتراف بشرعية التدخلات الدينية في الجدل العامّ. بل هو يؤكد، من خلال الرجوع إلى تحاليل مارسيل غوشي، أنّ هذه الشرعية هي مُؤمَّنة اليوم بمقدار ما تواصل العلمنة تقدُّمَها: إذا كانت الكنائس تعود لتكون من جديد بارزة اجتماعيًّا، ومن دون أن يمثّل رجوعُها تهديدًا للائكية الدولة، فذلك، بالتحديد، بسبب أنّنا نعيش مرحلة «الخروج من الدّين».

23 ـ لكنْ هنا، بالتحديد، تبرز المشكلةُ. إلى أيّ شكلٍ من الشرعية يمكن أنْ تسعى تلك التدخلات الدينية في الجدل العامّ، ما دام هاجسُ الحرية الفردية، هذا الجانب «الايجابي» الذي يأتي ليُتمَّ التعريف القانوني الصارم للائكية، يُعتبر هو نفسُه جزْءًا لا يتجزّأ من رؤيةٍ للعالَم («نظريةٌ للخير» أو «عقيدة متسامحة») تتعارض مع رؤية دينية نظرًا إلى أنّ الأخيرة تجعل من الانتماء إلى تجمّع المؤمنين القيمةَ العليا، فتُطالب، بالتالي، بتحجيم (تنسيب / (relativisation هذه الحرية؟ وبعبارات أخرى: كيف يمكن تنظيم العيش المشترك بين المؤمنين وغير المؤمنين عبر جعلهم يتشاركون الثقافةَ السياسيةَ نفسَها، ذات الجوهر الليبرالي، إذا كان الأوّلون يُضفون على عقيدتهم دورًا مُبنْيِنًا (structurant) لوجودهم برمّته، بما يشمل أبعادَه السياسية، وبالتالي، عبر رفض ما يمثّل جوهر الفلسفة الليبرالية؟ أو أيضا، ومع خطر التشويه (au risque de la caricature): إلى أيّ حدٍّ تملك دولةٌ ديموقراطيّةٌ الحقَّ في إجبار بعض المؤمنين أن يعيشوا نوعًا من حياة الفُصام
(vie schizophrénique) من خلال إجبارهم على الفصل بين ما هما، بالنسبة إليهم، غيرُ قابلَيْن للفصل؛ أي الفصل بين حياتهم الشخصية وحياتهم السياسية؟ إنّ الاعتقادَ بأنّ الدين هو مسألةٌ شخصية تمامًا، والذي يجب أن يُبقَى عليه في الحدود الضيّقة لوعيٍ فرديٍّ له الأمر والنهي على المعتقدات الخاصة والتوجهات الروحية، إنّ هذا الاعتقاد نفسَه هو نتيجة لخبرة تاريخية طويلة لم تُؤثّر إلّا في بعض المجتمعات، وبالذات تلك المجتمعات التي واجهت المآسي التي سبّبتها «الحروب الدينية»؛ بحيثُ إنّ مثل ذلك الاعتقاد يقوم دائماً، بشكل متفاوت في الصراحة، على المُسلَّمَة القائلة بأنّ المعتقدات الدينية هي عواملُ شقاقٍ وأنّ منْحَها «دعاية» كبيرة جدا سوف تُعرِّض للخطر، بالضرورة، أواصرَ التضامن الاجتماعي التي يجب أن تُوحّد أعضاء التجمّع السياسي نفسه. لكن، ما العمل إزاءَ اعتقادات دينية لا تقنع بأنْ تكون «مُتسامَحًا معها» (tolérées) فحسبُ، كما يُتسامح مع بعض الانحرافات، ومع بعض حالات الابتعاد عن المعيار (المعيار هنا هو الحرية الفردية)، ما دامت تظل سِرِّيّةً بل خفِيّةً ولا تُعيد النظر في التوافق المعياري الذي يَحْكُمُ العيشَ المشترَكَ لأنّه،

«حتى يَسلم مبدأُ التسامح من شبهة أنّه يعيّن حدودَ التسامح ضمن وجهة نظر قمعيّة، فإنّ تحديد ما يمكن أن يُتسامح معه، بَعْدُ، وما لا يمكن، يقتضي إثباتاتٍ تكتسب، لدى جميع الأطراف، وضوحَ اليقين وكذلك المقبوليّةَ» (HABERMAS, 2008a, p. 178).

