الباحث : أحمد عبد الحليم عطية
اسم المجلة : الاستغراب
العدد : 9
السنة : السنة الثالثة - خريف 2017 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث : November / 5 / 2017
عدد زيارات البحث : 2646
يناقش الباحث العربي البروفسور أحمد عبد الحليم عطيّة في هذا البحث رؤى تأويلية متعددة قدّمها مفكرو ما بعد الحداثة حيال شخصية كانط وأعماله. كما يبيّن أبرز القراءات التي تأثرت بالكانطية بوصفه مدرسة مؤسسة لفلسفة الحداثة. منها على سبيل المثال الكانطية الجديدة والبنيوية والوضعية المنطقية وصولاً إلى الماركسية، وما لحق ذلك من تيارات ليبرالية وعلمانية نظرت إلى كانط على أنه معلم أول لعصر الحداثة.
كيف تعامل الفكر الحداثوي مع كانط، وكيف فهموه، وإلى أي حدّ صحّت قراءاتهم في ظل الموجة العارمة من الإسقاطات الأيديولوجية التي تعرض لها؟
هذه الأسئلة ستكون موضع مناقشة هذا البحث وتحليله.
المحرر
---------------------------------
يمكن القول بداية إن القراءة ما بعد الحداثية للفلسفة الكانطية، هي قراءة تضاف إلى قراءات سابقة متعددة لهذه الفلسفة. فالواقع أن كل اتجاه فلسفي يجد فيها ما يدعم توجهاته. فهناك قراءة تحليلية، وقراءة ماركسية، وقراءة بنيوية، وقراءة ما بعد حداثية الخ.. ويمكن أن نشير بإيجاز إلى ملامح بعض هذه القراءات لبيان ثراء الفلسفة النقدية؛ التي توقف أمامها الفلاسفة الجدد، ممن ينتمون إلى ما سمي بـ فلاسفة الاختلاف. سوف نناقش هذه القراءات المتعددة في الفقرات الآتية وقراءتها على أنها فلسفة تحليلية.
الفلسفة النقدية؛ فلسفة تحليلية. هكذا كتب داعية الوضعية المنطقية والفلسفة التحليلية في ثقافتنا العربية وفكرنا المعاصر زكي نجيب محمود؛ جاعلاً من كانط رائداً للتحليل. فالفلسفة مهمتها التحليل، والكشف عن الفروض السابقة المطلقة التي ينطوي عليها تفكير الناس في عصر من العصور هو الواجب الأول للفيلسوف. ولما كان كانط قد جعل مهمته الأولى أن يحلل قضايا العلم مثل هذا التحليل، فإننا نعده فيما يقول؛ في طليعة فلاسفة التحليل[2]. ويفصل الفيلسوف التحليلي هذه القراءة في الفصل الثاني من كتابه “موقف من الميتافيزيقا”؛ محاولاً أن يجد سنداً لهذا الموقف عند كانط. فقد كتب الأخير “نقد العقل النظري الخالص” وأراد تمهيد السبيل إلى ميتافيزيقا تقوم في المستقبل خالية من أوزار الماضي وأخطائه. أن كانط لم يرد بكتابه أن يقدم تفكيراً ميتافيزيقياً إيجابياً بل أراد أن يتخذ منه آداة تعينه على كشف الطريق السوي للبحث الميتافيزيقي المنتج.. لكنه لم يكد ينتهي من بحثه ذاك إلا وقد أدرك أن التحليل للقضايا العلمية في الرياضة والطبيعة هو كل ما يرجوه الفيلسوف لنفسه ولا شيء غير ذلك. فإن كان للميتافيزيقا معنى فهي تحليل القضايا العلمية. لهذا وجدنا الفيلسوف الإنجليزي التحليلي آيير Ayer يهتم بتقديم كتاب س. كورنر S. Korner عن كانط[3].
وهناك بالإضافة إلى هذه القراءة للوضعية التي تجد أصولاً لها في ألمانيا لدى الكانطيين نجد ما يمكن أن نطلق عليه القراءة الماركسية لفلسفة كانط. صحيح أن هذه الفلسفة ليست هي القراءة السائدة؛ التي تربط ماركس بهيجل. وهو ما فعله فلاسفة مدرسة ماربورج في محاوراتهم تأسيس الأخلاق الاشتراكية على نظرية كانط في الفكر العملي خاصة عند هرمان كوهين، الذي روج للإشتراكية الخلقية[4]، وكارل فورليندر Vorlnder [5] وكذلك لدى فلاسفة المدرسة الماركسية النمساوية أمثال: ماركس ادلر 1783-1937 وأووتوباور، ورودلف هلفردنج. رأى أدلر أن لدى الكانطية أكثر من فلسفتها الخلقية لتزويد الماركسية هو بما يلزمها من عناصر فلسفية، وحاول أن يطبق الترانسندتنالية الكانطية على نظرية المادية التاريخية[6] لكنّ أهم ممثل للنزعة الكانطية في الماركسية الفيلسوف الإيطالي المعاصر لوتشيو كوليتي lucio coltti الذي نادى بنزعة كانطية في محاولته إيجاد حلقة الوصل بين كانط وماركس من خلال نظرة الأول إلى الوجود؛ على أنه شيء فوق منطقي extra logical. فهذه النظرة إلى الوجود هي ما تحتاج إليه الإبستمولوجيا الماركسية باعتبارها إبستمولوجيا مادية[7]. وهناك من يرى أن ماركس أظهر بعض التأثر بكانط مثل الفيلسوف الألماني المعاصر ياكوب طاويس Jacop Taulpes[8].
وإلى ذلك يمكن أن نلتمس كانطية بنيوية لدى كلود ليفي ستروس Straures إذ يبدو تأثير كانط في الأنثروبولوجيا البنيوية عنده. وستروس يعترف جزئياً بهذه الكانطية. لقد وصفت الأنثروبولوجيا البنيوية بالفعل بأنها كانطية من دون ذات متعالية ولم يرفض ستروس نفسه هذا الوصف لأبحاثه، بل إنه أكد هذه القرابة التي تربطه بفلسفة نقد العقل النظري وقد كتب في الصدد يقول: “عندما نضع هدفاً لأبحاثنا، الكشف عن الإكراهات الذهنية، فإن إشكاليتنا تلتقي الفلسفة الكانطية، على الرغم من كوننا نسلك سبلاً أخرى. ويرى بعضهم أن اللاشعور في الأنثروبولوجيا البنيوية لا شعور مقولي يتصف أساسا بقدرة على التركيب والتأليف. إنه نمط من البنية الصورية التي تضم المبادئ القبلية للتعقل والتفكير والمعرفة يمكن أن يماثل بما هو موجود في الفلسفة الكانطية[9].
وينظر جان جراوند Jean Grondin أحد الكانطيين المعاصرين إلى نقد العقل عند كانط بمنظور بنيوي؛ فقد تعامل كانط مع موضوعه نقد العقل بطريقة بنيوية تزامنية لا بطريقة توليدية أو تاريخية. ومن هنا فهو لم يسع إلى استعراض تاريخي للمعارف والأفكار. بل هدف بالدرجة الأولى إلى تحليل بنى وآليات أو وصف قوي ووظائف، أو استنباط قواعد بالمعنى اللغوي النحوي للكلمة، لقد اكتشف كانط أرضاً معرفية جديدة لم يتم استيطانها؛ لقد أراد لنقده ألا يكون فقط تاريخاً للعقل الفلسفي بل تحليل جغرافية ورسم خارطة العقل البشري.[10]
ديمومة الحداثة بعد كانط
ويمكن أن نضيف أيضاً اهتمام هابرماس، واهتمام مفكري الحداثة بالفلسفة الكانطية تمهيداً لتناول قراءة فلاسفة ما بعد الحداثة لها. إذ يؤكد هابرماس أهمية الحداثة وضرورتها وأنها لم تستنفد دورها بعد؛ فهي مشروع مازال لديه ما يقدمه، مشروع لم يستكمل بعد، يواصل تقاليد الحداثة والتنوير ويطورها وهو ما يزال يرتبط عن كثب بتقليد التفكير النقدي التحريري الاجتماعي الذي شعاره المبكر مقالة كانط الديالكتكية “ما التنوير”؟. ويمكن مراجعة مناقشة هابرماس لمقالة كانط في دراسته “التصويب إلى قلب الحاضر” في كتاب ديفيد كوزيه هوى: “فوكو قارئ نقدي، أكسفورد، ودراسة كل من هوبرت، بول راينو: ما النضج؟ هابرماس وفوكو حول مسألة ما عصر التنوير[11]. يبين لنا أن هابرماس ما يزال جوهرياً ومشغولاً بالأسئلة الثلاثة للنقد الكانطي: ماذا يمكن أن أعرف؟ ماذا عليّ أن أفعل؟ وماذا يمكنني بشكل معقول الطموح إليه؟ كما في كتابه “الوعي الاخلاقي والعقل التواصلي”. وإن كان بعضهم يرى أن تفكير هابرماس في إعادة صياغة هذه الأسئلة ضمن صيغ لغوية تواصلية أو أفعال - كلامية - مؤشر على تراجع هابرماس عن “موقفه الكانطي” القوي الذي تجلى في كتاباته الأولى[12].
ويهمنا أن نحدد موضوعنا بإشارة موجزة إلى بعض الآراء التي تسعى لتعريف ما بعد الحداثة، على الرغم من تعدد بعض هذه التعريفات وتشعبها وعدم تحددها، حتى نتمكن بعد ذلك في الفقرات التالية من تناول موقف كل فيلسوف ممن ينتمون بشكل أو آخر إلى هذا التيار من الفلسفة النقدية، لكي نعطي صورة ثانية عن مصادر ما بعد الحداثة الفلسفية تضاف للمصادر المعروفة لها والتي تتوقف خاصة عند نيتشه وهيدجر وأحيانا فرويد[13].
وعلى الرغم من صعوبة تقديم تعريف لما بعد الحداثة لكثرة هذه التعريفات واختلافها وتعقد لغة أصحابها واتساع معارفهم؛ سيكون علينا أن نمضي إلى تحليل مجموعة النصوص التي قدمها كل من: جيل دولوز؛ وميشل فوكو؛ وفرانسوا ليوتار؛ وجاك دريدا؛ الذين يشار إليهم - على الرغم من الاختلافات فيما بينهم، وعلى الرغم من تطور أعمالهم وفقاً لمناهج وتوجهات فلسفية مختلفة عبر مراحل كتاباتهم - على أنهم فلاسفة ما بعد الحداثة[14].
تشير كارول نيكلسون إلى أن أطروحة ما بعد الحداثة في الفلسفة تشمل عدداً من المقاربات النظرية من بينها: النزعة البنيوية والبرجماتية الجديدة. وهي مقاربات تسعى إلى تجاوز التصورات العقلية ومفهوم الذات العارفة باعتبارها تمثل أساس التقليد الفلسفي الحداثي الذي خط معالمه الأولى ديكارت وكانط”[15]. يقول ديفيد لاين: “لقد دخل مصطلح ما بعد الحداثة الاستخدام العام بعد ظهور كتاب ليوتار Lyotard “الوضع ما بعد الحداثي” ولكن بعد تأسيس هذا التيار التحق به كتاب آخرون - معظمهم فرنسيون - خلال الثمانينيات، وعلى الرغم من أن عدداً من هؤلاء الكتاب تجاهلوا هذا المصطلح أو نفوه أو ابتعدوا عنه، بقي عالقا بأسمائهم ومن بينهم: جان بودريار Boudrilard وجاك دريدا Derrida وفوكو وليوتار نفسه طبعا ولا يمكن تجاهل كتاب آخرين مثل: جيل دولوز وجياني فاتيموGinni Vattimo وريتشارد رورتي[16].
