البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

نقد الوافد الغربي ، قراءة في كتابات المفكر السوداني حسن الترابي

الباحث :  مجدي عز الدين حسن
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  10
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2018 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 23 / 2018
عدد زيارات البحث :  2767
تحميل  ( 371.239 KB )
كيف واجه المفكر السوداني حسن الترابي ثقافة الغلبة التي اعتمدها الغرب حيال المجتمعات العربية والإسلامية على امتداد القرن العشرين المنصرم؟
ليس من شك أن سؤالاً كهذا يستحوذ على مساحة واسعة من الاشتغال، نظراً لارتباط المشروع الفكري للترابي بتطورات الاندفاع الكولونيالي في البلاد العربية والإسلامية منذ بداية القرن العشرين المنصرم على المستويات كافة.
في هذه المقالة يجول الباحث الدكتور مجدي عز الدين حسن في كتابات الترابي الناقدة للغرب، سواء ما يتصل بالجوانب القيمية والأخلاقية والسياسية، أولجهة السلوك الكولونيالي حيال العرب  والإسلام.

المحرر

يعدّ حسن عبد الله الترابي (1932-2016) أحد أشهر أعلام الفكر الإسلامي المعاصر.عُرِف سياسياً أكثر من اشتهاره مفكراً، فقد ارتبطت تجربته السياسية بالحركة الإسلامية السودانية على امتداد عقود متصلة. فهو المنظر الفكري الأول للحركة، و"الدينمو" المحرك لها منذ ستينيات القرن العشرين. فقد شغل منصب الأمين العام لجبهة الميثاق الإسلامي عام 1964م، ومن ثم الأمين العام للجبهة الإسلامية القومية في العام 1986م، إلى الأمين العام لحزب المؤتمر الشعبي منذ العام 2001م وحتى تاريخ وفاته. تحصل على درجة الماجستير في العام 1957م من جامعة أكسفورد، والدكتوراه في العام 1964م من جامعة السوربون. وهويتقن أربع لغات، الإنجليزية والفرنسية والألمانية إضافة إلى العربية، ويتحدث بها بطلاقة، وحاضر بها في عدد من دول العالم الناطقة بهذه اللغات. وهذا أمر أسهم، أيضاً، في أن يكتسب شهرة واسعة.
تتوزع كتاباته ومؤلفاته على صعيد: الفكر والفقه الإسلاميين، والمرأة، والفن، السياسة والحكم، والتفسير، والكتابة التنظيمية التي أرخ من خلالها لمسيرة الحركة الإسلامية السودانية. وبوسعنا أن ندرج الإسهام الفكري للترابي ضمن مسار حركة الإحياء الإسلامي والتجديد الصاعدة منذ ستينيات القرن العشرين، فالقارئ المتفحص لكتاباته يلاحظ أن القضية المحورية فيها هي قضية التجديد: تجديد الفكر الإسلامي، والذي تطلب منه تجديد أصول الفقه والانشغال بالتأسيس لمنهج أصولي جديد، يحتل فيه مفهوم التوحيد المركز الرئيس، بحسبانه رؤية شاملة للوجود والحياة. وهو الانشغال ذاته الذي جعله يهتم في خواتيم حياته بما أسماه ب (التفسير التوحيدي) الذي سعى من خلاله لتقديم قراءة جديدة للقرآن، تهدف من جهة أولى، إلى إنتاج تفسير يوحد سوره وآياته على اختلافها، وتساعد على وصله، من جهة ثانية، بالحياة المعاصرة وما استجد في ساحة العلوم والمعارف.

خمسة منعطفات في فكر الترابي
الصوت الغالب في كتابات الترابي، هو ذاك الداعي إلى تأسيس منهجية توحيدية تستوعب المنقول والمعقول، وتتغذى بمناهج علوم الطبيعة والمجتمع، فمكنته من توليد فقه للتدين، يكيف الحياة العامة في مجالات السياسة والاجتماع والاقتصاد والعلاقات الدولية.
لكن هذا المقال البحثي، لا يتعرض إلى مشروع الترابي الإحيائي، ولا لمساره السياسي وتحديداً منذ انقلابه على الديمقراطية الثالثة في السودان عام 1989م، فهذان مطلبان لا يدخلان ضمن أهدافه، وإنما يركز على جزئية محددة، هي تلك المتعلقة ب ( الموقف من الغرب في كتابات حسن الترابي). في الآن ذاته، لم نتعامل مع هذه المسألة كجزيرة معزولة عن باقي المسائل والقضايا التي عالجها مشروع الترابي، وإنما كنا حريصين على تتبع الخيط الناظم للمشروع برمته ووصله مع المسألة محور البحث. ولإنجاز هذا الهدف، قسَّمنا المقال إلى أربعة محاور وخاتمة عرضنا فيها أهم النتائج. تناول المحور الأول الموقف من المشروع الثقافي الغربي، المحور الثاني عرض إلى مسألة تحرير المصطلح الوافد، فقد اهتممنا، هنا، بتبيان الكيفية التي تعاطى بها حسن الترابي (منهجياً) مع المفهوم الذي تمت بلورته ضمن تاريخ الحضارة الغربية. وجاء المحور الثالث ليغطى الموقف من الفلسفة الغربية، الحديثة وأما المحور الرابع فقد تركز على نقد العقلانية الغربية، في حين تناول المحور الخامس والأخير عما أسماه الترابي ب ( نقد الشرك المادي والسياسي) وفيه تعرضنا لموقف الترابي من الديمقراطية.

