البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الاستعمار المنتشر ، نحو نظرية معرفة لفهم زمن ما بعد الاستعمار

الباحث :  أحمد رهدار
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  12
السنة :  السنة الرابعة - صيف 2018 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث :  July / 22 / 2018
عدد زيارات البحث :  1624
تحميل  ( 347.771 KB )
تشكل هذه الدراسة للباحث الإيراني البروفسور أحمد رهدار مسعى للإحاطة النظرية بالتاريخ الاستعماري، ولأجل هذه الغاية يسعى الباحث إلى إعادة تأصيل مفهوم الاستعمار والمفاهيم الفرعية التي وُلدت منه على امتداد الأحقاب الحديثة.

وقد توصّل أخيراً إلى ما أسماه "الاستعمار المنتشر" كمفهوم يحيط بالحصيلة الإجمالية للتجارب الاستعمارية في العالم قديماً وحديثاً. نشير إلى أن هذه الدراسة تنشر مع بعض الاختصارات التي افترضتها اعتبارات تقنية إلا أنها لم تؤثر على منطقها الداخلي ومقاصدها المعرفية.

المحرر

------------------------------

الاستعمار في أكثر معانيه عمومية هو الاستفادة من الآخرين رغما عنهم ودونما تقديم أي تعويض لهم. الاستعمار منذ القديم وحتى الآن، ولأسباب تخصه قام بتغيير شكله من القديم وحتى شكله المعاصر، ولكن رغم هذه التطورات والتحولات إلا أن روحه ـ المتمثلة بالتسلط على الآخرين ـ ما زالت كما كانت... تحول الاستعمار من شكل لآخر ـ كما هو حال كل الظواهر الاجتماعية الأخرى ـ تم بشكل متدرج لا بشكل مفاجئ، لذلك فمن الصعوبة وضع حدود زمانية أو مكانية بين هذه التحولات دون الاستفادة من وسائل مساعدة وإشارات وطرق محددة. إنّ عصرنا الحالي يشهد وجود استعمار هو من أشد أنواع الاستعمار تعقيدا وهو الذي يتميز بخصائص منها التخفي والانتشار والتجهز بأدوات تقنية وحديثة و... إلخ. في هذا الزمان، تم تعريف دول الغرب بالعالم الأول، رمزا للاستعمار، كما تم تعريف دول الشرق بالعالم الثالث رمزا للمستعمرات. إن التعرف على ماهية ووجوه خطط الاستعمار في أي عصر كان، وتاريخ تطوره وتحوله إلى أشكال معقدة أكثر فأكثر، يساعد المستعمَرين  في فهم الاستعمار والقدرة على مواجهته، وهذا المقال هو في صدد ذكر خصائص الأشكال المختلفة للاستعمار وتبيين ظاهرة الاستعمار المعاصر الذي يعد من أكثر أنواع الاستعمار تعقيدا.

الألفاظ الهامة: الاستعمار القديم، الاستعمار الجديد، الاستعمار المعاصر، صحوة الصفوة، صحوة العامة، والتكنولوجيا المخفية. 

الاستعمار المعاصر:

الاستعمار المعاصر هو أحد أشكال الاستعمار الذي يكون فيه المستعمرون وأتباعهم المحليون متخفين أو غير ظاهرين للعيان، ويمكن تسمية هذا النوع من الاستعمار ب«الاستعمار المنتشر»  والذي بناء عليه، فإن نوايا المستعمرين وأهدافهم تواصل تتابعها دونما احتياج لأي تمثيل من قبل شخص ما أو حدث خاص، وفي هذا النوع من الاستعمار يبلغ «التخفي والانتشار» حدا يصعب معه حتى بالنسبة للنخب والصفوة كشف أتباع وأعوان الاستعمار. يذكر ميشيل فوكو الفارق ما بين القدرة والسلطة [2]فيقول «القوة ليست سلبية دائما، فهي ذات وجه إيجابي وبنّاء أيضا، كما أن إجراء القوة لا يعني أن مجريها هو صاحب القوة، لأنها ليست ملكا طيعا لأحد ولا ميزة يتميز بها أحد. من وجهة نظر فوكو وخلافا لما هو معروف، فإن القوة ليست شيئا تعود ملكيته للطبقات من أصحاب السلطة فيما تحرم منها الطبقات الضعيفة، بل إن كلا الطبقتين متساويتين في كونهما جزءًا من شبكة القوة.

وبناء على ذلك فالقوة ليست منحصرة في الديكتاتوريين والحكام بل هي منتشرة وموزعة على كل النظام الاجتماعي. ونتيجة لذلك لا يمكن تغيير القوة من خلال الانقلاب العسكري أو الثورة، إن علاقة القوة تشبه لعبة الشطرنج التي في كل خطوة منها يمكن إما الحد من حركة الخصم أو فتح فرص جديدة أمامه للتحرك»[3].

في الاستعمار المعاصر، بالإضافة إلى أنه لا يحصل هنالك علاقات ـ كما كان الحال في الاستعمار القديم ـ  ما بين الاستعمار والقادة المحليين، فإن هؤلاء الأخيرين يرفضون بشدة نسبهم إلى الاستعمار. والحقيقة هي أن الاستعمار المعاصر يسعى لتطبيق أسس تربيته الفكرية والسياسية على قواته الذين يقومون بتنفيذ مساعي الاستعمار دون أن يدركوا ذلك. إن الاستعمار في شكله هذا يضع أكثر جهده على الحقول البرمجية، فمثلا هم يقومون بتعريف المعايير العلمية بما يتناسب ومصالحهم السياسية كي يجبروا أعداءهم السياسيين في البلاد المستقلة والتي كانت في قرون مضت مستعمَرة لهم، يجبرونهم على قبول هذه المعايير، وبالنتيجة يقومون بتحقيق أهداف المستعمِر، وبناء على ذلك يقومون بترسيخ قوتهم من خلال علومهم[4]. وإن أحد أكثر الأمثلة شيوعا والتي توضح عملية فرض المعايير على الأمم التي في طور الاستثمار، هو إعطاء المصداقية للمجلات المعروفة ب ISI  والتي بناء عليها يتم تعيين المناسبات العلمية في العالم الثالث، ويكتب أحد أصحاب الرأي منتقدا المصداقية الحصرية المعطاة لمجلات ال ISI:

«إن ISI  ليست فقط معيارا يتم بناء عليه ترتيب الدول علميا وتعيين درجات ومراتب العلماء، بل وأيضا تحتل مركزا عاليا وكأنها الهيكل المقدس ويصير من الحرام والجهل مواجهتها بسؤال لماذا أو طلب تعليل منها، إن هذا الأمر ليس بالظلم القليل بل هو بمثابة إضعاف لصلة الوصل ما بين العلم والمجتمع العلمي في الدولة وإتاحة المجال أمام  التصنع وتحوير المقالات، إن ISI التي تعتبر من الضرورات الهامة في تثبيت قوة العلم والتكنولوجيا، لا يمكنها أن تكون الباني الأساسي لمعقل علمنا نحن، ISI في جامعاتنا ليست فقط مركزا للفهرسة أو لنشر المعلومات، بل هي ميزان ومعيار للعلم ومحددة لصلاحيات الجامعيين العلمية، فإذا كان لأحد ما أي صلة أو نسبة تربطه مع المجلة المقبولة لديه والتي قام هو أيضا بكتابة مقال فيها فهذا يعني بأنه عالم بلا شك، وأما إن لم يكن له ذلك فهذا يعني بأنه خارج من دائرة المعرفة، إن إلزام العلماء بهذا العمل وربط مسألة الارتقاء في المراتب الجامعية  بامتلاك مقالة في الـ ISI ليس بالأمر الجيد وربما يتعارض وروح العلم، هذه الإلزامات عادة ما تُتخذ بناء على خلفيات سياسية، وهي من التدابير التي لم يتخذها السياسيون بل اتخذها بعض من الجامعيين من الذين لا يعلمون الكثير عن الأمور السياسية، وتكون حجتهم في الدفاع عن موضوع إلزامية الكتابة في الـ ISI دائما هي بأننا لا نمتلك معايير أدق منها. والجواب هنا هو: أينما وُجد العلم وُجدت معاييره، فلنبحثْ لِنجدَ المعيار أو المعايير. ونحن طالما لا نعتمد على جامعيينا، فهذا يعني بأننا لن نستطيع الحصول على نظام بحث وعلم. إن عدم الاعتماد هذا قد يترافق في بعض الأحيان مع نوع من التحقير والخشونة، حيث إن إجبار الجامعي على كتابة مقالة في المجلة الفلانية لتأكيد مصداقية صلاحيته العلمية هو أمر بالغ في عدم الاحترام لكلا العلم والعلماء، فالعلم حيثما كان فهو علم. والعلم هو الذي يعطي الصلاحية للمجلات وليس العكس، إن أغلب الجامعات إما لا تعطي علامات أو تعطي علامات قليلة لقاء مقالات الأساتذة إذا نشرت في مجلات لا تنتمي إلى الجامعة أو في مراكز علمية أخرى أو عدم إظهار انتماء المقال للجامعة، إن معنى ذلك هو بأن العلم ليس مهما في ذاته بل أن الجامعة هي المهمة، والمعيار متعلق بالجامعة لا بمرتبة الأستاذ»[5].

