البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الميديا بين التصنيعِ والتصنيم (رهانيَّة التَّسلط الأميركي والإرهاب)

الباحث :  عامر عبد زيد الوائلي
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  11
السنة :  السنة الرابعة - ربيع 2018 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث :  April / 14 / 2018
عدد زيارات البحث :  879
تحميل  ( 353.929 KB )
بلغ الزمن التكنو ـ إلكتروني حدوده القصوى مع ظهور ثورة الاتصالات في أواخر القرن المنصرم، غير أن هذا التطوّر العلمي لا يتوقّف عند حدود الاستخدام التقني، وإنما دخل في حركة النزاع بين الدول والمجتمعات. وقد لعب المركز الصناعي الغربي المنتج للميديا دوراً حاسماً في توظيف الإعلام المعاصر للهيمنة على الشعوب بمختلف المستويات.

في هذا البحث مسعى إلى الإضاءة على عالم الميديا بوصفه أداة للإخضاع والسيطرة.

المحرر

----------------------------------

نود هنا أن ندخلَ في الإطار النظريّ لهذا البحث، وهو جدلية الصراع بين الأنا والآخر سواء أكان الآخر الغربيّ أم الآخر الشموليّ الأصوليّ الإرهابيّ الذي يرفض التحاور أو التعايش ضمن فضاء تعدديّ، وعلى هذا الأساس نَلمسُ أّثرَ حروب الإرهاب المدمّر للواقع العربيّ الإسلاميّ وكيف تحولت المنطقة إلى أتون مشتعل يسهم في إشاعة الهيمنة الغربيَّة. إذ تبدو تلك الاستراتيجيَّة القائمة على الخوف والتخويف جليَّة، فهي استراتيجية كبرى تَتَّبِعُها قوى الهيمنة؛ للحفاظ على مصالحها وهيمنتها، وبناء مواقع متقدمة لها في بلداننا العربيَّة.

وهي استراتيجية تغذيها مراكز التفكير( Think tanks ) «فهي مراكز فاعلة ومؤثِّرة في مختلف المجالات الحيويَّة اليوم. وهي تمثل وجهاً إيجابياً هو استثمار المعرفة وحسم الصراع بين المثقف وصاحب القرار، ووجهها السلبيّ هو توظيف معطيات البحث العلم ومخرجاته لبسط السيطرة من أجل الهيمنة والتخطيط للحروب واستثمار نتائجها لمصلحة الشركات والدول الكبرى «[1].

وبهذا تبزغ راهنيَّة هذه المشكلة بأبعادها المترامية الأطراف كلها، وقد شكَّلت منهلاً واسعاً وثراً للدراسة. ومن الممكنِ جمعُ ثنائية (التصنيع والتصنيم ) التي تمظهرت في العلاقة بين العقل الإمبراطوريّ الأمريكيّ والعقل الأُصوليّ الإرهابيّ.   وسنتناول أهمَّ ما يُميِّز هذا الموضوع  بالتحليل:

من خلال تحليل الخطاب الإعلاميّ، وكيف هَيمَنَ عليه  «العقل الاستراتيجي «- بحسب توصيف هابرماس- المتمركز حول الذات الغربيَّة، إذ كشف عن جملة من المشكلات، منها : الهيمنة الغربيَّة، وصراعات القوى المتحالفة مع قوى دوليَّة، وهناك مشكلة التداخل تتجلى في علاقة الآخر الغربيّ بالذات العربيَّة الإسلاميَّة وإحلال التواصل والتعاون بدلًا منها، وعلى مستوى التداخل تظهر مشكلة التنمية والتعليم وتأسيس مؤسسات سياسيَّة على أُسس عصريَّة تقوم على التعددية السياسيَّة، ومن ناحية أخرى هناك ضرورةٌ لبناء المجتمع على أُسس جديدة بدل التشويهات الطائفيَّة والإثنية وإحلال منطق التعايش بديلًا من منطق الإقصاء والتهميش السياسيّ والحقوقيّ والاجتماعيّ؛ مما يعني إعادة النظر بالعقل الاستراتيجيّ القائم على الهيمنة الشموليَّة، وإحلال المنطق التواصليّ المتسامح الذي يقود إلى الاعتراف بالحقوق لكل طرف ضمن علاقة تقوم على  تأسيس إجماع سياسيّ واجتماعيّ جديدين ضمن فلسفة سياسية معاصرة، تحاول تجاوز الأزمة العالمية ونقدها، (هي أزمة الإنسان المعاصر والعقل الكونيّ في مواجهة المشكلات والعقلانيات المسيطرة التي تزداد تأزماً وتعقيداً، كما هي حال المشكلات الأمنية بشكل خاص، حيث محاربة الإرهاب، تولد المزيد من العنف الأعمى والقتل المجاني والعمل البربري)[2] وهي في الوقت نفسه تخلق ردود فعل، فحين يُنظر إلى أيّ دولة على أَنها تحاول الهيمنة على الدول الأخرى يبرز "ردُّ فعلٍ " يقاومها.

وهذا يبدد الجهود في مواجهة المشكلات الحقيقة لنا جميعا مثل أزمة البيئة العالمية التي يمكن أن تجعل جوانب تقدمنا الأخرى كافة بلا معنى، إذا لم نتعامل معها بنجاح، فإنَّ تصاعدَ حدِّ الجفاف والفيضانات الكاسحة والعواصف الهوجاء، أَثرٌ قاسٍ حقا[3].

وفي النتيجة  إنَّ الأطروحة التي نحاول تقديمها هنا هي كشف التلازم والتداخل بين العقل الاستراتيجيّ أي الهيمنة الأمريكيَّة  والإرهاب، من خلال تحليل الخطاب الإعلاميّ الغربيّ عامةً والأمريكيّ خاصة، ومعرفة دورِه في تصنيع صورة متخيَّلة عن العدو المتمثل بالإسلام أو ما يعرف « الإسلاموفوبيا «، وفي مقابل هذا هناك التصنيم المتمثل بالخطاب الإرهابيّ الإعلاميّ، الذي يحاول رسمَ صورةٍ متوحِّشةٍ غيرَ قابلةٍ للتعايشِ، وهذا يتجلى في خطابه بوضوح.

