البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الغيرية في التفكير الغربي ، بين غلبة الأنا والتضحية من أجل الآخر

الباحث :  غيضان السيد علي
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  10
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2018 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 23 / 2018
عدد زيارات البحث :  3233
تحميل  ( 349.314 KB )
أخذت مشكلة الغيريّة جدلاً عميقاً ولما ينته بعد في الثقافة الغربية الحديثة. وبدا ثمة انفصام في الوعي الأوروبي والغربي عموماً بين منطق السلطة والتيارات النقدية رافقت صعود الموجة الاستعمارية. وعلى الرغم من ذلك فقد شهد الوعي الغربي ميلاً نحو التمركز حول الأنا الحضارية على حساب التضحية الحقيقية من أجل الغير.
في هذه المقالة محاولة نقدية لجلاء جملة من الإشكاليات في مفهوم الغيريّة كما ظهرت في تجربة الحداثة الغربية.

المحرر

على الرغم من قِدم العلاقة بين الأنا والآخر وتنوع صورها بين الحب والتعاطف والاحترام والصداقة والغرابة والقرابة والإيثار والأثرة والصراع والتنافس والعداوة. وعلى الرغم من دعوات الأديان الكبرى إلى أداء واجب الضيافة، ومساعدة الجياع والفقراء والمحتاجين، وحب الخير للآخرين. يكشف لنا دراسة تاريخ الفكر الغربي عن تهميش لمشكلة الغيريّة بشكل واضح خاصة في العصرين القديم والوسيط، فقد تمركزت «الأنا حول ذاتها» واهتمت بالانشغال بتفسير الوجود الخارجي، ودأب التفكير الفلسفي منذ إرهاصاته الأولى على جعل السؤال مِعولًا لحفر معرفي يهدف إلى خلق تراكم إنساني بصدد معرفة الطبيعة والكون والوجود، بينما لم يشغل الإنسان  وعلاقته بالآخرين سوى مكان هامشي. حتى إن المذاهب الأخلاقية اليونانية وُصِفَتْ بأنها مذاهب أُقيمت من أجل الدولة أكثر مما أُقيمت لصالح البشرية، وللأصدقاء وليس للأعداء. وأمام تهميش مشكلة الغيريّة في تاريخ الفكر الغربي القديم والوسيط يمكننا أن نتحدث عن بروز لتلك الإشكاليّة في العصور الحديثة والمعاصرة حيث الاهتمام بدراسة الإنسان وعلاقته بالآخرين، لتكشف لنا العلاقة بين الأنا والآخر عن مفارقات وتناقضات؛ إذ نجد في خِضَمّ سيادة دعوات الأنانيّة والأثرة وإقصاء الآخر كعلاقة طبيعيّة للأنا مع الآخر، دعوات أخرى تحبذ الغيريّة والإيثار والتكامل مع الآخر. لذلك لن نلاحظ سيادة دعوات الأنانيّة وطغيان النزعة الاقصائيّة بشكل كامل، إذ ناوءتها دعوات الإيثار والغيريّة ونكران الذات من حين لآخر. ففي حين ابتدأ العصر الحديث بدعوة توماس هوبز إلى الأنانيّة وأنَّ الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، والتي سادت لمدة ليست بالقصيرة، إذ يمكن ملاحظة آثارها عند ديكارت وهيجل، تظهر في مقابلها دعوة جول سيمون الذي ينزع منزعًا إنسانياً وينادي بالتكامل مع الآخر. وهوالأمر نفسه الذي نجده عند اثنين من الفلاسفة المعاصرين أمثال الفرنسيين جان بول سارتر الذي يرى أنَّ الآخر هوالجحيم بعينه في مقابل إيمانويل ليفيناس الذي يضع الأنا في حراسة الآخر بل يرى أنَّ من واجب الأنا التضحية من أجل الآخر. وهوالأمر الذي نحاول توضيحه في هذه الورقة البحثية حريصين على إعطاء تصور كامل للعلاقة بين الأنا والآخر في الفكر الغربي على مَرّ العصور بدءًا بالسوفسطائيين وفلاسفة اليونان حتى ليفيناس.

الغيريّة في مقابل الأنانيّة
الغيريّة مشتقة من الغير وهوكون كل من الشيئين خلاف الآخر. وقيل كون الشيئين بحيث يتصور وجود أحدهما مع عدم الآخر. والغيريّة بخلاف الاثنينية؛ لأن الاثنينية  كون الطبيعة ذات وحدتين، ويقابلها الطبيعة ذات وحدة أووحدات. ولفظ ( الغير) في علم النفس مقابل للفظ (أنا)، فكل ما كان موجودًا خارج الذات المدركة أومستقلًا عنها كان غيرها. ويطلق على الشيء الموجود خارج الأنا اسم (الآخر). والغيريّة عند المحدثين هي الإيثار، وهي مقابلة للأنانيّة، وتطلق في علم النفس على الميل الطبيعي إلى الغير، وفي علم الأخلاق على القول بوجوب تضحية المرء بمصالحه الخاصة في سبيل الآخرين.
ويقابل الغيريّة الأنانيّة، وتعني الأخيرة الأثرة، وحب الذات الذي يحمل الإنسان على الدفاع عن نفسه، وحفظ بقائه، وتنمية وجوده. والميول الأنانيّة الناشئة عن هذا النزوع مقابلة للميول الغيريّة، ويطلق عليها اسم الميول الشخصيّة أوالميول الفرديّة. والأنانيّة في الأخلاق هي حب الذات الشديد الذي يمنع صاحبه من حب شيء آخر غير نفسه. والمتصف بالأنانية يعلق جميع مصالح الناس على مصلحته الخاصة، وينظر إلى جميع الأشياء من زاوية نفسه، والأنانية في فلسفة الأخلاق هي القول إن المنفعة الفردية مبدأ جميع المعاني الأخلاقية، وغاية سلوك الإنسان.