إدوارد برمن في كتابه المعروف «التحكم بالثقافة» أظهر وبشكل جيد كيف تقوم المؤسسات العالمية من قبيل مؤسسة هنري فورد وكارينكي وراكفلر بأمور تبدو ثقافية في ظاهرها ـ  كتأسيس جامعة في بلدان العالم الثالث، وقبول طلاب من تلك البلدان وأيضا تأليف كتب علمية لأجلهم ـ  إلا أنها تقوم بتوجيه الثقافة العلمية في بلدان العالم الثالث، [6] وخلال هذه العملية، حتى الصفوة من الجامعيين في العالم الثالث لا ينتبهون إلى مسألة أنهم يقومون بالفعل بما تم التخطيط له مسبقا. إنّ بحثنا هنا ليس حول انعدام التبادل الثقافي والاكتفاء باقتباس الطرق من الغرب، بل هو حول عدم التنبه الحقيقي إلى ماهية ما يمكن تعميمه في العالم الثالث، وبتعبير أحد المطلعين المعاصرين:«إن الأخذ والتعميم ليس أمرا غير مَعيب فحسب، بل وهو من الأمور المستحسنة والمفضلة، ولكن بشرط أن تكون الظروف مناسبة لأجل عملية التعميم هذه، وأن يكون الأخذ والتعميم عن تفكر وتمحيص، بهذا الشكل فإنه لن يكون هنالك وجود لأي هجوم ثقافي. بحيث يصير أخذ أي شيء من أي مصدر كان أمرا يمكن تسميته بالتبادل الثقافي، فإذا كانت جماعة ما جاهلة بما تفعل وما تقول، فمن المُسلَّم أن تصبح عرضة للهجمات الثقافية، حتى ولو حصلت على كل المعارف العالمية، ولكن في حال كانت الجماعة واعية ومدركة لتلك الأمور فإن ما يمكن أن تتلقاه هو بمثابة مواد تأسيسيّة تقيم المدينة وأنظمة الحياة. إن هذا يعني بأن العقل والإدراك لا يخسران وجودهما ولا ينكمشان في مقابل ما يتم تلقيه، بل يقومان بتسخير هذه المعارف والعلوم المتلقاة كوسيلة تخدم مصالحهما، صحيح أنه ضمن مسألة الهجوم الثقافي لا يجب تناسي أمر الجزئيات، إلا أن الغوص كثيرا في الأمور الجزئية قد يبعدنا عن أصل القضية، فالهجوم الثقافي يعتبر هجوما على ثقافة الجماعة، ولكن ثقافة الجماعة ليست فقط مجرد آداب وتقاليد، بل هي في الأغلب الأساس غير المرئي وراء الفهم والإدراك.. نحن جميعا، ندرك الأشياء من خلال ثقافتنا، وإذا انعدمت الثقافة، انعدم معها العقل والإدراك، وحاليا فإننا لا نستطيع إدراك معنى الهجوم الثقافي كما يجب، لأننا لم نألف الثقافة الغربية أو نطلع على باطنها الحقيقي، إلا أن هذا الهجوم ليس بالحدث المفاجئ أو العارض الذي تم التصميم له من قبل رجال السياسة بحيث يستطيعون تغييره متى شاؤوا، إنما هو مرحلة في التاريخ الغربي، الذي يتجلى فيه من جهة حلم تحقق عالم غربي فريد ووحيد والذي يتم تنميته على مستوى العقول، ومن جهة ثانية العيون الناظرة بترقب وقليلون هم أولئك الذين ينظرون إلى الأفق المقابل وإن وجد من يفعل فإن الوحشة تملأ كيانه. في العالم الغربي كان البشر محور كل الأشياء، أما في عالم اليوم فليس من المعلوم أين هو مكانه بالضبط، أو ما هو مصيره حتى؟»[7].

 تجاوز تغيير نظرة الصفوة إلى تغيير عقيدة العامة:

في الاستعمار المعاصر ـ وعلى خلاف الاستعمار الجديد الذي كان فيه «تغيير نظرة»الصفوة في الأمم المختلفة سبيلا لتحويل هذه الصفوة عن شكلها السابق بالإجبار ـ أصبح «تغيير عقيدة» العامة سبيلا لتحويل وتغيير شكل هذه الشريحة من الأمم عن شكلها السابق.

في أثناء عملية تغيير نظرة الصفوة، يستطيع المستعمر إزالة الصفوة أو شراءَهم بوعود شخصية، ورغم أن ذلك سيكلّفها أثماناً باهظةً ورغم أنه لا يمكن إزالة الصفوة ولا يمكن شراؤهم جميعا، إلا أن قيام المستعمر بهذين الأمرين يمكن أن يخفف من ضغط الصفوة قليلا، إلى درجة يمكن معها إيصال احتمال قيام الثورة إلى الصفر، في حين أنه ضمن عملية تغيير عقائد العامة ليس هنالك أي إمكانية لتخفيف قيام ثورة من خلال الدفع لهم أو إزالتهم، فعندما تتغير آفاق أذهان جماعة ما تتسع معارفهم وهذا يؤدي إلى ارتقاء ثقافتهم وتعميمها أكثر، وفي هذه الحالة فإن مواجهتهم ستكلف الاستعمار أثماناً باهظةً.

 دخول الدين إلى محافل القوة:

في الاستعمار المعاصر ـ  وبعكس الاستعمار الجديد الذي تم فيه حذف الدين من محافل القوة ـ  استطاع الدين ولوج محافل القوة، الدين الذي كان قد مات إلهه[8]، وتفوح من إلاهياته فلسفة موت الله، يقول نينان اسبارت:

«حتى أوائل سنوات ال 80 [من القرن ال20]. كان هنالك ميل بين المفكرين في العلوم السياسية لاعتبار الدين إما غير موجود في السياسة أو أنه غير ذي أهمية تذكر، ومنشأ هذا الأمر مأخوذ من الأسس الإيديولوجية كالتي عند الماركسيين، ومن موارد صادرة عن رغبة عامة موجودة في أصل العلمانية، حتى أن بعض علماء ذلك الزمان كانوا غافلين عن أبعاد الدين السياسية بسبب اهتمامهم بتحقيق أهدافهم، ورغم أن تيار التجديد كان يؤدي في بعض اتجاهاته إلى تقوية الأفكار العلمانية ونشرها بشكل واسع، إلا أنه وفي ذات الوقت كانت موجة من التجديد تلي ذلك التيار داعية إلى ترسيخ الدين ودوره في المجتمع. يعتقد بعض المفكرين المعاصرين بأن تنامي هذه الموجة الجديدة سيعقبها إيجاد نوع من العلاقة بين الدين بأشكاله المختلفة وبين السياسات والدول ذات القوميات الموحدة... والذي هو الوضع المتعارف عليه في أنحاء المجتمع العالمي ـ  كعلاقة فعل ورد فعل، وحاليا حيث ظهرت الأديان الكبري على أنها القوى العظمى في العالم وأنها تلعب دورا هاما في الحسابات ما بين القوميات والمؤسسات الدينية، فإنها كذلك ذات تأثير فعّال في داخل الدول أيضا حيث تؤثر على سلوك القادة السياسيين وحياتهم الدينية»[9].

في عصر الاستعمار المعاصر، لم يجرؤ المستعمرون ولو لمرة واحدة على محاربة الدين عَلَناً، ليس هذا فحسب بل وقاموا بادعاء تدينهم وتمسكهم بدين خاص حتى أنهم سعوا إلى التوفيق في ما بين مناسباتهم السياسية والدينية من خلال إظهار إيمانهم بقدرة الدين في المحافل السياسية من قبيل أن الدين يهب التوافق الجماعي، ويوجه السياسة لتحقيق الأهداف الغيبية، ويعطي مشروعية للسلوكيات....والخ، وكمثال على ذلك يمكن الإشارة إلى تقرير طويل عن ورود الدين إلى المحافل السياسية في جامعة أمريكا:

«شهدت الولايات المتحدة ومنذ بداية عام 1979 نمو وتوسع المسيحية السياسية ومؤسسيها ـ أو ما يدعى بمسيحيي اليمين ـ ومن جملة مظاهر إحياء الدين أنه ما بين خمس إلى ثُلث الأمريكيين قاموا بإعادة إجراء غسل التعميد من جديد (المسيحيون الذين ولدوا مرة ثانية)، وكذلك الزيادة في تعداد أتباع الكنيسة من المتعصبين والمغالين، عرض القنوات التلفزيونية لعبارات مثل «الأكثرية الأخلاقية»، «الائتلاف المسيحي» «إحياء المؤسسين»، «مجلس متابعة العائلة»، «التأكيد على الأسرة»، «ائتلاف القيم المنسية»واحدة بعد الأخرى، وقيام مؤسسات «اليمين المسيحي»بالمطالبة بعدم الإجهاض، وتحريم الزواج بين الجنس الواحد، والسماح بإقامة الصلاة داخل المدارس ورفض بعض القوانين الأساسية التي كانت تفصل بين الكنيسة والدولة. وفي سنوات ال 90 [من القرن ال20] تنامى «تيار اليمين المسيحي» إلى درجة أصبح فيها قوة مؤثرة في انتخابات الرئاسة الجمهورية والكونغرس الأمريكي وأوجد كذلك ائتلافا مع اليمينيين السياسيين داخل الحزب الجمهوري لتشكيل جماعة سميت بـ«حزب الله الأمريكي»، ومنذ بداية سنوات ال80 [من القرن ال20] بدأ العمل لفتح أبواب الحزب الجمهوري أمام اليمين المسيحي، حيث قام رونالد ريغن ممثل الحزب الجمهوري في عام 1980 بإقامة ائتلاف مع القس بيلي غراهام، رئيس  مؤسسة «الشباب المسيحي» والقس جيري فالويل رئيس مؤسسة «الأكثرية الأخلاقية». ولقد كان ريغن خلال منافساته الانتخابية كثيرا ما يكرر شعار «الإنجيل هو الحل الوحيد»، ولذا فقد شكل اليمين المسيحي قوة واضحة التأثير في فوز كل من ريغن وجورج بوش الأب، وكذا فإن الحزب الجمهوري سمح للقس بات رابرتسون رئيس «الائتلاف المسيحي» بترشيح نفسه في مرحلة الانتخابات الرئاسية الأولى عام 1988، وهذا الأمر تكرر مرة أخرى عام 2000 خلال المرحلة الأولى للانتخابات الرئاسية عندما سمح لغري بوئر ممثل اليمين المسيحي بترشيح نفسه. وفي إطار الاستفادة من الدين خلال المنافسات الانتخابية لشهر ديسمبر من عام 1999 داخل الحزب الجمهوري قام جورج بوش الابن المرشح لرئاسة الجمهورية بإعلان أن «عيسى المسيح هو الفيلسوف السياسي المنتخب بالنسبة لي»، وعندما قام مذيع مشهور في قناة NBC بسؤاله عن قصده من وراء هذا الكلام، أجاب ب«أن المسيح هو الأساس والقاعدة التي أحيا معها، سواء آمن به الآخرون أم لم يؤمنوا». في أوائل سنوات ال 2000، وخلال المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري، تم افتتاح جلسة المؤتمر «بنشيد المسيح»و قام بوش بإعلان أن «مشروع» اليمين المسيحي مبني على التركيز على إلغاء القوانين التي تقوم بوضع فواصل ما بين الكنيسة والدولة، وكذلك فقد قام بوش بدعوة ابن القس بيلي غراهام مؤسس اليمين المسيحي، إلى المؤتمر ليقوم بقراءة الدعاء وليطلب الحاضرون البركة من المسيح»[10].

الاستعمار المعاصر فعل أم رد فعل؟

إن العالم الغربي، وخصوصا في القرون المعروفة «بعصر الاستعمار» قام وباستناد إلى علم الإيبستمولوجيا وعلم الاستشراق، بتقسيم العالم إلى طرفين:

«أنا: الغرب» و«الآخر: الشرق»، ومنذ منتصف القرن العشرين وحتى الآن، واجه علم الأبستمولوجيا المبني على فوارق الأنا ـ الآخر في الاستشراق تحديَيْن أساسيَّيْن هما:

مابعد الحداثة: الرسالة الكبرى التي قام الاستشراق  بإرسائها كانت تقسيم العالم إلى قسمين هما «الغرب» و «غير الغرب» أو «الأنا» و«الآخر» حيث كان القسم الأول يعني الأصالة والقيم والغنى والأفضلية وأما القسم الثاني فكان يعني عكس ما عناه الأول، ومعرفة هذا الثاني كانت فقط من خلال توضيح معنى «الآخر» مع القسم الأول، حيث كلما تم التأكيد على أن هذا القسم الثاني هو الآخر وعلى عدم أصالته في الوقت نفسه، كان هذا يؤدي إلى ارتفاع مستوى نجاح الاستشراق. فما بعد الحداثة لا تقوم فحسب بتقسيم العالم إلى منطقتين وتجعل الأصالة حكرا على القسم الغربي بل وأيضا كانت تقيس الثقافات العليا والدنيا وفقا «لمحيطها المحلي» وبناء على ذلك  تمنح صفة الأصالة لمن تشاء. في الحقيقة فإن ما بعد الحداثة، تقوم بوضع أكثر ادعاءات التحضّر مركزية ـ والذي هو منح نصف العالم «الغرب الأصالة دون غيره ـ  أمام تحدٍّ حقيقي[11].

العولمة: العولمة أيضا تقوم بوضع طرف آخر من الأبستمولوجيا والاستشراق أمام تحدٍّ جديد، فادعاء الاستشراق المحوري المستند على «ثنائية النظام العالمي» كان راسخا بإتقان، وفي الوقت نفسه فإن علم المعرفة المعولم هو تماما بعكس علم معرفة الشرق، حيث يرى العالم هو فقط عالماً واحداً بثقافة ومدنية واحدة، وفي واقع الأمر فإن علم المعرفة المعولم أزال طرف «الآخر»و«الغير» الذي كان موجودا في وجهة نظر الاستشراق، وقام بضمه وإذابته داخل «الأنا»، فصار كل الكون مغطى تحت ظل الأنا، وبتعبير البروفسور برنر:

«العولمة نزعت عن مباحث الشرق والغرب في الاستشراق صفة الأهمية، ومنذ القرن 17 وما بعد، فإن الاستشراق قام بطرح مفهوم عميق «للآخر» في ما يخص الثقافات المختلفة. مفهوم «الآخر» وضع حجر الأساس لمشروع علم الإنسان داخل مجتمع تقليدي، وتجربة «الآخر» الاستعمارية، كانت مسألة بالغة الأهمية في ما يخص مبدأ الوجود الكبير، فالله أعطى كلّاً من الحيوان والإنسان مرتبة بعينها، وإذا أخذنا بعين الاعتبار عولمة العالم وظهور سياسات متعددة الثقافات كطابع هام في كل الأنظمة السياسية، فإن مفهوم العالم الغريب لن يكون له البقاء أكثر لأن معنى «الآخر» قد تم تحويله إلى مستوى محلي»[12].

يقول أحد الكتاب المعاصرين: «نقد ما بعد الحداثة البنّاء، ليس هجوما بنيانيا خارجيا، أو حركة تحطيم الأسس داخليا وهدم عمارة بديعة المنظر، بل النّقد البنّاء هو تشييد بناء تكون أدق نسائجه مَحُوكة فقط من حطام  البناء القديم، وبناء على ذلك فإن البحث هنا ليس في مسألة الإطاحة بمشروع حديث وحذف وطرد الراديكالية «النظام الصدقي» الماضية، وتعريف ما هو بمثابة «الآخر» على أنه مختلف، بل حول مناظرة عن تخريب أي شكل من أشكال المركزية، والنظرة الازدواجية، وشفافية الهوية، وتسلسل مستويات القيمة، لذا فليس متوقعا أن يكون أصحاب ما بعد الحداثة أولا قد أغلقوا مساحة حوارهم خارج حدود خطاب الغرب والحداثة المتسع (كقاعدة معرفية للاستشراق)، وثانيا النجاح في ترسيخ «الهوامش» و«الآخر» بدلا من «المتن» و«الأنا» أو على الأقل تحديد تعريف خاص بهم، إن خطابات ما بعد الحداثة القليلة هي نتيجة لمعرفة مرحلة أخرى من الحياة وتحول الفكر في البلاد الغربية، وبمعنى آخر، فإن ما بعد الحداثة وليدة ل«الأنا»، وتختلف تماما عن خطابات أو نظريات المباني الأخرى، «النظام الصدقي»، وكلمات «الآخر الخارجي» النهائية، حيث إن خطاب هؤلاء هو في أغلبه يشتمل على «الآخر الداخلي» ورسالة تحرر للمهمشين من البشر والمطرودين، وبعبارة أخرى، إذا وافقنا قول فوكو من أنه لا يمكن وجود تحليل دونما خطاب محدد، وإذا أخذنا بالاعتبار طبيعة عالم الحداثة... فإنه وبالطبع سيتبع ذلك قبولنا بأن تحليلات ما بعد الحداثة والعولمة أيضا ليست بمستثناة من تلك القاعدة، وإمكانية التحرر الكامل غير ممكنة من بناء خطاب الغرب والاستشراق غير الصحيحين».

