البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

"تشكلات العلمانية" لعالم الأنثروبولوجيا طلال أسد، لم يغادر الدين حداثة الغرب يوماً

الباحث :  خضر إبراهيم حيدر
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  8
السنة :  السنة الثالثة - صيف 2017 م / 1438 هـ
تاريخ إضافة البحث :  August / 13 / 2017
عدد زيارات البحث :  1615
تحميل  ( 379.087 KB )
في مقدمة كتابه الموضوع تحت عنوان «تشكّلات العلمانية في المسيحية والإسلام والحداثة، يثير عالم الأنثروبولوجيا طلال أسد مجموعة من الأسئلة والافتراضات المتعلقة بالعلمانية، جاءت على الشكل الآتي: ما الصلة التي تربط بين «العلماني» بوصفه فئة معرفية لها رؤيتها للوجود والحياة، و"العلمانية" باعتبارها مذهباً سياسياً؟ وهل يمكن أن يكوِّنا موضوعيّ بحث في الأنثروبولوجيا؟ وكيف يمكن أن تبدو أنثروبولوجيا العلمانية؟ وهل يمكن فهم «العلمانية» قبل فهم «الدين»؟

ثم يكشف عن مجموعة متنوعة من المفاهيم الضمنية والممارسات والتجارب التي تجمعت لتشكّل «العلمانية»، مسلّطاً في ذلك الضوء على التحوّلات التاريخية التي شكلت المواقف العلمانية في الغرب الحديث وما يسمى اليوم بـالشرق الأوسط.

يتناول طلال أسد في هذا الكتاب النظرية السياسية للعلمانية ذاتها، كما ينظر بالتحليل والنقد في علمنة القانون والأخلاق في الدول الحديثة. فالعلمانية على اتصال شديد بالجانب الديني باعتبارها نداً له ولمؤسساته اللاَّهوتية في الغرب المسيحي. وبشكلٍ عملي، فإنّ الدولة، حسب أسد، ليست ذلك الكيان المستقلَّ تماماً؛ بل خلاف ذلك، لا يمكن فصل السياسات المعاصرة عن الدين كما تزعم العلمانية؛ بل هناك ضرورة عملية لأن تبقى للدين ذاتياته وسياساته. أمّا الدولة فمن ضمن عملها تعريف الوجه العامّ المقبول للدين وتحديده.

يتوزع الكتاب على مقدمة وسبعة فصول وخاتمة. وقد أولى المؤلف في الفصل الأول عناية خاصة  لمفهوم الأسطورة الذي أطلقته العلمنة لتوصيف كل ما يقع خارج الطبيعة الحسّية. وهو عالج  هذه القضية واعتبرها واحدة من مظاهر الأزمة المعرفية للعلمانية قولاً وممارسة. في الفصلين الثاني والثالث تناول الوساطة والألم والقسوة والتعذيب وعلاقتها بالتقديس و”القدرة على التصرف”. وانطلق من بحوث العلماني هذه إلى تحري أوجه العلمانية ومظاهرها في الفصل الرابع، بحيث عرض مفاهيم ما هو إنساني، ويشكل أساس الحقوق الذاتية الشخصية، كما عالج في الفصل الخامس قضية “المسلمين بوصفهم أقليات دينية” في أوروبا، وناقش، في الفصل السادس، ما إذا كانت القومية في الأصل علمانية أو دينية. أما في الفصل السابع، فقد تطرق، ببعض من الإسهاب،  إلى إيراد بعض تحوّلات السلطة الدينية والقانون والأخلاق في مصر إبان خضوعها للاستعمار.

