البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

"وحدة التجربة الفلسفية" للفرنسي إتيان غلسون ، كشف المحجوب من عيوب الحداثة

الباحث :  خضر إبراهيم
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  10
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2018 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 23 / 2018
عدد زيارات البحث :  936
تحميل  ( 324.585 KB )
صدر حديثاً عن المركز الإسلامي للدراسات الإستراتيجية في بيروت النسخة العربية من كتاب الفيلسوف واللاهوتي الفرنسي إتيان غلسون (1884-1979) وهوبعنوان: «وحدة التجربة الفلسفية». وهذا الكتاب الفريد في موضوعه يكشف جوانب شديدة الأهمية في تاريخ الفلسفة عموماً والفلسفة الغربية على الخصوص، كما أنه يأتي بشواهد تؤكد وحدة المسار الفلسفي في التجربة الإنسانية وذلك على الرغم من التنوع الحاصل في رموزها ونظرياتها ومدارسها وتياراتها.
ينقسم الكتاب الى اثني عشر فصلاً، يتناول كل فصل منها قضية إشكالية متعلقة بالتجارب الفلسفية في أوروبا منذ عصر النهضة والتنوير إلى عصور ما بعد الحداثة. وقد جرى تنظيم الفصول على الشكل الآتي:
 المنطقانية والفلسفة – اللاهوتانية والفلسفة – الطريق الى الشكوكية – انهيار فلسفة العصور الوسطى – الرياضياتوية – الروحانية الديكارتية – انهيار الديكارتية - فيزيائية كانت – سوسيولوجية أوغوست كونت – انهيار الفلسفة الحديثة – طبيعة التجربة الفلسفية ووحدتها.
إن أهمية هذا الكتاب ليس فقط في تدوين الجانب العلمي والتاريخي والتدليل على وحدة التجربة الفلسفية في الغرب، بل كذلك في نقد هذه التجربة وتقديم الأدلة العملية والنظرية على العيوب والنواقص في بنيانها العام. من هنا نستطيع القول إن الخصيصة العلمية والفكرية للكتاب تتحدد أصلاً في طابعه النقدي للمحطات الأساسية التي مرت فيها الفلسفة الغربية منذ العصر الوسيط  وصولاً إلى عصور الحداثة. وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار هذا الكتاب من الأعمال النقدية النادرة في مجال الفلسفة وعلم الاجتماع المعرفي التي صدرت في أوروبا خلال العقود الماضية. إذ إن المؤلف كان جريئاً في تشريح البناء الفلسفي الأساسي التي ارتكزت عليه الحضارة الغربية، وبخاصة فيما سمي «حضارة العقل».

نقد تاريخ الفلسفة
في مقدمته للكتاب يوضح المؤلف الخلفيات الابستمولوجية لعمله فيشير الى أن تاريخ الفلسفة هوجزء من الفلسفة ولا ينفصل عنها. إذ يمكن للمرء أن يصبح عالماً متميزاً من دون أن يعرف كثيراً عن تاريخ العلم، لكن لا يمكن لإنسان أن ينجح في تفكيره الفلسفي ما لم يبدأ بدراسة تاريخ الفلسفة. من هنا كان الكتاب الأوّل من “ما بعد الطبيعة” لأرسطو“ أوّل تأريخ معروف للفلسفة اليونانية، وما زال نموذجاً كاملاً لكيفية كتابة هذا النوع من التأريخ. فهو بالفعل تأريخ فلسفي للفلسفة، في حين أُلّف عدد كبير من الكتب الحديثة التي أرّخت للفلسفة بطريقة غير فلسفية، كالسلسلة المتّصلة من الأنظمة الهدّامة التي تبدأ من طاليس  Thalesوصولاً إلى كارل ماركس Karl Marx التي هي –كما يقول غلسون - تثبيط للعزائم أكثر منها إحياءً للأمل.