والغيريّة هي لفظ جديد استحدثه أوجيست كونت   A. comte وقصد به أن تحيا في سبيل غيرك، فالغير ضروري لوجود الأنا ومن دونه لا قيمة للحياة، وأن تجعل الحب مبدأك والنظام دعامتك، والتقدم هدفك؛ أي أن تحب الخير لغيرك، وأن تبذل ما في وسعك مختارًا في سبيل نفعه. واعتبر هذا الميل في نفع الآخرين أصيل في الإنسان.لكنّ طائفة من الفلاسفة أنكرت ذلك، وزعموا أنَّ الإنسان لا يحب إلا نفسه، ولا يفكر إلا في مصلحته الخاصة. بينما ذهب آخرون إلى أن الأنانيّة هي الأصل، وإنما تولدت الغيريّة منها عن طريق التربية والتنشئة الاجتماعيّة السليمة. بينما ذهب فريق ثالث ومنهم ليتريه Littre وإميل دور كايم   I. Durkheim  إلى أن الشعور بالإيثار أصيل في الإنسان  كالأنانيّة، وأنَّ كلا الميلين ناشئ عن وظائف الخلية الحية، فالأنانيّة تنشأ عن وظيفة التغذي، وهي التي تدفع الكائن الحي إلى البحث عن إنسان كائن آخر يحضنه ويربيه، حتى يصبح قادراً على الحياة بنفسه.
ولدراسة نزعات الغيريّة والأنانيّة في الفكر الغربي يمكن القول إنَّ البداية كانت أنانيّة تمحورت فيها الذات حول نفسها، بلّ إن الأنانيّة هي الأكثر سيادة على تاريخ الفكر الغربي، لكنّ هذا لا يمنع من وجود نزعات إيثاريّة على استحياء في ظل هيمنة الأنا ونزعاتها الأنانيّة السامقة يمكن ملاحظتها في العصور الحديثة والمعاصرة. فالأمر قد اختلف، فقد كانت الحاجة إلى الوعي بالآخر هي الأكثر إلحاحًا، فتباينت النظرة من التمركز حول الأنا إلى النظر في طبيعة الآخر، واتخاذ موقف محدد في التعامل معه، إمّا بالنفور منه والابتعاد عنه بوصفه عدواً يتربص بالذات، أوبالقرب منه والتعاون معه كونه شريكاً في الإنسانيّة، بلّ وبالخوف عليه وحراسته والدعوة إلى التضحية من أجله. 
ومن ثمّ نرى أنّه من الضروري الوقوف على طبيعة إحساس الأنا بالآخر في العصرين القديم والوسيط لما تحمله من معان ثريّة تساعدنا في حقيقة الوقوف على أسس مشكلة الغيريّة في العصرين الحديث والمعاصر.
التمركز حول الذات في العصرين القديم والوسيط
اشتهرت الفلسفة في العصر اليوناني القديم وخاصة في المرحلة التي سبقت سقراط بالانشغال بتفسير الوجود، فتقدمت الأنطولوجيا والإبستمولوجيا على الإكسيولوجيا، فقد عني الفلاسفة بتفسير الوجود الخارجي، أما الاهتمام بالإنسان وسلوكه فكان يشغل مكاناً هامشياً ثانوياً عارضاً، حتى جاء السوفسطائيون في النصف الثاني من القرن الخامس قبل ميلاد المسيح، وأثاروا عاصفة من الجدل حول المبادئ الأخلاقية والاجتماعية المنتشرة بين الناس في ذلك الوقت، ومن ثم تصدى لهم سقراط الذي قال عنه شيشرون «إنه أول من أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض» أي من الأنطولوجيا إلى الإكسيولوجيا والاهتمام بمشكلات الإنسان.
وهنا عبَّر السوفسطائيون خير تعبير عن نزعة الأنانية، والتمركز حول الذات، وعدم الاهتمام أو الانشغال بالآخر، فالأنا مقدمة على من سواها في كل شيء، وهي معيار الخير والشر، ومقياس الصواب والخطأ؛ إذ عبّرت أقوال أشهر السوفسطائيين المدعو«بروتاجوراس» عن تلك النزعة إذاقال: «الإنسان مقياس الأشياء جميعًا». وأيضًا: «ما يبدولي على أنّه حق فهوحق بالنسبة لي، وما يبدو لك على أنّه حق فهو حق بالنسبة لك». لتصبح بذلك مبادئ الخير ذاتية ونسبية تماماً تتغير حسب مصالح الفرد الشخصية. وفي هذه الحالة يكون الظلم أنفع لصاحبه من العدل؛ ويصبح ظلم الآخرين والاستيلاء على حقوقهم من الخير ومن العدل، فالظالم يتمتع، وحياة المتعة خير من حياة الحرمان. ومن ثم كان معيار العدالة عند السوفسطائيين هو مصلحة الأقوى.
ولا شك في أن النظام السياسي السائد في تلك الحقبة البعيدة من الزمن هوالمسؤول عن تلك النزعة المتمركزة حول الذات. والغريب أنَّ النظام السياسي السائد حينذاك كان هو النظام الديمقراطي، ولكن كما يقول إمام عبدالفتاح إمام: «إن الديمقراطية اليونانية لم تكن تعني ما نعنيه اليوم بلفظ الديمقراطية، مؤسسات نيابية وحكومة يعينها الشعب بواسطة نوابه المنتخبين. إذ لم تكن اليونان القديمة دولة واحدة تحكمها حكومة واحدة، بل كل مدينة، وكل قرية تمثلها دولة مستقلة تحكمها قوانينها الخاصة. وكانت بعض هذه المدن صغيرة للغاية لا تتألف إلا من عدد ضئيل من السكان، وبحيث يمكن للمواطنين جميعًا أن يجتمعوا في مكان واحد لمناقشة القوانين والشؤون العامة. ومن ثمَّ فلم تكن هناك ضرورة للتمثيل النيابي. ومن هنا كان كل مواطن في بلاد اليونان سياسياً ومشرعاً في آن معاً. وفي مثل هذا الوضع تنمو الروح الفردية، ونسي الناس مصالح الدولة واهتموا بمصالحهم الخاصة. وأصبحت الطبقات السائدة في الحياة السياسية اليونانية هي الجشع والطمع والأنانية والنزعة الذاتية التي لا حد لها».
ومن ثمَّ كان تصدي سقراط لتلك الأخلاق السوفسطائية التي تقوم على الذاتية والنسبية، وتتمثل عدالتها في مصلحة الأقوى، من أجل الانتصار للإنسان وللقيم الأخلاقية الموضوعية المطلقة، وسار على دربه أفلاطون وأرسطو، وهؤلاء هم العمالقة الثلاثة في الفكر اليوناني القديم. لكن ثلاثتهم اتفقوا في النظرة الدونية والاحتقارية للآخر؛ فالآخر عندهم كل ما هو ليس رجلاً حراً يونانياً، إذ سلموا  بنقاء العنصر اليوناني وتفوقه على سائر الأمم التي لا تغدو سوى أمم بربرية همجية، وسلموا – أيضًا- بإباحة الرق على أنه نظام طبيعي فرضته الطبيعة، وسيادة الزوج زوجته، والأب أبنائه، ورفضوا المساواة بين الناس، وبين الرجل والمرأة، وخصوا الأقلية بأحسن الأشياء، وطالبوا الأكثرية بالقناعة، بل رأوا في الأكثرية مجرد وسائل لإنتاج قلة من الحكام. حتى إنّ أرسطو كما يأخذ عليه برتراند رسل B. Russell في تناوله كتاب أرسطو«الأخلاق إلى نيقوماخوس، يقول منتقدًا أرسطو: «تكاد لا تجد كلمة واحدة عند أرسطوعما قد يسمى بحب الغير  أوحب الإنسانيّة».
