البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

جدلية الصراع والتدافع بين الشرق الإسلامي والغرب العلماني، قراءة في أفكار محمد عمارة

الباحث :  محمد عبد المهدي سلمان الحلو
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  8
السنة :  السنة الثالثة - صيف 2017 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  August / 13 / 2017
عدد زيارات البحث :  1891
تحميل  ( 412.336 KB )
مجموعة كبيرة من المصطلحات المتقابلة تكتظ بها كتابات المفكر المصري
محمد عمارة.  ولا شك في أن هذه الثنائيات المتجاورة بعضها مع بعض تعبر عن نسيج فكري مُحكم في منجزه المعرفي،  وهي تتبلور من خلال استعمالاته لها،  وتداوله لهذه المصطلحات مثل : (داخلي ـ خارجي،  تخلف ـ تقدم،  استقلال ـ تبعية،  عالمية ـ عولمة،  تنوير ـ تزوير،  الولاء- البراء،  الوحي – الكون،  الدين – الدولة،  الموروث ـ الوافد،  التدافع ـ الصراع).

هذا البحث الذي وضع تحت عنوان "جدلية الصراع والتدافع بين الشرق الإسلامي والغرب العلماني هو محاولة تأصيل للإشكالية من خلال ما قدمه عمارة من كتابات جدالية في هذا الشأن.

المحرر

حاول الدكتور محمد عمارة أن يميز وأن يضع فوارق مفصلية بين العديد من المصطلحات  المتداولة والمشتركة بين العالمين الشرقي الاسلامي والغربي، مما يشكل خلطاً عند استخدام المصطلح الواحد في غيره معناه المقصود الموضوع له في الحضارة الغربية،  والغرض من التميز وضع القارئ على مستوى عال من الوضوح والدقة والمفهومية عند استخدامه للمصطلح والتميز بين معناه إسلامياً أو غربياً حين استخدامه في موارد الفكر أو في موارد الكلمة،  من قبيل مصطلحات العلمانية والعالمية والاصولية والتشريع والحرية والحكم....

وما نقصده بهذا المقال من معركة المصطلحات هو انعكاس المعركة الفكرية على أرض الواقع المعاش لتعود مرة اخرى إلى عالم الفكر وتبيان جدلية العلاقة بين الشرق الاسلامي المُستعمَر،  والمتأثر بالوافد الجديد،  والغرب العلماني الذي استطاع أن يفرق بين الحكومة – الشريعة،  والدين – الدولة،  في العالم الاسلامي،  يوم استطاع الغرب منتصراً أن يحطم الخلافة (الرمز) التي لم يكن لها (فعلاً) في الواقع الإسلامي [2].

إنه البناء الفكري لتصوير العلاقة بين الحضارات (صدام وصراع) أو (تحرك وتدافع)  من خلال بيانه لإشكالية هذه المصطلحات في اقع الأمة،  وأثرها في الصراع الاسلامي – الغربي في مساحة الواقع ليضع بذلك مشروعه الفكري كمعالجة وحل لهذه الأزمة،  باعتبار أن الإسلام هو الحل [3]،  وصولا إلى الاستقلال الحضاري،  المشروع الذي يؤمن بالتمايز الحضاري حقيقة واقعية تعطي لكل حضارة من الحضارات المختلفة خصوصيتها،  والتي يجب أن يميز فيها كل ما هو (عام)،  مما هو (خاص)،  وحتى لا تفقد الامة توازنها وتضيع بين مصطلحات ( القوة – العقل،  السيف – القلم،  المادة – الفكر)[4].

إن مقولتي (الصراع والتدافع) أبرز مقولتين تبينان الجدلية الفكرية بين العالمين الإسلامي (الشرق) والعلماني (الغرب)،  فـ ( الصراع) يمثل (القطب الواحد،  العلمانية،  العولمة،  الوافد،  الديمقراطية،  التأويل)،  و(التدافع) يعني: (التعددية،  العالمية،  الإلهية،  الموروث،  الشورى،  النص)،  إنها رؤية غربية،  ورؤية نقدية بينها المفكر عمارة.

الصراع والتدافع:

يعتبر عمارة ( التماس الحضاري) حالة صحية وإيجابية،  وهي لا محالة قائمة بين الحضارات وبقوة،  وأساس هذا التماس هو التمايز الحضاري القائم،  وهنا يميز عمارة ثلاثةَ مصطلحات داخل مفهوم التماس لتحقيق ( تفاعل حضاري)،  يميز ( التمايز،  الانغلاق،  الإلغاء)،  فالتماس حقيقة موضوعية تؤكدها وجود سمات وخصائص متمايزة فيما بين الحضارات المتعددة،  تصبغها بشخصيتها القوية وتاريخها العريق،  فلأبناء هذه الحضارات علاقات مختلفة في المفاهيم المركزية (الله،  الإنسان،  الفرد،  الجماعة،  الدين،  الدولة)،  والتاريخ لم يشهد مانعاً من الاتصال أو التفاعل بين هذه الحضارات،  فلا يوجد سبب يمنع من التقاء هذه الحضارات بما يشكل عاملاً صحياً داعماً لهذا التمايز،  وليس إلغاءً له،  تخرج الحضارة به من الكمون والوجود بالقوة إلى الظهور والوجود بالفعل،  لكن علاقة حضارتنا الإسلامية الراهنة (الأنا الحاضرة) تشكل أزمة في الفكر الإسلامي المعاصر،  لها عمقها التاريخي مع (الآخر الحضاري) المهيمن عالمياً [5].

