البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الميديا الجديدة وفراسة ابن خلدون (إعادة تشكيل الخبر والمجتمع والعالم)

الباحث :  محمود بري
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  11
السنة :  السنة الرابعة - ربيع 2018 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 14 / 2018
عدد زيارات البحث :  989
تحميل  ( 326.553 KB )
يتناول البحث التالي قضية الميديا بوصفها قضية سوسيو ـ ثقافية تترتب عليها متشكُّلات بنية الوعي في المجتمعات العالمية ومن بينها مجتمعاتنا العربية والإسلامية.

يسعى الباحث اللبناني محمود بري هنا إلى درس الإعلام المعاصر وثورة الاتصالات انطلاقاً من رؤية تاريخية لفعالية الخبر في تشكيل وعي الجماعة الحضارية وثقافتها.

المحرر

--------------------------------------

الرحلة العربية من الإعلام إلى “الميديا” لم تكن سهلة البتّة، بقدر تعثُّرها في الوصول بعد إلى غايتها. ولو شئنا الشفافية لقلنا إنها ما تزال إشكالية متواصلة يحتدم بشأنها جدل كبير، فضلاً عن أنها مبحث هائل متعدد الأبعاد بين ما هو معرفي وما هو تقني، وما يتصل بالتاريخ وما يرتهن للثقافة والحاضر وما يتفاعل في نفس الفرد كما في المجتمع.

لكن طالما أن الحديث بلغ عتبة الميديا، فلا جدوى بعد من الاستنقاع في عصر “الإعلام” للتعبير عن المفهوم المقصود، لأن لفظة الإعلام بالمعنى المطروق والمتعارف عليه، يبدو أن دورة الحياة قد تجاوزته، بمقدار ما تجاوزت “الميديا الجديدة” مختلف الكوادر والأطر التي وضعتها هذه الدورة للإعلام. فهذا النمط الإخباري التقليدي الموجّه والذي لطالما جرى تقديمه بمعنى “التبليغ”، وكان يجري توجيهه بداية من جانب السلطة (الدولة) إلى “الرعايا”، إنما كان يدور في خدمة الدولة إياها، ولا يلتزم لا بالحقيقة ولا بالواقع المعيش، بل بما ينبغي أن تكون عليه الأحداث وأخبارها لكي تسهم في مسيرة السلطة وسلامة السلطان. والإعلام التقليدي بهذا المعنى كان أولاً وأخيراً إعلام السلطان أو الدولة ولسانها الذي “تبلِّغ” بواسطته رعاياها ما تتطلّبه منهم وما ينبغي عليهم معرفته والقيام به أو الامتناع عنه. بهذا المعنى كان الإعلام بمفهومه التقليدي المُشار إليه، ابن السلطان وخادمه. وعلى العكس جاءت الميديا” التي هي ابنة الفرد الاجتماعي، يسوقها كما يشاء، ويُلبِسها ما يختار لها من أزياء، ويوجهها إلى من وما يريد ويختار، بعيداً عن “عسس” الدولة وعن مصلحة السلطة. ويمكن القول إن الميديا بهذا المعنى هي ابنة المجتمعات الجديدة التي أنشأتها. فهي لسان الناس خارج متطلّبات السلطان، ولسان الفرد بوجه طاغوت السلطة ومحاذيرها، ولسان المجتمع المتحرر من قيود التقليد، المجتمع بما هو أفراد من كل شكل ومزاج. الإعلام كان “نظامياً” بمعنى ارتهانه لأسس وأهداف محددة لا ينبغي أن تُمسّ ولا أن يحيد عنها، بينما الميديا الجديدة هي الخروج على الحدود المفروضة، والتعبير، ليس عن رغبات الدولة وأوامر السلطة ومحضوراتها، بل عمّا يعتمل في صدر الفرد والتعبير عمّا يهمه بنفسه، وعن رأيه الخاص وهواه الشخصي ومصلحته الذاتية وحلمه الذي يختاره. وإن شئنا التبسيط التعميمي نقول إن الإعلام هو نشر رأي الذين فوق، بينما الميديا هي بث ما في نفس الفرد والقوم وفي الذات الفردية والجماعية.

مجال عمومي جديد

تاريخياً ارتبط مصطلح الإعلام بمؤسسات الصحافة المكتوبة، ثم انضمّت إليها الإذاعة فالتلفاز. كانت وظيفته تتمثل في إنتاج مضامين مُعدّة مُسبقاً وموجّهة لـ “الجمهور”. أما الميديا فقد قفزت من بين أيدي السلطان وأدواته (السلطوية) ورقاباته العتيّة، وامتطت صهوة التقنيات الحديثة الرقمية الضاربة في عالم السيبرانية كالحاسوب والهاتف المحمول... والتي تقوم، ليس فقط بعمليات التوصيل والنقل والتواصل، بل أيضاً بعمليات النقد والابتكار والتجديد وإبتداع الآراء والمواقف والنشر.  صحيح أن هذه التقنيات الجديدة أصبحت تؤدي وظيفة الصحيفة والتلفاز والإذاعة والكتاب معاً، إلا أنها تميّزت باللمسة الشخصية للفرد الذي لم يعد مُلزماً أن يكون من ضمن “النُخبة” الذين “أمسكوا ناصية” الإعلام في صورته الكلاسيكية، لكي يتمكن من إيصال صوته، وصار في إمكان أيّ كان أن يقول وينشر ما يراه، وأن يُعبّر عن أفكاره ورغباته ومصالحه، من دون أن يكون سجين التلقّي والاستماع والتنفيذ. وهذا ما أسقط فكرة الحتمية في الخطاب الإعلامي، والتي كانت تحكم الإعلام العربي تاريخياً (على وجه التحديد) ومعه أيضاً الديكتاتوريات المشابهة، وفتح الباب واسعاً أمام مجال إعلامي عمومي جديد يختلف عن الذي كان قائماً، مجال يصنعه المواطن وليس الدولة، وبالتالي فهو مجال عمومي حقيقي ومُعبِّر عن مكنونات الصدور، على الرغم من مراوحته ضمن دائرة الصراعات ذاتها التي كانت تحكم المجال الإعلامي العمومي الإعلامي التقليدي. ومع التداخل والاندماج بين وسائل الإعلام الكلاسية ومنتوج الميديا  وتقنياتها الحديثة، ازدهر التنافس والتفاعل بينهما، وكان في مُجمله لصالح الإنسان والحرية. فالميديا الاجتماعية هي وسط فردي دينامي يتحقَّق في الوسط الجمعي والجماهيري.