إذن تمركزت الرؤية اليونانية حول الذات وفضَّلت نفسها على بقية الأمم، ومازت نفسها في كل شيء؛ فالنظام السياسي الذي يناسبها هوالنظام الديمقراطي في حين رأوا أن ما يناسب الأمم الأخرى من الشرقيين هوالنظام الديكتاتوري الذي يناسب طبيعتهم التي فُطرت على العبودية والخنوع لاستبداد الحكام. حتى شيوعية أفلاطون اللا أخلاقية رفضها أرسطو، ورأى أن الشيوعية سواء في المال أوفي البنين تتنافى مع ما فُطر عليه الإنسان من أنانية وحب للسيطرة والامتياز على الأقران.
ولذلك لم يكن غريبًا في خضم تلك النظرة الدونيّة للآخر والتمركز حول الذات أن يُنظر إلى المذاهب الأخلاقية اليونانية على أنها مذاهب أقيمت من أجل الدولة أكثر مما أقيمت لصالح البشرية، وللأصدقاء وليس للأعداء، ولم تسلم من هذه النقائص كبرى المذاهب القديمة، فأفلاطون مع سمو نزعته حرَّم استرقاق اليونان، وأباح في الحرب تدمير الأعاجم، وتخريب بيوتهم، وأرسطو يبيح رق الأعاجم ويحرم استرقاق اليونان! ويرفض المساواة بين الناس، ويخص الأقلية بأحسن الأشياء، ويطالب الأكثرية بالقناعة، ولا يشير في مذهبه بكلمة إلى حب البشريّة.
ولكنّه لا يمكننا إطلاق حكم تعميمي على هذه المرحلة من العصر القديم بأنّه عصر بأكمله يتمركز حول الأنا، ويلغي الآخر بالكلية، وإنما يمكننا الإشارة إلى بعض المحاولات التي استحضرت الآخر ووضعته في الاعتبار؛ إذ إن الإسكندر الأكبر أراد تقويض اعتقاد اليونانيين بأنهم سادة غيرهم من شعوب الأرض، فاقترن بأميرتين من أميرات البرابرة، وأكره زعماء قومه على الاقتران بنساء من أشراف فارس، وهنا بدأ المستنيرون يدركون وحدة الجنس البشري. وبدأ الكلبيون والرواقيون ينفرون من فكرة العصبية الوطنيّة التي لقيت تأييداً حتى من أعلام الفلاسفة من أمثال أفلاطون وأرسطو، وردوا التقسيمات التي تفصل بين الأمم إلى أن الناس تنقصهم الحكمة، ولوقُدِّرَ لهم أن يكونوا حكماء لسادهم جميعًا- سادة وعبيداً، رجالاً ونساءً - قانون واحد، هوقانون العقل، وعندها تمحى العبودية ويزول الرق. وهكذا قامت فكرة العالمية الإنسانية عند الكلبيين والرواقيين على وحدة العقل الإنساني. لكنهم على الرغم من محاربتهم الأنانية وغيرها من شهوات الإنسان ومطالبه الشخصية لم يحتوِ مسلكهم هذا على التضحية والإيثار بقدر ما احتوى على الأنانية التي طبعت العصر القديم؛ فالحكيم الكلبي أوالرواقي يرفض المشاركة في الحياة العامة، ويهرب من تبعات الأزواج والأبناء، ويلوذ بحياة العزلة ابتغاء الهدوء والطمأنينة وراحة البال. بل اختتم هذا العصر بأبشع صور الأنانية مع الأبيقوريين الذين عدّوا اللذة غاية الحياة ومعيار القيم! وفي ضوء ذلك أباحوا الخروج على مبدأ العدالة وإيقاع الظلم بالناس متى ترتب على هذا نفع وكان صاحبه بمأمن من انتقام الناس.
في حين أن العصر الوسيط غلبت عليه التعاليم المسيحيّة التي دعت إلى محبة الآخر، بل إنّ محبة هذا الآخر أصبحت مع المسيحية واجباً مفروضاً يُلزَم به كل إنسان؛ إذ نصت المسيحيّة على أنَّ الناس جميعًا أبناء الله، ومن ثم كانوا أخوة، بل قال المسيح لحوارييه في عظته على الجبل: «وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ». (انجيل متى:45:5).               
فكانت دعوة إلى الحب والمودة والتصالح والتسامح مع الآخر، فالحب البشري كله هو حب لله، ولذلك فهو حب بلا انتظار جزاء أومنفعة، حب نزيه يليق بجلال الله، فالله في ذاته محبة، والمحبة لا تسقط أبدًا، والتسامح موجود حتى مع من لطم خدك الأيمن.
 لكنَّ هذا الحب وذاك التسامح لم يكونا سوى دعوات طوباوية لا وجود لها على أرض الواقع؛ فقد أقرَّ القديس أوغسطين الحرب وسيلةً ضرورية لحماية العدل، كما أقرّ العبودية والرق بوصفهما شرًا ضروريًا في هذا العالم الناقص. وشن باباوات العالم الغربي الحروب المقدسة تحت شعار الصليب على الشرق لنهب خيراته وثرواته، فالشرق يفيض عسلًا ولبنًا.  وحقيقة الأنا المسيحية تجاه الآخر يعكسها بدقة قول المفكر القبطي مراد وهبة: «وفي الحقبة المسيحية كان التعصب سائدًا. فقد تنوعت محاكم التفتيش، من أهمها محاكم التفتيش الملكية في أسبانيا، ومحكمة التفتيش المقدسة في روما. اختصت الأولى بالنظر في الهراطقة في خليج إيبريا، وفي المستعمرات الأمريكية. وامتدت الثانية حتى شملت كل أوروبا، وأحرقت من شمال أوربا جان دارك، ومن جنوبها جيوردانوبرونو».