بدأت هذه الأزمة بوجهها السافر،  يوم شهدت الحضارة الغربي انسجاماً واضحاً بعد انشقاق دام لأ كثر من سبعين سنة،  بين قطبي الحضارة الغربية (الليبرالية ـ الرأسمالية)  و(الشمولية - الشيوعية)،  حين سقط الاتحاد السوفيتي سنة 1991،  عزز هذا السقوط موقف الليبرالية ـ الرأسمالية،  التي حددت موقفها وبوضوح اتجاه الحضارات الأخرى،  والتي أكدها همنغتون في كتابه (صدام الحضرات) وقسمها إلى ثماني حضارات ( الغربية،  الكونفوشيوسية،  اليابانية،  الإسلامية،  الهندية،  الأرثوذكسية السلافية،  الأمريكية اللاتينية،  الإفريقية) وكان نصيب الحضارة الإسلامية هو الأوفر حظا من هذا التحديد،  ترجع تاريخية هذا الصراع إلى القرن السابع الميلادي،  قرن بدء الدعوة إلى الإسلام وظهوره،  زمن البعثة النبوية وانطلاق الإسلام حضارة عالمية،  فالصراع الحضاري هو من قاد إلى فكرة (العولمة)،  والتي كانت (العلمانية) سبيلها والقائد اليها،  بما يحقق (مركزية حضارية)،  وحدوية عامة،  ترفض الآخر وتفرض القوة والهيمنة على العالم وتلغي الشريك والتمييز الحضاري والثقافي وصولاً إلى عولمة وكوكبة وكوننة تخضع للغرب المهيمن[6].

ومن موقف إسلامي نقدي،  يرفض عمارة،  الصراع الحضاري الذي يقوده الغرب،  وينطلق نحو التدافع منهج الإسلام والقرآن الكريم في التعامل مع الآخر،  أشخاصاً وحضارات،  فعمارة يرفض: «فلسفة الصراع في علاقات الحضارات،  ومع تزكيتنا منهاج الإسلام في التدافع والتسابق بين الحضارات على طريق التقدم»[7]،  منعا للانغلاق في الحضارة الإسلامية،  ودفعا للعداء من قبل الغرب،  فـ (الصراع)  قرآنيا يعني أن يصرع الطرف الآخر ويلحق به حالة (الفناء)،  انطلاقا من قوله تعالى: «سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ» الحاقة/7  وهو مرفوض قرآنيا،  أما الدفع والتدافع الذي يؤسس عليه عمارة علاقات الحضارات والتوازن الاجتماعي،  فهو يعني التحريك من درجة إلى درجة أعلى مما يؤدي إلى تصحيح العلاقة بين الأطراف المتعددة،  من هنا يبدو الفارق واضحاً بين صراعٍ يؤدي إلى الفناء،  وبين دفع يؤدي إلى التحريك ليصل إلى درجة (الولي الحميم)،  انطلاقا من قوله تعالى: « وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا  السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ »  فصلت /34،  «فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّـهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّـهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّـهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ» البقرة/251،  «الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم  بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّـهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّـهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّـهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّـهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّـهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» الحج/40،  وهذا هو السبيل الإسلامي: «فالتدافع الحضاري الذي هو حراك وتنافس وتسابق يحافظ على التعددية، ويتوسط بين الصراع وبين السكون،  هو فلسفة الإسلام وسبيل حضارتنا الاسلامية في العلاقات»[8]،  وفلسفة التدافع هذه ليس مجرد فكر إسلامي يخضع للاجتهادات،  بل هو ثابت إسلامي[9].

العالمية العلمانية ـ العالمية الإسلامية:

العلمانية Secularism   مصطلح غربي يترجم إلى معنى الدنيوي أو العالمي والواقعي،  والذي يعني به فصل السماء عن الارض،  بما يقع مقابلاً للمقدس،  أي الديني الكهنوتي النائب عن السماء،  المحتكر للسلطة الإلهية والمالك لكل مفاتحها بجعله  سلطان الدنيا وقداسه كسلطان الدين وقداسه،  بما يحول المتغيرات الدنيوية ثوابت مقدسة يحكم بها المتغيرات العلمية والقانونية والاجتماعية بثوابت الدين[10].

ومن هذا التعريف الذي قدمه عمارة للعلمانية،  تبين أن الاتجاه العلماني يرفض كل ما هو مقدس كهنوتي،  ويرفض النظر بكتاب الوحي،  وينظر إلى الكون بكتاب الكون فقط،  فالعلمانية تعمل على فصل كل ما هو فوقي سماوي عن كل ما هو أرضي سفلي،  وتبعد الروح عن مسار الحياة الواقعية للإنسان،  تتيح للعقل والتجربة مسؤولية تدبير الإنسان لنفسه في الارض،  انطلاقا من واقع معاش تعتبره مصدراً وحيداً للفكر والممارسة الدنيوية في الميادين المختلفة (الاجتماع والاقتصاد والتعليم والإعلام) بعيدا عن كل الرؤى الوحيانية المقدسة،  والعلمانية رد فعل قويي ضد الاتجاه اللاهوتي الكنسي،  المصطلح عليه بنظرية السيفين Theory Of Two Swords والتي جمعت فيها الكنيسة بين السيف الروحي – السلطة الدينية،  والسيف الزمني – السلطة المدنية للدولة،  ويبعد بذلك العلمانية سيف السلطة الدينية (الروحي)،  تبقي السيف الزمني (المدنية)،  تاركةً الثورة العلمانية الحياة الروحية خالصةً للكنيسة،  مستمسكة لإدارة شؤون الحياة بالعقل والتجربة،  رافضة الدين اللاهوتي،  فكل ما هو في الارض لا يحتاج إلى رعاية إلهية وقوى خفية،  فالعلمانية: «هي جعل المرجعية في تدبير العالم إنسانية خالصة ومن داخل العالم،  من غير تدخل شريعة سماوية هي وحي من الله المفارق هذا العالم»[11].