والواقع أن انتشار التقنيات الإعلامية المتصلة بالميديا الجديدة والإنترنت، أنتج عدداً متصاعداً من الإشكاليات والممارسات تختلف عما كان سائداً تاريخياً بشأن إنتاج المعنى والثقافة والسياسة والمفاهيم المتصلة بكل ذلك في ميدان إعادة تشكيل الوعي الذاتي والمشترك، وبالتالي إعادة تشكيل المجتمع. فالصحافة الإلكترونية على سبيل المثال، جاءت بخطاب صحفي مستحدث، وممارسة إعلامية جديدة، سواء من حيث إنتاج المضمون أو تأسيس علاقة جديدة مع المجتمع المتفاعل. والثابت أن هذا النوع المستجد والمتسارع من الصحافة “اللحظية” الذي اكتسح العالم كلّه، لم يولد كمُعطى مكتملاً، بل جاء بمنزلة ابتكار تقني فكري اجتماعي ثقافي متفاعل مع الذات ومع الآخر ومع الحدث، وهو ابتكار راح يتجدد في سياق غير مُتوقّع ووفق ديناميات لا حصر لها، جاعلاً من الشاشة (شاشة الحاسوب أو هاتف الجيب) نوعاً من الحلبة التي يتبارز عليها أصحاب الأخبار والأفكار بما عندهم، وأمام جمهور عشوائي لا يعرفون أفراده،وبالتالي فكأنهم يحتكمون إلى أناس لا يمكنهم رشوتهم ولا التأثير الإغرائي أو التهديدي فيهم. وهذا ما أفسح لظهور “شخصيات” جماهيرية جديدة، كل قوتها في ما تعرضه من أفكار ومواقف وما تحاجج به من آراء، بديلاً من وجوه “مُستعملة” وأسماء مشهورة وشخصيات قائمة ومُكرّسة ولا تُفسح مكاناً لسواها. وهذا كان من أخطر وأحدث ثمار الميديا الجديدة.

وجهاً لوجه أمام طواحين الهواء

لقد مثّل الفضاء الإلكتروني انفتاحاً غير مسبوق ولا مثيل له في تاريخ الثقافة العربية، وشكّل في الوقت عينه انكشافاً غير مسبوق لأمراض هذه الثقافة وعلّاتها حيث وُجدت. ومن خلال أمراض الثقافة والمعرفة والسياسة وما إليها، تجلّت أمراض السلوك والمجتمعات، وأمراض الأفكار المسبقة والعادات الطاغية والتقاليد الحاكمة. وهذا كلّه هو ما أنتج مجتمعاً جديداً بمعنى ما، هو مجتمع هذه الميديا الجديدة المتحلل من قيود التقليد وطقوس التكرار والإعادة واجترار المُكرر المُعاد من دون أفق ولا مخرج. فبعدما كان الإعلام العربي على سبيل المثال، في مرحلة أولى، مرآة أحادية  الهوية (تعبر عن وجه السلطان ووجهات نظره)، وتعكس بشكل عام وسطحي حالة جماعية لمواجهة الاستعمار والإمبريالية والشيوعية (...) تحت هيمنة واحتكار السلطة والنخبة، أصبحت الميديا الجديدة مُعبِّراً عن هوية حرة ومتعددة ومتنوعة للعالم، وهي هوية أكثر غنى وحيوية بما لا يُقاس، على الرغم من أنها كانت (وما تزال) قيد التشكيل.

