البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الإمبريالية السياحية ، إخفاقات الحداثة الغربية في البلاد العربية

الباحث :  عادل الوشاني
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  12
السنة :  السنة الرابعة - صيف 2018 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث :  July / 22 / 2018
عدد زيارات البحث :  1001
تحميل  ( 342.350 KB )
يركز هذا البحث على بيان أحد أبرز وجوه الاستراتيجيات الإمبريالية في ما يسمى مجتمعات الأطراف، وهو الكيفية التي تتعامل بها دول الغرب مع الاقتصاد السياحي لهذه المجتمعات.

يسعى الباحث إلى جلاء الكثير من الغموض حول هذا الحقل الحيوي في الاقتصاد العالمي، وخصوصاً اقتصادات العالم العربي المتوسطي، ثم يصل إلى جملة استنتاجات مؤداها الإجمالي إخفاق الحداثة الغربية بصيغتها الاستعمارية في تطوير الأنظمة السياحية في البلاد العربية.

المحرر

----------------------------

استنبتت الدول الغربية القطاع السياحي في بعض البلدان النامية، ومنها البلدان العربية، وفرضته عليها كقطاع اقتصادي هيكلي مباشرة بعد حصولها على الاستقلال. أي أن القطاع السياحي في هذه الدول لم يكن قرارا سياديا متمحوراً على مصالحها الوطنية وإنما كان استجابة خضوعيّة لإملاءات الغرب الرأسمالي.

إن هذه الفرضية لا تعوزنا المؤيدات لإثباتها، ففي سنة 1963 أقرت الأمم المتحدة أن السياحة يمكن أن تكون المدخل الحيوي الحقيقي للبناء الاقتصادي للدول النامية[2].  ولقد نحا البنك الدولي هذا المنحى، حيث جاء على لسان أحد خبرائه الاستراتيجيين (ميشال دافيس/ Michel DAVIS) أن السياحة تمثل بالنسبة للدول النامية المحرك الحقيقي للتنمية، تماما كما كانت الصناعة هي المحرك الفعلي للاقتصاد الأوروبي في القرن التاسع عشر[3]. وفي المؤتمر الدولي حول السياحة الذي نظمته المنظمة الدولية للسياحة في مانيلا سنة 1980، تم التأكيد أن السياحة من شأنها أن تؤسس لنظام اقتصادي دولي جديد تجسر فيه الفجوة الاقتصادية بين الدول المتقدمة والدول النامية حيث يتاح لهذه الأخيرة، من خلال الاقتصاد السياحي، أن تحقق نموا اقتصاديا متسارعا[4].

إن إملاء الدول الرأسمالية والمنظمات الدولية التي تدور في ركابها على العديد من الدول النامية ومنها بعض البلدان العربية اعتماد القطاع السياحي كقطاع هيكلي، سيخضع هذا القطاع للمنطق الهيمني لهذه الدول ولهذه المنظمات. والحقيقة أن الغرب الرأسمالي قد أملى بوضوح أن تكون السياحة في الدول النامية على أساس الاستجابة الخضوعية لطلباته وانتظاراته.                                  

يقول السيد روبار لوناتي (Robert LONATI) (أحد الأمناء العامين السابقين للمنظمة العالمية للسياحة): «يجب قبل كل شيء قياس حاجيات السوق ودوافع ورغبات الحرفاء ومن ثمة إعداد عروض ومنتجات سياحية تستجيب لهذه الحاجيات وتلبي هذه الرغبات[5]. 