فوكو ومسألة السلطة المعاصرة:

ميشيل فوكو[13] (1926 ـ 1984) فيلسوف فرنسي معاصر، درس مسألة السلطة في عصر ما بعد الحداثة وتفاوتها في العصور الماضية، ولقد أثبت ببراعة أن السلطة والاستعمار المعاصر يجري بشكل متسع ومخفي ومن داخل العلوم الإنسانية، ولعل أهم الإنجازات العلمية التي قدمها فوكو هي «تحليل علاقات القوة والمعرفة»، فهو في تحليله هذا تأثر بلا شك بأفكار ماركس وفرويد ونيتشة، ماركس في مشروع «علاقة الأفكار بالقوة» وفرويد في مشروع «اتصال الرغبة والمعرفة ونيتشة في مشروع «العلاقة في ما بين العلم والإرادة المتوافقة مع القوة»، وكل هذا هيأ لفوكو الجوّ المناسب ليثور على الحداثة.

إن آثار فوكو تنقسم من حيث محتواها إلى ثلاثة أقسام: قسم تأثر بهرمنطيقيا هايد التي بلغت أوجها في كتاب «تاريخ الجنون»، وقسم مرتبط بعلم الآثار المعرفي الذي يحتوي على تحليل شبه بنيوي أو نصف بنيوي، وغالبا ما يتجلى في كتاب «تكوين المستوصف1963»، «الألفاظ والأشياء: نظام الأشياء 1966»، و«علم الآثار المعرفي1969»، وقسم مرتبط بعلم السلالات الذي يتعرض لمسألة العلاقة في ما بين الكلام والمعرفة من جهة، والقوة من جهة أخرى، وتتضح أيضا في كتاب «العناية والعقاب»المجلد الأول «تاريخ الأجناس» و«نيتشه: علم السلالات والتاريخ» 1971. إن دافع فوكو الأساسي في هذا القسم هو في التساؤل عن كيفية الوصول إلى العقلانيات الخاصة، العقلانيات المبنيّة على علاقات القوة والعلم فيما تحوّل البشر فيها إلى وسائل. إن أهم نقطة وصل إليها فوكو في هذا السياق هي أن نفس العلوم الإنسانية والاجتماعية قد أصبحت جزءا من عملية القوة وعلاقات إرساء أو ترسيخ السلطة فوق الإنسان، وعلم السلالات يشير إلى كيفية تحكم الإنسان بنفسه وبغيره عن طريق تأسيس «كيانات الحقيقة»، وملخص وجهة نظر فوكو في ما يتصل بالعلوم الإنسانية والقوة والسلطة والذي وضعه في كتب مثل «علم السلالات»، هو كالتالي:

إن ما هو كامن في أصل علومنا وهوياتنا، ليس هو الحقيقة وإنما هو تنوع في المجريات، فما يُظن بأنه حفظ  علم السلالات متكاملا، قد جعله متبعثرا وأظهر عكس ما كان يبدو بأنه متقارن فيه. إن علم السلالات بتحليله للسلالات التاريخية ينفي الاستمرارية عنها وبالعكس فهو يكشف عن عدم ثبات وتعقيد وتعدد الاحتمالات الموجودة حول الأحداث التاريخية، فالإنسان يظهر في التاريخ بإطلالات مختلفة، وعلم السلالات يقوم بتحليل هذه الاحتمالات وتلك، وبشكل أكثر عمومية، فإن أي لحظة من التاريخ ليست بإثبات لحوادث الماضي ولا مرحلة في خط يتكامل، وإنما هي لحظة خاصة تشير إلى تعامل السلطة المحفوف بالخطر ومعركة القوى، وفقط من خلال هذا السبيل يمكن «لمجموعة من التيارات» بالمرور.

في علم السلالات لا يتبقى هنالك أي مكان للوسيلة التاريخية، لأن لا أحد يستطيع تحمل مسؤولية الإطلالات أو الظهورات المحتملة، والإنسان يصل من شكل معين في السلطة إلى شكل آخر، فالتاريخ أُسِّس وباستمرار على أشكال من السلطات والعنف في إطار من القانون، وبذلك فإن علم السلالات، تاريخ الظواهر، والأمور التي اُعتُبرت غير تاريخية تعود فتُظهر أن العلم ملتصق بالزمان والمكان.

إن طريقة علم السلالات تهدف إلى الكشف عن العوامل الكثيرة التي تؤثر في صنع الحوادث والتأكيد على عدم تشابه هذه العوامل في ما بينها، أي أن علم السلالات يتجنب فرض البنيوية مابعد التاريخية على تلك العوامل، وفوكو قام بالدعوة إلى نظرية «بناء الوقائع التاريخية»، فليس في التاريخ ما هو طارئ، ونتيجة لذلك يتم تحطيم البداهة الطارئة في أصل العلم وفي أعمالنا.

إن المعنى أو الأساس ليس كامنا في الأمور والأشياء، لكن الشيء الوحيد الظاهر والمستخدم هو طبقات من التعابير تتراكم فوق بعضها مشكلة الحقيقة والضرورة والبداهة، والإنسان من خلال خلقه للحقيقة والضرورة يلقي بحكمه على الآخرين، بينما ليس هنالك من وجود لأصل ومنشأ وحقيقة أي عالم شامل وغير مقيد بزمن، وبالتالي فليس هنالك من وجود لأي تقدم وترقٍّ، وفي هذه الحالة يصير من الممكن التحدث فقط عن نهاية السلطات والتبعات، وبهذا الشكل فمن الطبيعي انعدام وجود الانتماءات الكلية والمميزة كأساس وأصل ثابت، حتى نفس جثمان الإنسان يصير تابعا للتاريخ ومن خلال نظام العمل والاستراحة يتلاشى، وبناء على ذلك فإن موضوع علم السلالات ليس سير التاريخ ولا نوايا الوسائل التاريخية، بل هو الوقائع والأجزاء الناتجة عن المنازعات، وتعاملات القوى وروابط القوة، ولذا فالعلم والمعرفة أيضا ليسا سوى نظرة تاريخية فحسب.

العلم والمعرفة لا يقدران على التملُّص من أصلهما التجريبي ليتحولا إلى التفكّر الخالص الصافي، بل تم تلقيهما ضمن روابط عميقة مع القوة وبالتوازي مع تقدم ترسيخ القوة، ففي أي مكان تبسط فيه القوة، يكون للمعرفة فرصة للظهور، وبناء على التّصورات الرائجة بين المثقفين، فإن المعرفة يمكنها النمو فقط في حال توقفت علاقات القوة، ولكن من وجهة نظر فوكو، فإنه لا يمكن تصوّر قيام أي علاقة قوة دون تشكل ميدان معرفي وبالمقابل فليس هنالك أي معرفة لا تدخل في تركيب علاقات القوة، وتعريف الوسائل وكذا تعريف المنهج هي من آثار ونتائج العلاقات الأساسية القائمة في ما بين المعرفة والقوة والتغييرات التاريخية فيهما.

إن القوة عادة ما يتم إجراؤها بصورة غير مستقيمة داخل المجتمع الحديث، وبعيدا عن سبل الإجبار، فالكثير من العلاقات التي تبدو عقلية ومشروعة وتمتلك دليلا لوجودها هي في واقع الأمر دليل على إرادة القوة والسلطة، فإذاً لكي نستطيع النظر بوضوح إلى علاقات القوة، المتخفية تحت نقاب المشروعية والتوافق، يجب علينا التسلّح بوسيلة نظرية جديدة، فالأطر النظرية التقليدية ليس لها القدرة على تحليل أشكال القوة والسلطة الحديثة. إن المسألة المحورية في فلسفة هوبز والمفكرين اللذين جاؤوا من بعده كانت تعريف القوة والمشروعية أو رسم الحدود أمام القوة المشروعة، وبعبارة أخرى تعيين حقوق الفرد في مقابل سلطة الدولة، ففي أفكار هوبز القوة هي الإشراف وسلطة الفرد أو الجماعة من الأفراد على فرد أو جماعة أخرى من الأفراد، ويعد كل من الحق والقانون من المفاهيم الأساسية، إلا أن فوكو يعتبر أفكار هوبز مثالاً غيرَ ناضج كفاية لتوضيح معنى القوة في العالم الحديث، فهو يرى «أي فوكو» بأن ظهور القوة الحقيقي ليس نقضاً للحق وللقانون. في نظرية هوبز تعتبر القوة علاقة كَسِواها من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والجنسية والعائلية...إلخ، إلا أنها تختلف في ذات الوقت عن  هذه العلاقات أو الروابط. إلا أنه في نظرية فوكو لعلم السلالات فالعكس هو الصحيح حيث إن القوة جزء لا يتجزأ عن العلاقات الأخرى، بل وهي قسم نابع من باطن تلك العلاقات.