وعلى هذا الأساس يرى غلسون أن المجال الحقيقي لكتابه هوالإيضاح بأن لتاريخ الفلسفة معنى فلسفياً، وأنه يحدّد معنى التاريخ بالنسبة للمعرفة الفلسفية ذاتها. لهذا السبب، ينبغي – كما يضيف – “ألا نعتبر التعاليم المختلفة ولا الأقسام المحدّدة للتعاليم، التي ذكرناها في هذا الكتاب، مجرّد شذرات منتقاة بشكل اعتباطي من بعض الكتابات المختصرة التي تناولت الفلسفة الوسيطة والحديثة، بل هي سلسلة من التجارب الفلسفية المترابطة التي اختيرت بعناية بسبب أهمّيتها العقدية، والتي تمثّل كلُّ واحدة منها محاولة محدّدة للتعامل مع المعرفة الفلسفية وفقاً لمنهج ما، والتي تشكّل بمجملها تجربة فلسفية، وأن وصول كل هذه التجارب إلى النتائج نفسها، كما أعتقد، يسوّغ النتيجة المشتركة التالية: أن هناك تجربة مرّت بها المعرفة الفلسفية عمرها قرون طويلة – وأن لهذه التجربة وحدة ملحوظة”.(راجع المقدمة ص 11)
ومن المفيد الإشارة في هذا المضمار الى أن فصول الكتاب هي محاضرات ألقيت في جامعة هارفرد في النصف الأول من العام الجامعي 1936-1937. وقد كان لها أصداء مهمة وحاسمة في التأثير في النقاش الفلسفي في أميركا وبريطانيا وفي عدد من جامعات أوروبا ومعاهدها في ذلك الوقت. والواقع أن هذه المحاضرات كانت بمنزلة رصد دقيق للمشهد الثقافي والفلسفي في المجتمعات الغربية في خلال المرحلة التي سبقت نشوب الحرب العالمية الثانية.
يتحدث عنه غلسون عن الغرب الفلسفي في ثلاثة منعطفات فكرية خلال المرحلة الممتدة من العصر الوسيط إلى القرن التاسع عشر.
- المنعطف الأول، بدأه الفيلسوف المنطقي أبيلار لينتهي مع وليام الأوكامي، وقد تضمنت هذه الحقبة أربعة فصول من الكتاب، حيث تابع المؤلف الأسباب والمقدمات العلمية والفكرية لظهور النزعات الشكوكية في المجتمعات الأوروبية إبان القرن الثالث عشر. في الفصل الأول تحدّث عن مسألة الكليات وكيفية التعرّف إليها وتطرق إلى آراء أبيلار المنطقي الذي مزج المنطق بالفلسفة، إذ إنّ مقاربة رجال القرن الثاني عشر للفلسفة كانت مقاربة منطقية، وهذا ما لا يرتضيه المؤلف وذهب إلى نفي الكليات والزعم أنها مجرّد تفوّهات صوتية وتماثلات خيالية ومختلقة. فلو(كانت المفاهيم مجرد كلمات من دون أيّ مضامين أقل أو أكثر من الصور المبهمة، لكانت المعرفة الكلية مجرد مجموعة من الآراء الاعتباطية) وهذا ما يؤدّي إلى الشك، وعليه فلا يمكن تحصيل الفلسفة من المنطق المحض.
في الفصل الثاني يتابع المؤلف ولادة الشكوكية الناجمة عن دمج اللاهوت بالفلسفة؟ وهوما أدّى الى نكران الفلسفة للحفاظ على اللاهوت، وكانت النتيجة أنّ الله هوكل شيء ويفعل كل شيء أما الطبيعة والإنسان فلا شيء، ثم بعد هذا يأتي الفيلسوف ليبرهن على فشله في البرهنة على وجود الله تعالى، فتكون النتيجة المنطقية أنّ الطبيعة مجردة تماماً عن الحقيقة والفهم لتفسح المجال لنوع آخر من التشكيك.