يمكن القول من دون مغالاة ولا مغامرة إن الميديا الجديدة هذه هي مصطلح العصر (القرن الواحد والعشرين) الذي نستخدمه لتعريف كل ما يمت إلى شبكة الإنترنت وعملية التواصل الهائلة والميسورة، والتفاعل بين الصورة والصوت والحركة على مسرح التكنولوجيا الضوئية التي نقلتنا إلى عالمها، على الرغم من أن الشبكة العنكبوتية تلك ما انفكّت ضعيفة حيناً وبدائية أحياناً وغير منتظمة في الغالب، في الكثير من أقطار عالم عربي لم تعد توحده... ولا حتى اللغة التي باتت تتهالك تحت وطأة اللهجات والتعابير والألفاظ والأصوات الخُلاسية الناجمة عن تزويج ألفاظ من عامية هذا البلد أو ذاك بألفاظ أخرى من الإنكليزية أو الفرنسية أو الهندية أو الأوردية...، لتوليد حقل تفاهم كلامي مُختلط متدابر متنافر... لكنه شبه مفهوم في معظم أوصاله، وهو ليس لغة عربية في النهاية. وهذا على العكس من لغة الصورة ومقاطع الفيديو مما أتاحته الميديا الجديدة، والتي لا تحتاج إلى مهارات خاصة لفهمها واستيعاب مضمونها، كأي مشهد يحصل أمام المرء في الشارع. لذلك ربما ما انفكّ الخطاب العربي الإعلامي الراهن مرتبكاً ومضطرباً في دوّامة التعامل الاضطراري مع هذه الميديا الجديدة وإرهاصاتها المُتّسمة غالباً بنكهة شبابية سِمتها الأساسية الجموح خارج المُعتاد عليه. والملاحظ أن الخطاب الإعلامي العربي عانى وما انفكّ يُعاني الحيرة والإرباك أمام هذه الميديا وإنتاجاتها اليومية المتدفقة؛ ينظر إلى مستخدم هذه التقانة التعبيرية على أنه ناشط في حقل إعلامي غريب، هو بديل من الإعلام المتعارف عليه، ويستهول أو يستنكر أو يتفاجأ أو يُعجب... دائماً بما يجده في هذا النوع الجديد من الإعلام من حرية (يسميها في الغالب تفلُّتاً) وتنوّعٍ (يعتبره نمطاً من الفوضى الشبابية، على أمل أنها لن تلبث أن تهدأ)، ومن نقاشات (يراها تجسيداً للحوار داخل الطواحين الهادرة، حيث يتكلم الجميع مع الجميع، ولا يفهم أحد على أحد). وحين يعطف الإعلامي التقليدي على أبناء هذا الجنس من الإعلام البديل، يرى فيهم ضحايا لقِوى (افتراضية) عالمية (وربما إمبريالية حسب الرغبة) تقودهم لتحقيق غاياتها (الجهنمية) وتستخدمهم للقضاء على “إعلام الأمة وثقافتها” وبالتالي على “شخصيتها الفريدة”. وهذا ما يدفع آباء (بعض آباء) الإعلام التقليدي (ولِنُسَمِّه القديم) إلى العمل على مصارعة طواحين الهواء في محاولاتهم مواجهة الميديا الجديدة التي لا يملكون فكاكاً من عظيم سلطانها وتأثيرها.

صناعة الخبر في الشارع

إن تداخل وسائل الإعلام التقليدية وإنتاجات الميديا الجديدة بتقنياتها التي قرّبت المسافة بين الحدث والخبر المصوّر عنه، حتى جعلتها صفراً (كما لدى نقل حدث اصطدام الطائرة الثانية ثم الثالثة ببرج التجارة العالمي في حدث 11/9)، أدّت جميعها إلى تحويل الإنسان (في أي بلد كان ومن أي طبقة معرفية أو اقتصادية...) إلى مُتابع تشُدّه هذا الميديا وتضطره إلى متابعتها بذهول وشغف. والنتيجة المباشرة لذلك جاءت على شكل تأثّر وإعجاب بهذه الميديا، ثم ارتقت إلى مرحلة التدخل فيها والمشاركة في إغنائها أولاً بالتعليق (انتقاداً أو مديحاً)، ثم بالمشاركة في نقل الحدث، أي في صناعة الخبرفي الشارع مباشرة في مشهد حدوثه. وشيئاً فشيئاً راحت خبرة الشخص غير المحترف تتقدّم وتتطوّر حتى بات في وسعه نقل وجهة نظره بطريقة أفعل وأجدى، وصار بمقدوره التبشير بما يختاره والتحذير مما يكرهه. ومن هنا انتقل إلى ميدان المشاركة في صناعة الرأي العام. وهكذا باتت الميديا الجديدة نوعاً من المصانع الناشطة لإنتاج الرأي العام، لتحلّ بذلك، وإن على مستويات دنيا أحياناً، محل الصُّنّاع التقليديين للرأي العام من كبار المُنظّرين والمفكّرين وأصحاب المشاريع السياسية أو الرؤى من نوع “صراع الحضارات” وما إليه. وجاء التطوّر المتواصل والمستديم بلا توقّف في تكنولوجيا الميديا الجديدة ووسائلها، ليُنشيء موجة متصاعدة من التفكير المبني حول دور شبكات التواصل الاجتماعي “الفعَّال” في توجيه الرأي وصناعته، وبالتالي دورها الفاعل في إحداث تغييرات عميقة في ملامح المجال العمومي للميديا وفي مقدرته على تشكيل المجتمعات بطرقٍ جديدة. وعلى الأثر قام أباطرة الإعلام التقليدي بالمزيد من محاولاتهم للتشكيك بصدقية هذه الميديا وتبهيتها، فاتهموها بالسطحية وبالتسرّع وبعدم التعمّق وبالمغالاة وبالشعبوية... إلا أن مثل هذه الاتهامات كانت سرعان ما تتطاير وتنطفئ بمجرّد متابعة الناس لحدث ما يحصل في بلد بعيد، حيث يمكن لمن يرغب أن يتابعه لحظة بلحظة من خلال وسائل الميديا التي تصبح متيسّرة أكثر فأكثر وأقل تكلفة وبالتالي أقرب تناولاً من قِبل جماهير إضافية من المتابعين في مختلف بلدان العالم. فالأُعطيات التي قدّمتها هذه الميديا وتقدّمها تبقى دائماً أبلغ تأثيراً من كل الهجمات ضدّها. ومن جرّاء اكتساح هذا النمط الجديد والناجح من الإخبار السريع والشامل، راح الأخصام التقليديون (ولا سيّما في المجتمعات العربية)  يتوسّلون مختلف الطرق والوسائل لقطع الطريق أمام الميديا وذلك للإبقاء على كراسيهم في مواقعها على اعتبار أنهم “الصُّناع” التقليديون للرأي العام في بلدانهم من خلال الصحف أو الشاشات، وبدفع وسُلطان “الدولة” التي تستخدمهم. ونجح هؤلاء في تشكيل نسق فكري في الأوساط المحيطة بهم يعارض الدور الذي تُؤَدِّيه الميديا الاجتماعية في الحشد والتعبئة وصناعة الرأي العام، وينتقد قدراتها المستجدة في تحويل الأفكار البسيطةإلى قوى فاعلة في المجتمع. ومنهنا راحوا يقلِّدون أشباهاً لهم سبقوهم هلى هذا الدرب في الغرب، ممن عادوا وعاندوا الميديا الجديدة ورموها بالحُرُم وحاولوا تكبيلها بالتشاؤم منها ومن الأدوار التي تؤدّيها في غير مصلحتهم. وهكذا طفت على السطح نظريات متهافتة وجدت من يعمل على تسويقها لمواجهة الزحف الشامل للميديا الجديدة، فاختلقوا في الغرب (ولحق بهم المعرِضون في بعض بلاد العرب العرب) ما أسموه بـ"التكنو ـ فوبيا" أو الفوبيا من التكنولوجيا. وعلى اعتبار أن الميديا الجديدة تعمل من خلال التكنولوجيا السيبرانية والأجهزة الرقمية، فقد حاول أخصامها تسويق فكرة “أن تكنولوجيا الاتصالات عويصة” وأنها مصدر عجز كثيرين عن اعتمادها، وأنها تمثّل تحدِّياً غير متكافئ لرجل الشارع، واعتداء على شخصه بذريعة أنه لا يعرف، وبالتالي فالإعلام العتيق هو الأسهل والأنسب.... إلى ما هنالك. إلّا أن ذلك كلّه لم يؤدِ إلى النتائج المتوخاة، حيث إن المعتمدين على الميديا الجديدة ومتابعيها وممارسيها على مختلف الأجهزة المناسبة من هواتف جيب وأصناف آلات الكومبيوتر والأجهزة اللوحية، باتوا يُعدّون بالمليارات حول العالم، وهو رقم في تصاعد مستمروله الغَلَبَة... كيف لا وأن تكاليف الأجهزة  والإنترنت تسير في مسار انحداري.