إن القوة في النظام التقليدي  كانت تنفَّذ بصورة إجبارية، تقيّد سلوك الأفراد، بينما في النظام الجديد، فإن السلوك المطلوب من الفرد هو نفس السلوك «الطبيعي والعادي» وفقا لما خلق عليه، وفي نظرية هوبز وخلافا لرأي فوكو، فإن إجراء القوة أو القدرة كان عن وعي  ومعرفة على الدوام، وإضافة إلى هذا فإنه في هذه النظرية، تصدر القوة أو يتم تطبيقها من قبل فرد أو جماعة معينة، وبالتالي فإنه وعلى الدوام يمكن أن نجد منشأ ومنبع القوة في مكان ما، ولكن وبحسب تعبير فوكو، فالقوة لا يتم إعمالها من جهة أفراد معينين، وهي مجموعة معقدة وشبكة متداخلة من العلاقات، ولأن جميع الأفراد في هذه الشبكة يعدّون شركاء ومساهمين في إعمال القوة، فإن نظرية القائد والتابع لم تصل بعد إلى الدرجة الكافية من النّضوج كي تلمّ بمعنى ظاهرة القوة الجديدة.

إن المجتمع دونما علاقات قوة، يصبح مجردا وغير ممكن الوجود، لسبب هو أن الحياة في المجتمع ليست سوى تأثيرات في أفعال الآخرين والقوة هي ميزة ذاتية في كل علاقة اجتماعية، وبعبارة أكثر دقة فإن صفة الاجتماعي في أفعال البشر تأخذ معناها من القدرة في التأثير على الآخرين أو التأثر بهم، وبناء على ما سبق فإنه فقط الأفعال التي ليس لها تأثير على الآخرين أو الأفعال غير المتأثرة بالآخرين، فقط هذه الأفعال يمكن إخراجها من دائرة علاقات القوة ـ  أي ما يمكن أن يسمى في نهاية الأمر بالأفعال غير الاجتماعية ـ .

القوة تحضر في كل العلاقات الإنسانية، وضمن هذه العلاقات يسعى طرف لترويض الطرف الآخر وإخضاعه تحت أمره، إلا أن هذه العلاقات ليست بالثابتة إلى الأبد بل هي قابلة للتغيّر والتحوّل، فإذاً علاقة القوة أيضا قابلة للتغيّر وتحوّل الأطراف فيها، وهي تعطي كُلًّا من الطرفين قدرا من الحرية فإذا ما اختلّ تعادلهما بشكل كلي فإن أحد الطرفين يستطيع فرض قدرته على الآخر في حال واحدة هي إمكانية أن يقوم الطرف الثاني على الأقل بقتل نفسه أو أن يرمي نفسه من النافذة أو أن يقتل الطرف الأول، وهذا يعني وجود مساحة من القدرة على المقاومة داخل علاقات القوة. فإذاً يمكن أن نجيب على من يدّعي بأن وجود القوة ينفي وجود الحرية، بأنه وبدليل ما سبق قوله فإن وجود القوة في كل مكان يعني وبالتأكيد وجود الحرية أيضا في كل مكان، مع التأكيد كذلك على وجود السلطة، وكذا فالقوة في ذاتها وجوهرها ليست شرا اجتماعيا، وتطبيق القوة على الآخرين ليس بأمر يمكن انتقاده أو رفضه، ولكن بشرط أن تكون العملية بصورة «لعبة استراتيجية» أي علاقة هلامية يكون فيها تعيين الشخص في مكانته بتصميم مسبق ودون أن يكون له الثبات في هذا الموقع، وأن يكون لكلا الطرفين القدرة على قلب المواقع.

الاستعمار المعاصر والتكنولوجيا المخفية:

إحدى مميزات الاستعمار المعاصر هي أنه لا يكتفي فقط باستخدام كل التكنولوجيا التي كانت في خدمة الاستعمار الحديث، والتي استفاد منها في تحقيق أهدافه، بل ويقوم «الاستعمار المعاصر» بتطويرها وتركيب أنواع أكثر حداثة منها، أنواع مميزة تجاوزت التكنولوجيا الخاصة، حيث يكتب نيل بستمان عن هذا النوع:

«قسم من التكنولوجيا تظهر تحت النقاب، وهي ما يطلق عليها راديرد كيبلينغ[14] اسم التكنولوجيا الساكنة. إنها في ظاهرها لا تشابه أحد التكنولوجيات الأخرى أو تماثلها، وهذه الحقيقة لا يمكن التحقق من صدقها من خلال اختبارات الذكاء، وفحص الأفكار، أو المسح العام وباقي الوسائل التي تخضع لدرجة من الضبط أو التقنين، بل يمكن إثبات صدقها من خلال البطاقات المصرفية، وطرق وصول المحاسبة واختبارات الكفاءة وتعيين القدرات، فمثلا في مجال التعليم وضمن حقل الدراسات الأكاديمية، تعتبر اصطلاحات من نوع الوحدة الدراسية والدورات الأكاديمية نوعا من التكنولوجيا التعليمية، والمهم هنا أن السبب وراء نظام الوحدات هذا يبقى مخفيا[15].

لقد ساعدت التكنولوجيا الساكنة المتخفية الاستعمار المعاصر على الذهاب بظاهرة الاستعمار نحو البرمجيات والحاسوب، ويشرح نيل بستمان هذه التكنولوجيا الساكنة والمتخفية وفقا لما يلي:

تكنولوجيا اللغة:

لا تكسبنا اللغة معرفة أنّ لكل شيء اسماً فحسب، بل وتوضّح لنا ما هي الأشياء التي لديها قابلية إطلاق اسم عليها. هذه اللغة تقسم لنا العالم إلى مقولتين: الأولى عينية والأخرى ذهنية، وتعلن أمامنا بأنّ هنالك وقائع يمكن النظر إليها على أنها عملية ووقائع أخرى على أنها شيئية. وهذه اللغة كذلك تعلمنا عن الزمان والمكان والأعداد، وتهب أفكارنا عن طبيعة روابطنا مع الآخرين شكلا معينا، فحياتنا تدور في حدود اللغة وإمكان الاستفادة منها والتلاعب بالكلمات، ونحن لا نستطيع أبدا تصور شكل العالم الذي يحيا فيه أناس آخرون غيرنا ويتكلمون لغة مختلفة، لأننا غالبا ما نتخيّل بأن الكل في هذا العالم يرون ويفترضون كما نفعل نحن، وفي هذا المجال فإنه من النادر جدا التوجه إلى هذه الاختلافات أو التساؤل عن هذا الافتراض المقصود.

كل لغة تمتلك لنفسها مجالا وميدانا خاصا بها، وبسبب التفاوت في الإمكانيات وفي البناء اللغوي في ما بين لغتين، فمن البديهي وجود الاختلاف في ما بين اللغتين على صعيد وجهات النظر ومستويات فهم العالم، وفقط أولئك المطلعون على كلا اللغتين وتاريخهما يستكشفون مثل تلك الاختلافات[16]، فإذا اللغة، قياسا بالوسائل والأدوات الأخرى، تعتبر أداة تمتلك أيديولوجيا خاصة في توجيه الأمور حيث غالبا ما تحفظ نفسها منفصلة عنا، وهذا التوجيه عندما يتصل بموضوع اللغة، فإنه ينغرس عميقا في شخصياتنا وطريقة تلقينا للعالم إلى درجة يصبح من الصعب معها التعرف إلى هيكل التوجيه البنائي دون الخضوع لتعليم خاص في هذا المجال. وبعكس التلفزيون والحاسوب، فإن اللغة لا تظهر على أنها نوع من الترقي أو التوسع في قدراتها، بل تعتبر جزءا طبيعيا مما نحن عليه، إلا أنه وفي أغلب الأحيان يمكن لجملة أن تلعب دورا هاما شبيها بما يمكن لآلة القيام به، وهذا بالضبط ما يمكن أن نراه وبوضوح كامل في استمارات الجمل التي نسميها الأسئلة، وأكثر من أي مكان آخر.

فمثلا أغلب طلاب الجامعات يبدون على مستوى عال من الفهم عندما يجيبون عن الأسئلة المحدودة بعدة إجابات، إلا أن الأمر يختلف مع الأسئلة التي تحتاج شرحا، حيث تتعلق إجابتنا فيما إذا كانت حيادية وموضوعية بنفس شكل السؤال الظاهري الذي إما يسهّل الإجابة أو يجعلها أكثر تعقيدا، فماذا لو قمنا بتغيير شكل السؤال قليلا ليتناسب ـ وفي ذات الوقت ـ  مع إجابتين مختلفتين، نظير ما قام به قسيسان اثنان، لم يكونا مطمئنين من إمكانية أن يقوم الفرد بالعبادة والتدخين في ذات الوقت، فقاما بإرسال سؤالهما إلى البابا ضمن رسالتين، حيث قام الأول بطرح سؤاله هكذا: هل يجوز للفرد في أثناء عبادته تدخين السيجار؟ فكان الجواب بالنفي، لأن العبد في حين عبادته يجب أن يحقق مسألة توجه العابد نحو معبوده، وأما الثاني فقد قام بطرح سؤاله هكذا، هل يجوز للفرد أثناء تدخين السيجار، القيام بالعبادة أيضا؟ وجاء الجواب نعم يمكن، حيث إنّ عبادة الخالق في أي وضع وحال أمر جيد. إنّ شكل السؤال قد يكون بحد ذاته مانعا من الوصول إلى حل صحيح للمسألة، فيكفي أن يتغير ظاهر السؤال المطروح حتى يأتي الجواب على شاكلة ما سبق[17].