أولاً: الموقف من المشروع الثقافي الغربي عند الترابي
بدأت علاقة الترابي بالغرب، بعد تخرجه من كلية القانون بجامعة الخرطوم ( والتي عمل بها أستاذاً، ثم عميداً للكلية)، حيث سافر إلى بريطانيا، والتحق بجامعة أكسفورد التي تحصل منها على درجة الماجستير في عام 1957م، ومن ثم سافر إلى باريس، حيث التحق بجامعة السوربون، التي تحصل منها على درجة الدكتوراه في العام 1964م.
طوال هذه السنين التي قضاها الترابي في أشهر عاصمتين في أوروبا، وكذلك أعرق جامعتين بها، عايش الترابي عن قرب الحياة اليومية في الغرب والثقافة الأوروبية الحديثة، وبدأ يقارن بينها وبين ثقافته الإسلامية، وإن كانت هذه المقارنة قد دارت بخلده منذ صغره، يقول الترابي: « كتب الله لي منذ صغري أن أتدرج في سلم التعليم النظامي، وهونظام غربي النزعة بالطبع، ويسيره الاستعمار في بلادنا، ولا يعترفون بنظام غيره. بينما كنت في البيت أتلقى الثقافة الإسلامية لغة وتراثاً عقدياً وفقهياً، ولذلك اتحد في نفسي مصدرا الثقافة منذ الصغر، كما تتحد مادتان فيخرج منهما مركب جديد».  
يميز الترابي الغرب التاريخي من الغرب الاستعماري الحديث، فالغرب التاريخي هوذاك الذي أتاه أهله من خارجه ومن المشرق كالبرابرة، أما الغرب الاستعماري الحديث فهوالغرب الذي سعى للسيطرة على العالم منذ الحروب الصليبية، وبدأ استعماره المباشر للعالم الإسلامي بعد عصر النهضة الأوروبي.
يتحدث الترابي عن تأثير الغرب الاستعماري الذي ابتدأ بالغزوالفكري الحضاري منذ اجتياحه العالم الإسلامي، الذي صدمته المقابلة الماثلة مع الحضارة الغربية التي تعرف إليها إبان وقوعه تحت الاستعمار الغربي، فظهر للمسلمين، حينذاك، ضعفهم الثقافي والاقتصادي والسياسي إزاء قوة الحضارة الغربية وهيمنتها، « واستفزتهم الصدمة لأول العهد إلى المقاومة ببأسهم الضعيف، فكانت ظواهر الوعي والثورة الإسلامية المعروفة في القرن التاسع عشر، ثم أورثتهم الهزيمة ميلاً إلى الانبهار والانصهار، ثم نضجت استجابتهم للتحدي من بعد منتصف القرن الماضي، فهم اليوم يحاولون استنقاذ ذاتهم ووجودهم بالعودة إلى أصالتهم الإسلامية، ويحاولون كذلك اللحاق بأوروبا ومنافستها في وجوه التقدم الحضاري كافة.
يكتب الترابي في هذا الخصوص: «لقد بسط الغرب علينا تسلطاً فكرياً زعزع ثقة مجتمعنا في تصوراته الموروثة إسلامية كانت أوجاهلية». وفي المقابل، دعا الترابي للخروج من إطار هيمنة الحضارة الغربية ووطأة قهرها الثقافي والإعلامي. ورأى أن تخلص المسلمين من هيمنة الغرب لا يتم إلا بعدم مولاة الغربيين، وأبنائهم المستغربين بالعالم الإسلامي بالقدر نفسه، من جهة أولى. وبالإيمان العميق بالقيم الدينية والإنسانية والحضارية للإسلام، من جهة ثانية. وبالتالي، عدم موالاة المسلمين للغرب والإيمان بقيمهم الدينية، هما اللذان يشكلان، في نظر الترابي، بعداً نفسياً وجهادياً ثورياً، سيدفع بالعالم الإسلامي، إلى المضي قدماً في طريق نهضته اعتماداً على مقوماته الحضارية وقيمه الدينية.
ينتقد الترابي المشروع الثقافي الغربي الذي تميز، بفقدان المعنى والغاية، حيث دفع لإنتاج تقنية من أجل التقنية غاية لذاتها، فانعكس تطوره في شهوة هيمنت على وجدان الغرب، فنشط في مجال التسليح ليطمس بخطر العنف إرادة الشعوب واختياراتها، وليصبح خطراً مهدداً بفناء العالم. وهكذا دفعت الثقافة الغربية المجردة من روح الإيمان بمعبود أعلى إلى إنتاج علم لا يهدف إلا للعلم ذاته، والمادة محتواه الأول والأخير. كما دفعت إلى بروز فن لا يهدف إلا لذاته في التعري والتفسخ وابتذال القيم والأخلاق، كما نشط في تشويه الوجود فتنة بصوره المشهودة في الطبيعة والمخلوقات. وأصبحت الحياة في الغرب لا تهدف لشيء غير الوجودية والإنسانوية والمادية والانحلال السلوكي والفكري. ويرى الترابي أن الغرب أصيب بأمراض خطيرة على رأسها شهوة الاستئثار بالثروة وبالعلم من دون بقية الشعوب، واحتكار التقنية العالية، وأسكرته محبة استغلال موارد الشعوب المستضعفة وتسخيرها لمصالحه.

نقد العقلانية التقنية
ونقد الترابي المنظومة الفكرية الغربية فيما يختص بفقدان المعنى والغاية، ليس دقيقاً، وينبغي الحذر من إطلاق الأحكام جزافاً وتعميمها. صحيح أننا نجد في الفلسفة الحديثة والمعاصرة فلسفات يمكن أن ننعتها بالعدمية، ذهبت إلى أن الوجود كله، بما في ذلك الوجود البشري، عديم القيمة وخال من أي معنى أومضمون. ففلسفة شوبنهاور، كمثال، ترى أن الحياة أو الوجود الإنساني فوضوي وبلا معنى، وذهب في الاتجاه نفسه تلميذه نيتشه، ومن بعده فلاسفة ما بعد الحداثة، الذين يعتبر نيتشه بمنزلة الأب الروحي لأغلب الأفكار والتصورات التي تبنوها، وضمنها بالطبع مسألة فقدان المعنى والغاية والأصل.

ولكن بالمقابل، من الخطأ تعميم هذا الحكم على مجمل الثقافة الغربية، فالمشروع الحداثي القائم على تراث التنوير كان في محصلته الأخيرة يُعلي من القيم التي تُعلي من شأن الإنسان وإمكاناته العقلية، ويبشر بالتقدم. هنا، العقل هو من يمنح الوجود قيمته ومعناه. وكذلك هناك التيارات التي دعت إلى إعادة بناء الحداثة، فلا يمكن بأي حال نعتها بفقدان المعنى والغاية. بل إن النقد الجذري الذي قدمه نيتشه لكل المنظومة الفكرية الغربية، على أنها قائمة على دعوى استحواذها على ( الأصل) و( الأساس) الذي يصبح بمنزلة المرجعية التي تمنح المعنى اكتماله، وتحدد الغاية النهائية لكل شيء.
أما بالنسبة لكلام الترابي عن التقنية، فصحيح وفي محله، وهي أحد أهم الانتقادات التي وجهها الفلاسفة الغربيون أنفسهم لمشروع الحداثة الأولى، نضرب مثلاً بالألماني مارتن هايدجر الذي انتقد العقلانية الغربية التي تحولت إلى سلطة ميتافيزيقية بفعل التقنية، ودعا بالمقابل إلى تجاوزها نحوعقلانية بديلة متحررة من جنون التقنية، وهذا التجاوز لا يتم في نظره إلا بتقويض بنية العقل الأداتي الذي تعاطى مع الطبيعة بوصفهما مجرد أدوات ووسائل، وهدفت العقلانية الأداتية إلى سيطرة الإنسان على الطبيعة والتحكم فيها، لكن المشكلة نتجت من تعميم النهج الأداتي ذاته فيما يتعلق بالمجتمع والإنسان، وهذا ما تم انتقاده بصورة صريحة مع الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت ( ماركيوز وهوركهايمر وأدورنو)، فتطبيق العقلانية الأداتية أدى إلى تسليع الإنسان وتشيؤه. وإذا كان هدف التقنية السيطرة على الطبيعة، فليس من المشروع الحديث عن السيطرة على الإنسان وإنما ينبغي الحديث عن تحرر الإنسان، وهوما قاد لاحقاً إلى التمييز بين مناهج العلوم الطبيعة وتلك المناهج المستخدمة للتعاطي مع الظاهرة الاجتماعية والإنسانية. وهوما قاد إلى بروز الفلسفات التواصلية التي تحدثت عن عقلانية تواصلية تنظم العلاقات بين البشر، وأضحى معها المعنى ينتج كمحصلة للتوافق عليه وقبوله بواسطة إجماع البشر في مجتمع ما. 
وكذلك من مآخذ الترابي على الثقافة الغربية فصلها بين العلم والدين، وفي هذا المجال ليبيِّن أن الثقافة الغربية دأبت على الفصل بين العلم والدين، وبين الوسائل والغايات، وبين الدين والدولة بل والحياة العامة، وأخضعت كل حقيقة إلى المفاهيم الكمية، وسلكت منهج الفردانية الجزئية، وجعلت الأفراد محور كل شيء، وأدى ذلك إلى إدماج المثال بالواقع بين الأفراد، واعتبرت كل نظام توازناً مؤقتاً بين أطماعهم المتنافسة».

