البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مفارقة الخلقية حوار مع إيمانويل ليفيناس

الباحث :  حاوره : تامرا رايت، بيتر هيوز، وأليسون آينلي
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  10
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2018 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 23 / 2018
عدد زيارات البحث :  1001
تحميل  ( 334.837 KB )
تبدأ هذه الحوارية مع الفيلسوف إيمانويل ليفيناس من واحدة من أبرز إشكاليات البحث في الغيرية، عنينا بها إشكالية الوجه على أنه معيار جوهري للتعرف إلى الآخر. ثم تمضي هذه المحاورة إلى مقاربة الكائن الإنساني بوصفه كائناً أخلاقياً.
وهوما يميزه بالفعل من سائر الكائنات، وتبعاً لهذا الحقل الإشكالي سوف نقرأ المزيد من التداعيات التكفيرية التي تأسست عليها قيم الغيريّة عند ليفيناس.
وفي ما يلي نص المحاورة:

المحرر

سؤال: الوجه، هل هوظاهرة بسيطة أومعقّدة؟ هل من الممكن تعريفه بأنّه ذلك الجانب من الكائن البشري، الذي يتجاوز كل جهد للفهم وللتجميع (totalisation)، أو أنّ هناك ميزات أخرى لهذه الظاهرة ينبغي إدخالها في كل تعريف أووصف للوجه؟
ليفيناس: الوجه هوحدث أساسي. من بين الطرق العديدة للاقتراب من الكائن، وللارتباط به، يُعدّ فعل الوجه خاصًّا، وفي هذا النطاق، من الصعب إعطاء وصف دقيق، على الصعيد الفينومولوجي، للوجه. إنّ فينومولوجيا الوجه هي، غالبًا، سلبية.
إنّ ما يبدوبالنسبة لي جوهريًّا هو، مثلًا، الطريقة التي فهم بها هايدغر الأداة (zeug) ـ ما يقع تحت اليد، الأداة، الشيء. لقد فهم هايدغر الأداة بوصفها مثالاً (prototype) غير قابل للاختزال. أمّا الوجه فإنّه قابل للمقارنة من جهة كونه ليس تصوّرًا البتّة، وليس أحدَ معطيات المعرفة؛ ولكنه ليس أيضا ما يقع تحت اليد. إنّ الوجه طريق ولوج غير قابل للاختزال، ولا يمكن الحديث عنه إلا بلغة أخلاقية. لقد قلتُ، بحسب تحليلي للوجه، هذا الأخير يلتمس (implore): إنّه يلتمس، إنّه ليس سؤالًا. إنّ الوجه يد تلتمس، يد مفتوحة. علينا أن نفهم أن الوجه بحاجة لشيء ما، وأنه يطلب منك شيئاً ما. لا أعرف إذا ما كان يمكن القول إنه بسيط أومعقّد. مهما يكن من أمر، توجد هنا طريقة جديدة للحديث عن الوجه.
عندما قلتُ إنّ الوجه يُمثّل سلطة، وإن السلطة توجد في الوجه، فذلك يمكن، دون ريب، أن يبدوَ مُتناقضًا: إنّه يلتمس ويُمثّل سلطة في آن. لديكم، بناءً على ذلك، سؤالٌ آخرُ وهوأنه كيف يمكن مخالفة هذا النظام في حال كان الوجه يأمر. الوجه ليس قوة؛ إنه سلطة. غالبًا لا تملك السلطة قوة. يبدو أن سؤالك مُرتكز على فكرة أن الله يأمر ويفرض، وأنه قويّ إلى أقصى درجة؛ وأنه إذا ما حاولتم عدم تنفيذ ما يقوله لكم، فإنه سيعاقبكم. ثمّة هنا مفهوم حديث جداً! على العكس من ذلك، إنّ الشكل الأصلي، الشكل الذي لا يمكن نسيانه بالنسبة لي، هوأنه، في آخر المطاف، لا يمكنه فعل أيّ شيء، فهوليس بقوة، بل هوسلطة.
سؤال: لكن، هل يوجد في الوجه البشري شيءٌ ما يَميزه من وجه الحيوان مثلًا؟
ليفيناس: لا يمكننا أن نرفض تمامًا الوجه بالنسبة للحيوان. فمن خلال الوجه يمكن أنْ نفهم كلبًا مثلًا. لكن ما هو في المقام الأول هنا ليس الحيوان بل الوجه البشري. إننا نفهم الحيوان، وجه الحيوان بحسب ما يفترضه الدازين (Dasein). لا تكمن ظاهرة الوجه، بشكلها الأصفى، في الكلب. في الكلب، في الحيوان، توجد ظواهر أخرى: مثلًا قوة الطبيعة هي حيوية محضة؛ ذلك هوما يَميز الكلب. لكنّ له وجهاً أيضًا.
ثمّة شيئان غريبان في الوجه: هشاشته القصوى ـ كونه مُجرَّدًا (démuni) ـ ومن جهة أخرى، سلطته. الأمر كما لوأن الله يتكلم من خلال الوجه.
سؤال: هل من الضروري للوجه امتلاك قابليّة اللغة ليكون وجهًا بالمعنى الأخلاقي للفظة؟
ليفيناس: أرى أن بداية اللغة هي الوجه. في حدود مُعيّنة، إنّ الوجه، في صمتِه نفسِه، يُناديك. إنّ ردّ فعلك إزاء الوجه هوإجابة. لا مجرّد إجابة وحسب، بل مسؤولية. إنّ اللغة لا تبدأ بالعلامات التي تُعطى، مع الكلمات. اللغة هي، علاوة على ذلك، كونك تخاطب... ـ ما يعني القول
(le Dire)، أكثر مما يعني المَقول (le Dit).
