البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الغيرية رؤية أنطو ـ تاريخية للمفهوم

الباحث :  كارل سيغموند وكريستوف هورت
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  10
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2018 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 23 / 2018
عدد زيارات البحث :  983
تحميل  ( 257.264 KB )
الدراسة الآتية كتبها الباحثان في معهد الرياضيات بجامعة فيينا النمساوية، كارل سيمغموند وكريستوف هورت.

تتناول مفهوم الغيريّة من وجهة أنطولوجية وسوسيولوجية.

فقد سعى كل من سيغموند وهورت إلى استرجاع الغيريّة كما عبرت عنها كلاسيّات الفكر الفلسفي، فضلاً عن تأصيلها بوصفها ظاهرة في التاريخ الإنساني.

المحرر


تعتبر الأفعال الغيريّة «نبيلة» بوجه عام. فبعض الكائنات الوضيعة تميل لمضاهاة أكثر أفعال التفاني والتضحية بالذات بطولة عند الإنسان. ولتوضيح ذلك سأستعمل مثلاً شائعاً: تأمّل متفرعة المِعى المتغصنة dendriticum  Dicrocoelium التي تُعرف أيضاً بدودة الدماغ. تقضي هذه الطفيليات بعض مراحل نموها في أحشاء الأبقار وتخرج مع برازها على شكل يرقات يقتات عليها النمل في مراحل لاحقة. وحين يلتهم النمل هذه اليرقات تتفكك مجموعة منها على جدران معدة النملة، وتصل إحداها إلى دماغ النملة فتجعلها تتسلق الأعشاب وصولاً إلى رؤوس أوراقها حيث تكشف نفسها أمام المواشي التي ترعى. أما باقي اليرقات، فإنها تسلك طريقها إلى مثانة النملة وتنتشر في جسمها وتتهيأ لمتابعة دورة حياتها داخل البقرة التي تغذّت عليها. لكن اليرقة التي وصلت إلى الدماغ – «دودة الدماغ» – تموت من دون أن تترك ذرية. إنها تضحّي بنفسها من أجل بقاء المجموعة. أمّا في البشر، فتشكّل الأعمال البطولية موضوعاً للشعر الملحمي.
والغريب أن البيولوجيين التطوريين يشعرون بالتحدي أمام هذا السلوك، ويعدّون «إخراج الغيريّة من الغيرية»  هدفاً يحظى بالأولوية القصوى. ومن أجل الشروع بهذه المهمة يعرّفون مصطلح «غيرية» بعبارات داروينية محضة خالية من أي مضامين أخلاقية. يُسمّى الفعل الذي أنجزه الفرد (أ) وأثّر في الفرد (ب) إيثارياً  إذا زاد من قدرة – النجاح الإنتاجي – المتلقّي (ب) وقلّل من قدرة (أ). في هذا السياق، يمكن للمرء أن يتحدث عن سيناريوهات محتملة أخرى: إذا ضاعف الفعل من قدرات (أ) و(ب)، حينها يمكننا أن نتحدث عن تعاون؛ وعن ضغينة إذا تم الإنقاص من القدرتين، وعن أنانية إذا تحسّنت قدرة (أ) وتضاءلت قدرة (ب).  إن سمات الغيريّة والحقد تقلّل من النجاح المنتج لحامليها، وتبدو للوهلة الأولى أنها متعارضة مع فعل الاصطفاء الطبيعي، ومع ذلك فإنها تزدهر.
يعدّ السلوك الانتحاري لدودة الدماغ مثالاً عجيباً على الغيريّة المنتجة. فاليرقات الأخرى ما كانت لتصل إلى مرحلة وضع البيوض بطريقة أخرى. تحصل أشكال أخرى من الغيريّة الإنتاجية في العناية بفقس الحشرات الاجتماعية. حيث تتألف طبقة العمال من أفراد عقيمين يمثلون طريقاً مسدوداً أمام سير البذرة.
على الرغم من هذا فإن مهمة هؤلاء الأفراد الاعتناء بالفقس وحتى الانتحار من أجل خدمة الجماعة. وكذلك في أنواع كثيرة من الطيور المدارية، تساعد الطيور غير المتزاوجة ـ السواد الأعظم من الذكور ـ الأزواج المتناسلة على زيادة سلالاتها. يحصل سلوك أبوي شامل مشابه بين بعض الأسماك والثديات، وكذلك الأسماك البلطية، والخلد، وبنات آوى.
