البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

صورة الإسلام عند هيجل نقد الفصام الفلسفي

الباحث :  محمد عثمان الخشت
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  10
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2018 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 23 / 2018
عدد زيارات البحث :  2859
تحميل  ( 344.714 KB )
يقارب هذا البحث واحدة من المسائل النادرة في العلاقة بين الإسلام والغرب، وهي التغطية الفلسفية التي أجراها الفيلسوف الألماني هيغل للمركزية الحضارية الغربية، والموقف السلبي من الإسلام على وجه التحديد. بهذه الخصوصية المعرفية للبحث نكون قد فتحنا باباً إضافياً ونوعياً على بحوث الاستشراق المعاصر، ولا سيما لجهة بيان ما جرى إهماله من الوعي التاريخي الغربي حيال الإسلام.

المحرر

يتساءل هذا البحث عن علاقة الموقف الأيديولوجي والسياسي لهيجل بتهميشه الإسلامَ؟ ولماذا أخرجه من سياق الأديان العالمية؟ مع أن الإسلام ـ لأسباب موضوعية صرفة ـ أكثر الأديان تأثيراً في حركة التاريخ كما يقول مايكل هارت في كتابه «المائة.. تقويم لأعظم الناس أثرًا في التاريخ»، وتتوافر فيه شروط العالمية أكثر من أي دين آخر؛ من حيث إنه يتحدث عن «الله» رب العالمين لا رب قوم بأعينهم؛ رب المؤمن والفاسق والكافر، وليس رب المؤمنين فقط؛ ومن حيث إن الخطاب القرآني موجه إلى العالم كافة، وهويعترف بالتمايز والاختلاف الموجود بين الشعوب، ولا يعمل على إلغائه، بل يقر به بوصفه نوعاً من الاختلاف المنتج الذي يؤدي إلي التقدم ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (الحجرات: 13) ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ (هود 118-191)، ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُوفَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (البقرة: 215)، فضلاً عن أن الإسلام لا يجاهد من أجل إلغاء الآخر، بل يجاهد فقط المعتدين والقتلة والظالمين، ويحث المؤمنين به على التواصل مع الآخر ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (الممتحنة: 8،9)، إلي غير ذلك من الأسباب الموضوعية التي تؤكد عالمية الإسلام (مثل الحرية المنضبطة، الشورى، المساواة، العدالة والإنصاف بصرف النظر عن القبيلة أوالجنس أواللون أوالمعتقد... إلخ) والتي تجاهلها «هيجل» أوجهلها.
ويتساءل البحث أيضا عن سر تناقض هيجل حين وضع المسيحية كحد نهائي مكتمل لتطور الروح الديني، مع أن نسقه بحكم منهجه الجدلي كان ينبغي أن يظل مفتوحًا؛ إذ إنه قام بفتح النسق الفلسفي المغلق عند كل من «سبينوزا» و«كنت» بإدخال فكرتي الصيرورة والتاريخ عليه، حتى يتمكن من تطويره والوصول به إلى آفاق رحبة غير ساكنة، لكنه اضطر إلى غلقه مرة أخرى، ربما بدافع من انحيازه المسبق لكل من المسيحية والملكية البروسية حين جعل المسيحية هي نهاية الروح الديني، بوصفها الدين المطلق عنده، وحين جعل الملكية البروسية قمة النضج السياسي ونهاية التاريخ، ونظر إلى فلسفته بوصفها الفلسفة المطلقة النهائية المعبرة عن تطور الروح واكتماله! مع أن الروح الجدلية لمنطقه كانت تحتم عليه ألا يقع في مثل هذا التناقض الضخم الذي كان في غنى عنه لو سار مع تلك الروح الجدلية حتى آفاقها المنطقية غير النهائية من دون أن يقف عند مرحلة تاريخية معينة، ففكرة السلب الهيجلية ـ وما أعمقها! ـ تجعل التاريخ مفتوحًا غير مكتمل دومًا، لكن الانحياز الأيديولوجي ـ وما أقوى ضغطه على المرء ـ هوالمسؤول عن تخلي بعض الفلاسفة عن أسمى منجزاتهم العقلية من أجل بناء مذهب فلسفي منحاز، وحين ينحاز المذهب فما أكثر عثراته وتناقضاته!
تلك الأسئلة وغيرها يطمح البحث إلى تقديم الإجابة عنها، لكن ليس بالضرورة دائمًا على نحو مباشر مصرح به؛ وإنما أحيانًا بترك مساحة من الاستنباط للقارئ. وقد حرص الباحث على عدم الاكتفاء بالتركيز على بناء فلسفة الدين واكتمالها في العقلانية المنحازة عند «هيجل» في فلسفة الدين، بل عمل على تتبعها أيضا في فلسفة التاريخ.
وإذا كان الباحث قد قام من قبل بقراءة هيومية لـ«كنت»، وقراءة «كنتية» لهيوم، فإنه قد حرص هذه المرة على قراءة «هيجل» بهيجل؛ اقتفاء ببعض علماء تفسير النصوص الدينية الذين يفسرون الكتاب بالكتاب. فكما أن الكتاب يفسر بعضه بعضًا، فإن فلسفة الفيلسوف يفسر بعضها بعضًا كذلك، واستحضار المقصد العام للفيلسوف يساعد على استحضار الفهم الموضوعي لعباراته الجزئية، مثلما يمثل المقصد العام للشريعة ـ على ما يذهب علماء أصول الفقه والقواعد الفقهية ـ أحد أهم معايير فهم الأحكام الجزئية واستنباطها من النصوص.