إنّ الغرب الرأسمالي حينما يملي على الدول النامية، ومنها الدول العربية، أن تُخضع بنيتها السياحية لمنطق طلباته فلأنّه يُخضعها بذلك لشروط مصالحه الاقتصادية ولمنطق أفضلياته وتوازناته الربحية، أي ليربط اقتصادات هذه الدول به ويفرض تبعيتها له واتكالها عليه مما يولد تخلفا بنائيا في اقتصاد كلٍّ منها يشبه التخلف الناتج عن الاقتصاد الثنائي الذي ولده الاستعمار في هذه الدول[6]. وهذا أمر معلوم، غير أن الأمر الجديد الذي نريد تجليته في هذه الدراسة وتعميق فهمه هو أن الغرب الرأسمالي يريد أن يخضع هذه الدول لمنطق إشباع الحاجات النفسية لمواطنيه ورغباتهم والاستجابة لمختلف انتظاراتهم العاطفية وشواردهم الرغبية (FANTASME) بما فيها الأكثر نزوية، والتنفيس عن مختلف مكبوتاتهم وتصعيد أزماتهم والعمل على تحقيق مختلف توازناتهم... بمعنى أنه مثلما جعل من هذه الدول مجالا حيويا لتصعيد أزماته الاقتصادية، جعل منها أيضا مجالا حيويا لتصعيد أزماته النفسية والاجتماعية والعلائقية والعاطفية والجنسية...

سنتوسع في معالجة هذه الأطروحة وذلك بمحاولة تبين واقع الأزمة في الاجتماع الغربي وكيف يتم تصريفها في المجتمعات العربية عبر السياحة.

1) أزمة المجتمع الغربي: من طموح الأنوار إلى الظلمة الجديدة:

دخلت أوربا إلى العصور الحديثة مسلحة بالعقل وبالعلم، وكان الطموح أنّ العلم سيحقّق الخلاص والحرية والرفاه، وأنّ العقل سيسيّد الإنسان، غير أنّ الحاصل هو أنّ العلم لم يتحول إلى أداة للمعرفة وتحقيق الرفاه وإنما أصبح أداة للبحث التطبيقي لتطوير أدوات إخضاع الإنسان اقتصاديا وعسكريا وإعلاميا... أمّا العقل فقد رجّح القيم المادية على حساب القيم المعنوية، فتقيد الإنسان نفسه في مقابل سطوة رأس المال كسيّد جديد، وتراجعت قيمة الإنسان، كما يقول إدغار موران (Edgar MORIN)، كصلة تضامن مع الآخر وقيمة مشاركة ومؤانسة له، في مقابل تطور قيم الفردانية حيث الإنسان الفرد الذي لا أهل له ولا أصدقاء ولا مسيح كما يقول لا بروايار (LA BRUYERE).

لقد شخصت الأدبيات النقدية لمفكري الغربِ نفسِه ما يعتمل فيه من أزمة طالت كل أُطُره. هذه الأزمة، التي وسمها يورغن هابرماس (Jürgen HABERMAS) بالظلمة الجديدة، حولت الإنسان إلى فرد مستوعَب ومغترِب الفكر ومستلَب الوعي في واقع استلابي شامل يهيمن عليه الجهاز الاقتصادي الذي أغرق الإنسان في اللهو والملذات، وحوّله إلى مجموعة من الرغبات يحركها[7] ويوجهها كيفما يشاء، استنادا إلى آلة دعائية ضخمة وفعّالة حاصرت الفرد وحكمته بقيود ذهنية وفوقية خارج نطاق الانتقاء الحر[8].

    في هذا الواقع الاستلابي، تباعدت المسافات النفسية الاجتماعية بين الناس حتى أضحى المجتمعُ الواحدُ أشبهَ بأرخبيل من الأشخاص المبعثرين، وغدت العلاقاتُ الاجتماعيةُ باردةً ولا شخصيّةً وتقوم على الحساب الدقيق والنفعية، وترسخت الفرديةُ حتى صار الفرد مرجع ذاته ومقاول حياته الخاصة، فتوجهت كل اهتماماته وانتباهاته ورهاناته إلى أشيائه الخاصة يشبعها دون اكتراث بالآخرين أو التزام بهم، وصار الغوص في العالم الداخلي بحثا عن الأحاسيس الشاذة، والنزوات المتطرفة والشوارد الرغبية المتسيبة همّا وجوديّا ملازما وجهدا موصولا لتجميع هوية شخصية مجزأة في بيئة ثقافية لم يعد فيها للفرد علاقات عاطفة أصيلة، وإنما فقط صلته بذاته ينصت لأهوائها وهواماتها وشهواتها، ويغرف من استجابته لها الشعور بوعي سيّد.

لقد تعاظمت، في هذه البيئة النفسية الاجتماعية، كما يقول جوناثان بوريت (Jonathan BORIT) مشاعر الاستياء، وتفاقمت ظواهر الوحشة والوحدة والسأم والاكتئاب والأوضاع الصحية السيكولوجية العليلة ...