كما ينطبق تعريف الغيريّة المنتجة على سلوك الآباء بالتبنّي تجاه فراخ طائر الوقواق. والمرشح الآخر للغيرية الذي أجريت عليه دراسات بشكل متكرر هوالسلوك الرعوي المنتشر بكثرة بين الحيوانات، مثل صيحات الإنذار التي تصدرها الطيور والقرود وتباهي الغزلان بقفزاتها - مستندة على أفخاذها القوية. كما أن هناك شكلاً آخر من الغيريّة وهوضبط النفس الذي نلحظه تكراراً ممن يربح في منافسة، فهذا الضبط للنفس يقلل من قدرة الرابح ويفسح المجال للخاسر لكي يعود في نهاية الأمر ويربح المعركة الآتية.
لا شك أن السبب الأكثر شيوعاً للسلوك الغيري هوسبب نَسَبي. فثمة قيمة واضحة للمساعدة التي يقدمها الأهل لصغارهم تتعلق بقدرة الأهل التي تجعلهم مؤهلين ليكونوا غيريين. لكن للأفراد حصة جينية ليس في الأولاد فحسب، بل في الأحفاد، وكذلك في الأقارب جميعهم. هذا ما سبق واعترف به دارون، على الرغم من أنه لم يستطع وضع أسس ثابتة له في علم الوراثة السكاني.  ثم طوّر و. د. هاملتون    W.D. Hamilton نظرية تتوافق مع الانتخاب النَّسَبي في ستينيات القرن العشرين، بعد داوكنز، كانت تُفسَّر عادة من وجهة نظر جينية. فمثلاً إن الجين الذي يحفّز الميل لمساعدة الأقارب، سيساعد الأفراد المرجح أن يحملوا نسخاً من ذلك الجين، وبالتالي يسهّل انتشار ذاته.
تلخص قاعدة هاملتون هذا بإتقان: تأمل جيناً يدفع حامله (أ) لممارسة فعل تجاه متلق (ب). سيتضاعف تردد هذا الجين إذا تخطّت العلاقة بين (أ) و(ب) -  أي احتمال تقاسمهما نسخاً متماهية من هذا الجين عبر السلالة -، النسبة بين كلفة خسارة قدرة (الحامل أ) واكتساب قدرة (المتلقي ب). وقد وردت عبارة قد تعود إلى هالداين Haldane J.B.S، أن هناك “فائدة» من الموت إذا كان سبيلاً لإنقاذ أكثر من شقيقين. مثلاً إن السلوك الانتحاري لدودة الدماغ، يمثل ثمناً زهيداً بالمقارنة مع نجاة سائر اليرقات الملتهمة، التي من المرجح أن تكون من الوالدين نفسهما.
ليست قاعدة هاملتون إلا قمة جبل الجليد الظاهرة من نظرية مدروسة قائمة على فكرة القدرة الشاملة، حيث لا يؤخذ بنظر الاعتبار تأثير الفعل في النجاح الإنتاجي للفاعل فحسب، بل أيضاً تأثير الفعل في النجاح الإنتاجي لكل المتأثرين، يقاس كل منها بعامل العلاقة المناسب. لكن هذه الحسابات ليست سهلة، فهي من جهة  تؤدي إلى فخ «الحساب المزدوج»، وتكون في العادة مصابة ببلاء تعقيد التولّد الداخلي. وثمة أداة نظرية مهمة هي معادلة الكلفة، التي تعبّر عن تزايد تكرر الجين في معادلة متقنة تصور الاصطفاء ضمن المجموعات، والاصطفاء بين المجموعات.