وترد معظم ـ وربما كل - الدراسات أصول ما بعد الحداثة وفلسفة الاختلاف إلى نيتشه، الذي يمثل مفترق الطرق؛ تفرعت عنه مرحلة ما بعد الحداثة بخطيها، خط نظرية السلطة كما تطورت لدى فوكو مرورا بباتاي وخط نقدا الميتافيزيقا الذي ورثه هايدغر ودريدا، فهو يطبق جدل العقل لكي يفجر الغلاف العقلاني للحداثة[17].
أصالة الحداثة عند نيتشه وهايدغر
والحقيقة أننا بدأنا نفهم الكثير بالنسبة لأهمية نيتشه فيما بعد الحداثة من خلال كتاب جياني فاتيمو Vattimo “نهاية الحداثة” فهو يرى في نيتشه ما يجمع بين فلاسفة ما بعد الحداثة وأفكارهم يقول: “إن التنظيرات المتفرقة وغير المترابطة لما بعد الحداثة لن تكون مفيدة فلسفياً إلا إذا ربطت ما بين إشكال العود الأبدي النيتشويه وتجاوز الميتافيزيقا عند هيدجر[18]. وهذا ما يشاطره فيه ديفيد لاين، الذي يؤكد أنه لكي يتسنى لنا فهم التيارات الأساسية في الفكر ما بعد الحديث يجدر بنا أن نرجع قليلا إلى الوراء لنستجوب أولئك المفكرين الذين استبقوا ما بعد الحداثة. ومن دون شك أن أهم مفكر في هذا الصدد هو نيتشه فهو بحق مفكر ما بعد حديث سابق لأوانه[19].
يصوِّر نيتشه في تاريخ الفلسفة بوصفه المقابل لكانط، وإذا استخدمنا لغة نيتشويه فهو يمثل الديونيزية مقابل كانط الذي هو أقرب للروح "الأبولونية". والحقيقة أنه يمكن القول إذا كان نيتشه وهايدغر من المصادر الأساسية لفلسفة ما بعد الحداثة. فإنهما بدورهما اهتما بالفلسفة الكانطية. لقد كتب دولوز عن علاقة نيتشه وكانط في كتابه “نيتشه والفلسفة” وفيما أشار كل من كريستوفر وأنت واندزجى كليموفسكي إلى موقف نيتشه من كانط؛ وهما يريان أن تحليل كانط للحكم في علاقته بالإستطيقا بوصفها إحساساً، يمكن أن يُرى كاستباق لتحليل نيتشه للقوة من منظور الانفعالات المتصارعة. وهما يستخدمان على نحو متشابه شخصية العبقري من أجل سبر أغوار الأفكار.
يرى بعضهم أن نقد نيتشه النزعة الإنسانية بوصفها ميتافيزيقا، وأنها بدورها عبارة عن أخلاق تصطنع قيماً مزيفة للواقع.. لكن هذا النقد يسير في الاتجاه المعاكس تماماً للتقليد الفلسفي الكانطي.. فبينما دعا كانط إلى ضرورة تحقيق أفكار الميتافيزيقا على أنها مجرد قيم لتأسيس الأخلاق ومسلمات الفكر العلمي. يرى نيتشه أن النقد الجذري للفكر الميتافيزيقي برمته لا يتحقق إلا بفضح حقيقته التي تكمن في أنه مجرد أخلاق.
وهايدغر أيضا قدم دراسات متعددة عن كانط مثل: “كانط ومشكلة الميتافيزيقا”، “السؤال عن الشيء”[20] مقولة كانط عن الشيء”وحلقة بحث عن كتاب كانط” الدليل الوحيد الممكن على وجود الله”، ويمكن أن نرى بينهما بعض التشابه؛ وهو أن فلسفة كانط تدور حول إشكال رئيس ينشغل به هو أيضاً وهو إشكال الوجود المتعين، الذي يشير إلى المكان الذي يتطور فيه الموجود ويمكن أن نصل إليه. لقد سعى هايدغر كما يرى كل من: وانت وكليموفسكي إلى إعادة صياغة سؤال كانط عن الأحكام التركيبية القبلية[21].
يظهر الاهتمام المعاصر الكبير بصاحب الفلسفة النقدية في مجالات فلسفية متعددة، من بينها: فلسفة الاخلاق المعاصرة خاصة الأخلاق النظرية للتعالي الديني عند لفيناس، وأخلاق الحوار عند كارل. اتوابل، والأخلاق التواصلية عند هابرماس، وأخلاق الحضارة التقنية عند هانز يوناس وأخلاق العدالة والإنصاف عند جونرولز كما أوضحت جاكلين روس J.Rusفي كتابها الفكر الاخلاقي المعاصر La Pencee Ethique Contemporaire وكتابنا الفكر الأخلاقي المعاصر[22]. ويمكن الإشارة الى العناية التي يوليها فيلسوف الهيرمينوطيقا بول ريكور للفيلسوف الألماني[23]. أو الموقف النقدي الذي تتخذه بعض التيارات المعاصرة خاصة ما يسمى بالفلسفة النسوية[24].
سوف نتوقف في الفقرات الآتية عند قراءة كل من: جيل دولوز وفوكو وليوتار ودريدا، إذ أفرد كل من هؤلاء عملاً أو أكثر حول كانط قراءة وإعادة تفسير في بعض جوانب الفلسفة النقدية التي لم تلقَ الاهتمام نفسه من المفكرين السابقين، لا سيما أولئك الذين توقفوا أمام جانبين فقط في فلسفة كانط هما: نظرية المعرفة أو نقد العقل النظري الخالص ونظرية الواجب أو نقد العقل العملي.
أولاً: جيل دولوز وفلسفة كانط النقدية:
نتناول هنا قراءة جيل دولوز فلسفةَ كانط والاهتمام الكبير الذي خصصه لمفهوم النقد، في كتبه النقدية الثلاثة، خاصة كما يتجلى في “نقد ملكة الحكم”. فقد تناوله في كتابه “كانط والفلسفة النقدية. وفي عدد من كتبه الأخرى. وسوف نشير في البداية إلى أهم ملامح فلسفته لنوضح مكانة كانط في هذا السياق.
لقد عرف دولوز باعتباره فيلسوف الاختلاف وصارت عبارته أن الفلسفة هي إبداع التصورات هي التعريف الغالب على فلسفته. وقد مرَّ تفكيره ـ كما يخبرنا ـ بمراحل متعددة. يقول في حوار أجراه معه ريمون بيلور وفرانسوا إوالد في المجلة الأدبية الفرنسية عام 1988 “يمكنني الحديث في هذا المجال عن ثلاث مراحل: لقد بدأت بتأليف كتب في تاريخ الفلسفة حيث إنّ الكتاب الذين اهتممت بهم، كان يجمعهم شيء مشترك”. كتب عن هيوم كتابين، واسبينوزا ومشكلة التعبير، ونيتشه كتابين، وعن البرجسونية و”كانط وفلسفته النقدية” 1963. وسعى في المرحلة الثانية لبناء فلسفته الخاصة؛ وانصب اهتمامه في المرحلة الثالثة على الأدب عامة فقد كتب على سبيل المثال “مارسيل بروست والعلاقات” و”كافكا” وعن فن الرسم مثل “بيكن: منطق الحساسية” وعن السينما، ثم عودة لتاريخ الفلسفة فقد كتب عن “فوكو” و”الثنية ليبنتز والباروك”[25]. ويقول أما كتابي حول كانط فهو مختلف... لقد اشتغلت عليه كما لو كنت أشتغل على عدو بهدف معرفة كيف يعمل، كيف تعمل أجهزته[26]. وفي هذا السياق يرى كريستوفر نوريس Ch. Norris أن دولوز في دراسته عن كانط، يقدم تناقضات العقل المحض والعملي بطريقة تدرك المراد الكانطي المنطقي منها، حتى في أثناء الكشف عن سقطاتها المتعلقة بالبنية [27].
سوف نعرض فيما يلي أربع فقرات بصدد أفكار كانط كما جاءت عند دولوز في كتاب “الاختلاف والتكرار”، والعلاقة بين كانط ونيتشه كما يراها دولوز في “نيتشه والفلسفة”، وكتاب دولوز عن “فلسفة كانط النقدية”، ثم مقارنته بين كانط وميشيل فوكو تمهيدا للقسم الآتي من البحث عن فوكو وكانط.
1- يعد “الاختلاف والتكرار” أول كتاب ضخم من تأليف دولوز، وهو ليس فقط تتويجاً لمساره التعليمي في تلك السنوات التي خصصها لتدريس الفلسفة، إنه عمل يدشن فلسفة جديدة، هي فلسفة الاختلاف، ويعدّ مرحلة حاسمة في مسار دولوز وهمزة الوصل بين الأعمال التي سبقت والأعمال التي ستتلوها، كما يوضح فيليب مانج. إن الحدس الذي ارتكز عليه، هو القول إن الكائن تعدد واختلاف وتنوع إذ يمكن القول إن فلسفة دولوز هي قبل كل شيء فلسفة “الاختلاف”. ينتقد دولوز التمثل La Representation فالتمثل ليس قادرا على استيعاب المختلف؛ لأنه يعمل وفقاً لآليات ذهنية مبنية على ضرورة مبدأ الهوية، وتاريخ الفلسفة كله محكوم بهذا الخطأ أو تاريخ هذا الخطأ، ويمكن القول إن الموضوع الحقيقي لكتاب “الاختلاف والتكرار” يدور حول الإطاحة بآلية التمثل مانج:ص18.
ولو تابعنا تلخيص فيليب مانغ لعمل دولوز لوجدنا الفيلسوف يذكر في بداية كتابه حالات التكرار الحقيقي التي تنتسب إلى ميادين متعددة: الفيزياء والأخلاق والآداب والتاريخ. يهمنا منها ما يأتي على ذكره في مجال القانون الأخلاقي، إذ يرى أن كانط -إذا صرفنا النظر عن التكرار الذي يحدث في الطبيعة- لا يحصرنا في حيز جديد من الشمولية والعمومية والمماثلة؛ بل يقترح مقياس الخير ومقياس الواجب، أي إنه يقترح موضوعاً يظل التشريع الأخلاقي يردد أنموذجه. مانج:ص23. ويسجل دولوز الإضافة التي حققها كانط خلال نقده الكوجيتو الديكارتي. فالأنا أفكر لا يعني أن جوهري هو في كليته صيرورة فكر تتعقل الزمن غير أن الزمن يخترق الفكر مانج:ص29.
تسري أفكار كانط في سياق “الاختلاف والتكرار” تدعيماً لرأي أو تأييداً لفكرة أو نقداً لأخرى. فهو يرى أن ميزة كانط تكمن في أنه ساوى بين ما هو “فكرة” وما هو “أشكالي” فعن طريق الإشكالي؛ تأتي الفكرة، لكن الفكرة عند كانط انحصرت في مجال عمومية المفهوم. وفي حديثه عن مشكلة نشأة الأفكار وأصلها ومشكلة واقعيتها وتجسدها في حيز الفعل. يرى دولوز فيما جاء تحت عنوان “من أين تأتي الأفكار؟” أن كانط قد حدد نشوء الأفكار الإشكالية؛ فاتخذ من العقل تلك الملكة المتميزة موضوعاً لها. ص63.
2- يتناول دولوز كانط في أربعة مواضع من كتابه “نيتشه والفلسفة”. نجد ذلك في نهاية الفقرة السادسة من الفصل الثاني؛ إذ يبين موقف نيتشه حيال كانط في الفقرات: الثامنة والتاسعة والعاشرة من الفصل الثالث عن النقد. هي على التوالي نيتشه وكانط من وجهة نظر المبادئ، تحقيق النقد، نيتشه وكانط من وجهة نظر النتائج.