24 ـ يجب، بالتّالي، على الدولة الليبرالية أن تستجيب لضغطين يمكن أن يبدُوَا متضادّيْن:

- من جهة، أن تُؤسّس قراراتِها على مِلاكات عَلمانية تماما أو دنيوية (profanes) مقبولة لدى وعيٍ حُرٍّ ومالكٍ بإرادته لاختياراته الخاصة؛

- ومن جهة ثانية، ألّا تطلب المستحيل من بعض مواطنيها بمطالبتهم بترويض عقيدةٍ يَرَوْن هم أنّها هي التي تملكهم.

يجيب هابرماس على هذه المشكلة بـ «نظرية التّعلُّم» (théorie de l’apprentissage) التي تضع الحل في أفقٍ زمنيّ وتاريخيّ. إنّه، في الواقع، تعلُّمٌ مزدوج، يعني كِلا الطرفين، المؤمنين وغير المؤمنين.

25 ـ من جهةٍ، حتى وإنْ استمرّ وجودُ «نواةٍ لليقينات الوجودية» التي ما زالت تتمتّع بوضع «حصانة» (extraterritorialité)  إزاءَ النقاش العامّ، الذي يجب على الدولة أن تحترمه، لا يَسعُنا إلّا أنْ نلاحظ أنّ«يقينات العقيدة (الإيمانfoi / ) في الهندسة المميَّزة (architecture différenciée) للمجتمعات الحديثة هي، في الواقع، معرَّضة للضغط المتنامي للتفكير» (ibid., p.188).

26 ـ بحيثُ إنّه، إذا كان

«لا يحقُّ للدولة الليبرالية أنْ تجعل من الأنظمة [القانونية]، التي تفرض الفصل الدستوريّ بين الدين والسياسة، إصْرًا عقليًّا ونفسانيًّا (fardeau metal et psychologique metal et psychologiqueيّ بين الدين والسياسةية») غيرَ قابل للتحمّل من قِبل مواطنيها الذين يعتنقون دينًا» (ibid., p. 188)،

يجب عليها [الدولة الليبرالية]، بالمقابل،

«أنْ تَأْمَل منهم أنْ يعترفوا بمبدأ حياد السلطة بالنسبة إلى رؤى العالَم (ibid., p. 188).

27 ـ إنّ هذا الاعتراف يمرّ عبر تبنّي المؤمنين ما يسمّيه يورغن هابرماس «بند (شرط) الترجمة الدستوري»   (clause institutionnelle de traduction)الذي ينصّ علي ضرورة إعادة صياغة حججٍ وبراهينَ، دينيّةٍ بالأصل، في عبارات علمانية. يجب عليهم، إذًا، أن يستجيبوا لـ «واجب الأدب المدنيّ» (devoir de civilité) بمعنى أنّ المواطنين في مجتمع ديموقراطيّ في أعناقهم بعضهم تجاه بعض واجبٌ متبادَلٌ بتقديم حججٍ مفهومةٍ من الجميع في ما يتعلق بالمواقف السياسية التي يتخذونها.