في الاستعمار المعاصر تم الاستفادة وبأشكال مختلفة من هذه القدرة في اللغة: فمن جهة قامت الموازنة غير المنطقية في ما بين مزايا لغة الاستعمار كاللغة الإنكليزية ـ والتي تحولت إلى لغة عالمية، بسبب المدة الطويلة في بقاء الاستعمار ـ  وما بين مزايا لغات أخرى، وإثبات أن الإنكليزية هي الأفضل وهذه الأفضلية كانت تطال أيضا بقية الميادين المدنية الأخرى، وهذا في حال هو أن الموازنة العلمية في ما بين مزايا لغتين يجب أن يكون شاملا لكافة جوانبهما ـ  وليس فقط في المزايا الخاصة التي تتصف بها، ومثال ذلك:

لو فرضنا أننا نقبل رأي سوسومو تونكاواي الياباني المبني على أن اللغة الإنكليزية تتناسب وبصورة خاصة مع العلوم الحديثة، فإنه من الضروري طرح سؤال هو: هل يمكن للغة الإنكليزية أيضا الارتقاء في المجال الأدبي والوصول إلى المرتبة التي بلغتها الفارسية مثلا؟ أو هل يمكن لهذه اللغة أن توازي في المجالات القواعدية اللغة العربية؟وهل يمكن اعتبار ارتقاء الفارسية في المجال الأدبي دليلا على ارتقائها في جميع ميادين المزايا اللغوية وبالتالي تعميم هذه الأفضلية على كافة وجوده المدنية؟

تكنولوجيا اختبار الذكاء:

فرانسيس كالتون[18] (1822 ـ  1911) هو واضع علم الصحة الوراثية والأبحاث المعروفة المتعلقة بالصحة والوراثة، وهذا العلم يساعد الأبوين من خلال خطة جينية مدروسة لتوليد نسل أفضل. كالتون كان يعتقد بأن أفعال البشر وسلوكهم يمكن إخضاعها للقياس من خلال الطرق الإحصائية، حيث إنه استفاد من هذه الطريقة في اختبار على جميلات بريطانيا العظمى، وبيان كمي عن الملل وآثار العبادة، وأهم اختبار قام به كالتون  من خلال تطبيق هذه الطريقة هو اختبار أثر الوراثة في الذكاء، حيث قام في مختبر في معرض عالمي عام 1884، بحساب مستوى ذكاء الأفراد من خلال قياس حجم الرأس، مقابل دفع كل فرد لمبلغ مالي، وفي حال طالب أحدهم برد ماله ـ  مهما كانت درجة ذكائه ـ  فإنه لا يحصل على علامة تضاف إلى مستوى ذكائه، ووفقا لحسابات لؤيز ترمان[19]، فإن مستوى الذكاء لدى كل من كالتون، وشارلز داروين وكبرنيك هو وبالترتيب كالتالي 200، 235، 100!.

في كتاب «الإنسان الذي يقيس خطأ»، لكاتبه ستيفين جي غولد[20]، جاء أن أهم خطأ ارتكب في عملية اختبار الذكاء الإنساني هو في استخدام الطرق الإحصائية في قياس مَعَانٍ ذهنية مجردة كالذكاء والتعامل مع هذه الأمور وكأنها أشياء مادية ـ  يمكن قياسها بالأعداد وترتيبها وتعريفها، تورندايك[21]، هو الآخر يعد الذكاء الذي يتم قياسه ضمن طرق إحصائية وما ينتج عنه من نتائج وأفكار هو شيء غير معتبر على الإطلاق. ديفيد مك كلاند يكتب بمستوى أشد مرارة مايلي: «يجب أن يخجل علماء النفس من ترويجهم لمفهوم  هو الذكاء، والذي أوجدوا له خططا لاختباره أيضا». وكذا وايتسن باوم يعلن ما يلي: «إن تخيل إدراج الذكاء داخل جداول كمية لقياسه، يحمّل  المجتمع بأكمله خسائر غير مألوفة، خصوصا في المجالات المرتبطة بالتربية»، كذلك فإن هارولد كاردنر[22] أورد بعضا من هذه الإشكالات في كتابه «القوالب الذهنية».

والسؤال هنا هو: مع كل ما سبق ذكره من هذه الانتقادات الموجهة ضد النتائج المأخوذة من قياس الذكاء الإنساني وفقا للطرق الإحصائية، لِمَ لا تزال  هذه الإحصائيات هي الأساس الذي يتم بناءً عليه وضع الخطط الاجتماعية ـ السياسية؟

وأفضل جواب يمكن تقديمه أمام هذا السؤال هو غلبة المعادلات السياسية على المعادلات العلمية، ولذا فمن السهل تخمين ما سيطرأ على البرامج الاستعمارية من تفسيرات علمية في ما يتصل بالأفارقة والزنوج، فيما  لو خرج أحد هذه الأبحاث بإثبات ارتفاع مستوى الذكاء لدي الأفريقيين والآسيويين، على ذكاء الناس في أوروبا، رغم أن ذكاء الزنوج هو أقل من البيض.

تكنولوجيا اختبار الأفكار العامة:

اختبار الأفكار العامة هو نوع آخر من التكنولوجيات المخفية التي يبدو وكأنه أداة ضغط، تخدم الاستعمار المعاصر إلى أقصى حد ممكن، حيث إنهم ومن خلال الأسئلة الموجهة، والمجيبين  المنتخبين والنتائج الكاذبة وغير الواقعة، يقومون بمتابعة أهدافهم وتحقيقها، وهم يدّعون بأن التحقيقات في ما يخص الأفكار العامة يعطي الديمقراطية أساسا علميا، حيث إذا كان مرشحونا ممثلِين لنا، فإن من الضروري إطلاعهم على ما نعتقده وما نهدف إليه إلا أن المشكلة تكمن في ما يلي:

1) إجاباتنا تتعلق بشكل وظاهر الأسئلة التي تُطْرح علينا، فمثلا: إذا سألونا، هل ترضون بالاستمرار في تلويث البيئة الطبيعية؟ فإنه وبدون أدنى شك سنجيب بشكل مختلف تماما عما يمكن أن نردّ به عن سؤال هو: هل تظنون بأن أهمية المحيط الطبيعي تأتي في المرتبة الأولى؟ أو هل أمن الشارع أهم من الحفاظ على المحيط الطبيعي؟والأسئلة التي يقوم المنظمون بطرحها، عادة ما تكون محدودة في إجابتَيْ نعم أو لا، ومن الواضح أن هذه المحدودية لا يمكنها شمول كل أطياف الأفكار العامة، لأن المجال المتروك لأجل التعبير عن العقائد ضئيل جدا، فلا يمكن أبدا للإجابات المحدودة بنعم أو لا تبيين النقاط الهامة القيمة المستترة في عقائد الأفكار العامة. في مثل هكذا وضع، تتحول الأفكار العمومية إلى إجابات نعم أو لا على أسئلة غير واضحة أو مدروسة.

2) بناء على طريقة اختبار الأفكار، تصير العقيدة شيئا موجودا في باطن الإنسان، ويمكن لمنظمي أسئلة العقائد العامة التحقق منها وقياسها عند الحاجة من خلال الأسئلة، إلا أن هذا الافتراض يلقى انتقادا شديدا، فمثلا: جفرسون يعتقد بأن العقيدة والرأي ليسا بالشيء الآني، بل هما نتيجة تحصيل العلم بشكل متواصل، وتساؤل وبحث دائم وتبادل لوجهات النظر، فيمكن لسؤال واحد استثارة جواب معين أو إعطاء الإجابات أشكالا جديدة مختلفة، ولذا فالأصح أن نقول بأن العقيدة ليست بضاعة يمكن امتلاكها في وقت ما وفقدها في وقت آخر، والظن بأن العقيدة يمكن اعتبارها شيئا نستطيع قياسه، أمر يؤذي عملية الاعتقاد وأصل التفكّر الإنساني.

3) إن ظاهر وطريقة طرح الأسئلة في المسح الجماعي، تنفي عمليا ما يعرفه الناس عن أصل الموضوع الذي يتم السؤال عنه وكلياته، فإذا قمنا بالفصل في ما بين فكرتين هما «ما الذي يعتقده الناس بخصوص موضوع ما» وبين «ما يعرفه الناس عن موضوع ما»، فإن نتائج المسح ستختلف كليا، ومثال على ذلك: ما أظهره أحد المسوح الشاملة من أن 72% من الأمريكيين يعتقدون بوجوب قطع المساعدات الاقتصادية من طرف أميركا إلى نيكاراغوا، بينهم 28% يظنون بأن نيكاراغوا موجودة في آسيا الوسطى، و18% منهم يظنونها قريبة من نيوزلاند، و4.27% يعتقدون بأنه يتوجب على الأفارقة حل مشكلاتهم بأنفسهم (ويبدو هنا أن هؤلاء خلطوا بين نيكاراغوا ونيجيريا)، وإضافة إلى من سبق فإن 8.61% ممن طُرح عليهم السؤال لا يعرفون حتى بأن أميركا تقدّم المساعدات لنيكاراغوا، وأخيرا فإن 23% من المبحوثين لم يستطيعوا تحديد معنى المساعدات الاقتصادية أصلا!.