أنانيّة هوبز وإنسانيّة جول سيمون
ومن العصور القديمة والوسيطة إلى العصر الحديث، إذ نعرض لرأيين مختلفين يعكسان ما دار في هذا العصر من سيادة الأنانية ومناوءة دعوات الغيرية. من أنانية هوبز وذئبية الإنسان مع أخيه الإنسان إلى تفعيل المبادئ الإنسانية التي ترفض كل ما يضر أويؤذي الآخر، وتوجب على الأنا أن تتصرف تجاه الآخر بمثل ما تحب أن يتصرف تجاهها الآخرون، فذلك هوالقانون ونبوة الأنبياء عند جول سيمون.
انطلق توماس هوبز T. Hobbes في رؤيته الآخر من رؤيته السيكولوجية التي ترى أن جميع الدوافع الإنسانية تهدف إلى حب الذات، وأنَّ كل ما يفعله الإنسان يقصد به مصلحة نفسه في المقام الأول، وإذا تصادف أن يفعل خيرًا للآخرين كان مرد ذلك إلى حب الذات من إعجاب الناس بفاعل الخير، بالإضافة إلى رغبة الإنسان في التفاخر والتباهي. وبهذا يبدو الإنسان أنانيًا بفطرته لا يفكر إلا في نفسه وما يجلب إليها الخير ويدفع عنها الشر. وهذا ما يعبر عنه توفيق الطويل في وصف الإنسان عند هوبز قائلًا: «إن الإنسان أناني بطبعه، نافر بفطرته من الاجتماع بغيره، متطلع إلى طلب الأمان، يهدف بتصرفاته إلى حفظ حياته وتحقيق لذاته، هذه هي حياته الواقعية، وهذا هو في نفس الوقت ما ينبغي أن تكون عليه حياته، فإن غاية الأفعال الإنسانيّة تحددها طبيعة الإنسان ولا يمليها عقله».
فكيف تفعل الأنا الخير للآخر وهذا الآخر هو مصدر كل شر للأنا؟ فالإنسان عدوالإنسان، وفي حالة حرب مع الآخر، كل آخر، حرب الكل ضد الكل، وهو ما يفسره هوبز شارحًا حال الإنسان في التفكير بهذا الشر الذي قد يلحقه به الآخر إذا ما أتيحت له الفرصة، بقوله: «فلندعه إذن يتأمل نفسه: حين يقوم برحلة فإنه يتسلح... وحين يخلد للنوم فإنه يقفل أبوابه؛ وحتى يكون في بيته فإنه يغلق خزائنه، وهذا مع معرفته أنَّ هناك قانونًا وموظّفين عامّين مسلّحين، لينتقموا لأي أذى قد يلحق به».
ومن ثم يبدو الإنسان عند توماس هوبز ذئبًا لأخيه الإنسان. لا يتردد القوي في الاعتداء على الضعيف واغتصاب ما يملك، فإن أعوزته القوة اصطنع الحيلة والدهاء حتى يبلغ مأربه. كانت  هذه حال الإنسان همجيًا ولم تزل هذه حاله متمدينًا، فإن المدينة لم تفعل أكثر من أنها حجبت العدوان بستار من الأدب، وأحلت القصاص – في ظل القانون- مكان استخدام العنف ومعالجة الأمور بالفظاظة.
والإنسان دائمًا في حالة حرب مع الآخر، فإن لم يكن هكذا بالفعل كان في وضعية تأهب واستعداد للحرب. فإن الملوك وأصحاب السلطة السيادية في كل الأزمنة يغار بعضهم من بعض، ودائمًا ما يصوب أحدهم سلاحه باتجاه الآخر، أي إنهم دائمًا ما يضعون حصونهم وحاميتهم ومدافعهم على حدود ممالكهم في وضعية الاستعداد والتأهب، أي في وضعية حرب. وهي تلك الوضعية التي يبحث فيها كل فرد عن مصالحه الشخصية ومنافعة الذاتية الخاصة.
ومن ثمَّ يكون الأساس النظري الذي قام عليه مذهب هوبز مذهب الأثرة، والذي يعني أنَّ كل فرد يقصد من وراء سلوكه حفظ حياته وتحقيق منافعه. ويترتب على ذلك نسبيّة الخير والشر. مما ينتهي بهوبز إلى الأنانية الخالصة. بل يبدو الإنسان في مذهب هوبز همجيًا شريرًا بفطرته غير مدني بطبعه، أنانيًا يؤثر مصلحته على كل اعتبار، ينفر من الاجتماع بغيره من الناس، ولكن مصلحته الشخصية قد اقتضته أن يتخلى عن جزء من حريته ليحقق لنفسه مصالح أخرى يكفلها اجتماعه بغيره من أقرانه، ومن ضرورات الاجتماع التهادن والتعاون والسلام. وهكذا كان العقد الاجتماعي عند هوبز مرجعه إلى أن الإنسان شرير بطبعه أناني بفطرته، ولكن أنانيته تحمله على أن يضحي بخير عاجل في سبيل خير آجل يكبره، ولا سبيل إلى احترام هذا التعاقد إلا بفرض عقوبات يقوم على تنفيذها حاكم مستبد مطلق يجمع في يده السلطات كلها، ويخضع لأوامره جميع المواطنين.
وننتقل من أنانيّة هوبز في القرن السابع عشر إلى رؤية أخرى مخالفة لها وهي إنسانية جول سيمون (J.Simon  (1814 -1896  في القرن التاسع عشر؛ فقد رأى سيمون أنَّ حب الآخر مفطور في النفس الإنسانية، وأنَّ الآخر عنده لا يقتصر على الأسرة أو الوطن أو شركاء الوطن، ولكن يشمل بني الإنسان من كل جنس ولون. ويبرهن على أن حب الآخر مفطور في النفس الإنسانية، فحين «أَلقى فقيرًا يتضور جوعًا فأسرع إلى إغاثته غير ملتفت إلى اسمه وبلده، فربما لم أرَه بعد ذلك ولكنّه إنسان. ويرى البَحّار في أثناء الزوبعة مركبًا في خطر فيجازف بحياته وحياة من معه لإنقاذه لا يسأل عن هؤلاء الغرقى أمن الإنكليز أم من الفرنسيين؟ بل ربما كانوا أعداء، ولكنهم على كل حال منكوبون. ويسمع الطبيب أنين الألم فيمضي إلى مصدره، فإذا هوعدوه الشديد ولكنه يتألم - هنا إنسان يجب إنقاذه فيخلص له الطبيب. وتدخل إحدى أشياع سان فنسان دي بول أحد المستشفيات غير عالمة بمن ستمرّض أوتعزي أو تشفي، فكل إنسان واثق بأنه سيجد من عنايتها ما يحتاج إليه. هذا هوحُب الإنسانيّة».