ثانياً: في تحرير المصطلح الوافد
ينبّه الترابي على ضرورة إعادة النظر في الكيفية التي يتعاطى بها المسلمون مع المصطلحات الوافدة من الغرب. خاصةً، وأن هذه المصطلحات المنقولة، وما يعلق بها من معانٍ مشوِّهة وظلال، قد لا تتناسب وثقافة المسلمين.
اللغة ـ كما يقول ـ على الرغم من كونها أداة للاتصال والتفاهم. قد تنقلب أداة لسوء التفاهم.  ويسوغ ذلك بأن مفهوم المصطلح أومعنى الكلمة يتضمن بعداً اجتماعياً ينتج من عرف الاستعمال الخاص، ومن تاريخ تطوره، في بيئة اجتماعية ما. وإضافة للبعد الاجتماعي، يتضمن المصطلح، كذلك، ظلالاً نفسية ترجع لسياق التداول بين كل متكلم ومخاطب. وقد تنشأ الكلمة وصفية مجردة من عنصر التقويم والحكم، ثم تصاحبها تطورات وظروف استعمال تجنح بها نحو التقبيح أوالتحسين، وتشحنها بالتأثيرات.
يكتب الترابي: « وتكلم اللغة في كل زمان ومكان مدلولات وفق ظلال تلقيها على المعاني البيئة الاجتماعية والطبيعية والمصطلح المعروف لخصوص الثقافة اللغوية. واللغات لا تجمد، فهي تحيا بنهضة الحياة والحضارة، وتتطور اتساعاً ودقة أوتموت وفاقاً لموات الحياة فتضيق وتنسطح».
ويضرب مثلاً بكلمة الديمقراطية التي تصاحبها اليوم في خاطر السامع جملة من المعاني تتصل بالصورة والقيم التي لازمتها عبر الأطوار التاريخية. هكذا علق بها شيء من كل الظروف البيئية والمصاحبات الفلسفية والأخلاقية والمادية التي صاحبت تطبيقها الواقعي. وعندما تعبر هذه الكلمة بيئة ثقافية إلى بيئة ثقافية أخرى يمكن أن تعني شيئاً مبايناً للمعهود فيها.
يقدم الترابي، من جانبه، منهجية للتعامل مع المصطلح الوافد، يمكن لنا أن نستشفها من كتاباته، وبشكل عام تشير هذه المنهجية إلى أن استخدام الكلمة الوافدة، واستعمالها في مجال التداول المسلم رهين بحال العزة والثقة والحذر والفتنة، وهو يجملها في مرحلتين:
1/ المرحلة الأولى، أسماها الترابي بمرحلة الإسلام المتيقظ وهي تشير إلى حال الفتنة ومجاهدة الثقافي الغازي المتغلب، ويجب على المسلمين، في هكذا حال، أن يأخذوا حذرهم ويجتنبوا التلبيس والانصياع للقيم المتمكنة للبيئة الثقافية المتغلبة، ويضرب الترابي مثل بما فعله النبي محمد من أجل تحرير أصحابه في المدينة من ربقة الهيمنة الثقافية ( الجاهلية، اليهودية)، إذ دعاهم إلى مخالفة اليهود والنصارى والأعراب، وعدم تقليدهم في الأكل والصور واللبس والأعراف والكلام حتى لا ينجروا باستعمالها إلى تقبل ما وراءها من معانٍ وروح، وخشية التقليد في العقائد والقيم التي تمثلها هذه الرموز الثقافية.
2/ في المرحلة الثانية، ويسميها الترابي بمرحلة الإسلام الناهض، والتي تتجاوز مرحلة غربة الإسلام وغلبة المفهومات الغربية بمضامينها، يرى الترابي أنه في هكذا حال، لا ضير من « الاستعانة بكل كلمة رائجة تعبر عن معنى، وإدراجها في سياق الدعوة للإسلام، ولفها بأطر التصورات الإسلامية حتى تسلم لله، وتكون أداة تعبير عن المعنى المقصود بكل أبعاده وملازماته الإسلامية».
إذن في هكذا حال، وهوالسائد اليوم حسب الترابي، لا حاجة للتحفظ أمام المصطلح الوافد، مثلما تحفظ بالأمس الإسلام المتيقظ، في تمييزه الأصيل من الدخيل من المصطلحات، وفي تمحيصه العبارات الوافدة، حتى لا يُغلب بالغزو الثقافي واللغوي على مفهوماته الأصيلة. أما اليوم، فلا حاجة للتحفظ، فالإسلام الناهض، حسب الترابي: « يستصحب فتحاً وتمدداً لغوياً، إذ تعمر المعاني في الكلمات التقليدية للإسلام، ويتسنى له أن يستوعب الكلمات الأجنبية ويغلب عليها أهلها، ويضفي عليها الظلال الإسلامية ويسخرها لعبادة الله سبحانه وتعالى. فما كان لها من ذيوع يكون مدداً لدعوة الإسلام، وما كان بها من تعلق يصبح تعلقاً من خلالها بشأن الإسلام. ومن هنا يتمكن المسلمون مثلاً، إن قاموا بقوة وثقة وتوكل أن يصادروا كلمة (ثورة) وكلمة (ديمقراطية) وكلمة (اشتراكية) لصالح الإسلام».
مصادرة المعجم المعرفي الغربي لصالح الإسلام، هذه المنهجية في التعامل مع المصطلح الوافد ليست بالجديدة كلياً، فإذا رجعنا لرواد عصر النهضة العربية في القرن التاسع عشر، وخير الدين التونسي نموذجاً، سنجد أن التونسي حاول، أيضاً، أن يصادر المعجم الليبرالي السياسي الحديث لصالح فقه السياسية الشرعية، فضمّن قيم الشورى وأشار إليها بكلمة الديمقراطية، وكذلك فعل مع مصطلحات كالانتخاب والبرلمان مقابلاً للبيعة وأهل الحل والعقد. وكذلك نجد شيئاً شبيهاً مع الشيخ محمد عبده وكذلك رفاعة الطهطاوي. أضف إلى ذلك أن أدبيات الإسلاميين في النصف الأول من القرن العشرين كانت ترفع شعارات تعكس منهجية المصادرة، مثل: ( الاشتراكية من الإسلام) ( الرأسمالية من الإسلام). فيمكن عدّ الترابي امتداداً لهذا النهج، وعمل على تطويره وتقعيده.
فنستعمل الكلمة الغربية لتقابل المعاني الإسلامية. ولا حرج في الاستعمال طالما استدرك المرء هذه التحفظات أوأحاط الكلمة بسياق يجردها من ظلال البيئة الغربية. وخلاصة القول إن أمر اللغة اصطلاحي، وإن للكلمات أبعاداً اجتماعية ونفسية وراء معناها العجمي، وإن الاستعمال في سياق صحيح إذا أمدته قوة ثقافية يمكن أن يؤلف إلى الإسلام كلمة غريبة أويرد غربة كلمة كانت للإسلام.
وهناك أيضاً، وجه مشابهة ونقاط التقاء، بين منهجية الترابي في التعاطي مع المصطلح الوافد وبين التيار الداعي إلى أسلمة المعرفة الإنسانية، وهوتيار عمره ما يقارب أربعة عقود، ويتمثل الشاغل الأساس له في إعادة تأويل المنظومة الغربية بحقولها كلها – الطبيعة والمجتمع والإنسان – وذلك لكي تتوافق مع الرؤية الإسلامية للحياة والكون والإنسان. 
إذن، تتلخص منهجية الترابي في التعاطي مع المصطلح الوافد، في مرحلتين: المرحلة الأولى هي مرحلة الإسلام المتيقظ بالأمس، سادتها أحوال الفتنة ومجاهدة الثقافي المتغلب الغازي، وفيها يجب على المسلمين الحذر وعدم تقليد المتغلب. والمرحلة  الثانية وهي مرحلة الإسلام الناهض اليوم، يدعو فيها الترابي إلى استيعاب المصطلح الأجنبي، ومصادرته لصالح مبدأ إسلام الحياة لله رب العالمين، وربطه بمسألة التوحيد، ليناسب، بذلك ثقافة المسلمين. وإدراجه في سياق الدعوة للإسلام.