ندرك من كلمة «فهم» (compréhension): «أن نأخذ» (prendre) و«أن نفهم» (comprendre)؛ أيْ «أن نضمّ» (englober) و«أن نتملّك» (s’approprier). نُلفي هذه العناصر في كل معرفة (connaissance) وكل فهم (compréhension)؛ دائمًا يفعل المرء شيئًا ما لأجل ذاته. لكنّ ثمة شيئاً ما يبقى خارجًا، إنه الغيرية.  الغيريّة لا تعني البتّة الاختلاف ـ أي إن الذي أمامي هوإنسان له أنف مختلف عن أنفي، وعينان بلون مختلف، وله سلوك مختلف. هذا ليس اختلافًا، إنّه غيرية! الغيرية: إنّها تعني أمرًا غيرَ قابل للمقارَنة، مُتعالِيًا (transcendant). أنتَ لستَ مُتعاليًا من خلال بعض الملامح المُختلفة.
يمكن المضيّ في التحليل. أنا لا أدّعي أنّ التحليل كامل. إن الفكرة التي تُعَدّ بالنسبة إليّ بالغة الأهمية هي فكرة الضّعف (faiblesse) ـ فكرة أن يكون المرء، بوجهٍ ما، أقل بكثير من شيء. يمكن للمرء أن يَقتل، وأنْ يُبيد (anéantir)؛ إنّ إبادة الآخر أسهل من امتلاكه.
بنظري، إن هذين المُنطلَقيْن جوهريّان: فكرة الضعف الأقصى، فكرة الالتماس، فكرة أنّ الآخر هوالفقير. إن ّهذا أخطر من الضعف، إنّه الضعف إلى أبعد حدّ؛ إن الفقير ضعيف إلى درجة أنْ يلتمس (implore). لا ريب في أن هذا ليس سوى بداية التحليل، فالطريقة التي نتصرّف بها بشكل ملموس مختلفة؛ إنها أعقَدُ. لأننا بخاصّة ـ وهذا أمر بالغ الأهمية بالنسبة إليّ ـ لسنا ببساطة اثنين في العالم، بل كلّ شيء يبدأ كما لوأننا كُنّا، في حقيقة الأمر، اثنين فقط. من الضروري الإقرار بأن فكرة العدالة تفترض أنّ ثمة آخر. لكن، بدءًا، ومن حيث الأساس، أنا مُهتمّ بالعدالة لأن الآخر يملك وجهًا.
سؤال: أي دور تؤدّيه الطريقة الفينومونولوجية في مفهوم الوجه كما يظهر في كتابك الكلّ واللانهائي (Totalité et Infini)؟ هل الفينومونولوجيا، من خلال بنية مُفصّلة لمختلف جوانب الظاهرة، تُشكّل لنا دليلًا هاديًا إلى مفهوم جديد للوجه؟ أليست فينومونولوجيا الوجه ما هي إلا وصف منهجيّ (systématique) لِما يُكشف دائمًا النقابُ عنه حين سنلتقي الآخر؟
ليفيناس: إنّ الكلّ واللانهائي هوكتابي الأول. أرى أنه من الصعب جدًّا أن أقول لكم بعدّة كلمات فيما يختلف الكتاب عما قلتُه بعد ذلك. هناك الاصطلاح الأنطولوجي: لقد تكلّمتُ هنا عن الكينونة. منذ ذلك الحين، حاولتُ التخلّي عن هذه اللغة. حين أتكلّم في كتاب الكلّ واللانهائي عن الكينونة، ما يجب إبقاؤه في الذاكرة هوأن التحليل، في نهاية المطاف، يجب ألّا يؤخَذ بمعنى نفسانيّ (psychologique). إنّ ما يوصَف في الأفعال الإنسانية ليس ببساطة تجريبيًّا، بل هو بنية جوهريّة. وفي كلمة «جوهريّ» توجد كلمة esse، أيْ كينونة (être)؛ كما لوأنه توجد بنية أنطولوجية.
في كتابي الكلّ واللانهاية استعملْتُ كلمة عدالة (justice) فيما يخصّ الأخلاق (éthique)، للإشارة إلى العلاقة بين شخصين. لقد تكلّمتُ على العدالة، حتى ولو أنّ العدالة، بالنسبة إليّ، شيء مُرتبط بالحساب والمعرفة، ويفترض (suppose) السياسة. إنّها شيء مُلازمٌ لِلسياسة. العدالة هي شيء ما أميزه من الأخلاق، التي هي في المقام الأول. لكنّ كلمتيْ أخلاق (éthique) وعادل (juste) في كتاب الكلّ واللانهاية هما الكلمة ذاتها، والقضية عينها، واللغة نفسها. حين أستعمل كلمة عدالة ليست، بمعنى تقني، شيئاً ما مُناقِضاً ومُختلفاً عن الأخلاقيّات (morale).
إنّ الوجهَ أساسٌ. ليس له أيُّ طابع نَسَقيّ. إنّه مفهوم يأتي إليّ، وفقه، رجلٌ من خلال فعلٍ إنسانيٍّ مُختلِفٍ عن فعل المعرفة.