أما في ميدان العمل، فقد أضحى الإنسان في المجتمع الصناعي الرأسمالي يعيش حالة من الانفصال (séparation) في كل أوجه نشاطاته الإنتاجية، فمُتعته انفصلت عن عمله، وجهده انفصل عن عائده، وإنسانيته فقدت قيمتها أمام أولوية الآلة ودورانها الإنتاجي المتواصل.

نحن بإزاء حالة من سلب الذات وتشييئها[9]، واغتراب عن العمل وعن ناتج العمل معا، وتحول إلى ذرة اقتصادية بلا قيمة في منوال اقتصادي يعامل الإنسان كرقم وكشيء.

لقد كانت الحداثة سمة خاصة بالحضارة الغربية، فهي المدخل إليها، إذ تدل على التقدم والتطور وشمولية العقلانية والثورة التكنولوجية، أمّا اليوم فهي تدل على عكس ذلك[10]، إنها تحيل على خيبة الأمل الكاسحة، الأمر الذي دفع باللاوعي الجمعي (inconscient collectif)، كما حدده جورج دومازيل (Georges DUMةZIL)[11] إلى البحث عن حلول لإعادة التوازن الجمعي ولخفض التوتر ولإعادة الأمل.

إنّ السفر السياحي إلى المجتمعات العربية هو آلية من آليات إعادة الأمل وذلك من خلال فعل نفسي يحوّل هذا السفر إلى طقس من طقوس الانفتاح على الأسطوريّ والخياليّ والعوالم الشرقية الغرائبية[12]. فالغرب، بعد أن اغتصب مُثُل الحداثة التي استند إليها عصر أنواره كما يقول ليوتار (LYOTARD)[13]، بدأ يبحث عن عوالم غرائبية وعن أساطير مرجعية حائرة في كل مكان[14]، يُصعِّد فيها أزماتِه ويُخفِّض فيها توتّراتِه ويستجيب فيها لانتظاراته. كيف ذلك؟

سنجيب عن هذا السؤال من خلال دراسة أسماء بعض النُّزُل (الفنادق / Hotels) في جزيرة جربة (التونسية) مستفيدين في ذلك من مقاربة رولان بارط (Roland BARTHES) السيميولوجية ومقاربته حول الأسطورة، وأيضا بالاستفادة من مقاربة بيرّو  (PERROT)حول الأسطورة المبرمجة (mythologie programmée)[15].

جربة هي جزيرة تقع في الجنوب الشرقي التونسي، وتبلغ مساحتها 514 كلم2 وهي تضم حوالي 120 نزلا سياحيا مصنَّفا.

تحمل الكثير من هذه النزل في هذه الجزيرة أسماء الآلهة والملوك الأسطوريين كإيزيس ربة القمر والأمومة لدى المصريين القدماء، وتانيت الآلهة القرطاجية رمز الأمومة والخصب والنماء وازدهار الحياة، وأوزوريس إله البعث والحساب عند المصريين القدماء، وأوليس ملك أنطاكيا الأسطوري، وتيليماك الأمير بن أوليس، والملكة بينيلوب زوجة أوليس، وزيوس أبي الآلهة والبشر في الأسطورة الإفريقية،  وهيليوس إله الشمس في الأسطورة اليونانية، ونيريد إله البحر في الأسطورة الإغريقية، وأكزولا (Oxola) إله الحياة والنقاء في الديانة الكوندومبولية (Candomble)، وهي ديانة إفريقية برازيلية، واسم النزل (Oxola house) أي دار الإله، وأثينا إله الحكمة الإغريقية، والإلياذة (Iliade)، وهي ملحمة شعرية أسطورية تحكي قصة حرب طروادة، وأوديسا (Odyssee)، وهي ملحمة شعرية أسطورية تحكي قصة حرب طروادة، وهوميروس (Homer)، وهو شاعرٌ ملحميٌّ إغريقي أسطوري يُعتقد أنه مؤلف الملحمتين الإغريقيتين الإلياذة والأوديسة... هذه الأسماء الأسطورية وغيرها ليست اعتباطية وإنما وراءها آلة إشهارية خبيرة في الإنصات للأحلام والانتظارات والشوارد الرغبية، وهي تهدف إلى الاستجابة إلى كل ذلك في الفعل الإشهاري برمّته بما في ذلك التسمية الإشهارية نفسها، كما تهدف إلى الإصابة حيث تجب الإصابة...إنها تصيب اللاوعي وتصطنع له أساطير يعوض فيها ويُصعِّد ويُحوِّل ويُسقط... إنّ خبراء السياحة هنا، في الوقت الذي يعيدون فيه إنتاج الأساطير في تسمية النزل لأغراض تسويقية تجارية، يثبتون فرضية ميرسيا إلياد (Mircea ELIADE) القائلة باستمرار الأساطير القديمة في المخيال العام لمجتمعاتنا الحديثة[16].