إنَّ أهمّ ما يميز نزعة جول سيمون الإنسانيّة أنها لا تحاكم الناس في محكمة الأنا ومن خلال تصور الأنا القاصر، لكنّها تنظر فقط من خلال المنظور الإنساني. وهذا ما يتضح للقارئ الذي يلاحظ استشهاد جول سيمون بقول سان مارتين في الجزء الأولّ من كتابه «إنسان الرغبة» حول تلك العبارة التي جاءت في محاورات أبيكتيتوس والتي نصها: «غرق أحد لصوص البحر فاستنقذه حكيم وكساه وأطعمه، فقيل له في ذلك، فأجاب: لست أرى فيه الرجل وإنما أرى الإنسانيّة»، وتعليق سان مارتين عليها بقوله: «لوكان قاضيًا لعاقب فيه اللص، ولكنّه إنسان فحمى فيه المنكوب».
كما يرى سيمون أنَّ حب الإنسانية في النفوس المعتدلة يجاور حب الأسرة وحب الوطن، فقلبي يصل حبه أولًا إلى من يجاورني ثم يقوى فيمتد حنانه إلى الإنسانيّة. وهوبذلك يرد على الرواقيين الذين رأوا أن حب الأسرة والوطن وهمٌ من الأوهام، يريدون بذلك أن تكون الإنسانيّة وحدها صاحبة الحق على القلب الإنساني. ولكنّها أيّ إنسانيّة تلك التي لا تأبه لا بأقرباء الأسرة ولا بشركاء الوطن؟! فالمدرسة الحقيقية للإنسانية عند جول سيمون هي الوطنية، ومدرسة الوطنية هي فكرة الأسرة. وفي ذلك يقول سيمون: «ولأجل أن نفهم مقدار ما للوطن من التقديس ليس علينا إلا أن نذكر أنّه لا يمكن الاعتداء على منافعه العامة من غير اعتداء على الأسرة... فإذا ما شئنا أن نُحطم نُصب الوطن وجب أن نذهب إلى المنازل فننثر ما فيها من رماد، بل ننبش قلب الإنسان فننزع ما فيه من الأصول الأولية للحب».
فحق الإنسانيّة علينا – كما يرى جول سيمون - هوأن نعامل الآخرين كما نحب أن يعاملونا، ليس فحسب، ولكنّه يرى أن للإنسانية حقوقًا مسبقة تبدأ بها الأنا. وأن لأمثالنا علينا واجبين: «ألا نؤذيهم، وأن نُحسن إليهم؛ فعدم إيذاء أمثالنا هو ألا نعتدي على حياتهم، ولا أخلاقهم، ولا حريتهم، ولا شرفهم، ولا ثروتهم».
كما يؤكد جول سيمون وجوب إجلال الحق في غيرنا، وفي المحافظة على حياته بكل السبل الممكنة، وهوالأمر الذي سنلحظه بوضوح في القرن العشرين عند إيمانويل ليفيناس الذي يجعل من واجب الأنا المحافظة على حياة الآخر. إذ يذهب جول سيمون إلى القول إنَّه: «إذا كانت هناك وصية غير قابلة للنزاع فإنما هي: لا تقتل». ولكن سيمون يرى أن هذه الوصيّة وإن اتفق الناس على قبولها في صيغتها العامة، نجد أنهم أثاروا بعض المسائل حولها، يحاولون فيها تسويغ القتل كما في الحالات الخمس الآتية: القتل في سبيل الدفاع المشروع، القصاص، القتل السياسي، المبارزة، الحرب. لكنه سيمون انطلاقًا من نزعته الإنسانية يحاول أن يفند مشروعية القتل في أي حال من الأحوال حتى في هذه الحالات الخمس؛ فيرى أنّه في حالة الدفاع المشروع عن الذات يكون المرء مُدانًا أخلاقيًا إذا استطاع أن يقاوم عدوه من غير أن يقتله، وعلى الرغم من ذلك قتله. وعدّ أنَّ كلّ قتل في سبيل الدفاع المشروع إذا لم يكن ضروريًا فهوجريمة. كما يرى أنَّ القتل في شرع القصاص ينبغي ألا يبقى مع رقي الحضارة، وخاصةً إذا أخذنا في الاعتبار إمكانية خطأ القضاة، وسوء النظام الاجتماعي الحاضر، وإنكار أن يكون للإنسان حقاً في القتل. أما في الحالة الثالثة وهي حالة القتل السياسي فينتقده سيمون بقوله: كيف لرجل واحد يشرّعه ويحكم به وينفذه. أما حالة المبارزة فإننا حين نلجأ إليها فإننا نضع البربرية مكان الحضارة. أما الحرب التي يقصد بها الغزو، لا دفع الاعتداء فهي جريمة نكراء. ومن ثم يقول مجابهاً كل دعوة للحرب أوللقتل: «إنَّ السر في أن أمة ما لا تقهر إنَّما هوتعويدها حب الأخلاق... لا تعويدها شم رائحة الرصاص».
وهكذا تبدو النزعة الإنسانيّة عند جول سيمون تقف على طرفي نقيض من أنانية هوبز، وإن كان يؤخذ عليها أنها لا ترى الآخر إلا حينما يكون في مأزق ( فقير – جائع - غريق- مريض) ولا ترى الآخر في مواضع أخرى مخالفة. كما أن دعوته إلى تجريم القتل في كل الأحوال، وتسويغه في حدود ضيقة جدًا تكاد تكون معدومة،  لهي دعوة تحتاج إلى إعادة نظر ومزيد من المناقشة، لكنّها لا تقدح أبدًا ولا تقلل من سمو نزعته الإنسانيّة.