لا يوجد لدى نيتشه نسبٌ كانطي؛ بل هنالك خصومة نصف معلنة ونصف مخفية؛ بسبب قصور نقده؛ لقد وجد نيتشه في العود الأبدي وإرادة القوة؛ تغيراً جذرياً للكانطية وإعادة اختراع للنقد الذي خانه كانط؛ في الوقت ذاته الذي تصوره فيه استئنافاً للمشروع النقدي على أسس جديدة ومع مفاهيم جديدة[28] ويبين دولوز في حديثه عن مخطط جينالوجيا الأخلاق؛ ميل نيتشه إلى الإشارة إلى نقض تصور كانط للتعارضات Antinomies. ويبين نيتشه أن كانط لم يفهم ينبوعها ولا امتدادها الحقيقي حيث مصدر التعارض هو الإحساس بالخطأ كما يقول في القسم الثاني من الجينالوجيا وهو يعبر عن نفسه كتعارض بين الأخلاق والحياة إرادة القوة، القسم الأول 305.
لقد أراد نيتشه في الجينالوجيا إعادة كتابة نقد العقل الخالص، فهو يقدر - كما يقول دولوز - أن الفكرة النقدية تتحد مع الفلسفة، لكن كانط أخطأ بالضبط هذه الفكرة وأفسدها؛ ليس فقط في التطبيق بل من المبدأ. ويرى أن أمر نيتشه بالنسبة لكانط كأمر ماركس بالنسبة لهيجل، يتعلق بالنسبة لنيتشه بمادة وضع النقد على قدميه نيتشه والفلسفة ص113-114
تناقض كانط مع نفسه
تكمن عبقرية كانط في “نقد العقل الخالص” في كونه تصور نقداً محايثاً للعقل بوساطة العقل، لا بوساطة الشعور أو بوساطة التجربة أو أي هيئة خارجية أيا كانت. ولم يكن المنتقد هو الآخر خارج العقل، ويرى أن هذا هو التناقض الكانطي، أن يجعل من العقل المحكمة والمتهم في الوقت ذاته. لقد كانت تنقص كانط طريقة تتيح الحكم على العقل من الداخل من دون أن يعهد إليه بمهمة أن يكون قاضياً لذاته، والنتيجة أن كانط لا يحقق نقده الداخلي؛ إن الفلسفة الترانسندتالية تكتشف شروطاً تبقى خارجية بالنسبة للشروط والمبادئ الصورية، هي مبادئ شرط، لا مبادئ أصل تكويني داخلي، فالمطلوب على طريقة نيتشه ودولوز أصل تكويني للعقل، وأصل تكويني للإدراك ومقولاته. ويرى دولوز أننا نجد عند نيتشه محل المبادئ الصورية الجينالوجيا؛ وإدراك القوة على أنها مبدأ قادر على تحقيق النقد الداخلي نفسه ص117.
ويلخص دولوز التعارض بين التصور النيتشوي والتصور الكانطي للنقد في نقاط متعددة أهمها: أنه ليس العقل هو المشرِّع الكانطي بل عالم الجينالوجيا هو المشرِّع الحقيقي. إن هدف النقد ليس غايات الإنسان أو العقل بل الإنسان الأسمى الإنسان المتجاوز، فالأمر لا يتعلق بالتسويغ بل بالشعور، صورة مختلفة، حساسية أخرى نفسه ص120-121.
تظهر أهمية كانط بالنسبة لدولوز في تخصيصه كتاباً حول “فلسفة كانط النقدية” يظهر فيه تطور النقد من العقل النظري إلى العملي حتى يكتمل في ملكة الحكم، فالعمل الذي خصصه دولوز لبيان تعريف الملكات ووظيفتها يتكون من مدخل وخاتمة وفصول ثلاثة[29]. يبدأ في المدخل بتعريف العقل عند كانط. ويذكر تحديده الفلسفةَ على أنها “علم العلاقة بين كل المعارف والغايات الأساسية للعقل البشري”؛ للتأكيد على الغائية عند كانط، مقارنة بين مكانته في فلسفته من جانب، وفي التجريبية والعقلانية الدوجماطيقية من جانب؛ فالتجريبيون يرون الغائية في الطبيعة وكانط يرجعها للعقل والعقلانية السابقة عليه تقر بالغايات لكن كشيء خارجي وأعلى يجعل العقل ينشد وجوداً، وخيراً مطلقاً؛ بينما يرى كانط مقابل هؤلاء أن الغايات موجودة في العقل.
وينتقل دولوز بعد ذلك للحديث عن الملكات؛ محدداً معنيين للملكة Faculte، فهي بالمعنى الأول: كل تصور في علاقة مع شيء آخر، فهناك علاقة وفاق وتطابق، ملكة المعرفة، وصلة السببية، وملكة الرغبة. ويتناول ملكة المعرفة العليا إذ يعرض للعلاقة بين الملكات وهل لها ترتيب أدنى وأعلى. ليبين أن نقد العقل النظري تأمل في الملكة العليا للمعرفة بينما يختص نقد العقل العملي بالملكة العليا للرغبة، ويعني نقد الحكم بالملكة العليا للخيال. والمعنى الثاني للملكة أن تكون مصدراً نوعياً للتصورات يقول: “تحيل الملكة في المعنى الأول على العلاقات المتنوعة للتصور على وجه العموم، وتحيل في المعنى الثاني على مصدر نوعي خاص للتصورات”فلسفة كانط النقدية ص15 وفي هذا المعنى الثاني تتعدد التصورات، ويذكر ثلاثة أنواع للملكات بهذا المعنى وهي: الخيال والذهن والعقل، ويثير دولوز مسألة العلاقة بين المعنيين في نهاية مدخله ليصل إلى حلها في نهاية عمله. ويلاحظ أن ما شغله في المدخل هو نفس ما شغله في كتاب الاختلاف والتكرار.
ومن الواضح أن الغاية من تحليلات دولوز هي بيان كيفية وصول كانط للنقد وغايته نقد الحكم، والدليل على ذلك القضايا التي أثارها في بداية كتابه وفي سياقه وحتى الخاتمة هي قضايا الغائية والعلاقة بين الملكات[30]. لقد كان موضوع دولوز الرئيس؛ أن يوضح بعض المشكلات التي تنشأ بسبب أن كانط يجهد نفسه ليحكم دعاوى الملكات العقلية المتنافسة؛ التي تمثل مشهدا متخيلا لقاعة محكمة، قاعة محكمة تعمل - وفقا لدولوز - على طريقة منصب رئيس جلسة دائري معين لكي يمنع أي صوت سلطة مفرد مضيع للحرية من ممارسة قوة مطلقة، وبالتالي يحول دون تقويض تشاركية الخطاب الحر والعادل قبل أي قانون. وهكذا نفهم الصرح المفاهيمي الكامل في النقد الكانطي - إبستمولوجياه وأخلاقياته على السواء - بوصفه نسخة عاكسة لـ “برلمان” ملكات عقلية ديمقراطي ليبرالي، يشيد لضمان سيادة العقل.
وحتى يكون دولوز مطمئناً عرض تعليقاً كانطياً بخصوص المشكلات والتناقضات الموجودة في عملية تأسيس برلمان معرفة. لكنه في كتاباته الأخيرة وعلى الأخص أوديب مضاداً يتخاصم تماما مع نماذج العقل التنويري. ويتبنى أسلوب الخطاب ما بعد البنيوي[31]. إنه باختصار يتخلى عن النقد الداخلي للمفاهيم والمقولات الكنطية من أجل لغة تحتفي بانبثاقها في عصر يفهم فيه العقل نفسه بوصفه قوة كبت اجتماعي. ومثل فوكو يساوي دولوز المعرفة بالقوة ويرفض أي نوع من النقد الفلسفي الذي يستقي أصله من وجهة نظر العقل التنويري[32].
3 - تناول دولوز كانط في كتابه “المعرفة والسلطة” في تحليله أركيولوجيا فوكو المعرفية تحت عنوان “الأبنية أو التشكيلات التاريخية” ما يرى وما يعبر عنه. وهو يرى أن الكلام والرؤية؛ العبارات والرؤى عناصر خالصة وشروط قبلية ضمنها تجد كل الأفكار صيغتها في لحظة معينة، كما تتكشف السير وألوان السلوك. ويشكل هذا البحث عن الشروط فيما يرى كرستوفر نوريس نوعاً من الكانطية الخاصة بفوكو”.[33]
ويقارن دولوز بين كانط وفوكو موضحا التمايزات بينهما. فالشروط بالنسبة لفوكو شروط التجربة الواقعية، وليست شروط إمكان فالعبارة عنده تفترض متناً معيناً توجد بجانب الموضوع، وفي جانب التشكيلية التاريخية، وليس في جانب ذات كلية القبلي - عنده - التاريخي وسواء كان هذا أو ذاك نحن أمام أشكال خارجية برانية. ويدلل على كانطية فوكو بالقول إن الرؤى تشكل مع شروطها قابلية تلقي وتأثر وهو نفس ما نجده في الفكر الكانطي إذ إن عفوية الأنا تمارس ذاتها على كائنات متلقية تتمثلها أي تتمثل تلك العفوية بالضرورة كآخر، أما لدى فوكو، فإن عفوية الفهم أو الكوجيتو تنسحب تاركه المجال للرؤية باعتبارها شكلاً جديداً للمكان - الزمان.[34]
يرى دولوز أن كانط نقل الثنائية الديكارتية، الفكر والامتداد إلى ثنائية بين ملكتي الحساسية والفهم. إن حل الإشكالية التي تثيرها الثنائية بين الحساسية والفهم أو قل التجربة والعقل أو على الأقل زحزحتها تتم عند فوكو، وذلك نحو ثنائية مغايرة ليست بين ملكتين معرفتين لكن وفقا لتعبير دولوز بين نمطي وجود هما: العبارة والرؤية. فإذا كانت أصالة كانط تتمثل في زحزحة إشكالية ديكارت من المستوى السيكولوجي تمثل الذات لذاتها إلى مستواها الابستمولوجي والبحث عن شروط الإمكان فوجه الجدة عند فوكو هو تحويل الثنائية الكانطية من المستوى الإبستمولوجي إلى المستوى الأنطولوجي، إذ يتركز الاهتمام على الكينونة لا على الحقيقة، على الإنسان لا على الطبيعة.[35]
معنى هذا أن شروط الإمكان ترجع عند كانط إلى الذهن المستقل عن التجربة في حين أنها لدى فوكو في “الكلمات والأشياء” مصدرها التجربة ذاتها، وهي ذات طابع تاريخي، أي إن القبلي في نظر فوكو ذو طابع تاريخي. بالإضافة إلى أن الحقيقة القبلية لا تشكل عند فوكو هوية جاهزة سابقة على ممارستها، ولا تشكل بذاتها مصدراً ليقين معرفي. وإنما هي ذات طابع ملتبس ومتناقض، هي موضع أو حيز للممارسة تنتج وتنتج. ومعنى كونها تنتج فيما يبين علي حرب توضيحاً لدولوز أن ثمة ما يؤسسها في الأبنية والتشكيلات التاريخية التي هي بمنزلة قبليات تسبق قبليات العقل الخالص[36].
ثانياً: فوكو وسؤال كانط حول التنوير:
يهدف مشروع فوكو الفلسفي إلى نقد الحداثة الغربية التي تأسست بعد الثورة الفرنسية، كما يرنو إلى نقد فلسفة التنوير؛ التي أدت إلى إشعال الثورة الفرنسية ومهدت لها الطريق.. لكنه لا يكتفي بأدانة الجوانب السلبية للحداثة الغربية، وأنما يلجأ إلى التحليل التاريخي الأركيولوجي لكي يبين الكيفية التي انبنت عليها هذه الحضارة وبالتالي يسهل عليه النقد والتغير والتعديل[37].
