البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الثقافة والفلسفة الإسلامية في المتخيل الغربي ، نظر في رؤية برتراند راسل

الباحث :  مازن المطوري
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  10
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2018 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 23 / 2018
عدد زيارات البحث :  1078
تحميل  ( 289.700 KB )
يبدو الآخر المسلم في المنجز الفلسفي الغربي مثيلاً للإشكال في التباسه وغموضه والتأويلات التي جرى تداولها في سياق التوظيف الثقافي والأيديولوجي.
هنا مسعى لاستقراء صورة الثقافة الإسلامية في التأويل الفلسفي الغربي كما يظهر عند الفيلسوف البريطاني برتراندرسل (1872 ـ 1970).
مسند هذه القراءة الفصل العاشر من كتاب تاريخ الفلسفة الغربية وجاءت تحت عنوان "الثقافة والفلسفة عند المسلمين" كما نقله إلى العربية الدكتور زكي نجيب محمود (1905 - 1993).

المحرر


خصَّ (راسل) الجزءَ الثاني للحديث عن الفلسفة الكاثوليكية، وعقد الفصل العاشر منه للحديث عن الثقافة والفلسفة عند المسلمين. وقد تحدّث في مطلع الفصل عن أوضاع ما قبل الإسلام والمناخات التي رافقت ظهور دعوة النبي محمد (ص) وأحوال الجزيرة العربية، لا سيما في الوجهة الثقافية وسبل العيش والطبيعة الصحراوية.
أعقب ذلك بالحديث عن بدايات تشكّل الإسلام وحكومة المسلمين، وصار يحلل الدوافع التي حدت بالأسرة المالكة الأولى (بني أميّة) إلى اعتناق الإسلام، وقد أرجع (راسل) ذلك إلى غايات سياسية خالصة!
انتقل (راسل) لعقد مقارنة عن طبيعة علاقة العرب بالدين وعلاقة الفرس به، فقد رأى أن العرب لم يكونوا سلالة تتصف بالإمعان في التدين، خلافاً للفرس الذين كانوا منذ أقدم العصور عميقي الشعور الديني وضاربين في التأمل الفكري بسهم موفور، بل وجعلوا من الإسلام بعد اعتناقهم شيئاً أحق بالاهتمام وأعمق في الصبغة الدينية وأبعد أغواراً في الفلسفة!
ثم عطف الكلام على العباسيين والخلافة، وتطورات النظام السياسي والمدني عند المسلمين، وجوانبه المختلفة، لا سيّما الحالة الاقتصادية.
لسنا معنيين في هذا المقال المقتضب بدراسة تلك القراءة وتحليل مرتكزاتها ومقدار حقانيتها وواقعيتها، وإنما نريد التوقف عند رؤية (راسل) للثقافة والفلسفة عند المسلمين، وما تضمنه حديثه من تقييم وأحكام بشأن الفلسفة الإسلامية، سواء أكان في روافدها وتطوراتها، أم في مدياتها وإبداعها وتأثيرها في الفلسفة الغربية. وسوف نجعل حديثنا في مجموعة عنوانات يتخللها التوقف عند الأخطاء التاريخية والاشتباهات التي وقع فيها (راسل). على أن نشير هنا إلى ملاحظة تتمثّل في أن مجمل هذا الحديث عن الثقافة والفلسفة عند العرب والمسلمين وما تبنّاه (راسل) من رؤية بشأنهما، قد أورده إجمالاً كذلك في كتابه المتأخر عن تاريخ الفلسفة الغربية، أعني (حكمة الغرب) في جزئه الأول.