سؤال: هل ترى أنّ هناك موقعًا لفينومونولوجيا الوجه نُدركه في معنى واسع؟ هل توجد ميزات مهمة لهذه الظاهرة لم تأخذها بعين الاعتبار في كتاب الكلّ واللانهاية؟
ليفيناس: لستُ مُتأكّدًا من أن الوجه يُمثّل ظاهرة. الظاهرة (phénomène) هي ما يظهر (apparaît)؛ إنّ الظهور (apparaître) لا يعني جنس كينونة  (mode d’être)الوجه. الوجه هو، منذ البداية، الالتماس الذي تكلّمتُ عليه. إنّه ضعف من هو بحاجة إليك ويعتمد عليك. هنا منشأ فكرة اللاتماثل (asymétrie) التي أعدُّها بالغة الأهمية: فاللاتماثل لا يعني أنّ هناك ذاتًا تُواجه موضوعًا؛ إنّه، على العكس، يعني أنني قويّ وأنّك ضعيف؛ أنّني عبدٌ لك وأنّك السيد. بالتالي، لستُ مرتعبًا من فكرة أن الذي يملك القدرة هوالسيد ـ لا، أنا لا أستخدم هذه الألفاظ بهذا المعنى.
سؤال: بحسب تحليلك، إن الوصيّة «لا تقتُل» تنكشف من خلال الوجه الإنسانيّ؛ لكنْ، ألا يُعبَّر عن هذه الوصيّة أيضًا من خلال وجه الحيوان؟ هل يمكن النظر إلى حيوان ما بوصفه هذا الآخر الذي ينبغي استقباله؟ وهل يجب عليه أن يمتلك قابلية اللغة ليكون وجهًا بمعنًى أخلاقيٍّ؟
ليفيناس: لا أستطيع تحديد الوقت الذي يحقّ لك فيه أن تُسمّى وجهًا. إنّ الوجه الإنسانيّ مُختلف تمامًا، ونحن لا نكتشف وجه حيوان ما إلا بعد انقضاء الأمر. لا أعلم ما إذا كان للأفعى وجه؛ لا أستطيع الإجابة عن هذا السؤال، فهويستلزم تحليلًا خاصًّا.
لكنّ ثمّة شيئاً ما يُشكّل أساس انجذابنا للحيوان... إنّ ما نحبّه في الكلب مثلا ربما يكون طابعَه المُشابه لطابع الطفل: لكأنه قوي وسعيد ومقتدر ومُفعَم بالحياة. وثمّة أيضًا، حتى فيما يتعلّق بالحيوان، الشفقة. فالكلب هو بمنزلة ذئب لا يعضّ؛ في الكلب، ثمةَ أثرٌ من الذئب. مهما يكن من أمر، أرى هنا إمكانية تحليلٍ فينومونولوجيٍّ... نحبّ غالبًا الأطفال لِحيوانيّتهم (animalité): فالطفل لا يُنسب إليه أيُّ شيء؛ هويقفز ويمشي ويركض ويعضّ ـ إنّه رائع.
سؤال: إذا لم يكن للحيوانات ـ بالمعنى الأخلاقي للكلمة ـ وجه، هل لدينا التزامات تجاههم؟ وإذا كان الأمر كذلك، ما منشأ تلك الالتزامات؟
ليفيناس: من الواضح ـ دون الحاجة إلى النظر إلى الحيوانات بوصفهم كائنات إنسانية- أنّ الأخلاق تخصّ الكائنات الحيّة كلها. فنحن لا نُريد تعذيب حيوان دون حاجة. لكنّ نموذج ذلك هوالأخلاق الإنسانية. إنّ النظام النباتي (végétarisme) مثلًا ينجم عن نقل فكرة المُعاناة إلى الحيوان: الحيوان يُعاني؛ يمكننا أن نعيش هذا الالتزام لأنّنا، من حيث إنّنا بشر، نعلم ماهية المعاناة.
إنّ الأطروحة المنتشرة جدًّا، التي بحسبها تتوقّف الأخلاق على المجال البيولوجيّ، تُفيد في نهاية المطاف أنّ الإنسان يُمثّل الطورَ الأخير في تطوّر الحيوان؛ على العكس، سأقول إنّ الإنسان، في علاقته بالحيوان، هوظاهرة جديدة. هذا ما يقودني إلى سؤالكم السابق: سألتني في أيّ وقت يُصبح المرء وجهًا. لا أعلم في أيّ وقت ظَهَرَ الإنسان، لكن ما أريدُ الإشارةَ إليه هو أنّ الكائن البشريّ يُمثّل قطيعةً مع الوجود المحض (l’être pur)، الذي هودائمًا استمراريّةٌ (perseverance) في الكائن ـ تلك هي أطروحتي الرئيسة. الكائن هوشيء ما مُتعلّق بوجود، وجوده الخاصّ–هذه هي فكرة داروين: إنّ وجود الحيوانات هوصراع من أجل البقاء؛ صراع من أجل البقاء، بدون أخلاق؛ إنّها مسألة قوة (puissance). يقول هايدغر في بداية كتابه (الكينونة والزمان) إنّ الدّازين كائن هو، ضمن كينونته، يقع في دائرة اهتمام كينونتِه نفسِها؛ تلك هي فكرة داروين عن الوجود بوصفها صراعًا من أجل الوجود: إنّ هدف الكائن هوالكائنُ ذاتُه. على الرّغم من ذلك، ثمةَ مع ظهور الإنسان شيءٌ ما أهمّ من حياتي الخاصّة، الذي هوحياة الآخر، تلك هي فلسفتي. إنّه أمرٌ غير معقول! لكنّ الإنسان هوحيوان غير عاقل! إنّ حياتي في معظم الأوقات هي أغلى ما أملك، وفي معظم الأوقات ينشغل المرء بذاته. مع ذلك، نحن لا نستطيع ألّا نُبديَ إعجابنا بالقداسة (sainteté)؛ لا بالمُقدّس (sacré)، بل بالقداسة، بمعنى أنّ الشخص هو، في كينونته، مُتعلّق بكينونة الآخر أكثر من تعلّقه بكينونته هو. أعتقد أنّ الإنسانية تبدأ مع القداسة؛ لا مع تحقّق القداسة، وإنما من جهة أخذ قيمتها بعين الاعتبار. تلك هي القيمة الأولى التي لا تقبل الجدل (indéniable). حتى وإن افترى شخص ما على القداسة، فهولا يستطيع فعل ذلك إلا باسم القداسة.
