الباحث : ويليام هنري والش / William Henry Welch
اسم المجلة : الاستغراب
العدد : 9
السنة : السنة الثالثة - خريف 2017 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث : November / 5 / 2017
عدد زيارات البحث : 2631
يناقش هذا الباحث للفيلسوف الإنكليزي المعاصر ويليام هنري والش واحدة من أبرز المفارقات المعرفية في الفلسفة الكانطية، وهي إمكانية الميتافيزيقا في التحول إلى علم، مع أنها تحتل مقاماً غريباً بين العلوم في الآن عينه.
السؤال الذي يبني عليه والش نقده أطروحة كانط هو الآتي: إذا كانت الميتافيزيقا التقليدية عاجزة عن الوفاء بحاجات البشرية فأي ميتافيزيقا ستكون قادرة على الوفاء بتلك الحاجات؟
المحرر
---------------------------
أولى كانط اهتماماً بالغاً على وجه الخصوص بمسألة إمكان الميتافيزيقيا، ولقد اهتمّ بها بوصفه فيلسوفاً تقنياً ورجلاً عاديّاً. في الفلسفة التقنية، يبدو أنّ هدفه الرئيس منذ الستينيات فصاعداً كان تحديد إمكان الميتافيزيقيا بالمعنى التقليدي، وإذا لم تكن مُمكنة فأيُّ ميتافيزيقيا تكون صالحة؟ لقد قام مراراً بمناقشة النقاط المتعلّقة بهذا الموضوع، وعالجها بخاصة في كتابيّ «أحلام عرّاف الأرواح» و«الأطروحة» الافتتاحي. تُظهر تصريحاته في كتاب «نقد العقل المحض» و«التمهيدات» أنّه كان يعدّ أنّ للميتافيزيقيا مقاماً غريباً فعلاً بين العلوم. إنّها علمٌ «لا ينتهي رواجُه أبداً» ويُشبِعُ حاجةً طبيعيةً في البشر. إنّ إلغاء الميتافيزيقيا تماماً سيكون مستحيلاً، وأكثر ما يُمكن فعله هو إزالة بعض الأنواع غير الصالحة من الميتافيزيقيا وفتْح المجال لعقيدةٍ «علمية» جديدة. ألم يكن هدف الثورة الكوبرنكية الفلسفية المشهورة وضعَ الميتافيزيقا على المسار الأكيد للعلم؟ إنّ مسألة إمكان الميتافيزيقيا بالنسبة للفيلسوف الذي يحملُ هذه الآراء لا يُمكن إلا أن تكون مهمة. ولكن بمعزلٍ عن هذا الاهتمام المهنيّ، كان كانط –بوصفه رجلاً عادياً- مهتماً بمصير الميتافيزيقيا. كان مُقتنعاً بوجود بعض الحقائق أو العقائد المؤكَّدة التي من المهم المحافظة عليها وهي: وجود الله، وخلود الروح، وحرية الإرادة. في السابق، كانت هذه العقائد تعدّ الحقل المناسب للميتافيزيقيا، والعقل بقدرته التخمينية قدّم الحجج التي تدعمها أو تُعارضها، ولكن في كلٍّ من الحالتين لم تُجْدِ نفعاً كبيراً للعقائد المشار إليها. بصرف النظر عن المعارضة الوضعية للفلسفات المادية، كان الدعم الذي قدّمته المنظومات العقلانية من النوع الليبنيتزي لهذه العقائد ذا فائدةٍ مُبهمة. لم يستطع العقلانيون على الإطلاق أن يردّوا بشكلٍ كامل على خصومهم؛ ومن خلال ادّعائهم بأنّ قبولنا القضايا محل النقاش يعتمدُ على المحافظة على منزلتها، اتَّجهوا نحو إلقاء ظلال الشك على ثقتنا بحقيقة تلك القضايا. إذا كانت هذه الأمور واقعة تحت قدرة الفكر النظري كما يدّعي الميتافيزيقزن التقليديون، فإنّه من الصعب التأكيد