ليست التكنولوجيا وحدها...

لقد ثبت بالدليل العملي أن الميديا لا تتوافر بفضل التكنولوجيا وحدها. فهذه التكنولوجيا توفر أدوات جديدة للحياة التواصلية والسياسية، لكنها لا تمثل العامل الوحيد في عملية التغيير المجتمعي ولا السياسي بأي حال. ذلك أنه لا يمكن إغفال شبكة العناصر الإنسانية والمعرفية والتخصصية  الـمُؤَلِّفَة لواقع الأحداث في حد ذاته. فالأحداث لا تصنعها التكنولوجيا، ولا تحديداً تكنولوجيا الإعلام والاتصال، بل تكون وليدة مجموعة مُعَقَّدة من تفاعلات “بشرية-تقنية/ humano-technical” تتحرك في مسار مستقل عن رغبة من يتابعها أو من ينقلها. إلّا أن ميزة الميديا هنا أن في وسع ناقل الحدث بالصورة والصوت أن يُركِّز على تفاصيل معينة تخدم وجهة نظره. وهذا يُشبه ما يمكن أن يفعله الكاتب في صحيفة أو المذيع عبر شاشة، لكنّ التأثر بناقل الصورة والصوت من أرض الحدث يحتفظ بسبق الأولوية، ويكون له التأثير الأبلغ، ما يعود في النهاية إلى صالح الميديا على حساب الإعلام القديم. وهذا ما دفع بالإعلام القديم إياه إلى محاولة اللحاق بالركب، فإذا بالمراسلين يتراكضون مع كاميراتهم إلى مواقع الأحداث لنقلها”على الهواء مباشرة”، الأمر الذي يتحقق النجاح فيه مرّات نادرة بالنظر إلى قُرب موقع الحدث أو بعده. إنما لا تصحّ المراهنة بكل ما في الجيب على هذا. فالميديا الجديدة  ومجالات الإعلام والاتصال والممارسات المرتبطة بهما، كلها ظواهر تاريخية بطيئة التشكّل ومتغيرة في الآن ذاته، وهي أغنى بكثير من أن يطمح الإعلام القديم إلى منافستها.

والواقع أن الاهتمام الاستثنائي بالدور الذي تُؤدِّيه الميديا الجديدة في تداول قضايا الشأن العام ومناقشتها والتأثير في صناعة الرأي، يكاد يكون العلامة الأبرز في ميادين البحوث الأكاديمية حول الإعلام العصري وعلوم الاتصالات. ذلك أن الفعل الاجتماعي، بالمعنى الذي حدَّده ماكس فيبر

(Max Weber)،يكون محكومًا بالوظائف التواصلية التي تتيحها شبكات التواصل الاجتماعي بالذات. لقد وضعت هذه الوظائف شبكة الإنترنت في مقدمة الاهتمامات السوسيولوجية وظهرت كأنها الدافع الأساسي الذي أدَّى إلى إبراز دور الفرد في بناء واقعه االيومي وفي إعادة هَيْكَلَتِه على نحو ما يُسَمِّيه عالم النفس الاجتماعي كارل ويك (Karl Weick): دور الفرد الحيوي في تجسيد الواقع.[1]

اللغة أولاً...