الآخر بين جحيم سارتر والتضحية من أجله عند ليفيناس
على الرغم من معاصرة سارترJ.P. Sartre  لليفيناس I. Levinas، وقراءة كل منهما للآخر، ومقولة سارتر الشهيرة عن فلسفة ليفيناس «إنها الفلسفة التي كان يرغب في كتابتها»، نجد أنَّ موقف كل منهما من مشكلة الغيريّة  يقوم على طرف نقيض من الآخر. والحقيقة أنَّ سارتر هوالامتداد الطبيعي لمشكلة الغيريّة وعلاقة الأنا بالآخر عبر التاريخ الغربي، وأنَّ ليفيناس هوالذي يُمثل الانعطاف الجذري لهذه العلاقة؛ فسارتر يواصل تلك الرؤى الأنانيّة تجاه الآخر والتي  يمثلها مذهب «الأنا وحيدة» وهوالمذهب الذي لا يعترف بوجود الآخرين، وينكر إمكان الاتصال الإنساني إنكارًا مطلقًا؛ ومنه مقولة نيتشه Nietzsche: «إننا لا نحب معرفتنا حالما ننقلها إلى الآخرين»، ويتطرف شترنر strener إلى أبعد من ذلك فيعرّف ذاته بأنّها الذات الوحيدة الكائنة في العالم، وليست الذوات الأخرى غير امتثالات لذاته. ويدعوشترنر إلى الانعزالية من وجهة نظر أخلاقيّة محضة، أو لا أخلاقية بمعنى أصح. ولهذا المنهج جَانِبه الأدبي الذي نجده في أشعار ملارميه وفاليري وبروست.
فسارتر يرى أن الأنا في صراع أبديّ مع الآخر،  يحاول كل طرف منهما أن يستلب الآخر ويمتلكه. والآخر هوالموت المتحجب لإمكانياتي، فلا مجال لإقامة حوار بين الأنا الآخر؛ لأنَّ الآخر هو بمنزلة الجحيم للأنا، وأيّ محاولة  لمجرد تبادل النظرات هي صراع وليست حواراً؛ بل إنَّ الحوار سيتحول إلى تبادل مواقع استراتيجي يستعد فيه كل طرف للانقضاض على الآخر. ومن ذلك قول سارتر: «إنَّ الغير يترصدني. وإذا رأيت موقفه المستعد لكل شيء، ويده في جيبه حيث يوجد سلاح، وإصبعه موضوعًا على الجرس الكهربائي، ومستعدًا لتبليغ الحارس عند أول حركة تبدر منيّ».
ولذلك فإن ظهور الآخر يحول عالم الأنا إلى صراع، ومنافسة، واستلاب، وتشيؤ. فالآخر هو«الموت المستور لإمكانياتي من حيث إنَّي أعيش هذا الموت بوصفه مختبئاً في العالم... والغير يتجاوز في وقت واحد ظلمة الركن المنزوي وإمكان اختبائي، وذلك أنه قبل أن أقوم بحركة من أجل اللواذ بها، فإنه يضيء الركن المنزوي بواسطة مصباحه. وهكذا فإن الهزة التي تحركني حين أدرك نظرة الغير، تُحدث فجأة استلاباً لطيفاً لكل ممكناتي المرتبة بعيدًا عني، في وسط العالم» مع موضوعات العالم».
أي إن سارتر يرى أنَّ الغير يغتصب عالمي ويجعلني موضوعاً للتقييم، وهوالذي يعطيني أو يمنحني قيمتي.  فمجرد ظهور الغير في عالمي وقيامه بالنظر إليّ فإنَّه يحولني من ذات إلى موضوع، ويشاركني الوجود فيفسد عليَّ وحدتي، ويسلب منيّ حريتي، ويزحزحني عن المركز الذي لم أهنأ به طويلًا. وعلى هذا فحالة كوني منظورًا تجعل مني موجودًا بلا أي دفاع ضد حرية ليست حريتي. وبهذا المعنى قد نعد أنفسنا عبيداً بقدر ما نظهر للآخر. ولكن هذه العبودية (استلاب الإمكانيات) ليست نتيجة - تاريخية وقابلة للتجاوز- لحياة وعي مجرد. وهذا التصور للآخر بوصفه خصماً للأنا، يستخدمه سارتر أساساً لتفسير العلاقات المتبادلة بين الموجودات الإنسانية، وهي علاقات جسديّة في المقام الأول، ولكن الجسد يدخل هذه العلاقات ليس بطبيعته الفيزيائيّة البيولوجيّة وإنّما بوصفه مظهرًا أوتجلياً لفردية الأنا وإمكان تمركزها في العالم.
ومن ثم يرى محمود رجب أنَّ التجربة الأصلية للآخر عند سارتر من حيث هي مصدر للاستلاب والتشيؤ، تتطلب نوعين من ردود الفعل يؤلفان طرازين أساسيين من طرز العلاقات المتبادلة بين الموجودات الإنسانية. فإمّا أن تحاول الأنا أن تسلب حرية الآخر وسيادته، وأن تجعله شيئًا موضوعيًا، يعتمد – بكليته- على الأنا. أو أن تستوعب حرية الآخر وتمتثلها وتقبلها بوصفها أساساً لحرية الذات الخاصة. والموقف الأول (رد الفعل الأول) يؤدي إلى الساديّة (حب التعذيب)، أمَّا الموقف الثاني فيفضي إلى الماسوشية (حب التعذب) لكن الإخفاق الأساسي الذي يميز المشاريع الوجودية للأنا، يميز أيضاً المحاولات الآتية: الاستعباد الكامل للآخر يحوله إلى شيء ويسلب حريته التي تسعى الأنا إلى استردادها والحصول عليها، والإخفاق في الموقف السادي يؤدي إلى اعتناق الموقف الماسوشستي والعكس بالعكس. وفي كلا الأمرين، موتٌ للآخر، وعلى هذا لا تكون العلاقة بالآخر علاقة ديالكتيكية وإنما دائرية على الرغم من ثراء كل محاولة بإخفاق الأخرى.
ومن ثمَّ يكون الموقف الوحيد هنا هو كراهية الآخر؛ حيث إنَّ المجال لا يتسع إلا للأنا، ولذا تسعى لتحطيم الآخر، أوالعكس. بيد أنَّ الأمر في النهاية لا يؤدي إلى تحقيق النتيجة المطلوبة، وهي تحرير الأنا، حتى لو نجحت الأنا في الخلاص من الآخر، فإنه يظل في وعيها يؤرق مضجعها.
ولذلك يمكن حصر علاقة الأنا بالآخر عند سارتر في هذين الموقفين (أي السادية والماسوشية) وموقف الكراهية. وأن على المرء أن يختار أحد الموقفين الذي يمثل حقيقته. وبذلك يصبح الآخر جحيمًا للأنا يقهرها ويكبتها، وإنَّ أي بحث عن طريق للخلاص لهو محض عبث. وهذه هي رؤية معظم الفلاسفة الوجوديين من رفاق سارتر والتي تجلت في أوضح صورة تعكس عبثية الحياة وفشل المرء في النجاة أوالحصول على أي طريق للسعادة كما في أسطورة سيزيف للوجودي ألبير كامي.
