الباحث : أحمد عبد الحليم عطية
اسم المجلة : الاستغراب
العدد : 12
السنة : السنة الرابعة - صيف 2018 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث : July / 22 / 2018
عدد زيارات البحث : 4213
يجري الباحث المصري البروفسور أحمد عبد الحليم عطية قراءة إبستمولوجية للعلاقة بين مفهومين متصلين ببعضهما اتصالاً وطيداً في الثقافة الغربية، هما:
مفهوم ما بعد الكولونيالية ومفهوم ما بعد الحداثة.
وانطلاقاً من التأسيس النظري لهذه العلاقة يقوم الباحث بتطبيق هذا التأصيل النظري على تجربة الاستعمار الفرنسي للجزائر.
المحرر
-----------------------------
حين كتب سارتر كتابه «عارنا في الجزائر» كان يكشف عن صورة من صور وأشكال العنف والتعذيب وإهدار المستعمر الفرنسي كرامة الإنسان الجزائري؛ ما يتنافى وصورة فرنسا الحرة[1]. ويبدو لنا أن الثورة الجزائرية كان لها دورٌ في التحول في فلسفة سارتر من المرحلة الفرديّة العدميّة التي يمثلها «الوجود والعدم» والتي تظهر فيها النظرة الاستبعادية العدائية للآخر إلى مرحلة جديدة تقربه من الماركسية، يهتم فيها كثيراً بالآخر عنينا بها مرحلة «نقد العقل الجدلي». وأما كتاباته التي تدين ممارسات الاستعمار الفرنسي في الجزائر فإنها تعد مثالا من أمثلة عديدة عن دور المثقفين والفلاسفة الفرنسيين في ما يتعلّق بالثورة الجزائرية.
لم يقتصر دور حركة التحرير على كتابات التنديد بالاستعمار والدفاع عن حق الشعب الجزائري وهويته وكرامته، بل مثلت دوراً هامّاً في وجدان وفكر كثير من المفكرين والفلاسفة الذين ارتبطوا بوطنهم، وهو الأمر الذي نجده على نحوين: تشكيل الوجدان وبلورة الرؤية الفلسفية. فإلى أي مدى أسهمت ثورة الجزائر وحياة وعمل الكتّاب والفلاسفة الفرنسيين بها في تشكيل رؤاهم الفلسفية؟
يؤكد الجزائري محمد حصحاص في دراسته «نظرية ما بعد الاستعمارية ومخلفاتها الفكرية في عصر ما بعد الحداثة وما بعد العلمانية» أن الفلاسفة والمنظرين الجدد يرون أن نظرية ما بعد الاستعمارية هي التي أسست لفكرة ما بعد الحداثة، لأنها هي التي تتجرأ الآن وتطرح الأسئلة الفلسفية الكبرى وتحاول تفكيك الإيديولوجيات الطاغية، لذلك فهي من نظّرت ولا تزال لمجتمع ما بعد حداثي، مجتمع وعالم ربما مختلف عن المجتمع الحداثي الحالي الذي نظّر له وبناه الغرب.
يؤكد لنا بارت مور-جيلبرت في كتابه «ما بعد الاستعمار: السياقات، الممارسات، السياسات»؛ على العلاقة بين نظرية ما بعد الاستعمارية وما بعد الحداثة، يقول: «يعرّف كتابي هذا نظرية ما بعد الاستعمارية باعتبارها عملا شكّله في المقام الأول -أو لنقل إلى درجة كبيرة ـ انتماءاتٌ منهجيةٌ تنتسب إلى النظرية الفرنسية العليا، لا سيّما كل من جاك ديريدا (Jacques Derrida) وجاك لاكان (Jacques (Lacan وميشيل فوكو (Foucault). ويعني هذا «تسلل» النظرية الفرنسية العليا إلى تحليل ما بعد الاستعمارية الذي ربما ولّد أكثر المناقشات الراهنة سخونةً، وإثارة للتطرّف، سواء بالقبول أو الرفض».
معنى ذلك أن الخطاب ما بعد الاستعماري يعتمد بشكل رئيسي على وحدة المعرفة وعلاقات القوة وترابط الاثنين بشكل وثيق. فقد كان ميشال فوكو من أوائل المفكرين الذين وضعوا بشكل متكامل ومترابط أسس هذه النظرية المعرفية، رغم أن بذورها كانت موجودة في طروحات مفكرين سابقين، فهي تنفي ثنائية المعرفة والسلطة وتربطهما معاً في مفهوم واحد. إذا ً يعتبر مفكرو الخطاب ما بعد الاستعماري، أن تشكيل المنظومة المعرفية الغربية حول المستَعمَر أساسه علاقات القوة داخل مجتمع الدول الاستعمارية. ومن هذا المنطلق يقوم هذا الخطاب على فكرة أن القوى الاستعمارية قامت بتعريف وتحديد ماهية الدول المستعمَرة أي «الآخر» وفقا ً لمنظومتها المعرفية وخدمة لأهدافها الاستعمارية. لذلك عرّف المستعمِر «الآخر» على أنه غير حداثي، غير ديموقراطي، بربري، وإلى ما هنالك من صفات مناقضة لقيمه المجتمعية بغية تبرير الاستعمار، باعتباره عملاً تنويريّاً تجاه السكان الأصليين، في حين أنه يهدف من صميمه إلى تبرير جرائمه واستغلال موارد وثروات الدول المستعمرة.
كما يعتمد خطاب ما بعد الاستعمارية على التفكيكية في قراءة النصوص التي تشكل الركن الأساس في تعريف «الآخر» بغية التمهيد لإخضاعه للسيطرة. وفي هذا الإطار يبرز عمل سعيد الاستشراقي في أنه يقوم بدراسة جيولوجية للمؤلفات الغربية حول الشرق منذ القرن الثامن عشر والتي أدت بحسب سعيد إلى وضع الإطار النظري للاستعمار.