يعلن فوكو انتماءه للنقد الكانطي، ويستخدم اصطلاحات كانط، كما في الفقرة الرابعة من الفصل التاسع من كتابه “الكلمات والأشياء” مثل: التجريبي والترنسندتنالي، والسبات الأنثربولوجي موضحاً أن البحث عن طبيعة تاريخ المعرفة حين يسعى إلى مطابقة البعد الذاتي للنقد، على مضامين تجريبية، يستلزم استخدام نوع من النقد[38] لقد أسس كانط فيما يرى فوكو الركنين الأساسيين للتراث النقدي اللذين تقاسما الفلسفة الحديثة. لقد وضع في عمله النقدى دعائم هذا التراث الفلسفي الذي يثير السؤال حول الشروط التي تجعل المعرفة الحقة ممكنة، ويؤكد أن جانبا من الفلسفة الحديثة قد تولد وتطور من كانط في شكل تحليل للحقيقة.
يرى فوكو أنه يوجد في الفلسفة الحديثة/المعاصرة سؤال جديد، من نمط آخر على صيغة أخرى من الاستفهام، وهي التي تولدت تحديداً في السؤال عن عصر التنوير، وفي النص حول الثورة، وهذا التراث النقدي الجديد يثير السؤال: ما آنيتنا؟ وما المجال الحالي للتجارب الممكنة؟ الأمر لا يتعلق بتحليله الحقيقة، بل بما يسميه فوكو أنطولوجيا الحاضر. أنطولوجيتنا نحن، وعلى هذا نحن أمام اختيارين - فيما يقول - الأول: أن نختار فلسفة نقدية تأتي إلينا على أنها فلسفة تحليلية تتناول الحقيقة بصفة عامة، وإما أن نفضل فكرا نقديا يأخذ شكلاً أنطولوجيا.[39]
عام 1983 سيتحدث في الكوليج دى فرانس - ريما لأول مرة عن موضوع يتعلق بموقف الفيلسوف من أحداث عصره، أو مجريات الحياة السياسية وقد ركز اهتمامه على موقف إيمانويل كانط من هذه المسألة بخاصة، وحلل نصه الصعب والغامض ما التنوير؟ وهو يعدّه أول نص في تاريخ الفلسفة يثير مشكلة الساعة ويعدّ الحاضر جديراً بالتأمل الفلسفي، بتفكير الفيلسوف[40] يرى فوكو في نص كانط عن التنوير نوعاً آخر من الأسئلة في مجال التفكير الفلسفي إذ يثير النص مسألة الغائية الكامنة في سياق التاريخ، فالمسألة المقدّمة لأول مرة هي مسألة الحاضر، أي السؤال عن الآنية: ما الذي يحدث اليوم؟ وماذا يحدث الآن؟ وما الآن الذي نوجد نحن وغيرنا فيه؟ إن السؤال الذي ألزم كانط الإجابة يتعلق بهوية هذا الحاضر. وقبل كل شيء بتحديد عنصر معين من الحاضر لابد من التعرف إليه وتميزه بين العناصر الأخرى، حتى يصبح السؤال: ما الذي يشكل في الحاضر الآن، المعنى، تفكير فلسفي ما؟ إن الجواب الذي يحاول أن يقدمه كانط - فيما يبين فوكو - يعمد إلى بيان الميزة التي يحملها هذا العنصر، والتي تجعل منه المؤشر لسياق يضم الفكر والمعرفة والفلسفة.
يقول: “إننا نلمح في نص كانط مسألة الحاضر على أنه حدث فلسفي ينتمي إليه الفيلسوف الذي يتحدث عنه، فنحن نشاهد في نص التنوير - لأول مرة - الفلسفة تعمل على صياغة أشكالية لآنيتها النظرية، فهي تستنطق هذه الآنية على أنها حدث لابد من الإفصاح عن معناه وعن قيمته وعن تفرده الفلسفي”[41]. ومن هنا يرى فرانسوا إيوالد في دراسته بالمجلة الأدبية الفرنسية الماجازين ليترير “نهاية عالم” في العدد المخصص لفوكو 207 مايو 1984 أن عمل فوكو هو تطبيق للشعار الذي أطلقه كانط على عصر التنوير “لتكن لديك الشجاعة في استخدام عقلك بنفسك”[42] هذا يعني أننا نرى مع نص كانط ظهور صيغة جديدة في إثارة مسألة الحداثة. إذ نشهد في مسألة عصر التنوير وفق فوكو أولى المظاهر لمولد طريقة معينة في تعاطي الفلسفة، لأن من أهم وظائف الفلسفة الحديثة تساؤلها عن آنيتها [43].
يتتبع فوكو بمنهجه الجينالوجي مسألة الحداثة، ويشدد على أن كانط لم ينس فيما بعد المسألة المتعلقة بالتنوير، التي عالجها 1784 حين أجاب عن سؤال قُدّم إليه من الخارج، فهو يعيد محاولة الإجابة عنه ضمن ما يقوله عن حدث لم ينفك يتساءل عن ذاته، يعني الثورة الفرنسية، ففي سنة 1897 سيعطي كانط إجابة ما يمكن أن نعدّه تتمة لنص 1784 سيجيب عن سؤال آخر أثارته الأحداث هذا السؤال هو “ما الثورة”؟
المهم في الثورة ليس حدث الثورة ذاته، بل ما يدور في أذهان من لا يقومون بها أو، على الأقل، من ليسوا بالقائمين الرئيسين بها. المهم هو العلاقة بين هؤلاء وهذه الثورة، ليسوا من أعضائها الفاعلين. فالحماس للثورة بحسب كانط، هو المؤشر لتأهب يظهر بصفة مستمرة في مظهرين: أولاً في حق كل الشعوب في أن تهب نفسها الدستور السياسي الذي ترتضيه، ثم ثانيا: في المبدأ الذي يتفق مع الأخلاق والحق بأن تتمتع الإنسانية بدستور سياسي شامل يجنب من وجهة نظر هذه المبادئ ذاتها كل حرب هجومية [44].
إن الدستور السياسي الذي اختاره الشعب بمحض إرادته والدستور الشامل الذي يجنب الحرب، هو مسار عصر التنوير، كما يرى كانط؛ أي إن الثورة هي بالفعل وفي الوقت نفسه التتويج والتواصل لعصر التنوير، وفي هذا الإطار يصبح عصر التنوير والثورة من الأحداث التي لا يمكن نسيانها. دعونا نتوقف أمام فقرة يستشهد بها فوكو.
كتب كانط في نص مهم نستسمح القارئ في إيراده على الرغم من طوله يقول “أؤكد أني أستطيع التنبؤ للجنس البشري، بل من خلال الظواهر وما أستشفه من علاقات في عصرنا - بأن الجنس البشري سوف يصل إلى هذه الغاية، أي إنه سيبلغ حالة تجعل الناس قادرين على تبني الدستور الذي يريدون والدستور الذي يجنب الحرب الهجومية، بحيث تصبح هذه المكاسب في مأمن من كل مناقضة، وظاهرة كهذه لا يمكن أن تنسى في تاريخ الإنسانية؛ لأنها تبرز في الطبيعة الإنسانية تأهباً وملكة في الإقبال على التقدم لا يمكن لأي سياسة مهما بلغت من قوة الدهاء أن تنتزعها من مجرى الأحداث السابق. فالطبيعة والحرية، إن اجتمعا في فكر الإنسان بحسب مبادئ الحق الكامنة فيه يصبحان وحدهما القادرين على تقرير هذا الأمر حتى وإن لم يكن ذلك إلا في صيغة غير محددة، ووبوصفه حدثاً عارضاً. ولكن وإذا لم يكن الهدف المطلوب من وراء هذا الحدث قد تم الوصول إليه، أي حتى وإن فشلت في ما بعد الثورة أو الإصلاح الذي شمل دستور الشعب، وإذا سقط كل شيء في الأخدود السابق، كما تنبأ بذلك بعض السياسيين، فإن تنبؤنا الفلسفي لن يفقد شيئا من قوته، إذ إن هذا الحديث هو من الأهمية وعلى درجة من الارتباط بمصالح البشرية، ومن تأثير واسع في كل أجزاء العالم ما يجعله يعود، وجوباً، إلى ذاكرة الشعب حالما تعود الظروف الملائمة”.[45]
ويبين فوكو بعد تحليله، أننا مع نصي كانط؛ نقف على موضع الأصل وعلى نقطة بداية سلسلة من الأسئلة الفلسفية، فهذان السؤالان: ما عصر التنوير؟ وما الثورة؟ شكلان لسؤال كانط حول آنيته ذاتها. وهما السؤلان اللذان لم ينفكا يترددان على جزء كبير من فلسفة القرن التاسع عشر، إن لم يكن على كل الفلسفة الحديثة. وما نريد التأكيد عليه، وهو المهم في نظر فوكو، والذي شغله بهذين النصين؛ هو أن عصر التنوير بوصفه حدثاً متفرداً دشن الحداثة الأوربية وسياقاً مستمراً يبرز في تاريخ العقل وضمن أشكال العقلانية والتقنية وفي عملية تأسيسها ضمن استقلالية المعرفة وسلطتها. إن عصر التنوير - فيما يرى- لا يبقى إذن مجرد مرحلة في تاريخ الأفكار؛ بل مسألة فلسفية مدونة في فكرنا منذ القرن الثامن عشر[46] والوجه الثاني للآنية الذي وجه كانط، الثورة على أنها حدث، ثم أيضا قطيعة وتحول في التاريخ.
ويمكن القول إن سبباً من أهم أسباب توقف فوكو أمام عمل كانط عن التنوير هو أن كانط يمتد بالنقد إلى السلطة ويتناول تلك الإشكالية التي شغل بها فوكو نفسه وهي المعرفة والسلطة. ويتضح هذا بجلاء لدى كانط في قوله الذي يتكرر كثيراً اليوم “إن التنوير خروج الإنسان من حالة القصور التي يبقى هو المسؤول عن وجوده فيها. والقصور هو حالة العجز عن استخدام الفكر عند الإنسان خارج قيادة الآخرين. والإنسان القاصر مسؤول عن قصوره، لأن العلة في ذلك ليست في غياب الفكر وإنما في انعدام القدرة على اتخاذ القرار وفقدان الشجاعة على ممارسته، من دون قيادة الآخرين، لتكن لك تلك الشجاعة على استخدام فكرك بنفسك: ذلك هو شعار عصر التنوير.[47]
ويرجع كانط سبب حالة القصور إلى السلطة التي تقابل العقل والحرية والتنوير؛ التي تمارس على الأفراد. يقول: “إن الأغلبية الكبيرة من الناس تعدّ تلك الخطوة نحو الرشد عظيمة الخطر فضلاً عن أنها أمر مرهق. يساعدهم على القبول بحالة القصور هذه أولئك الذين آلوا على أنفسهم ممارسة سلطة لا تطال على الأنسانية أما بالنسبة للتنوير؛ فلا شيء مطلوب غير الحرية بمعناها الأكثر براءة، أي تلك التي تقبل على استخدام علني للعقل في كل الميادين يقول: “إن الاستخدام العام لعقلنا لابد أن يكون حراً في جميع الحالات، وهو الذي يستطيع وحده أن يأتي بالتنوير إلى البشر”[48].