إذ يمكن تأصيل الصورة على مستوى اللغات هناك تعددٌ للمصطلحاتِ المستعملة في التعبير عن «الصورة « في اللغة العربيَّة، وفي اللغة الإنجليزيَّة؛ ففي اللغة العربيَّة نجد مصطلحات: الصورة، والصورة الذهنيَّة، والصورة النمطيَّة، والتعميمات النمطيَّة، والقوالب النمطيَّة الجامدة وغيرها. وفي اللغة الإنجليزيَّة نجد مصطلحاتٍ عديدة أبرزها «the image  « و«tabloid» وغيرها"[4]. وقد تجلت هذه الصورة في الخطاب الإعلامي الأمريكيّ والإرهابيّ معًا في نظرتهم إلى الآخر خارج الذات، وكان بين هذين الخطابين بنيةٌ مشتركةٌ عامّةٌ هي العقل الاستراتيجيّ. ومن ناحية أخرى فإنَّ الصورة النمطيَّة التي يرسمها الإعلام الغربيّ يحاول الخطاب الإرهابيّ أن يقرَّها على مستوى القول والعمل. ومن ثَمَّ يمكن نجد أنَّ أهمَّ تمظهرات هذه الأطروحة في ما يعرف بآليات إنتاج العدو، وغاياته المنشودة في صناعة الظروف المناسبة لظهور الخطابات المتشددة في المنطقة التي تحوِّلُه إلى شرطة عند الغرب؛ مما يعني ظهور خطابات متطرِّفة تعمل تحت الأرض من أجل نبذ المجتمع وتكفيره؛  لأنه صامت على استبداد الحكومات.  والاستفادة من وجود الأنظمة المستبدة من أجل خدمة أهدافهِ؛ وفي النتيجة جعلها أداةً في خدمة أهداف الغربيّ في المنطقة.

إنَّ انتشارَ نمطٍ جديدٍ من الشروخ المجتمعية يستحضر الانقسامات القوميَّة والاثنيَّة والطائفيَّة، وهذا أدَّى إلى اختلاق حروب إثنيَّة جديدة على  منطقتنا (الشرق أوسطية)  التي هي  أكثر الجغرافيات تعرضًا لتأثير هذه الحروب المفترضة؛ لأنها خاضعة لتوصيفات إشكاليَّة كثيرة؛  فيستخدمها العقل الغربيّ الأمريكيّ في مواجهاته لأزمات الصراع الحادثة في المنطقة. ولأنها تضجّ أيضا بأنواع كثيرة من الأعداء الأيديولوجيين والدينيين والعقائديين؛ تكون ممتلئةً بأشكالٍ متقاطعة من الثقافات العدوانيَّة والثقافات التابعة التي تجعل منها ميدانًا واسعًا لصراعات داخليَّة معقدة، وهي ميدان لصراعات غير متكافئة مع أعداء عابرين للقارات وأعداء دينيين ذوي مرجعيات تاريخيَّة، وربَّما أعداء لهم توصيفات إرهابية اكتسبت سمة التوهم بالعالميَّة. وهذا يكشف أن هذه التوصيفات والتحليلات محكومة بالأحكام المسبقة؛ وهذا يجعل تلك المناهج المعتمدة من الخبراء العلميين تفتقر للمسوغات العلميَّة في تحليل الأسباب المباشرة والكامنة خلف ظاهرة الأصوليَّة عامة والإسلامية خاصة، من خلال كشف آليات التفكير التي لا تزال مجهولة لدى  هؤلاء الخبراء سواء  كان هذا على صعيد المنهج العلميّ أو الرؤية الموجَّة لهؤلاء الخبراء على مستوى تحديد الأولويات على أساس المنطق العلميّ الذي فشل في تعزيز طرق البحث، والنماذج الجاهزة  التي تم وراثتها عن برامج العلوم إلاجتماعية[5].

وعلى الرغم من هذا النقد  نجد أنَّ تلك المراكز البحثيَّة قد اعتمدت آليات  متعددة من أجل تعميق الشرخ الإثنيّ والطائفيّ؛[6] ولننظر إلى أدبيات وسائل الإعلام الأميركيَّة والغربيَّة إلى هذه المنطقة  التي توصف بأنَّها منطقة أزمة دائمة، ومنطقة تسخين أَمني، لها علاقة بما يسمى بأمن المصالح الدوليَّة، أو ما يعرّض (المجتمع الدوليّ) كما يرد في الأدبيات الغرب أميركيَّة إلى تهديدات خطيرة،  كما أنَّ طبيعة الإعلام الموجّه إلى هذه المنطقة يأخذ حيزا كبيرا في وسائل الأعلام الأميركيَّة بشكل خاص.

إنَّ الصراعات تستهلك الأموال من أجل التسليح من الصناعات العسكرية الأميركيَّة والغربيَّة[7]؛ وفي النتيجةِ يُشرعنُ الخطابُ السياسيّ الأمريكيّ  شَنَّ الحروبِ من أجل تسويغ التدخل في المنطقة وغزوها وتدميرها.

هذه هي فرضيةُ البحث، فإنَّ الاثنين متوافقان على اختلاق المسخ العدو، ثم يسوّغان الحربَ وتدمير المنطقة وإخضاع شعوبها للموت.

إنَّ هذه الاستراتيجية القائمة على التخويف نجدها في الخطاب الإعلاميّ الأمريكيّ ونجدها أيضًا في الخطاب الإعلاميّ الإرهابيّ، وهو ما نحاولُ تحليلَهُ أو توصيفَهُ هنا.

المبحث الأول: ظاهرةُ التصنيع في الإعلام الأمريكيّ:

هناك تعريفات تصف عملية الاتصال، فمن الزاوية النفسيّة نجد تعريف «هوفلاند «:» الاتصال هو العملية التي يقوم بمقتضاها الفرد القائم بالاتصال بإرسال مثير عادة ما يكون لفظياً لكي يعدِّل من سلوك الآخرين».

ويعرفه «دافيد بيرلو»: «السلوك الاتصالي يهدف إلى الحصول على استجابة معينة من شخص.

أمَّا من زاوية اجتماعية فيعرِّفُه «جورج جدبتر» بقولِهِ:» الاتصال هو العملية التي يتفاعل بها بعض الأطراف من خلال الرسائل من سياقات اجتماعية الاجتماعية التي يتم بمقتضاها تبادل المعلومات والآراء والأفكار في رموز دالة، بين الأفراد أو الجماعات داخل المجتمع وبين الثقافات المختلفة لتحقيق أهداف معينة»[8].