ويرجع عمارة سبب انتشار العلمانية في أوروبا إلى التصور المسيحي للعلاقة القائمة بين الدين والدولة،  ومن خلال مقولة دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله،  فهي شريعة - المسيحية – روحية لا تقدم حلا لواقع المجتمع ولا نظام الدولة،  ومما أسهم في توسع العلمانية الموروث الغربي اليوناني من خلال تركيزه على فكرة المنفعة باعتبارها معياراً اساسياً بعيداً عن أخلاقيات الأديان والشريعة السماوية مما ساعد على إيجاد القانون الوضعي للعلمانية [12]،  وأسهمت العلمانية بدورها في نشر فكرة العولمة بين الحضارات المختلفة مختزلة للكل في (مركزية حضــــــارية)  واحدة.

ينقد عمارة فكرة العلمانية القائمة على ثلاثية صراعية،  وضعها كل من ميكافيللي وهيجل ودارون،  فميكافيللي تقوم فلسفته السياسية على التحلل من الأخلاق اعتماداً على فلسفة القوة والصراع والنفعية،  وفلسفة هيجل تعتمد على الصراع بين الفكرة ونقيضها ونقيض النقيض،  وفلسفة التاريخ عنده هي علاقة صراع بن العصور،  ويعتمد أصل الأنواع الذي ألفه دارون على فكرة البقاء للأقوى والأصلح،  والدمار والانتثار والفناء للاضعف [13].

ومن هنا،  فما تواجهه الأمة الاسلامية من التحديات القادمة من الغرب ومن العلمانية،  هو ليس تناقضاً واختلافاً في الرؤى،  وانما هو صراع يمثل قطبه الأول التيارات والاتجاهات المختلفة والممثلة للأمة،  ويمثل قطبه الاخر الهيمنة الغربية [14].

وفي معرض نقده العلمانيةَ،  يؤكد عمارة أن نظرية العلمانية بالاضافة إلى اعتمادها على الأصلين السابقين،  تقوم على تصور أرسطو نطاقَ عمل الذات الإلهية الذي يدعمه التفكير الكنسي المسيحي ويقر به،  من أن عمل الذات الإلهية هو الخلق فقط من دون التدبير أو الرعاية،  وهو التصور العلماني الفارق ذاته بين الإلهي الروحي – الدين،  والمعتمد في ازدهار العمران الإنساني على (العقل- التجربة) فقط،  والإنسان هو المتكفل بكل شيء،  في حين أن التصور الإسلامي للذات الالهية يختلف عن ذلك تماما،  فالذات الالهية لها الخلق ولها التدبير والرعاية أيضا: «وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّـهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا  تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّـهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّـهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ» الزمر /38،  فهو خالق كل شيء ومدبر كل شيء،  وهو سبحانه المستأثر بالخلق والأمر،  وهما الإيجاد والتدبير،  وهو المستخلف للإنسان بالشورى ليقيم العمران الإنساني،  بما يمتلك الاإسان من إرادة وقدرة واستطاعة وعزم يحتاج إليها في عملية إقامة العمران [15].

فالعلمانية التي يراها الغرب نموذجاً عالمياً يحقق لها العولمة والكوننة،  تعتمد على نزعته المركزية المعبرة عن نموذجه الحضاري والمعتمد على إقصاء الآخر الحضاري عن طريق إدامة الصراع ونشر روح الاستئصال للبنى التحتية - كما يعبر عمارة – للموروث الفكري الحضاري،  للحضارات المختلفة [16].

فالعمانية باختصار نموذج مركزي وحدوي،  يعتمد على العقل،  ويرفض السماء والتشريع الإلهي،  ويقصي الآخر،  وفق الثقافة التي تتميز بها عن ثقافة بقية الحضارات،  لكن العالمية التي يريدها الإسلام،  وكما يصورها عمارة،  من منظور قرآني،  تختلف جذرياً عن العالمية العلمانية الغربية،  فهي محكمة للذات الإلهية في الخلق والرعاية والتدبير،  ويعطي لنا تعريفاً مائزاً يؤكد فيه صفات مثالية تخلق واقعاً تعددياً،  فهي: «نزعة إنسانية،  وتوجه نحو التفاعل بين الحضارات،  والتلاقح بين الثقافات،  والمقارنة بين الأنساق الفكرية،  والتعاون والتساند والتكافل والتعارف بين الأمم والشعوب والدول،  ترى العالم منتدى حضارات،  بينها مساحة كبيرة من المشترك الإنساني العام،  ولكل منها هوية ثقافية تتميز بها،  ومصالح وطنية وقومية وحضارية واقتصادية وأمنية لابد مراعاتها،  في إطار توازن المصالح،  وليس توازن القوى بين هذه الأمم والحضارات»[17].

ومن خلال هذا التعريف،  تبين لنا الفارق الشاسع بين العالميتين،  فهنا نزعة إنسانية،  وهنا تفاعل وتلاقح وتعاون وتساند وتكامل بين مساحات كبيرة،  تحتفظ كل منها بهويتها ومصلحتها الوطنية والقومية في إطار توازن المصالح،  وليس توازن القوى.

فالعالمية الإسلامية ترفض الانفراد بالعالم،  وتهتم بالتدافع والتسابق من أجل الرقي والتقدم،  الذي يحقق التعددية الحضارية ـ رافضاً للفردية والمركزية ـ والتنوع الثقافي والاختلاف بينها  ـ الحضارات ـ وهذا التنوع والتمايز يرفض الانغلاق على الذات،  أو إلغاء الآخر حضارياً: «فالعالمية الإسلامية هي تنوع وتعارف وتعايش وتدافع وتسابق في إطار الوحدة الإنسانية،  والمشترك الإنساني العام،  أما العولمة الغربية فهي صراع وتفتيت وفوضى ـ يسمونها خلاقة،  في إطار الهيمنة الغربية،  التي تريد صب العالم في القالب الحضاري الغربي دون سواه»[18].