على وجود الله والعقائد الأخرى من دون الخوف من الوقوع في التناقض. يبقى إذاً لأيِّ شخصٍ مقتنعٍ بحقيقة هذه العقائد أن يحتجّ بأنّ قبولها لا يرتفع أو يهبط طبقاً لنجاح الفكر في الدفاع عنها. إنّ التأكيد على هذه النقطة هو هدف فلسفة كانط ككلّ. عبر إعلائها الطبيعة الأخلاقية للإنسان فوق طبيعته الفكرية، تدّعي فلسفة كانط وجودَ القيمة الروحية لدى جميع البشر. لهذا السبب، وبما أنّ كانط يعتبر أنّ طبيعتنا الأخلاقية هي على نحوٍ تقتضي بوضوحٍ إيماننا بالعقائد المشار إليها (وهي صحيحةٌ قطعاً لأهدافٍ عملية)، ينبغي رفض مزاعم المعرفة بهذا النطاق وترك المجال للإيمان الذي يُمكننا جميعاً مشاطرته. ولكن بُغية تأسيس هذا الموقف، ينبغي الكشف عن زيف الميتافيزيقيا بشكلها التقليدي بوصفها علماً يمنحنا المعرفةَ بعالمٍ غامض. فقط حينما يحدث ذلك، يُمكننا التأمين على عقائدنا. بناءً عليه، يظهرُ اهتمامُ «نقد العقل المحض» في نتيجته- إن لم نقل في تفاصيله- بالفرد العادي. إنّ هذا الكتاب هو في الواقع إثباتٌ للفرد العادي. كما يقول كانط، ينبغي على المدارس أن تُدرك أنّه «لا يُمكنها ادّعاء بصيرةٍ أعلى أو أتمّ حول أمرٍ خاضعٍ للاهتمام الإنساني الكوني يفوق ذاك الموجود بالتساوي في متناول السواد الأعظم من البشر (الذين ينبغي أن نبجّلهم بالقدر الأعلى على الدوام)».
يتّضحُ بشكلٍ وافٍ في مقدمتيّ الطبعتين الأوليين أنّ إثبات إمكان الميتافيزيقيا هو الهدف الرئيس لـ «نقد العقل المحض»، ولكنّ هذا ليس واضحاً جداً حين ننتقلُ إلى القسم الرئيس من النص. إنّ النقاش في القسم التحليلي خاصة هو صعبٌ للغاية إلى درجةٍ يميلُ الفرد إلى الغفلة عن علاقته بباقي الكتاب، ويزدادُ هذا الميل بسبب محور اهتمام مبدأ القسم التحليلي في حد ذاته. وعليه، يرى معظم الفلاسفة أنّ محاولة كانط لإرساء الطابع التركيبي البديهي للقانون العام للسببيّة هو تفنيدٌ مُحتمل لهيوم، ولكن على الرغم من أنّ هذا البُعد من مبدئه كان واضحاً بما فيه الكفاية لكانط نفسه فإنّه مجرد شيء عرضي فيه. من منظور الكتاب ككل، إنّ الأمر الأساسي الذي يودُّ كانط قوله عن القانون العام للسببيّة هو ما يتّفق فيه مع هيوم: أنّ هذا القانون صالحٌ فقط لدى تنسيق المعلومات الحسية، وبالتالي لا يُمكن تطبيق مفهوم السببيّة لدى تحديد الأشياء بعامة كما فعلت الميتافيزيقيا التقليدية. مرة أخرى، في فقرة «الاستنتاج المتسامي»، يقومُ تفسير النقاش المنطلِق من الطابع الوحدويّ للنفس وصولاً إلى التطبيق اللازم للمقولات بصرف الانتباه عن الاستنتاج المهم الذي يسعى كانط لتأسيسه وهو: على الرغم من الصحة الموضوعية للمقولات –أي تعلّقها بشيء- تبقى متعلّقة فقط بشيء ظواهري وتكون صحيحة بالنسبة إلى التجربة الحسيّة فحسب. بالطبع، من الخطأ القول إن كانط لا يؤكِّد هذا الاستنتاج، ولكن قد يميلُ الفرد في تركيزه على تفاصيل النقاش إلى الغفلة عنه أو إعطائه أهمية أقل مما يستحق.