حضور الدين في قلب الحداثة

من النقاط الأساسية التي عمل طلال أسد على إبرازها في كتابه آنف الذكر، هي التي تتعلق بقوة حضور الدين في مجتمعات الحداثة على الرغم من الحصار المديد الذي فرضته  العلمانية في التاريخ الأوروبي. فإذا كانت العلمانية بوصفها مذهباً تتطلب التمييز بين «العقل الخاص» (Private Reason) والمبدأ العام، فإنها تتطلب كذلك وضع «الديني» قبل «العلماني». ولا يتساوى كل من «العقل الخاص» و«الفضاء الخاص» (Private Space)، وإنما يعد العقل الخاص بمنزلة الحق الذي يكفل الاختلاف، أو المناعة ضد قوة العقل العام (Public Reason)؛ لذا تبقى المشكلات النظريةوالعملية التي تستدعي تعريف كل فئة من هذه الفئات. وأما السؤال الذي يثير نفسه في هذا المجال فهو: ما الذي يجعل خطاباً ما أو فعلاً ما «دينياً» أو «علمانياً»؟ (ص 22).

يلاحظ طلال أسد في هذا المضمار أن الدين ليس مختفياً، إطلاقاً، من ساحة العالم الحديث اليوم، ويمكن أن نستخلص ذلك من أهمية الحركات الدينية المعاصرة حول العالم، وكذلك من وابل تعليقات الباحثين والعلماء والصحافيين وتعقيباتهم على هذه الحركات. وقد لاقت ظاهرة عودة الدين (Resurgence of Religion) ترحيباً من قبل الكثيرين باعتبارها وسائل لتزويد السياسة العلمانية بوسائل تأخذ بعداً أخلاقياً ضرورياً. ونظر آخرون إلى ذلك بعين الحيطة والحذر؛ بوصفها عارضاً من أعراض اللاعقلانية والتعصب المتزايدين في الحياة اليومية، كما برزت قضية العلمانية بوصفها موضوعاً للمناظرات الجدلية الأكاديمية ومحلاً للنزاع العملي. ومما لا خلاف عليه أن السرد الواضح للتطور من الديني إلى العلماني لم يعد مقبولاً، ولكن هل يستتبع ذلك سؤالاً  يتعلق بكون العلمانية غير صالحة للتطبيق عموماً.

ظهرت العلمانية بوصفها مذهباً سياسياً في العصر الأوروبي الأميركي (الغربي)
(Euro-America). ومن اليسير التفكير بأن هذا يستلزم الفصل بين المؤسسات الدينية والعلمانية داخل الحكومة. إلا أن العلمانية لا يمكن حصرها في تلك المهمة فحسب. وبصورة مجردة، يمكن القول إننا قد نجد أمثلة على هذا الفصل في العالم المسيحي (Christendom) في حقبة العصور الوسطى، وكذلك في الأمبراطوريات الإسلامية، وفي أماكن أخرى من غير شك. وما يميز العلمانية هو أنها تستلزم مفاهيم جديدة «للدين» و«الأخلاق» و«السياسة»، علاوة على التزامات وضروريات أخرى مرتبطة بهذه المفاهيم نفسها. وقد استشعر الكثير من الناس هذه الحداثة، وتفاعلوا معها بطرق مختلفة؟ ومن هذا المنطلق، رفض خصوم العلمانية ومعارضوها في الشرق الأوسط وفي أماكن أخرى هذا المذهب؛ لكونه من الخصائص التي يتميز بها الغرب، في حين أن مؤيديها  أصرّوا على أن أصلها  الخاص يجب ألا ينتقص من ملاءمتها العالمية المعاصرة.

في أوروبا اليوم يعد الفيلسوف البارز تشارلز تايلور (Charles Taylor) واحداً ممن يصرون على القول بأن العلمانية على الرغم من أنها قد ظهرت استجابةً لمشكلات سياسية طرأت على المجتمع المسيحي الغربي في باكورة حقبة الحداثة (Mondernity) بدءاً بحروبه الدينية المدمرة، فهي تقبل التطبيق على المجتمعات غير المسيحية التي اصطبغت بصبغة الحداثة في كل مكان. ويلفت هذا الجدال المنمق  الجذاب والأخاذ، الصادر عن فيلسوف اجتماعي له بصماته المؤثرة، انتباه  كل المهتمين بهذه المسألة.