التنوير والتزوير:

فكرة التمايز التي دعا إليها عمارة لعلاقة أساسية بين الحضارات المختلفة،  اعتبرتها الحضارة الغربية مجرد أكذوبة  فالحضارة بدأت في الغرب – أرض اليونان أصالة،  وانتهت بأرض أوروبا الحديثة أصالة أيضاً وما زالت مستمرة،  أما الحضارة الإسلامية،  فلا حظّ لها من الأصالة،  وحظها أنها تبعية ناقلة للحضارة الغربية،  كما تعتقد العلمانية الأوربية ذلك في تصوراتها رفضا للآخر الحضاري،  وتهميشا له،  وتصور العلمانية هذا للحضارة الإسلامية دعا الكثيرين من المهتمين بالشأن الثقافي والفكري للأمة،  وتردي أوضاعها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية،  بالاضافة إلى الانبهار بالمدنية الأوربية الحديثة،  دعت الكثيرين من المهتمين بالشأن الثقافي والفكري،  إلى أن يكونوا دعاة للأوربية والتغريب تحت شعار (التنوير)،  ومن خلال تحديد العلاقة بين (الموروث والوافد) [19].

تتجلى العلاقة للوافد الغربي بالموروث الشائع في المناطق التي استولى عليها الغرب واحتلها،  بتحويل الموروث القومي الوطني لها إلى مسخ حضاري،  وتحويل كل هذه الحضارات إلى هامش حضاري،  تحقيقاً للتبعية الحضارية،  فتكون درعاً وهامشاً لهذه الحضارة الوافدة،  وأن يكون العقل (العربي الاسلامي) عقلاً تابعاً للغرب،  وأن تكون الثروات والخيرات الممتدة نهباً للقادم الجديد،  وهذا جراء الاحتكاك العنيف للحضارة الغربية مع الحضارات الاخرى [20].

ولتحديد الموقف من الوافد،  والموقف من الموروث،  يضع عمارة  معياراً لذلك الموقف،  وهو المحافظة على الثوابت الحضارية بما يسلم على هوية الأمة،  تلك الهوية التي حاول دعاة التنوير سلخها ومسخها كما حاول الغرب [21].

يميز عمارة نوعين من الوافد:  الوافد الذي كان قادماً من اليونان والممتزج بالحضارة الإسلامية،  والذي هضمته الحضارة الإسلامية ووظفته بما يخدم مصلحتها بالدفاع عن عقيدتها ووجودها من أن تمر بمرحلة (التراجع والاستضعاف) التي مثلتها حال الأمة مع الوافد الأوربي الحديث،  والذي لم تتمكن الأمة من تميز النافع من الضار فيه[22].        

لذلك انقسمت الأمة تجاه هذا الوافد إلى مجموعة اتجاهات: رافضةً له ومؤكدة التمسك بالتراث وهو الاتجاه السلفي النصي،  واتجاه رافض للتراث جملة وتفصيلاً،  وداعيا للتغريب والتنوير،  واتجاه ثالث يدعو إلى المحافظة على التراث،  والأخذ بما هو نافع ومفيد من الوافد،  وبما يحفظ للأمة هويتها واستقلالها الحضاري،  وبما يمثل فكرة التدافع الجوهرية في منظومة عمارة الفكرية،  وهو التيار الوسط النابع من الوسطية الإسلامية الداعي لها،  وهو تيار التجديد الديني أو الجامعة الإسلامية التي لا يدعي عمارة انتسابه اليها فهو شرف لا يدعيه واتهام لا يدفعه[23].

ما التنوير ؟

التنوير Enlightenment  مصلح لم يكن له معنى كما هو شائع اليوم في عالمنا،  وفي الحياة الفكرية والثقافية الإسلامية والعربية ـ كما يرى عمارة،  باعتبار أن التنوير حركة فلسفية ظهرت في القرن الثامن عشر الميلادي،  وهو فلسفة تعتمد في بنائها الفكري على العقل والاستقلال بالرأي،  وتؤمن بأثر الاخلاق،  وتقوم على فكرة التقدم،  والتحرر من السلطة والتقاليد [24].

ويفرق عمارة بين فكرة التنوير الغربي كما عرفت عند الغرب في القرن الثامن عشر الميلادي،  باعتبارها حركة إحياء حضاري لا ديني،  تحل العقل والعلم والفلسفة محل الله والوحي والدين،  وفكرة التنوير الإسلامي التي يدعو لها عمارة ويتبناها،  فالتنوير العلماني يحاول أن يقيم أسس المعرفة لكتاب الكون على العقل والتجرية،  ويبعد فكرة الوحي عن مصادر المعرفة والعلم،  مجال التنوير الغربي المحسوس والمعقول فقط،  من غير أن تكون وسطية أو علاقة بين الدين والعقل [25].

إن وجود تثوير غربي بما يملك من سمات تحدد هويته،  لا يمنع من وجهة نظر مفكرنا أن يكون هناك تنوير إسلامي تتجدد مضامينه ومحتوياته وفق الهوية الإسلامية،  فالله سبحانه نور: «اللَّـهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّـهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّـهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» النور/35، والقران نور: «فَآمِنُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» التغابن /8،  والاسلام نور: «للَّـهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» البقرة /257،  والرسل نور: «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّـهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ» المائدة /15،  والحكمة نور،  فهو تنوير يؤمن بالله والرسل والدين والقرآن بما يشكل معرفة تنويرية متميزة: «فنحن إذن أمام تنوير إسلامي متميز،  لتميز الإسلام ونسقه الفكري،  وتطور حضارته،  إنه ثمرة إسلامية خالصة وخاصة وليس كالتنوير الغربي رد فعل ناقص وناقض للدين»[26].