إن السؤال الرئيس هنا هو: ما هو أثر هذه الأسماء الإشهارية الأسطورية في لاوعي المتقبِّلِ، السائحِ الغربي ووعيه، بمعنى آخر، ما هي الدلالات التي يتلقاها المتقبل السائح من هذه الأسماء الأسطورية للنزل؟

في الحقيقة، لقد أتاحت لنا المعالجة السيميولوجية أن نقف على دلالات عديدة ومختلفة لهذه الأسماء، سنكتفي في هذه المعالجة بأربع دلالات نعرضها تباعا مع التأكيد أنّ الأسطورة هي منظومة كلام أيْ منظومة من الصيغ الدلالية، وبالتالي فإنّ هذه الأسماء تبقى مفتوحة على الاستفهام السيميولوجي والتأويل. إنّها كالنص بنيتُه متغيرة من قارئ إلى آخر.

2) الدلالة الأولى: السياحة الغربية في البلدان العربية: سفر نكوصي إلى المرحلة البدائية للإنسانية.

إنّ تسمية النزل في جزيرة جربة بأسماء أسطورية من آلهة وملوك فيه إحالة إلى مرحلة زمنية بدائية حيث مستوى وعي الإنسان خياليّ وإحيائي، وأسطوري وخرافي، وسحري وغيبي... ولم يدشن بعد اللوغوس والفكر المجرد والتجريبي والتفسيري... لقد كان الإنسان في الحقبة البدائية يواجه الطبيعة خائفا منها ولكنّه كان، في الوقت نفسه، مندمجا بها. فهو بعضها وهي بعضه: كما كان يفسر الظواهر بها.

إنّنا هنا بصدد عمل إشهاري منهجي يفتح الخيال على حركة عكسية للتاريخ، ويغري بإمكانية السفر النكوصي إلى المرحلة الطبيعية، حيث طفولة الإنسانية الضائعة ووحشية هذه الإنسانية المستعادة كما حدد ملامحها العديد من مفكري الغرب، وإلى إنسان تلك المرحلة الذي خفّضته مِثل هذه الأدبيات المحكومة بالإثنومركزية الغربية إلى مستوى الكائن التراثي. فهو ذلك البدائي «المتوحش الطيب» (Le bon sauvage) الذي لم تكتسحه الحضارة، كما تخفّض كل ثقافته ومختلف إبداعاته المادية والرمزية إلى مستوى التراث الإنساني ما قبل التحضر[17].

إنّ البنية العامة لهذا الإنسان التراثي أسطورية أي لا زالت هناك في الماضي ساكنة ولا تطورية، وبالتالي فهي في إيحاء من الإيحاءات متحف حيّ من متاحف التاريخ البشري الذي لا بدّ من زيارته لفهم السيرورة العامة للوجود البشري كيف كان وكيف أصبح... ولبناء المعرفة التاريخية استنادا إلى المعايشة الذاتية، وللاستمتاع الفرجوي، ولمعايشة تجارب وجوديّة خصوصية وثريّة بالحسّ المختلف...

إنّ هذه التسميات تُحجِّم المجتمعات العربية إلى مستوى المجتمعات البدائية للفرجة وللتجربة الغرائبية القائمة على المخاطرة والمجازفة والاستكشاف النكوصي، أي استكشاف الماضي حينما كان بسيطا حضاريا، وبدائيا إنسانيا، وذلك من خلال مجتمعات لا تزال تعيش الماضي في الحاضر.