يلاحظ أن مرحلة الانبهار الراهنة بتطور أنظمة الاتصال المندمجة وبما تتيح تحقيقه لمستخدمها، هي أشبه ما تكون بالمرحلة التي عرفها المجتمع البشري سابقاً غبّ ظهور الإذاعة ثم التلفزيون والسينما، وهي المرحلة التي ازداد فيها بشكل قوي دور وسائل الإعلام في التوجيه والتأليب، حيث ساد الاعتقاد في تلك الآونة أيضاً، ذلك أن وسائل الاتصال الجماهيري تتمتع بتأثير فعَّال ومباشر على رأي الفرد وبالتالي على سلوكه. وهو اعتقاد اختزلته نظرية عُرِفَت بنظرية الرصاصة أو الطلقة السحرية،  ومغزاها أن الرسالة الإعلامية بالغة القوة في تأثيرها وأشبه ما تكون بالطلقة النارية التي إذا صوّبت بشكل دقيق فإنها لا تخطئ الهدف مهما كانت دفاعاته.

 واليوم أيضاً فإن مرحلة الانبهار بالتقنيات الإعلامية والاتصالية تُخَيِّم بظلالها على أدبيات الإعلام والاتصال. ويبدو وكأنّ من يمتلك حدّاً معقولاً من الثقافة الرقمية والمهارة في تشغيل أجهزة الإتصال والتواصل واستخدامها، ينتسب بطريقة ما إلى مجتمع الميديا الجديدةالمتميّز بالسرعة والتأثير والحرية الشخصية. وكل ذلك ما كان له أن يتم من دون اللغة باعتبارها الفضاء التعبيري المناسب لبناء المجتمع التواصلي وبالتالي الفكر التواصلي المتفاعل ضمن سلسلة غير متناهية من المهارات والتقانات والثقافات والسلوكيات المتداخلة بشكل يكاد يكون غير منضبط، بل وعشوائي أحياناً، وغير قابل للقياس. ومن العسير إن لم يكن من العبث العمل على محاصرة هذا الفكر أو احتوائه أو تقييده. فهو وليد نظام بالغ التعقيد ومسكون بالفوضى بحيث تستحيل مواجهته كما  التنبؤ بحالاته المقبلة. 

وبالنسبة لاعتبار اللغة فضاء التعبير المثالي فهذا يعود إلى ما تتمتع به من “طواعية”، ما يتيح صناعة الوضوح والتشويش في آن وحسب الرغبة، وإنتاج التوافق والاختلاف كذلك، وممارسة الاعتراف والاستبعاد، وتحقيق الإظهار والإخفاء، للتفاهم. فاللغة كما قال هايدغر (Heidegger) هي قضية الكائن وحقيقته، وهي مسكنه وبيت الوجود على حدِّ تعبيره. لذلك يدعو دريدا  (Derrida) “إلى نظرة جديدة للغة، يتحول فيها الواقع إلى مجموعة من الأقنعة البلاغية”. فاللغة حسب تعبيره “هي التي تُنْشِئ مفاهيمنا عن العالم، وهي التي تصنع العلم والفلسفة والميتافيزيقيا.[2]

ولذا فهو يدعو إلى “استعمال حرّ للغة بوصفها متوالية لا نهائية من اختلافات المعنى”.

وفي سياق الحديث عن شبكات التواصل الاجتماعي، فاللغة هي الـمجال الأساسي والنسيج الأول للغلاف السيميائي الذي يتحرَّك في فلكه المجتمع. ومن هنا أهميتها من جهة وخطورة شبكات التواصل التي في وسعها (وهي لا تني تعمل على) تحديد منظومة الأخلاق والقيم المكيِّفة لحياة الناس. لذا فمن الخطل غير المُجدي التقليل من خطورة شبكات التواصل الاجتماعي كمحدد أساسي لبناء الرأي العام، في حين أن مستخدمي هذه الشبكات حول العالم يُعدّون بالمليارات، وهم على تزايد متواصل. ولا ينبغي الاكتفاء باعتبار هذا التواجد اللجب والحضور الفاعل لشبكات التواصل الاجتماعي في حياة الناس، مجرّد حتمية تكنولوجية، بل ينبغي اعتباره حضوراً فاعلاً في حركة التغيير الاجتماعي، وعاملاً حاسماً في اختياراته، ومُوَلِّداً  حقيقياً للفعل الاجتماعي والسياسي.