وقد اقتضت هذه الطريقة في التأويل اعتماد منهج تحليل النصوص، لكن هذا التحليل لا يعني الوقوع في قراءة تتعقب التفاصيل وتهمل البنية العامة والمقصد الكلي، بل إنها قراءة تحليلية بنيوية في آن، تحلل النص أولاً ساعية إلى كشف المعنى الباطني للعبارات في ضوء المقصد الكلي لمجموع نصوص الفيلسوف، غير قانعة بالسياق الجزئي، ومتطلعة إلى استنباط ما هومسكوت عنه أوما يعجز عنه نطاق القول تحت ضغط الظروف التاريخية والعوامل الأيديولوجية. وفي سياق التحليل يأتي البناء أوإعادة البناء؛ لأن التحليل إذا كان مفيدًا في فهم التفاصيل، فإنه قاصر عن إدراك الوحدة الكلية الحية للفلسفة، ومن ثم يأتي دور المنهج البنيوي الذي يركز على النسق الكلي والعلاقات الكامنة بين أركانه من أجل الوقوف على تأويل متسق داخليَّا، في ضوء رؤية نقدية صارمة تميز الموضوعي من الذاتي، وتكشف الانحياز التاريخي والعقدي والفلسفي الذي يقع فيه بعض الفلاسفة تحت وطأة العوامل الأيديولوجية.
* موقع الدين بعامة في النسق الهيجلي:
يقع الدين – بوصفه أحد تجليات الروح المطلق في نسق المذهب عند هيجل – بين الفن والفلسفة. فالروح المطلق يتجلى بادئ ذي بدء في موضوعات حسية على نحو ما يتضح في الفن، من خلال الصور والتماثيل التي تعبر عن المطلق على أنه موضوع حسي وليس روحاً، مثلما يظهر في فنون الديانات الوثنية. لكن الروح المطلق بوصفه روحاً لا يمكن أن يتجلى على نحو كاف في الصورة الحسية، أي في التماثيل والرسوم مثلاً؛ لأن هذه الأخيرة لا تستطيع أن تعبر عن حقيقة ما هو روحي تعبيرًا كاملاً. بيد أن هذا لا ينفي أن الفن يعبر، بشكل ما، وإن كان غير كاف، عن المطلق، حيث يعبر عنه على أنه موضوع حسي وليس روحًا.
ومن هنا فإن الفن يظل يعاني تناقضاً داخلياً، ولا يُحل هذا التناقض إلا في الدين؛ حيث يرتفع العقل من مرحلة إدراك المطلق بوصفه موضوعاً حسياً إلى مرحلة أخرى أرقى، هي الدين؛ حيث يظهر الروح المطلق في الدين بطريقة تمثيلية مجازية رمزية، من خلال اللغة المعتمدة على الاستعارات والكنايات والتشبيهات.
فالدين يدرك موضوعه -عند هيجل- لا على أنه من موضوعات الحس ولا من موضوعات العقل الخالص، وإنما يدركه على أنه أمر بين الحس والعقل الخالص، يسميه هيجل التمثيل vorstellung. فالدين يقع في مرحلة وسطى لأنه وإن كان يدرك الحقيقة المطلقة، يعبر عنها بشكل مجازي تمثيلي تصويري. والمقصود بتصويري هنا ليس التصوير الحسي بكل ما فيه من جزئية، وإنما التصوير هنا يحمل دلالة كلية، إذ يعبر عن فكر خالص وحقيقة مجردة مستخدماً التعبير المجازي أوالرمزي.
وعلى هذا الأساس يقارن هيجل بين موضوع الفلسفة وموضوع الدين، ويرى أن الموضوع واحد، وهوالمطلق أواللا متناهي، لكن الخلاف بينهما يكمن في شكل التعبير، ففي حين تعبر الفلسفة بشكل فكري مجرد، مستخدمة لغة مجردة، يعبر الدين بشكل مجازي.
وذلك أن الروح عند هيجل يتخذ في الدين صورة معينة تجمع بين الحسي والفكري، ويتخذ التمثل مقراً له، بينما الروح في الفلسفة تتخذ الفكر الخالص مقراً لها وتعبيراً عنها. وبهذا  تختلف الفلسفة عن الدين، على الرغم من  أن المضمون مشترك وموحد فيهما.
ويحدد هيجل بالتقريب منطق المسار التاريخي للعلاقة بين الدين والفلسفة من خلال قصة العلاقة بين التمثل في الدين والفكر في الفلسفة، على النحو الآتي: يظهر الفكر داخل الدين، ثم يظهر تدريجياً بجواره، لكن لا يصل التعارض بينهما إلى مستوى الوعي به. ولكن حين ينضج الفكر ويقوى ويعتمد على ذاته، يفصح عن عدائه للدين أو للتمثل الديني، إذ لم يعد يبحث إلا عن ذاته، ويرفض أن يرى في الدين تصوره الخاص به، ويستند الفكر إلى شكله الخاص به، ولا يتعرف إلى نفسه في الشكل الآخر أي في الشكل الديني؛ فيعادي التمثل الديني ويرفض الشكل الديني. وفي هذه المرحلة يظهر التمثل الديني والفكر الفلسفي وكأنهما ضدان أونقيضان متعارضان عدوان، ولا يكون أي منهما واعياً إلا باختلافه عن الآخر وعداوته له، لأن الفكر يكون خالصا منغلقا في نطاق التجريد فقط، ونظرا لأنه منغلق على هذا النحو التجريدي الصرف فإن الروح لا يعرف ذاته إلا بوصفه روحاً متبايناً ومتعارضاً ومختلفاً مع الآخر، فيتخذ منه موقفاً سلبياً.
 لكن الفكر في مرحلة تالية ينضج، ويتضمن نفيه، ويستأنفه في ذاته، إذ يفهم نقيضه الخاص ـ أي الدين ـ وينصفه، وبذلك يعدّ إيجابيًا فيتعرف إلى نفسه أيضًا في الشكل الذي يتخذه الدين، ويصل إلى مرتبة إدراك الدين كلحظة من ذاته. ولا شك أن الملاحظة الهيجلية صائبة تمامًا، ويمكن التدليل عليها بأدلة كثيرة، فعداء الفكر للشكل الذي يتخذه الدين ما هو إلا مرحلة غير ناضجة يمر بها الفكر، ثم يتجاوزها بعد أن يكتمل نضجه، حيث يدرك الدين كجزء من ذاته. وربما يكون من الأفضل أن نورد دليل هيجل نفسه على ذلك حيث يستدل بعلاقة الفكر بالدين كما تطورت في الحضارة الإغريقية، ثم الحضارة المسيحية.