ثالثاً: الموقف من الفلسفة الغربية
بداية، نشير إلى أن حسن الترابي لا يُرجع الفلسفة الأوروبية المعاصرة، من حيث التكوين والنشأة، إلى الفلسفة الغربية الوسيطة، تلك التي انتشرت داخل روما وبقيت داخل حدود الإمبراطورية الرومانية فحسب، بل يرى أن نشأة الفلسفة الأوروبية المعاصرة كان « نتيجة لتفاعل وتلاق مستمرين بين الفلسفة الرومانية التي دخلت على العرب وتجاوزتهم إلى الهند والصين وعادت مشبعة بتراث المشرق وبطبعات تحمل أفكاراً جديدة». وعلى ذلك، لا يرى الترابي أن الغرب يحمل تفرداً يميزه بثقافته الفلسفية، بل إن « كل المعارف التي بعثها الغرب كانت نتاج كسب مشترك متعدد الجهات»، وينطبق هذا الحكم، كذلك، على الغرب ما بعد عصر النهضة وثقافته وأفكاره وفلسفته وعلومه، فـقد عتمد في أخذها، اعتماداً كلياً، على المسلمين الذين كانوا موجودين في الأندلس، كدولة بكل ما تحمله من معان، أحيت لهم القديم وأهدت لهم الجديد، الذي دفع حركة أعظم حضارة في أوربا، شادت بودار النهوض الحضاري لأوربا الحديثة التي أخذت علاقاته مع العالم تأخذ صورة أخرى بدفع حركتها لنهل مكاسب حضارة المسلمين».
ويكتب عن تأثر عصر النهضة الأوروبي بتراث المسلمين في العصور الوسطى، قائلاً: « كل ما بلغته أوروبا من نهضة في العلوم والفنون والآداب إنما كان بفضل ما تلقفته من المسلمين عن طريق الأندلس وصقلية الإسلامية، وهنا حدث أول حوار بين الإسلام والغرب قدم إسهاما عظيماً في خدمة النهضة الأوروبية. ولهذا فنحن ندعو لطرح الإسلام في الحوار مع الغرب على أنه دين أوروبي استوطن أوروبا ثمانية قرون، وحمل معه لغته العربية أيضاً».
وأبعد من ذلك، لا يحبذ الترابي، ولا يؤيد، وجهة النظر التي تقول إن نشأة الفلسفة بالضرورة كانت في منطقة البحر المتوسط. ويذهب إلى أن وقائع التاريخ القديم تكذب ذلك، « فالفلكيات بدأت قبل المتوسط في مصر والسودان وحتى في أثيوبيا، وهناك فلسفة عريقة العهد أيضاً نشأت في الصين والهند، وألا يدري الآخرون الذين يدعون ذلك أن لقمان الحكيم كان سودانياً؟ وأنه تعلم حكمته من الله وعلمها للبشر؟ فالبحر المتوسط كان مجرد نقطة اتصال عالمية صبت عليها فلسفات ومعارف عديدة ومن جهات كثيرة، وذات هذه الحركة مثلتها أيضاً اللغة العربية من قديم الزمان حينما دخلت على اللاتينية واللغات الأوروبية وأورثتها كثيراً من الكلمات والمصطلحات والتعريفات، التي ما زال الكثير منها في تلك اللغات إلى يومنا هذا، وكذلك يمكن أن نقول إن الفلسفة اليونانية تحركت جنوباً ودخلت على المسلمين، فأورثتهم كثيراً من علم الكلام وأصول الفقه والمنطق الأرسطوطاليسي، فنحن كنا نتبادل هذه المعاني، لأننا كنا نعيش بعضنا مع بعض تواصلاً وتفاعلاً، مما أورث حياتنا الانفتاح والحضارة».
وتحدث الترابي عن المصدر الديني بوصفه مصدراً، لأية فلسفة، ضمن مصادر أخرى، يكتب الترابي: « إن كل فلسفة، وإن أدعت لنفسها المنشأ الأرضي والإنساني أونظرت إلى الوجود المحض المنفصل عن الغيب، فهي في ظني تحكي عن دين منسي ومترسخ في الوجدان الفطري برواسبه العاطفية في تلك الأمة التي خرجت منها الفلسفة، ذلك أن معاني المثاليات عموماً هي محاولة للتعبير عن أشواق الغيب».