 واتزاب وتويتر وفايسبوك

ولنتذكر بواكير حالة ما سُمِّي بـ»الربيع العربي» أواخر العام 2011، حين لعبت وسائط التواصل الاجتماعي ذلك الدور المركزي بالغ الأهمية في تأليب الناس وتحريك المجتمع واندلاع الثورة في تونس (بدايةً)، وسط إرباكات كبرى واجهت الحكومات والأجهزة المكلفة بحفظ الأمن. الاعتقاد السائد في أوساط باحثين ومهتمين كُثُر يؤكد أن الثورات التي قامت في سياق ما أصبح يُعْرَف بالربيع العربي ما كانت لِتَحْدُث لولا الدور الذي أدَّته شبكات التواصل الاجتماعي، على غرار تويتر وفيسبوك، في تعبئة الرأي العام في البلدان المعنية. كذلك يمكن استعادة أحداث الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا، خلال يوليو/تموز 2016، الذي هزَّ الحياة السياسية عموماً، حيث كانت مواقع التواصل الاجتماعي أيضاً هي الوسيط الميدياتيكي القوي الذي أَنْقَذَ نظام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من محاولة الجيش الاستيلاء على السلطة، بعدما كان الانقلابيون من جهتهم قد استخدموا شبكات التواصل الاجتماعي إياها في سعيهم للإطاحة بالرئيس أردوغان، حين سيطروا على الوضع لوقت قصير قبل أن يستعيد النظام الزمام. والحدثان يؤكدان أمرين لا ينبغي تفويت العبرة من كلٍ منهما: الأولى تؤكد الدور الفاعل لوسائط التواصل الاجتماعي في تفجير حوادث كبيرة من وزن ما سُمِّيَ بالربيع العربي في بعض بلدان العرب أو ما شهدته تركيا من محاولة انقلابية. وهذا ما وصل ببعضهم إلى إسباغ توصيف «المعجزة» على وسائل التواصل هذه واعتبارها «مُفجِّرة الثورات». وهذه هي العبرة الثانية. إلّا أن هذا الإرتقاء بالتوصيف إلى درك المبالغة لا يمنح المسألة صدقية ثابتة، ولاسيّما أن إفشال الانقلاب التركي مثلاً تمّ عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي ذاتها. ويستند هذا الاعتقاد إلى الأثر الدلالي الذي يُخَلِّفُه الاستخدام العمومي للميديا الاجتماعية، حيث استخدم أردوغان يومها  تطبيق فايس تايم (FaceTime) في الوقت الذي سيطر فيه الانقلابيون على القناة الرسمية التركية «تي آر تي»، وطلب من الأتراك النزول إلى الشارع لحماية النظام ومحاسبة الجناة.  فهذا أكّد محدودية قدرات شبكات التواصل الاجتماعي، والميديا الجماهيرية بشكل عام، في مجال الحسم المطلق عندما يتعلق الأمر بالقضايا الاجتماعية والسياسية الكبرى، وقضايا الرأي العام. وهذا ما سبقت الإشارة إليه بطريقة مختلفة، من خلال الإضاءة على النسيج السوسيولوجي الدقيق والمعقّد الذي تجري الأحداث والثورات والانقلابات على أساسه. ولئن ساد الانطباع بأن الحدث الذي اجتذب الاهتمام كان وليد شبكات التواصل الاجتماعي، فالأحرى ملاحظة أن وسائل التواصل تلك كانت لم تكن غير الشاشة التي بالحدث إلى الظهور وأضاءت على خفاياه وجوانبه، من دون أن تكون هي صانعة الحدث. فالميديا الجديدة ليست هي الجهة التي تصنع الأحداث، بل القوة التي تعمل على دفع الأحداث إلى الظهور مستفيدة من فعاليتها التقنية والفنية ومن فائق سرعة بثّها للمعلومات وتبادلها. ولأن الميديا هي المسرح الذي تتوافر على خشبته أشكال الحدث وخواصه وأركانه، كما هي جارية على أرض الواقع، وفي وقت حدوثها بالذات أو بعده بقليل، بفضل التكنولوجيا وأدواتها التواصلية، فهي تظهر بمنزلة المفجّر والصانع للحدث، وهو وهم يقوم على افتراض مغلوط، حيث إن وسيلة نقل الحدث وتوزيعه ليست أبداً مُسبب هذا الحدث وعلّة وجوده.  وفشل الانقلاب على التركي أردوغان لم يكن حقيقة في مجرّد استخدامه تطبيق فايس تايم (FaceTime)، بل في توفّر بُنية عسكرية وشعبية موالية له تحرّكت لتلبية نداءاته.

تكمن الحقيقة الواقعية هنا في الفهم المناسب لطبيعة عمل شبكات التواصل الاجتماعي كوسط يتحقَّق في حدوده الحدث الاجتماعي ذاته. وهذه بدورها ترتبط بالفهم الأفضل لنظرية الفوضى (Chaos Theory) الفيزيائية التي برزت مطلع ستينات القرن الماضي، والتي تنظر إلى فهم النظم الديناميكية اللاخطيّة[3] بما يتيح فهماً أشمل وأفضل للدور الذي تؤدّيه شبكات التواصل الاجتماعي في تكوين الرأي العام، خارج أطر النظريات الكلاسيكية للعلوم الاجتماعية التي كانت شائعة.

والحقيقة أن اعتماد نظرية الفوضى، بعد إفراغها من خصائصها الرياضية والفيزيائية، له الدور الأبرز  في تفسير المشكلات الاجتماعية المتصلة بالإعلام الجديد عمومًا، ولا سيّما في موضوع دراسة حالة السلوك الاجتماعي الذي يحدث ضمن نظام اجتماعي دينامي لا خطي، يحمل خصائص الأنظمة الدينامية اللاخطية التي تسكنها الفوضى بالمعنى الفيزيائي للكلمة. فمجتمعات اليوم تتفاعل في عالم مضطرب ومشحون بالتقلُّبات السريعة والفجائية بحيث يمكن لظاهرة فردية أن تتحوّل إلى ظاهرة عامة، كما يمكن أن تتحوّل الظاهرة المحلية إلى ظاهرة دولية. ومن هنا يمكن تحقيق الفهم الحقيقي لمورفولوجيا الفعل الاجتماعي. فهذا الفعل يبقى على الدوام وليد سلسلة من العوامل المختلفة وغير المتجانسة. كذلك فهو يكون رهن دراسة الشبكات الرئيسة والفرعية التي كان تَشَكَّل أساساً ضمن حدودها.

49- مصطفى السيد، عبد الحميد، الحيدري، عبد الله الزين، مصفوفة المصطلحات والمفاهيم في مقدمة ابن خلدون، (كلية الآداب جامعة البحرين، 2006).