لهذه الأسباب، يبدو من المفيد إعادةُ بيان مبدأ قسميّ الجماليات والتحليل من منظور الكتاب ككلّ، مع تذكُّر استغراق كانط بمسألة إمكانية الميتافيزيقيا. ينبغي ألا تكون هذه الإعادة للبيان موضعَ اهتمامٍ تاريخيٍ فحسب (من منظور التفسير الكانطي)، بل موضعَ اهتمامٍ فلسفي (وهو الأهم). ينبغي على الفلاسفة أن يتعاملوا مع نظرية كانط بنحوٍ جدّي؛ وما زالت مسألة إمكانية الميتافيزيقيا قضيةً حيّة في الفلسفة كما أظهرت المناقشات الحديثة. يُمكن الاحتجاج لصالح الرأي الذي يُفيد بأنّ موقف كانط تجاه القضايا التركيبية البديهية «للفيزياء الخالصة» هو أصحّ من ذلك الموقف الذي يتبنّاه الوضعيّون المعاصِرون؛ لكن يُمكن القبول بهذا الرأي من دون رفض النظرة الوضعية تجاه الميتافيزيقيا «المتسامية» –وذلك بشرط القبول بادّعاءات كانط في القسم التحليلي بالإضافة إلى الموافقة العامة على استنتاجاته في القسم الجدلي وطبيعة دلالات التجربة الأخلاقية. ولكن حتى لو اختلفنا مع كانط هنا واحتجّجنا على وجود قدرةٍ عقلية يُمكنها تطبيق الميتافيزيقيا بشكلٍ صحيح –كما يفعل هيغل- فإن نتائج القسم التحليلي التي تُظهر أنّ الفهم على الأقل هو ليس قدرة ميتافيزيقية سوف تكون مهمة أيضاً.
لعلّ أفضل أساليب مقاربة «نقد العقل المحض» هو اعتباره تفصيلاً لكتاب «الأطروحة» الافتتاحي الصادر في 1770 وتعارضاً معه حول «مبادئ العالم المحسوس والواضح وشكله». إنّ كتاب «الأطروحة» هو تثقيفيٌ على وجه الخصوص، وذلك إذا عددنا أنّ «نقض العقل المحض» هو استكشافٌ لإمكان الميتافيزيقيا -بمعنى أنّ العلم يدّعي منحنا للمعلومات حول حقيقةٍ غير قابلة للمعرفة بالتجربة الحسيّة- بما أنّ هذا الكتاب يُدافع بصراحة عن إمكان هذا النوع من الميتافيزيقيا. بالاضافة إلى ذلك، فإنّ الحجة الأساسية المعتمَدة لدعم هذا الموقف هي امتلاكنا القطعيّ بعض المفاهيم البديهية التي تُشكّل المقولات اللاحقة فحسب. حين نتذكّر أنّ النقطة الأساسية في القسم التحليلي هي إظهار أنّ هذه المفاهيم، على الرغم من كونها بديهية وفي حوزتنا قطعاً، هي مفاهيم تتعلق فقط «بشيء (ظواهري) عموماً» وهي فاقدة للمعنى إلا لدى تعلّقها بالتجربة الحسية، فمن غير المرجَّح أن نستخفّ بأهمية كتاب «الأطروحة».