بداية الفلسفة الإسلامية

سجّل (راسل) في مفتتح حديثه عن بداية الفلسفة عند المسلمين قائلاً: "وأما الثقافة المميزة للعالم الإسلامي، فعلى الرغم من أنها بدأت في سوريا، إلا أنها سرعان ما ازدهرت أعظم ازدهار لها في طرفي هذا العالم الشرقي والغربي، أعني في فارس وأسبانيا، وكان السوريون أيام الغزومعجبين بأرسطوالذي آثره النسطوريون على أفلاطون الفيلسوف الذي فضّله الكاثوليك. وكان أول معرفة العرب بالفلسفة اليونانية مستمداً من السوريين، ولذا فقد حسبوا منذ البداية أن أرسطوأهم من أفلاطون. على أن أرسطولديهم قد لبس حلّة (أفلاطونية جديدة)، فقد ترجم الكندي (مات حوالي 873) - وهوأول من كتب الفلسفة بالعربية والفيلسوف المهم الوحيد الذي كان نفسه عربياً- ترجم أجزاء من تاسوعاء أفلوطين، ونشر ترجمته بعنوان الربوبية عند أرسطو، فأحدث هذا خلطاً عظيماً في أفكار العرب عن أرسطو، لم يزيلوه عن أنفسهم إلا بعد قرون طويلة.
بدايةً وقبل أن نمضي في تفكيك هذا النص والوقوف عند إثاراته الأساسية، لا بُدَّ لنا من التنبيه على وجود خطأين تاريخيين وقع فيهما (راسل):
الأول: يتعلق بنسبة ترجمة كتاب الربوبيّة (أثولوجيا) إلى الكندي (805 - 873)! والواقع أن ترجمة هذا الكتاب إلى العربية لم تكن على يد الفيلسوف الكندي، وإنما ترجمه عبد المسيح بن عبد الله الحمصّي ابن الناعم المترجم المسيحي والطبيب المعروف، كما نصّ على ذلك أصحاب الفهارس والتراجم، وقام الكندي بإصلاح الترجمة. جاء في معجم المطبوعات ليوسف إليان سركيس (1859- 1932) بعد حديثه عن كتاب أثولوجيا ونسبته لأرسطو(384- 322 ق. م): (نقله إلى العربية عبد المسيح عبد الله الحمّصي ابن الناعمي، وأصلحه أبو يوسف يعقوب بن إسحق الكندي).
وجاء في فهرست ابن النديم (910 - 995) الثبت بعد حديثه عن كتب أرسطو وتناوله الكلام على كتاب الحروف: (كتاب أثولوجيا، وفسّره الكندي)، وذكر المعنى نفسه صاحب الذريعة، فنصّ على إصلاح الكندي ترجمةَ ابن ناعمة الحمصي بأمر المعتصم بالله العبّاسي. وقد كان الحمصي متوسّط النقل ولكنه إلى الجودة أميل.
وعلى كلّ حال، فالكندي مصلحٌ للترجمة ومفسّر لها وليس مُترجماً.
الثاني: وهذا الخطأ يمثّل القاعدة في الخطأ الأول، وقد وقع فيه آخرون غير (راسل) حتى من المسلمين، ويتمثّل في نسبة معرفة غير اللغة العربية إلى الكندي. ومنشأ هذا الاشتباه يعود إلى نص للمؤرّخ ابن أبي أصيبعة (1203 - 1270) سجّله في ترجمة الكندي، وهونص لا يمكن الاعتماد عليه بحال من الأحوال، إذ إن المصدر الأقدم والأكثر وثاقة في التعرّض لترجمة الكندي بالتفصيل، والمتمثّل بفهرست ابن النديم البغدادي، ليس فيه إشارة من قريب ولا بعيد إلى كون الكندي مترجماً أوعارفاً بغير العربية، بل نجد العكس من ذلك، إذ قد نص ابن النديم على أن الكندي كان يستعمل مترجِمينَ، ومن تلك النصوص قوله: "وهذه الحروف نقلها أسطاث للكندي"، و"إن كتاب جغرافيا في المعمور وصفة الأرض.. نقل للكندي نقلاً رديئاً، ثم نقله ثابت إلى العربية نقلاً جيداً". كما ولم يُدرج ابن النديم الكنديَّ في لوائح النقلة والتراجُمة إلى العربية من اللغات الأخرى.
إن أقدم مصدر تعرّض لمعرفة الكندي بغير العربية ووصفه بالمترجم هوكتاب إخبار العلماء بأخبار الحكماء لجمال الدين القفطي (1172 - 1248) بعد ما يقارب أربعمئة سنة من وفاة الكندي. ونقله كذلك معاصره ابن أبي أصيبعة متقدّم الذكر في (طبقات الأطبّاء) مستنداً لأبي معشر في كتاب المذاكرات لشاذان، في رواية مضطربة تنص على أن حذّاق التراجمة في الإسلام أربعة: حنين بن إسحق، ويعقوب بن إسحق الكندي، وثابت بن قرّة الحراني، وعمر بن الفرخان الطبري.