ففي بداية الحضارة الإغريقية كانت الفلسفة متضمنة في الدين الشعبي، ثم خرجت منه، فكان الدين إما هدفا للحرب المباشرة والعلانية أو اللامبالاة والإهمال من الفلسفات الناشئة، كما هي الحال عند إكسينوفان الذي انتقد بشدة تمثيلات الدين الإغريقي. ثم أصبح التعارض أعنف حين ظهرت فلسفات كافرة بالدين اليوناني كلية. ولقد اتُّهم سقراط بعبادة آلهة أخرى جديدة غير آلهة الدين الشعبي، ورفض أفلاطون أساطير الشعراء، وأراد أن تُمحى تواريخ آلهة هوميروس وهزيود في باب التربية في محاورة «الجمهورية». لكن في زمن تال تقبل الأفلاطونيون الجدد الدلالة والمضمون  الكلي للدين الشعبي. وفهموا المعاني التي يدل عليها الدين الشعبي بالنسبة إلى الفكر، وقاموا بتحويل التمثيلات الأسطورية إلى صور فكرية، ولم يكتفوا بذلك بل إنهم وظفوها بديلاً من اللغة المجردة، واستخدموها أساليبَ لغوية مجازية للتعبير عن أفكارهم الفلسفية.
كذلك الحال في بداية الأمر مع الدين المسيحي، حيث كان الفكر يتحرك داخل الدين، وعدّه مسلمةً مطلقة، أي إن الفكر ارتبط بالتمثيل الديني ارتباطاً شديداً، وهذا ما نجده بوضوح عند آباء الكنيسة الذين استخدموا الفكر لتطوير عناصر من العقيدة المسيحية، فصارت تلك العقيدة منسقة ومنظمة فلسفياً. لكن بعد أن قويت أجنحة الفكر انطلق نحو الحقيقة المجردة وحارب الدين، وهنا ظهر التعارض بين الإيمان والعقل. وبعد ذلك، حين نضج الفكر واكتمل، تصالح مع الدين، وعمل على إنصاف مضمون الإيمان.
وليس من الصعب أن نستخلص أن هيجل لا يقصد باكتمال الفكر إلا فلسفته هو الشخصية التي تصالحت مع الدين، وعارضت حركة التنوير العقلانية الرافضة للدين المسيحي؛ إذ عدّ هيجل عقلانية التنوير ليست سوى إدراك جاف مجرد لا يتجاوز دائرة الفهم إلى دائرة العقل.
ومهما يكن من أمر، فإن وجود الدين أمر ضروري للروح المطلق، لأن الدين هوالشكل الخاص بوعي الحق كما هو بالنسبة إلى عامة الناس. وتكوينه كالآتي: أولاً – إدراك حسي، ثانيًا– اتخاذ هذا الإدراك شكلاً كلياً من خلال التأمل والتفكير، لكنه يظل فكراً متضمنًا لكثير من الظهور والتخارج. وحين يبلغ الإنسان مرتبة التكوين العيني للأفكار، يتأمل نظريًا في الحق، ويصبح واعيًا به في صورته الحقيقية. لكن النظر الفلسفي الذي يبلغ مرتبة الحق النظري، مقصور على أرقى مرحلة للروح والتي لا يبلغها عامة الناس، فالنظر الفلسفي في الحق والوعي به في صورته الحقيقية ليسا هما الشكل الفكري العام الخارجي المشترك بين عامة الناس.
ومن ثم ينبغي لوعى الحق بذاته أن يرتدي شكل الدين عند هيجل. ويدل هذا الحكم من لدنه على إدراك ناضح لضرورة الدين من حيث هو دين، فمن المغالطة الظن أن الكهنة اخترعوا الأديان لكي يخدعوا الشعوب، فالأديان في جوهرها تشترك مع الفلسفة في موضوع ما هوحق في ذاته ولذاته. أي الله من حيث هو وجود بذاته ولذاته، وعلاقة الإنسان به. ويظهر الله في الدين بوصفه اللامتناهي، وفي الدين يرتفع الإنسان من المتناهي إلى اللامتناهي،  يصعد إلى الكلي ويتجاوز الجزئي. الدين هو وعي الإنسان بعدم استقلالية المحدود وعدميته، فينشد العلة القصوى ولا يسترد نقاءه إلا حين يضع نفسه أمام اللاتناهي. وبناء على هذا، فإن هيجل يرى أن «الدين هوالروح في حالة وعيها بماهيتها...، هوصعود الروح من المحدود إلى اللامحدود «.
وهكذا فإن مفهوم الدين عند هيجل يتحدد – باختصار – على أنه بحث المتناهي عن اللامتناهي، بحث الإنسان عن المطلق، عما هو في ذاته ولذاته، عما تتصور على أنه العلة والجوهر والماهوي في الطبيعة والروح، ولقد عبرت الإنسانية ـ فيما يعتقد هيجل ـ عن أفكارها التي كونتها عن هذا الموضوع في الأديان بالإضافة إلى آرائها عن موقف الإنسان من الحقيقة والألوهية والخلود.
وخلاصة الأمر أن موضوع الدين هوموضوع الفلسفة نفسه، فالاثنان يبحثان في العقل الكلي الذي هو بذاته ولذاته، الجوهر المطلق. ويحاولان  أن يستبعدا التعارض بين المتناهي، بين الإنساني والإلهي.
غير أن الدين يجري هذه المصالحة بواسطة الخشوع، بواسطة العبادة، بواسطة الشعور والوجدان والتمثل. بينما الفلسفة تريد إجراءها بواسطة الفكر الخالص. لكن على الرغم من وجود هذا الخلاف بينهما في الوسيلة، فإن القرابة بينهما قائمة، إذ إنهما يتوحدان في مضمونهما وغايتهما ولا يتمايزان إلا بالشكل.