والتأثيرُ الأخطرُ للإعلام ضمن هذه الأبعاد النفسيَّة والاجتماعيَّة يتمثل في أنَّهُ يسهم بدرجة كبيرة في تشكيل إدراكنا الواقع، وإذا قلنا إنَّ الإنسانّ يتفاعل مع الواقع بحسب تصوره له؛ فإنَّ الجهة التي تشكل إدراك الإنسان واقعَه تحكم فيه حرفياً[9]. وفي النتيجةِ إنَّ الحديثَ عن حضور الإعلام في الواقع جعل بعض النقاد يبينون أَثرَهُ الذي وصل إلى حد خلق واقعٍ مغايرٍ للواقع الحقيقي وبديلٍ منه، فقول جان بودريار في مقالته الشهيرة بعنوان «حرب الخليج لن تقع». كان العنوان لافتاً في لا معقوليته نابعًا من تأويل للحدث، فقال: حين يراقب العالم الحرب على شاشة التلفزة يشعر أنَّ الحرب لا توجد في الواقع، بل فقط على تلك الشاشات.[10] ولعل تأويلَه نابعٌ من بلاغة الخبر الإعلامي وأثره الذي فاق ما هو واقعي فهو القائل «ما يميز ما فوق ـ الواقعية هو أنها تعدم العلاقة الثنائية بين الدال والمدلول، لتبقى الرمز فقط...فإن الرمز...لا يحجب الواقع بل حل هو نفسه  مكان الواقع، بتدميره ثنائية الدال والمدلول. مما يعني أن سلطة الرمز افترست المرجعية التي يشكلها أو كان يشكلها الواقع....ولما كان الواقع مدمراً وحقيقة مدمرة، لا يعود هناك مجال لغير الكلام على حقيقة المصطنع»[11]. وهكذا تظهر مفردة التصنيع جليةً؛ بمعنى أنَّ الإعلامَ هو من يقوم باختلاق عالمٍ بديل يعبِّر عن مالك أدواتِ الإعلام. فهذا العالم ليس حقيقيًّا بل هو مزيفٌ يحلُّ محل الحقائقِ بقوّةِ مالك أدوات الإعلام على صناعة الحقائق الواقعية وتشويهها؛ فهو صورة كاذبة تحل محلها وهذا أيضًا ما يؤكِّدهُ جان بودريار بقوله:"لا يعني البشر التقنيين، لا يعني المأجورين والموظفين والمتخصصين، فهم أقرب إلى الآلة الذكية يقودها ويشغلها بشر يملكونها»[12] فهذه الأداتية هي من أبرز معالم العقل الاستراتيجية كما يقول هابرماس إذ يؤكِّد في كتابه (التقنية والعلم)  كإيديولوجيا  إلى عقل الأداتي يعبر عن العقلانيَّة الأداتية التي لها أثرٌ  مهمٌّ في المجتمع الرأسماليّ الغربيّ»[13].

فالتأويل بهذه الصيغة بعيد عن الحوار والتواصل القائم على تقديم الحجج والبراهين، بل يعتمد على فرضِ صورٍ مصطنعةٍ تحلُّ مَحلَّ الواقعِ وتعمل على تزييف الوعي؛ لهذا يؤكد «قدم الإعلام الغربي عن حرب الخليج صورة إيدلوجية ليس لأن الإعلام مستقل وسيد نفسه بل لأن القوة القابضة عليه استخدمته للتضليل.»[14] وهذا يجعلنا نواجه واقعًا مزيفًا( Rseudo ) أو واقعا متخيلًا ( ietual)، يتمُّ اصطناعُهُ عن الآخر أو ميتاخرافة Matafictiom. [15]

فالتضليل كان يستثمر ملكية أدوات العلم من أجل إيصال رسالة مصطنعة تخدم الأهدافَ الأمريكيَّة وغاياتها؛ فقد كانت تلك الصورة النمطيَّة التي تحملها تجاه الآخر مغلَّبةً على الواقع وحالَّةً محلَّهُ عبر هيمنتها الإعلاميَّة التي أدرك «الاستراتيجيون، والأميركيون على وجه الخصوص، هذا الأمر بدقة، وفهمه، وسيكون عليهم تعزيز وهذه القوة الخفية المقتدرة وتعظيمها، حتى إنَّ كثيرين منهم لم يتورعوا عن وضع سلاح الإعلام كسلاح موازٍ للسلاح النوويّ وأسلحة الحرب الإلكترونيَّة، وكذلك للأسلحة التكنو – اقتصادية بأحيازها المختلفة.»[16].

فهؤلاء يقدِّمون المخطَّطات الاستراتيجية للسلطة التي تحاول فرضَ هيمنتها على مقدرات الدول، وهي تنزع بدافع الرغبة ضمن جدلية التملك والعطاء؛ وهذا يدفعها إلى الهيمنة العسكريَّة والإعلاميَّة وهما أداتان تمكِّنان من انتزاع الاعتراف بها بالإكراه والتضليل «تلك التي تسيطر على عقول الناس عبر الصورة والصوت أي على أثير هوىً محموم شاء صانعوه أن يصيروا به أسياد العالم الجدد. وذلك ما يسميه ناقدو «الميديا المعولمة» بـ«الإمبريالية الناعمة». تلك التي تعرج في الأثير إلى اللاّمتناهي فتتجاوز الحدود، وتنكث العهود، وتخرق سيادة الدول، حتى لتدخل البيوت من غير أبوابها، وسيتلقاها الجميع بطيب خاطر، كما لو كانت عضواً حميماً في الأسرة لا مناص من الاستئناس به في أي وقت. وسيمكن هذا الهابط إليك من عَلٍ أن يشاطرك سرَك وسَترك من دون إذن، يُسمِعُك ويُرِيكَ ما ترغب وما لا ترغب.....

إنَّ الغرب عامَّةً والولايات المتحدة الأميركية خاصة سيأخذون بناصية الظاهرة الإعلامية وجعلها القوة الأكثر سحراً في إنجاز عمليات الامتداد والسيطرة..»[17].

فهذه السلطة الإعلامية سواء أكانت موجهةً إلى الداخل من أجل إقناعه بخطاب الدولة وتخويفه من العدو الخارجي أم موجهة إلى الخارج من أجل تسويغ التدخل؛ فإنَّها سياسة تقوم على قاعدة قوامها «إن الإنسان لا يرى أولاً ثم يعرف، ولكنه يعرف أولا ثم يرى، ففي العالم الذي يتصف بأنه محيِّر ومربك نحن نتقي ما عرفته لنا الثقافة ثم نميل إلى إدراكه في الصورة التي صنعتها لنا الثقافة»[18]. فالثقافةُ الغربيَّة تشكل البطانة اللاشعوريَّة، ولعل هذا واضح في» مفهوم الغيريَّة في الفكر الأوربيّ وهي مقولةٌ تؤسِّسُها فكرةُ السلب أو النفي، فالأنا لا يفهم إلَّا بوصفه سلباً، أو نفيًا لـ «الآخر» على أساس أنَّ الفكرةَ المؤسِّسةَ لفلسفةِ «الذات» هذه هي كوجيتو ديكارت... إلى هيجل وماركس إلى سارتر والذين جاؤوا من بعده[19] «وكما يقول فرنان بروديل: «... إن الحضارات، في الغالب، ما هي إلا «تجاهل وإنكار، احتقار وكراهية للآخر ولكنها ليست هذا فحسب، لأنها أيضا تضحية وإشعاع، وتراكم للثروات الثقافية وأرصدة لذكاء»[20]. وهكذا تكون هناك ثقافة سواء كانت غربيَّة أو عربيَّة إسلاميَّة تشكل المرجعيَّة الفكريَّة والتربويَّة؛ وتأتي الصورةُ من أجل استثارتها وتوظيفها في صناعة وعي الجمهور، أو ما يعرف هندسة الإجماع (The Engineering f Consent) وهو مصطلح جاء به «إدوارد بيرنيز»  يول: «لو أننا فهمنا آليات العقل الجماعيّ لنسق محدد حسب رغبتنا دون أن يدركوا ذلك» وبالتالي ما الذي يمنع أن تكون سلوكياتك وردود أفعالك في مجالات متعددة متأثرة –لا شعوريا – بما تتلقاه يوميا من رسائل...[21]. ومن هنا نستطيع توجيه وعي الجمهور واصطناعه من خلال وسائل متعددة في صناعة الصورة ونقلها، و«توجد كثير من العوامل التي تهيِّئ لوسائل الإعلام القيام بهذا الدور، أوَّلها: الانتشار الواسع لوسائل الإعلام، وثانيها: استيلاؤها على أوقات الأفراد ومنافستها الشديدة للمؤسسات الاجتماعيَّة في مجال التأثير الجماهيريّ، وثالثها: إيقاع العصر الحالي الذي يتسم بالسرعة من ناحية وبعزلة الأفراد عن بعضهم البعض...»[22]؛ ولكن هل معنى هذا أنَّ أمريكا قوة مهيمنة على العقول أو هي دولة مرفوضة ؟ والجواب نجده في تلك النقود التي قدمها عددٌ من الباحثين الأمريكان إذ أشاروا إلى تدهور التأثير الأمريكيّ في إنتاج تأييد عالميّ لما تريده أمريكا «وعلى الرغم من التفوق الأمريكيّ في مجال التكنولوجيا والدراسات العليا، لم تعد تستطيع الافتراض، كما فعلت في الأيام المجيدة التي أَعقبت الحرب الباردة، بإقناع الرأي العالميّ بالخطاب الأمريكيّ. ولم  تعد نستطيع الافتراض بأنَّ العالم الخارجيّ على استعداد ليتماهى مع فكرتها عن (الحياة الجيدة) باعتبارها جذابة عالمياً.»[23] وهو أمرٌ أدركَهُ أوباما إذ قال عن نظرة العالم إلى زيارة الوفود الأمريكيَّة الرسميَّة إلى تلك الدول: «إن ذلك يجعلك تتوقف وتتساءل حين يرفع الناس هناك أبصارهم إلى المروحيات الأمريكيَّة، هل يشعرون بالأمل أو الكراهيَّة؟»[24].