أما الفصل الثالث فيخصص جلّه لتحليل آراء وليام الأوكامي الفلسفية والمعرفية في القرن الرابع عشر، إذ إنّه حاول دمج الفلسفة واللاَّهوت وكان يرى أنّ العقيدة اللاهوتية هي مصدر للنتائج الفلسفية والمنطقية الخالصة، من هذا المنطلق تطرق إلى الاجابة عن سؤال كيفية معرفة الكليات والمجردات، لذا حاول تقسيم المعرفة إلى حدسية ومجردة، من خلال إرجاع جميع الأمور إلى القدرة الإلهية التي تخلق فينا المعرفة، وأنّ الله وحده يمكن أن يحفظ في داخلنا الحدس بالأشياء الغائبة، والحكم بأنّها موجودة أوغير موجودة في الواقع الخارجي، ومن هنا ظهرت خيوط الشكوكية من جديد، إذ إنّ الله تعالى إذا كان قادراً على أن يحفظ فينا حدس الشيء الذي ليس موجوداً في الواقع، فكيف سنتأكد من أنّ ما ندركه كواقع هوشيء موجود فعلاً، بل ربما يكون من الأوهام التي لا شيء وراءها كواقع طالما أنّ الله قادر على خلق ذلك فينا؟!

في الفصل الرابع والأخير من المحطة الأولى يتطرق المؤلف إلى انهيار فلسفة العصور الوسطى بسبب فصل الفلسفة عن اللاهوت ورفع شعار العودة إلى الانجيل، وقد ذهب بعض المفكرين آنذاك إلى أنّ الطريقة الأسهل لإثبات أنّ الفلسفة لا يمكنها أن تبرهن على ما ينافي الدين، هي القيام بإثبات أنّ الفلسفة لا تستطيع البرهنة على أيّ شيء مطلقاً، هذه هي خطوط الشك التي امتدت الى القرن السابع عشر، ووسمت أدبيات تلك المرحلة بما ينبئ عن انتصار تام للشكوكية.

حداثة على أنقاض الماضي
المحطة الثانية من تطورات النقاش الفلسفي تأسست على أنقاض فلسفة العصور الوسطى. وهنا يسجل المؤلف على امتداد فصولها الأربعة كيف دخلت أوروبا إلى العصر الحديث على يد ديكارت، حيث خصص فصول هذه المرحلة لتناول فلسفة ديكارت وأعماله الفكرية منذ بزوغ نجمه حتى انهيار فلسفته في عصر التنوير.
وكما يعبر غلسون فإن ديكارت أسس فلسفته وبناها على الرياضيات تحاشياً من الشكوكية السائدة آنذاك لعدّة قرون، وزعم أنّ العلوم كلها ترجع إلى أصل واحد ويجب حلّ المشكلات بالمنهج نفسه شريطة أن تكون رياضية فقط أويمكن التعامل معها بالطريقة الرياضية، ومن هذا المنطلق أقام برهاناً رياضياً على روحانية النفس، ففصل الذهن عن الجسم، وحين انهارت فلسفة ديكارت ومات الذهن الديكارتي ترك الجسم بلا ذهن وصار مجرد آلة. وعليه فإنّ المسؤولية الرئيسة في انتشار المادية في القرن الثامن عشر لا تقع على عاتق فولتير أولوك بقدر ما تقع على عاتق ديكارت من حيث لا يشعر، ومن جهة ثانية كان ديكارت يرى أنّ الله حين خلق المادة سبّب فيها كماً من الحركة، وبناء على هذه الفرضية الأساسية سوف تستنتج كل قوانين الفيزياء على أساس دليل رياضي. يجب حذف الصور والطبائع من عالم الطبيعة كي لا يبقى شيء غير الامتداد ومقدار ما ودائماً من الحركة التي سببها الله، ولكن بعد ما نشر نيوتن مبادئه الرياضية للفلسفة الطبيعية نسخ آراء ديكارت وانهار بنيانه وعادت الشكوكية.
أما المحطة الثالثة فتبدأ بعد انهيار الديكارتية وظهور عصر التنوير، يشرحها المؤلّف ويحلّلها بنظرة نقدية ضمن فصول ثلاثة تكوّن الفصل التاسع والعاشر والحادي عشر من أصل الكتاب.