فالتنوير الاسلامي لا يقف عند حدود المحسوس والمعقول،  فهو ينطلق باتجاه المطلق،  يؤمن بالدين والوحي،  ويعتبر الوحي مصدراً من مصادر المعرفة،  ويرفض أن يتعارضا معا،  فالمعرفة الإسلامية تقوم على العقل والنقل والتجريب والوجدان،  ويقيم علاقة واضحة بين الدين والدولة وفق نظام الاستحلاف والحاكمية،  وهو لا يفصل الدين عن الدولة،  ولا يسلم مقدرات كتاب الكون إلى  الإنسان فقط،  بل هو يجمع بين ثنائيات متفرقة: دنيا ودين،  المادة والروح،  الفرد والمجموع،  الذات والآخر[27].

ويؤكد عمارة أن رفض التنوير الذي يجعل الانسان بدلا من الله،  لا يعني أنه يريد أن يجعل الله بدلا من الإنسان،  وإنما هنا تظهر الوسطية الإسلامية وموقفها بالجمع بين الإيمان بوجود الله تعالى،  وبوجود الإنسان،  والعلاقة القائمة بينهما، وفق نظام الاستحلاف لإقامة العمران الإنساني،  هذا من جانب،  من جانب آخر،  إنه لا يريد أن يحل الوحي والنقل بدلا من العقل والتجربة،  بل لا بد من استخدام العقل والنقل في معرفة كتاب الكون وكتاب الوجود،  وهو – التنوير الاسلامي،  لا يقاطع معرفياً الموروث الديني أو يحله بدلا من التقدم والتطور،  وإنما يجعل التجديد الديني هو الجامع بين هذه العناصر المختلفة [28].

وبهذا يستطيع وبرؤية نقدية من خلال تمييز التنوير الاسلامي من التنوير الغربي،  أن يميز أيضاً التنوير الذي دعا إليه بعض المهتمين بالشأن الثقافي للأمة من خلال إحلال العلمانية بمفاهيمها التنويرية المعتمدة على العقل بدلاً من الوحي،  واعتبار مصدر المعرفة المحسوس والمعقول،  ورفض المطلق،  فهذه كلها مجرد شعارات لا تتلاءم والعالمية الإسلامية،  وهي مشكلة كما يعبر عنها: «ولذلك يبدو شذوذ الدعوة إلى العلمانية في الواقع الإسلامي،  باعتبارها دعوة إلى حل ليست له مشكلة في عالم الإسلام»[29].

إن دعوة العلمانية وسحبها إلى العالم الإسلامي تزوير وليس تنويراً كما يرى عمارة ذلك،  ومن التزوير أيضاً أن تنسب دعاوى التنوير بالمعنى الغربي إلى دعاة الوسطية الإسلامية والتجديد الديني أمثال الطهطاوي والأفغاني وعبده،  وهم براء من هذه الدعاوى [30].

إن التنوير الحقيقي بما يحافظ على الموروث الإسلامي ويحافظ على هوية الأمة،  والموروث ليس هو الذي له مدى متباعد وضارب في عمق تاريخ الأمة،  بما حملت من تيارات واتجاهات وأحزاب وفرق بينها توافقات أو تناقضات وتوترات،  فليس كل هذه الاتجاهات وما حملت من فكر هو الموروث الحقيقي،  إن الموروث الحقيقي هو الثوابت التي تحافظ على عناصر الهوية الثقافية باعتبارها ثوابت خالدة،  كالعروبة واللغة  والتدين والقيم والوسطية الإسلامية،  فاللغة العربية خالدة بخلود القرآن،  وهي صامدة أمام التحديات الاستعمارية ومحاولات السلخ في الأمة العربية الاسلامية،  من محاولات استبدال لغة المستعمر بها، والتدين هو ليس ممارسة الشعائر الخاصة بل هو جوهر ثابت حقيقي وأصيل،  والقيم الأخلاقية الثابتة غير المتغيرة التي تحافظ على الأخلاق السامية ونظام الأسرة،  والوسطية الإسلامية الجامعة لصنوف الخير،  باعتبار أن أمتنا الأمة الوسط،  والوسطية ليست الوسطية الأرسطية التي يقع فيه الشيء عند نقطة وسط بين طرفي اليمين واليسار،  بل هي تأليف المختلفات،  بين العقل والنقل،  الجسد والروح،  الدنيا والآخرة،  الفرد والجماعة،  الوسطية الإسلامية روح الحضارة الإسلامية وهويتها التي تجعل منها بهذه الصفات أو العناصر المكونة لهويتها روحاً مؤمنة ترفض المادية والعلمانية الغربية،  وتحافظ على وجودها بتدافع ثوابتها مع موجات الصراع والأنا الفردية الغربية [31].

الديمقراطية والحاكمية:

ومن جراء التنوير والحملات التنويرية الأوربية،  نشأ الصراع السياسي حول نظام الخلافة والشورى السياسي القائم في الإسلام كمنهج للحكم،  ونظام الحكم الأوروبي الذي يدعي الديمقراطية،  وموقف الصراع بين الشورى والديمقراطية جاء من خلال الاتجاهات والأحزاب الفكرية التي تبنت التغريب ومقولاته،  ومنها الديمقراطية،  مما جعل التساؤل القائم: هل الشورى والديمقراطية تتطابق فيما بينها ؟ أو لا يوجد بينهما تطابق ؟[32].