ولا يجوز فهم هذا التمايز بينهما كما لوكان الدين لا يشتمل البتة على أي فكر، فالدين عند هيجل يشتمل أيضًا على أفكار عامة، وليس هذا الاشتمال ضمنيًا مستترًا يتطلب جهدًا لاستخلاصه مثلمًا هي الحال بالنسبة للأساطير وتمثيلات الخيال بل إن الأفكار توجد على نحوصريح في الدين. ويضرب هيجل على ذلك مثلاً من الديانات الفارسية والهندوسية، إذ إنها تشتمل على أفكار محددة في الألوهية والوجود والروح والحقيقة، وتكشف في جانب منها –فيما يرى هيجل- عن أفكار نظرية راقية وبالغة العمق، ولا تتطلب أي نوع من التفسير الإضافي.
ينبغي أن نضيف في هذا الصدد من جانبنا الدين الإسلامي الذي يشتمل على أفكار بالغة التجريد والنظرية، بجوار اشتماله على تمثلات، بل إن المفهوم الأساسي الذي يقوم عليه الإسلام مفهوم تنزيهي خالص، وهوالتوحيد الإلهي، فمفهوم الألوهية الإسلامي يقف ـ بين سائر مفاهيم الألوهية التي تقدمها الديانات الأخرى ـ كأكثر المفاهيم إيغالاً في التنزيه عن المادية والتشبيه والتجسيم والحس والمحسوس، وأكثرها بعداً عن المجاز والتمثيل، لدرجة أن بعض النصوص الإسلامية تقدمه سبحانه مجاوزاً ليس للحس فقط، وإنما  تقدمه مجاوزاً للعقل، وإن كان غير مضاد له، إمعانًا في التجريد والتنزيه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)، (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ)، ولذلك يقول الفخر الرازي: «وكل ما خطر ببال الإنسان من صفات الكمال والجلال؛ فكمال الله وجلاله أعلى وأعظم من ذلك المتخيل والمتصور»، أي إن الإسلام يؤكد أن  كل ما خطر ببال الإنسان فالله خلاف ذلك. ولوكان هيجل تعمق في مفهوم التوحيد الإسلامي من خلال معلومات دقيقة، لكان بإمكانه أن يكتشف أبعاداً فلسفية عميقة الغور كانت كفيلة بتغيير موقفه الذي تجاهل فيه الإسلام في «محاضرات في فلسفة الدين»؛ إذ لم يذكره في سياق التطور العام لأديان البشرية التي اختتمها بالمسيحية، وإن كان قد ذكره على نحوهامشي غير لائق به سنشير إليه لاحقًا.
* خريطة الأديان عند هيجل:
وفق تقسيمات هيجل الثلاثية، فإن الدين في تطوره التاريخي يمر بثلاثة أطوار رئيسة، كل طور منها يشتمل على مجموعة من الديانات المشتركة في السمات نفسها، على الرغم من تمايزها الظاهري، وإن كان الطور الأخير يشتمل على ديانة واحدة.
 وهذه الأطوار كالآتي:
الطور الأول: أديان الطبيعة (الدين المباشر):
وفيها تكون الروح غارقة في الطبيعة
ديانة السحر المباشر.
أديان الجوهر.
الديانة الصينية.
الديانة الهندوسية.
(ج) الديانة البوذية واللامية.
أديان التحول من الدين الطبيعي إلى الدين الروحي:
الديانة الزرادشتية.
 الديانة السورية.
(ج) الديانة المصرية.
الطور الثاني: أديان الفردية الروحية:
وفيها يرتفع الروحي فوق الطبيعي
اليهودية (دين الجلال)
 الدين اليوناني (دين الجمال)
(ج) الدين الروماني (دين الغائية)
الطور الثالث: الديانة المطلقة.
وهي عند هيجل المسيحية.
ويضع هيجل أديان الطور الأول والثاني في مجموعة واحدة أكبر تضم المجموعتين، ويطلق عليها الأديان المحددة، حتى تصبح في مقابل الديانة المطلقة وهي المسيحية!
 إن التقسيم الهيجلي غالبا يكون ثلاثياً، لكنه قد يكون ثنائياً عندما يعجز هيجل عن تثليثه. وفي الأحوال كلها، يرى هيجل أن الأديان السابقة المسيحيةَ جميعها ما هي إلا معبرة عن جوانب من المسيحية ذاتها، وحين جاءت هذه الأخيرة استوعبتها استيعاباً كاملاً، وهكذا يتجاهل -أويجهل- هيجل الحقائق التاريخية كلها في علم النقد التاريخي.
إن تطور الأديان كما يعرضه هيجل مخالف لتطورها في التاريخ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على محاولة تطويعه التاريخَ من أجل أن يخدم أغراضه، الأمر الذي يشير إلى عدم موضوعيته؛ إذ إنه لا يفلسف التاريخ كما هوفي الواقع. وإنما يعيد تركيبه وفق نسق من عندياته، يرمى في النهاية إلى تكريس معتقداته الشخصية سواء أكانت دينية أم سياسية.. فالديانة المصرية على الرغم من إيغالها في التاريخ تأتي عنده بعد الزرادشتية والبوذية! بل ـ وأحيانًا ـ بعد اليهودية !! وزرادشت يأتي عنده بعد بوذا على الرغم من أن زرادشت هو الأسبق! والديانة المصرية بكل ما فيها من تنوع إلى حد يجعلنا نتحدث عن ديانات مصرية، لا ديانة مصرية، هي عنده ديانة واحدة، وإذا كنا نحن نستخدم اصطلاح «ديانة مصرية» فهذا من قبيل إطلاق اسم المفرد على الجمع وهوجائز في اللغة العربية. لكن هيجل كان يقصد ديانة واحدة فقط.