وتبعاً لمنهيته التي اعتمدها لكتابه بدأ المؤلف بكانت وشرح فلسفته من دون أن يهمل رصد خيوط الشكوكية في كل مرحلة وكل عصر ولدى كل مفكر. وأما بخصوص كانت فقد رأى غلسون أن ايمان هذا الفيلسوف بشرعية المعرفة الميتافيزيقية تعرض للصدمة بعدما تعرف إلى ديفيد هيوم، ولذا اعتبر كانت أنّ الميتافيزيقيا كمعرفة إيجابية قد ماتت وسبب ذلك أنّها غير قابلة للنقد، فالمنهج الصحيح عنده للميتافيزيقيا هو المنهج الذي قدّمه نيوتن في العلوم الطبيعية، لكنّها لا تقدر على البرهان الفيزيائي ولا البرهان الرياضي.

حياة الفيلسوف جزء من فلسفته
ينطلق المؤلف من خاصِّية منهجية في كتابه وهي الحرص على قراءة سيرة حياة الفيلسوف باعتبارها جزءاً من فلسفته. وهي تساعد إلى حدّ كبير في فهم فلسفته وزد على ذلك، كان يستحيل استعراض هذه المواقف الفلسفية المتتالية من دون الإشارة إلى الكتب التي صيغت فيها. وهذا أيضاً يجب أن يتمّ بأقصى عناية ودقة، لأنه الأساس الذي يرتكز عليه تاريخ الفلسفة كله، ومع ذلك يكون هذا التاريخ تاريخاً أدبياً للكتابات الفلسفية لا تاريخاً للفلسفة. ومن جديد، ومن أجل التأكيد على تسلسل الأفكار، ولكي نوضح مفاصلها العقائدية، لا بدّ من فصلها عن الكائنات الفلسفية التي شكّلت أجزاءها. هذا بالطبع، دائماً مسيئ لهذه الكائنات، وقابل للرفض إلى حد كبير من وجهة نظر الفلاسفة أنفسهم. فالمذهب الفلسفي ليس محدّداً بروحه العامّة، إنه مؤلّف من عدد من العناصر التي تدخل في بنيته وتشارك في تحديد طبيعته الفردية الواقعية. فما لم يره الفيلسوف في مبادئه، وعلى الرغم من إمكان صدوره عن هذه المبادئ بضرورة مطلقة، لا ينتمي إلى فلسفته. لأن النتائج الممكنة التي رآها الفيلسوف، والتي حاول تحاشيها، وأخيراً تنصّل منها، ينبغي ألا تنسب إليه، على الرغم من أن التمسّك بها كان ممكناً بقوّة مبدئه، لكنها ليست جزءاً من فلسفته. من جهة أخرى، فإن ظلال الأفكار اللطيفة التي تُقيّد مبادئ الفيلسوف، والتي تليّن قساوة المبادئ، وتسمح لها أن تكون عادلة مع تعقيد الحقائق الواقعية، ليست جزءاً وقسماً من مذهب هذا الفيلسوف فحسب، بل هي عادة القسم الوحيد من تعليمه الذي سينجو من موت النسق. قد نختلف تماماً مع هيغل، أو مع كانت، لكن لا يمكن لأحد أن يقرأ موسوعاتهما من دون أن يجد فيها مصدراً لا ينضب من الحقائق الجزئية والملاحظات الذكية. وبالتالي فإن كل فلسفة جزئية هي تناسق للنفس ووضع حدّ للمبادئ المجتمعة التي تحدّد الاستشراف الفردي حول اكتمال الحقيقة. هكذا يجب على من يؤرّخ لها أن يصفها، فهذا تاريخ فلسفة، لكنه ليس تاريخ الفلسفة نفسها. ومن النقاط المهمة والمثيرة للنقاش في هذا الكتاب هي تركيزه على حياة الفيلسوف باعتبارها جزءاً غير منفصل عن حياته وسيرته الذاتية.