فهذا الموقف هو نتيجة حتميَّة للسياسة العدوانيَّة والإعلام المضلل الذي يحاول تسويق تلك السياسة؛ فهذا الإعلام يعتمد أساليب تقوم على التلاعب بالعقول وتشكيل صور ذهنيَّة تقوم على آليات متنوعة، منها: شخصنة المواقف والأحداث (personalization)، ومنها إضفاء الطابع الدرامي على المواقف والأحداث (Dramalization)، أو اعتماد آلية تجزئ المواقف والأحداث (Fragmentation)، أو اعتماد آلية تنميط المواقف والأحداث (Narmdizaation)[25]. وتشكل هذه الآليات جزءًا من الوسائل التي تعتمد التضليل، ولكنَّها تقوم على استراتيجية صناعة العدو، وهذا يتطلب شكلًا من أشكال العنف الرمزيّ، وهي تتشابه مع الحركات الإرهابيَّة باعتمادها وسائل الإعلام، وفي الإرهاب اعتماد العالم الرقميّ أكثر من غيره؛ لأنَّه يتوافق مع نشاطهم الإرهابيّ، ولكنَّهما يحاولان معًا أن يتجاوزا عائق المكان والزمان  اللذين يعوقان الاقتراب بين الناس جغرافيا؛ فأصبح هذا الفضاء الرقميّ مجالا رحبًا من أجل صناعة التواصل، فضلاً عن الفوضى الخلاقة أو إدارة التوحش[26] أو حروب الجيل الرابع[27] التي تقوم على التدريب والتحريض؛  من أجل جعل الدول- التي تراها الولايات المتحدة دولاً معادية-  منهكة ومفكَّكة ولا بدَّ من  إزالتها، وهو هدف الإرهاب نفسه القائم على مخطَّط صناعة التوحش والإنهاك وصولاً إلى التفتيت وإقامة إمارات إرهابيَّة؛ فهي تعتمد وسائل احترافية بمنطق العنف المفرط من أجل تحقيق غايات سياسيَّة، وهو جزء من الفضاء والبيئة الرائجة بمرجعياتها ورموزها وتعاليمها أو بخطاباتها وأحكامها وفتاواها. ولكنَّها مشتبكة على الرغم من تضادها العلني بأمرين:

الأول: أنَّها تحقق الخطاب الإعلاميّ الغربيّ عامةً والأمريكيّ خاصةً في نموذج العدو الذي تم تخليقه حتى تنطبق عليه سمات العدو، كما يظهر في الصورة النمطيَّة وفي النتيجة تسوغ أعمال العنف والغزو أو ما يعرف بحروب الإرهاب.

الأمر الآخر: أنّ هذا العدو هو جزء من السياسة الأمريكيَّة التي تسعى لتفتيت المنطقة، وتبدأ بالدعم والتدريب على أشكال الاحتجاج وسياسة اللاعنف[28]. وصولا إلى المواجهة العسكريَّة حيث تحول الدول المقصودة بهذه السياسة إلى دول مستبدة وإرهابية وفاشلة وتصدر فيروسات إرهابيَّة.

وهذا موضوع يمكنُ تَتبُّعُ آثاره في مخططات الإعلام ودوره في صناعة العدو حيث إنَّ من يخالفنا يتم عرضه في صورة «الغريب الشيطانيّ» من خلال الآليات الإعلاميَّة الآتية:

أولًا: تجريد العدو من شرعيته: فالتجريد يعني إنكار لآدميَّة الجماعة موضوع التصنيف، عبر استخدام مضامين شديدة السلبيَّة، عندما تصنف الجماعة الأخرى بوصفهم (أعداء)- أي كل أعداء أمريكا-  لهذا تضعهم في قوالب مرفوضة كليًّا من أعضاء الجماعة الداخليّة أي المجتمع الأمريكيّ، وقد تَمَّ تصوير الآخر له إرهابيًّا قاتلًا بصور نمطيَّة سلبيَّة مدعومة بثقافة سابقة تجاه الآخر أي الإسلام...الخ، فالإعلام يسهم بإخراج الآخر من كل معاملة إنسانيَّة.

ثانيا: تجريده من الإنسانية (Dehumaniza)، ويتم ذلك بطريقتين، الأولى: وصف الأعداء بصفات لمخلوقات أدنى من مرتبة الإنسانيَّة، أو بصفات مخلوقات أقوى من الإنسانيَّة ولكنَّها مخلوقات خبيثة..أمَّا الطريقة الأخرى: فهي النبذ والإبعاد (Outeasting) كونهم قتلة أو إرهابيين....

ثالثاً:  الوظائف التي تحققها وسائل الإعلام للمجتمع من عملية تجريد الآخرين من شرعيتهم، وذلك من أجل تبرير التصرفات السلبيَّة جدا للجماعة الداخلية، ومن خلال عملية التجريد أيضًا يتم إبراز الخلافات والفروق بين الجماعات ( أي الدول والشعوب التي يتم محاصرتها أو غزوها )، والجماعة الداخليَّة (أي الشعب الأمريكيّ )....[29].