تعد نظرية ما بعد الاستعمارية، كما كتب جميل حمداوي، من أهم النظريات النقدية التي رافقت مرحلة ما بعد الحداثة، ولا سيما أن هذه النظرية ظهرت بعد سيطرة البنيوية على الحقل الثقافي الغربي، وبعد أن هيمنت الميثولوجيا البيضاء على الفكر العالمي، وأصبح الغرب مصدر العلم والمعرفة والإبداع، وموطن النظريات والمناهج العلمية، ومن ثم فهو المركز، وفي المقابل، تشكل الدول المستعمرة المحيط التابع على حد تعبير الاقتصادي المصري سمير أمين. ويعني هذا أن نظرية ما بعد الاستعمارية تعمل على فضح الإيديولوجيات الغربية، وتقويض مقولاتها المركزية على غرار منهجية التقويض التي تسلح بها الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا (J.Derrida)، لتعرية الثقافة المركزية الغربية، ونسف أسسها الميتافيزيقية والبنيوية. وإن أكثر: «اهتمام ذي صلة في فكر ما بعد الاستعمار هو تهميش الثقافة الغربية وقيمها للثقافات المختلفة الأخرى. وقد ظهرت هذه النظرية حديثا مرافقة لنظرية ما بعد الحداثة، وبالضبط في سنوات الستين والسبعين إلى غاية سنوات التسعين من القرن العشرين.
وقد طرحت نظرية ما بعد الاستعمارية مجموعة من الإشكاليات الجوهرية التي تتعرض لعلاقة الأنا بالآخر، أو علاقة الشرق بالغرب، أو علاقة الهامش بالمركز، أو علاقة المستعمر بالشعوب المستعمرة الضعيفة، يذكر منها جميل حمداوي: «كيف أثرت تجربة الاستعمار على هؤلاء الذين استُعمِروا من ناحية، وأولئك الذين قاموا بالاستعمار من ناحية أخرى؟ كيف تمكنت القوى الاستعمارية من التحكم في هذه المساحة الواسعة من العالم غير الغربي؟ ما الآثار التي تركها التعليم الاستعماري والعلم والتكنولوجيا الاستعمارية في مجتمعات ما بعد الاستعمار؟ وكيف أثرت النزعة الاستعمارية؟ كيف أثر التعليم الاستعماري واللغة المستعمرة على ثقافة المستعمرات وهويتها؟ كيف أدى العلم الغربي والتكنولوجيا والطب الغربي إلى الهيمنة على أنظمة المعرفة التي كانت قائمة؟ وما أشكال الهوية ما بعد الاستعمارية التي ظهرت بعد رحيل المستعمر؟ إلى أي مدى كان التشكل بعيدًا عن التأثير الاستعماري ممكنًا؟ هل تركز الصياغات الغربية لما بعد الاستعمارية على فكرة التهجين أكثر مما تركز على الوقائع الفعلية؟
الإشكالية أن هذا المصطلح يشير للوهلة الأولى إلى المرحلة التي تلي الفترة الاستعمارية، إلا أن هذا التوجه الفكري هو أكثر ما يحذّر منه الكثير من النقاد، خشية الوقوع في فخّ الـ”ما بعد” التي توحي بالكرونولوجية، والتعاقبية، والمرحلية ممّا يوحي بتطابق مصطلح “ما بعد الاستعمارية” بـ”ما بعد الاستقلال»، ومردّ هذه الخشية هو امتداد آثار الاستعمار ـ السياسية والثقافية على وجه خاص ـ لمرحلة ما بعد الاستقلال ممّا يجعل السؤال المطروح هو «متى تبدأ مرحلة ما بعد الاستعمار فعلا؟ وترى مديحة عتيق أن هذه المخاوف تدلّ على غموض مصطلح «ما بعد الكولونيالية»، مما أدّى إلى وضع عشرات التعريفات له، وقد حصر دوغلاس روبنسون ثلاث تعريفات، تذكرها لنا:
التعريف الأوّل: يحدد النظرية ما بعد الكولونيالية في أنها – دراسة مستعمرات أوروبا السابقة منذ استقلالها؛ أي كيف استجابت لإرث الكولونيالية الثقافي، أو تكيّفت معه، أو قاومته، أو تغلّبت عليه خلال الاستقلال. وتشير الصفة «ما بعد الكولونيالية» إلى ثقافات ما بعد نهاية الكولونيالية. والفترة التاريخية التي تغطيها هي تقريباً النصف الثاني من القرن العشرين. وفي التعريف الثاني: هي دراسة مستعمرات أوروبا السابقة منذ استعمارها؛ أي الكيفية التي استجابت بها لإرث الكولونيالية الثقافي، أو تكيّفت معه، أو قاومته، أو تغلّبت عليه منذ بداية الكولونيالية. وهنا تشير صفة «ما بعد الكولونيالية» إلى ثقافات ما بعد بداية الكولونيالية. والفترة التاريخية التي تغطيها هي تقريباً الفترة الحديثة، بدءاً من القرن السادس عشر. وهي في التعريف الثالث: دراسة جميع الثقافات، المجتمعات، البلدان والأمم من حيث علاقات القوة التي تربطها بسواها؛ أي الكيفية التي أخضعت بها الثقافاتُ الفاتحة الثقافاتِ المفتوحةَ لمشيئتها؛ والكيفية التي استجابت بها الثقافات المفتوحة لذلك القَسْر، أو تكيّفت معه، أو قاومته، أو تغلّبت عليه. وهنا تشير صفة “ما بعد الكولونيالية” إلى نظرتنا في أواخر القرن العشرين إلى علاقات القوة السياسية والثقافية. أما الفترة التاريخية التي تغطيها فهي التاريخ كلّه”.
وترى عتيق أن التعريف الأوّل يتطابق مع مفهوم “ما بعد الاستقلال” حيث يركّز الدارسون على التداعيات السياسية والثقافية واللغوية والدينية والأدبية على المجتمعات المستعمَرة سابقا، المستقلّة حديثا، ويحتفي النقاد بهذا التعريف لأنّ مجاله محدّد زمنيا وإشكاليّاته المعرفية واضحة إلى حدّ كبير. وترى أننا إذا أخذنا الجزائر مثلا على مستعمرات أوروبا السابقة فإنّ مجال النظرية «ما بعد الكولونيالية» يبدأ زمنيا منذ نيل الاستقلال عام 1962، ويتمحور حول الإشكالات السابقة وإن كان أبرزها قضية الفرانكفونية في مجتمع جزائر ما بعد الاستقلال.