ومن وجوه اضطراب هذه الرواية أن اثنين من هؤلاء الأربعة ليسا مسلمين، فحنين كان مسيحياً، وثابت كان صابئيّاً، فكيف يقال إنهما من حذّاق التراجمة في الإسلام! فضلاً عن وجود مترجمين أكثر شهرة من هؤلاء بحسب ثبت المؤلفات التي ترجموها كابن البطريق وقسطا بن لوقا وابن المقفّع وحبيش الأعسم ويحيى بن عدي المنطقي، وغيرهم.
ويلاحظ كذلك أن عبارة القفطي تمثّل تحريفاً لعبارة ابن النديم المتقدم نقلها فيما يخص كتاب جغرافيا في المعمور، إذ قال: "وهذا الكتاب نقله الكندي إلى العربية نقلاً جيداً"، فبينما كان ابن النديم يؤكد أن الكتاب نقل للكندي "نقلاً رديئاً" صار بقدرة قادر عند القفطي نقلاً جيداً وقد نقله الكندي! وإذا كان النقل رديئاً فكيف صار الكندي من حذّاق التراجمة في الإسلام؟! وهل الحذاقةُ تعرف بغير واقع الكتب المترجمة!
أما فيما يخص نسبة كتابة (أثولوجيا) لأرسطوالتي اتخذها (راسل) طاعناً في الفلسفة الإسلامية وفهم فلاسفة المسلمين أرسطو، فعلينا الاعتراف أن نسبة الكتاب لأرسطوغير صحيحة، وعلى أقل التقدير مشكوكة، وأن الكثير من فلاسفة المسلمين والمهتمين بالفهارس والمخطوطات والكتب ينصّون على أن الكتاب منسوب لأرسطو ولم يجزموا بالنسبة. وحتى لا نستغرق في هذه المسألة والاستغراق فيها ليس مهماً في دراستنا هذه، أنقل نصّاً للدكتور عبد الرحمن بدوي (1917 - 2002) تعرض فيه لدواعي هذه النسبة، أورده في كتاب أرسطوعند العرب، جاء فيه:

"وفي تقديرنا لهذه العوامل يجب أن نتجافى عن كل تقويم يتصل بما يسمونه الخطأ في الإسناد التاريخي، فليس هناك خطأ ولا صواب، وإنما هي الضرورة التاريخية تعمل عليها، وبالنسبة إلى الضرورة ينتفي معنى الخطأ والصواب! وعلى ضوء هذه الواقعة نفهم لماذا نسب إلى أرسطو في الحضارة العربية مثلاً ـ ما نسب إليه من كتب، كان من الواجب ـ وفقاً للضرورة التاريخية ـ أن تنسب إليه، شاء الفيلولوجيون والمؤرخون المزعومون أولم يشاؤوا، فلم يكن صدفة أوحاجة في نفس من فعل، أن تنسب هذه المقتطفات من (تُساعات) أفلوطين إلى أرسطو، إنما هي الروح الحضارية العربية العامة هي التي كانت وراء هذه النسبة. ولا عبرة بعد باكتشاف المؤلف الحقيقي لهذه المقتطفات التي عرفت باسم أثولوجيا أرسطاطاليس. فحتى لوكان العرب قد عرفوا هذا أوشكّوا في نسبة هذا الكتاب إلى أرسطو فلن يكون هذا بحائل لهم دون استمرارهم في نسبته إلى أرسطو، لأن الشعوب والأفراد لا يهمها أن تعرف أرسطو كما كان في واقع التاريخ بقدر ما يعنيها أن تدركه كما تريد لها حاسّتها التاريخية المنبثقة من روح الحضارة التي تنتسب هي إليها".