رابعاً: نقد العقلانية الغربية
حدث الصراع في أوروبا (بين العقل والنقل) فانتصر العلم النقلي في أول الأمر، وفي النهاية انتصر العلم والعلماء، وهزموا أصحاب النقل، وكما يرى الترابي فإن هؤلاء بدورهم اغتروا وطغوا وتجبروا واستبدوا، وظنوا أنه بالعقل وحده يمكنك أن تضع نظاماً اقتصادياً وقطاعاً سياسياً، بل يمكنك أن تنشئ ديناً بالعقل وحده».
مع الترابي يمكن أن نتحدث عن (عقلانية مؤمنة)، تذكرنا بذلك المبدأ الشهير الذي ساد في فلسفة القرون الوسطى ( آمن كي تعقل، وأعقل كي تؤمن)، أي عقلانية مشروطة بدائرة الإيمان ومحدداتها. وداخل هذا المفهوم للعقلانية يتحدث الترابي عن حدود العقل التي يشتغل ضمنها، وداخل هذه الحدود يُعطى الأولية للعقل، ليتمكن هذا الأخير من تجديد مفرداته وكسبه. وأبعد من ذلك، يذهب الترابي إلى أن الغيب، على الرغم من  كونه يقع فوق تصور العقل، فإننا كذلك مهديون للانطلاق من العقل لنكشف كنهه وحقيقته.
يكتب الترابي: «اعتبار العقل الإنساني أساساً في منطقته التي تمكنه من تجديد مفرداته وكسبه، أما تلك المساحة التي فوق تصور العقل؛ أي الغيب، فإننا مهديون أيضاً للانطلاق من خلال عقولنا نحوها لنكشف وجودها حتى وإن عجزت عقولنا عن إدراك تفاصيلها، ذلك أن في مسألة الإيمان بالغيب يكفي أن يقول لنا فكرنا إن الغيب يمثل إمكاناتنا المحدودة لأننا لا نستطيع أن نعيش شمول الحس بالعلم الطبيعي وبالموجودات فكيف لنا أن ننكر ما وراء الحس؟ وإذا كان الحس لا يستطيع بلوغ الغيب لمحدوديته فإنه يستطيع إدراكه باكتشاف حقائق وجوده، وهذا ما يدفعنا إلى أن نكون عقلانيين في حركتنا نؤمن من خلال عقولنا ونفكر من خلالها أيضاً». 
يرفض الترابي الفصل بين الإيمان من جهة والعقل من جهة ثانية، ويرفض التمييز الذي أجرته الحداثة التنويرية بين مجال خاص وآخر عام، وإن الإيمان تنتهي حدوده خارج دائرة الخاص. ويستنكر النظرة للدين بوصفه مجرد حالة وجدانية إلهامية، ورأى أن هذه النظرة القاصرة للدين هي التي أدت إلى إدخال العقل في غيبوبة، وانعكست صورة هذه الغيبوبة على حركة الدين على الواقع، وعلى تيقن المسلمين للإيمان المنفعل بمناحي الحياة كافة. وفي ذات السياق، ينتقد مناهج التفسير التقليدية، قائلاً: « انفعل المفسر بثقافته الفقهية، فدار مع الأحكام العملية في آيات القرآن، وانحصر جهده وانقطع عن النظر الشامل للكتاب الذي جاء شاملاً موحداً لحياة الإنسان خاصة وعامة. وذلك لأن المجتمع ضل عن رشد الحياة العامة وعلاقاتها الاقتصادية والاجتماعية الكلية، وأخذ التدين يتركز على الحياة الخاصة، وعليها تركز همّ الفقهاء الغالب، وفرطت وحدة الحياة بالقرآن».
وهكذا، فالترابي يدعوإلى إعادة تجديد الفقه والتاريخ الإسلامي وصياغته من خلال قراءة تاريخ الأنبياء الذين كانوا لا يفصلون في خطابهم للإنسان بين عقله وفكره ووجدانه، والوجدان نفسه، حسب الترابي: « ليس شيئاً بعيداً عن العقل، بل هو العقل الفطري الباطني الذي ينطلق فيه الإنسان من موقع طبيعته الإنسانية على خط البديهيات التي لا تحتاج إلى دليل، وهي تمثل جزءاً من الأسس التي ترتكز عليها حركة العلم لأنها تمثل حركة الشك عند الإنسان والتي لابد لمسيرتها من أن تصل إلى حالة اليقين أو الإيمان بمساعدة العقل وإلا بقي فكر الإنسان معلقاً لا يستطيع أن يرتكز على قاعدة راسخة من الاعتقاد أوالعلم».
وخلاصة الأمر أن الترابي يرفض منطق الثنائية التي تعزل الدين عن الدنيا، ويرى أنها تتصل بالثنائية العازلة في مجال العلم بين المعرفة المستمدة من الوحي وتلك المكتسبة بشكل مباشر بواسطة التجربة والعقل. وهوالأمر الذي يؤكده بقوله: « ترد الثنائية العازلة بين الدين والدنيا في مجال العلم تمييزاً بين العلم المنقول عن الوحي أوالتراث الآخذ من الوحي والعلم المكتسب بالتجربة الإدراكية المباشرة والعقل الحر. ويقع التفريق من ثم بين علم ديني وعلم دنيوي. وكل ذلك مؤسس على مذهب الإشراك الذي أصاب الحياة الأوروبية بعلة الثنائية والتعددية في أصول توجهاتها وجانب مذهب التوحيد».
أما فيما يختص بالعلم الطبيعي، فيرى الترابي أنه أيضاً معزول في إطار العقلانية الغربية عن مقاصد الدين، وغير مسخر لعبادة الله. ولذلك يدعو الترابي لتسخيره، قائلاً: « العلم الطبيعي ينبغي أن يسخر لعبادة الله، وإلا أصبح علماً شكلياً. ولقد تحدث القرآن وقرر: أن بعض الناس يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، فهم يعلمون قوانين الطبيعة علماً ظاهرياً، ولا يستخدمون تلك العلوم في الوصول إلى الله، ولا يتخذونها آية لعبادة الله». 
ولقد نهضت علوم الطبيعة قديماً لدى المسلمين، ولكن علماءهم لم يصلوها بتفسير القرآن ليبينوا كيف يخشى الله من عباده العلماء المتفكرون في ألوان الكون، وكيف تُسخر قوى الطبيعة بين المؤمنين ليزدادوا إيماناً وحمداً وترقياً بحياتهم عبادةً لله كما يقول القرآن. وكما يقول الترابي، فإن الابتلاء من بعد، يتمثل في الكيفية التي يتصرف بها الإنسان، ويسخّر تلك القوى الطبيعية عادلاً لا ظالماً، وشاكراً لا كافراً نعماه، يزداد عبادة وتقوى لله الحكيم القادر، لا يفتتن بأسرار الكون وقوانينه.