نقد رؤية تايلور

يُسلم الفيلسوف تشارلز تايلور بحقيقة أن ظهور العلمانية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بظهور الدولة – القومية (Nation-state) الحديثة، كما يحدد طريقتين أضفت العلمانية من خلالهما الشرعية على الدولة – القومية هذه. الطريقة الأولى، تتلخص بمحاولة العثور على أدنى القواسم المشتركة بين مذاهب الطوائف الدينية المتصارعة. والطريقة الثانية في محاولة التعرُّف بالآداب والأخلاق السياسية بمنأى عن المعتقدات الدينية بجملتها. ولعل هذا النموذج الأخير هو نفسه القابل للتطبيق في شتّى أنحاء العالم اليوم كما يقول تايلور في معرض مداولاته عن المجتمعات ما بعد العلمانية. ولكن بعد التوفيق بينه وبين الفكرة التي يتبناها الفيلسوف الأميركي جون راولز (John Rawis)، والتي تخص ما يسميه «الإجماع المتداخل» (Overlappong Consensus)؛ وهي الفكرة التي تفترض أنه لا يمكن أن تكون هناك قاعدة – أكانت علمانية أم دينية – للمبادئ السياسية المقبولة في المجتمع اللامتجانس الحديث تحظى بالموافقة العالمية. ويتفق تايلور مع راولز على أن الأخلاق والآداب السياسية ستندمج في فهم ما للخير، إلا أنه يختلف معه في أنه لا حاجة إلى الربط بشدة بين خلفية التفاهمات وظاهر المبادئ السياسية كتحفظات نهائية. ويرى تايلور أن هذا النموذج من العلمانية لا يقتصر على كونه جذاباً على المستوى الفكري، ولكنه أيضاً نموذج لا يمكن للدولة الديمقراطية الحديثة الاستغناء عنه.

في الديمقراطيات الليبرالية الحالية، حجة مقنعة قوية يمكن أن تمهِّد للأطروحة التي تقول بأن ثمة رابطاً مباشراً، يتناقض تدريجياً، بين الناخب وممثليه البرلمانيين، بحيث يخفق هؤلاء المممثلون البرلمانيون، تدريجياً، في القيام بدورهم بالنيابة عن الناخب وحماية مصالحه الاجتماعية والاقتصادية، وتمثيل هويته، والتعبير عن تطلعاته المختلفة والمتميزة ثقافياً والمستقطبة اقتصادياً. كما أن غياب الانعكاس المباشر للمواطن في تمثيله السياسي لا يتم التعويض عنه من خلال المؤسسات المتنوعة الخارجة عن قبة البرلمان، والمتصلة بنظام حكم البلاد وإداراتها، بل إن الأمر على النقيض من ذلك تماماً؛ فتأثير جماعات الضغط (Pressire Groups) في قرارات الحكومة يكون في أغلب الأحيان أقوى بكثير مما تكفله نسبة جمهور الناخبين الذي تقوم هذه الجماعات  بتعزيز مصالحه تعزيزاً مباشراً، (ونذكر منها على سبيل المثال: نقابة المزارعين في بريطانيا، وكذلك الأيباك (AIPAC) (وهي لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية)، واللوبي النفطي في الولايات المتحدة.