وبخصوص التعريف الثاني فهو يشمل عندها المرحلة الكولونيالية وما تلاها، ويركّز على المستعمِر قدر تركيزه على المستعمَر، إذ يلقي الضوء على مناطق مُعْتمة من تاريخ أوربا الاستعماري، ويطرح أسئلة محرجة عن دوافع توسعاتها وآفاق طموحاتها الكولونيالية. وترى عتيق أننا إذا عدنا إلى مثال الجزائر سنجد أن مجال الدراسة «ما بعد الكولونيالية» يبدأ منذ 1830 كي يحلّل العلاقات الكولونيالية بين الجزائر وفرنسا فيقف على سيرورة العملية الكولونيالية وردود فعل المستعمَر نحوها.
أمّا التعريف الثالث فهو الأكثر شمولا والأوسع طموحا إذ يشمل العلاقات الكولونيالية في كلّ أنحاء المعمورة وعلى امتداد التاريخ بأكمله، وفي هذا المستوى” تبدو النظرية «ما بعد الكولونيالية» على أنّها طريقة في النظر إلى القوة بين الثقافية، والتحولات النفسية الاجتماعية التي تُحْدِثُها ديناميات الهيمنة والإخضاع المتوائمة، والانزياح الجغرافي واللغويّ. وهي لا تحاول أن تفسّر كلّ الأشياء في هذه الدنيا، بل تقتصر على هذه الظاهرة الواحدة المهمَلة، السيطرة على ثقافة معينة من قبل ثقافة أخرى”.
نحن نسعى في هذه الدراسة إلى بحث العلاقة بين الجزائر وفكر ما بعد الحداثة، في إطار مساهمة دراسات الاستعمار وما بعد الاستعمار في تشكيل فكر ما بعد الحداثة في فرنسا. وقد شغل عدد من الباحثين الأوربيين والعرب بهذه القضية، منهم الإنجليزي روبرت يونغ الذي يجزم بأن نظرية ما بعد البنيوية، وهي تيار داخل فكر ما بعد الحداثة ليست نتاجاً لتحولات المجتمع الفرنسي أو المجتمعات الغربية على نحو مغلق إنما هي عرض ونتيجة للثورة التحريرية الجزائرية. ويرى الباحث الجزائري أزواج عمر، الذي أن فكر ما بعد الحداثة جزئيّاً هو فكر الإحساس الأوربي بالذنب على المستوى الأخلاقي ونقده لذاته ومراجعته التفكيكية لمشروع التنوير والحداثة، الذي زعم أنه نموذج كلي كوني مطلق، وهو المشروع الذي لم ينجح في قهر ثنائيات البنيوية المتضادة مثل: ثنائية التحديث والديمقراطية في الفضاء القومي الفرنسي والاستعمار وتهميش الهوية وفرض الحل العسكري على الفضاء الروحي والثقافي والاجتماعي في جغرافيات المستعمر ومنها جغرافية الجزائر»[2].
بدأ «المزاج» ما بعد الحداثي يتشكل في عقد الستينيات عندما تصادف وقوع تغيرات في المجتمعات الغربية مع تغيرات في التعبير الفني والأدبي. تمثلت التغيرات الأولى في ظهور ما بعد التصنيع والهيمنة المتزايدة للتكنولوجيا والنزعة الاستهلاكية المتسعة وإعلانات الموضة وانتشار الديمقراطية وزيادة عدد المتعلمين وظهور أصوات الثقافات التابعة وانتشار تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال وصناعة «المعرفة»، فضلاً عن التراجع عن كل من الاستعمار والمثالية في السياسة وظهور سياسات جديدة تتعلق بالهوية وتقوم على العرق والنوع والتكوين الجنسي[3].
وعلى هذا يمكننا أن نتبين ثلاثة اتجاهات في تحديد مرجعية فكر ما بعد الحداثة:
- يرى الاتجاه الأول أن ما بعد الحداثة محصلة تاريخية أوربية غربية مموضعاً إياها في الجغرافيات الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية الفرنسية – الغربية، كما يوضح ذلك تيرى ايجلتون وكريستوفر نوريس وهارولد بلوم وهابرماس على ما بينهم من تمايزات.
- ويرى الثاني أن الثورة التحريرية ضد الاستعمار الكلاسيكي وضد الاستعمار الجديد لعبت دوراً تكوينيّاً في بلورة فكر ما بعد الحداثة ومن أقطاب هذا التيار فردريك جيمسون وجورج فندن ابيل، وتوماس بايفل وإن كان أيا من هؤلاء لم يدرس عناصر وآليات هذا الدور التكويني وصورة تجلياته في إنتاج فلاسفة ومفكري ما بعد الحداثة.
- والتيار الثالث هو ما أشرنا إليه لدى روبرت يونغ وأزواج عمر الذي يربط، بعد البنيوية وما بعد الكولوينالية، وهو الذي نتابعه في هذه الدراسة.
تلك إشكالية حقيقية، شغلت المفكرين والكتاب حتى قبل ذيوع أفكار ما بعد الحداثة والتفكيك والاختلاف، إن أثر الجزائر في تشكيل الفكر الفرنسي ما بعد الحداثي هام وملحوظ. ونحن لا ننكر أن التحولات التاريخية والفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية الفرنسية / الغربية في القرن العشرين قد لعبت أدواراً مهمة ساهمت في نقل الفكر الفلسفي الفرنسي من فضاء السرديات الكبرى المميزة للحداثة إلى فضاء أخر يتميز بتأسيس وتطوير مابعد الحداثة بكل تفرعاته في حقول: التحليل النفسي ونظرية الأدب والدراسات الثقافية وخطابات الحركة النسائية الراديكالية، إلا أن هذا البعد الغربي، ليس في الواقع إلا مكوناً جزئياً رغم أهميته التاريخية والمعرفية، وهو لا يمكن أن يكون بمفرده صالحاً كمرجعية وحيدة لأصول فكر ما بعد الحداثة، ومن هنا ضرورة إبراز مساهمات المرجعيات الأخرى التي لا تمت إلى الغرب، بما في ذلك فرنسا، بصلة عضوية في تشكيل مفاهيم ومصطلحات ونظريات تيار ما بعد الحداثة، خاصة في فرنسا[4].