هذه المضامين البدائية العجائبية تُجيِّش لدى السائح الغربي الوهم بإمكانية الهروب، ولو المؤقت، من ضغوطات نسق الحياة العصرية وإكراهاته، وتفتح له قوسا لرومانسية حالمة بإمكانية العيش في الماضي واقعا في أوج حسه، فهذه المجتمعات البدائية بتراثها الغرائبي هي الماضي بالنسبة للحضارة الغربية، وتكفي بضع ساعات على متن طائرة للسفر العكسي إلى هذا التراث حيث هذه الشعوب التراثية المتماهية مع الطبيعة.

يبدو واضحا أنّ هذه المضامين تُحجِّم المجتمعات السياحية النامية ومنها المجتمعات العربية إلى مستوى «البدائيين للعرض السياحي» (Des primitifs pour tourists)[18]، لكنها في المقابل تثمن الغرب إلى مستوى الإنسان المستكشِف والمتحضر والمدني والذي يتصف بالتقدم والقوانين الوضعية والحركة المدنية والعقد الاجتماعي.

إنّنا بصدد صورة نمطية أي قالب جامد يتحكم في نظرة الغرب إلى العرب. والحقيقة أنّ سياقا تاريخيا خصوصيا سمح بتشكل هذه الصورة النمطية وتَبلوُرها.

فمنذ عصر الاكتشافات الجغرافية ومطلع عصر التنوير الأوروبي، كان الفكر الغربي يعيش في عالم لا تشاركه في صنعه الحضارات الأخرى... وبقدر ما كان هذا الفكر يتقدّم في البناء الحضاري، كان ذلك مصحوبا لديه بشعورين: أولهما الشعور بأن اكتمال البناء الحضاري من الناحية المادية لا يمكن أن يكون إلا ضمن علاقة هيمنة على العالم الآخر. أما الشعور الثاني فإنه يتعلّق بالوعي بالذات الذي تكوّن لدى الغرب، ومضمون هذا الوعي أنّ أوروبا هي مركز الحضارة والثقافة والعقل في التاريخ.

ضمن هذا الشعور بمركزية الذات، صوّر الاستشراقُ الآخرَ العربيَّ على أنّه ينتمي إلى جنس آخر، وأنّ شخصيته القومية تشوبها عيوبٌ جسيمة كالكسل الفكري والعقم والخمول، أما حضارته فهي ضرب من ضروب الفلكلور وثقافته بربرية تسودها المبالغات[19].

يبدو أننا بصدد إعادة إنتاج هذه الصورة النمطية التي تكاد لا تجانب في مضامينها القولَ الاستشراقيَّ ذا النزعة المركزية الاستعمارية، فالإنسانُ لا يزال ذلك الكائنَ التراثيَّ الغرائبيَّ، والتاريخ لا يزال سكونيا لا تطوريا، والتراث لا يزال بنية متأبّدة لا ينفصل فيه الحاضر عن الماضي.

الاستشراق أغرى في الماضي بالاستعمار وحفّز عليه، وهذه الصّورة تغري اليوم بالسياحة وتحفّز عليها...[20].

3) الدلالة الثانية: مغالبة الشيخوخة والتنعم المديد بالشباب.

إنّ الآلهة لا تهرم ولا تموت فشبابها أزلي، بل وفي يدها مفاتيح الحياة والخصوبة ونضارة الشباب... (إيزيس وتانيت). إن تسمية النزل بأسماء الآلهة الخالدة ليس اعتباطيا وإنما يتوجه بشكل قصدي مباشر إلى شريحة واسعة من السُّيّاح وهي شريحة المسنين وخاصة منهم المسنات. فهذه التسميات المبشرة بالقدرة على مغالبة الشيخوخة والتنعم المديد بالشباب تستجيب لانتظارات عدد ثقيل من السائحات المسنات، فتُرجّع كيانهن الآفل في التسمية نفسها، وتَعِد باستعادة روق الشباب وعنفوانه وميعته (Fleur de la jeunesse).