ولا يسوغ لأحد أن يعترض بأن تطور الفكرة عند هيجل هو تطور منطقي لا زماني؛ لأن هيجل يتحدث عن تجلي الفكرة في التاريخ، الأمر الذي يستلزم توازي التطور المنطقي للفكرة مع التطور التاريخي الزماني لها. وروح استنباط المقولات في علم المنطق تدل على الصعود والتقدم وليس فيها تراجع تارة وتقدم تارة أخرى، مثلما يحدث معه في التاريخ.. إنه يرتب أديان العالم وفق منظومته الخاصة التي هي مخالفة لحقيقة تطورها في التاريخ. فضلاً عن إسقاطه لكثير من الديانات من منظومته إما عن عدم معرفة بها، وإما عن عمد؛ لأن ذكرها سيفسد التركيبة المنطقية التي أرادها.. إن محاولة هيجل ليست فقط خارج التاريخ الحقيقي للأديان، وإنما خارج العقلانية الموضوعية أيضًا.
* أين ذهب الإسلام في فلسفة الدين عند هيجل؟!
تعد صورة الإسلام عند هيجل عينة نموذجية ممثلة إلى حد كبير لصورته عند الغرب بعامة التي يغلب عليها طابع الانحياز وعدم الدقة والافتقار في أغلب الأحيان للموضوعية العلمية. فحالة هيجل وإن كانت قد تجاوزت الحالات السابقة عليها زمنياً على مستوى الصياغة وبعض الملامح، نجد إنها تظل فى جوهرها غير مختلفة عنها، بل إنها تحدد بدرجة كبيرة كثيراً من ملامح الصورة المتشكلة بعد ذلك في الوعي الأوربي. وإن كان هذا لا يتعارض بطبيعة الحالة مع وجود حالات استثنائية لصور متمايزة ومختلفة.
وإذا أردنا أن نعطي تحليلاً موضوعياً لصورة الإسلام عند هيجل، ينبغي أن نميز الإسلام بوصفه ديناً والإسلام بوصفه تاريخاً وحضارة؛ فالإسلام ديناً – ومن عجب – قد رفعه هيجل من الخريطة الجدلية للديانة العالمية في «محاضرات في فلسفة الدين» ولم يذكره إلا عرضاً في موضوعين من محاضرات 1827م، وكان قد ذكره فى موضع ثالث في محاضرات 1824م، إذ باين بينه وبين الأيديولوجية المضادة للدين التي اتسم بها التيار العقلاني في عصر التنوير، على أساس أنه ذونزعة دينية متعصبة! لكن الاثنين لديهما طرق للتفكير تجريدية وغير جدلية، وأنهما يثيران تحديًا معاصرًا للمسيحية، على الرغم من أنهما يتضادان بشكل تام.
لكنه عاد فرفع هذه المقارنة فى محاضرات 1827م، ووجه نقده بدلاً منها إلى النزعة التقوية الجديدة. واكتفى بالذكر العرضي للإسلام في موضعين، أولهما يسجل فيه أن أشياع البوذية واللامية أكثر عدداً من المسلمين، بينما المسلمون أكثر عددًا من المسيحيين، وثانيهما يسجل فيه أن الإسلام ينظر إلى المسيح بوصفه بشرًا رسولاً من عند الله مثله مثل كل الرجال العظام الذين هم رسل الله.
وفي محاضرات 1831 تعددت إشارات هيجل إلى الإسلام، لكنه ما يزال عنده على هامش تاريخ الأديان، ويصفه بأنه دين التوحيد المحض والبساطة في الاعتقاد؛ إذ ينظر إلى الله بوصفه إلها مجردًا وليس عيانياً، ومع ذلك فإنه لا يزال ـ في تصور هيجل غير الموضوعي ـ محملاً بشيء من صفات الإله اليهودي ولا سيما الغيرة. كما يرى هيجل أن بساطة المعتقد الإلهي أدت إلى ذيوع الإسلام بين شعوب مختلفة، بيد أن تجريد هذا المعتقد وتعاليه قد أديا إلى استبعاد السببية والاستدلال، كما أن هذا التجريد هوالمسؤول عن نبذ الإسلام للوسائط التشبيهية والتجسيمية وتحريم التصوير التجسيمي، درءاً لمشابهة أعمال الله. كما يصف هيجل الإسلام بالخشوع والصورية الأمر الذى أدى إلى غياب روح الحرية، وشيوع الضرورة أوالجبر، والتعصب، والرغبة في السيطرة على العالم بالجهاد الحربي!
وربما يكون السبب في عدم دقة التصور الهيجلي وزيفه فيما يتعلق بالإسلام، يرجع إلى خلط هيجل بين الإسلام والأتراك العثمانيين، بين الإسلام بوصفه نظرية وتصوراً للحياة وبين بعض الممارسات التاريخية غير المنضبطة لقسم من أتباعه. فضلاً عن قصور الاطلاع، والاكتفاء بمعرفة الإسلام من خلال الصور السائدة عنه فى الغرب، ولقد  كان يجب على هيجل بوصفه فيلسوفاً كبيراً أن يعمل على تحرير التصور الغربي للإسلام، حتى يبرأ الأصل من شبهات الصور المزيفة له.
* الإسلام في فلسفة التاريخ:
تختلف الصورة التي قدمها هيجل للإسلام بوصفه حضارةً وديناً في «محاضرات في فلسفة التاريخ»، في كثير من قسماتها الأساسية عن الصورة السابقة في «محاضرات في فلسفة الدين»، فضلاً عن اتساع مجال الرؤية وعمق التحليل للإسلام هذه المرة، وإن كانت الصورة لا تزال غير مبرأة من الانحياز التاريخي للغرب تارة، وقصور المعرفة تارة أخرى.
فلقد نزع هيجل الإسلام بوصفه حضارةً وتاريخاً من موضوعه في سياق التطور التاريخي في «محاضرات في فلسفة التاريخ»، وذكره كشيء عارض على هامش تطور الروح المسيحي في الحضارة الجرمانية، وإن كان هذه المرة أكثر حظًا إذ أعطى له ما يقارب خمس صفحات من مجلد تجاوز 450 صفحة. ونظرا لأن تحليل هيجل للحضارة الإسلامية ليس موضوعنا الآن، فإننا سنكتفي بتحليل هيجل للإسلام بوصفه ديناً فقط.