خامساً: نقد الشرك المادي والسياسي
يتحدث الترابي عن وجوه إشراك جديدة، كـ(الإشراك المادي) و(الإشراك السياسي)، تمثل، في نظره، تحديات جديدة لعقيدة المسلمين، تستلزم منهم، حسب ما يرى الترابي، مجابهتها بتوحيد وإخلاص الحاكمية لله.
من ناحية أولى، يتحدث الترابي عن ( الإشراك المادي) في سياق الحديث عن التمتع المادي مقطوع الصلة عن الله كمقصد وغاية أخيرة. يكتب الترابي: « أصبحت النهضة الاقتصادية شعاراً موقراً في بلادنا. أصبحت هي الهم الأكبر لحكامنا وشعوبنا. فإلى أين تتجه النهضة؟! تتجه إلى المتاع الدنيوي وحسب، لا تتجه إلى عبادة الله سبحانه وتعالى. وفرة التسهيلات وطيب الحياة ليس موصولاً بشكر الله، والتقدم إليه تزلفاً وقربى. هذا التمتع المادي الصرف يقطع الإنسان عن الله، وهذا الإشراك الجديد من وجوه الإشراك التي تحدث عنها القرآن. وننظر اليوم فلا نجد أبداً كتاباً في العقيدة يتحدث عن هذا الإشراك الجديد ويعالجه».
ومن ناحية ثانية، يوضح الترابي ما يقصده بالشرك السياسي، في الكلمات التالية: « يجابهنا شرك جديد هوالشرك السياسي، وهوأن يتخذ الناس آلهة من دون الله سبحانه وتعالى يتحاكمون إليها، ويتخذونها مصدراً للتشريع، وأهلاً للطاعة والتقليد، وأصلاً لوضع القوانين. هذا الشرك السياسي ليس في الفكر الإسلامي العقدي علاج له. ولذلك انبرت له أقلام مفكرين عقائديين مسلمين مهديين، منهم العالم الإمام المودودي والشهيد سيد قطب عليهما رضوان الله، فقد تحدثا عن حاكمية الله سبحانه وتعالى، وضرورة التوحيد في تلك الحاكمية».
ومن مظاهر الشرك السياسي، أيضاً، عند الترابي، تلك التفرقة بين دين من جهة ودنيا من جهة أخرى. فهذا شرك أصاب الحياة الأوروبية بعلة الثنائية ( دين-دنيا)، « وهذه الثنائية في توجيهات الحياة، قد يعبر عنها بالتمييز الاصطلاحي بين ما هو زمني وما هوأزلي في شؤون الحياة، أو بين ما هوعامي وما هومقدس. وذلك كله شائع في مصطلحات الأوروبيين التي أوحت بها تجربتهم الدينية، حيث فرقوا دينهم، وقسموا الحياة في مجال الحكم بين الخضوع لقيصر سلطان الأرض، والخضوع للكنيسة: ظل الله فيما يزعمون. كما قسموها في مجال المجتمع عامة، فقد حصروا الدين فيما يعني شؤون الفرد خاصة، مما يسود فيه حكم الوجدان ونية الإيمان. وعزلوا ذلك من الشؤون الاجتماعية العامة، سياسة أواقتصاداً مما يزعمون أنه يخرج عن خصوصية الأمر الشخصي، ويتصل بشأن الآخرين، وبالواقع الظاهر وبالنظام الموضوعي العام».
وفي مواجهة وجوه الإشراك الجديدة، يرى الترابي العلاج يتمثل في:

أولاً: ضرورة تجديد الفكر العقدي الإسلامي، لأن الشرك في هذه المرحلة من مسيرة البشرية قد اتخذ مظهراً مختلفاً عن الوجوه القديمة للشرك التي استفاضت في بيانها كتب العقيدة.
ثانياً: مواصلة ما ابتدره أبو الأعلى المودودي وسيد قطب فيما يختص بحديثهما عن مفهوم (الحاكمية لله). ونجد أن الترابي قد سار في الدرب الذي خطه سلفه (المودودي وقطب)، فمشروع الترابي كله هو توحيد وإخلاص الحاكمية لله في مناحي الحياة وجوانبها المختلفة. يكتب الترابي: « يوحد القرآن هدى الإنسان في واقع الدنيا ويدعوه إلى إصلاح سيرته فيها على أساس الإيمان بالغيب الحق، يذكره بأصول الإيمان الفطرية، وبخواطر التفكر في مشاهد الكون المخلوق والتدبر في بلاءات الحياة وآيات الهدى الموحاة، وذلك ليمارس خياره الإيماني الحر، ويقدم عمله مؤدياً تكاليف ميثاق العبادة، متقياً فتن الإشراك بالله والغفلة عن مصائر المسؤولية الآجلة وإتباع هوى النفس».
وفي كتاب ( الحركة الإسلامية في السودان) يشير الترابي إلى أن « الشريعة في حقيقة معناها ليست قانوناً وحسب كما يتوهم الناس، بل هي تكليف شامل ونهج حياة فيه أحكام اعتقاد وعمل، ومن هذه قوانين تنفذها إجراءات السلطان وتعاليم تعرفها أعراف المجتمع وأخلاق يراعيها الوجدان المسلم».
أما فيما يختص بالموقف من الديمقراطية، فنجد، ابتداءً أن الترابي يقر بأن الديمقراطية بوصفها ممارسةً سياسية عرفها الغرب، مع الإغريق، منذ القرن الخامس قبل الميلاد، لكن وعلى الرغم من ذلك لم يتمكن الغرب من التأسيس النظري للديمقراطية إلا بأثر الاتصال بالفقه الإسلامي السياسي•، فقد « تعلم الغربيون من (البيعة) عند المسلمين مسألة العقد الاجتماعي الذي تأسست عليه الديمقراطية، كما أنهم تعلموا من كتاب الشاطبي ( أصول الفقه) مسألة الإصلاح الديني أوالبروتستانتي».
ويؤكد ما سبق، في مقال له بعنوان: ( الشورى والديمقراطية: إشكالات المصطلح والمفهوم) بقوله: « بدأ فلاسفة الغرب يتحدثون عن العقد الاجتماعي أساساً للمجتمع السياسي الذي يتوالى فيه الشعب والسلطة. لكن التعاقد المزعوم لم يكن له ممارسة أو واقعة واقعية مثل البيعة والإمام في تاريخنا الإسلامي، بل كان نظرية وهمية لمحض تأسيس الفكرة الديمقراطية».
ويسوّغ الترابي زعمه السابق كما يلي: « وكان ذلك الفكر قد عرف جوهر الديمقراطية أوحكم الشعب، يوم عرف المؤمنون الله سبحانه وتعالى، وعرفوا علوية شرعه، ثم عرفوا أنهم يستوون بعبادة الله، ويتولون الخلافة في الأرض، فما قرره سوادهم الأعظم صدوراً عن الإيمان بالشريعة كان أعلى مما يقرره فرد أوفئة من دونهم. فكان الإجماع عند المسلمين هو أصل السلطة الأرضية، وإن كان بإيمانهم يتبع الشريعة، وكان أصل العلاقات السياسية هوعهد الولاة بين جماعة المؤمنين، كما كان أصل إسناد السلطة لولاة الأمر هوعقد البيعة السياسية. هكذا سميت في القرآن والسنة والفقه، وكانت مختلف العقود في معاملات المجتمع إنما تقاس على عقد البيع أشهر العقود. ولعل هذا المفهوم وجد سبيله إلى الغرب، كما وجدت من المفهومات الإسلامية في الدين وفي السياسة وفي العلوم الطبيعية والاجتماعية سبيلها إلى الفكر الأوروبي».
أما انتقادت الترابي لديمقراطية الغرب، فنجملها في الآتي: الغربيون ديمقراطيون داخل أوطانهم، أما خارجها فلا. يكتب الترابي معضداً هذا الرأي: « وحدة الجماعة في الديمقراطية الغربية محدودة بالعصبية الوطنية، ولذلك يمكن للوطني منهم أن يكون ديمقراطياً يعرف حرية أخيه في الوطن وكرامته وحرمته، ويؤمن بمشاركة شعب الوطن في السلطة، ولكن ما إن يتجاوز الحدود أويعبر البحار إلى أناس من غير بني وطنه، حتى ينكر كل حركة لابن المستعمرات ويستبد بشعبها استبداداً مطلقاً. ومعلوم كيف يعتقد الغربيون أن ديمقراطيتهم لهم دون سائر الأجناس، بل يرون أهل البلاد التي يدعونها بدائية متخلفة ليسوا أهلاً لأن ينعموا بفضائلها، وحينما يرونها تزدهر هناك على الرغم من ظنهم فإنهم لا يرضون أن تتجلى عن تعبير لإرادة الشعب غير ما يريدونه هم له، وعندها فهم الذين يحركون الانقلابات والمؤامرات العسكرية لتنقلب على مثل هذه الديمقراطية، وترد الأمور إلى النصاب الذي يوافق أهواءهم ومصالحهم ويمكن لهم علاقات الاستغلال الدولية».