الإعلام ومقبض الإثبات والإبطال

الواقع أن الإعلام العمومي لم يعمل بوصفه سلطة رابعة في الأنظمة الشمولية، ولا سيّما العربية منها على وجه الخصوص[4]، لأن مقبض الإثبات والإبطال تُمْسِكُه الدولة وتُحَرِّكُه بالاتجاه المناسب لمصلحتها واستمراريتها، فتُثبت ما يوافقها وتُبطل ما يُلحق بها الضرر.

ومفهوم الإثبات والإبطال يعني ببساطة الإمكانية التي تحتكرها سلطة الدولة (ولاسيّما) العربية في “ُإثبات” الخبر الذي تريد وإبطال الذي لا تريده، على اعتبار أن (الدولة) هي صاحبة الإعلام وبالتالي صاحبة المقياس.

والإثبات والإبطال في هذا المضمار لعبة ميدياتيكية تقتضيها سياقات فكرية- سياسية-ثقافية لترويض الرأي العام والتحكم في اتجاهاته. ولقد أصبحت الميديا الجماهيرية اليوم وكأنها هي الشبكة التي تمنح الحدث أسباب الظهور والانتشار على أوسع مدى. وهذا يعود بنا إلى الحديث القوي في مطلع القرن العشرين عن قوة الكلمة، مع ظهور الإذاعات المسموعة التي غيَّرت من أساليب التأثير في الرأي العام بشكل كبير إلى حدِّ اعتبار الإذاعة الفاعل الرئيس في كل التغيرات الاجتماعية  في تلك المرحلة الزمنية[5].

ولم يلبث عنصر القوّة الوازنة أن انتقل من الكلمة المسموعة (الإذاعة) إلى الصورة (التلفزيون والسينما)، وكثر الحديث عن سلطان الصورة وقوّتها التعبيرية. وخلال النصف الثاني من القرن المنصرم راحت تتدفق الأدبيات المغالية في تمجيد دور الصورة ومكانتها وأهميتها في صوغ التعبير وتثقيل الخبر ومنحه عنصر الصدقية والإثبات. وراج الحديث على مديات واسعة عن دور الصورة في بناء الرأي العام. لكن ما اتضح فيما بعد هو أن الميديا الجديدة حازت قصب السبق في هذا المضمار.وما ينبغي ذكره أن قوة تأثير الميديا الجماهيرية السمعية البصرية، لا تنبع من بلاغتها بوصفها وسائط إعلامية، إنما من احتوائها جدلية الإثبات والإبطال، والإظهار والإخفاء. وتاريخ وسائل الإعلام حافل بممارسة هذه الثنائيات التي لاحت بمنزلة الشروط التي لا بدّ منها لتحقيق الضبط الاجتماعي والانتصار الميداني. ويتبيّن باستمرار أن فعلَ الإثبات والإبطال جدير بالفوز في تسويق الواقع ومنحه مقوّمات الإقناع، وبخاصة مع تطور تكنولوجيا الإعلام والاتصال.

اللمّاح إبن خلدون

من الضروري أن تتخطَّى الدراسات الإعلامية نموذج التفكير التبسيطي القائم على البحوث الوصفية ودراسات الجمهور التي تَسْكُنُها استنتاجات مُبرمجة مُسبقاً وبراهين بائسة لا تجيب على أسئلة المجتمع. على الدارس والباحث التَّصدِّي لفهم المشكل الإعلامي والاتصالي بذهن مفتوح على حقول معرفية مختلفة تتيح تثبيت أسس منهجية وإبستمولوجية جديدة لعلوم الإعلام والاتصال. ذلك أن الفهم المتكامل لكيفيات تحرك المعلومات وتحوَّلها من طاقة كامنة إلى قوة فاعلة في المجتمع، إنما يتطلّب تسخير مبادئ الطاقة الحركية والفيزياء الديناميكية ومبادئ الديناميات الحرارية. فالمعلومات في حد ذاتها في المجتمع هي أشبه ما تكون بالطاقة الحرارية في الجسم البشري الحيّ، تسري في مفاصل المجتمع كما الحرارة في الجسم. ووصف شبكة الإنترنت بالشبكة العنكبوتية يأخذ من هذه الزاوية معناه الحقيقي الأصفى: فكما أن اصطدام الفراشة العابرة لشبكة العنكبوت المنصوبة يُشعر ناسجها بما جرى فيُسارع (وهو الحشرة)  للإمساك بالفريسة، كذلك فإن نشر الخبر على شبكة الإنترنت «يُنذر» أعداداً هائلة من الذين على الشبكة ويحثّهم على الإسراع في الاطلاع على ما حدث. وبذلك تمَثِّل الشبكة الإتصالية العنكبوتية اليوم نموذجًا تكنوثقافيًّا (Techno-cultural) لنظام دينامي مماثل للأنظمة الدينامية في الفيزياء النظرية.

هذا القدر المرتفع من التلاقي بين العديد من الحقول المعرفية في سبيل تفكيك جدلية الأدوات الفكرية والنظرية المعتمدة في علوم الإعلام والاتصال، تدفعنا، في سبيل فهم ثابت لإشكالية الميديا الجديدة، إلى الانفتاح، ليس على العلوم الإنسانية والاجتماعية فحسب، بل كذلك على  حقول العلوم الفيزيائية، النظرية والكمية، ليتسنَّى الاشتغال بها في علوم الإعلام والاتصال.