ولكن لا يمكن للحوادث الفلسفية التي مرَّ المؤلف على وصفها وعرضها في الفصول السابقة أن تُفهم كاملة في ضوء السيرة الذاتية فقط، أوفي ضوء السِيَر وتاريخ الأدب، أوحتّى في ضوء أحداث تاريخ الأنساق التي يمكن ملاحظتها فيها. إنها، تشير إلى أن في كل لحظة تفكيراً فلسفياً، يكون الفيلسوف وتعليمه الخاص محكومين من الأعلى بالضرورة اللا متشخّصة كما يقول غلسون نفسه. فالفلاسفة، في الأساس، أحرار في وضع مبادئهم، ولكن عند الانتهاء من وضعها، لن يستطيعوا التفكير كما يرغبون – بل سيفكّرون كما يقدرون. ثانياً، ما سينتج من الحقائق التي نناقشها، أن أي محاولة من جهة الفيلسوف لتجنّب تبعات موقفه ستكون محكومة بالفشل. لأن ما يرفض قوله بنفسه سيقوله تلاميذه، هذا إذا كان لديه تلاميذ؛ أمّا إذا لم يكن لديه تلاميذ، فقد يبقى طيّ الكتمان بالتأكيد، لكنه موجود، وكل من يرجع إلى المبادئ نفسها، ولوبعد قرون عدّة، سيكون مضطراً إلى مواجه النتائج نفسها. فمع أن الأفكار الفلسفية لا يمكن أن توجد منفصلة عن الفلاسفة وفلسفاتهم، لكنها إلى حدّ ما مستقلّة عن الفلاسفة بقدر استقلالها عن فلسفاتهم، باعتبار أن الفلسفة تتألف في مفاهيم الفلاسفة، مأخوذة في العراء، والضرورة اللا متشخّصة لمحتوياتها وعلاقاتها معاً. إذاً، إن تاريخ هذه المفاهيم، وتاريخ علاقاتها، هوتاريخ الفلسفة نفسه.

روح الزمن ومسار الفلسفة
في الفصل الأخير للكتاب يناقش غلسون علاقة الفلسفة بالزمن فيلاحظ أن المحاولات المستمرّة للمؤرخين، وعلماء الاجتماع وعلماء الاقتصاد، لتفسير نشوء الأفكار الفلسفية عن طريق العوامل التاريخية، والاجتماعية، والاقتصادية تبدوفي طريقها النهائي إلى الإخفاق التامّ. صحيح أن التعاليم الفلسفية التي فُهمت في المجتمع، أوفي الجماعات الاجتماعية التي تتشابه بنيتها الاجتماعية، ستكون بذاتها متشابهة، على الأقل بحملها لعلامة مصدرها. هناك شيء شبيه جداً بـ"روح الزمن"، فلجميع عناصر ثقافة ما، في لحظة ما من تاريخها، نصيب في تأليفها. لكن «روح الزمن» لا تفسّر العناصر الفلسفية الممكنة والعابرة للتعاليم الفلسفية، بسبب ما فيها من ضرورة دائمة. إن مشكلة هذه التفاسير ليست في عدم نجاحها، بل في أنها تنجح دائماً النجاح نفسه الذي لا يخطئ. يمكن تفسير أي فلسفة بزمنها، ومكان ولادتها وظرفها التاريخي. ويمكن تفسير أي فلسفة من خلال التمثّلات الجمعية التي سادت في الجماعة التي كانت سبب نشوئها. كما يمكن اقتفاء أثر أي فلسفة بنجاح وصولاً إلى البنية الاقتصادية للأمّة التي ولد فيها الفيلسوف نفسه. فأي منهج تختاره سيكون مناسباً. لكنه سيعزو نشأة الأرسطية إلى حقيقة أن أرسطو كان يونانياً ووثنياً، يعيش في مجتمع يقوم على الرقّ، أربع سنوات قبل المسيح؛ وكذلك يفسّر إحياء الأرسطية في القرن الثالث عشر من خلال أن القدّيس توما الأكويني كان إيطالياً، ومسيحياً، وراهباً يعيش في المجتمع الإقطاعي الذي كانت بنيته السياسية والاقتصادية مختلفة جداً عن بنية اليونان في القرن الرابع، وهذا ما يفسّر أيضاً أرسطية ج. ماريتان J. Maritain، الفرنسي العلماني الذي عاش في مجتمع «برجوازي» في جمهورية القرن التاسع عشر. وبالعكس، لأنهم كانوا يعيشون في الأزمنة نفسها وفي الأمكنة نفسها، وبالضبط كما كان ينبغي لأرسطو أن يتمسّك بفلسفة أفلاطون، وكذلك الأمر مع أبيلار والقديس برنار، والقدّيس بونافنتورا والقدّيس توما الأكويني، وديكارت وغاسندي، فهؤلاء الذين ناقضوا بعضهم متشابهون تماماً، وكان ينبغي أن يقولوا كلاماً شبيهاً بما قاله معاصروهم. فسواء فضّلت التأكيد على الشروط السياسية أوالاجتماعية أوالصناعية أوالعنصرية اللازمة لنشوء التعاليم الفلسفية، فإن التاريخانية بأشكالها، لا تنسجم مع هذه الحقائق الواضحة. باختصار، يجب أن يكون التفسير المطلق لتاريخ الفلسفة بذاته فلسفة.