أدى الاصطفاء النَّسَبي إلى تطور ملحوظ في شرح السلوك الاجتماعي عند الجماعات ذات الروابط العائلية القوية، وسمح بالوصول إلى مستوى جديد من التفاصيل في دراسة الصراع على المصالح، فمثلاً بين الإخوة والأخوات عند الحشرات ذات الأجنحة الغشائية hymenopteran كالنمل والنحل، حيث لا يوجد للذكور آباء وحيث العلاقة ليست متكافئة بالضرورة. بالإضافة إلى أن الاصطفاء النسبي يسمح بمعالجة الصراع بين الأجيال، وبشكل خاص بين الأهل والذرية. فالأفعال الغيريّة يمكن أن تصل بسهولة إلى الأهل، لكن يبقى علينا أن نسأل كيف نفصل كلفة استثمار الأهل بين الأم والأب وكيف نقسم الجهد بين الأولاد بما فيهم الذين لم يولدوا بعد. لقد حفز هذا النوع من الأسئلة إلى حد كبير دراسة تاريخ الحياة الإنسانية. فمثلاً كم فصلاً يجب على الطير أن يتحمل خدمة أهله بوصفه مساعداً للعش؟
إلى الآن، تم توثيق آلاف النماذج الغيريّة المرتكزة على الاصطفاء النسبي، وتقريباً تم تحليل كل سمات التفاعل الاجتماعي بطريقة روتينية على أساس العلاقة. فهذه الأبحاث، التي بوصفها أثراً جانبياً، تستخدم في الغالب واصمات جينية، لفتت الانتباه إلى آلية إدراك النَّسَب بين الحيوانات. وقد أثبتت حالات كثيرة فاعليتها بشكل مذهل، لكنها فشلت أحياناً وتركت الباب مفتوحاً للاستغلال، وبشكل مدهش من خلال الوقواق وغيره من أنواع الطفيليات. وهناك أمثلة إضافية على الاهتمام غير الصحيح بالفقس الذي تقوم به عاملات النمل المستعبدة.
بعد كثير من التقدم بالاصطفاء النسبي، يبدواليوم أن ثمة صعوبة في فهم أن السلوك المساعد بين الأقارب كان يمكن أن يعدّ تحدياً للداروينية. كان ظهور الغيريّة مرتكزاً على إهمال بعض البراهين، مثل تجاهل آثار القدرة الشاملة. هذا يتوافق إلى حد كبير مع الرأي العامي، حيث لا تعدّ محاباة الأقارب غيرية، بل تعدّ شكلاً مدمّراً من الأنانية.
الذي ما زال يشكل تحدياً هوالغيرية بين غير الأقارب. والحدث المؤسس في هذا الحقل هوبحث قدمه تريفرز  Trivers  وأوضح فيه الغيريّة المتبادلة. يحصل هذا عندما يتم تبادل الأفعال الغيرية، التي تكون كلفتها أقل من مكسبها، بشكل متكرر بين فردين، ويحصل كلاهما على زيادة صافية في القدرة. يرتكز هذا النوع من الإيثار، الذي يتلخص في مبدأ «حك ظهري كي أحك ظهرك»، على روابط اقتصادية لا على روابط جينية، وهويبدو أكثر هشاشة. إن رد الحركة الغيريّة تجاه قريب يكون مباشراً، كما سبق وكانت العلاقة الجينية في موضعها. لكن الرد الحتمي من خلال التبادل لا يمكن أن يحصل في العادة إلا فيما بعد. فتكون الأفعال الغيريّة استثمارات تأملية في المستقبل. وفي العادة سيكون الغش سهلاً على المتلقي. لقد تجسد هذا المأزق تقليدياً من خلال لعبة ورطة السجين، التي تكون في العادة مرتكزة على الأفعال المتزامنة التي ينفذها لاعبان. فإذا تعاون الاثنان وتساعدا، فسيحصل كلاهما على مكافأة؛ لكن إذا ساعد أحد اللاعبين الآخر، فإنه سيتكبّد كلفة في القدرة، والآخر، المنسحب، سيلقى الفائدة من غير اضطرار لدفع مقابل. لا يهم إذا كان اللاعب الآخر سيتعاون أوسيتخلّى، والأفضل هوالتخلّي في هذه اللعبة.
إذاً كيف تتطور الغيريّة المتبادلة؟ بيّن ترايفرز Trivers أن التفاعل إذا تكرّر لعدد كاف من المرات، فإن الاستراتيجيات التعاونية المرتكزة على التبادلية يمكن أن تستمر: الانسحاب لن يكون مفيداً إذا كان ثمة احتمال كبير لجولة أخرى من اللعبة، وهذا سيعطي اللاعب الآخر فرصة للانتقام، (ظل المستقبل). بعد البحث المميز الذي كتبه أكسلرود Axelrod وهاملتون، جرى تطوير نظرية الإيثار المتبادل إلى حد بعيد، وكانت معززة في الغالب بالتشابيه الكمبيوترية التي تصنع نماذج لتطور الاستراتيجيات في لعبة ورطة السجين المتكررة المرتكزة على تاريخ تغيّر اصطفاء الجماعات الاصطناعية.