28 ـ لكن هذه المبادَلة (réciprocité) تعني أنّ «واجب الأدب المدنيّ» مُلزِمٌ، أيضًا، لغير المؤمنين لأنّ الدواعي الوظيفية تمنع، كذلك، أن يُختزَل، بسرعة كبيرة، التعقيدُ المتعدّدُ الأصوات، في التناغم العامّ»:

«لا يحقُّ لـ [الدولة الليبرالية] أنْ تثبّط من همِّة المؤمنين والتجمّعات الدينية في التعبير [عن الآراء] سياسيًّا بما هم كذلك، لأنّها لا يمكنها أنْ تعرف أنّها إذا تصرّفت على هذا النحو لا تَحرم المجتمعَ العَلمانيَّ من مواردَ مهمة لتأسيس المعنى. يستطيع المواطنون اللّائكيّون وأولئك الذين ينتمون إلى أديان أخرى، في بعض الظروف، أنْ يتعلّموا شيئًا ما من الإسهامات الدينية، ولو عبر الاعتراف، مثلا، بأنّه يوجد في مضامين الحقائق المعياريّة لنصٍّ [منطوقٍ] دينيٍّ بعضٌ من بدهاتهم المدفونة»., p. 190) (ibid.

29 ـ لكنّ «واجب الأدب المدنيّ»، هذا، مُلزِمُ أيضًا (وبالخصوص؟) للّائكيّين لأسبابٍ خاصةٍ بهم، لأنّها أسبابٌ ترتبط بتاريخ العقلِ العَلماني نفسِه، والتي تذهب إلى أبعدَ من واجب «الاحترام» المطلوب مراعاته تجاه الاعتقادات الغريبة عنّا. تظهر تلك الأسباب في التّوصية التالية:

«[...] يجب على الحداثة أنْ تقهر عبر التفكير الذاتي (autoreflexion) الفهم المحدود الذي تثيره من ذاتها لائكوية (laïcisme) متصلّبة وإقصائيّة» (ibid., p. 199).

30 ـ بعبارات أخرى، يجب على اللّائكيّين، من جهتهم، أنْ يتعلّموا (apprendre) التخلي عن فكرة أنّ التصوّرات الدينيّة ليس أمامها إلّا أنْ تختفي، عاجلًا أم آجلًا، بالتناسب مع التقدم الذي تستمرّ في تحقيقه المعرفةُ العلميةُ. يجب أن يتعلّموا الاعتراف بأنّ مخالفتهم (نفورهم من / (non-adhésion للتّصوّرات الدينيّة هو منشأ شقاقٍ (dissensus) «من الحكمة الحسم معه (إنهاؤه)». وبالنظر، أوّلًا، إلى أنّ «إيمانهم» بالعلم هو الذي يبدو أنّه منشأ هذه «اللّائكويّة المتصلّبة والإقصائيّة»، هذا التعلّم سوف يقوده السؤال التالي:

«هل العلمُ الحديثُ هو ممارسة لا يمكن فهمها بالكامل إلّا انطلاقا منها هي نفسها، وهل هي التي تضع بإتقان (performativement) المعيار لكل ما هو صحيح أو خاطئ، أو هل يجب، بالأحرى، فهم العلم الحديث بوصفه نتيجةً لتاريخٍ للعقل يشمل، على السّواء معه، الأديانَ العالمية؟ (ibid., p. 210).

المطلوبُ، إذًا، تعلُّمٌ مضاعَفٌ، حتّى وإنْ كان من المحتمل ألّا يسمح بتقاربٍ في وجهات النظر، بلْهَ بإنجازِ توافقٍ، لأنّ:

«إنّ النزاعاتِ، التي تهدّد بالانفجار، لم تعُد تتعلّق بالمنافع المادّيّة، التي هي موردُ توافق، بل بمنافع روحيّة تتنافس الواحدة منها مع الأخريات. إنّ النزاعات الوجوديّة الخِلاقيّة (axiologiques) بين تجمّعات العقيدة (الإيمان) لا تقبل أيَّ تسوية» (ibid., p. 195).