إن تجاهل هيجل للإسلام في فلسفة الدين وعرضه كشيء هامشي عرضي في فلسفة التاريخ، يعكس روح التعصب الأوربي تجاه الإسلام بوصفه معتقد الآخر. ويؤيد هذا أيضًا تلك الرؤى المحرفة للإسلام – على الرغم من أنها متجاورة مع بعض التحليلات العميقة والصائبة – التي أثارها هيجل في فلسفة التاريخ. فالإسلام مرتبط عنده بالمبدأ الشرقي السالب للذاتية، وهو ذو هدف سلبي يتمثل في تطوير عبادة الواحد الأحد، كما أن الإسلام في منظوره قد انحل سريعًا مثلما صعد سريعًا.
هكذا يقدم هيجل مجموعة من الأغاليط المركبة عن الإسلام، ويجهل أن الإسلام مختلف من حيث البنية والتكوين عن أديان الشرق الأقصى السالبة للذاتية، كما يجهل أن عبادة الواحد الأحد لا تنطوي على أي سلب للذات للإنسانية مثل أديان الهند، وإنما عبادة الواحد الأحد تحرر هذه الذات وتضعها أمام نفسها وأمام مسؤوليتها الكاملة عن هويتها ومصيرها.
وفي الأحيان التى يسجل فيها هيجل شيئاً إيجابياً للإسلام فإنه يرده إلى عوامل بالغة التبسيط تبخس الإسلام حقه، فالتجريد الإسلامي عنده لا يعود إلى ترقي الوعي بالإلهي، وإنما يعود إلى الانبساط الصحراوي الذي لا يمكن أن يتشكل فيه شيء في بنية ثابتة!.
وما من شك  في أن تفسير هيجل يفتقد إلى الدقة، لأنه لو كان الانبساط الصحراوي هوالمسؤول عن نبذ التجسيم والتشكل في الإسلام، لما وُجدت عبادة الأصنام وتجسيد الإلهي في البيئة الصحراوية قبل الإسلام، فالعرب هم العرب، والصحراء هي الصحراء قبل الإسلام وعند ظهوره، ومع ذلك كان هناك تجسيم وبنيات ثابتة. فإذا ما جاء الإسلام بالتنزيه والتجريد، فليس من المقبول عقليًا تفسير ذلك تفسيراً جغرافياً سطحياً، ولا سيما إذا كان هذا التجريد  كما هومعلوم من التاريخ النبوي مصادماً بعنف لطبيعة الشعور عند عرب الجاهلية والذي كان مرتبطاً بالتجسيم الوثني للإلهي قبل الإسلام.
ويعاود هيجل مرة أخرى التأكيد على مفهوم التعصب الإسلامي، غير أنه يفسره هذه المرة تفسيراً إيجابياً؛ إذ يرى أنه كان قوة دافعة مرتبطة بالشجاعة والشهامة، قوة محققة لتحرر الروح من المصالح الصغيرة؛  فهيجل يفهم التعصب هنا على أنه حماس وعاطفة وانفعال، ومن ثم فهوقوة للدفع. لكن هيجل يعود للمغالطة مرة أخرى حين يرى أن هذه القوة الانفعالية حينما تتراجع لا يجد المسلم مبدأ خلقياً يحيا به! ويغرق في الحس الذى مستنده في القرآن!. وهنا نتذكر الفيلسوف الألماني «كانط» الذي أدرك وسجل بموضوعية أن الوعود الحسية في القرآن ينبغي أن تفهم في إطار تأويلي، اعتمادًا على ريلاند Reland، الذي قال أن المسلمين قد أعطوا هذه الوعود معنى روحياً، مصداقاً لقول الرسول الكريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ، مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»، قَالَ أَبُوهُرَيْرَةَ: «اقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]»(رواه البخاري ومسلم في الصحيحين).
لكن هيجل لا يحب أن يرى مثل تلك الرؤية، لأنه يريد أن يؤكد حسية الشرق في مقابل روحانية الغرب وعقلانيته! وينظر هيجل إلى عبادة الله الواحد في الإسلام بوصفها غاية الإسلام النهائية والنقطة التي يلتقي عندها كل شيء في الكون، ذلك الكون الذي هو في حالة تطور مستمر وتحول دائم.
ويخلط هيجل بين التصور الأشعري والإسلام، فيرى أن الإسلام لا يعترف بقوانين كلية وضرورية تعمل بشكل مستقل عن الله، لأنه هو الذي يلتقي عنده كل شيء، وهو الذي لا يستعين بأسباب طبيعية في الخلق ولا يتقيد بقانون. وهذا خطأ واضح في معلومات هيجل عن الإسلام؛ لأن القرآن يؤكد وجود سنن طبيعية وقوانين كلية لا تتغير ولا تتبدل، وأن الله خلق الأشياء وفق قانون أو قدر: (إنا كل شيء خلقاه بقدر)..(سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا).
وإذ يجب أن تكون عبادة الواحد هي المقصد النهائي في الإسلام، فإن هيجل يستنتج من ذلك
ـ بتعسف استدلالي واضح ـ أن الإسلام سالب للذاتية الإنسانية، مثل ديانات الشرق عامة، لأنه يقول بتعالي الله والوحي الخارجي ويفصم بين الذات الإلهية والذات الإنسانية. لكنه يسارع ببيان أن هذا السلب ليس إلى درجة الفناء المطلق مثل الهندوسية أوالرهبانية؛ لأن الذات وإن كانت مسلوبة لكنها لا تزال حية نشطة تجاهد في العالم بهدف إخضاع الدنيوي لعبادة الإله الأحد، وهوهدف سلبي عند هيجل!