سؤال: هل يتجذّر مفهومُك للوجه في اللاهوت اليهودي؟
ليفيناس: إنه مُتجذّر في الديانة اليهودية أقلّ من تجذّره في الكتاب المقدّس. إنّ للكتاب المقدّس مستوياتٍ متعددة. ثمة مستوى تُقدّم فيه أهميةُ الآخر، بالنتيجة، على أنها مؤاتية لنفسي؛ أي أن يُقال لك إنك ستنال مكافأة على أفعالك الخيّرة ـ هذا موجود أيضًا في الكتاب المقدّس. لكن ثمة أيضًا مفهوم القداسة؛ لا فقط في المسيحية؛ ففي العهد القديم نجد الوصيّة السادسة: «لا تقتلْ». هذا لا يعني: عليك ألّا تتنزّه شاهرًا المسدّس في وجه الناس، وإنما يعني أنّ هناك طرقًا عديدة، في الحياة، لِقتل بعضهم: مثلًا، حين نجلس في الصباح ونحتسي القهوة، فإنّنا نقتل أحد الأثيوبيين الذي لا يملك المال لشراء القهوة ـ بهذا المعنى إنما يجب أن نفهم الوصيّة. وهناك العبارة التالية «أَحِبَّ قريبَك»؛ تُقال بطرق كثيرة. ثمة أيضًا: «عليك أن تُحبّ الغريب».
سؤال: لكن بصورةٍ أدقّ، هل تملك صورة الوجه جذورًا يهودية أوجذورًا في الكتاب المقدس؟
ليفيناس: لا! إن كلمة بانيم (panim) التي تُشير في العبرية إلى الوجه، ليست مصطلحًا فلسفيًا في الكتاب المقدّس. أقول إنّ مفهوم الوجه هوطريقة مُعيّنة أُعبّر من خلالها، على نحوفلسفي، عما أريد قوله حين أتكلّم عن جهد الكينونة (conatus essendi)، الذي يشكّل المبدأ الأنطولوجي... لا أجد هذا في نصوص الكتاب المقدّس؛ لكن برأيي، هذا هو روح الكتاب المقدّس، بكل اهتمامه بالضعف، كل الإلزامات تُجاه الضعيف. لكنني لم أجد هذا في نص من النصوص. أنت ترى ذلك، إنّ اصطلاحي لا ينتمي إلى الكتاب المقدس؛ وإذا لم يكن كذلك فهو يؤول في النهاية إلى الكتاب المقدس.
سؤال: حتى وإن كان هناك تمييز شديد الوضوح بين نصوصك الفلسفية ومؤلَّفاتك عن الدين، يبدوأن فلسفتك تُعبّر عن القيم اليهودية التي تُصرّح بها في مؤلّفاتك حول الديانة اليهودية. هل تعتقد أن التعوّد على التقليد اليهودي يمكن أن يُساعدَ قارئًا على فهم كتابك الكلّ واللانهاية؟
ليفيناس: يوجد تمييزٌ جذريٌّ بين بعض المؤلّفات وبعضها الآخر؛ وهي لم ينشرْها ناشر واحد. إن النصّ التوراتي لم يُستخدَم البتّة، في مؤلّفاتي الفلسفية، بوصفه حجّة، بل بوصفه توضيحًا. وهناك النصوص التي أدعوها دينية (confessionelles). إنّ النصوص غير الفلسفية هي نصوص تفسيرية (exégétiques). لكنْ، توجَد علاقةٌ ما بينها.
سؤال: نفترض في بعض الأحيان أنّ فلسفتك صعبة الولوج بالنسبة لغير اليهود، لأنّ توجّهَها قد يكون يهوديًّا أكثر من كونه يونانيًّا.