وبرصدها المتواصل لوجهات النظر الجماعية الضعيفة الخاصة بالمواطنين، تبقى «استطلاعات الرأي» (Opinuon polls) على اطلاع بالشعور العام في المدة التي تتخلل الانتخابات، كما تُمكِّن هذه الاستطلاعات الحكومة من توقع اتجاهات الرأي العام، أو التأثير فيه بمنأى عن التفويض الانتخابي. وأخيراً، تتوسط وسائل الإعلام (Mass Media) التي تمتلكها تكتلات الشركات المتحدة بشكل متزايد، وغالباً ما تكون متعاونة مع الدولة، بين ردود الفعل السياسية لجماهير الشعب على إحساسه بالضمان والتهديد؛ لذا لا يعد هذا بتاتاً نموذجاً للمجتمع الذي يمكن الوصول إليه بشكل مباشر. فليس هناك مجال يسمح للمواطنين بالتفاوض في شؤون الحياة العامة بحريّة، ويكفل لهم المساواة في التعبير عن آرائهم فيما بينهم؛ بحيث يقتصر وجود التفاوض في الحياة العامة بشكل حصري على نخبة المجتمع ووجهائه، مثل: رؤساء الأحزاب، والمديرين البيروقراطيين، والمشرعين البرلمانيين، ورجال الأعمال، في حين لا يشارك المواطن العادي في عملية صياغة خيارات السياسة كما تفعل هذه النخبة، بل حتى مشاركة المواطن، أكان ذكراُ أم أنثى، في الانتخابات الدولية لا تضمن أن يتم الالتزام بالسياسات التي حصلت على تصويت حشود الجماهير.

مأزق الديمقراطية الليبرالية

يمكن قول الكثير بشأن العيوب التي تجتاح المجتمع العلماني الحديث. ومنها على سبيل المثال الغياب المزعوم للهرمية، والاتكال المُفترض على التضامن الأفقي – لكن السؤال الذي يقدّم نفسه الآن هو: ماذا عن الزمان؟ في هذا المقام أيضاً تتسم الحقيقة بتعقيد أكبر مما اقترحه نموذج تشارلز تايلور. بالتأكيد، يعد الزمان المتجانس لبيروقراطيات الدولة وتعاملات السوق عنصراً مركزياً في حسابات الاقتصاد السياسي الحديث؛ فهو يسمح للسرعة وللتوجيه بأن يرتسما بدقة. بيد أن ثمة سلطات زمنية أخرى منها أيضاً سلطات زمنية قابلة للانعكاس، وأخرى غير قابلة له- يعيش بها الأفراد في مجتمع غير متجانس، ومن ثم تتشكل بها استجاباتهم السياسية.

ينقض طلال أسد الفرضية القائلة إن الديمقراطية الليبرالية تبشر بمجتمع يمكن الوصول إليه بشكل مباشر. وهي تبدو عنده موضع شك. ويشير في هذا المضمار إلى أن أشكال الوساطة المميزة للمجتمع الحديث تختلف عن أشكال الوساطة المميزة للمجتمع المسيحي والمجتمع الإسلامي في العصور الوسطى، بيد أن ذلك ليس مجرد مسألة بسيطة ممثلة في غياب «الدين» عن الحياة العامة للـ «دولة ـ القومية» الحديثة. حتى في البلدان العلمانية الحديثة تختلف مكانة الدين. لذا، على الرغم من أنه في فرنسا توصف الدولة ومواطنوها بالعلمانية، ففي بريطانيا تتصل الدولة بالكنيسة الرسمية، في حين يوصف قاطنوها، إلى حد كبير، بأنهم غير متدينين. وفي أميركا يتصف السكان بأنهم متدينون إلى حد كبير، في حين أن الدولة الفدرالية تتصف بأنها دولة علمانية. ولطالما حظي «الدين» بحضور علني دائم في بريطانيا وأميركا. وبناء عليه، فعلى الرغم من أن العلمانية في هذه البلدان الثلاثة (فرنسا، وبريطانيا، وأميركا) لها قواسم مشتركة، إلا أن سمة الوساطة للتخيل الحديث في كل بلد منها تختلف على نحو ملحوظ عن نظيرتها. ويتغير مفهوم التسامح الديني بين الجماعات التي تصنف بأنها جماعات دينية بشكل متباين في كل من هذه البلدان الثلاثة. كما أن ثمة معنى مختلفاً للمشاركة في القومية، والوصول إلى الدولة بين الأقليات الدينية في هذه البلدان.