في «الأطروحة»، يجمعُ كانط بين الرأي الذي يُفيد بأنّ الحواس فقط هي التي تمنحنا المعرفة بالظواهر (لأنّ ما نعرفه بالحواس يتَّسمُ بهيئة الزمان (والمكان)، والزمان والمكان هما طريقَان ذاتيان لإدراكنا، مع الادّعاء بأنّ الميتافيزيقيا بمعناها التقليدي هي مُمكنة. وعليه، يؤكِّد كتاب «الأطروحة» المادة المستقبلية لقسم الجماليات، ولكن لا يوجد شيءٌ يتطابق بشكلٍ مباشر مع القسم التحليلي والجدلي؛ أو بالأحرى: على الرغم من وجود بعض الفقرات التي تَطوَّرَ منها هذين القسمين بوضوح، يختلف محتواها بشكلٍ مُلفت عن الفصلين المقابلَين في «نقض العقل المحض». مع ذلك، كان كانط مُقتنعاً بنقطتين سوف تصبحان أساسيتين في الكتاب اللاحق وهما: أ) الميتافيزيقيا -إن وُجدت- هي علمٌ غير تجريبي، وب) العالم الوحيد الذي يُمكننا الاطّلاع عليه مباشرة («إدراكه بالحدس») هو ذاك الذي نعرفه عبر الحواس. في «نقض العقل المحض»، اجتمعت هذه القضايا بعضها مع بعض –أي احتواء كلّ المعرفة لعنصرٍ حسي (عنصر «حدسي»)- لإظهار استحالة الميتافيزيقيا المتسامية؛ ولكن في «الأطروحة» لم تُقبل هذه القضية الثالثة ولم يتمّ استخلاص الاستنتاج. إنّ السبب وراء ذلك، كما تمّت الإشارة إليه سابقاً، هو امتلاكنا بعض المفاهيم البديهية المحضة التي يُمكننا عبرها إحراز «معرفةٍ رمزية» –وليس حدسية- بالأمور الفكرية. وعليه، نحن نمتلكُ بعض الوسائل (ولكن ليس أفضل ما نتمنّاه) من أجل تجاوز أدلة الحواس، والميتافيزيقيا هي ممكنة بالمبدأ على الأقل.
الموقف الذي يجري الاحتجاج لصالحه هنا مألوفٌ بما فيه الكفاية في تاريخ الفلسفة، وصِلتُهُ ببعض الآراء كتلك المنسوبة إلى أفلاطون على سبيل المثال هي واضحةٌ إلى درجة أنّ أحد المعلِّقين قد لاحظ أنّ إلهام «الأطروحة» قد ورد في دراسةٍ عن أفلاطون في السنوات السابقة بشكلٍ مباشر عن العام 1770. يُعادل هذا الموقف إنكار المذهب التجريبي بناءً على بطلان الافتراض الأول لهذا المذهب. لا تُستَمّدُ معرفتنا بأكملها من التجربة الحسية: أضف إلى ذلك أنّ «طريق الحواس» فيها هو «طريق الفكر»، والاقتراح الذي يُقدّمه كانط وغيره من الفلاسفة هو أنّ «طريق الفكر» هو الطريق الحقيقي للوصول إلى المعرفة (أو بالأحرى الطريق إلى المعرفة الحقيقية). تمنحنا الميتافيزيقيا المعرفة بعالمٍ غير خاضع للحواس ذي أداةٍ وحيدة هي الفكر، والميتافيزيقيا هي «ملكة العلوم». إنّ هذا الموقف جديرٌ بالاحترام حقاً حتى لو اعتقدنا ببطلانه، وتفاصيله تستحق الاستكشاف.