لقد كشفت مرحلة الاستعمار الازدواجية الأوربية المضادة للنزعة الإنسانوية الغربية وعن التمركز الغربي المغلق على الذات وإخفاق الأيديولوجيات الاستعمارية ما يعني سقوط أوهام النظريات التي تدعي أنها صالحة لكل زمان ومكان، وهي نظريات مشروع الحداثة في أوروبا بما في ذلك العلمانية الغربية.
يُرجع أزواج عمر هذا الفشل إلى أن حركات التحرر الوطنية قد ألقت بمشروع العلمانية الغربي في الأزمة، حيث إنّ معظم هذه الحركات انطلقت من خصوصيتها الثقافية والتاريخية والجغرافية والدينية، ولم تهمش العامل الديني من برنامجها الكفاحي للاستقلال بل تشبثت بالدين كمقوم من مقومات ثقافتها الوطنية وكعنصر من عناصر هويتها التاريخية وعلى أساس هذا تم نزع صفة الكونية عن مشروع العلمانية الغربية يقول: «إن الحركات الوطنية التحررية بنضالها العسكري وبمقاومتها الثقافية وبتشبثها بنمط إنتاجها الزراعي قد لعبت أدواراً مهمة في ضرب خطابات الحداثة الغربية المرتبطة بالاستعمار والمنظرة له، وهي الخطابات التي تدعي المركزية والشمولية في آن واحد مما فتح نوافذ لتفكير جديد يأخذ عوامل الوطنية والذاتية والنسبية والهامشية بجدية»[5].
القول بأن نظريات ميشيل فوكو هي نتاج المرجعية الثقافية والسياسية والاجتماعية الفرنسية وحدها غير صحيح بالمرة، لأن ثمة عوامل أخرى مهمة مثل التجربة السياسية الفكرية التي عاشها فوكو عندما كان مدرسا للفلسفة في الجامعة التونسية وأثناء احتكاكه بالثورة التحريرية الجزائرية وبمعاناة المغتربين الأجانب في فرنسا. في تونس اكتشف ميشيل فوكو معاني النضال اليومي للطلبة التونسيين وقد عايش أحداث 5 يونيو 1967 ثم تفاعل في ما بعد مع تطور الأحداث الطلابية. وما لا شك فيه وبحسب شهادات بعض الزملاء من طلبة فوكو وقد كانوا من القياديين آنذاك «أنّ دار فوكو في ضاحية سيدي بو سعيد قد أصبحت مقرّاً لاجتماعاتهم المختلفة يقومون فيها بتحضير المناشير وكتابتها». ذلك ما كتبه فتحي التريكي عن «اللحظة التونسية في فلسفة ميشيل فوكو». تلك التي تغافلها عديد من الأوربيين ممن كتبوا عن حياته[6].
وكان التريكي من هؤلاء الذين استمعوا إلى فوكو في الجامعة التونسية وممن شاركوا في نضالات تلك الفترة. وهو يؤكد على أن فوكو عندما نقد السلطة قد حاول أن يعود إلى مسألة الذات بالبحث، فالمهم بالنسبة إليه هو دراسة أنماط التذويت (Les modes de subjectivation) للكائن البشري في الثقافة الغربية من خلال تحول الفرد إلى شخص له حقوقه في مجتمع معين. بحيث يصح القول أن فلسفة فوكو هي قبل كل شيء فلسفة الذات، المرتبطة بمجموعة الآليات السلطوية المختلفة داخل الحضارة الغربية. وتعد عنده فلسفة لا تظل حبيسة المجال العلمي للأركيولوجيا، بل تتجاوز ذلك لتصبح فلسفة المقاومة، لأن المقاومة هي التي تكون - حسب فوكو - حافزاً يسمح بتوضيح العلاقات السلطوية. فالمهم لا يكمن في دراسة عقلانية السلطة وجوهرها وماهيتها، بل المهم هو تحليل علاقات السلطة من خلال الاستراتيجيات وأشكال المقاومة لتفكيك هذه الاستراتيجيات وفضحها، فهي نضال يؤكد الحق في الاختلاف لكل فرد في كل مجتمع، وهي نضال ضد السلطة المرتبطة بالمعرفة والتي تجعل من الحقيقة خلوداً وثباتاً لا يمكن زعزعتها، وهي أخيراً نضال ضد انحباس الأنا في المجرد وبكلمة أخيرة هي نضال ضد تقنية السلطة اليومية المصنفة والمعقلنة لهويتهم من خلال المراقبة والعقاب والتبعية والحشر، فهي نضال لكل أشكال الهيمنة والاستغلال والخنوع[7].
وقد اخترنا نموذجاً لتوضيح ما نحن بصدده عن ما بعد الحداثة والجزائر هو جان فرانسو ليوتار الذي بدأ علاقته بالجزائر كمناضل ضد ظاهرة الكولونيالية الفرنسية، حيث عمل مدرساً للفلسفة بالجزائر إبان فترة الاستعمار، ونقل هذا النضال إلى فرنسا من خلال جماعة من المفكرين والمثقفين الفرنسيين الذين انشقوا عن الحزب الشيوعي الفرنسي، مما يجعل لموقفه تميُّزاً جديراً بالتحليل والبحث.
2 – ما بعد الحداثة وما بعد الكولونيالية:
قبل أن نعرض موقفه نشير للعلاقة المتداخلة بين «ما بعد الحداثة» و«ما بعد الكونيالية». لن نتوقف كثيراً عند ما يطلق عليه البعض «هوس المابعديات» ولا الحديث عن ما بعد البعد، لكننا نشير إلى أن هذه الظاهرة (المابعد)، كما تقول فريال غزول في دراستها «مابعد الكولونيالية وما وراء المسميات»، تعبر عن مأزق تحديد الاتجاهات الجديدة التي تكتفي بترويج هذه التسميات الفضفاضة غير المحددة، وهي تدل على قلق من الركود النظري فتضعه بمصطلحات مغايرة لتعطي الإحساس بالمختلف. وهي ترى أن تعبير «مابعد» يشير إلى موقفين يبدوان متناقضين إلا أنهما متلاحمان وأن هناك اشتباهاً بلغه أهل الفقه في تلك المسميات ومنها ما بعد الكولونيالية، لأنها تتأرجح بين النفي والإثبات، أنها تنطلق من حقيقة الكولونيالية وأثرها على العالم المستعمر (بفتح العين) لكنها تتجاوز مقاومة الاستعمار لتتعامل بشكل مناقض مع كل أشكال الهيمنة[8].