4) ورابع مشكلة في ما يخص موضوع اختبار الأفكار هو حقيقة أنه يقوم بتغيير موقع المسؤولية بين الناس والسياسيين الذين انتخبهم الناس، فبدلا من أن يقوم المنتخبَون بالتصميم واتخاذ القرارات بناء على مؤهلاتهم وتفكراتهم، وبالتالي يصبح كل منهم مسؤولا عن قراره، بدلا من هذا يتوجب عليهم التأمل في معطيات اختبارات الأفكار العامة في المسوح الشاملة، وبناء على ذلك يضحّون بخبراتهم الخاصة في قبالة ما يبدو أن الناس يريدونه في تلك النتائج[23] ، وفي هذه الحال، هل يترتب على ذلك تحميل المسؤولية للناس أم للمنتخَبين السياسيين في أمور قد قُررت مسبقا؟[24]

تكنولوجيا الإحصاء:

تكنولوجيا الإحصاء تقدم كميات مكثفة من المعلومات غير المفيدة أبدا والتي تجعل من مسألة تشخيص المفيد من غير ذلك أمرا أصعب مما هو عليه في الواقع، فالمسألة هنا ليست فقط في وفرة المعلومات بل أيضا تعميم المعلومات والمتاجرة بها بدوره يلعب دورا جعل المعلومات بأكملها تعرض متوازية ومترادفة. وفي عصر الاستعمار المعاصر الذي اتحد فيه كل من الحاسوب والإحصاء جنبا إلى جنب، فإن هنالك كميات هائلة من المعلومات المهملة كالنفايات والتي تسقط في المحاورات العامة[25].

حتى اليوم كثير من الكتب تناولت موضوع تأخر المسلمين بالدراسة والتحقيق، وهذا دون النظر إلى إشكالية أن قليلين هم من يعلمون أين تقع بالضبط نقطة «التقدم» لنحتسب على أساسها تأخر المسلمين، وقليلون جدا هم من يتوجهون إلى هذه المسألة، حيث يكفي أن يكون السبب ليس في قلة المعلومات لديهم، وإنما في كثرتها، فكثرة المعلومات تسلب الإنسان الفرصة اللازمة للتأمل والتدقيق، وبناء على هذا، يصعب اعتبار كثرة انتشار الكتب والمجلات مصداقا للنمو والتوسع.

إن النمو الكمي في هكذا نوع من المكتوبات ـ  والتي بمساعدة من علم الإحصاء يتم تقديمها للناس بطريقة منظمة في مجموعات مرتبة مسبقا ـ  طالما أنه لم يتحول إلى نمو كيفي، فإنه لن يكون فحسب علامة على عدم التقدّم بل وسيكون عين التأخر وتضاعف الجهل كذلك.

إن الإحصائيات في كثير من المواقع تقطع الطريق أمام التأمّل في حقيقة الأمور، وتكنولوجيا الإحصاء قامت بتحويل أغلب الأمور الكيفية إلى كمية، ولهذا السبب فإن فهم الأمر على ما هو عليه في الواقع صار أمرا بالغ الصعوبة، فهل حقا يمكن قياس أمور كالأخلاق والتبليغ الديني و... وتحويلها إلى أعداد وإحصائيات؟ وهل حقا يمكن قياس قدرات الطلاب من خلال الاختبارات المؤتمتة؟

النتيجة وطريق الحل:

1 ـ  الاستعمار ظاهرة تاريخية وليست مختصة فقط بالعصر الحديث، رغم أن الاستعمار في العصر الحديث هو أكثر تعقيدا بأضعاف مضاعفة عن الاستعمار ما قبل عصر الحداثة، وعلة ذلك في أنه وبناء على فلسفة التاريخ الدينية، فإن مجرى «الحق» هو مسير «استكمالي» ومجرى «الباطل» في مقابل جريان الحق، ذو مسير «متضخم ومعقد»، وحيث إن الاستعمار هو أحد مظاهر وممثلي مسير الباطل، فإنه يتأثر مجبورا بكل من التضخم والتورم، وإذا قبلنا أن الاتجاه العام في جميع مجاري الوجود هو مسير الحق وأن الباطل تابع لمسير الحق، فإنه يمكن وبجرأة القول بأن الاستعمار في جميع أشكاله وقبل أن يكون «فعلا» فانه «انفعال»، وهذا يتعلق طبعا بميزان قدرة المقاومة والتخريب، وبنفس الدرجة يمكن أن نجدَ الضعف في جبهة الحق. وبالتأسيس على ما سبق فان أفضل سبيل لمواجهة الاستعمار هو«الاتجاه الإيجابي نحو جبهة الحق» لتقوية الجبهة أكثر فأكثر، وليس بالضرورة تطبيق «الاتجاه السلبي نحو جبهة الباطل» بهدف تضعيفها[26].

2)- في أي شكل من الاستعمار، يكون السعي نحو تلقين المستعمَرين ثقافة مستعمِرهم، وبعبارة أخرى، فالاستعمار يريد تحقيق نوع من روح الخضوع وتنفيذ الأوامر في المستعمَرين، وبناء على ذلك فان المستعمِر في أشد وجوهه يعمل على مسخ المستعمَرين، وإفقادهم لروح الابتكار والإبداع، ومن هذه الناحية فإن أهم سبيل في مواجهة الاستعمار هو الاجتهاد للتحرر من قوانين المستعمِر وبهدف إيجاد وتقوية الإبداع والابتكار الخلاق.

3)- في الاستعمار المعاصر هنالك بؤرتان اثنتان تمثلان السند القوي للاستعمار وهما:

«المذهب» و«المنظمة الدولية»، فالمذهب يعطي الشرعية للاستعمار والمنظمة الدولية تعطيه القانونية. إن دخول الدين إلى محافل الاستعمار المعاصر وضمن مناسباته هو من أهم ما يتميز به الاستعمار المعاصر عن الاستعمار الحديث، فالاستفادة من عنصر المذهب في الاستعمار المعاصر يحقق إمكانية تشكيل ائتلاف أكبر وأكثر دواما وأهمية ومشروعية، وكثير من المشاريع المسيحية ـ اليهودية يتم تحقيقها حاليا من خلال المساندة المذهبية، فعلى الأقل يقدر على إيجاد جبهة مخالفة وبأفضل الطرق، حتى ضمن أفضل علاقات الصداقة في ما بين البلاد الإسلامية والغربية، فلا يمكن إزالة المواجهة الإسلامية ـ  المسيحية. ومن جهة أخرى، فان «المنظمة الدولية» تاريخيا تأسست بعد عهدين استعماريين هما القديم والحديث وبعد أن قامت الدول الاستعمارية بوضع يدها على كمية لا يُستهان بها من ثروات مستعمَراتها، والهدف من تأسيسها كان صحوة عامة الشعوب في مواجهة نهب ثرواتهم من قبل مستعمِريهم من طرف، ومن طرف آخر لإدامة خطط الاستعمار من مستعمراته ولكن بصورة قانونية. ويبدو أنه يجب مضاعفة الجهد من أجل تجديد هوية ومكانة كل من المذهب والمنظمة الدولية في سعيهما لإجراء برامجهما الاستعمارية، لأن هذا الأمر بدوره يسمح بإيجاد نوع من الصحوة والثقة الجماعية في شعوب الدول المستعمَرة وبالتالي يصعب على الاستعمار تطبيق خططه عليهم.

4)- ضمن عملية الاستعمار، تختفي يوما بعد آخر الأشكال القديمة من الاستعمار، فما يميز الاستعمار الحديث والمعاصر عن الأشكال القديمة منه، أنهما غير مباشرين، وخلافا لما يقال من أن الاستعمار المعاصر عاد من جديد بمساندة من وسائل الإعلام يقيم علاقة مباشرة مع المستعمَرين، يجب أن نقول بأن الاستعمار المعاصر وبالعكس استطاع وبمساعدة وسائل الإعلام إخفاء نفسه أكثر، حيث إنه صار يعرض نوعا من الحرية والمساواة الكاذبتين أمام عيون الشعوب التي لم تنل حظا وافرا منهما، كما أنه استطاع الترويج لاتجاه معنوي مرتبط مباشرة مع خطط الاستعمار وعلى اتصال بالمعنويات الإنسانية الباطنية، بين الناس في كل أنحاء الدنيا وإجبارهم على تقبلها، وللحديث تتمة...

--------------------------------------

[1]*ـ عالم دين وأستاذ العلوم السياسية في جامعة باقر العلوم – قم، ورئيس مؤسسة (فتوح انديشه) للدراسات والتحقيقات الإسلامية – قم.