ويمكن القول إن هذا الدرس الفوكووي حول كانط وهو من أهم دروسه الأخيرة؛ لا يعبر عن فكر كانط وأحوال عصره فقط؛ بل يعبر أيضا عن فكر فوكو وفلسفته كما يعبر عن الأوضاع الفرنسية الحالية”. إن ميشيل فوكو قد جسد في شخصيته هذين التيارين الفلسفيين الذي افتتحهما كانط؛ وبالتالي فقد جسد صورتين للفيلسوف: صورة الفيلسوف الذي يفكر في المسائل المعرفية والنظرية الكبرى وفي مشكلة الحقيقة، وصورة الفيلسوف المنخرط في أحداث عصره وقضاياه، كما يقول جهاد كاظم، فهو في مشروعه المعرفي الأساسي قد حاول تجديد الإبستمولوجيا الفرنسية من بعد جاستون وباشلار وجورج كانغيلم وحاول تغيير مفاهيم تاريخ الأفكار وكيفية دراسة الماضي. ومن هنا كان وفياً لكانط ولغته الفلسفية كما يتضح في كتابه “الكلمات والأشياء” و”أركيولوجيا المعرفة” هنا استطاع أن يقدم للعلوم الإنسانية الحديثة دليلها النظري والمنهجي. إن تأثير كانط واضح في هذين الكتابين ويستشهد بقول جان بياجيه عن فوكو إن كانط جاء لكي يوقظنا من سباتنا الدوجماطيقي الثاني.[49]
ويناقش بعضهم العلاقة بين فوكو وكانط، وإلى أي مدى يصح اعتبار فوكو كانطياً نقدياً. ويميل هؤلاء إلى التشكيك في نقدية صاحب “الكلمات والأشياء” “وأركولوجيا المعرفة” وذلك بسبب إلغائه الذات ونزعته اللإنسانية. وتحت عنوان عن هوية الفكر النقدي عند فوكو.. يرى الدواي أن مشروعه الفكري على ما يبدو أقرب ما يكون إلى النزعة النقدية منه إلى أية فلسفة أخرى، وإن كان يمكن النظر إليه كنوع من التاريخ النقدي للفكر والمعرفة. ومن هنا يتساءل إلى أي تيار نقدي ينتمي هذا المشروع؟ لقد قيل إنه يلتقي الفلسفة النقدية عند كانط. إلا أنه كما يرى إذا صح الحديث عن التقاء بين الفيلسوفين فإن ذلك يكون فقط في بعض القضايا الثانوية.[50] وإن كان لم يحدد لنا هذه القضايا الثانوية التي يلتقون عندها. ويرى أننا أمام مشروع نقدي لا علاقة له تماما بفلسفة كانط النقدية. ولا حتى ببعض الاتجاهات النقدية الحديثة هو بالأحرى؛ مشروع نقدي يواصل فلسفة نيتشه ويجددها. السابق، ص177-178.وهذا ما يؤكده كريستوفر نوريس حينما أوضح أن نزعة الشك المعرفية عند فوكو تقوده إلى أن يساوي المعرفة بالقوة ومن ثم اعتبار كل أشكال التقدم التنويري علامات على تعقد متزايد في التكنولوجيا المطبقة للضبط الاجتماعي.
ثالثاً: ليوتار والنقد الكانطي التاريخي السياسي.
لقد أولى جان فرانسوا ليوتار أهتماماً كبيراً بفلسفة كانط؛ خصص له إحدى كتبه وأكثر من دراسة. وسيطر على تفكيره في معظم أعماله، وأهمها وهو كتاب “الاختلافيThe differant “، الذي كتبه في نفس الفترة التي شغل فيها بالنقد التاريخي والسياسي عند كانط.وكتب فيها كتاب “الحماسة”. وقد شغل هذا الاهتمام عدد من الباحثين اللذين تباينت أرائهم في كانطية ليوتار.
ونجد موقفين مختلفين من كانطية ليوتار: الأول لدى كل من: كريستوفر وانت وأندزجي كليموفسكي؛ اللذين يريان أن الاهتمامات الكامنة في فلسفة ليوتار ترجع إلى سؤالين كانطيين متعلقين بالأساس على ماذا تحمل الأخلاق والمعرفة؟ والحرية؟ ويري أن ليوتار يقدم نقداً لما بعد الرواية في الحداثة. فيتفق ليوتار مع قول كانط: “إن الفلسفة لا يمكن أن تعلم، على أكثر تقدير يمكن للمرء أن يتعلم كيف يتفلسف” ومن ثم يظل الحكم هو المفتاح الرئيس، ويشير إلى مشكلة: كيف يمكن أن تمثل الشمول الكلي التاريخي؟[51].
بينما يرى كريستوفر نوريس في المقابل أن ليوتار يعكس نزعة سائدة بين مفكري ما بعد الحداثة؛ تستغل مفهوم كانط عن السامي الجليلSublime أو العلاقة المتوازنة بين الأخلاق وعلم الجمال إلى درجة تتجاوز كل حد يسمح به ما ورد في كتاب “نقد ملكة الجمال”. ويوضح نوريس لماذا تولى ما بعد الحداثة أهمية كبيرة لهذا المفهوم، وذلك بسبب كونه يتمظهر بالنسبة لليوتار عند ذلك الحد الفاصل بين اللغة والتمثل، حيث يصطدم الفكر مع تلك التناقضات العصية على الحل ويجبر بالتالي على الاعتراف بافتقاره لمقياس عام يؤسس خطابه وخطابات أخرى[52] وكتب نوريس في الفصل الرابع من كتابه “نظرية لا نقدية” ضد ليوتار تحت عنوان ذي دلالة “من السامي إلى العبثي” إذ يخصص الفقرة الأولى عن الكذب وألعاب اللغة، والثانية عن ليوتار مناقشا كانط، وسوف نعرض ونناقش هذا الموقف الثاني بعد تحليل كانطية ليوتار.
يمكن أن نتبين فلسفة كانط بوضوح في العديد من مؤلفات ليوتار؛ الذي أولى للنقد الكانطي عامة، والنقد الجمالي خاصة اهتماما كبيرا، ومع ذلك يكتفي معظم الباحثين في كانطية ليوتار بالاعتماد على كتاب واحد لليوتار هو الاختلافي The Differend ويشير بعضهم أحيانا إلى دراسته Just Gaming وسنركز من جانبنا بالإضافة إلى هذين العملين وقبلهما على كتاب ليوتار عن النقد الكانطي للتاريخ، أو الحماسةL’Enthausiasme وقبل أن نعرض لهذا العمل سنقدم إشارتين موجزتين لتعامله مع كانط في عمله المبكر الفينومينولوجيا وعمله ذي الشهرة الكبيرة الوضع ما بعد الحداثي La Condition Post - moderne.
ويناقش ليوتار في كتابه الفينومينولوجيا La Phenominoloige العلاقة بين كانط وهوسرل ؛ موضحاً أثر الأول في الثاني. ويتكون العمل من مقدمة وخاتمة وقسمين الأول من فصل واحد هو علم الماهيات، وهو ما يهمنا بشكل أساسي والثاني من أربعة فصول يتناول على التوالي وضع العلاقة، والفينومينولوجيا وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والتاريخ، ثم خاتمة. يبين ليوتار في المقدمة أن هوسرل بعث من جديد حلم ديكارت في الوصول إلى رياضيات شاملة، وهذه الرياضيات هي فلسفة، وفلسفة بعد كانطية، لأنها تسعى إلى تجنب المنهجية الميتافيزيقية.. لقد كان كانط يبحث عن الشروط القبلية للمعرفة لكن هذه القبلية كان تستبق الحكم على النتيجة. أما الفينومينولوجيا فترفض هذا الموقف وهنا يكمن سر أسلوبها الاستفهامي وراديكاليتها[53]. ويبين هوسرل في “المبحث المنطقي” السادس أن الكانطيين الجدد يرون أن هذا يعني العودة إلى نظرية كانط القائلة إن المعنى المجرد من دون حدس يظل فارغا.
ويرى أن هوسرل يرفض المثالية القبلية الكانطية؛ لأنها لا تفسر إلا الشروط القبلية للمعرفة الصرفة الرياضيات - الفيزياء البحتة ولا تفسر الشروط الحقيقية للمعرفة الواقعية. ويؤكد أن الذاتية الكانطية ليست سوى مجموعة من الشروط التي تنظم معرفة كل موضوع ممكن بعامة، أما الأنا الواقعي فيعاد إلى مستوى المحسوس بوصفه موضوعاً ولهذا يتهم هوسرل كانط بالنفسانية.نوريس ص17
ويوضح ليوتار تحت عنوان “الأنا الخالص والأنا السيكولوجية والذات الكانطية”. أن رفض هوسرل أن يكون الأنا المتعالي هو الأنا السيكولوجي يجعلنا نجد أنفسنا أمام الذات الكانطية التي تفترض العلاقة بين المعرفة والأشياء بل بينها وبين القوة العارفة؟ إن الكثير من أقوال هوسرل يوحي بهذا التفسير ذلك أن هوسرل يبين أن الطبيعة ليست ممكنة إلا عن طريق الأنا ويستند النقاد على ذلك ليبينوا أن الموضوعية بالنسبة لهوسرل كما بالنسبة إلى كانط؛ تعود إلى مجموعة هذه الشروط وأن القضية الظاهراتية الكبرى هي قضية “النقد” بالذات.
إن هذا الاهتمام ببيان العلاقة بين كانط وهوسرل؛ يوضح فهم ليوتار العميق واهتمامه المبكر بالفلسفة الكانطية الذي سيظهر في أعماله اللاحقة وتوظيفه المفاهيم الكانطية في إطار توجهاته ما بعد الحداثية. ويظهر ذلك في كتابه “الوضع ما بعد الحداثى”. والذي يتناول فيه وضع المجتمعات الأكثر تطوراً، وهو يستخدم كلمة “ما بعد الحداثة” لتسمية هذا الوضع، لتحديد حالة ثقافتنا في أعقاب التحولات التي غيرت - كما يقول - قواعد اللعب منذ نهاية القرن التاسع عشر.[54]
ولتوضيح مشروعية المعرفة؛ يستعين ليوتار بنقد العقل العملي إذ لم تعد المعرفة هي الذات، بل هي في خدمة الذات، ومشروعيتها الوحيدة هي أنها تسمح للأخلاق بأن تصبح واقعا. يقدم هذا علاقة بين المعرفة وبين المجتمع والدولة هي في الأساس علاقة الوسائل بالغاية.. وهو يعيد من جديد الوظيفة النقدية للمعرفة. لكن تبقى حقيقة أن المعرفة ليس لها مشروعية نهائية خارج إطار خدمة الأهداف التي استشفتها الذات العملية، أي الجماعة البشرية المستقلة الوضع ما بعد ص27.
يصف لنا ليوتار في بداية كتابه “الحماسة: النقد الكانطي للتاريخ”؛ مدى اهتمامه بفلسفة كانط إذ استعان بهذا العمل في محاضرة عن “السياسي” ألقاها في نهاية 1981 بمركز الأبحاث الفلسفية بباريس، ونشر جزءاً منها تحت عنوان “مقدمه لدراسة المسألة السياسة وفقا لكانط،” 1981 كما نشرها في كتاب” أبحاث في الفلسفة واللغة” 1983. “تحت عنوان “الأرخبيل والعلامة: حول الفكر الكانطي من التاريخي / السياسي” ويعرض كتابه “la Differned 1984 بعض جوانب الموضوع خاصة فيما كتبه تحت عنوان “ملاحظات كانط”. وقد أعاد ليوتار النظر في هذا العمل عن كانط في وقت متزامن مع أعداد كتابه “الاختلافي” 1980 / 1981 لكي يبلور فيه مضامين ما بعد الحداثة في “نقد ملكة الحكم” لكانط، خاصة تصوره للجليل[55].
ويتناول ليوتار على امتداد خمسة فصول في كتابه عن كانط؛ النقدي نظير السياسي، الأرخبيل، ما يكشف عن نفسه في الحماسة، يقدم منهجين وطريقة لصياغة التاريخي / السياسي، ما يكشف عن نفسه في الشعور من عصرنا، ويمهد بخلاصة للموضوع ويمكن تحديد خلاصة أفكاره على النحو الآتي.
- إن هناك غياب عقيدة الحق في النصوص الكانطية المتعلقة بالتاريخي السياسي. ولماذا هذا الغياب وإن هناك قرابة بين النقد والتاريخي السياسي، إذ يجب في كليهما إصدار الأحكام من دون أن تكون لديهما قاعدة، خلاف القانون السياسي؛ الذي يملك قاعدة الحق من ناحية المبدأ؟. ويرى ليوتار أنه كما أن النقد لا يقود إلى العقيدة بل إلى النقد كذلك يجب أن يكون الأمر في التاريخي السياسي؛ فبينهما اتفاق مماثلة، فالنقد قد يكون هو السياسي في عالم الجمل الفلسفية، والسياسي قد يكون هو النقد في عالم الجمل الاجتماعية التاريخية..