تعرض غزول المصطلح وتتوقف عند ترجمة كل من ميجان الرويلي وسعد البازعي للمصطلح بما بعد الاستعمارية في كتابهما «دليل الناقد الأدبي» كما تعرض لأهم المفكرين المهمومين لإرساء دعائم هذا المجال مثل: فرانز فانون وأدوار سعيد وروبرت يونغ، وإن كان أيٌّ منهم لم يستخدم المصطلح، كذلك أهم ممثلي هذا التيار. ونستطرد حتى نشير إلى الدور الهام الذي قام به كل من إدوارد سعيد وفرانز فانون، حيث يمكن القول أن مصطلح ما بعد الكولونيالية جاء مع صدور كتاب إدوارد سعيد «الاستشراق» (1978)، وفيه يبين أنه ليس ثمة شكل أو نشاط عقلي أو ثقافي بريء من الصلة الوثيقة بتراتب السلطة؛ الأمر الذي يكشف عن التواطؤ بين أشكال التمثيل الأدبي والسلطة الكولونيالية، ويوضح أن كل فرع من فروع العلوم الطبيعية أو الإنسانية ليس ذا صلة وثيقة بالهيمنة السياسية لأوربا من خلال الغزو الاستعماري والسيطرة فحسب بل هو جزء لا يتجزأ منها[9].
وقد تناول فانون في كتابه «معذبو الأرض» (1961) عدة مفاهيم عن الثقافة الوطنية محاولاً بذلك أن يعيد تركيز الاهتمام بخصوصيات الأمة، الوطن وتاريخ النضال المناهض للاستعمار.
تتوقف فريال غزول عند رأى الرويلي والبازعي القائل: إن تخريب الاستعمار وتشويهه للثقافات التي يهيمن عليها دفع مثقفي الدول المستعمرة إلى إحياء ثقافتهم وتمجيدها كرد فعل وكنهج مقاومة، وتتعدد أشكال هذه التوجهات التي تسعى إلى نهضة ثقافية وردّ اعتبار لحضارات غير أوربية لكنها تشترك في محاولة تعرية الخطاب الاستعماري وحمولته الثقافية والمعرفية»[10].
مقابل تشكك البعض في ملاءمة «المابعدية» للخطاب الاستعماري الذي مازال مهيمناً تطرح الغزولي تفسيراً لمفهوم «المابعدية»، فالمعترضون عليه يفسرون «مابعد» بمعنى «بدون» أو «متخلص من الاستعمار»، وبالتالي يصبح المصطلح مرفوضاً؛ لأن الاستعمار مازال حاضراً ومتغلغلاً على مستوى الثقافة والسياسة والاقتصاد. وترى بأنّ المقصود بـ «ما بعد الكونيالية» «منذ الكولونيالية» كل ما ترتب على الغزو الاستعماري وهذا يشمل تحليل سعي الاستعمار للهيمنة وسعي المستعمرين للمقاومة، كما يتضمن تحليل الكولونيالية الجديدة وظاهرة تصفية الاستعمار وانتقال مؤسسات الكولونيالية السياسية والإدارية إلى مؤسسات الإمبريالية في مرحلة الرأسمالية المتأخرة[11].
تحضر أفريقيا حضوراً قويّاً في الدراسات التي تتعلق «بما بعد الكولونيالية» وذلك في مواضع متعددة نشير إلى بعضها كما جاءت في دراسة غزول:
الأولى في بحث أباراجيتا ساغار «دراسات مابعد الكولونيالية» في قاموس النظرية الثقافية والنقدية» 1996 والتي تتعلق باللغة تقول: «مسألة اللغة وثنائية المستعمرين اللغوية، جعلت أديب مثل الكيني نغوعي واثيونغو الذي أبدع في كتابة روايات عديدة باللغة الإنجليزية يقرر هجرها للتعبير الإبداعي بلغته الأفريقية، مع أنه يدرك أن الكتابة الإبداعية الأفريقية باللغة الإنجليزية قد حولت اللغة الإنجليزية وأفرقتها – إن صح التعبير – إلا أنّه يرى ضرورة أن يستمر الأديب مبدعاً في لغته المحلية حتى لا تضر أو تنقرض»[12].
والموضع الثاني في عرضها للكتاب الذي حرره جون تيم «منتجات أرنولد ما بعد الكولونيالية بالإنجليزية» (1996) الذي قسّم عمله إقليميّاً بادئا بإفريقيا التي تنقسم بدورها إلى جهاتها الأربعة غرب أفريقيا وشرقها وجنوبها وشمالها وذكر من شمال أفريقيا نصّاً للكاتب السوداني جمال محجوب المقتبس من روايته الأولى بالإنجليزية «إبحار مستنزل المطر» (1989) مع أن المحرر يمثل للمناطق الأخرى من أفريقيا بنماذج متعددة (p. 388)[13].
الموضع الثالث: إشارة إينالومبا الأستاذة بجامعة جواهر لال نهرو في كتابها الكولونيالية وما بعد الكولونيالية بعد عرضها آراء بارثا تشارجي عن بلورة حركة النضال الهندي لمفهوم المرأة الجديدة باعتبارها مختلفة عن المرأة التقليدية والمرأة الغربية، فهي تضيف أمثلة من جنوب وشمال أفريقيا حيث وزع الخطاب القومي الأدوار على الجنسين، فأصبح الرجل وكيلاً عن سياسة واقتصاد الشعب والمرأة وكيلة عن هويته وقيمه الأخلاقية والروحية. فقد أوضح فرانز فانون في كتابه «الاستعمار المتحضر» المرأة الجزائرية وظفت حسب متطلبات النضال والمقاومة لتكون تارة سافرة ومتشبهة بالأوربيين حاملة المتفجرات وتارة محجبة وبيتيّة كرد مضاد لمطالبة الاستعمار بسفور المرأة. وهكذا تكشف معركة الحجاب والسفور مستوى آخر من الهيمنة والمناهضة والمواجهة تتجاوز الظواهر نفسها لترمز إلى معركة أوسع (ص 192-194)[14].