32 ـ إلّا أنّه سيكون تعلُّمًا مُضاعَفًا ذا فضائلَ تحضيريّةٍ (vertus civilisatrices) بالنظر إلى أنّه سيجعل من الحوار ومن النّقاش الهدفَ والوسيلةَ في آنٍ. من وجهة النظر هذه، لا ينحصر تفكير هابرماس في المنظور الإجرائي البحت الذي يختزله فيه البعضُ غالبًا، وهو نفسُه واعٍ تماماً بحدود هذا المنظور:

«[...] ليس من السهولة، من وجهة نظر التحفيزات، أنْ يتمكّن كيانٌ سياسيٌّ يجمع العديد من رؤى العالَم (visions du monde) مِن أنْ يترسّخ، معياريًّا، بناءً على مجرد شبهة مفادُها أنّ، وراء مجرد تسوية وقتيّة (modus vivendi)، يمكن أن يتحقق، في الخلفيّة (arrière-plan)، اتفاقٌ لا يستند سوى على إجراءات ومبادئ، والتالي اتفاقٌ شكليٌّ محضٌ.

33 ـ لأجل ذلك، وإذا ما شاركتُ «التّحفّظ» الذي أبداه فيليب فورايْ في أواخر إجابته، بخصوص

«الشكلانيّة (formalisme) التي تبدو (له) متورّطة في حرْف (déplacement) للأمور عن مسارها، قاد من استقطابٍ (polarisation) حول موضوع النقاش والسعي نحو اتفاق حول ذلك الموضوع، إلى استقطابٍ حول ممارسة النقاش نفسها»،

 أقول: لأجل ذلك يجب أنْ أضيف أنّ هذا، على وجه الدقّة، ليس هو المنظورَ الذي أتبنّاه، ولا هو المنظور المفضَّل لدى يورغن هابرماس نفسِه؛ وإذا كان صحيحا أن النقاش يصبح، إذًا، هو نفسُه «منفعة» (bien) وراء «المنافع» التي هي موضوع النقاش، فذلك بمعنى أنّ النقاش، بعيدًا عن أنْ يمثّل إلهاءً (diversion) يمكن أنْ يحجب ما قد يكون للنزاعات بين وجهات النظر غير القابلة، قطعيًّا، للتوافق من [أثر] «مأسويّ» (tragique)، يسمح (النقاش)، خلاف ذلك، بتعلّم العيش (المشترَك) مع ذلك [الأثر] المأسوي بالنظر إلى أنّه يصبح، بامتياز، المحلّ الذي يحصل فيه ذلك الاعتراف (المتبادَل) بالآخر، في اختلافه. وبالذّات لأنّه محلُّ مثلِ هذا التّعليم (المتزامن) يمكنه (النقاش) أن يكون في قلب المشروع الأخلاقيّ (projet éthique).

34 ـ لأجل ذلك لا توجد، حسب ما أرى، قطيعة حقيقيّة بين منظورَيْ يورغن هابرماس (على الأقلّ في آخر نصوصه) وآكسال هونّاث (Axel HONNETH). إذا ما صحّ، كما استلفت فيليب فورايْ راجعًا إلى الأخير، أنّه من المناسب إيلاء اهتمام خاص جدا بـ «تجربة الاحتقار» (experience du mépris)، حيثُ إنّها، مفهومةً كـ «رفض للاعتراف»، منشأٌ لإحساسٍ بالمظلوميّة لن تنفع عروض الحلول المادّيّة لتسكينه، أقول: إذا ما صحّ ذلك، يبدو لي أنّ الإقصاء من النقاش العامّ بذريعة اعتقادات دينيّة «تفاخريّة» (ostentatoires) جدًّا تمثّل الشكل الأوّليّ والنموذجي-الإرشاديّ (paradigmatique) لتلك التجربة (تجربة الاحتقار)[10]. لأنّ

«السيرورة الديموقراطيّة تَدين بقوّة إقناعها المانحة للشرعية (légitimante) لحقيقة أنّها تُدمج الأشخاص المعنيّين كلهم، لكنّها تَدين بذلك، خاصّة، لطابعها التّشاوري (délibératif)، لأنّه على هذه الأساس يمكن، بحقٍّ، أنْ نفترض الحصول على نتائج عقلانيّة على الأمد الطويل» (HABERMAS, 2008a, p. 193).