للأسف، إنّ التفاصيل التي قدّمها كانط في «الأطروحة» هي غامضة بشكلٍ مخيِّبٍ للآمال، وهنا يظهر على النحو الأوضح تفوّق الموقف المرسوم بعنايةٍ أكبر في «نقض العقل المحض». يبدأ كانط بملاحظة امتلاك «الفكر» استخداماً مزدوجاً: الاستخدام المنطقي والحقيقي. يهتمّ الاستخدام المنطقي للفكر بتبعيّة المفاهيم والمبادئ ومقارنتها وفقاً لقانون التناقض، وهذا نشاطٌ ذائع في كل العلوم. ما تبدو الإشارة إليه هو: أ) تشكُّل المفاهيم؛ ب) تصنيف المفاهيم الثانوية والمتوازية؛ وج) تصنيف المبادئ. على أيِّ حال، إنّ النتيجة على نطاق الظواهر هي انبثاق التجربة من الظاهر، أي عالم منظَّم (افتراضياً). في هذه العمليات، ينبغي توافّر المعطيات ويقوم الفِكر بتفسير هذه المعلومات، لكنّ وظيفة الفكر الحقيقية ليست تفسير المفاهيم بل وظيفتها إنشاؤها. وفقاً لهذا الرأي، توجد بعض المفاهيم النقية في الفكر حول «الأشياء أو العلاقات»، ويُمكن للفكر اكتشافها عبر التأمل في تفسيراته الخاصة عن التجربة. يُقدّم لنا كانط أمثلة عن هذه المفاهيم وهي: «الإمكان، الوجود، الضرورة، المادة، المسبِّب،...مع أضدادها أو نظرائها».
في 1770، أدرك كانط أنّ الاعتراف بوجود بعض المفاهيم أو (لاستخدام كلمةٍ أعم) البيانات البديهية لا يعني بالضرورة حيازتنا البصيرة بالعالم الغامض لأنّ البيانات غير التجريبية في إمكانها تحقيق جزءٍ واحد من جزئين مُمكنَين. قد تمنحنا هذه البيانات المعرفة الأصيلة بواقعٍ مختلف عن الذي نعرفه بالتجربة الحسية، أو قد تكون فقط أشكالاً بديهية لتنسيق المعلومات الحسيّة. لقد تبنّى كانط البديل الثاني في «الأطروحة» مفضِّلاً إيّاه على البيانات البديهية للزمان والمكان. لا تُستخرج معرفتنا بالزمان والمكان عامة (في مقابل معرفتنا بحالاتٍ مكانيةٍ أو زمنيةٍ محدَّدة) من التجربة لأنّ المكان والزمان هما بيانان بديهيان موهوبَان للبشر. ولكن هذا لا يعني أنّهما يُمثّلان بالنسبة إلينا مصدراً للعلم يختلفُ عن التجربة الحسية لأنّ المكان والزمان- على الرغم من كونهما بديهيَّيْن- هما مجرد شكلين بديهيَّيْن من الشعور الإنساني، أي طريقَين ذاتيَّيْن لإدراكنا. نحن نُصنِّف كلَّ الظواهر ضمن الزمان، وكلَّ معلومات الحواس الخارجية ضمن المكان. في هذه العملية، يتمُّ افتراض الزمان والمكان بشكلٍ مُسبق ولكن فقط كشكلين ذاتيَّيْن؛ ولا معنى لهما بمعزلٍ عن المعلومات التي ينبغي أن تأتي من الحسّ. وعليه، لا يمتلك الزمان والمكان -أو علم الرياضيات الذي «يدور حول» الزمان والمكان- أيَّ قيمةٍ ميتافيزيقية.