هذه الوسائل استخدمها الغرب عامة في أثناء الاستعمار ومارستها أمريكا بعد زوال الاتحاد السوفيتيّ؛ من أجل صناعة العدو، وقد عاش العراق حصارًا قاسيًا  إجراميًّا،وعنفًا مفرطًا، وعاش الإرهاب، ولكلِّ ذلك آثارٌ مدمرةٌ مسوغة بفعل الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل. وتعيش سوريا واليمن وليبيا كلها اليوم حالة الإرهاب والحرب؛ ويتم تسويغ ذلك كله بمسوغاتٍ مشابهة.

بل إنَّهم يمارسون برمجة السلوك حتى على المستوى الداخليّ  من دون أنْ يشعرَ المتلقي بهذه الصناعة للجمهور؛ عبر ثلاث آليات:

1- تداعي المعاني: ربَّما تُستخدم الصور السلبيَّة كمثير إضافي مع شخص أو مجموعة من الناس، بصورة متكررة لإحدى التطبيقات الأكثر تداولاً في المجال الإعلامي [30].

2- التعزيز أو التدعيم: يتعلَّم الإنسانُ الاستجابةَ للمتغيِّر الإضافي بصورة ايجابية، وحين يكون المثيرُ طبيعيًّا فإنَّه يبعث بدرجة أكبر على الرضا والسعادة [31].

3- المحاكاة: يميل الإنسان إلى تصديق ما يكون مصحوبا بمثال عمليّ أو تجربة شخصيَّة  فهو يكتسب سلوكيات معينة بطريقة أسرع من خلال محاكاته للآخرين وخاصة  حين يكون هؤلاء من ذوي التأثير والشهرة [32].

ويمكن أن نَلمس هذه الآليات ودورها في صناعة الجمهور أو التلاعب به من خلال ما تحدثنا عنه من استثمار الثقافة وما فيها من رواسب، وصور نمطية وإعادة توظيفها في اختلاق العدو يضاف لها أنَّ الإعلام الأمريكيّ يحاول «أن يخلق مفارقة بين ملامح المسلم أو بعض سلوكه الدينيّ مثل: أداء الصلاة أو قراءة القران، وبين القيام بأعمال عنف، وهو ما أدَّى إلى  وقوع حلات متكررة اتخذت منها إجراءات متحيِّزة ضد مسلمين يقومون بالصلاة في بعض المطارات مما يثر صورًا أو ارتباطات ذهنيَّة لدى الآخرين يجعلهم يتوقعون ارتكاب اعمال عنف[33].

المبحث الثاني: «ظاهرة التصنيم» في الخطاب الإعلاميّ لدى رعاة الارهاب بعد حديثنا عن ظاهرة التصنيع أو الاختلاق أو هندسة الجمهور، نجد أنَّ التصنيمَ   ظاهرةٌ موازيةٌ تشترك مع التصنيع في أهمِّ خواصها (التزيف واللبس)، «فإن ما نشهده بالضرورة هو الميل إلى الطبيعي إلى التصنيم»[34]،  فإنَّ من سمات هذا المفهوم أنَّه يقوم على كل فكرة سواء أكانت سياسيَّة أم دينيَّة في قالب الموروث أو التقاليد إذ «يرفض التصنيم هذه العوارض والطوارئ الحاصلة في التاريخ؛ لأَنَّها كـ «دنس» (sacrilege) في حرمة الفكرة الدينية أو السياسية وقداستها التي يرتقي بها إلى مصاف الإطلاق»[35]

إنَّنا نجد أنَّ هذا المفهوم يظهر بشكل جلي في أفكار المنظمات الإرهابيَّة التي تحاول استثمار الدين استثمارا سياسيًّا؛ من أجل تحقيق الغلبة المتمثلة بنشر الرعب في صفوف الآخر عبر العنف الضاري، والذي اعتمد ماكنته الإعلاميَّة؛ من أجل نشر هذا الخطاب؛ لتحقيق غاية عسكرية ارهابية تعتمد العنف، والعنف اصطلاحا يشتمل على الخشونة في المحاورة إلى استعمال السلاح والبطش والاضطهاد وهو نقيض المسالمة، ومثالية ما يمارسه (إنسان، حزب) أو تمارسه (دولة، سلطة، جهة، حركة) مما يعني أن العنف يضعنا أمام مقاربات متنوعة، وكل مقاربة تعكس إدراكًا معيَّنًا وأسلوباً في التشخيص والاقتراح[36]. وهذا التوصيف للدين ينطلق من توظيف ذرائعيّ يحقق أهداف الجماعة التي تحاول فرض قراءتها على عموم المسلمين بل إنَّها تفرض هذه القراءة عنوة على المسلمين؛ وهي بهذا تحاول احتكار تمثيلهم أمام الآخر، وتمارس وصايتها عليهم بالإكراه مخالفةً جوهر الدين؛ ولكنَّها ترسم تصورًا للإسلام يتناغم مع تلك الصورة التي يرسمها الإعلام الغربيّ عامة والأمريكيّ مع اختلاف الغايات أو تطابقها. فالتصنيم هو شكل آخر من التصنيع وهندسة الجمهور باعتماد آليات إعلاميَّة، فالتصنيم هو فبركة الصنم الفكريّ أو الأيديولوجيّ حيث يرسخ الصنم في الذهن...»[37]. ونجد أنّ هذا التصنيم يعتمد وسائل إعلامية في الوصول إلى الجمهور عبر العالم الرقميّ الافتراضي الذي تجاوز عائق المكان – والمكان اللذين يعوقان الاقتراب بين الناس جغرافيا. فأصبح هذا الفضاء الرقميّ مجالاً رحبًا من أجل صناعة التواصل، فضلاً عن صناعة التوحش؛ ومن ثَمَّ إدارته بفعل الاستثمار الإرهابي للخطاب الرقميّ، فإن المتابع للأعمال الإعلامية المعادية التي تتبعها الفصائل الإرهابيَّة يجد أنها أعمال تعتمد وسائل احترافية تتوسّل بمنطق العنف المفرط من أجل تحقيق غايات سياسية، وهو جزء من الفضاء والبيئة الرائجة بمرجعياتها ورموزها وتعاليمها أو بخطاباتها وأحكامها وفتاواها. (صحيح أنَّ الإرهابَ كعمل عسكريّ إنَّما يخطط له في السر وتحت الأرض، ولكنَّه يشكل الوجه الآخر لثقافة تسهم في إنتاجه سمتها أنها متحجرة، أحاديَّة، عدوانيَّة، استبداديَّة، كما تجري ممارستها تحت سمعنا وبصرنا، وكما تعمم نماذجها في الجوامع والمدارس أو عبر الشاشات والقنوات)[38]؛ فهي جميعا تحاول فرض تلك القراءات على الجمهور وتحاول أن تُنَمِّطَ سلوكه عبر التحفيز والتخويف إلى أَنْ تلقيَ رسالتها، والخضوع إلى تهديداتها، وفي النتيجة تحاول هندسة استجابته بالتلاعب بالعقل الجمعيّ واستثمار معطياتها.