بناء على ما سبقت الإشارة إليه، ما دور فكرة «الإجماع المتداخل» (Overlapping Consensus) في مذهب العلمانية؟

يزعم تشارلز تايلور، كما يلاحظ طلال أسد، أنه في المجتمع الذي يضم طوائف دينية عديدة ومتنوعة يسمح «الإجماع المتداخل» للناس بأن يكون لديهم حجج مختلفة (بل ومتعارضة) لتأييد (الأخلاقيات العلمانية» (Secular Ethics) المستقلة. فعلى  سبيل المثال، قد تتبنى المعتقدات العلمانية أو الدينية الحق في الحياة، وقد تأتي المعتقدات الدينية على أوجه عديدة ومتباينة تنتمي إلى تقاليد مختلفة؟ وهذا يعني أن الخلافات والتعارضات السياسية ستظل مستمرة، وعاجزة عن وضع حلول جازمة لها، وأن الحلول المؤقتة ستعتمد جبراً على  المساومات التفاوضية. لكن إذا دل ذلك على أنه سيكون هناك جدال حول ما يعد «مبادئ سياسية جوهرية» (Core Political Principles)، فكيف سيكون من الممكن حل مثل هذه الخلافات؟ ويجيب تشارلز تايلور بأن ذلك يمكن حدوثه عن طريق الإقناع والتفاوض. وقطعاً ثمة عفوية قوية كامنة في هذه الإجابة كما يضيف أسد. إلا أن الدولة – القومية لا تعد فاعلاً سخياً، كما أن قوانينها لا تتعامل بأداة الاقناع. لكن السؤال هنا هو عما سيحدث عندما يمتنع أطراف نزاع ما عن الوصول إلى تسوية فيما يُعد بالنسبة إليهم مسألة مبدأ (أي ذلك المبدأ الذي يعتبر عن الفعل والكينونة، وليس المبدأ الذي تجيزه تعاليم المعتقد). إذا لم يتم إقناع المواطنين بمسألة تراها الحكومة والأغلبية الداعمة لها مسألة مهمة على المستوى القومي، فقد يتم استخدام التهديد باتخاذ إجراء قانوني(بما يتضمنه من اللجوء إلى العنف). في مثل هذا الموقف، قد يصل التفاوض ببساطة إلى حد تبادل التنازلات غير المتكافئة في مواقف يجد الطرف الأضعف فيها نفسه مجبراً على خيارات بعينها.

بين «سلالات الدين» و«تشكلات العلمانية»

قبل هذا الكتاب الذي بين أيدينا كان طلال أسد قد ألف كتاباً مهما بعنوان: «سلالات الدين». ولكن من الواضح، وتبعاً للمحتويات الواردة، أن هذين الكتابين متكاملان. وقد أثار كل منهما في حينه جدلاً واسعاً في أوساط علماء الاجتماع في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا. ومع أن العاصفة حول الكتابين الأول والثاني لم تهدأ، رغم مرور بضع سنوات على صدورهما، فقد كان واضحاً حجم ردود الفعل تجاه الأفكار التي وردت فيهما.

يقول المؤلف طلال أسد في مقابلة أجراها معه الأكاديمي الأميركي كريغ مارتن ونشرت في مجلة «دراسة الدين» عام 2014: «أنا حقّاً لا أعلم ما كان تأثير كتاب «السلالات» في العلوم الاجتماعية عموماً، كل ما أعلمه أن عدداً من علماء الأنثروبولوجيا الشباب الموهوبين استخدموا أفكاراً في هذا الكتاب حول تجسد القيم والأحاسيس والتقاليد والأخلاق الفاضلة في دراساتهم الإثنوغرافية حول الإسلام. ولقد تعرض هؤلاء مؤخراً للنقد نتيجة مبالغتهم في أهمية «التدين الرسمي» على حساب «المعتقدات الروحية العادية».

أضاف: لقد لاموني لأني كنت من بدأ هذا الاتجاه السّيّئ. ولذلك فهؤلاء الناس يركزون بشكل أكبر على مقالات لي صدرت قبل هذا الكتاب وكتاب «تشكّلات العلماني». خصوصاً لجهة ما يعتبرونه نظرة رجعية من جانبي تجاه العلمانية ودورها السلبي حيال الإسلام والمسلمين.