وحين يتناول هيجل العبادات الإسلامية فإنه لا يذكر منها إلا الصيام والزكاة، وينظر إلى الصيام نظرة صائبة فيعتبره جهدًا إنسانيًا يهدف إلى التحرر من خصوصية الجسد، بغية تلاشي المسافة الفاصلة بين الجسد الفردي المتناهي وبين الله المجرد اللامتناهي، كما أن الزكاة محاولة للتحرر من أنانية الملكية الفردية. ولا يرتقي الروح الإسلامي فوق خصوصية الجسد والملكية الفردية فحسب، بل إنه يرتقي كذلك فوق خصوصية العرق والمولد، ولذلك فإن الإسلام سعى إلى التحرر من المحدودية والجزئية والخصوصية، ونظر بانتباه وتفان مطلق إلى المجرد، واستهدف غاية واحدة فقط هي معرفة الله الواحد، وجعل من اللامتناهي شرطًا للوجود المتناهي  وإذا كان هيجل ينظر إلى الإسلام باعتباره عملية تحرر، فإنه لا يستطيع أن ينهي بحثه من دون انحياز تاريخي واضح؛ إذ يؤكد أن الإسلام أصبح خارج التاريخ، وتم تحجيمه في آسيا، أما أوربا فلم يبق إلا في جزء ضئيل منها بسبب صراع التيارات المسيحية وتحاسدها المتبادل.
وبصرف النظر عن الأخطاء الكامنة في تصور هيجل للإسلام، فلا شك أن هذه العقيدة تمثل أرقى ما وصل إليه العقل من تجريد وتنزيه يليقان بالمبدأ الأول الواحد الأحد الذي ليس كمثله شيء بعيداً عن التجسيم والتشبيه والخلط بين ما هو إلهي وما هوإنساني أوطبيعي.
خاتمة :
هكذا يذهب هيجل إلى أن جميع الأديان السابقة على المسيحية ما هي إلا معبرة عن جوانب من المسيحية ذاتها، وحين جاء ت هذه الأخيرة استوعبتها استيعاباً كاملاً من وجهة نظر هيجل! غافلا عن أن المسيحية تركز على الروح وملكوت الله أكثر مما تركز على الجسد والحياة! وعلى الرغم من أنها تذيب الإنساني والإلهي معاً! ومع أنها تفتقد لمفهوم التنزيه والتوحيد الخاص الذي يعتبر أسمى العقائد في الله من منظور عقلاني محض، وعلى الرغم من أن مفهوم الشريعة بوصفها منهجاً للحياة العملية غائب عنها، وأيضا على الرغم من الانتقادات التي وُجهت إليها من قبل علم النقد التاريخي، وهوالعلم الذي لم يستفد منه هيجل البتة.
وإذا كان هيجل الشاب قد عمل على أن يظل مخلصاً للعقلانية، ومن ثم اجتهد في تأويل المسيحية تأويلاً عقلانياً، حتى نزع منها كل ما هوغير عقلاني، ولم يدع لها إلا قيمها الأخلاقية – فإن هيجل الشيخ في فلسفته المتأخرة، انقلب على عقله، إذ قام بمحاولة لمسح العقل – إن جاز التعبير – وإلباسه ثوباً لاهوتياً تثليثياً طالما كان يجاهد في الماضي من أجل تمزيقه؛ إذ صار ينظر إلى المسيحية بوصفها الدين المطلق الذي يمثل حركة الاكتمال الديني النهائية، مع أن المسيحية تفتقد لعناصر جد جوهرية تحول دون دقة وصفها بالدين المطلق، ومع أن روح منطقه يحتم عليه ألا يقف عند نهاية محددة بوصفها نهاية مطلقة وأخيرة في تطور الروح الكلي.. ذلك أن منطق الجدل الداخلي يجعل المطلق غاية قصوى لا تدرك، لأن كل قضية تضع نقيضها، ثم يتألف من الصراع بين الاثنين مركب جديد يضع بدور نقيضه، وعندئذ يحدث صراع بينهما ينتهى بمركب جديد آخر يشملهما معاً، يقوم بدوره بوضع نقيضه وهلمّ جرّا.
إن هيجل يتأرجح تأرجح البندول بين الرجعية والتقدمية.. رجعية على مستوى النتائج اللاهوتية النهائية للمضمون، وتقدمية على مستوى المنهج واكتشاف البنيات. وهذا هو سر تناقض الفلسفة الهيجلية.. فهي تقدمية بقدر ما فيها من كانتية، ورجعية بقدر ما فيها من تحيز في الاعتقاد الديني جعله يتوقف في عرضه لتطور الأديان عند المسيحية دون ذكر للدين الذي جاء بعدها، وهوالإسلام، ونصوص هيجل التي حللناها تحليلاً نقدياً ما هي إلا متفرقات جمعناها من مواضع مختلفة من كتبه.
وهو في أغلب هذه النصوص لم يستطع أن يتحرر من الرؤى الغربية التقليدية، ومن ثم لم يدرك أن الإسلام استوعب العناصر الإيجابية في الأديان السابقة عليه كلها، وخلّص مفهوم الألوهية من كل ما علق به من تصورات تشبهه بالبشر، أوتخلط بينه وبين الطبيعة، أوبينه وبين أي مستوى من مستويات الوجود؛ فهو: (ليس كمثله شيء)، وهوالذي يجب تنزيهه عن كل ما يصفه به البشر: (سبحانه وتعالى عما يصفون)، وهوالذي لا يمل المسلم في كل صلاة من تكبيره: «الله أكبر»، أكبر من كل تصورات البشر، أكبر من كل شيء، أكبر من كل قيمة، أكبر من كل ما هو طبيعي أوإنساني أوحيواني. وهوالذي لا يمل المؤمن من تسبيحه في كل صلاة، أي تنزيهه عن كل ما لا يليق به، تارة: «سبحان ربي العظيم» في الركوع، وتارة «سبحان ربي الأعلى» في السجود.
والإسلام دين التوحيد المحض وعدم التناقض في الاعتقاد؛ إذ ينظر إلى الله بوصفه روحاً خالصاً، وبوصفه إلهاً متعالياً منزهاً وليس محسوساً عيانياً. وهذا التنزيه هوالمسؤول عن نبذ الإسلام الوسائطَ التشبيهية والتجسيمية والتصوير لله؛ فالله ليس له شبيه وكذلك أعماله.