- يكتب كانط نفسه بوصفه ناقداً في التاريخي / السياسي إذ يحدد شرعية هذه الجمل التي تقدم هذا العالم، ويقترح علاقات بينها تستعاد عن طريقها وحدة المسألة التاريخية السياسية وإن كانت وحدة غير محددة.
- إن فلسفة السياسي، أي النقد الحر أو التأمل الحر في المسألة السياسية تبدو هي نفسها سياسية؛ فهي تميز بين عائلات الجمل اللامتجانسة التي تقدم عالم السياسة وتستدل على طريقها بوساطة “الممرات” التي يدل بعضها على بعض مثال الحماسة كما يحلله كانط عام 1789.
فهو في هذا العمل كما يتضح مما سبق يحدد أولا المماثلة والاتفاق بين النقد في المجال الفلسفي والمجال التاريخي والسياسي، ثم يحدد النقد واستقلال موضوع كل ملكة من ملكات العقل وإمكان وجود علاقات ممرات بينها، ويوضح تطبيق ذلك على التاريخي السياسي.[56]
ويتضح توجه عمل ليوتار في هامش مهم يقول فيه إنه يقوم باتباع درس الكتابين الثاني والثالث من النقد، ودروس الأبحاث التاريخية السياسية، ويمد نطاق البحث لموضوعات معرفية لا يمكن - باعتراف كانط نفسه - أن تحل طبقا لأسلوب الأمثلة والمخططات. ويرى هذه التعبيرات في نطاق إشكال الأساس والأصل، وإن الأهمية التي يوليها كانط للحكم هي مؤشر على انقلاب مسألة الأصل لصالح مسألة الغايات التي يقدمها كانط تحت اسم أفكار. إذا نظر إليها من هذه الزاوية؛ فإنها تصبح كما لو أن ممرات بين مناطق من الشرعية. ولكي ندرك “الثورة” الكانطية في برنامجها غير المعلن؛ يتعين علينا أن نتمكن من تركيب هذه الممرات في جمل. إنها كما يبدو لي عند كانط كما يقول ليوتار، اللغة أو الموجود وهو يقوم بتحديد مختلف الأسر القانونية، هي اللغة النقدية وإن كانت دون قواعد، وهو يقوم بصياغة تركيبات الجمل المختلفة. من هذا الجانب تبدو “الإشكالية الكانطية” - كما يرى - أكثر سياسية من كونها قضائية.[57]
يحدد لنا ليوتار معياره في اختيار نصوص كانط السياسية فهذا الاختيار في حد ذاته اختيار سياسي، ومن هذه النصوص الخاصة بالقانون، عقيدة الحق العام التي لم ينظر إليها ضمن أعمال كانط السياسية. وهذا ما يوضحه لنا بل ريدنجز Bill Readings في كتابه Introducing lyotard فيرى أن قول بنجتون Bennington أن ليوتار يعد مفكراً سياسياً في الأساس قول صحيح، وهو يشترط كذلك وضع ليوتار في مكانه السياسي بجانب مكانته بوصفه مفكراً، بنفس القدر. إن ليوتار يطلب منا أن نفكر في السياسة وهو مطلب ليس سهلا، أن نفكر في السياسة حسبما يرى ليوتار معناه أن نضع فهمنا هذا المصطلح محل السؤال[58]. وأن الجملة الفلسفية عند كانط تتمثل بالجملة السياسية وذلك حين تكون نقدية أي ليست مذهبية. فالأخيرة، الجملة المذهبية أو النسقية تختلف عن الجملة النقدية في أنها تجد قاعدتها في النظام الذي تشير إليه فكرة النسق بوصفها عقيدة[59] ويعتمد في هذا على تحليل مقدمة نقد العقل الخالص.
إن كثيراً ما كان يرمز إليه كانط في رأي ليوتار للأداء النقدي على أنه يماثل أداء محكمة أو أداء القاضي، ومع ذلك فإن القاضي هنا لا يمكنه أن تكون له سلطة قضائية، إذ لا يوجد في حوزته كود لنظام قضائي ولا حتى مجموعة مرجعية من الأحكام السابقة تمكنه من إجراء تحقيقه أو صياغة منطوق حكمه بناء عليها، وبالتالي فعليه أن يضع هذا القانون داخل نطاق بحثه، بناء على وجهة النظر هذه تجد الفلسفة النقدية نفسها في ذات الوضع الذي يحتم على محكمة ما أن تعلن فيه: “هذه هي القضية” أو “هذه العبارة هي السليمة” أكثر مما هي في أي محكمة أخرى لا يكون في وسعها سوى تطبيق قاعدة تقيمية أقيمت سلفاً على أحد المعطيات الجديدة.[60]
يعرض ليوتار في بداية كتاب “الحماسة” نصاً في تقديم كانط لـ”نقد العقل الخالص”. يوضح لنا بالإضافة لمضمون وتاريخ أنساب كانط - كانطية ليوتار وسبب تسميته الفيلسوف المترحل وأن الفلسفة ترحال. يقول كانط: “في بادئ الأمر ظلت الدوجماطيقية تتحكم بشكل مستبد في الميتافيزيقا، وكان قانون هذا الاستبداد يحمل بصمات بربرية العصور القديمة، فيما بعد وبسبب حروب داخلية” ترتب على هذا الاستبداد، فوضى كاملة، وقام المتشككون - وهم نوع من البدو الرحل؛ الذين يمقتون أي نوع من الإقامة المستديمة فوق أرض واحدة - بقطع الرابط الاجتماعي”[61] ويعلق الفيلسوف الرحال على ذلك “أنها دعوة إلى العقل بأن يعاود مرة أخرى القيام بأكثر المهام المنوطة به صعوبة، ألا وهي معرفة الذات وتشكيل محكمة تمنحه الثقة في ادعاءته المشروعة. إن هذه المحكمة ليست - فيما يقول كانط - سوى نقد العقل الخالص.
ما بعد الحداثي بوصفه تحديداً كانطياً
يحدد ليوتار مهمة ما بعد الحداثى تحديداً كانطياً في أنها ليست تقديم واقع، بل اختراع تلميحات إلى ما يقبل الإدراك ولا يمكن تقديمه. وهو لا يتوقع أن تؤثر هذه المهمة في المصالحة الأخيرة بين ألعاب اللغة التي عرف كانط أنها تحت اسم الملكات، تفصل فيها بينها هوة. وأن يكون الوهم المتعالي هو الذي يأمل في الجمع الكلي بينها في وحدة حقيقية.[62]
إن قراءة ليوتار تعتم وبشكل جذري على هذا الجانب الوضعي أو الحياتي للأخلاق الكانطية عبر استغلالها مبدأ التسامي وتصويرها كنموذج للوسيط بين حقلين المعرفة والأفكار الباطنية إلى درجة تصبح معها مصالح كل منهما على طرفي نقيض، وبالتالي ينظر إلى الأوامر الأخلاقية وكأنها تصدر عن صوت ضمير غير منخرط إطلاقا بالهموم العملية للعالم الحقيقي. إن ليوتار باختصار يجعل كانط أقرب إلى كيركيجارد في كتابه “خوف ورعشة” منه إلى دوره بوصفه ممثلاً للاستقلالية التنويرية في قضايا الضمير الأخلاقي والسياسي والديني نوريس،ص116.
ويرجع نوريس أخطاء ليوتار لوقوعه تحت ما أطلق عليه: النزعة البرجماتية الجديدة ما بعد الحداثية. يقول: “مهما تكن العلاقات معقدة لدى كانط فإن الفهم والعقل العملي لا يمكن فصلهما. ليس على الأقل إلى درجة اعتبارهما كما يفعل ليوتار ينتميان إلى ألعاب لغوية اختلافية بشكل كلي بحيث يقعان خارج كل أمل بتوظيف واقعي يستند إلى أرضيات معرفية وتاريخية وسياسية - أخلاقية مشتركة. إن المشكلة مع الكثير من التنظيرات الراهنة سواء قدمت بروح ما بعد حداثية أو ما بعد بنيوية أو برجماتية جديدة؛ هي أنها تختزل كل الأنظمة الناطقة باسم الحقيقة إلى مجرد لعبة تمارس “خطابات” متنافسه خالية من أية ضمان أو مشروعية خارج ما تزودها إياه قواعد اللغة الشفوية الراهنة نوريس،ص94 إن ما تقدمه هذه القراءة ما بعد الحداثية للتسامي الكانطي؛ هي فيما يرى نوريس - نظرة من الشك المعرفي المتطرف إضافة إلى سيادة معزولة كلياً عن أسئلة المسؤولية أو المشروعية المنتمية للعالم الحقيقي نوريس،ص246.