لا نريد هنا أن نتماهى مع اتجاه الدكتور بدوي إلى حدّ بعيد، أونتنكّر لأهمية التثبّت في النسبة، أو أن ننكر الواقع التاريخي عند مؤرّخي العرب المسلمين في بذلهم الجهود الكبيرة والتدقيق في تحقيق الكتب والتثبّت من مؤلفيها، وهوأمر لا يسع الباحث المنصف أن ينكره. ولكن لا بد لنا من تسجيل شيء يخص استنتاج (راسل):
كنتُ أتمنى على (راسل) وهوبصدد تقويم فلسفة المسلمين وثقافتهم، أن يبرز لنا الموارد التي اعتمد فيها المسلمون وفلاسفتهم على هذا الكتاب، وإثبات مقدار ما نسبوه لأرسطو من مطالب علمية اعتماداً على أثولوجيا، وبيان مقدار ما يترتب عليه من مؤاخذات بنحو تشكل ضعفاً ووهناً في فلسفة المسلمين كما قرر (راسل)! وهوأمر لا نجد له أثراً ولا عيناً في نصوص (راسل) التي أطلقها جزافاً بشأن ثقافة المسلمين وفلسفتهم.
إن مثل هذا الحكم على فلسفة بحجم الفلسفة الإسلامية يحتاج إلى استقراء للفلسفة الإسلامية في مدارسها المشهورة، وفي سائر المسائل المرتبطة بالعلم الربوبي (أثولوجيا) وبيان اعتمادهم على ذلك الكتاب المنسوب لأرسطو، ثم يمكن بعد ذلك تقويم استنتاجاتهم وتقييمها، ومثل هذا الاستقراء لم يكلف السيد (راسل) نفسه القيام به، وإنما ارتجل أحكاماً بشأن الفلسفة الإسلامية وقيمتها اعتماداً على مقولة مطاطية عائمة ترتبط بنسبة كتاب (أثولوجيا) لأرسطو!
على أن هناك نصّاً لشيخ فلاسفة المسلمين ابن سينا (980 - 1037) أورده في كتاب (المباحثات)، فهم منه المستعرب اليهودي بول كراوس (1904 - 1944) أن ابن سينا يشكُّ في صحّة نسبة (أثولوجيا) إلى أرسطو. أما نصّ ابن سينا فيقول فيه: ".. أني كنتُ قد صنّفتُ كتاباً سمّيته الإنصاف وقسّمت العلمين قسمين: مغربيين ومشرقيين. وجعلت المشرقيين يعارضون المغربيين، حتى إذا حقّ اللَّدَدَ تقدمت بالإنصاف. وكان يشتمل هذا الكتاب على قريب من ثمانية وعشرين مسألة، وأوضحت شرح المواضع المشكلة في النصوص إلى آخر (أثولوجيا) على ما في أثولوجيا من الطعن..". وحتى لا نستفيض في هذا الموضوع، وهو لا يستحق بعد معرفة ارتجال (راسل)، نحيل القارئ الكريم على كتاب (أفلوطين عند العرب) للدكتور عبد الرحمن بدوي للوقوف على تفاصيل أوفى.
ولا بأس من الإشارة إلى أن الفيلسوف صدر الدين الشيرازي (1572 - 1640) قد ذكر في موضعين من (الحكمة المتعالية) كتابَ (أثولوجيا) معبّراً عنه: (المنسوب إلى المعلّم الأول)، و(المنسوب إلى المعلم الأول أرسطاطاليس)، مما فيه إشارة إلى عدم الجزم بنسبته لأرسطو.

فيما سِوى ذلك، ثمّة أمور في نص (راسل) المتقدم يحسن التوقف عندها في نقاط:
1 - لقد نصّ (راسل) على أن الفيلسوف الكندي هوالفيلسوف المهم والوحيد والذي كان عربياً. وهنا يحق لنا أن نتساءل عن المقياس الذي اعتمده (راسل) ليحكم في ضوئه بأن الكندي هوالفيلسوف المهم الوحيد سيما إذا ما عرفنا أن (راسل) كان بصدد التأريخ للفلسفة الغربية.