النتيجة الأساسية هنا هي حين يصل التفاعل إلى درجة كافية من الاحتمال كي يكون طويل البقاء، فإن مجموعة صغيرة من اللاعبين تستخدم استراتيجيات انتقامية يمكن أن تهاجم عدداً كبيراً من المنسحبين. ومن جهة أخرى، لا يمكن لأقلية من المنسحبين، أن تغزوعدداً كبيراً من المنتقمين القساة. لكن ما يمكن أن يضعف هذه الجماعة هو انتشار الغيريين المختلطين، الذين يمكن أن يمهدوا الطريق لعودة ناجحة للمنسحبين من خلال استغلال فقدانهم الآلية الدفاعية.
لسوء الحظ، إن الدليل التجريبي على الغيريّة المتبادلة لم يتطوّر إلى مستوى النظرية. لكنّ هناك عدداً من الأمثلة التي ما زالت تُتداول منذ سنين منها: التفتيش الذي تقوم به الأسماك المفترسة، فمثلاً اثنان من أبي شوكة يتعاونان إذا اقتربا معاً من إحدى الأسماك المفترسة. وتبادل البيوض الذي تقوم به الأسماك الخنثى التي تستبدل بدور الذكر دور الأنثى الأكثر أهمية مرات عدة خلال اللقاء الجنسي. والإطعام عن طريق الزق الذي تقوم به الخفافيش مصاصة الدماء، يتلقى الخفاش الجائع على نحو متكرر جزءاً من دم الماشية الذي يتقيؤه خفاش متخم.
إن ندرة الأمثلة على الغيريّة المتبادلة غير البشرية تبدو لافتة. والظاهر أن العثور على مقتضيات الاستراتيجيات الثأرية ـ سلاسل طويلة من التفاعلات بين الفردين نفسهما، والقدرات المعرفية لتحديد الشركاء ولتذكر أفعالهم ـ خارج الجماعات الحيوانية الرئيسية أمر في غاية الصعوبة. وعلى الرغم من ذلك فقد تم توثيق عدد من أشكال الإيثار المتبادل، كالذي يحصل في ائتلاف الذكور الشباب، بين الحيوانات العليا. فالميل البشري للتبادل واضح، بشكل خاص، في الحياة  اليومية، وقد تم تأكيده عن طريق عدد من التجارب التي ترتكز على تكرر لعبة ورطة السجين. يجب أن نشير في هذا السياق إلى أبسط الآليات التطورية  التي يمكن أن تؤدي إلى نسبة معينة من الإيثار – حتى لولم تتكرر ورطة السجين ـ شرط تفاعل اللاعبين، ليس مع أفراد اختيروا عشوائياً، بل مع أقرب جيرانهم. وبشكل عام، يبدوأن الغيريّة مفضلة عند الجماعات حتى لوكانت قابليتها ضعيفة، وحتى في غياب المعاملة بالمثل.
يمكن الحديث عن تبادلية مباشرة إذا ردّ المتلقي المساعدة التي حصل عليها من المانح، وعن تبادلية غير مباشرة إذا حصل رد المساعدة عن طريق طرف ثالث – «أعطِ تعطَ» – يوصف التبادل غير المباشر بأنه  ركيزة لجميع المنظومات الأخلاقية. وقد تم اقتراح عدد كبير من القواعد السلوكية لتنفيذ التبادل غير المباشر، الذي يرتكز أساساً على التأمل في الوضع. فإذا تضاعفت نقاط الفرد كلما أنجز فعل مساعدة، وإذا انخفضت كلما رفض المساعدة، إذاً فإن استراتيجية مساعدة ذوي النقاط العالية فقط توجّه الإيثار بشكل فاعل تجاه غيريين آخرين، ومن ثمّ تميّز ضد المنسحبين.
تبيّن أن هذه الاستراتيجيات والتفاوتات تؤثر في التجارب التي تجرى مع المجموعات البشرية. لكن هذا التبادل غير المباشر في تشبيهات الكمبيوتر يكون عادة مهدداً من خلال ظهور، أولاً فاعلي الخير الذين يعطون جميع القادمين من دون تمييز، ثم المستغلين الذين لا يعملون بالمثل. والسبب هوأن المميِّزين يرفضون مساعدة أصحاب النقاط القليلة فتتدنى نقاطهم، ومن هنا تأتي فرصتهم للحصول على المساعدة. يمكن أن تتحقق أنظمة الإيثار المستقرة من خلال الاستراتيجيات التي تأخذ بالاعتبار توجيه رفض المتلقّين السابقين الكامن للمساعدة نحوالمستغلين الضعفاء أو نحو الغيريين المستحقين. لكن هذا يحتاج إلى تطور معرفي، ووفرة من المعلومات حول ماضي أعضاء الجماعات الأخرى.