رابعاً: دريدا، النقد المعرفي والالتزام الأخلاقي:
الفيلسوف الرابع الذي نتناول موقفه من كانط هو جاك دريدا1930-2004 صاحب الفلسفة التفكيكية، والذي تتميز فلسفته بأنها تمثل نحواً خاصاً داخل ما بعد الحداثة. تطلق عليه مارجريت روزا مصطلح “ما بعد الحداثة التفكيكية Deconstructionsit post - modernism وهي تطلق هذه التسمية اعتمادا على ما كتبه 1978 في دراسته “الحقيقة في التصوير” The Truth in Painting إذ ترى أن دريدا في هذا العمل يرهص بتوجيه ليوتار لما بعد الحداثة نحو تفكيك”ما ورائية النص”، وذلك في كتابه الوضع ما بعد الحداثى وإن كان دريدا نفسه يحترز من استخدام مصطلح ما بعد الحداثة.[63]
وتعتمد روزا في هذا التحليل على كرستوفر نوريس في دراسته المنعطف التفكيكي. لكن التفكيكية تثير اعتراضات بعضهم، فهي عندهم أقرب إلى الأدب منها إلى الفلسفة أو على الأقل تلغي المسافة بينها اعتمادا على اهتمامها بالنص والكتابة ومقابل هذه الانتقادات يؤكد دريدا حرصه على خصوصية الخطاب الفلسفي. كما يتضح في حوار له مع هنري رونس.[64]
يقترب دريدا من الأنطولوجيا والإبستمولوجيا من خلال مسألة إضافية هي الكتابة كنشاط واهتمام فلسفي، وهو يقرر “أنه لا يوجد شيء خارج النص” وهكذا يلفت انتباهنا إلى غياب حدود التمثل وينتج من ذلك مسألة مشتقة من كانط وهي كيف يحدث أن نتعرف إلى غياب الحدود[65] إن تحليل دريدا لكتاب كانط “نقد ملكة الحكم” في دراسته “الحقيقة في فن التصوير” يركز على فكرة الملحق والتكملة: “عند دريدا إن عدم الاتساق في كتابه “نقد ملكة الحكم “ كنتيجة لتطور الخيال الجامح عند كانط في أن الحصول على الحقيقة؛ هو أن تتحقق غاية الكتابة، غير أن هدف دريدا ليس تخطئة كانط أو حججه، بل بالأحرى، الظاهر الحتمي لهذه التناقضات، يخبر نص دريدا نفسه، ومن ثم تصبح المسألة تأكيد إمكانية الخطأ للذات، ولمن يتعرض لغايات الكتابة.[66]
وهناك من يدافع عن تفكيكية دريدا ويستنكر الفهم الخاطئ لها، كما نجد لدى صاحب “نظرية لا نقدية” الذي يتوقف عند اتهام يتكرر - غالبا من سيرل وهابرماس[67] - مؤداه أن التفكيكية هي مجرد “حقيبة بلاغية من الخداع” وتكنيك لإلغاء حدود الجنس الأدبية بين الفلسفة من جهة والشعر والأدب أو النقد الأدبي من جهة أخرى. وهو يستشهد - خلاف ذلك - بقول دريدا: “في كتاباتي لم تتدمر أو تتحدى أبداً قيمة الحقيقة وكل القيم المرتبطة بها ولكن فقط أعيد توظيفها ضمن سياقات أكبر قوة وأرحب وأغنى”.[68]
وفي هذه السياقات - وهذا ما يهمنا - بالنسبة لدريدا كما هي بالنسبة لكانط تمتد القضايا التفكيكية في حقل البحث الإبستمولوجي إلى مسائل ذات محتوى أخلاقي سياسي. فالتفكيكية ملتزمة على الرغم من كل شيء، أخلاقية، وهي ملتزمة بتلك القيم الموجودة في النقد التنويري[69] ونفس الدفاع نجده في كتاب نوريس “دريدا” الذي خصص أحد فصوله عن دريدا وكانط. وهو يرى أن من الخطأ النظر إلى التفكيكية وكأنها تؤسس بشكل مطلق لقطيعة مع خطاب النقد التنوير فقد: “عمل دريدا على جعل خطاب التنوير أكثر رديكالية مستجوباً “مثله اللامفكر بها، يقصد تناقضاته، في الوقت الذي ظل يحترم فيه أسسه النقدية الباحثة عن الحقيقة.[70]
ويربط كرستوفر نوريس بين كانط ودريدا، فكلاهما تعرض للهجوم، إن عمل دريدا المعترف به على الرغم من الحرب المفتوحة، علامة على هذا العنف الذي يثيره أي تحد لبروتكولات النقاش العقلي. وهنا نتذكر هجوم كانط على معلمي أسرار الدين وهؤلاء اللذين تبنوا “نغمة رؤيوية” ليعطلوا برلمان العقل[71] وجريمتهم الأسوأ من وجهة نظر كانط، هي التشويش الحادث بالتالي بين حقائق قابلة للسؤال المتعقل وحقائق قانون أخلاقي. إن معلمي الأسرار الدينية يأثمون في حق العقل والأخلاق والدين على السواء حين يتسببون في انهيار مصطلحات هذا التمييز الحاسم كما يصيغه دريدا ملخصاً كانط، إنهم لا يميزون العقل التأملي المحض من العقل العملي المحض ويظنون أنهم يعرفون ما يكون قابلا للتفكير فيه كلية، ويصلون عبر الوجدان وحده إلى قوانين شاملة تخص العقل العملي.[72]
ويرى نوريس في الفصل الذي عقده عن دريدا وكانط أن فيلسوف التفكيكية مثل كانط؛ لا ينكر وجود عالم في الخارج، وأن اللغة يمكنها التعامل مع هذا العالم. لكن ما ينكره هو فكرة الواقعية المتعالية عند كانط التي تفرض تصوراً متشيئاً للإحالة Reference وبهذا فإنه يغلق تلك الأبعاد للتبادل المنتج بين العالم والنص. ويستشهد نوريس بفقرة من كتاب دريدا “التشتت” ””Disseminatin ص 43 توضح الفقرة هذه النقطة يقول دريدا: “في كل مرة يحاول فيها المرء أن يربط الكتابة بمصدر توكيد خارجي أو أن يحاول القيام بقطيعة مع المثالية بصورة متعجلة فإنه قد يضطر إلى تجاهل بعض الاكتشافات النظرية الحديثة... وفي كل مرة يحدث فيها ذلك؛ فإن المرء سوف يعود بكل تأكيد إلى المثالية بشكل ما لا يمكنه إلا أن يرتبط بها خاصة عن طريق التجريبية أو الصورية. ومثل كانط فإن دريدا يرى كيف تختلط هذه المواقف إلى حد يستحيل معه تميز الميتافيزيقا التجريبية من نقيضها المثالي. ويصر مثل كانط على أن مثل تلك التداخلات يمكن تحاشيها عن طريق اهتمام شديد بالمشكلات التي تحيط بعملية الوصول إلى الحقيقة عن طريق تمثلنا لها”.[73]
ويدافع نوريس عن دريدا، الذي كان منغمساً إلى حد كبير في كل أشكالات ما بعد الكانطية التي تتعلق بالعقل والتمثل. ويرى أن القول برفض دريدا كل أنواع النقد الإبستمولوجي وتعامله مع الفلسفة على أنها مجرد نوع من أنواع الكتابة، وعدم اهتمامه بشكل محدد بمشكلات المعرفة والحقيقة، ليس مسألة بسيطة كما أوحى بذلك ريتشارد رورتيRoty، فنحن لا يمكننا أن ننكر أنه يفكر في هذه القضايا على أنها قد قُدّمت على النحو الذي تتخلص فيه من المشكلات الجادة في التأسيس النصي أو المدون للبراهين الفلسفية. وأنه إذا كان قد أكد أن الفلسفة هي “نوع من أنواع الكتابة” لكي يجعل هذه المقولة هي الأكثر قوة وفاعلية، فإن هذا لا يعني أنه قد ظهر في أفق” ما بعد - فلسفي” وذي نزعة نصية خالصة.
يلتزم دريدا كما يظهر في كثير من تأكيداته بالنقد الكانطي التنويري وقد قدم في مقالته “الكوجيتو وتاريخ الجنون” نقداً لكتاب فوكو “الجنون والحضارة” وفيه يرى أن ما قدمه فوكو ينطوي على تناقضات تساوي بالفعل شكلاً من سوء النية الفكري. وفي نهاية مقالته يشدد على ضرورة الوفاء بالعهد مع تقاليد النقد التنويري الكانطي.
السؤال المهم الذي شغلنا وسعينا لمناقشته وقد أشرنا إليه على امتداد صفحات الدراسة هو أي الجوانب في فلسفة كانط توقف أمامها فلاسفة ما بعد الحداثة؟ لا نود أن نكرر ما سبق أن ذكرناه من أن النقد هو الأساس الذي شغلهم وانطلقوا منه ودارت أبحاثهم حوله بحيث اكتشفوا فيه جذور الاختلاف بين مجالات قوى العقل المختلفة، وإن كانط – وهذا هو المهم – لم يتوقف عند نقد المعرفة بل إن النقد يشمل مجالات متعددة أهمها المجال التاريخي السياسي، لقد وجد كل من دولوز وليوتار ودريدا في نقد ملكة الحكم فلسفة كانط النقدية؛ عالجها دولوز بشكل تاريخي تحليلي وقدم هذا النقد لليوتار وسيلة لتطوير فلسفته واتخاذها نحواً لغوياً جديداً كما يظهر في الاختلافي والنقد الكانطي للتاريخ واعتمد عليها ميشيل فوكو في مجال السياسة والثورة.
في مقابل الاهتمامات الأكاديمية التي توقفت أمام فلسفة كانط النظرية الإبستمولوجيا، وفلسفته العملية، الأخلاق والتطرق أحياناً إلى إسهاماته في مجال فلسفة الجمال وفلسفة الدين فإن فلاسفة ما بعد الحداثة وجدوا في النقد الكانطي سبيلاً للاختلاف. بحيث نستطيع أن نؤكد أن مقابل القراءات المختلفة التي سبق وأن تناولت فلسفة كانط من تحليلية وماركسية وبنيوية ثمة قراءة متميزة ما بعد حداثية للفلسفة الكانطية. وهذه القراءة توضح جوانب مهمة في فلسفته لم تتطرق إليها غيرها من قراءات بالإضافة إلى أنها تؤكد أيضاً أن دور فلسفة كانط ومكانتها لا يقلان عن دور فلسفة نيتشه ومكانتها في فلسفة ما بعد الحداثة.
[1] *ـ باحث في الفلسفة وأستاذ في جامعة القاهرة ـ جمهورية مصر العربية.
[2]- الدكتور زكي نجيب محمود: موقف من الميتافيزيقا، دار الشروق، القاهرة، ط 3 عام 1987 ص 42. وهو يؤكد ذلك في صفحات متعددة يقول: الميتافيزيقا عنده - يقصد كانط - تحليل للقضايا العلمية «ص 52، وأيضا» الفلسفة النقدية - أي التحليلية. ويضيف أننا إذ نقول عن فلسفة كانط إنها « نقدية « فإنما نعني بذلك أنها تحليلية …وحين نصف فلسفته بأنها « ترنسندتنالية « فإنما نعني أنها تتناول القضية الكلية من القضايا التي يستخدمها الناس في علومهم وحياتهم اليومية فتتوغل في باطنها لتستخرج ما يكمن فيها من مبادئ عقلية.
[3]- المصدر السابق ص 48 وانظر تقديم اير لكتاب كورنر عن كانط S. Konar, Kant, a pelican book, London 1955.
[4]- انظر في ذلك Kant Uud Der Begund Der Ethik Berlem 1877 Reeinen Willens 1954 نقلا عن عادل ضاهر: كانط والماركسية، مجلة الفكر العربى، بيروت العدد 48 عام 1987، ص 159.
[5]- انظر كتابيه Kant Und Der Soyialismus 1955, Kant, Fichte, Hegek Und Der Sogialismus 1920 نقلا عن عادل ضاهر، المصدر السابق.
[6]- د. عادل ظاهر، المصدر السابق ص 197.
[7]- المصدر السابق، ص 194.
[8]- محمد الشيخ - ياسر الطائري: مقاربات في الحداثة وما بعد الحداثة؛ حوارات منتقاة من الفكر الألماني المعاصر، دار الطليعة، بيروت 1966، ص 38.
[9]- عبدالرازق الداوى: موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر دار الطليعة، بيروت، 1992، ص 81 - 90.
[10]- أنظر جان جرواند J. Jrondie، كانط، ص 60 -71 نقلا عن على حرب نقد النص، المركز الثقافي العربي، بيروت 1993: ص 224.
[11]- كرستوفر نوريس: نظرية لا نقدية ترجمة د. عابد إسماعيل، دار الكنوز الأدبية، بيروت 199 ص 208، 228.
[12]- المصدر السابق، ص 240.
[13]- انظر أثر نيتشه في فلاسفة ما بعد الحداثة في دراستنا عن نيتشه، مجلة أوراق فلسفية، العدد الأول القاهرة، ديسمبر 2000.
[14]- راجع التعريفات المختلفة لفلسفة ما بعد الحداثة في كتاب مارجريت روز: ما بعد الحداثة، ترجمة أحمد الشامي، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة 1994، وكذلك العدد الخاص من قضايا فكرية حول الفكر العربي بين العولمة الحداثة وما بعد الحداثة. العدد التاسع عشر والعشرون أكتوبر 1999.
[15]- Carl Nicholen: Postmoderism Feminism And Eduction, The Need For Solierity Eduiccation Thery, Summer 1989, Vol - N 3 P - 197 محمد الشيخ - ياسر الطائري مقاربات في الحداثة، وما بعد الحداثة، دار الطليعة، بيروت 1996، ص 16.
[16]- كتب ديفيد لاين كتابه ما بعد الحداثةPost - Modernity وصدر عن مطابع الجامعة المفتوحة باكنجم 1999 وترجم خميس بوغرازة فصل: ما بعد الحداثة: تاريخ فكره، مجلة نزوى العدد 26 إبريل 2001 ص 66.
[17]- انظر هابرماس «القول الفلسفي للحداثة، ترجمة فاطمة الجيوشي، وزارة الثقافة السورية دمشق، 1988، وانظر أيضا القسم الأول من كتاب هابرماس: المعرفة والمصلحة، ترجمة حسن صقر، المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة 2002، ص 13 - 28.
[18]- Gianni Vattimo: The End of Modernity Cambridge 1988 وقد ظهر هذا العمل بعد مائة عام من الطبعة الأصلية لكتاب نيتشه إرادة القوة The Will to Power - انظر مادون ساروب المصدر السابق.
[19]- ديفيد لاين: المصدر السابق، ص 37.
[20]- هيدجر: كانط: ما الشيء، ترجمة إسماعيل المصدق ن المنظمة العربية للترجمة، بيروت.