(4). الخاتمة:

في الواقع، إنّ الطّريقَ ضيّقةٌ، ومليئة بالعقبات، ما بين التخلّي، بلا قيد ولا شرط، عن كلّ مشروعٍ سياسيٍّ للتحرّر قائمٍ على العقل وعلى الحرّيّة الفرديّة وبين إرادة إعادة تنشيط، بأيّ ثمنٍ، المشروع الجمهوريّ في صيغته الأولى، أيْ صيغته اللّائكويّة (laïciste)، التي يُعتبر فيها كلُّ شكل من أشكال العقيدة الدينية مرادِفًا للاستلاب ويجب، بالتالي، استئصاله لصالح نزعة إلحاديّة ظافرة. بل إنّ الدّرب أضيق بحيثُ إنّها لن تعلن عن نفسها وإنّه لا يمكن لأيِّ قرارٍ سياسيٍّ أنْ يجعلها إلزاميّةً:

«[...] يجب على النظريّة السياسيّة، إذًا، أنْ تُبقِيَ السؤال مفتوحا لمعرفة ما إذا كان يمكن تحصيلُ العقليّاتِ الوظيفيّةِ الضروريّة عبر سيرورة التعلّم [...] لكي يكون الحلُّ الليبراليُّ للتعدّدية الدينيّة مقبولًا كحلٍّ عادلٍ، من قِبل المواطنين أنفسهم، يجب [...] أنْ يَقبل المواطنون اللّائكيّون والمتديّنون أنْ يذهبوا، كلٌّ من وجهة نظره، نحو تأويلٍ للعلاقة بين الإيمان والمعرفة؛ إنّه المسعى الوحيدُ الذي بمقدوره أنْ يوفّر لهم  فرصة أنْ يرتبطوا بعضهم ببعض داخل المجال العامّ، في علاقةٍ ينيرُها التفكيرُ الذاتيُّ» (ibid., p. 208-211).

قائمة المراجع (البيبلوغرافيا):

 1- FERRY (Jean-Marc), “Sur le potential critique des religions dans l’espace européen”, in GISEL P. et TETTAZ J.-M (Ed), Théories de la religion. Genève: LABOR et FIDES, 2002.

 2- FERRY (Jean-Marc), La religion reflexive, Paris, CERF, 2010.

 3- FORAY (Philippe), La laïcité scolaire, Berne, Peter LANG, 2008.

 4- FORAY (Philippe), “Laïcité et bien commun. Reponse à Rojer MONJO», in Penser l’éducation, n° 26, Université de Rouen, décembre 2009.

 5- GAUCHET (Marcel), Le désenchantement du monde, Paris, GALLIMARD, 1985a.

6- GAUCHET (Marcel), “L’école à l’école d’elle-même”, in Le Débat, n° 37, Paris, GALLIMARD, 1985b.

7- HABERMAS (Jürgen),”Foi et savoir”, in L’avenir de la nature humaine, Paris, GALLIMARD, 2002.

8- HABERMAS (Jürgen), “De la tolerance religieuse aux droits culturels”, in Cités, n° 13, Paris, PUF, 2003.

9- HABERMAS (Jürgen), “Religion et sphère publique”, in Entre naturalisme et religion, Paris, GALLIMARD, 2008a.

10- HABERMAS (Jürgen), “Qu’est-ce qu’une société post-séculière”?, in Le Débat, n° 152, Paris, GALLIMARD, 2008b.

11- MONJO (Rojer), “Ecole et foulard. La laïcité est-elle une doctrine politique moderne?”, in Penser l’éducation,  n° 25 , Université de Rouen, mai 2009.

--------------------------------------

روجيه مونجو : روجيه مونجو (Rojer MONJO)، مدرّس ـ باحث في علوم التربية في جامعة مونبيليي الثالثة.