وعلى عكس موقف سارتر، حاول الليتواني الأصل الفرنسي الجنسية إيمانويل ليفيناس (Emmanuel Levinas 1906- 1995) أن يحرر الذات من وهم الأنانيّة التي تسجن الإنسانيّة في دائرة الخوف من الآخر، فوقف في وجه كل فلسفة تنظر إلى الآخر بأنانيّة أوتخضعه لمقولات الكلية.  ويمثل الوجه حجر الزاوية في فلسفة ليفيناس، فالوجه هو ما يحدد هوية الذات وهوالتعبير عن التفرد البشري وعن جوهر الإنسان الفردي، ومن خلال الوجه يتم التجليّ المقدّس لله. وقد عدَّ ليفيناس هذا التجلي المقدس للوجه بمنزلة منظور فلسفي يتصدى لتلك النظرة الدونيّة الاحتقاريّة للآخر من طرف الذات، فكان بمنزلة رد فعل مباشر لتلك الرؤية التي سادت معظم تاريخ الفلسفة الغربية، فتمركزت حول الأنا، ورأت في الآخر ما يهدد وجودها وأصبح الإنسان ذئباً لأخيه الإنسان، والآخرون هم الجحيم بعينه. ومن ثمَّ جاء هذا التجليّ ليعيد الآخر إلى دائرة اهتمام الأنا بشكل يجعل الأنا مسؤولة بصورة كاملة عن الآخر بل وحارسة له، مؤكدةً ثقافة الاختلاف وداعيةً إلى العيش سويًا ومنع هيمنة الأنا على الآخر.
 فعند ليفيناس يحيا الفرد من أجل" الآخر"، وحين يواجهني الآخر ع (أي يكون وجهُه لوجهي) فإنه يلزمني إلزاماً أخلاقياً تجاهه، وأمام الوجه أطالب نفسي دائمًا بالمزيد. فالوجه حامل للإنسانية التي نحن محكومون بها، حتى يصبح الانشغال بالآخر والقلق عليه مرادفًا لما هو إنساني، وما هو إنساني هوأن أنشغل بحماية الآخر وإنقاذه من الموت قبل الانشغال بالذات.
 ولا يقصد ليفيناس بالوجه ذلك المظهر الذي يتجلى أمام المشاهدين، فنقول هذا وجه «جميل» وهذا وجه «قبيح» أو ما يمكن أن نسميه «فينومينولوجيا الوجه»؛ لأنَّ الوجه عند ليفيناس ليس ظاهرة مثل تلك الظواهر التي تظهر أمامنا في الوجود، ولا يمكن شرحه بهذه السهولة، فعمق التحليل الليفيناسي للوجه يشير إلى ما يمكن تسميته بـ «ما وراء الوجه»، أي إضفاء معنى لكل ما لا يبدو ظاهرًا على الوجه بشكل مباشر. والوجه هوالذي يحرِّم عليَّ قتل الآخر، بلّ إن فيليب نيموPhilippe Nemo  في حواره مع ليفيناس يقول: «إنَّ يوميات الحروب تخبرنا أنَّه من الصعب قتل إنسان يحدق فينا بعينيه وجهاً لوجه».
فاكتشاف وجه الإنسان الآخر في فقره وتعاليه، يجعلني أعي، وفي آن واحد القتل وعدمها، فالعلاقة بالوجه هي علاقة على الفور أخلاقية، فالوجه ما لا نستطيع قتله، أو هوعلى الأقل يحمل الأمر الأخلاقي: «لا تقتل أبدًا». فالوجه يحمل في تعالي كيانه ولا تناهيه ما يقاوم فعل القتل. فنظرة الآخر بمقاومتها القتل تشلّ قدرتي وتجرد إرادتي من سلاحها، فيصبح فعل الأمر «لا تقتل» ليس قاعدة بسيطة للسلوك، بل مبدأ الخطاب نفسه، ومبدأ الحياة الروحية، وهوالأمر الذي يفرض نفسه حين ألتقي الآخر وجهًا لوجه، فحين تلتقي وجه الآخر فإنك تتعرف إليه، أوتُعَرّفَهُ ذاتك، وعندها تتعاطى الوجوه الكلام «فالوجه يتكلم»، وهذا التعاطي الذي يتطلبه الكلام هوبالتحديد العمل بلا عنف.
فالوجه يكشف عن المشاعر الداخلية للكائن البشري، وهو من يتيح إمكانية التحاور ويبدأ الحوار، فثمة علاقة وثيقة بين الوجه والحوار. والحوار أوالكلام هوفعل الإنسان العاقل الذي يتخلى عن العنف لكي يدخل في علاقة مع الآخر. ومن هنا تبرز مسؤولية الأنا من خلال الوجه عن الآخر غير المميز، الذي تشمله حين يكون الأنا والآخر في حالة مواجهة أووجهًا لوجه، فإن الأنا يشعر بمسؤولية تجاه هذا الآخر، والذي أجد نفسي ملزماً أخلاقيا بالدفاع عنه وعن حياته واستحالة ترك هذا الإنسان وحيدًا أمام لغز الموت.
وتتبلور هذه المسؤولية من خلال الحب، ولا يقصد ليفيناس بالحب ذاك الحب بين الرجل والمرأة أوالحب الناتج من الشهوة، لكنه يقصد ذلك الحب الذي لا تتخلله الشهوة والذي ترتكز عليه الدلالة الفطرية لهذه الكلمة، فالحب هنا من أجل الحب وفقط. إنه يشبه إلى حدٍ كبير الواجب من أجل الواجب عند كانت.  فمجرد وجود الآخر أمامي هوإنكار لكوني أنا مركز كل شيء، ودعوة في الوقت نفسه إلى الخروج من ذاتي والعيش مع الآخر. وعلى خلاف تصور الآخر على أنه ذئب أوعدو متربص بي والذي طال كثيرًا، ونتج منه ابتلاع الأنا في الآخر أوذوبان الآخر في الذات، تحافظ علاقة «وجهاً لوجه «أساساً علي مسافة مناسبة بين الأنا والآخر، وعلى الانفصال الذي هو شرط الاختلاف، ذلك أن العلاقة الحقيقية ليست دمجاً للذات والآخر في وحدة كلية، حيث لا يمكن هذا الدمج. ومن ثمَّ فهي أيضاً علاقة أخلاقية، تستدعي حرية الذات لتوجهها نحوالمسؤولية. وهكذا يؤسس ليفيناس في احتفائه بالانفصال والاختلاف والوجه لذاتية تتحقق بوصفها مسؤولية تجاه الآخرين. وهنا تكمن أهمية الفلسفة الليفيناسية بأكملها، إذ إنَّه يرمي إلى وضع مستقبل الآخر كمسؤولية للأنا.