[21]- انظر كرستوفر وانت واندزكى كلموفسكى، الصفحات 166 - 168، وعبدالرازق الداوى ص 34 وعن مؤلفات هيدجر عن كانط انظر د. عبدالغفار مكاوي خاصة دراسته في تقديم كتاب مارتن هيدجر، نداء الحقيقة، دار الثقافة للطباعة والنشر، بالقاهرة 1977، صفحات 231 / 241 / 243.
[22]- جاكلين رونس: الفكر الأخلاقي المعاصر، ترجمة عادل العوا، بيروت 2001.
[23]- راجع الاهتمام الذي أولاه ريكور لكانط خاصة في الجزء الأول من كتابه الذات عينها كآخر، ترجمة جورج زيناتي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت.
[24]- خالد قطب: نقد ذكورية العقل في فلسفة كانط، أوراق فلسفية، العدد 11 ص 388-404.
[25]- انظر دراسة مطاع صفدي: الفلسفة إبداع المفاهيم، مجلة الفكر العربى المعاصر، وفي مقدمة ترجمة كتاب دولوز وجتارى: ما الفلسفة؟، المركز الثقافى العربى، بيروت 1997 ص 5 - 25 وأيضا دراسة الحسين سحبان ما الفلسفة؟ مجلة الحكمة، الرباط، العدد الأول. راجع كتاب الان باديو Alain Bediau عن دولوز، هاشيت Hachette, Paris 1997، الذي يحدد الوضعية التي تحتلها فلسفة دولوز في الفكر الفلسفي المعاصر وما أثارته من جدل وذلك لخصوصية السؤال الفلسفي عنده. انظر إبراهيم عمايريه: دولوز تأليف باديو، مجلة أوراق فلسفية، القاهرة، العدد 2 - 3 ص 124 - 128 ويهمنا الأشارة إلى أهتمام دولوز بالفلسفة العربية الإسلامية خاصة ابن سينا، راجع دراسة أحمد العلمي: دولوز وإبن سينا، مجلة مدارات فلسفية، المغرب، العدد الثاني، مايو 1999 ص 81 - 95 وموقفه المؤيد للثورة الفلسطينية الذي يختلف عن موقف فوكو المؤيد لإسرائيل. راجع: د. أنور مغيث: سياسات الرغبة، فلسفة دولوز السياسية، أوراق فلسفية، العدد 2 - 3 ص 13 وما بعدها.
[26]- جيل دولوز الفيلسوف المترحل علامات وأحداث حوار أجري مع بيلور وفرانسوا يوالد، نشر في مجلة ماجزين ليترير العدد 259 سيتمبر 1988 ترجمة محمد ميلاد، مجلة العرب والفكر العالمي العدد 13 - 14 ربيع 1991 ص 206 - 207 عبد العزيز إدريس: جيل دولوز الفيلسوف الهائم، الفكر العربي المعاصر، العدد 110 - 111 ربيع وصيف 1999 ص 97 - 98.
[27]- Christopher Norris, On the Ehics of Deconstruction, in his book, Derrida, Fontana Paber backd, 1987, p 223.
[28]- جيل دولوز: نيتشه والفلسفة، أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت 1993، ص 69.
[29]- Gilles Deluze: la Philosophic critique de kant, pactrice desfacutes Uni France, 1961. ترجمة: أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت 1997.
[30]- يلخص ويحلل د. عبدالقادر بشته كتاب دولوز: فلسفة كانط النقدية واضعا العمل في سياق الدراسات الكانطية متوقفاً عند بعض أحكام دولوز مع تحليل نقدي للعمل. مجلة أوراق فلسفية العدد 2- 3 ص 96 - 106.
[31]- Christopher Norris, on the Elthics of Deconstruction. In Derrida, Fontana, 1987, p. 222.
[32]- Ebid., P. 222.
[33]- Ebid., P. 222.
[34]- جيل دولوز: المعرفة والسلطة، مدخل لقراءة فوكو، ترجمة سالم يافوت، بيروت 1987 ص 67، 68.
[35]- راجع دراسة على حرب: النقد الكانطي: بحث في شروط الإمكان يتناسى شروط إمكانه، في كتاب نقد النص، المركز الثقافي العربي، بيروت 1993، ص 231.
[36]- المصدر السابق، ص 233.
[37]- كاظم جهاد: فيلسوف القاعة الثامنة، ملف ميشل فوكو، مجلة الكرمل العدد 13، عام 1984 ص 32.
[38]- ميشل فوكو: الإنسان وازدواجياته الفصل التاسع من الكلمات والأشياء ص 264 - 267.وراجع اوبيرد دريفوس، بول رابينوف، ميشل فوكو مسيرة فلسفية،مركز الاتماء القومي بيروت، ص 33-36، ص193.
[39]- ميشل فوكو: كانط والثورة ترجمة يوسف صديق مجلة الكرمل ص 71 وهناك ترجمة ثانية لنفس النص بعنوان «كانط والسؤال عن الحداثة» ترجمة مصطفى لعريضة، أنوال الثقافي، الرباط، العدد 4 في 25 أغسطس 1984، ص 9 - 10، وانظر أيضا دراسة باسكال باسكينو: فوكو والحداثة، المجلة الأدبية العدد 207 مايو 1984 ترجمة محمد برادة، الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي، الدار البيضاء، العدد 36 في نصف يوليو 1984.
[40]- كاظم جهاد: المصدر السابق، ص11.
[41]- فوكو: كانط والثورة، المصدر السابق، ص 67.
[42]- فرانسوا إيوالد، نهاية عالم،ترجمة محمد بوعليش، مجلة بيت الحكمة المغربية، العدد الأول عن فوكو ص 125.
[43]- فوكو: كانط والثورة، الموضع السابق.
[44]- ميشيل فوكو ص 69 وتأكيد فوكو على الحماسة، يتردد فيما كتبه ليوتار عن كانط حين أطلق على كتابه عن النقد الكانطي للتاريخ عنوان الحماسة L, Enthtoussisiame. La Critque Kantinme DEL Histire وقد ترجم هذا العمل العربية نبيل سعد ونشره المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة 2001.
[45]- نقلا عن فوكو: كانط والثورة، الكرمل العدد 13 عام 1984 ص 70.
[46]- المصدر السابق ص 70 - 71.
[47]- كانط: ماهو عصر التنوير؟ يوسف الصديق، مجلة الكرمل، العدد 13، ص 60
[48]- المصدر السابق ص 61.
[49]- كاظم جهاد: فيلسوف القائمة الثامنة ص 13.
[50]- لقد قورنت «الأوليات التاريخية» و»شروط الإمكان» التي أسهب فوكو في الحديث عنها في مرحلة «الأركيولوجيا» بالصور القبلية وبالمقولات والمفاهيم في فلسفة كانط وقيل أيضا بالدور النقدي الذي قام به كتاب كانط نقد العقل المجرد بالنسبة للعلوم الطبيعية. وإن كانط إذا كان قد عمل من خلال فلسفته النقدية على إيقاظ فكر عصره من الثبات الوثوقي، فإن الفضل يرجع أيضا إلى فوكو في إيقاظ الفكر من السبات الأنثروبولوجي. عبدالرازق الداوي: المصدر السابق ص 144.
[51]- كريستوفر وانت واندزجى كليموفسكى: المصدر السابق 172.
[52]- كريستوفر نوريس: نظرية لا نقدية، ص 103- 110.
[53]- Lyotard, la phenomenologic que sais - je? Presses Uni de frans, paris 1954.
والترجمة العربية للدكتور، خليل الجر، منشورات ماذا أعرف بيروت د. ت.
[54]- Lyotard: the postmodern Condition, A Report on Knovbdge, 1984.
-والترجمة العربية أحمد حسان، دار شرقيات، القاهرة 994 ص 23.
[55]- Lyotord: l, Enthousiasme la Critique kantienme de l, Histoisre.
-والترجمة العربية نبيل سعد، المجلس الأعلى للثقافة، بالقاهرة 2001 ص 13.
[56]- ليوتار: النقد الكانطي للتاريخ، التبيه.
[57]- المصدر السابق ص22 هـ3.
[58]- Bill Readings:Interoducing Lyotard, Art and Politics, Routledge, London 1991, p. 105.
[59]- ليوتار: الحماسة أو النقد الكانطي للتاريخ ص 21.
[60]- المصدر السابق ص 23.
[61]- أنظر في ذلك د. أنور مغيث: فلسفة دولوز السياسية أوراق فلسفية، العدد 2، 3 القاهرة 2001.
[62]- Lyotard: Answer to The Question what is the Postmodern? In Postmodern Explained, Trans by Julian Pefais and Maron Thmas London, 1991.
-ملحق بترجمة الوضع ما بعد الحداثي ص 109.
[63]- Christopher Norris: The Deconsttuctructive turn, London 1983 نقلا عن مارجريت روزا: ما بعد الحداثة، ص 54 - 55.
[64]- جاك دريدا: مواقع، حوارات، ترجمة وتقديم وتقديم فريد الزاهي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1988 ص 12.انظر دراستنا جاك دريدا، التفكيك والاختلاف في الفكر العربى المعاصر، مجلة دراسات عربية، بيروت عددا ديسمبر 1997، يناير – فبراير 1998.
[65]- وانت وكليموفسكى: كانط، ص 174
[66]- المصدر السابق ص 176.
[67]- كتب أير A. J. Ayer عن دريدا بوصفه شخصاً أدبياً بلاغياً مزعجاً، أفكاره غير جديرة باهتمام مفكرين جادين، نوريس على العكس يرى أن التفكيك ينطوى على عناء فكر، سعى نحو نقض حاسم، يضعه بصراحة مع الكانطية أكثر مما يضعه معارضيه المتعجريفين Norris: Derrida, Fontana, p. وكذلك نجد نفس الدفاع في كتاب نوريس، نظرية لا نقدية ص 15.
[68]- Norris: Derrida, P.
[69]- افترض نوريس «أن هناك بعدا أخلاقيا في كتابات دريدا أدركه معظم معلقيه. ومن وجهة النظر هذه يرى دريدا كبديهية، أن الفلسفة في التراث الغربى قد انشغلت، لوقت طويل بمشكلات المعرفة والحقيقة والعقل، وهي مشكلات لا مناص من ارتباطها، فعليا بهذا التراث بالاستمرار في التفكير فيها عبره، ص 172.
[70]- يقول إن دريدا يمضي نحو تعريه المثال الكانطي للفلسفة الذي يعاملها بوصفها موضعاً للسؤال النزيه المحض المتحرر من ضغوط التصادم الحكومي استنادا إلى عدم مشاركتها المكفولة في الشؤون العملية. ويوضح كيف أن بلاغة اللامبالاة تخدم رفع صورة الفلسفة ذاتها كما تساعد بحسم شديد على إبعاد الاهتمام عن رهاناتها وانشغالاتها بالعالم خارج الجامعة. لكن إيراد هذه الحجج ضد المثالية الكانطية - وربط هذه المثالية بإبستمولوجيا معينة تحض المعرفة والعقل والحقيقة - لن تكون افتراضاً بأننا نتخلى عن المشروع الكامل للنقد التنويري، ص 180.
[71]- يقول كانط في دراسته «ما التنوير؟» لقد ركزت اهتمامى في بحثي حول عصر التنوير، على ذلك النوع الذي يحررالناس من حالة القصور التي يبقون هم المسؤولون عنها ووقفت على المسائل الدينية؟ ذلك لأن لا مصلحة لحكامنا فيما يخص الفنون والعلوم، في أن يقومون بدور الأوصياء. ثم إن حالة القصور هذه الدينية التي تناولتها، هي الأكثر ضرراً والأدهى خزياً: كانط: ما التنوير؟ مجلة الكرمل العدد 13 ص 64.
[72]- كرستوفر نوريس: نظرية لا نقدية: ص 178.
[73]- Norris: Derrida, p. 147.