درسنا حتى الآن التفاعلات التي تتم عادة بين فردين. لكن إثبات الغيريّة المتبادلة يصبح  أكثر صعوبة في الجماعات الكبيرة. وهذا ما يمكن أن نلحظه فيما يسمى ألعاب الصالح العام، قوام الاقتصاد التجريبي. يحصل كل واحد من اللاعبين الأربعة على عشرين دولاراً، ويقررون المبلغ الذي سيستثمرونه من المال الذي جمعوه في صندوق الأسهم المشتركة،  ويحتفظون بالباقي لأنفسهم. ثم يضاعف المجرِّب محتوى الصندوق ويقسّمه بالتساوي بين اللاعبين الأربعة، بصرف النظر عن إسهامهم. وإذا أسهم اللاعبون جميعهم بشكل كامل، فإنهم يضاعفون مكافآتهم. لكن بالنسبة لكل لاعب، إن مردود استثمار كل دولار هو50 سنتاً فقط، وعليه تكون الاستراتيجية الأنانية عدم استثمار أي شيء. لكن في التجارب الفعلية، يستثمر الناس جزءاً كبيراً من أموالهم. لكن بعد عدد من جولات هذه اللعبة، تنخفض معظم الإسهامات إلى الصفر. وسبب ذلك على ما يبدو هو أن الاحتمال الوحيد للانتقام من اللاعبين الذين يقل إسهامهم عن المعدّل، يكون بتقليل الشخص من إسهاماته، وهذا ما يؤدي إلى فض الشراكة. بيد أن الصورة تتغير بشكل حاد إذا أتيحت الفرصة بعد كل جولة من ألعاب الصالح العام لفرض غرامات على بعض المشاركين باللعب، على ألا تذهب الغرامات إلى المعاقِبين، وهكذا يكون العقاب نشاطاً غير أناني. بل على العكس، يكون فرض غرامة مكلفاً للمعاقِب. ومع ذلك نلاحظ نزوعاً لمعاقبة اللاعب الحر، مصحوباً باعتداء أخلاقي شديد. والظاهر أن المشاركين في ألعاب الصالح العام يتوقعون هذا: مزيداً من الإسهامات، وإذا تكررت اللعبة لجولات قليلة، فإن الإسهامات تتضاعف.
إن استراتيجيات المعاقبة من أجل المحافظة على سلوك تعاوني معروفة جداً في المجتمعات الحيوانية، مثل الدبابير، والخلد، والشمبانزي. لكن إذا كانت في العقوبات فائدة مستقبلية للمعاقِب، يمكن حينها تفسير العقوبات المكلفة على أنها فعل أناني. غير أن التجارب الحديثة على الإنسان كشفت النقاب عن وجود سلوك عقابي حتى لو تم مثلاً استثناء الفوائد المستقبلية في جولة أخرى من ألعاب الصالح العام. هذا يسمى عادة عقوبة غيرية، على الرغم من أنه يندرج تحت تعريف النكاية بمعناها الدقيق، لأنها تقلل من قدرة الطرفين المشاركين. يجب أن نعرف إذا كان لمواقف النكاية هذه أي فائدة عامة بين الجماعات غير البشرية.
بيّنت التجارب أن المكافأة يمكن أن تلعب دوراً شبيهاً بدور العقوبة في الجماعات البشرية: فإذا تم اختيار اثنين من اللاعبين في جولات لعبة الصالح العام عشوائياً، وإذا كان بمقدور أحدهما أن يقدّم هدية للآخر، فإن احتمال حصول هذا سيتضاعف مع ازدياد أسهامات المتلقي في لعبة الصالح العام، وهذا يجعل معدل الإسهامات في الصندوق المشترك مستقراً على مستوى عالٍ.
في الأحوال كلها، يزداد الدافع للأفعال الغيريّة بشكل كبير إذا انتشر داخل الجماعة. ويمكن، وفقاً لمبدأ الإعاقة، أن نعدّ هذا مؤشراً مهماً على قدرة الفرد. ينبغي لتطور القدرات المعرفية واللغوية أن يضع حفظ الدرجات بعد التبادل المباشر وغير المباشر، وأن يسهّل نشوء العواطف الأخلاقية مثل التضامن، والشعور بالذنب، والغضب، والضمير ـ «طبيعتنا الخيرة» كما عبّر دي وال   de Waal. وأخيراً يمكن لهذا أن يؤدي إلى إضفاء قيمة وجدانية على الغيريّة باعتبارها صفة نفيسة ونبيلة.