ويؤكد كل من بيل أشكروفت وغاريث جريفيت وهيلين نيفين محرري كتاب «النصوص الأساسية في دراسات ما بعد الكولونيالية» (1995) على عدد من القضايا المحورية وهي التي تم على أسسها تبويب العمل وفي مقدمتها العلاقة بين ما بعد الحداثة وما بعد الكولونيالية، وهو ما نجده في أعمال جاك دريدا وهيلين سكسو كما جاء في دراسة أزواج عمر المشار إليها وسنشير إليهما في هذه الفقرة قبل تناولنا لموقف جان فرانسوا ليوتار.
ومن المعروف أن كل من دريدا وسكسو ولدا بالجزائر وتعلما بها خلال فترة الاحتلال الفرنسي وغادراها إلى باريس لإكمال دراستهما ولأنهما يهوديان عانيا من الغربة المزدوجة بين الثقافتين التي يحييان في ظلها الفرنسية المهيمنة والجزائرية المهمين عليها في ظل الاستعمار. وإن ما عانى منه كل منهما ظهر واضحاً في سيرتيهما الذاتيتين وأعمالهما الفلسفية وهو ما يصعّب للغاية فهم مفاهيمهما دون الأخذ بعين الاعتبار المرجعية الجزائرية وتأثيرها عليهما. وهذا ما يوضحه أيضاً أزواج عمر الذي يرى: «إن مفهوم الاختلاف ومفهوم الغيرية عند كل من جاك دريدا وهيلين سكسو ليسا فقط نتاج لتجربتيهما المعرفيتين الأكاديميتين داخل الفضاء الفلسفي والأدبي الفرنسي – الغربي إنما هو نتاج أيضا لسنوات التكوين الأولى في الجزائر ونتاج لذلك الإحساس بالوجود والانتماء إلى الأثنية اليهودية في مجتمع مستعمر»[15].
إن الجزائر المستعمرة كانت عالماً مقسوماً إلى أجزاء لا رابط بينها. وهذا العالم المقسوم هو الفضاء الذي عاش فيه دريدا وهيلين سكسو، العالم الذي أقصي فيه الآخر والذي يشبه فضاء التمييز العنصري. لنرجع إلى كتاب سكسو «المرأة الجديدة» الذي لاحظت فيه جيداً مشهد الإنسان الأبيض الفرنسي المتحضر، الذي أسس قوته على قمع ونفي وإقصاء الآخر دون صرفه نهائيّاً وإبقائه مستبعداً. هنا عاشت وعاش دريدا، حيث لا أحد ينجو من العنف والرعب حتى وإن كان بعيدا عنهما بعض المسافة. هذا ما نجد في دراسة دريدا «العنف والميتافيزيقا» في «الكتابة والاختلاف» التي يُحذر فيها من أخطار العنف الناتج عن إضفاء إمكانيات الاعتراف بالآخر ومن أخطار العزل المطلق بين البشر ومن خطر الاحتواء المطلق الذي يدعي الانتصار»، هنا كما يشير عمر شعور دريدا ونظرائه بالاغتراب.
هل يختلف ما عاناه دريدا وهيلين في فرنسا عما عانياه في الجزائر؟ لم تكن الوضعية مختلفة، الوضع نفسه تجاه الأجانب كان ساري المفعول في فرنسا نفسها. من هذه التجربة نبعت مفاهيم هيلين سكسو ومصطلحات: الغيرية والهامش والجنسانية المضطهدة. لقد نقلت سكسو التجربة الاستعمارية التي عاشتها إلى النقاش الفلسفي، إلى هيغل والحركة النسوية الغربية. فانطلاقاً من جدل السيد والعبد وفق تأويل كوجيف، رأت سكسو أن المستعمِر لا يبطل ولا يلقي المستعمَر ولكنه يقوم بسلسلة من عمليات تهميشه واستعباده.
يوضح عمر آليات الاستعمار الفرنسي الموظفة من أجل تهميش وامتصاص الجزائر (الآخر) والأقليات غير الآرية في المجتمع الجزائري المستعمَر، فالنظام الفرنسي استبدل بهوية النظام التربوي الجزائري في حقول العلوم واللسانيات والتاريخ والجغرافيا والآداب وغيرها من الحقول التربوية نظاماً تربويّاً فرنسيّاً، وقد أشار المفكر الماركسي لويس ألتوسير في نقده للجوهرانية الكولونيالية إلى ذلك في كتابه «المستقبل يدوم لوقت طويل» حيث يروي بعض تفاصيل علاقته بالجزائر قبل أن ينتقل إلى المغرب ثم إلى فرنسا.
ويمكن تأكيد القضية نفسها وهي أن علاقة فلاسفة ما بعد الحداثة الفرنسيون من موقع مناهضة الاستعمار زج بالفلسفة الفرنسية كلها في الأزمة ودفع بها إلى إعادة النظر في إشكاليتها وفي مفاهيمها وتصوراتها. فمعظم أعمال جاك بورديو الأساسية كانت نتاجاً لعلاقته بالمجتمع الجزائري بشكل عام خاصة في كتابه «نزع الأصول – أزمة الفلاحة في الجزائر». ويمكننا مما سبق أن نتبين أثر الكولونيالية الفرنسية للجزائر في بناء نظريات من أشرنا إليهم من الفلاسفة، لنأخذ مثلاً مفهوم دريدا للاختلاف، نجده ينبع كما يرى البعض من تجربته الأثنية في ظل المجتمع الجزائري المستعمَر.