من جهة مقابلة فإن التعبيرات الفردية الجديدة التي تحتضنها فضاءات الميديا الجديدة،  تحيلنا على إعادة صياغة إشكالية الهوية في حد ذاتها، وهي من أبرز إشكاليات العصر، في ظل الثورة المضطرمة جرّاء وسائل الإعلام الجماهيرية التي باتت بين أيدي أفراد اجتماعيين من خارج دوائر «القلّة الواصلة»، هذه الثورة التي تعمل في آن على تحطيم «طواطم» الإعلام التقليدي من جهة، وإعادة تشكيل المجتمع ممن جهة أخرى.

وموضوع التغيير الاجتماعي عبر الميديا الجديدة سبق أن أشار له ابن خلدون بطريقته  اللمّاحة حين أشار إلى فكرة الشبكة الفاعلة في تفسيره لطبيعة تطور المجتمع القبلي، وكذلك في سياق حديثه عن مغالط المؤرخين وإهمالهم قواعدَ التمحيص في الخبر الروائي[6].

ولنقرأ مما تركه لنا ذلك العبقري الكبير ابن خلدون:»... إن صاحب هذا الفن (فن التاريخ)، يحتاج إلى «العِلم بقواعد السياسة، وطبائع الموجودات، واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال والإحاطة بالحاضر من ذلك، ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون بينهما من الخلاف، وتعليل المتفق منها والمخُتَلِف والقيام على أصول الدول والمِلل ومبادئ ظهورها، وأسباب حدوثها ودواعي كونها وأحوال القائمين بها وأخبارهم، حتى يكون مستوعبًا لأسباب كل حادث»[7].

وهذا كلّه يكاد يكون توصيفاً عصرياً لما ينبغي على العامل في إطار الميديا الجديدة إتقانه لتأدية مهمامه كما ينبغي.

أخلاقيات الميديا

يُقدّر اليوم عدد مُستخدمي الإنترنت حول العالم بحوالى أربعة مليارات مستخدم، لدى كل منهم الفرصة في أن يكتب وينتقد وينشر أخباراً وأفكاراً وأحداثاً وتحليلات وتقارير، وكذلك أن يُصوِّر وينشر وأيضاً أن يتلاعب بالصورة كما يشاء... وكل ذلك وهو جالس بمفرده أمام شاشة صغيرة حيث لا حسيب ولا رقيب. فهل يجوز هنا وفي هذا الوضع (العالمي...) الحديث عن أخلاق مهنية في هذا النمط من الإعلام الذي تجتمع فيه شتّى العلوم والتقنيات والأنماط الفكرية مع كل ما يمكن من الحوافز والضوابط وعوامل التفلّت والاستهداف...؟

هل يمكن حقا في بيئة كهذه تطبيق الأخلاقيات المهنية التي تعني: مجموعة القيم والمعايير للتمييز بين ما هو جيّد وما هو سيئ، وما هو مقبول أو غير مقبول، والتي تعني إعلامياً المعايير الأخلاقية والضوابط التي يلتزم بها الصحافي في أثناء عمله مدركا الصواب والخطأ في السلوك المهني؟

هل المواثيق الأخلاقية الاعلامية التي وضعت قبل انتشار خدمات الانترنت، ما برحت صالحة لليوم، مثل التركيز على النزاهة في العمل الصحافي، ودقة المعلومات والأمانة والصدقية والموضوعية في نقلها وعرضها...؟

الجواب الأسهل، وربما الأصوب أيضاً من منظار مهني هو بالقول إن الصحافي يبقى صحافياً، سواء عمل في جريدة أو إذاعة أو على موقع إلكتروني. وهو من هذه الزاوية سوف يلتزم دائماً بما يقتضيه منه عمله، من دون أن تُغريه وسائط الإعلام الجديد وتقنيات الميديا المُبهرة على الاستفادة من هذه الخصائص لتمرير رسالة أخرى تجانب الحقيقة في سياق عمله.

ربما كان هذا النمط من الأجوبة لا يحظى بأيّ شعبية، ولا يمتلك ما يكفي من عناصر الإثبات. إلّا أن الصحافي، أيضاً، يبقى إنساناً. ولعل المشكلة الكبرى تكمن في هذا «التفصيل».

[1]- كارل ويك هو أحد أبرز رواد نظرية النُّظم (Theory of Organization)، وتدور أعماله حول كيفية تَشَكُّل المعنى في النظم بصورة عامة، فهو يعتبر أن التنظيم يَتَشَكَّل من التفاعلات.

[2]- عبد الله إبراهيم، سعيد الغانمي، عواد علي، معرفة الآخر: مدخل إلى المناهج النقدية الحديثة، (المركز الثقافي العربي، 1990)، ص 139.

[3]- مصطلح النظام اللاخطي هو الذي يكون ناتجه غير متناسب مباشرة مع مدخلاته، (بينما يحقق النظام الخطي تلك الشروط). وبمعنى آخر، فإن النظام اللاخطي هو أية مشكلة يكون فيها المتغير (المتغيرات) المفترض حلها لا يمكن كتابتها كـتركيبة خطية لمكونات مستقلة. وتقع المشكلات اللاخطية في دائرة اهتمام المهندسين والفيزيائيين والرياضيين نظرًا لأن معظم الأنظمة الفيزيائية هي أنظمة لاخطية متأصلة في الطبيعة (ويكيبيديا).

[4]-  Hidri، Abdallah، The Fifth Estate: Media and Ethics، Journal of Arab & Muslim Media Research، (Volume 5، Issue 1، November 2012).

[5]- Jean-Tudesq، André، La Radio en Afrique noire، (Ed. A. Pedone، 1983).

[6]- ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، (دار الأرقم بن أبي الأرقم)، في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع لما يعرض للمؤرِّخين من المغالط والأوهام وذكر شيء من أسبابها، ص 59.

[7]- المصدر السابق.