ـ العنوان الأصلي للمقال: Laïcité et société post-séculière.

ـ المصدر:  مجلّة (Tréma)، عدد 37/2012، نقلا عن موقع: www.revues.org

ـ ترجمة: جمال عمار.

[2]- مثال: الزواج المدنيّ، لمّا «حلّ محلَّ» الزواج الديني وحتى وإنْ أنهى لافكاكيّة (indissolubilité) هذا الأخير، فإنّه قد حافظ، على صعيد آخر، على تطقيس (طقسنة (ritualisation الارتباط الزواجي. يجسّد الميثاق المدنيّ للتضامن (PACS: PActe Civil de Solidarité)، اليوم، على نمطٍ «فائق الحداثة» (hypermoderne)، الطبيعة التعاقديّة الصارمة لهذا الأخير.

[3]- يندرج هذا الإسهامُ في امتدادٍ لنقاشٍ، سُررت بإجرائه مع فيليب فورايْ، البروفوسور في جامعة جان مونّي (Jean MONNET) في سانت-إيتيان، حول كتابه «اللّائيكيّة المدرسيّة»  (La laïcité scolaire)(راجع البيبلوغرافيا). كنت قد اقترحتُ تحليلاً نقدياً للأطروحات المدافَع عنها في هذا الكتاب، في مقال منشور في مجلة “التفكير في التربية، العدد 25” (revue Penser l’éducation) (راجع البيبلوغرافيا) تحت عنوان «المدرسة والحجاب الإسلامي. هل اللائيكية مذهبٌ سياسيٌّ حديث؟» (ةcole et Foulard. La laïcité est-elle une doctrine politique moderne?). لقد شرّفني فيليب فورايْ بجوابٍ عن ذاك التحليل في العدد التالي (العدد 26) من المجلة نفسها تحت عنوان «اللّائيكيّة والخير العامّ. جواب عن روجيه مونجو” (Laïcité et bien commun. Réponse à Rojer MONJO). بالتأكيد، إنّ الأمر لا يتعلّق، هنا، بـ “جواب عن الجواب”، بل أنوي، في هذا الإسهام، أنْ أقحم مناقشة بعض العناصر التي قدّمها فيليب فورايْ في مقالته.

[4]- انظر، بالخصوص: مقال هابرماس «الدين والمجال العامّ» في كتابه «بين الطبيعوية والدين» (Entre naturalisme et religion) (راجع البيبلوغرافيا)، سوف نستند إلى هذا المقال بشكل أخصّ. وانظر أيضًا:  هابرماس، «الإيمان والمعرفة» (Foi et savoir)، في كتابه «مستقبل الطبيعة البشريّة» (L’Avenir de la nature humaine)؛ وكذلك مقاله «من التسامح الدينيّ إلى الحقوق الثقافية» (De la tolérance religieuse aux droits culturels) في مجلة «مدن» (العدد 13، 2003) (Cités)؛ وكذلك مقاله «ما المقصود من مجتمع مابعدعَلْمانيّ؟» (qu’est-ce qu’une société post-séculière?)، في مجلة «جدل” (العدد 152، 2008).

[5] - يبدو لي أنّ غيابَ أخْذِ هذا البُعْد مابعد الحديث (ومابعد العلمانيّ) بعين الاعتبار، في الإشكاليّة الحاليّة للّائكيّة، هو النقطة الأكثر قابلية للمناقشة (للاعتراض) في استدلال فيليب فوراي، سواءً في كتابه أو في جوابه على تحليلي النقديّ. صحيحٌ أنّي أنا نفسي، في تحليلي النقدي، لم أضع هذه النقطة، كفايةً، في الواجهة. ينبغي عليَّ، أيْضًا، أن أميّز فكرتي، اليوم، في إجابتي عن السؤال الذي انطلقتُ منه في مقالتي: هل اللائكيّة عقيدةٌ سياسيّةٌ حديثةٌ؟ إنّها، فعلًا، عقيدةٌ حديثةٌ، لكن فقط بمعنى الحداثة الأولى (التي هي، بَعْدُ، حداثة جزئية، غير تامّة) لا بمعنى المابعدحداثة (المفهومة كحداثة تامّة).