3 – ليوتار وتجربة الجزائر:
إن ما وجده أزواج عمر من مصادر لما بعد البنيوية وما بعد الحداثة لم يره باحث جزائري آخر، تناول الفلاسفة أنفسهم: فوكو وألتوسير ودريدا في كتابه «البنيوية في الفكر الفلسفي المعاصر»[16]. مما يجعلنا نفترض مصادر أخرى لمعاناة دريدا وسكسو غير معاملة المستعمر الفرنسي للمواطنين الجزائريين، لسببين الأول أنهما ليسا جزائريين وثانياً أنّهما فرنسيان، ويرجع سبب معاناه كلٍّ منهما ليهوديتهما كما أفاض دريدا في توضيح ذلك في كتابه «ماذا عن غد؟»[17]. لذا فإن حذر عمر من إطلاق أحكامٍ عامة جعله يعطي دوراً لمساهمة الاستعمار وما بعد الاستعمار في تشكيل فكر ما بعد الحداثة. وهو ما يتضح إذا ما تناولنا هذا الأثر ودوره في مفاهيم ليوتار الفلسفية ما بعد الحداثية.
خصص ليوتار عدة أعمال للحديث عن صلته بالجزائر هي: الخصم، الجزائريون، التطواحات. وهو يخبرنا بتساؤل جوهري حين أصبح أستاذاً للفلسفة بثانوية بمدينة قسنطينة 1950 هل كانت هذه الصلة نهاية لشيء ما أو بداية لشيء ما؟ وهو يوضح لنا أن دراسته لكارل ماركس ولتوما الاكويني قد تمت في الجزائر، ولقد أدى به انخراطه الفكري لصالح ثورة التحرير الجزائرية إلى النظر النقدي في المادية الجدلية ومصداقيتها نظريّاً وتطبيقيّاً. وهو في أكثر من مكان يعلن أن الجزائر علمته الشيء الكثير. يرى يوجين هولاند «أن ليوتار أدرك من خلال تجربته المتميزة بالصراع أثناء معركة التحرير الجزائرية بأن الأمانة السياسية تقتضي الاستجابة لحالة مفردة بدون اللجوء إلى معيار أعد سابقاً». وهو تفسير لقول ليوتار «إنه لمن قبيل المخادعة إعطاء معنى مغلق لحادثة أو تخيل معنى لحادثة عن طريق توقع ما يمكن أن تكون الحادثة بقياسها بحجة قبلية أو بنص قبلي»[18].
في كتاباته التي جمعها تحت عنوان «الجزائريون» أظهر ليوتار تخوفه وقلقه الفكري تجاه انخراطه في الجبهة المتضامنة مع القضية الجزائرية. لقد تضامن كلّيّاً مع الجزائريين الذين لهم الحق في أن يصبحوا أحراراً ومعترفاً بهم كمجتمع له اسمه ووجوده، ومن جهة ثانية لم يكن على يقين بخصوص من سيحكم الجزائر المستقلة. لقد كان متخوفاً من حكومة مستقلة قد تحيطها بيروقراطية عسكرية، وهو ما يتضح في كتابه «التطواحات»؛ الذي يعد سيرته الذاتية الفلسفية حيث يخبرنا عن نشاطه السياسي وتضامنه مع الجزائر بأنه قد حسم الأمر لصالح قضية التحرر من الاستعمار الفرنسي، رغم أنه كان يدرك بأن ثورة التحرير الجزائرية لم تكن ولم يكن بالإمكان أن تكون ثورة التناقضات الاجتماعية، بمعنى أنها لم تكن قائمة على نظرية ماركسية أو أيديولوجية إسلامية صارمة أو رأسمالية واضحة إنما كانت ثورة ضد الوجود العسكري الفرنسي وضد ظاهرة الاستعمار الخارجي[19].
ويشير عمر أزراج إلى تلخيص ليوتار للآليات التي مورست بها عمليات الإنكار الثقافي وتهميش البعد اللغوي الجزائري في المدارس الفرنسية حيث عملت الجمهورية الفرنسية لتطعيم فئة قليلة من الجزائريين بثقافة مستعارة في حين أن ثقافتهم، أي ثقافة شعبهم ولغتهم وفضاءاتهم وزمانهم، قد تعرضت للتحطيم وذلك بواسطة قرن من الاستعمار الفرنسي.
ويستنتج أزراج أنه من خلال تحليل ليوتار للامتصاص الثقافي الفرنسي للجزائريين تمكن من فهم وتأويل المقاومة الجزائرية مطلقاً عليها «الخصم». وأن ليوتار نقل هذا المصطلح إلى المجال الفلسفي موضحاً أن التحول في التاريخ لا يحدث بواسطة الجدل الماركسي فقط إنما يتم بواسطة «الخصم» بحركته الصراعية في الزمان والمكان أيضا.
هنا ننتقل من الحداثة إلى ما بعد الحداثة من الكلي إلى الحالة الخاصة، إن مفهوم «الخصم» يختلف عن مفهوم صراع الأضداد في الماركسية التقليدية. فصراع الأضداد وفق الماركسية التقليدية يفترض مسبقاً انقسام المجتمع إلى طبقات متناحرة مثل طبقة العمال ضد البورجوازية، وعند ليوتار فإن طبقة العمال نفسها ليست متجانسة كلية وليست ذات تصور مشترك للحياة. يريد ليوتار تفكيك المفهوم الماركسي للطبقة ويعترف في كتاباته بإن تجربته الجزائرية هي التي زودته بهذه الرؤية الجديدة.