خلاصة وتقويم
1/ انتقد الترابي التسلط الفكري الذي مارسه الغرب على الغير، ومن ضمنهم المسلمون، والذي أدى إلى زعزعة ثقة المجتمعات المسلمة في تصوراتها الموروثة. وبالمقابل، دعا للخروج من إطار هيمنة الحضارة الغربية ووطأة قهرها الثقافي والإعلامي. ورأى أن تخلص المسلمين من هيمنة الغرب لا يتم إلا بعدم مولاة الغربيين، وأبنائهم المستغربين بالعالم الإسلامي بالقدر نفسه، من جهة أولى. وبالإيمان العميق بالقيم الدينية والإنسانية والحضارية للإسلام، من جهة ثانية. هذان العاملان إن تحققا، في نظره، فسيدفعان بالعالم الإسلامي، إلى المضي قدماً في طريق نهضته اعتماداً على مقوماته الحضارية وقيمه الدينية.
2/ ينبه الترابي على ضرورة إعادة النظر في الكيفية التي يتعاطى بها المسلمين مع المصطلح الوافد من الغرب. خاصةً، وأن هذا المصطلح المنقول، وما يعلق به من معانٍ وظلال، قد لا يتناسب وثقافة المسلمين. وقدم، من جانبه، منهجية للتعامل مع المصطلح الوافد، أجملناها في مرحلتين: المرحلة الأولى، أسماها الترابي بمرحلة الإسلام المتيقظ، وهي تشير إلى حال الفتنة ومجاهدة الثقافي الغازي المتغلب، ويجب على المسلمين، في هكذا حال، أن يأخذوا حذرهم ويجتنبوا التلبيس والانصياع للقيم المتمكنة للبيئة الثقافية المتغلبة، والمرحلة الثانية، ويسميها الترابي بمرحلة الإسلام الناهض اليوم، والتي رأى الترابي أنه يسودها حال، لا ضير فيه، من الاستعانة بالمصطلح الوافد، وإدراجه في سياق الدعوة للإسلام، ولفه بأطر التصورات الإسلامية حتى يسلم لله.
3/ رفض الترابي الفصل بين الإيمان والعقل، ورفض التمييز الذي أجرته الحداثة التنويرية بين مجال خاص وآخر عام. واستنكر النظرة للدين بوصفه مجرد حالة وجدانية إلهامية، تنتهي حدوده خارج دائرة الخاص، ورأى أن هذه النظرة القاصرة للدين هي التي أدت إلى إدخال العقل في غيبوبة، وانعكست صورة هذه الغيبوبة على حركة الدين في الواقع، وعلى تيقن المسلمين للإيمان المنفعل بنواحي الحياة كافة. ورفض منطق الثنائية التي تعزل الدين عن الدنيا، ورأى أنها تتصل بالثنائية العازلة في مجال العلم بين المعرفة المستمدة من الوحي وتلك المكتسبة بواسطة التجربة والعقل. أما فيما يختص بالعلم الطبيعي، فرأى الترابي أنه أيضاً معزول في إطار العقلانية الغربية عن مقاصد الدين، وغير مسخر لعبادة الله.
4/ تحدث الترابي عن وجوه إشراك جديدة، كـ(الإشراك المادي) و(الإشراك السياسي)، تمثل، في نظره، تحديات جديدة لعقيدة المسلمين، تستلزم منهم، حسب ما يرى، مجابهتها بتوحيدٍ وإخلاص الحاكمية لله. ومن مظاهر الشرك السياسي، عند الترابي، تلك التفرقة بين دين من جهة ودنيا من جهة أخرى. فهذا شرك أصاب الحياة الأوروبية بعلة الثنائية ( دين-دنيا). وفي مواجهة وجوه الإشراك الجديدة، رأى الترابي العلاج يتمثل في ضرورة تجديد الفكر العقدي الإسلامي، ومواصلة ما ابتدره أبوالأعلى المودودي وسيد قطب فيما يختص بحديثهما عن مفهوم ( الحاكمية لله). ونجد أن الترابي قد سار في الدرب الذي خطه سلفه (المودودي وقطب)، فمشروع الترابي كله هو توحيد وإخلاص الحاكمية لله في كافة نواحي الحياة وجوانبها المختلفة.
5/ أما فيما يختص بالموقف من الديمقراطية، فنجد، ابتداءً أن الترابي يقر بأن الديمقراطية بوصفها ممارسة سياسية عرفها الغرب، مع الإغريق، منذ القرن الخامس قبل الميلاد، لكن وعلى الرغم من ذلك لم يتمكن الغرب من التأسيس النظري للديمقراطية إلا بأثر الاتصال بالفقه الإسلامي السياسي، فقد تعلم الغربيون من (البيعة) مسألة العقد الاجتماعي الذي تأسست عليه الديمقراطية، كما أنهم تعلموا من كتاب الشاطبي ( أصول الفقه) مسألة الإصلاح الديني أوالبروتستانتي. ورأى أن التعاقد المزعوم في الغرب لم يكن له ممارسة واقعية مثل البيعة والإمام في تاريخنا الإسلامي، وكذلك الإجماع عند المسلمين هوأصل السلطة الأرضية، وكان أصل العلاقات السياسية هوعهد الولاة بين جماعة المؤمنين، كما كان أصل إسناد السلطة لولاة الأمر هوعقد البيعة السياسية. ولعل هذا المفهوم وجد سبيله إلى الغرب، كما وجدت من المفهومات الإسلامية في الدين وفي السياسة وفي العلوم الطبيعية والاجتماعية سبيلها إلى الفكر الأوروبي. والغربيون، في نظره، ديمقراطيون داخل أوطانهم، أما خارجها فلا يمارسون الديمقراطية.
6/ على الرغم من الإسهام النظري للترابي في مضمار التأصيل للديمقراطية، فقد سقط سقوطاً شنيعاً، على مستوى التطبيق، وهنا تبرز بروغماتية الترابي بوصفه سياسياً، دخل في المعترك السياسي من باب الديمقراطية والثورة على الأنظمة العسكرية والشمولية في الستينيات من القرن العشرين، إلى مدبر ومنظر لنظام شمولي قبيح، ما يزال يحكم السودان منذ العام 1989م وإلى يومنا هذا. فالتجربة السياسية للترابي بوصفه أميناً عاماً للجبهة الإسلامية القومية في السودان، وتحديداً في العهد الديمقراطي الثالث في السودان ( 1985-1989م)، تفضح كيف تعاطى مع الشأن السياسي بانتهازية وميكافيلية، فقد كان جل همه منصباً في الكيفية التي تضمن وصول حزبه للسلطة، وبأي طريقة، حتى ولوكان الثمن أن يدوس على مبادئ الديمقراطية ويركل قيمها، وهوما فعله، حينما انقلب على الديمقراطية الثالثة في العام 1989م. وهذا أمر مثير للسخرية، فالترابي نفسه الذي مجد قيم الشورى والديمقراطية في كتاباته، قام بانتهاك الديمقراطية وبشدة، وبالتالي فمن غير اللائق أن يتشدق بما لم يلتزم به.
أضف لذلك، أن الترابي في العام 1998م، وحينذاك كان يشغل منصب الأمين العام للمؤتمر الوطني الحزب الحاكم في السودان، صك مصطلحاً جديداً، وهو( التوالي السياسي) الذي أراد من خلاله إبدال مفهوم التعددية الديمقراطية بـ( التوالي السياسي)، وهوبذلك يكون قد مارس نوعاً من التعمية لمفهوم راسخ واضح في الثقافة المعاصرة كالديمقراطية.
7/ ختاماً، الترابي في نظر بعضهم مفكر ضلّ طريقه إلى السياسة، وعند بعض آخر سياسي ضل طريقه للفكر! وعلى أي حال، نجد أن المسار السياسي للرجل صرف أنظار معارضيه السياسيين عن إسهاماته في مجال التجديد والفكر الدينيين. من جانبنا، حاولنا في هذا المقال أن نوضح الإسهام الفكري للدكتور حسن الترابي فيما يختص بجزئية محددة هي تلك المتعلقة بالموقف من الغرب في مشروعه الفكري. وأتبعنا في سبيل ذلك منهجية، قاربت هذه المسألة من منظور يصلها بالمحور المركزي الذي انتظم حوله فكر الترابي المتمثل في تجديد الفكر الإسلامي، والذي احتل فيه مفهوم التوحيد المركز الرئيس، بحسبانه يقدم رؤية شاملة للوجود والحياة، لم تفصل بين المنقول والمعقول، بل استوعبت كليهما في إطار منهجي واحد، الأمر الذي مكنه من توليد فقه للتدين، يكيف الحياة العامة في مجالات السياسة والاجتماع والاقتصاد والعلاقات الدولية.

المصادر والمراجع
1/ حسن عبد الله الترابي، الشورى  والديمقراطية: إشكالات المصطلح والمفهوم، مجلة المستقبل العربي، السنة 8، العدد 75، مايو1985م.
2/ حسن عبد الله الترابي، تجديد الفكر الإسلامي، دار القرافي للنشر والتوزيع، المغرب، ط1، 1995م.
3/ حسن عبد الله الترابي، المرأة بين الأصول والتقاليد، مركز دراسات المرأة، الخرطوم، 2000م.
4/ حسن عبد الله الترابي، التفسير التوحيدي، الجزء الأول، دار الساقي، بيروت، ط1، 2004م.
5/ حسن عبد الله الترابي، مرتكزات الحوار مع الغرب، الجزء الثاني، مجلة دراسات إفريقية، العدد 12، يناير 1995م.
6/ حسن عبد الله الترابي، أطروحات الحركة الإسلامية في مجال الحوار مع الغرب، مجلة دراسات إفريقية، العدد 10، ديسمبر 1993م.
7/ حسن عبد الله الترابي، الحركة الإسلامية في السودان، دار القلم، بيروت، د.ت.
8/ حسن عبد الله الترابي، تجديد أصول الفقه حوار مع الدكتور حسن الترابي، في: مقاصد الشريعة، تحرير وحوار عبد الجبار الرافعي، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط1، 2002م.
9/ حسن عبد الله الترابي، التفسير التوحيدي، مجلة التأصيل، العدد الرابع، أبريل 1996.
10/ حسن عبد الله الترابي، قضايا التجديد نحومنهج أصولي، معهد البحوث والدراسات الاجتماعية.
11/ مجدي عزالدين حسن، العقل الإسلامي المعاصر إلى أين؟ نحوخطاب ما بعد أصولي، دار نيبور، بغداد، ط1، 2016م