 ويهيمن حق الآخر في الحياة عند ليفيناس على حق وجودي أنا، ولذلك تصبح الذات عند ليفيناس مَدِينة للآخر أكثر من نفسها، فهي مهتمة بحراستها والمحافظة عليها بدرجة تجعلها تستعيض عن موت الآخر بموت الذات حين يبلغ الأرق والسهاد منتهاه من فرط السهر على حراسة الآخر، وتلك يقظة مضاعفة، ونتيجة هذه اليقظة المضاعفة هي الإنتهاء إلى أن الأنا إنما هي فقط جواب عن نداء سابق لها، وفي ذلك تكمن فرادتها واستحالة تعويضها؛ فالأنا مرتهنة بالآخر ورهينة لندائه، ولا يمكن لأحد أن يجيب عوضاً عنها، فالفرادة هي لا نهائية المسؤولية لأجل الإنسان الآخر التي تفرض التضحية بالذات من أجل الآخر. ولا شك في أن هذه نظرة يوتوبية مبالغ فيها حتى في عالم اليوتوبيات. ومن تلك النزعة الإنسانية عند ليفيناس لا يصبح الإنسان حارساً لذاته فقط، وإنما يصبح حارساً للآخر، الذي يتجلى أثر اللامتناهي في وجهه، فيصبح وجه الآخر أيقونة الإله، أو ما نعني به التجلي المقدس لوجه الآخر.
 ولكنه من الممكن توجيه النقد لرؤية ليفيناس حيث إنَّ تحمل المسؤوليّة تجاه الآخر على وجه العموم ـ كما بدت عنده ـ هي نوع من الامتياز الاعتباطي الممنوح للآخر، فكيف أتحمل واجبات أخلاقيّة تجاه الآخر من دون معرفة حقيقية ودقيقة لموقفه من الذات؟ وهل يستوي موقفي من الآخر سواء أكان على حق أوعلى باطل؟! سواء أكان عدوًا أوصديقًا؟ مُعِينًا أومغتصبًا؟ هل يده ممدودة بالسلام أوبالغدر؟
كما كان على ليفيناس أن يثبت عملياً أن الآخر هوالآخر الإنساني بلا استثناءات، وليس الآخر هواليهودي فقط، كما ادعى في أكثر من موضع من كتبه،  لذلك كان عليه أن يتخذ موقفاً نقدياً حاسما تجاه ممارسات الإسرائيلي المحتل ـ الذي يتوجه له تفلسف ليفيناس ـ الذي يقتل الأطفال والنساء والفلسطينيين العزل وجهاً لوجه، فأين هذا الأنا المسؤولة عن حماية الآخر؟ وأين الوجه الذي يناديني دائما «لا تقتل أبدًا »؟ وأين تلك المسؤولية التي تجعل الأنا تضحي بذاتها من أجل الآخر؟!

خاتمة
يتضح مما سبق أن العلاقة التي سادت الفكر الغربي هي علاقة الأنانية والإطاحة بالغير، بينما كانت مساحة إفساح مكان للآخر والتكامل معه هي الاستثناء، ولذلك بدت دعوات الغيريّة كدعوات طوباوية أكثر منها دعوات قابلة للتنفيذ في الواقع الفعلي، ولم تكن في أصلها سوى ردود أفعال على توحش الأنا وقسوتها تجاه الآخر. ومن ذلك ظهور الأنا القومية عند اليونان التي رفضت الاعتراف بأي حقوق للأجنبي، بل إنها تنكرت للمرأة وعدّتها نصف إنسان، وأقرت نظام الرق ورأته أمرًا فرضته الطبيعة. ولذلك تقلصت مساحات التسامح، وانزوت الحضارة اليونانية في كهف التاريخ. أما في العصور الوسطى فظهر التعصب للأنا الدينيّة التي رفضت الآخر، وتجلت في الحروب الصليبية على الشرق الإسلامي طمعاً في خيراته. كما تجلت في أقبح صورها في الحروب الدينية المذهبية الطاحنة بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا نفسها والتي استمرت عقوداً طويلة دُمِّرت فيها مُدن بأكملها.   
ولم يختلف الأمر في العصور الحديثة والمعاصرة؛ إذ عبّر هوبز عن علاقة الصراع والخوف بين الأنا والآخر في عبارة «الإنسان ذئب لأخيه الإنسان»، وجعل ديكارت الأنا منغلقة على ذاتها، تعيش نوعاً من العزلة الأنطولوجية والإبستمولوجية. في حين تحدث كانط عن صورة مثالية للصداقة كعلاقة ممكنة بين الأنا والآخر تؤسس على مبادئ أخلاقية وعقلية وكونية، لكنه أقّر بأنّه من الصعب أن تتحقق في صورتها المثلى على أرض الواقع. وانعكس الصراع بين الأنا والآخر عند هيجل في جدلية السيد والعبد. ورأى هايدجر أنَّ الذات تفقد هويتها عند الدخول في علاقة مع الآخر؛ إذ إنَّ الأنا حينما تدخل في علاقة مع الآخر، فإنه يُحْكِم قبضته وسيطرته عليها، ويفرغها من إمكانياتها ومميزاتها، ويجعلها تابعة له. أما سارتر فقد جعل «الآخرين هم الجحيم بعينه»، ولم يختلف عنه كثيرًا ألكسندر كوجيف الذي رأى أن العلاقة بين الأنا والآخر قائمة على الصراع والهيمنة، والتاريخ البشري ما هو إلا حصيلة الصراع والتقاتل بين الأنا والآخر، وأن العلاقة الممكنة بينهما هي علاقة المنتصر والمهزوم. لتتجلى في النهاية دعوات الغيريّة عند أصحابها من أمثال جول سيمون أوأوجيست كونت أوإيمانويل ليفيناس ما هي إلا نظرات طوباوية تنشد بناء مشاريع فكرية وهميّة تستمد قوتها من غواية الخير والرغبة اليوتوبية في بناء مدن فاضلة  لا وجود لها على أرض الواقع الفعلي.