وحسب رأي  طلال أسد فإن الكثير من علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا الذي يدرسون المهاجرين المسلمين في أوروبا يشعرون بأنه عملي معياري بشكل منحرف، وأنه يتعمد إهمال التجارب الاجتماعية التي يمر بها المسلمون وردود فعلهم الدينية. باختصار: إنه يهمل معضلتهم المعاصرة في البلدان العلمانية الليبرالية.

ويعتبر هذا النقد للمؤلف أحد أنواع ردود الفعل على أعماله الفكرية التي تهدد برأيه مساحة واسعة من الحقائق التي توصلوا إليها حول المجتمعات الإسلامية. ويقول في هذا المجال: حين كنت طالب جامعة في الأنثروبولوجيا كنا نمزح كيف أن علماء الإثنوغرافيا الكبار كانوا يستجيبون للنقاشات النظرية في الحلقات الأكاديمية بقولهم «لكن في قبيلتي يعتقد الناس أن...»، إن هذه النزعة التجريبية لا تزال لسوء الحظ تجتاحنا. فالكثير من علماء الإثنوغرافيا يعتقدون أنّهم صاروا يمتلكون الفهم الصحيح لتجارب من يوصل إليهم المعلومات (بما في ذلك الفهم الصحيح لما يعتقدونه دينيّاً وما لا يعتقدونه) فقط لكونهم أمضوا بعض الوقت المحدود معهم في طريقة عيشهم، وكأن تجربة مصادر معلوماتهم كانت متناسقة وتامة ومتوافقة، وكأن طريقة عيشهم التي شاركهم فيها عالم الإثنوغرافيا لمدة قصيرة من الزمن يمكن لها أن تُلخَّص بتمثيل محدود يُظهر حقيقة غير قابلة للنقاش، وكأنها قد لا تكون هي ذاتها مجرد تفسير داخلي غامض، أو لكأن لغتهم العادية قد تكون أكثر أصالة من لغة نصوصهم الدينية»...

في جميع الأحوال، فقد اهتم دارسو العلوم السياسية بكتاب «تشكّلات العلمانيّ» بشكل أكبر من «سلالات الدين»، وذلك على الرغم من أن الكتاب الأول مرتبط بشكل وثيق بالآخر، وأن أسئلته حول العلمانية متقدمة بشكل أكبر من تلك الموجودة في «السلالات». وقد يعود هذا الاهتمام إلى الأسئلة حول الألم والعنف والمعاناة التي أشاركها مع بعضهم، فهم يعلمون بالفعل أن الأمور ليست بالبساطة التي تزعم الأيديولوجيا الليبرالية أنها عليها.

يدعو طلال أسد في كتابه النخب الغربية إلى فهم أفضل للنتائج الفكرية والحضارية للطرق المختلفة التي تنجم عن تصوراتنا حول الدين. لربما كانت أفضل هذه التصورات ما نسميه «التضحية» ـ وهي مفهوم ديني وعلماني في الوقت ذاته. ولدينا مفردات غنية للتحدث عن الألم في العالم العلماني: المعاناة والعنف والأسى والشعور بالأذى والعذاب والتعذيب والحزن وهكذا...

 لقد قيل إن التنوير العلماني ساعد البشر المعاصرين على تجاوز بربرية «تديُّن القرون الوسطى»، وتطوير سلوكياتها، ولكن علينا بالمقابل أن نسأل أنفسنا عن السبب الذي يدفعنا إلى الشعور بالصدمة والمهانة أمام بعض تجليات الألم الناجمة عن الفظائع التي تقترفها العلمنة وهي تواجه الحقائق الدينية في التاريخ الإنساني الحديث.


الكتاب: "تشكلات العلمانية في المسيحية والإسلام والحداثة"

المؤلف: طلال أسد

المترجم: دينا حسن فرختو

الناشر: دار جسور للترجمة والنشر – بيروت – 2016.