فالإرهابُ بكل عنفه وليد البيئة التي تُسهم في إفراز الكثير من الخطابات المماثلة له، وسوف تستمر بهذا مستقبلا. فهذه الخطابات الأصوليَّة تشنُّ حربها ليس على الجسد وطاقاته الحيوية وحدها، أو السلوك وحركته ومرونته فحسب، بل تصل  إلى مطاردة النوايا، ومرجعية الإنسان لا تكون في ذاته بل في نظم التحريم المتفاقمة التي لا تترك خارجها سوى أشباح الحاجات[39]. فهذه القراءة الإرهابيَّة للنصوص تحاول توضيف الحاجات الملحة لدى المسلمين إلى الأمن من الاستبداد الداخلي والعدوان الخارجي، فإنَّها تزيد الأمر صعوبة وعسرًا بدلَ أن تقدِّم حلولًا، فهي تولد تحالفًا خفيًّا مع الرغبات الخارجيَّة في تبريرها الهيمنة على المنطقة، عبر زرعها الفتنه القائمة على تصنيم التراث واحتكار المعنى الحرفيّ واحادي الجانب وفرضه على جمهور المسلمين بالقوة والإكراه من خلال الرغبة بمحاكاة التراث، وهي تسعى إلى خلق الفتنة، وشق صفوف المسلمين والوحدة الوطنية بإثارة الفتن  الطائفيَّة والمذهبيَّة التي تولد الجذب والنبذ بين الاستقطاب والاستبعاد. وقد كان الإعلام واحدًا من الوسائل في إشاعة تلك القراءة.

فالإعلام بكل ثِقَله الثقافيّ والشرعيّ وكل بُعده التقني وليد تلك الممارسة، يعتمد الحرب النفسية في تسويق رسالته، التي تجد كل الوسائل مباحة من أجل تحقيق غايات التنظيمات الإرهابيَّة  في إشاعة التوحش في البلدان المستهدفة وإدارته، سواء اعتمدت الإعلام المرئي أو المطبوع؛ من أجل تحقيق أكبر قدر من الإبلاغ عن مضامين رسالتها الإعلاميَّة المشبعة بالعنف المفرط؛ الذي يتخذه وسيلة من أجل تحول خطابه الطوباوي التصنيميّ؛ إلى حقيقة وإعادة إنتاج الزمن المقدس: زمن البدايات، زمن الكمال، والعمل على إزالة الدنس والكفر والاستبداد والكفر عبر العنف الجهاديّ الذي يفترض خطابًا تضحويًّا عنيفًا يقوم على إراقة دم الذات، ومحق الخصوم وإزالتهم من الوجود، وكل هذه البؤرة الآيديولوجيَّة هي حمولة الخطاب الذي يعتمد العنف والشراسة من أجل تحويل اليوتوبيا إلى حقيقة، عبر علاقة استقطاب بين خيريَّة الذات وشيطنة الآخر الخصم من أجل إباحته وهدر دمه.إنَّها « تحاول زرع الدمار وبث روح الخراب في العالم طابعها الجماد هو عائق أمام الحياة، بمعنى أمام التغير والتداول والتبادل والتذاوت»[40] إنَّها بعيدة كل البعد عن الحوار والتواصل والتعايش مع المختلف.

وهناك صفاتٌ متعددة مشتركة بين الإعلام الأمريكيّ وإعلام التنظيمات، الصفة الأولى: التضليل، وقد عرضنا لها من قبل عند الغرب ونجدها هنا عند التنظيمات الارهابيَّة بارزة في إعلامها، ومن أجل تحقيق هذا يأتي دور الإعلام بوصفه جزءًا من الحرب التي تخوضها التنظيمات الارهابيَّة المختلفة، بل هي جزء حيوي في استثمارها في اعتماد التضليل والمخادعة من أجل تحقيق أهدافه العسكرية بالتغلب أو التعويض عن انتكاساته، فقد استثمرت هذه التنظيمات وسائل الاتصال الإعلامية بأشكالها المتنوعة من خلال علاقة التواصل الاجتماعيّ في نشر أيديولوجيته، وتجنيد أكبر عدد من الشبّان حول العالم، ومواكبة استعمال أكثر الوسائل تطوراً وتقنية بشكل ملحوظ، ومن ثَمَّ توظيفها لمصلحة إعلام التنظيم وأنصاره ومؤيديه الذين يأخذون أشكالاً متنوعة من الداخل والخارج ممن يناصرونه أو ممّن يُهوِّلون من مقدرته الجهنميَّة عبر تحليلاتهم ذات الارتباطات المتخفيَّة، ولكنَّ كل هذه الأوساط على اختلافها تبين: «أنّ التنظيمات مدركة تماماً الدور الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعية في جعل تنظيمها عابراً للحدود وصناعة شعبيَّة افتراضية تفوق الواقع، فهو إن يطأ أرضاً يبادر بشكل منظم وسريع في تغذية المواقع بأخباره صوتاً وصورة»؛ وهذه التحليلات تكشف أنّ التنظيمات وأنصارها يستثمرون الخطاب الرقميّ الإعلاميّ بشكل فاعل عبر إعادة الترويج للحرب النفسيَّة بأشكال وأساليب متنوعة؛ من أجل تحقيق غاياته، التي منها: زرع الشعور بالخوف في قلوب المتلقي عبر بث الرعب في الرأي العام من أجل تعظيم شأنه، ومنها: الوصول إلى تجنيد مقاتلين؛ لكسب عقول أكثر عدد من الناس، وصولاً إلى استمالة المتعاطفين، والمؤيدين، ويكون الهدف من التواصل معهم، استثمارهم والحصول على دعمهم ومساندتهم. ومنها: إدارة التوحش المتمثل بخصوم التنظيمات من الدول ومؤسساتها بهدف زعزعة أمنها.

والصفة الثانية بين التنظيمات الإرهابيَّة والإعلام الغربيّ ولاسيَّما الأمريكيّ محاولة زرع الفتن في المناطق التي تعيش في الأساس انقسامًا؛ إذ نجد هذه التنظيمات ومنها داعش تحاول أن تستثمر هذا الانقسام في تلك المناطق والدول؛ من أجل إيصالها إلى حالة التوحش لهذا (مقلق جداً إطالة أمد الصراع السياسي في المنطقة،..... فكل يوم يمر في ظل انسداد الأفق المستقبلي للخروج من هذا الصراع، فهو يستثمره في استغلال الناشئة وتوريطهم من خلال ذلك الترويج والضخ الإعلامي الهائل والمتزايد على «الإنترنت» كتابة وصوتاً وصورة)[41].

والصفة الثالثة المشتركة بين الرسائل الإعلاميَّة بين الغرب والتنظيمات،  محاولة إثارة الخوف في الغرب تعرف «الإسلاموفوبيا» من أجل إخافة المجتمعات الغربيَّة من الإسلام، فنجد أنَّ هذه التنظيمات تعزز هذا التوظيف في «بثِّ الرعب الشديد على كل المستويات الشعبية والرسمية عند الغرب، مشيراً إلى أن الشعوب الغربية عندما ترى هذه البشاعة في القتل بالذبح المصور تقوم بممارسة الضغط على الحكومات؛ لعدم توريط جيوشها في أتون معارك لا يعلم نتائجها إلا الله»[42].