ليفيناس: أعتقد أن أوروبا تتضمّن الكتاب المقدس واليونانيين. إنّ الأمر ليس استعمارًا –كلّ ما عدا ذلك يمكن أن يُعبَّر عنه باليونانية. بيد أنّ إمكانية الفهم الأولى، الدلالة الأولى لأيّ خطاب هي الوجه: لا يمكننا التكلّم من دون وجه؛ فنحن نتكلّم مع شخص ما. بلْ إنّها حقيقة أولى. والتكلّم مع شخصٍ ما لا يعني ببساطة التكلّم أمام الشكل البلاستيكي الذي هو الآخر (l’autre). بهذا المعنى، لا أرى أنّ هناك أدنى إنكار في بلاد اليونان لِجهة التشديد على أولوية الوجه. إن المُحاوِر هوأوّلُ (est premier) في هذا الوضْع الأخلاقي الذي بحسبه تنفتح شفتاي لأتكلّم، أوبحسبه أُستَدعى: أنا مَدْعوٌّ للإجابة. أعتقد أن اللغة الأولى هي إجابة. لكن مع ظهور الشخص الثالث (le tiers) – فإنّ هذا الثالث، أيضًا، يجب أن يكون له وجه. إذا كان الثالث، أيضًا، وجهًا، يجب عندئذ معرفة مَن نُخاطِبُ أوّلًا: من هوالوجه الأول؟ بهذا المعنى، أصِلُ إلى مقارنة الوجوه، ومقارنة الشخصين –تلك مهمة مَهولة. وهي مُختلفة تمامًا عن التكلّم إلى الوجه؛ إنّ مقارنة الوجوه تعني تصنيفها ضمن الجنس ذاته.
إنّ الآخر مُتفرّد (unique) ـ مُتفرّد من جهة أنّني، في أثناء الحديث عن المسؤولية تجاه المُتفرّد، عن المسؤولية في العلاقة بالمُتفرّد، أستخدم كلمة «حُبّ». ما أدعوه «مسؤولية» هوحبّ، لأنّ الحب هوالموقف الوحيد الذي يحصل فيه اللقاء بالمُتفرّد. ما الكائن المحبوب؟ إنه مُتفرّد في العالَم. في كتابي «الكلّ واللانهاية» لا أستعمل غالبًا كلمة حُبّ، لأنه غالبًا ما يُفهم منها ما يدعوه «باسكال» الشَبَق (concupiscence).
الآن، حيثما يوجد كائنان مُتفرّدان، يعود النوّع (genre) ليظهر. انطلاقًا من هذه اللحظة، أفكّر بالآخر في نوع واحد. أنا يونانيٌّ، إنّ ههُنا فكرًا يونانيًّا؛ فكر المقارنة، والحكم، صفات الذات، باختصار، كلُّ مصطلحيّة (terminologie) المنطق اليوناني والسياسة اليونانية تظهران مرة أخرى.  بالتالي، ليس صحيحًا أن فكري ليس يونانيًّا. على العكس، كل ما قلته عن العدالة يأتي من الفكر اليوناني، ومن السياسة اليونانية. لكن ما أقوله ببساطة، هو أنّ هذا كلّه يرتكز في النهاية على العلاقة بالآخر، على الأخلاق ـ التي من دونها ما كنت لأبحث عن العدالة. إنّ العدالة هي هذه الطريقة التي أُجيب بها الوجهَ بأنني لست وحيدًا في العالم مع الآخر.
لكنْ، إذا كان كل شيء يجد غايته في العدالة، فلماذا إذًا يُروى هذا التاريخ الطويل عن الوجه الذي هوالمقابل للعدالة؟ السبب الأول هوأنّ الأخلاق تُشيِّد العدالة؛ لأنّ العدالة ليست هي الأساس. إنّنا، بداخل العدالة، نبحث عن عدالة أفضل. عندما يتمّ إعلان قرار العدالة تبقى، بالنسبة للأنا المُتفرّدة التي هي أنا، إمكانيةُ أنْ أجد شيئًا ما إضافيًّا يُخفّف الحكم (verdict)؛ يوجد فضاءٌ لأجل البِرِّ (charité) بعد العدالة. إنّ الدولة الديمقراطية الحقيقية تجد أنّها ليست، البتّة، ديموقراطيّة على نحوكافٍ؛ ينبغي عليها دائمًا أن تمتحن مؤسّساتها. السبب الثالث هوأنه توجد لحظة حيث يمكن للأنا -الأنا المُتفرّدة إلى جانب أنوات أخرى مُتفرّدة- أنْ تجد شيئًا ما يعمل على تحسين الكونيةِ (l’universalité) نفسِها ـ يحضر في ذهني، مثلًا، مسألة إلغاء عقوبة الإعدام.
ليس من الضروري، للتعبير عن الأفكار، أنْ يستند المرءُ إلى الكتاب المقدس؛ إنّ كتابي «الكلّ واللانهاية» يمكن قراءتُه من دون امتلاك معرفة جيّدة بالديانة اليهودية أوبالكتاب المقدّس.
سؤال: إذا كنّا قد فهمنا جيّدًا كتابَك، فإن العلاقة بالآخر هي، أساسًا ومن الأصل، علاقة أخلاقية. إنّ وجه الآخر يحضر دائمًا على أنه وصيةٌ، منْع القتْل؛ الوجه يأمر بقبول الآخر. ومع ذلك، إذا كانت الوصيّة مُطلقة، فكيف يستطيع بعض الناس التصرّف بصورة غير أخلاقية؟ هل يُشير عملٌ عنيفٌ إلى أنّ فاعلَه لم يعترف بالوصيّة؟ أو عندئذ، هل بالإمكان الاعتراف بالقيمة المطلقة للوصيّة بوصفها كذلك، وبالمخالفة على الرغم من اعترافٍ كهذا؟
ليفيناس: بالتأكيد! إنّه التمييز الذي قمْتُ به في البداية بين السلطة والقوة. في (conatus essendi) الذي هوجهد الوجود، الوجود هوالقانون الأعلى. ومع ذلك، مع ظهور الوجه على مستوى العلاقة الشخصية، تبرز الوصيّة «لا تقتلْ» بوصفها تحديدًا limitation لـ (conatus essendi)، فهي ليست حدًّا عقليًّا. بالتّالي، إنّ تفسيرها يتطلّب لغة الأخلاقيات (morale)، والأخلاق (éthique): ينبغي التفكير فيما وراء فكرة القوة. إنّما على يد الإنسان تحدُثُ القطيعة مع القانون الخاصّ بالكينونة، مع قانون الكينونة. إنّ قانون الشرّ هوقانون الكائن؛ وبهذا المعني يكون الشرّ قويًّا جدًّا، وبالتالي يكون هوالقوّةَ الوحيدةّ. إنّ السلطة هي مفارَقة؛ السلطة والأخلاقيّات كلاهما من المفارَقات.