حين كان كانت يندّد بالخصائص الوهمية للمعرفة الميتافيزيقية، كان يبحث عن طريق ذلك الوهم في طبيعة العقل. لقد قضى هيوم على الميتافيزيقا وعلى العلم معاً، ولكي ينقذ كانت العلم قرّر أن يضحّي بالميتافيزيقا. وبالتالي كانت نتيجة التجربة الكانتية: إذا كانت الميتافيزيقا معرفة اعتباطية، فالعلم أيضاً معرفة اعتباطية، وهكذا يتبيّن أن اعتقادنا بالشرعية الموضوعية للعلم ذاته يتوقّف أو يسقط إذا اعتقدنا بالشرعية الموضوعية للميتافيزيقا. إذاً لم يعد السؤال الجديد، لماذا الميتافيزيقا وهم ضروري، بل بالأحرى، لماذا الميتافيزيقا ضرورية، وكيف أدّت إلى نشوء عدد كبير من الأوهام؟
الخاصية الملحوظة للتعاليم الميتافيزيقية – كما يعتبر غلسون -  هي أن هذه التعاليم مهما كانت متشعّبة، فهي تتّفق على ضرورة البحث عن السبب الأوّل لكل ما هوموجود. وقد جاءت التسمية لهذا السبب الأول متعددة. فقد وصفت بالمادة الأولى مع ديمقريطس، والخير مع أفلاطون، والفكر الذي يفكّر بذاته مع أرسطو، أوالواحد مع أفلوطين، أوالوجود مع كل الفلاسفة المسيحيين، أوالقانون الأخلاقي مع كانت، أوالإرادة مع شوبنهاور، أوالفكرة المطلقة عند هيغل، أوالديمومة الخلّاقة عند برغسون. ففي الأحوال كلها، الميتافيزيقي إنسان يبحث وراء التجربة وبعدها عن مصدر مطلق لكل تجربة حقيقية وممكنة. وحتى لوحدّينا من مجال ملاحظتنا لتاريخ الحضارة الغربية، ثمّة حقيقة موضوعية هي أن الإنسان سعى إلى هذه المعرفة منذ أكثر من خمسة وعشرين قرناً، ثم بعد أن برهن أنه لا يفترض البحث عنها وحلف أنه لن يبحث عنها بعد الآن، وجد نفسه يطلبها من جديد. إنه قانون من قوانين العقل البشري الذي يقوم على تجربة خمسة وعشرين قرناً وهوعلى الأقل دقيق كأيّ قانون مؤسس على التجربة. بالطبع يمكن للطبيعة ذاتها أن تتغير، لكننا نتعامل مع الطبيعة كما هي الآن، والملاحظة تعلّمنا أن نموذج الأفكار وحتى محتواها يمكن أن يتغيّر، وعلى الرغم من ذلك تبقى طبيعة العقل البشري هي نفسها في جوهرها، حتى بعد أن يحصل تحوّل تامّ في الأزمات التي يفترض أن تكون قد انبثقت منها. إذاً فليكن قانوننا الثاني: الإنسان حيوان ميتافيزيقي بالطبع.
ومهما يكن من أمر، فإن كتاب إتيان غلسون الذي يُنقل إلى اللغة العربية، هوعمل استثنائي في حقل الترجمة الفلسفية. والسبب الأساس لهذا الانطباع هوما تضمنه من أفكار تحفّز على إعادة النظر بالكثير من المسلَّمات التي رسختها فلسفة الحداثة طوال عقود طويلة من الزمن.