وهنا نجد التنظيم يخدم الأجندة الإعلاميَّة الأمريكيَّة في تصوير أنَّ الاسلام هو العدو للغرب، وداعش يحاول احتكار تلك الصورة حتى يظهر وكأنَّه يمثل الإسلام ومعه تلك التنظيمات المشابهة له في الأدبيات القائمة على ذات القراءة والاتجاه.

فهو يحاول كسب جمهور مؤيد، أو جمهور خائف من المنطقة أو من مختلف بقاع العالم، ومنها  الغرب، اذ تشير التقارير الإعلاميَّة إلى أنَّ حالة الاستقطاب مع التنظيم زادت بعد نشر وسائل الإعلام لمقاطع الذبح للضحايا، وتأخذ النقطة الأولى جانبًا آخر يجعل من تلك الرسالة متقبلة لدى المحطات الغربيَّة والمحطات المتعاطفة معها التي تعتمد رسالة خلق التشويق لدى جمهورها المولع بالمفارقات. وغاية المحطة استثمار تلك الرغبات من أجل زيادة المتابعين لها؛ لأنَّ المشاهد العنيفة تصوّر وحشيةَ من يقوم بالذبح، التي تدل على فقدان أي درجة من الإنسانيَّة؛ فإشاعة تلك المشاهد تُحدث آثارًا نفسيَّة عالية،؛ فنجد أنَّ تلك الوسائل الإعلاميَّة العالميَّة تفضّل تحقيق زيادة في نسبة المشاهدة بدلًا من العمل على مجابهة تلك الرسالة الإعلامية المعادية والعنيفة التي تُسهم بتسويق خطابها الإعلاميّ للآخر، فبدلًا من أن تنتشرَ دعايةً إعلاميّة مقابلةً ومجابهةً لدعاية «داعش»، أسهم الإعلام في نشر دعاية التنظيم.وتسهم الوسائل الإعلاميَّة العالميَّة باستهلاك تلك الرسائل المشبعة بالعنف والكراهية، وتجعل الجمهور يتلقَّى تلك الوسائل النفسيَّة من الدعاية النفسية الزاحفة وتخلق اضطرابًا نفسيًّا لديه.

الخاتمة

- لقد اعتمدت أمريكا في خططها السياسيَّة في المنطقة والعالم على مراكز بحوث تسهم في وضع الخطط الاستراتيجية في صناعة أجيال من الإرهاب تستخدمها في صناعة الفوضى مستثمرةً وجود تنظيمات إرهابيَّة أو تصطنعها من أجل صناعة نفوذها بالمنطقة.

- في مقابل ذلك كانت ظاهرة التنظيمات المتشددة  التي لا تقبل الآخر تحكمها عقليَّة التصنيم على صعيد المفاهيم والأفكار؛ فأسهمت في اصطناع التوحش وخلق مناطق فراغ من أجل إقامة أماراتها المزعومة.

- نشر نمط جديد من الشروخ المجتمعية تستحضر الانقسامات القوميَّة والاثنية والطائفية؛ فأدَّى إلى اختلاق حروب اثنية جديدة على  منطقتنا (الشرق أوسطيَّة) التي هي أكثر الجغرافيات تعرضاً لتأثير هذه الحروب المفترضة.

- وهذا يكشف أن هذه التوصيفات والتحليلات محكومة بالأحكام المسبقة، التي تظهر في الإعلام؛ لإسقاط أوصاف صراعيَّة نمطيَّة ثابتة على ما هو مختلف إسلامي.

-  يتمثَّل التأثير الأخطر للإعلام في أنَّه يسهم بدرجة كبيرة في تشكيل إدراكنا الواقع، وإذا قلنا إنَّ الإنسان يتفاعل مع الواقع بحسب تصوره له فإنَّ الجهة التي تشكل إدراك الإنسان لواقعه تتحكم فيه حرفيا.

- إنَّ الإعلام هو من يقوم باختلاق عالم بديل يعبِّر عن مالك أدوات الإعلام، وهذا العالم ليس حقيقيًّا بل مزيف يحل مَحلَّ الحقائق الواقعيَّة؛ بقوة مالك أدوات الإعلام على صناعة الحقائق وتشويها في صورة كاذبة .

- التضليل كان يستثمر ملكية أدوات العلم من أجل إيصال رسالة مصطنعة تخدم الأغراض الأمريكيَّة وغاياتها؛ فقد كانت تلك الصورة النمطيَّة التي تحملها تجاه الآخر تغلبت على الواقع وحلت محله عبر هيمنتها الإعلاميَّة، وقد أدرك «الاستراتيجيون، والأميركيون على وجه الخصوص، هذا الأمر بدقة، وفهمه؛ فعملوا على تعزيز هذه القوة الخفية المقتدرة وتعظيمها.

- هندسة الإجماع (The Engineering f Consent) وهو مصطلح جاء من أجل التحكم بالجمهور من خلال معرفة التكيفيَّة التي يعمل بها العقل الجماعي لنسق محدد بحسب رغبتنا؛  فتحكموا بتلك الوسائل الإعلاميَّة لإعادة هندسة استجابتنا بما يتوافق مع مصالح أمريكا.

-في مقابل ذلك أصبح الفضاء الرقميّ وسيلة من أجل التحكم التي استخدمتها التنظيمات الإرهابية التي حاولت من خلالها شن حرب نفسيَّة على من تجدهم يخالفون أفكارها ويحاولون منع وصولها إلى أهدافها.

[1]- أميركان انتربرايز انستيتيوت، ترجمة وعرض: محمود المقيِّد، المركز الإسلاميّ للدراسات الاستراتيجيّة

العتبة العباسيّة المقدّسة.، ط1، بيروت، 2017، ص 6-7.

[2]- علي حرب أزمة الحداثة الفائقة، المركز الثقافي العربي، ط2 الدار البيضاء، 2008، ص15

[3]- انظر: ال جو، هجوم على العقل،ترجمة نشوى ماهر، دار العبيكان، ط1، 2009، الرياض، ص 243.

[4]- أيمن منصور ندا، الصورة الذهنية والإعلامية، المدينة برس، القاهرة،2004 (د،ط)، ص19.

[5]- Hughes, Aaron W.Situating Islam: The Past and Future of an Academic Discipline. London and Oakville, Conn., 2008. Essays from the critical perspective of religious studies

[6]- انظر: رالف بيترز، حدود الدم كيف سيبدو الشرق الاوسط بحالته الافضل ؟، ترجمة على الحارس، مجلة ارمدفورسس «القوات المسلحة « الامريكية،عدد يونيو 2006، بواسطة شبكة عراق المستقبل.حيث تظهر الاستراتيجية بوضوح في تقسيم المنطقة بعد الاستثمار الانقسام الاثني.

[7]- http://www.alsabaah.com/ArticleShow.aspx?ID=19485

[8]- أحمد فهمي، هندسة الجمهور، مكتبة مجلة البيان، ط1، الرياض،1436ه ص ص25.

[9]- المصدر نفسه، ص 31.