[2] - من وجهة نظر فوكو، في كل علاقة اجتماعية هنالك علاقة قوة، ولكن كل علاقة قوة ليست بالضرورة دليلا على وجود السلطة، والسلطة خاصة بالمواقع التي تكون علاقة القوة فيها ثابتة وغير متغيرة وذات شكل هرمي ومحرومة من الحرية تقريبا. إذاً فوجود أو عدم وجود السلطة يرتبط بدرجة اللين داخل علاقة القوة. أحد الأمثلة التي يطرحها فوكو لتوضيح الفارق ما بين القوة والسلطة هو مكانة النساء في القرنين 18و19 داخل المجتمعات الغربية، حيث في ذلك الزمان لم يكن أمام المرأة الكثير لتختار، فإما أن تخدع زوجها، أو تسرق ماله، أو تمتنع عن الخضوع له، ولكن رغم ذلك فإن هذه الخيارات لم تكن لتعطي المرأة إمكانية قلب علاقة القوة لصالحها، وفي نهاية الأمر  (ورغم هذه الخيارات)كانت النساء تحت السلطة. 

[3]- شاهرخ حقيقي، أكثر من المدنية،  (طهران:ط1، 1379)ص 195 ـ 196 .

[4]- في عصرنا الحالي، تحدث ميشيل فوكو عن وجود علاقة خاصة ما بين القوة والعلم، فهو في كتابه علم دراسة الأنساب يقول:«العلم قوة» ولكنه لم يقصد بذلك أن العلم يولد القوة أو انه عند حصولنا على العلم أولا فان هذا العلم يصبح وسيلة لاجراء القوة، ولكنه أراد القول بأن العلم يوضح لنا علاقات القوة وأنه يتجلى العلم في علاقات القوة بشكل أساسي، وبهذا المعنى فلا يمكن لنا الفصل ما بين العلم والقوة وبالتالي دراسة أحدهما دون الآخر.

ر.ك: أكثر من المدنية، ص199

[5] - رضا داوودي، «وهم الانتشار العلمي عن طريق زيادة المقالات في فهرست ال ISI «مجلة إيران، بتاريخ 21/5/1386 (صفحة الثقافة والفكر).

[6]- راجع: إدوارد برمن، التحكم بالثقافة، ترجمة حميد الياسي، (تهران:ني، ط 3، 1373).

[7]- رضا داوودي اردكاني، رسالة في باب التقليدي والتجدد،  (طهران: ساقي، ط 1، 1384)، ص 96 ـ 97.

[8]- إشارة إلى رسالة نيتشه «موت الإله».

[9]- بيترال بركر، نهاية العلمانية ترجمة افشار اميري، ( طهران، بنكان، ط1، 1380) ص 9 ـ 10.

[10] - رضا هلال وعلي حجتي، المسيحية والصهيونية والمؤسسين الامريكيين، قم، اديان، ط1، 1383) ص 23 ـ 25.

[11]- أحد الكتاب المعاصرين في هذا المجال يكتب:

أصحاب ما بعد الحداثة يعتقدون بأن مقولات الاستشراق قد خالطتها معانٍ دخيلةٌ، وبناء على ذلك فإنه وخلال عمليات التبادل الثقافي ما بين الثقافات غالبا ما تكون الأمور الحاصلة غير حقيقية وبعيدة عن المطلوب، بحيث تشابهه فحسب، لذا فما هو مطروح في لم الشرق منفصل وبعيد عن الشرق ذاته والقول بأن الشرق ذو معنى مفيد هو أكثر إفادة للغرب منه للشرق، وهكذا فهنالك علاقة ما بين «الاستعراض الجديد» والاستعمار، وبالرغم من النواقص والمحدوديات، فانه لا شك بأن كلا من ما بعد الحداثة والعولمة قد أوقعا أسس الاستشراق النظرية والمعرفية في تحدٍّ صعب، وبمفاهيمهما المختلفة يعكسان رواية مختلفة عن علاقات «الأنا» و«الآخر» و«الغرب» «والشرق» والتي من خلالها يمكن لأصحاب تلك الثقافة والهوية إعادة استعراض دقيق لحقيقة الثقافة والهوية.

محمد رضا تاجيك في مقدمة: برايان ترنر «الاستشراق، ما بعد الحداثة والعولمة»، ترجمة محمد رضا تاجيك، (طهران: مركز الأبحاث الاستراتيجية، ط1، 1381) ص22.

[12] «الاستشراق، مابعد الحداثة والعولمة» ص 298 ـ 299.

[13]- في عام 1948 نال شهادة في الفلسفة من جامعة السروبون وفي عقد 1950 ومن ذات الجامعة حصل على شهادة علم النفس ودبلوم في الباثالوجيا وكما أنه أخذ شهادة الدكتوراه في جامعة هامبورغ لكتابته رسالة في باب الجنون، وفي عام 1963 صار أستاذا في جامعة كلرمون الفرنسية وعلاوة على تدريسه للفلسفة فقد قام بتدريس تاريخ نظم الأفكار، التاريخ، العلوم السياسية وعلم الاجتماع، وكثير ممن تناولوا آثاره بالشرح يعتقدون بأنه لا يمكن جدولة أفكاره ضمن فروع العلوم الاجتماعية، ومن هذه الجهة، اعتبر  فوكو ابنا غير مباشر للبنيوية، ولعلم آثار الثقافة الغربية، والعبثية والضياع في العلوم الاجتماعية، ولعل ما يختلف به فوكو عن غيره من علماء الاجتماع هو من حيث إنه ينظر إلى العلوم الاجتماعية من الخارج وليس من داخلها ويستخدم مفاهيم وعبارات ليست رائجة كمفاهيم مستخدمة في علوم الاجتماع.

[14] - Rudyard Kipling.

[15] - نيل بستمان، «التكنو بوليا، تسليم الثقافة إلى التكنولوجيا» ترجمة صادق طباطبائي،  (طهران، اطلاعات، ط2، 1375) ص221.

[16]- على سبيل المثال قبل عدة سنوات، قامت صحيفة يومي يوري (Yomiuri) اليابانية بنقل نظرية سوسومو تونكاوا Susumn Tonegawa الفائز بجائزة نوبل لعام 1987، والنظرية هي أن: اللغة اليابانية لا تمتلك القدرة والوضوح الكافيين لعرض الأبحاث العلمية والتحقيقية، صاحب النظرية ـ الذي يحمل صفة أستاذ تكنولوجيا الماسوجوست ـ خاطب  مواطنيه قائلا بأنه يجب علينا السعي من أجل تغيير العملية الفكرية لدينا في مجال العلم وهذا ما يمكن تحقيقه من خلال استخدام اللغة الإنكليزية، ويجب التنبه إلى أنه لا يريد توصيف الإنكليزية على أنها تتفوق على اليابانية، بل يقصد بأنّ هذه اللغة أنسب من أجل تحقيق الأهداف العلمية، بمعنى أن هذه اللغة وسائر اللغات الغربية تمتلك بعض الاتجاهات الأيديولوجية التي تفتقدها اليابانية.

[17]- تكنوبولي، ص 199  ـ 203.

[18]- Francis Galton.

[19] - Lewis Terman.

[20] - Stephen Jey Gould.

[21] - Thorndike .E.L.

[22] - Howard Gardner.

[23]- منتج أحد البرامج التلفزيونية وبالاستناد إلى نتائج الإحصائيات  يقوم بإدارة البرنامج معتبرا مستوي المشاهدة هو المؤشر على نجاح البرنامج، فاليوم البرامج الأفضل هي البرامج البسيطة، التي تجذب نسبة أعلى من المشاهدين، وأما البرنامج السيئ فهو الذي يشاهده عدد أقل من المشاهدين، وبالنتيجة فان أقصى ما يمكن أن يهتم به المنتجون هو قدرتهم على جذب الملايين لمشاهده برامجهم وبالتالي فليس على المنتج الاهتمام بأمور من مثل (السنن والآداب ومؤشرات علم الجمال والمسائل المرتبطة بوضوح الموضوعات المتنوعة، ورعاية الأذواق والقدرات وما إلى ذلك، وتصير الأفكار العامة هي طرف الخيط الذي يمكن من خلاله الوصول إلى المطلوب وتكون المعيار الوحيد الكافي في هذه البرامج.

[24]-  راجع: تكنوبولي، ص 212 ـ  219.

[25]- تكنوبولي، ص219.

[26]- طبعا فإنه يجب الانتباه إلى أن  التداخل الشديد بين السلب والإيجاب لا يسمح بالفصل بينهما، والمقصود من الاتجاه الإيجابي نحو الحق والاتجاه السلبي نحو الباطل، هو وصفهم بالأصالة، حيث يمكن في باطن الاتجاه الإيجابي، إعمال السلبي وبالعكس، فإذا ما كان اتجاهٌ ما إيجابيا فإنه يمكن ومن خلال توضيح وتبيين السلبي إيضاح وإظهار الإيجابي، وكذا فان الاتجاه السلبي يمكن تبيينه من خلال اظهار وتوضيح الاتجاه السلبي بما فيه من وجوه إيجابية يمكن البحث فيها.