تبقى المفاهيم الفكرية المحضة. في «الأطروحة»، يقومُ كانط من دون تردُّد بانتخاب الرأي الذي يُفيد أنّ هذه المفاهيم تمتلك ما قد يُسمَّى –اقتفاءً لأثر فليزشاور- وظيفةً «وجودية»، أي إنّها مصدر للمعرفة يختلفُ عن التجربة الحسية وأنّها في الواقع تمنحنا البصيرة بعالمٍ واضح للأشياء في حد ذاتها. قيل إن المفاهيم الفكرية المحضة تلعبُ دوراً مُزدوجاً. إنّها تكشفُ أولاً عن عيوب المفاهيم الحسيّة، أي إنها تُظهر أنّ الحواس تمنحنا فقط معرفةً بالظواهر وبالتالي تمنعنا من جعل الأمور الحسيّة معيارَ الواقع الحقيقي. تستطيعُ هذه المفاهيم تطبيقَ هذه الوظيفة الحاسمة فقط بسبب استخدامها الآخر العقائدي لأنّ المفاهيم فكرية محضة، ثانياً، «تصدرُ بنمطٍ معيَّنٍ معقول فقط عبر الفكر النقيّ وهو المعيار العام لكلّ الأشياء التي تُعتبر حقيقية لحد الآن. إنّ هذا النمط –للكامل في ذاته- هو الكمال إما بمعنىً نظري أو عملي. في المعنى الأول، هو الموجود الأعلى أي الله؛ وفي المعنى الآخر هو الكمال الأخلاقي». من غير السهل إجمالاً أن نُعلن مقدار ما تقصده هذه اللغة الغريبة (بالنسبة إلينا)، ولكن ينبغي أن تعني على الأقل أنّ فكرنا يمنحنا نوعاً من المعرفة بما أسمتْه الفلسفة اللاحقة «المطلق»، وأنّ هذا يدلّ على أنّ المفاهيم الفكرية المحضة تُشكِّل مصدراً للمعرفة يختلفُ عن التجربة الحسية. إنّ الاستخدام العقائدي للمفاهيم الفكرية المحضة هو الميتافيزيقيا حسب الافتراض، على الرغم من تعريف هذا العلم بـ»قسم الفلسفة الذي يحتوي على المبادئ الأولى لاستخدام الفكر المحض». يوجد علمٌ يُمهِّد له وهدفه إظهار الاختلاف بين المعرفة الحسية والفكرية، ويُعلن كانط أنّ كتاب «الأطروحة» في حد ذاته هو نموذجٌ لذلك العلم (أو بالأحرى مقالةٌ عنه).
إذا سألنا عن نتيجة كلِّ هذا، سوف يكون الجوابُ بسيطاً بالفعل. في التجربة الحسية، نعرف عالماً يتمُّ استكشافه من حيث: أ) مادّته في العلوم التجريبية؛ وب) وشكله في الرياضيات. ولكن فوق كل هذا، نمتلكُ مصدراً مختلفاً لمعرفة بعض المفاهيم الفكرية التي تُشكِّل جزءاً من جهازنا الذهني وتمنحنا البصيرة بعالمٍ آخر- عالم الحقيقة وليس المظاهر. لهذا السبب، يُصبح علمٌ آخر مُمكناً، وهذا العلم هو الميتافيزيقيا: النقطة القصوى التي نُحرز فيها مفهوماً عن الله.
إنّ أكثر الأشياء إثارةً للاهتمام وأقلّها مدعاةً للرضى في كتاب «الأطروحة» الافتتاحي هو مبدأ الاستخدام الحقيقي للفكر. هناك أمران في الكتاب يُلفتان القرّاء المطّلعين على «نقض العقل المحض» على الفور، وهما: الوظيفة «الوجودية» للمفاهيم الفكرية المحضة، وفقدان أيِّ شيء يتطابق مع الاختلاف الحاسم بين الفهم والعقل. إنّ المفاهيم النقية التي تمّت الإشارة إليها (المبادئ غير التجريبية) هي مفاهيم لحيازة الفهم بالمعنى الآخر، وإذا لم تُشِر عبارة كانط -أنّ الفكر يُنشئ مفاهيم عن «الأشياء أو العلاقات»- إلى ذلك، لا يبدو أنّه توجد علامةٌ على القابلية المستقبلية المتمثّلة بالعقل. إذا لم يُنذِر الاستخدامُ المنطقي للفكر بذلك، لا مجال لانتظار التعاون الضروري للحسّ والفكر في المعرفة. عوضاً عن هذين المبدأين، سيكون لدينا إثباتٌ غير ناضج فحسب للاختلاف بين الحواس والفكر، ونظريةٌ غير مفصَّلة على الإطلاق تتحدّث عن كيفية منح أحدهما للمعرفة بالظواهر والآخر بالأشياء في حد ذاتها.