إذا كان هناك لحظة يهودية واضحة في فكري، فهي الاستناد إلى مُخيّم أوشفيتز (Auschwitz) ـ حيث تَرَكَ اللهُ النازيين يفعلون ما يشاؤون. بالتّالي، ماذا بقيَ؟ إمّا أنّ ذلك يعني أنْ لا وجودَ لعلة وجود أخلاقية، وبإمكاننا حيندئذ استنباط أنّ على كل شخص التصرّف بالطريقة نفسها التي تصرّف بها النازيّون؛ وإمّا أنّ القانون الأخلاقي يُحافظ على سلطته. إنما في هذا المجال تكون الحرية؛ هذا الخيار هوالذي يُشكّل لحظة الحرية.
لا يمكن مع ذلك استنباط أنه بعد حادثة أوشفيتز لم يبقَ ثمة قانونٌ أخلاقي، كما لوكان القانون الأخلاقي قد كان غير ممكن من دون وعد. قبل القرن العشرين، كانت جميع الديانات تبدأ بوعد: كانت تبدأ بالنهاية السعيدة (happy end)، الوعد بالجنّة. لكن ألا تدعونا ظاهرة على غرار ظاهرة أوشفيتز، على العكس، إلى تصوّر القانون الأخلاقي بصرف النظر عن النهاية السعيدة؟ هذا هوالسؤال. سأسأل أيضًا عمّا إذا كنّا نواجه وصيّة لا نستطيع أن نوصي بها. هل نملك الحقّ بأن ننْصح الآخرين بِوَرع من دون ثواب؟ إنّني أثير على نفسي هذا السؤال.
بالنسبة لي، أسهل عليّ أن أطلب من نفسي الاعتقاد من دون أن يكون هناك ثواب، من أنْ أطالب الآخرين بذلك؛ أستطيع أن أطلب من نفسي ما لا أستطيع طلبه من الآخرين.
إنّ المشكلة الجوهرية هي الآتية: هل يمكن الحديث عن وصيّة مطلقة بعد أوشفيتز؟ هل يمكن الحديث عن الأخلاق (morale) بعد انهيار الأخلاق؟
سؤال: إذا كان هذا يُشير إلى الحالة التي لم يعترف فيها الشخصُ، الذي يتصرّف على نحو غير أخلاقي، بالوصيّة التي تنتمي للوجه، فكيف نشرح هذا الخلل في الاعتراف؟
ليفيناس: إنّ الشيء الذي يصعب فهمه فعلًا، هوأنّ المرء يستطيع فهم هذه الوصيّة وإدراكها. كونُ الكائن يستمرّ بقاؤه في كينونته، تلك هي الطبيعة. نعم، يمكن أنْ تحصل قطيعةٌ مع الطبيعة؛ لكنْ، يجب ألّا تُعْزى لهذه القطيعة قوّةٌ مُماثلة لقوة الطبيعة. توجد لحظة تكون الغَلَبة فيها لفكرة الحرية ـ هي لحظة السّخاء (générosité). توجد، هنا، لحظة يلعب فيها شخص ما دون أن يتمكّن من الربح: هذا هوالبرّ. بالنسبة لي، هذه نقطة بالغة الأهمية. إنّ ما يفعله المرء بِلا مقابل هوالفضل (grace)؛ إنّ النعمة تبدأ عند هذه النقطة: إنّها مجّانيّة (gratuité)، عمل مجّانيّ. إنّك تُفكّر كما لوأنّ الفعل ليس مجانيًّا. إنّ فكرة الوجه هي فكرة حبّ مجانيّ، وصيّة عمل مجّانيّ. الحب كوصيّة؛ الحب ـ الوصيّة يعني الاعتراف بقيمة الحبّ في ذاته.
إنّ الوجه لا يُقدّم نفسه عند للرّؤية. هوليس رؤية. وليس ما يُرى. بدأتُ كلامي قائلًا أنّ الوجه لم يكن موضوع معرفة. ليس ثمة أيُّ وضوح فيما يخصّ الوجه، بل يوجد نَسَق (ordre) –بهذا المعنى يُمثّل الوجه القيمة التي يتمّ تلقّيها من وصيّة ما. انطلاقًا من ذلك، بإمكانك الحديث عن السخاء؛ بعبارة أخرى، هذه هي لحظة الإيمان. فالإيمان ليس مسألة وجود الله أوعدم وجوده؛ إنه الاعتقاد بأن الحبّ بِلا مكافأة له قيمة. نقول غالبًا إنّ «الله محبة» (Dieu est amour)؛ وإنّ الله هو وصيّة الحبّ. «الله محبة» تعني أنه يُحبّك؛ لكنّ هذا يستلزم أنّ الشيء الأكثر أهمية هوخلاصك. برأيي، الله يأمر بالمحبة؛ الله هو الذي يقول إنّ على المرء أنّ يحبّ الآخرين.