على أن هناك سؤالاً مهماً آخر يتعلّق بصحة اعتماد المؤرّخ على مقياسه النظري وما يتبنّاه من فلسفة ليحكم في مقام كتابة التاريخ بأهمية فيلسوف دون آخر؟ أليس الحكم بالأهمية هوشأن الدرس الفلسفي النقدي المقارن؟
قبل كل شيء يجب أن نعلم أن (راسل) مدرسياً ينتمي إلى مدرسة الواقعية الإنجليزية الجديدة. ويقوم جوهر هذه المدرسة على رفض المثالية والإيمان بالواقعية، فهم يؤمنون باستطاعة الإنسان أن يدرك بصورة مباشرة الواقع الخارجي المستقل عن الذات (المدرِك) فضلاً عن التصورات النفسية عن ذلك الواقع. ومن ناحية نظرية المعرفة تنتمي هذه المدرسة للمذهب التجريبي، إذ لا يشك أصحابها في أن معرفة الإنسان كلها تأتي من التجربة الحسية، وهم في ذلك يخلفون سلفهم: جورج بيركلي (1685 - 1753)، وجون لوك (1632 - 1704)، وديفيد هيوم (1711 - 1776).
ومن جهة أخرى، فإن فلاسفة الواقعية الجديدة يتّجهونَ في اهتماماتهم صوب العلوم الطبيعية وخصوصاً الفيزياء والرياضيات، ويرونَ في المنهج العلمي منهجاً فلسفياً حقيقياً. ولا يهتمون بالمشكلات النظرية الخالصة كالمنطق ونظرية المعرفة. ويجمع فلاسفة هذه المدرسة الخصومة للنظم الفلسفية وينتقدون بعنف التراث الفلسفي السابق كله في الفكر الغربي.
لقد أخرج (راسل) فلاسفة المسلمين كلهم من دائرة الأهمية ما سِوى الكندي بناءً على قناعاته التصديقية، وما يتبنّاه من اتجاه فلسفي، وهوبذلك يرتكب جناية بحق الدرس التاريخي الفلسفي، ذلك أن الدرس التاريخي الفلسفي يفترض أن يقوم على أساس ملاحظة واقع الفلسفة عند كلّ قوم وشعب وأُمّة، ومن ثمّ السعي للتعريف بها وبفلاسفتها، وتصنيفهم من حيث الأهمية وفقاً لخيارات تلك المدارس، وليس وفقاً للقناعات التصديقية التي يؤمن بها الباحث بوصفه فيلسوفاً لا مؤرّخاً! ومن الصعب جداً تقبّل هذا اللون من التصنيف البعدي القائم على الخيارات التفصيلية للباحث بوصفه فيلسوفاً وليس باحثاً تاريخياً.
وهذه مسألة بالغة الأهمية، وتعبّر عن خطأ منهجي، فعلى سبيل المثال لا يحق لفيلسوف ينتمي لحلقة فيينا (الوضعيّة المنطقية) التي تجافي الميتافيزيقيا ومسائلها المتداولة، أن يطلق حكماً بعدم الأهمية بشأن الفلسفة الإسلامية أوفلسفة الأسكولائيين، لأنهما تهتمان بالبحث عن الميتافيزيقيا والماهية والعلل البعيدة للأشياء، لأن هذه الحلقة أخرجت تلك المسائل من دائرة الاهتمام ومن دائرة القضايا ذات المعنى، فإذا ما ورد فيلسوف وضعي ميدان البحث التاريخي الفلسفي، ففي مثل هذه الحالة لا بد له من الركون إلى مقياس عام يحظى بالمقبولية العامة في تصنيف المدارس الفلسفية المختلفة تبعاً للأهمية والجدة والإبداع، ولا يحق له الاعتماد على قناعاته التصديقية الشخصية القاضية بعدم أهمية البحث عن الميتافيزيقيا.
2 - فضلاً عن ذلك، فوفق طريقة (راسل) في ترتيب الأولويات والأهمية ينبغي إخراج سائر أوغالب فلاسفة العصر الوسيط أو الأسكولائيين عن دائرة الأهمية، لعدم توافرهم على الصفات التي تهتم بها واقعية (راسل) وقناعاته التصديقية! والحال أننا نجد (راسل) نفسه قد ذهب عكس ذلك تماماً في تناوله الفلسفةَ الكاثوليكية وآباءها.