يرى عمارة من خلال الإيمان بالتماس الحضاري،  ونتيجة للتدافع،  بأنه لا مانع من تعدد انظمة الحكم في المجتمع الانساني،  فلا فرق بين الشورى وبين الديمقراطية،  ما دامت كل واحدة منها تسعى إلى تحقيق مقاصد،  وتفجر طاقات لإبداع الانسان،  وعليه يبين عمارة الفرق بين الديمقراطية والشورى فلسفة وآليات،  ليخرج بذلك بحكم واضح بين،  يوضح  العلاقة بينهما،  فمع كون الديمقراطية نظاماً سياسياً واجتماعياً أوربياً عرفته اليونان القديمة،  وأخذ هذا النظام بالتطور في أوروبا الحديثة،  من خلال تحديد العلاقة بين أبناء المجتمع الواحد في مبادىء الحرية وحقوق الإنسان والوطنية،  باعتبار أن الشعب هو مصدر السلطات،  وصاحب السيادة،  وتتحق آلية الديمقراطية من خلال المجلس النيابي القائم نتيجة لتعذر الديمقراطية بصورة مباشرة،  في حين أن نظام الشورى،  كنظام سياسي،  للحكم والإدارة الإسلامية،  أقره النبي – صلى الله عليه وآله- في المسائل التي لم يرد فيها نص وحكم صريح،  فيعتمد على الشورى والتشاور مع بقية المسلمين في انتزاع الأمر منهم،  من دون مجرد التطوع،  وهذه فلسفة نظام الحكم الإسلامي وآلياته: «السيادة والنظام والسلطة والسلطان أمارة الإنسان في الأسرة في المجتمع وفي الدولة»[33].

واذا كانت العلمانية والعولمة الغربية تقفان على طرفي نقيض مع العالمية الاسلامية [34]،  فالإسلام والغرب ليسا على طرفي نقيض في مسألة الديمقراطية بالإطلاق كما يحاول أن يصوره بعضهم،  بأن يجعل أحدهما في قبالة الآخر،  ولا وجود للتسوية أو التكامل بينهما،  فهناك كما يرى عمارة: «مساحة الاتفاق ومساحة الاختلاف بينهما»[35].

فكل من الشورى والديمقراطية من ناحية آلياتها تجارب وخبرات انسانية،  يفرضها الواقع وفق ظروف الحكم زمانياً ومكانياً،  وما تختلف به الديمقراطية وتمتاز عن الشورى هي مصدر السيادة،  فالسيادة والسلطة في النظم الديمقراطية للشعب وللأمة،  أما في الشورى فمصدر السيادة هو التشريع الإلهي،  والسلطة فيها للإنسان،  وفي إطار ما تحدده الشريعة له من نصوص وقواعد تخول له القدرة في الاجتهاد وفي المسائل التي لم يصرح فيها بنص ذي حكم واضح [36].

ومن هنا يرى عمارة أن الحاكمية الإلهية مصدر السيادة،  وهذا لا يعني إلغاء الحاكمية البشرية – مصدر السلطة،  ونستطيع القول: إن الحاكمية البشرية في طول الحاكمية الاإهية،  وليس بعرضها،  فهي حاكمية تستند وتعتمد على نصوص التشريع الإلهي،  وهذا يقضي التعددية والتنوع في الاجتهادات والأحكام[37].

وهذه التعددية حالة صحية،  تختلف عن الديمقراطية الغربية التي تريد أن تفرض سيادتها على الحضارات الاخرى بما يحقق لها حالة من الفناء تجاهها،  وأن تكون أنظمة الحكم واحدة مركزية حالها حال أنظمة الحكم الأوربية الديمقراطية،  تحقيقاً للعولمة الغربية،  وهي ما تنافي الخصوصية والهوية والذاتية لكل حضارة،  فالحضارة الإسلامية تؤمن بالتعددية وسيلة للتدافع ’ ووسيلة لإصدار الأحكام،  ومصدرا ثقافياً.

التعددية وإلغاء الآخر:

يعرف عمارة التعددية: بأنها تنوع مؤسس على تمييز وخصوصية،  وهي لا يمكن أن توجد أو تتصور الا في إطار الوحدة والجامع لها،  ولذلك فمن غير الصحيح أن نطلق التعددية على التشرذم،  أو أن تطلق على الواحدية التي لا أجزاء لها،  ولكل تعددية وحدة جامعة،  من غيرها لا يمكن قيام التنوع والتمايز،  والتعددية على مراتب وطبقات،  يحدها ما يصطلح عليه عمارة (الجامع- الربط) الذي يجمع أجزاءها،  كتعددية الحضارات والقوميات المؤسسة على ما يعنيها من شرائع وقوانين ومناهج وفلسفات[38].

والتعددية التي ينظر إليها عمارة،  ليست خياراً إنسانيا أو سياسياً،  بل هي من السنن الإلهية التي سنها الله تعالى،  في الفكر والخلق والإبداع،،  والغرض منها تحقيق الاجتماع الإنساني للوصول إلى مبتغاه بعد معرفة ما يصلح المجتمع ويضره[39].

وتبرز هذه السنة الإلهية أكثر فيما يعرضه عمارة من أن التنوع سنة الهية،  يصطلح عليها بـ (حكمة الخلق)،  وهو يدعو إلى الوعي بهذه الحقيقة،  وبكل ما تحمل من أبعاد وتجليات في الثقافة الإسلامية،  وهي سنة توجبها مقولة الدفع التي تعتبر من مقومات الفكر الإسلامي في فكر مفكرنا،  والتعددية سنة جارية في الكون وفي الإنسان وفي الحيوان،  فالإنسان يختلف عن الإنسان في لونه وجنسه وقوميته ولغته،  كما تختلف الحضارات بعضها عن بعض بلغتها وفلسفتها وقوانينها وتشريعها،  فضلا عن أن التعدد قائم في الفكر أيضاً الذي قسم إلى مدارس ومذاهب وفرق وتيارات،  وقائم في المجتمع المقسم إلى طبقات وشرائح ووظائف ومهن: «وكون الإسلام دين الجماعة،  لا يلغي تميز الفرد ولا تمايز الطبقات،  بل تميز التعددية في التصور الإسلامي بالجامع الذي يجمع فرقاءها،  والأصول التي توحد جماعتها وتياراتها ومذاهبها وطبقاتها،  فلا هي الوحدة التي لا تعدد فيها،  ولا هي التعددية التي لا جامع لأجزائها»[40].