لكن، لكي نعود إلى سؤالك، ليس من الصعب الاعتراف بالوجه. توجد الوصية، الشكل الذي يظهر فيه سموُّه (excellence). إنّ هذا السّموّ مُنظّم، بالنظر إلى أنّه ليس ممنوحًا، ببساطة، من خلال حدْس. إنّها الكينونة التي هي نحن، كون المرء ذاتَه، هوما يمنعنا من الاعتراف بواجباتنا الأخلاقية.
سؤال: كيف يمكن تعلّم الاعتراف وقبول (accueuillir) وجه الآخر؟ إننا نُشاركك مفهومك بأن الدين اليهودي مثلًا يمكن أن يُعلّم هذا لأتباعه. لكن ماذا عن المُلحدين؟ كيف يمكنهم تعلّم الوجه واستقباله؟
ليفيناس: أنا لا أُبشّر بالدين اليهودي. إنني أتكلّم على الكتاب المقدّس، لا على الدين اليهودي. إنّ الكتاب المقدّس، الذي يتضمّن العهد القديم، هوبالنسبة لي فعل إنساني مُتعلّق بالنظام الإنساني العالمي تمامًا. ما قلتُه عن الأخلاق ـ عن كونيّة الوصيّة في الوجه، عن هذه الوصيّة التي تأمر، حتى وإن لم تأتِ بأي خلاص- يصلح لأي دين.
سؤال: بمَ تُجيب عمن يمكنه الإيحاء بأنّ رؤيتك الأخلاقية مثالية جدّا بذريعة أنها لا تُعطي أي نصيحة عملية لحلّ المعضلات السياسية؟ هل تُجيب بأن أهمّية الأخلاق تكمن في أنّها تُقدّم مُثلاً عليا نستطيع إزاءها العمل، وتُتيح لنا تقييم خلقيّة مجتمعنا؟
ليفيناس: هنا تكون القطيعة الكبرى بين الطريقة التي يعمل بها العالم بشكل ملموس، وفكرة القداسة التي أتكلّم عليها. إنني أصرّ على أن فكرة القداسة جرى الحفاظ عليها في أحكامنا القيمية كلها. ليس ثمة سياسة لتحقيق الأخلاق، بل يوجد بالتأكيد سياسات أبعد أو أقرب إلى الأخلاق. مثلًا، ذكرتُ الستالينية. لقد قلتُ لكم إنّ العدالة هي دائمًا عدالة ترغب في عدالةٍ أفضلَ. بهذه الطريقة أُعرّفُ الدولة الليبرالية: الدولة الليبرالية هي دولة تكون العدالةُ فيها هدفًا مَطلوبًا تمامًا، وبهذا فإنّها كمالٌ. لكيْ نتكلّم عمليًّا، إنّ الدولة الليبرالية قد وافقت دائمًا، إضافةً إلى القوانين المكتوبة، على قوانين الإنسان بوصفها مؤسّسة موازية. وما تزال الدولة تفترض، بطريقة مُلازمة لعدالتها، بأنّ هناك دائمًا تحسينات يجب إدخالها على حقوق الإنسان. لأجل ذلك فإنّي أرى أنّه من الواضح تمامًا أنّ الدولة الليبرالية أخلاقية أكثر من الدولة الفاشية، وأقرب منها إلى الدولة المثالية.
يوجد فيما أقوله لحظة طوباوية، هي الإقرارُ بأنّ ثمّة شيئًا ما يستحيل تحقيقه، لكنّه، في نهاية المطاف، يوجّه الفعلَ. إنّ هذه الطوباوية لا تمنع من إدانة بعض الأوضاع الفعلية، ولا من الاعتراف بالتقدّم النسبيّ الذي يمكن أن يكون قد تحقّق. إنّ الطوباوية لا تقوم على إدانة كل ما هو ليس طوباوية. لا توجد حياة أخلاقية من دون طوباوية ـ الطوباوية تعني بشكل أدقَّ أنّ القداسة هي خير.
سؤال: هل تظن أن «تفكيك» الميتافيزيقا اليونانية سيُتيح للفلاسفة التفكير بشكل أفضل بالبعد الأخلاقي للوجود البشري؟
ليفيناس: أرى أنّ الفلسفة اليونانية لا يمكن حذْفها. حتّى من أجل نقد الطابع الذي لا يمكن تجاوزه للفلسفة اليونانية، فإنّنا بحاجة إلى الفلسفة اليونانية. هذا ليس تناقضًا! فاليونانيون علّمونا الكلام: لا الكلام بمعنى القول (le Dire)، بل بمعنى إعادة اكتشاف أنفسنا في المَقول (le Dit). إنّ الفلسفة اليونانية هي لغة خاصّة يمكنها أن تقول كل شيء لكل العالم، لأنّها بِلا أيّ مُسلَّمات (مُفترَضات / présupposés)، إنّ الفلسفة اليونانية هي الطريقة التي يتكلّم بها الناس في الجامعة الحديثة في بقاع العالم كله. هذا هو معنى التكلّم باللسان اليونانيّ؛ العالم كله يتكلّم باللسان اليونانيّ، حتى وإنْ كان يجهل الفرْق بين ألفا وبيتا. «اللّسانُ اليونانيُّ» (Grec) يعني طريقة خاصّة لعرْض الأمور، أيْ ذلك النّحوُ في استعمال لغة هي في مُتناول أيٍّ إنسان. لكن الميزة الثانية للّسان اليونانيّ هي أنّه لا يُلْجِئنا إلى خلْط الأشكال اللغوية بالشكل الفعليّ لِما نُريد أن نعنيَه. على الرّغم من أنّ شيئًا ما قد قِيلَ، بنحْوٍ ما، فإنّ أشكال هذا القول لا تترك أيَّ أثر في ما ظَهَرَ. وبالتّالي، يمكننا أن نُبيّن ما يتجاوز كونيّة الفهم (l’universalité de la comprehension). إنّ الأمر يتعلّق بشكل لا يترك أيَّ أثر في الفعل المُقدّم؛ يمكنك أن تنقضَ ما قلتَه.