لقد تبدّل كلُّ هذا في «نقض العقل المحض». ينصبُّ اهتمامنا هنا بشكلٍ رئيسٍ على تفسير جُزءٍ من التغيير، وهو ذاك الذي يؤثِّر في مفاهيم الفهم. يرى «نقض العقل المحض» أنّه لا يمكن الانتفاع من وجود المفاهيم البديهية لإثبات الاستنتاجات التي يُدَّعى إثباتها لها في «الأطروحة»، فتصبح النتيجةُ إعلانَ استحالة الميتافيزيقيا. وعليه، يُوفِّر «نقض العقل المحض» –إن جاز التعبير- تعليقاً على أبرز دعوى في «الأطروحة» ونقضاً لها، ولكن بسبب الاختلاف الحاسم بين الفهم والعقل تمّت الإطاحة بالميتافيزيقيا في «نقض العقل المحض» بشقَّين: في القسم التحليلي حيث تمّ تناول مفاهيم الفهم، والقسم الجدلي حيث تمّ التعامل مع أفكار العقل. كما قد تبيّن، يرى كانط أنّ الادّعاءات على كون العقل قابليةً ميتافيزيقيةً هي أعظم من ادّعاءات الفهم، ولكن تبقى إشارةٌ واحدة على الدوام-كما يُظهر كتاب «الأطروحة»- وهو أنّ مفاهيم الفهم تمتلكُ قيمةً ميتافيزيقية. بما أنّ هدفنا الآن هو تتبُّع تطوُّر مناقشة إمكانية الميتافيزيقيا في الجزء الأول من «نقض العقل المحض»، سوف ندع معالجة الأفكار.
لا حاجة لصرف الكثير من الوقت على قسم الجماليات لأنّ النقاشات التي استفاد منها كانط فيه تتطابقُ تقريباً مع تلك التي قدّمها في الأقسام المقابِلة في كتاب «الأطروحة» الافتتاحي. مجدداً، نمتلك نظريةً تؤكِّد بديهية وذاتية الزمان والمكان. إنّ المكان والزمان بيانان بديهيان: إنّهما افتراضان لنوع التجربة التي نمتلكها وليس الشيء الذي نتعلمه من التجربة، ولكنّهما أيضاً شكلَان لإحساسنا وطريقَان نقومُ من خلالهما بالضرورة بإدراك معلومات الحواس. لا يترتّب على ذلك فقط عدم امتلاك المكان والزمان قيمةً ميتافيزيقية، بل أيضاً عدم إمكان أن يكون لأيِّ شيء مرتبطٍ بالمكان والزمان أي أهمية ميتافيزيقية. السبب هو أنّ الميتافيزيقيا- إن وُجدت- ينبغي أن تكون غير تجريبية، أي ينبغي أن يكون لديها مصدر آخر غير التجربة الحسية. سوف نرى أنّ النقطة التي تتحدّث عن الطبيعة الحاسمة للعلاقة بين المكان والزمان هي مهمة بالنسبة إلى مبدأ كانط حول المفاهيم البديهية.
ينبغي الاعتراف بأنّ النقاش الوارد في قسم الجماليات له أهميةٌ فلسفيةٌ ضئيلة فقط في يومنا الحالي. ما زال مبدأ ذاتية المكان والزمان مهماً، ولكن بالكاد يمكن أخذ الموقف الذي يعتبر أنّ المكان والزمان قد يكونان بديهيَّيْن ولهما أهمية ميتافيزيقية على محمل الجد. ما دام قسم الجماليات يجادل ضد المفهوم الميتافيزيقي للمكان والزمان، من غير المرجَّح أن يتمّ نقضه. من ناحيةٍ أخرى، ما دام كانط مُهتمّاً في قسم الجماليات بتقديم فلسفة للرياضيات (كما يفعل بالنسبة لعلم الهندسة في «الشرح المتسامي لمفهوم المكان» على الأقل)، تعتمد نظريته على ما يبدو أنه رأيٌ قديم عن طبيعة ذلك العلم. لا يُمكن للنظريات الفلسفية حول طبيعة الرياضيات- والتي تبدأ،كنظريات كانط، من الرأي الذي يقول إن العلم له رابطة مميزة مع المكان والزمان- أن تكون صالحة لأنّه قد اتّضح الآن على نحوٍ معقول أنّ الرياضيات لا «تدور حول» المكان والزمان على الإطلاق.