فالتعددية سنة إلهية ترفض بالقطع إلغاء الآخر على أساس مبدأ الصراع،  تعتبر أن البديل لهذا الصراع هو التدافع بما يحقق حراكاً اجتماعياً وثقافياً وحضارياً دون صراع يصرع الآخرين،  ويلغي التعددية [41].

ومن التدافع ما عرف عن موقف عمارة تجاه الكتابات والضجة التي أحدثها الكاتب المصري نصر حامد أبو زيد،  وصدور قرار محكمة مصر بالتفريق بينه وبين زوجته بعد إعلانها ارتداده،  لكن التدافع الموسوم هنا لم يكن تدافعاً مع الغرب الحضاري،  بل كان مع شطرها الآخر وهو الماركسية الشيوعية،  حين طالب عمارة بعدم مواجهة الفكر بالقوة أو بالقانون،  لأن الفكر لا يواجه إلا بالفكر،  وقضية أبو زيد قضية فكرية يبقى مجالها الأرحب هو الحوار الفكري،  وهذ من اختصاص الباحثين والمفكرين،  خاصة وأن الاسلام سنته الإلهية التعدد والتي هي ليس خيارا إنسانياً أو سياسياً [42].

ومن هنا نجد أن النقد لم يكن بشكل مباشر للماركسية الشيوعية التي خبرها عمارة درساً وقراءة وشخصيات،  لكن النقد موجه هنا ضد الماركسية المتخذ في تفسير الإسلام من قبل دعاة التنوير - أبو زيد - والذي لا يمانع عمارة من أن يتخذ المنهج الذي يحلو له ويعتنق ما يرى أنه الصحيح،  إيمانا منه بالتعدد وحرية الرأي،  لكن الاعتراض على المقولات المنهجية التي فسر بها الإسلام على أساس القاعدة الماركسية (نظرية البناء الفوقي والقاعدة المادية)،  والتي تعتبر المادة والواقع الاقتصادي والاجتماعي والفسيولوجي هي الأساس في كل الوان الفكر،  وهي نظرية اعتمدها أبو زيد في كتابه مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن [43].

النقد والموقف من الماركسية:

تعتمد الماركسية على مبدأ أساسي وهو أن المادة مستكفية بنفسها،  مستغنية عن خالق لها،، هي بذلك تجعل المادة بديلاً من (الله) الذي تعتبره خرافة،  وترى أن فكرة الألوهية إنما هي فكرة تطرأ على الشعوب حال شعورها بلحظات ضعف،  واعتماد الماركسية على المادة يسري حتى في تفسير العالم والخلق والوجود والمصير والتاريخ واللغة،  بل وحتى أحلام الإنسان ومشاعره[44].

والمادية الجدلية تجعل الفكر نتاج المادة الأعلى،  وهو عملية يتم بوساطتها انعكاس العالم الموضوعي بما فيه من مفاهيم وأحكام،  وكذلك النظريات،  فالفكر يعكس الواقع المادي بهدف تحويله إلى نتاج اجتماعي،  فالمادة والواقع الاقتصادي هما القاعدة التي يتشكل فيها ويخرج عنها ويصدر منها الفكر والمفاهيم في الأحكام والديانات [45].

وبذلك يجعل أبو زيد وفق النظرية  المتقدمة (القرآن والنبوة والوحي والعقيدة والشريعة) مادة للتحليل الماركسي تعتمد على الواقع الاقتصادي والاجتماعي المعاش في عصر الرسالة لتفسيرها بوصفها ظواهر قائمة بنفسها،  وبأعتبار أن الآفاق المعرفية للجماعة تاريخياً تحكمها هذه الظروف الاقتصادية والاجتماعية اعتماداً على النظرة اعلاه.

ويرى عمارة أن اعتبار المادة هي الأساس وهي مستكفية بنفسها،  ومستغنية عن خالقها،  فهذه النصوص شاهدة على العداء للإسلام بين الماركسية والدين،  ويعتبر أن الاتهام الذي يوجهه اأو زيد للخطاب الديني كونه يقصي المادية ويشير إليها بالالحاد،  إن هذا اتهام للدين ذاته وليس للخطاب الديني،  وإن سبب هذا العداء هو ليس نظريتها في التغيير او الوعي الإنساني،  وإن اساس العداء هو نظرية الماركسية في التغيير الماركسي للعالم،  والوعي الماركسي وموقفها الذي تفسر به كل شيء على أساس الملكية والمسألة الاقتصادية وموقفها من الحرية وحقوق الإنسان [46].

لذا يجعل عمارة من الماركسية الحاملة الإلحادَ والمستخدمة لهكوسيلة تسيطر بها على الحكومات والشعوب،  يجعل من سقوطها انتصاراً للمؤمنين،  و نصراً منه تعالى [47].

بهذا المنهج،  هذه النظر يحاول عمارة أن ينظر إلى الغرب ويشخص أسباب العداء والمنهج الذي يقوم عليه وصولاً إلى مشروعه في الاستقلال الحضاري القائم على الحفاظ على اللغة بوصفها أساساً لهذه الهوية الإسلامية والوسطية الإسلامية والتدين والتعامل مع الحضارات الأخرى بأسلوب التدافع إيمانا منه بالتعددية.