[6] - انظر أيضًا، ص 13: «مستقبلًا، لنا مصلحةٌ أكبر في أنْ نسعى إلى استعادة المضامين الإنجيليّة في إيمانٍ للعقل مِنْ أنْ نحارب الكهنوت والظلاميّة» (le soutane et l’obscurantisme).

[7] - تطرّق يورغن هابرماس إلى القيمة الخاصة، كلّيًّا، غداة القطيعة الحضاريّة التي مثّلتها التجربة النّازيّة، لمفهوم «التضامن الأنامنستيّ» (solidarité anamnestique) مع ضحايا التجاوزات الماضية، المفهوم الذي صاغه والتر بنجامين لـ «سدّ النقص الذي ولّده فقدان الأمل بيوم الحساب» (idem., p. 52).

[8] - استعرتُ هذه الصيغة من جان-مارك فيرّي الذي يدافع، في مقال له يحمل عنوان «حول الطاقة النقديّة الكامنة للأديان في الحيّز الأوروبّيّ» (Sur le potential critique des religions dans l’espace européen) (راجع البيبلوغرافيا)، يدافع عن وجهة نظر مماثلة لوجهة نظر يورغن هابرماس، وذلك لمّا يكتب مثلًا: «[...] يجب على الحيّز العامّ أنْ يفتح، بدون تحفّظ، أبواب المدينة (Cité) للبديهات (intuitions) التي ظلت، إلى حدّ الآن محفوظة (موثّقة (archivées / في الطاقة الدلاليّة الكامنة للأديان». ثم يحدّد، لاحقًا، الدواعي لضرورة هذا الانفتاح: «في الوقت الذي نشعر فيه بقدوم عودة المطرود، أصبح من المستعجل، وللمفارقة، وضعُ حدٍّ للحَرْم (الإقصاء) السياسيّ (excommunication politique) للعقل الدينيّ، إذا ما أردنا أنْ نتوقّى الفتنة». انظر أيضًا، للكاتب نفسه (فيرّي)، الدين التّأمّليّ (La religion reflexive) (انظر البيبلوغرافيا).

[9] - الحاصل، نحن نعرف بماذا يَدينُ هذا المشروعُ لبعض المصادر الدينيّة وبصفة خاصة الإصلاح (la Reforme).

[10] - إنّها نقطة كنت قد أبرزتُها، في مقالي لمجلة «التفكير في التربية» (Penser l’éducation)، من التحليل الذي اقترحته بخصوص «مسائل الحجاب الإسلامي» في المدرسة من خلال محاولة إثبات، في منظورٍ مُستوْحًى من الفلسفة الهيغليّة، أنّ ارتداء الحجاب الإسلاميّ يمكن أنْ يُفسَّر، في البداية، بوصفه مطالبةً بالاعتراف مُوجَّهَةً إلى سلطةٍ هي، بما هي كذلك، مُعترَفٌ بها، مُسْبَقًا، أنّها شرعيّة، لكنْ، أيْضًا، إثبات أنّ هذه الشرعيّة قد قوبلت برفضٍ صريحٍ نهائيٍّ (fin de no-recevoir) تسبّب في إحساسٍ محتمَلٍ بالظلم، بحيثُ إنّ الجدل الذي تلاه قد بحث في السؤال المتعلّق بمعرفة ماذا كان الحلّ المناسب للمشكلة التي سبّبها ذلك «الاستفهام» (الاستجواب / (interpellation أكثر من بحثه في معرفة ما هو الجواب المناسب عن ذاك الاستفهام نفسه، ما جرّ، في الواقع، إلى أن يُقصِيَ الجدلُ المعنيّين(يّات) الأساسيّين(يّات).