[10]- محمود حيدر، الدولة المستباحة من نهاية التاريخ إلى بداية الجغرافية، دار الفارابي، ط1، بيروت،205، ص111.وانظر: بيير بورديو، التلفيزيون والتلاعب بالعقول، ترجمة، درويش الحلوجي، دار كنعان، ط1، دمشق،2004.

[11]- جان بودريار، المصطنع والاصطناع، ترجمة جوزيف عبد الله، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، بيروت، 2008،  ص 27-28.

[12]- نفس المصدر، ص 36.

[13]-  أبو النور حمدي ابو النور حسن، يورجين هابرماس الأخلاق والتواصل، دار تنوير،ط1، بيروت، 2009، ص 133.

[14]-  جان بودريار، المصطنع والاصطناع،  ص 37.

[15]- والميتاخرافة Matafictiom:كل قصة او عمل يؤدي فيه الخيال دوراً رئيساً، مصوراً للناس والأحداث بطريقة مختلفة.انظر: مقدمة المترجمة، ليندا هنشيون، سياسة ما بعد الحداثية، ترجمة، حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، ط1، بيروت،2009، ص 16.

[16]- محمود حيدر، الدولة المستباحة من نهاية التاريخ إلى بداية الجغرافية،ص112.

[17]- المصدر نفسه،ص112.وانظر: كولن مويرز، الإمبرياليون الجدد إيديولوجيات الإمبراطورية ترجمة،معين الإمام، دار العبيكان، ط1، الرياض، 2008، ص 305.

[18]- أيمن منصور ندا، الصورة الذهنية والإعلامية، ص68.وانظر: هربرت جورج ويلز، حرب العوالم، ترجمة شيماء عبد الحكيم طه، مؤسسة هنداوي،ط1، القاهرة،2013.

[19]- محمود نور الدين أفاية، الغرب المتخيل صورة الآخر في الفكر العربي الإسلامي، المركز الثقافي العربي ط1، بيروت 2000، ص 25.

[20]- محمد نور الدين أفاية، صورة الغيرية، تجليات الآخر في الفكر العربي الإسلامي، المركز الثقافي للكتاب، ط1، بيروت، 2018، ص136-137.

[21]- احمد فهمي، هندسة الجمهور، ص 9.

[22]-  أيمن منصور ندا، الصورة الذهنية والإعلامية، ص 112.

[23]-  نيثان غردلز، مايك ميدافوي، الإعلام الامريكي بعد العراق –حرب القوى الناعمة،المشروع القومي للترجمة،ط1، القاهرة، 2015، ص 38.

[24]- المصدر نفسه، ص 43.

[25]-  أيمن منصور ندا، الصورة الذهنية والإعلامية، ص 113-115.

[26]- وهو كتاب: أبو بكر  ليس هو الاسم الحقيقي لمؤلف تلك المقالات ويقول مراقبون إنها شخصية لضابط مصري هو سيف العدل- منسق الشؤون الأمنية والاستخباراتية في تنظيم القاعدة- وربما هو محمد خليل الحكايمة نفسه بسبب تشابه الأسلوب. وقد منع الكتاب من التداول في كثير من الدول العربية لكنه أصبح متاحاً لاحقاً في أكثر من 15 ألف رابط في الشبكة العنكبوتية، وحسب بيان رسمي لوزارة الداخلية السعودية فقد تم الإعلان عنه في 21/6/1429 كأحد الأعمدة الفكرية لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، كما ترجمته وزارة الدفاع الأميركية للغة الإنجليزية بعد أن عثرت المخابرات الأميركية على وثائق ورسائل موجهة من بن لادن وإليه تشمل فصولاً من هذا الكتاب، فاهتم به المختصون الأميركيون وقام مركز مكافحة الإرهاب في كلية ويست بوينت العسكرية بترجمته إلى الإنجليزية بعنوان إدارة الوحشية وتم توزيعه على المسؤولين في الدوائر السياسية للحكومة الأميركية والمسؤولين في وزارة الدفاع.

[27]- إن حروب الجيل الرابع أهم ما فيها الدخول في الحرب من دون خسارة أموال وأنفس، وتقوم على خمس أشياء أساسية أولها دعم الإرهاب، وإنشاء إرهاب دولي متعدد الجنسيات، واستخدام الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، واستخدام طرق معنوية ونفسية تدميرية، وأخيراً هدم الرموز واصفاً إياها بأخطر حرب عرفها العالم منذ بداية الوجود ويتم دراستها في المعاهد الاستخباراتية والعسكرية بسبب خطورتها، بالإضافة إلى أن فكرة الجيل الرابع نجحت في ترسيخ فكرة أن المجتمع فاسد.انظر: ياسر الغبيري،(نبيل فاروق: الجيل الرابع من الحروب يحولك لجندي بجيش عدوك)، حوار تم خلال استضافت قاعة ضيف الشرف بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، ندوة لمناقشة كتاب «حروب الجيل الرابع- حين تصبح أنت جيش عدوك»، بحضور كاتبه نبيل فاروق، وأدار المناقشة الكاتبة نشوى الحوفي جريدة:بوابة العرب.

[28]- وهي اكاديمية التغير أو اللاعنف، وهي تحاول اعداد وتدريب القيادات الفاعلة من أجل احداث الفوضى الاجتماعية والسياسية، وهناك سلسلة كتب ومحاضرات، ومناهج تدريبية في إحدى الدول الخليجية.

[29]- انظر: أيمن منصور ندا، الصورة الذهنية والإعلامية، ص 118-120.

[30]- أحمد فهمي، هندسة الجمهور، ص 52.

[31]- أحمد فهمي، هندسة الجمهور، ص55.

[32]- المصدر نفسه، ص 56.

[33]-  المصدر السابق، ص 52-53.

[34]- محمد شوقي الزين، تصنيم المبادئ أو ينبوع العنف، التفكير مع رونيه جيرار في اكتناه طبيعة المقدس، مجلة الباب، العدد 11سنة 2017، ص 32.

[35]- شوقي الزين، المرجع السابق، ص 36

[36]-- انظر: ماجد الغرباوي، تحديات العنف، دار العارف ط1، بيروت، 2009،ص43.

[37]- محمد شوقي الزين، تصنيم المبادئ او ينبوع العنف، التفكير مع رونيه جيرار في اكتناه طبيعة المقدس، مرجع سابق الذكر، ص 29.

[38]- علي حرب،أزمنة الحداثة الفائقة الإصلاح –الإرهاب – الشراسة،المركز العربي، ط2، بيروت 2008، ص88.

[39]- مصطفى حجازي، الإنسان المهدور، المركز العربي،ط1، بيروت،2005،ص25.

[40]- محمد شوقي الزين، تصنيم المبادئ أو ينبوع العنف، التفكير مع رونيه جيرار....، ص34.

[41]- http://www.alhayat.com/Opinion/Hassen-Bin-Salam.

[42]- أمل الصيفي- أحمد هنداوي، داعش» وجز الرقاب.. صناعة مخابرات أم ترويع للخصوم؟

http://moheet.com/2014/11/01/2164175/