-------------------------

[1]*ـ عمارة،  محمد،  معركة المصطلحات بين الغرب والاسلام،  نهضة مصر،  مصر،  بلا طبعة ولا تاريخ. وللدكتور عمارة مجموعة اخرى من الكتب التي عالج فيها الفارق والاختلاف بين المصطلحات  ردا على مقولة لا مشاحة في المصطلحات،  إذ اثبت أن هناك مشاحة وأن هناك اختلافاً بين المصطلحات التي نحتاج إلى تثبيتها ومعرفتها بالدقة لازالة اللبس الحاصل بينها وبين المفاهيم المختلفة والمستخدمة في الحضارتين الاسلامية والغربية: ومن هذه الكتب: إزالة الشبهات عن معاني المصطلحات،  دار السلام،  القاهرة ـ مصر،  الطبعة الاولى، 2009. وكتاب: الوسيط في المذاهب والمصطلحات الإسلامية،  نهضة مصر،  مصر،  بدون طبعة ولا تاريخ.

[2]. عمارة،  محمد،  الاسلام بين التنوير والتزوير،  دار الشروق،  القاهرة – مصر،  الطبعة الثانية،  2002،  ص 39.

[3]. عمارة،  محمد،  هل الإسلام هو الحل،  لماذا وكيف ؟،  دار الشروق،  القاهرة – مصر،  الطبعة الثانية،  1998.

[4]. عمارة،  محمد،  الاستقلال الحضاري،  نهضة مصر،  القاهرة – مصر،  الطبعة الاولى،  2007،  ص 28،  و122.

[5]ـ المصدر نفسه،  ص 187-189. وايضا: عمارة،  محمد،  أزمة الفكر الاسلامي المعاصر،  دار الشرق الاوسط،  مصر،  بدون طبعة ولا تاريخ،  ص 38.

[6]ـ  عمارة،  محمد،  الحضارات العالمية تدافع أم صراع ؟،  نهضة مصر،  القهرة –مصر،  الطبعة الأولى،  1998،  ص 7-17. وأيضا: بين العالمية الاسلامية والعولمة الغربية،  مكتبة الإمام البخاري،  القاهرة –مصر،  الطبعة الأولى،  2009،  ص 5-6.

[7]ـ  الحضارات العالمية تدافع أم صراع،  مصدر سابق،  ص 8.

[8]. معركة المصطلحات،  مصدر سابق،  ص 11.

[9]. الحضارات العالمية تدافع أم صراع،  مصدر سابق،  18-20.

[10]. معركة المصطلحات،  مصدر سابق،  ص23.

[11]. المصدر السابق،  ص 23-25. وكذلك: عمارة،  محمد،  الإسلام والسياسة الرد على شبهات العلمانيين،  مكتبة الشروق الدولية،  مصر،  الطبعة الاولى،  2008،  ص 36-37.

[12]. الإسلام والسياسة الرد على شبهات العلمانيين،  مصدر سابق،  ص 25.

[13]. العالمية الإسلامية والعولمة الغربية،  مصدر سابق،  ص 19.

[14]. عمارة،  محمد،  الحوار بين الاسلاميين والعلمانيين  نهضة مصر،  مصر،  بدون طبعة ولا تاريخ،  ص 10.

[15]. معركة المصطلحات،  مصدر سابق،  ص31-34،  وأيضا: الإسلام بين التنوير والتزوير،  مصدر سابق،  ص 25.

[16]. بين العالمية الإسلامية والعلمانية الغربية،  مصدر سابق،  ص 14-17.

[17]. المصدر السابق،  ص 11.

[18]. المصدر نفسه،  ص 11-13. 66

[19]. الاستقلال الحضاري،  مصدر سابق،  ص 11.

[20]. المصدر نفسه،  127-129.

[21]. المصدر نفسه،  ص 170.

[22]. الإسلام بين التنوير والتزوير،  مصدر سابق،  ص 6.

[23]. الاستقلال الحضاري،  مصدر سابق،  ص 22.

[24].  الإسلام بين التثوير والتزوير،  مصدر سابق،  ص 19.

[25].  المصدر السابق،  ص 223-225.

[26]. المصدر نفسه،  26-27.

[27]. المصدر نفسه،  ص 225-226.

[28]. المصدر نفسه،  ص 275-276.

[29]. الإسلام والسياسة والرد على شبهات العلمانيين،  مصدر سابق،  ص 29 ( والنص السالف كلمة تقديمية للشيخ جاد الحق علي جاد الحق)

[30]. الإسلام بين التنوير والتزوير،  مصدر سابق،  ص 227-275.

[31]. المصدر السابق،  ص 276.

[32]. عمارة،  محمد،  في النظام السياسي الإسلامي،  مكتبة الإمام البخاري،  القاهرة – مصر،  الطبعة الاولى، 2009،  ص73.

[33]. المصدر السابق،  ص 53.

[34]. بين العالمية الإسلامية والعلمانية الغربية،  مصدر سابق،  ص 11.

[35]. في النظام السياسي الإسلامي،  مصدر سابق،  ص 75.

[36]. المصدر السابق،  ص 75-76.

[37]. معركة المصطلحات،  مصدر سابق،  ص75.

[38]. هل الإسلام هو الحل: لماذا وكيف؟ مصدر سابق،  ص 50.

[39]. عمارة،  محمد،  التفسير الماركسي للإسلام،  مصدر سابق،  ص 11.

[40]. المصدر السابق،  ص 51-52،  وأيضا: عمارة،  محمد،  النموذج الثقافي،  نهضة مصر،  مصر بدون طبعة ولا تاريخ،  ص 26.

[41]. الحضارات العالمية تدافع أم صراع،  مصدر سابق،  ص 18-20.

[42]،  التفسير الماركسي للإسلام ومصدر سابق،  ص 43.

[43]،  المصدر السابق،  ص 35-37.

[44]. المصدر نفسه،  ص 34.

[45]. المصدر نفسه،  ص 35.

[46]. المصدر السابق،  ص 39.

[47]. بين العالمية الإسلامية والعولمة الدينية،  مصدر سابق،  ص 5.