فالتنزيه الإسلامي للألوهية بلغ إلى قمة ترقي الوعي بالإلهي. ولذا فالإسلام لا يخاطب الناس بالمعجزات الحسية، ولكن بالآيات العقلية الفكرية : تارة بالاستشهاد بالطبيعة، وتارة بالاستشهاد بالاستنباطات البرهانية، وتارة بالاستشهاد بالسنن التاريخية.
ويفصل الإسلام بين مستويات الوجود من دون خلط بينها، ومن دون طغيان لمستوى على مستوى؛ فالألوهية غير الطبيعة، وغير الإنسانية، وغير الحيوانية. وكل طرف من هذه المستويات غير الآخر. والدخول من مستوى إلى مستوى ليس خاضعا لنوع من الإرادة العمياء، وتدخل الله في الطبيعة ليس عشوائيا؛ لأن القرآن يؤكد وجود سنن طبيعية وقوانين كلية لا تتغير ولا تتبدل، وأن الله خلق الأشياء وفق قانون أوقدر: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) {القمر:49}.. (سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا).
والقرآن إمعاناً في التنزيه، يتحدث عن أسماء الله الحسنى، فالله ليس سراباً مثل البراهما؛ وهي أسماء له باعتبار أفعاله: العدل، العلم، القوة، الرحمة…الخ. فالله يحقق مقاصده في الكون عبر أفعاله الإبداعية. وأفعاله سبحانه إبداعية، لكنها ليست سحرية، بل: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} {الرعد:8}..{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}{الأنعام:96}.. {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}{الفرقان:2}.. {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا}{الأحزاب:38}…الخ. وهورب العالمين: الموجودات كلها، والبشر كلهم: المؤمن والكافر، والتقي والعاصي.
ومن ثم يستحق الإسلام بجدارة أن يكون الدين المطلق، لأنه يتكشف فيه الروح من حيث هو روح كلي مجرد على نحو مطلق. والروح الإلهي ليس غارقاً في الطبيعة، بل هو متعالٍ عليها، كما أنه لا يحل في أي حيز أو مخلوق، ولا يتحد مع بشر في طبيعة واحدة، ومع ذلك فقد نفخ الله في الإنسانية من روحه؛ فهومنبع الحياة العاقلة؛ لكن ليس معنى هذا وحدة الإنساني والإلهي، فمستويات الوجود متمايزة: الإلهي، الطبيعي، الإنساني.
أضف إلى هذا أن الوعي الديني التنزيهي ليس بحاجة للفلسفة الهيجيلية المتابعة للعقيدة المسيحية التي تقتضي موت الإله! حتى ولو على سبيل التمثيل، لأن في ذلك ردة إلى مرحلة الأديان البدائية في مصر وسوريا والتي كانت تعتبر الموت لحظة ضرورية بالنسبة للإله على نحو ما تجلى في عقيدة أوزريس المصرية وعقيدة أدونيس السورية، فالإله يتضمن هنا سلبه، أي إنه يموت! فالمسيحية كما تشكلت بعد المسيح، في أجيالها الأولى ما هي إلا صورة جديدة من تلك العقائد القديمة ملقحة بمفهوم الإله اليهودي، وهذا ما يشير إليه أورسيل ماسون حين يقرر أن الأجيال المسيحية الأولى قامت بالتأليف المنتظر منذ زمن طويل بين إله الساميين، ومفهوم الإله عند الإيجيين والأسيانيين، في شخصية المسيح المثالية. وإذا كان يهوه هوالتعبير المباشر، القريب، عن الإله – الأب، فإن الآلهة التي تعذبت من أجل إنقاذ الإنسانية سواء أكانت فريجية أم سورية أم مصرية، هيأت لإنشاء مفهوم الإله الابن، مفهوم الإله الذي يعاني الموت من أجل إنقاذ الإنسانية. وهذا ما تجاوزه الإسلام؛ فالإله فيه لا يموت، بل هوالحي دوماً.
ومع أن برهنة هيجل على ضرورة الدين تستحق الإعجاب، فإن عرضه تطورَ الأديان جاء مخيبًا للآمال؛ لأنه مخالف فى أحيان كثيرة للواقع التاريخي، حيث أعاد تركيب الواقعي وفق نسق من عندياته، بهدف خدمة أغراض عقائدية تارة، وأغراض سياسية تارة أخرى. ولذا يجد القارئ أمامه تناقضات غير هينة، وأخطاء علمية غير قليلة، وقفزاً على التاريخ في أحيان كثيرة، وعدم اتساق مع روح المنهج الجدلي في أحيان أكثر.
إن المرء حين يقرأ فلسفة الدين عند «هيجل» للمرة الأولى، سرعان ما يشعر بمزيج من الرهبة والانبهار، لكنه ما إن يتعمق في أفكاره ويسير معها حتى نهايتها المنطقية، فإن يكتشف- شيئاً فشيئاً - أنها أسطورة مفلسفة تقدم شيئًا من الحقيقة مع شيء من التفسيرات الميتافيزيقية الدوجماطيقية.. كل هذا في بناء منطقي ميتافيزيقي يشبه من حيث شكله العام البناءات الميتافيزيقية المبهرة التي طالما حدثنا عنها «كانت»، وحذرنا منها، فمع ضخامة البناء وروعة الرتوش، إلا أنها لا تزال تقف على أقدام فَخَّارية!
 إن المرء يبدأ مع «هيجل» وكله أمل في الوصول إلى تفسير متكامل للكون والحياة  يتحرر من ميتافيزيقيات الماضي الواهمة وأحلام الصوفية الشاطحة وسفسطائية المتكلمين وخرافات المذاهب الضالة، لكنه في النهاية يكتشف أن أمله كان مجرد سراب، فها هو ذا يجد نفسه واقفًا في أحضان اللاهوت والدوجماطيقية والانحياز العقائدي والتاريخي. ومن ثم يجد نفسه راجعاً بثقة لأنقى تصور للألوهية المنزهة عن كل شرك وكل تشبيه وكل تجسيم، أعني الألوهية كما يتحدث عنها القرآن الكريم.