سؤال: ما رأيك في الطرح الهوسرلي فيما يتّصل بمسألة غيريّة الآخر، الذي عرضه دريدا في مُصنّفه «العنف والميتافيزيقا»؟ يبدو أن دريدا يعتقد أنه لا يمكننا الاعتراف بوجه الآخر إذا كان الآخر يُؤخَذ بوصفه «أنا آخر» (alter ego)، وأنّ الآخر، بذلك، لا يمكنه بعامّة أن يكون آخر. برأي دريدا، يرتبط لاتماثل العلاقة الأخلاقية بتماثل سابق. ويكتب دريدا أنّ «الآخر، بالنسبة إليّ، هو«أنا» (ego) تَربطه علاقة بي بما هو آخر». برأيك، ألا يمكن أنْ تكون هذه المعرفة عنفًا؟
ليفيناس: يأخذ دريدا عليّ نقدي المذهبَ الهيغلي بالقول إنه من أجل أن ننقد هيغل، نبدأ بالحديث بلغة هيغل. هذا هو أساس نقده. أُجيبُ عن هذا بأنه بالنسبة إليّ، على العكس، ليست اللغة اليونانية لغة جامدة ضمن مقولها، وأنه بالتالي توجد دائمًا إمكانية نقْض ما أُجبِرتَ على اللجوء إليه لإظهار شيء ما.
إنّ فكرة اللا تماثل تبدو لي على درجة عالية من الأهمّية؛ ربما هي الطريقة الأبرز لتصوّر العلاقة بين الذات والآخر، وذلك بعدم وضع كليهما في المستوى عينه. إنك تعلم استشهادي ﺑ دوستويفسكي: «كل واحد مُتّهم أمام الآخر، وأنا مُذنب أكثر من الآخرين». هذه هي فكرة اللا تماثل. إن العلاقة بيني وبين الآخر لا يمكن تجاوزها؛ وهي مُتغيّرة نتيجة وجود العدالة، وبحسب العدالة تُوجد دولة نكون فيها، مواطنين، متساوين. لكن في الفعل الأخلاقي، ضمن علاقتي بالآخر، في حال نسي المرء أنني مُذنب أكثر من الآخرين، لن تستطيع العدالة هي ذاتها أن تقوم. إنّ فكرة اللاتماثل هي طريقة أخرى للقول إنه، بحسب الاستمراريّة في الكائن، إذا كنا مُتساوين، فإنّ فكرة تفوّق (précellence) موت الآخر على موتي ليست خارجيّة بنظري ـ هي نتيجة لنظرة خارجية نكون أمامها مُتساوين-؛ إنّ مفهوم الاختلاف الجوهري بيني وبين الآخرين إنما ينبع مني.
توجد غيريّتان. هناك الغيريّة المنطقية: في أيّ سلسلةٍ (serie)، كلُّ طرف (terme) هوآخرُ في علاقته بالأطراف الأخرى. إنّ الغيريّة التي أتكلّم عليها هي غيريّة الوجه، التي هي ليست اختلافًا، ليست سلسلةً، بل هي غرابةٌ ـ غرابةٌ لا يمكن حذْفها، ما يعني أن التزامي لا يمكن إزالته.
سؤال: في المقطع الذي يحمل عنوان «فيما وراء الوجه» في كتابك «الكلّ واللانهاية»، تُقدّم الخصوبة (fécondité) طريقة ولوج إلى الصورة الخاصّة بزمنٍ غير محدود. أنت كتبتَ أنّ البيولوجيا هي التي تجعل هذا الانفتاح مُمكنًا، لكنّ البيولوجيا لا تحدّ منه. هذا يعني أنّ نموذج هذه الإمكانية لا يمكن العثور عليه إلّا في العلاقة الجنسية بين الذكر والأنثى (relation hétérosexuelle)؟ بمعنى آخر، هل يوجد نوع من الخصوبة لا تَربطه صلة بالبيولوجيا؟
ليفيناس: إنّ علاقة أب ـ ابن، مثلًا، لا ينبغي تصوّره من جهة بيولوجية على وجه الدقّة. إنّ هذه العلاقة يمكن أن تُوجد بين كائنات ليسوا، بيولوجيًّا، آباء وأبناء. الأبوّة والبنوّة: أيْ الشعور بأنّ الآخر ليس مجرّد شخص التقيتُه، وإنما بوجه ما أنّه امتداد لي، لِـ أناي (mon ego)، وأنّ إمكانيّاته هي إمكانيّاتي ـ إنّ فكرة المسؤولية بالنسبة للآخر يمكن أن تمتدّ إلى هناك.