إن ليوتار يهدف إلى القول بأن الخصومة كمفهوم فلسفي يقترب من مفهوم الاختلاف، بمعنى أنه لا يمكن أن تستعمل نظرية واحدة أو معياراً واحدا لدراسة ثقافات مختلفة وتقول فيما بعد بأن هذه الثقافة خاطئة، لأنها لم تتمكن من الاستجابة للمعيار الحاضر. وهذا المفهوم والكلام هنا لأزواج عمر مشتق من دراسته للكثير من القضايا الفكرية والسياسية واللغوية والفلسفية ومنها مفهوم الاختلاف الذي قدمه له المجتمع الجزائري وحاول الحزب الشيوعي الفرنسي أن يلغيه باسم الأممية وحاول اليمين الفرنسي إقصاءه باسم أن الجزائر جزء عضوي من فرنسا وهي ليست كذلك في الواقع. أي إن نظرية ليوتار في ما بعد الحداثة والتي قدمها في كتابه «الشرط ما بعد الحداثي» وطورها بعد ذلك تعود بذورها الأولى إلى اللقاء الساخن الذي جمع بينه وبين المقاومة الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي، لتنقلنا إلى مسار تفكير جديد يضع الاختلاف محل التطابق وتحفل بالتعددية معياريّاً وممارسة مفتوحة بدلا من السرديات المتمركزة غرباً والتي تحتكر الحقيقة وتدّعي بأن اليقين لا يوجد إلا حيث تسود الهيمنة والمركزية القطبية الواحدة. وإذا كان لحركة التحرير الجزائرية دورٌ في تشكيل تيار ما بعد الحداثة عبر نصف القرن الماضي، فهي الآن، وأنا هنا استخدم عنوان أحد كتب جارودي، «مشروع الأمل».
المراجع
- أزواج عمر: مقاربة أولية لمساهمة علاقات الاستعمار وما بعد الاستعمار في تشكيل فكر (مابعد الحداثة) في فرنسا. مجلة قضايا فكرية الكتاب التاسع عشر والعشرون، أكتوبر، القاهرة 1999.
- فردوس عظيم: الكولونيالية وما بعدها والوطن والعرق ترجمة شعبان مكاوى، في «القرن العشرون: المداخل التاريخية والفلسفية والنفسية» تحرير ك. نلووف، ك. نوريس، ج. أوزبورن، أشرف على الترجمة رضوى عاشور، المجلس الأعلى للثقافة القاهرة 2005.
- فريال جبوري غزول: ما بعد الكولونيالية وما وراء المسميات، قضايا فكرية العدد 19-20، القاهرة 1999.
- دوغلاس روبنسون: الترجمة والإمبراطورية: الدراسات ما بعد الكولونيالية، دراسات الترجمة، ترجمة ثائر ديب، مجلة نزوى، العدد45،20-07-2009
- هيلين جيلبيرت/جوان تومكينز : الدراما ما بعد الكولونيالية: النظرية والممارسة، ترجمة: سامح فكري، مركز اللغات والترجمة، أكاديمية الفنون، مصر 2000، ص2-3
- بيل أشكروفت/ غاريث غريفيث/ هيلين تيفين: الرّد بالكتابة: النظرية والتطبيق في آداب المستعمرات القديمة، ترجمة: شهرت العالم، المنظمة العربية للترجمة، بيروت،2006، ص15.
- بيل أشكروفت وآخرون: الدراسات ما بعد الكولونيالية/ المفاهيم الرئيسية، ترجمة: أحمد الروبي، أيمن حلمي، عاطف عثمان، المركز القومي للترجمة، مصر،2010،ص254
- صبحي حديدي : الخطاب ما بعد الكولونيالي في الأدب والنظرية النقدية، مجلة الكرمل ع47، 1993ص79-80.
- الدكتورة مديحة عتيق، مجلة «دراسات وأبحاث» الجزائرية الصادرة بجامعة جلفا: ما بعد الكولونيالية: مفهومها، أعلامها، أطروحاتها.
---------------------------
[1]*ـ باحث وأستاذ الفلسفة الغربية في جامعة القاهرة ـ مصر.
- انظر العمراني: سارتر والثورة الجزائرية، مكتبة مدبولي، القاهرة، د.ت، ودراستنا سارتر والمقاومة الجزائرية، ضمن كتاب سارتر والثقافة العربية، دار الفارابي، بيروت 2011.
[2]- أزواج عمر: مقاربة أولية لمساهمة علاقات الاستعمار وما بعد الاستعمار في تشكيل فكر (مابعد الحداثة) في فرنسا. مجلة قضايا فكرية الكتاب التاسع عشر والعشرون، أكتوبر، القاهرة 1999، ص471.
[3]- فردوس عظيم: الكولونيالية وما بعدها والوطن والعرق ترجمة شعبان مكاوي، في "القرن العشرون: المداخل التاريخية والفلسفية والنفسية" تحرير ك. نلووف، ك. نوريس، ج. أوزبورن، أشرف على الترجمة رضوي عاشور، المجلس الأعلى للثقافة القاهرة 2005، ص418.
[4]- أزواج عمر، المرجع السابق، ص469.
[5]- أزواج عمر، المرجع السابق، ص470.
[6]- فتحي التريكي: اللحظة التونسية في فلسفة ميشيل فوكو، في أحمد عبد الحليم عطية [محرر] العيش سويا ضمن قراءات في فكر فتحي التريكي، القاهرة 2008، ص220.
[7]- فتحى التريكي وعبدالوهاب المسيري: الحداثة وما بعد الحداثة، دار فكر، دمشق، ص2003، ص304-309.
[8]- فريال جبوري غزول: ما بعد الكولونيالية وما وراء المسميات، قضايا فكرية العدد 19-20، القاهرة 1999، ص384.
[9]- فردوس عظيم: ص339.
[10]- غزول، ص385.
[11]- الموضع نفسه.
[12]- Aparajita Sagar, Postcolonial: A Dictionary of Cultural and Critical Theory, ed Michal Payne Oxford: Blackwell, 1996. نقلاً عن فريال غزول.
[13]- John Thieme (ed) The Arnold Anthology of pas – Coloial Literatures in English, London عن فريال غزول المرجع السابق ص388.
[14]- Ania Loomba: Colonialism / Postcolonialism London/ Routledge 1998. نقلاً عن غزول
[15]- أزواج عمر: ص472.
[16]- عمر مهيبل: البنيوية في الفكر الفلسفي المعاصر، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر 1993.
[17]- أنظر جاك دريدا واليزابيث رودينسكو: ماذا عن غد، ترجمة سلمان حرفوض، دار كنعان، دمشق 2008 ودراستنا: حكاية اليزابيث وجاك: التفكيك مع دريدا ضد دريدا في محمد أحمد البنكي [محرر: دريدا بأثر رجئي، سلسلة أطياف وزارة الثقافة، البحرين، 2009 ص32 وما بعدها.
[18]- أزواج عمر: المرجع السابق، ص479.
[19]- نفس الموضع.