على الرغم من ذلك، توجد نقطةٌ في نظرية كانط حول الافتراضات الرياضية ما زالت تُفيد العلم. يُعتبر أنّ الرياضيات تهتمّ «بالتنوّعات المحضة» للمكان والزمان. بكلمةٍ أخرى، تصفُ الرياضيات الطبيعة الجوهرية للمكان والزمان حين يتم استخلاص فكرة مجردة من جميع الحالات المكانية والزمانية الواقعية. لكن بسبب عنصر التجريد هذا، لا تتحدّث القضايا الرياضية أبداً عن عالم الحقيقة- حتى العالم المحسوس للحقيقة- وتقوم فقط بالتصريح عن الأحكام التي ينبغي لكل موجودٍ في ذلك العالم امتثالها. وعليه، يُمكن وصفُها كقضايا تُصدر الأمر بالنسبة للتجربة، ولكن بمعزلٍ عن هذه الإشارة إلى التجربة فإنّها تكون خالية من الأهمية الحقيقية. من الصحيح أن الرياضي الحقيقي لا يفقد اهتمامه بها، ولكنّه لا يكترث بشكلٍ خاص فيما إذا كانت القضايا الرياضية تمنحنا المعرفة.
تمتلكُ هذه النظرية للطابع الإلزامي للقضايا الأخلاقية جدارةً ترفعها فوق سائر محتويات قسم الجماليات. إنّها لا تمنح فقط ما يبدو أنّه بيانٌ حقيقي لطبيعة القضايا الرياضية، ولكنّها ذات دلالةٍ مرتبطة بما تبقّى من معرفتنا التركيبية البديهية لأنّها تُظهر أنّ مجموعةً من القضايا البديهية والتركيبية في آنٍ يُمكنها مع ذلك أنّ تكون مجموعة من القضايا الإلزامية. وعليه، على الرغم من عدم انبثاقها من التجربة الحسية قد تكونُ مرتبطة بها. مما لا شكّ فيه أنّ كانط يُخطئ حين يعتقدُ بوجود رابطةٍ مميزة بين الرياضيات والتجربة المكانية-الزمانية، أي في اعتقاده أنّ القضايا الرياضية- في المصطلحات التي سوف تُوضَّح لاحقاً- هي إلزامية على نحو الخصوص وليس العموم. في الواقع، تمتلك الرياضيات نوعاً من الأهمية الميتافيزيقية لأنّها –بتعبير ليبنيتز- تنسحبُ على كلّ العوالم الممكنة. ولكنّ ذلك لا يعني أنّ الرياضيات في حد ذاتها هي قاعدة مناسِبة للميتافيزيقيا؛ إذ لا يُمكنك أن تقول شيئاً بالغ الأهمية عن عالمٍ واضحٍ فقط من خلال العلم أنّ القضايا الرياضية تنسحبُ عليه. إنّ كل هذا، كما سوف نرى، يُلقي الضوء على القيمة الميتافيزيقية لمجموعةٍ أخرى من القضايا الإلزامية.
[1]*ـ ويليام هِنري والش (1913-1986)، كان فيلسوفاً بريطانياً. تولّى تدريس المنطق والميتافيزيقيا في جامعة إدنبره (1960-1979)، ونيابة رئيس هذه الجامعة بين أعوام 1975-1979. Kant’s Criticism of Metaphysics (I)
ـ العنوان الأصلي للمقال: Kant's Criticism of metaphisics.
ـ المصدر: مجلة "الفلسفة" (Philosophy) العدد 55، من منشورات المعهد الملكي للفلسفة، لندن،
(www.royalinstitutephilosophy.org) المجلد 14، تموز 1939. نقلاً عن موقع:(www.jstor.org).
ـ ترجمة: هبة ناصر.