إنّ فنّيّي الإشهار السياحي، بما هم خبراء في الأحلام والشوارد الرغبية،[21] يدركون جيدا احتياجات جمهورهم وانتظاراته، حتى الساكن منها في اللاشعور، فيعملون على تحقيق هذه الانتظارات والرغبات والنزوات والشوارد الرغبية في كل العملية الإشهارية، مما يَعِد بإمكانية تحقّقها بالفعل.

إنّ تسمية النزل بأسماء الآلهة والملوك تعد بديناميكية واسعة للفعل، كما تحيل إلى عنفوان الشباب وجيشانه وكل قيم الاحتكاك والحرارة والرفاهة العاطفية والحب المفرط والجنس العميق والإنفاق السخيّ... وهي قيم هجرت الميدان الاجتماعي الغربي الذي شهد حالة من التفتيت الذري  والانفجار النووي الذي مسّ قلب حياته الاجتماعية[22]... وإنّ أمكنةً أخرى وأقواسًا زمنية نوعية أخرى مهيأة لتحقيق هذه الانتظارات وإشباع هذه الاحتياجات التي لم يعُد ممكنا حتى مجرّد انتظارها في الحياة الاجتماعية العادية، دعك من الاستجابة لها وإشباعها .إنّ هذه الأمكنة الأخرى هي النزل مقر الآلهة المتحررة من إكراهات المكان، وإنّ الزمن الآخر هو الزمن السياحي الأسطوري المتحرر من إكراهات  الزمان... وإنّك، كسائح مقيم في هذه البنية المكانية والزمانية، متعالٍ كالآلهة ومتحرِّرٌ من إكراهات الإنسان.

إن المسنات، في المجتمعات الغربية، بما تمارسه هذه المجتمعات من عبادة الشباب ضمن ما يسميه رولان بارط بالعنصرية الشابة، ينزلقن ببطء خارج الميدان الرمزي، وتتقلص علاقاتهن الاجتماعية العاطفية، وتتنازل يوما بعد يوم قيمتهن الاجتماعية. إنهن يعشن حالة من التناقض الحاد والتدميري بين صورة الذات لديهن وبين صورتهن عند الآخرين، وهو ما يزعزع كيانهن. فهن بالنسبة إلى أنفسهن ذوات لها رغباتها وآمالها وطموحاتها أي لها مستقبلها، أما بالنسبة إلى الآخرين فهن ذوات بدون آفاق، تالفة وعديمة الفائدة، وليس لها سوى ماضيها. هذا التناقض الحاد بين الصورتين عبرت عنه «سيمون دي بوفوار» (Simone DE BEAUVOIR) بعمق منجرح بقولها «أنا أصبحت شخصا آخرَ في حين أنّي ما زلت أنا نفسي[23].

في هذا الواقع الكارب والملغي والمهمِّش للمسنات، تفتح آلة الإشهار السياحي لهنّ إمكانية واقعية لتحقيق التماسك الذّاتي وسط التدمير، وذلك بأن تُروِّج معانيَ إشهارية تفيد أنّ هناك مجتمعات استقبال سياحي، ومنها المجتمعات العربية، تُنزلهن منزلة الملوك وذلك على قاعدة «الزبون هو الملك» (Customer is king / Le client est roi) الذي هو دائما على حق، وتنزع عنهن صورتهنّ الموضوعية كمسنات وتصبغ عليهن صورة جديدة كسائحات. وصورة السائح النمطية الغالبة في هذه الدول هي ذلك «البنك المتحرك» الذي ينفق ما فيه على ملذاته ومتعه الحسية، من هنا جاء الاتجاه القنصي للسياح[24]، حيث يسعى عدد واسع من الشباب في هذه الدول للحصول على أكبر عائد مالي من أيّ مواجهة مع السياح وذلك بأن يقول لهم ما يريدون سماعه، وأنْ يحقق لهم بالكلمة كما بالفعل انتظاراتهم حتى الساكن منها في اللاشعور، ويستجيب لرغباتهم حتى التي بفعل تجاوزية الزمن أو محدوديّة الخَلْق أو تحديدية المجتمع ما عاد بإمكانهم تحقيقها.

إنّ هذه المعاني الإشهارية تَعِد السائحات المسنات وتبشّرهنّ بوجود شبابي كامل، كالآلهة، فتضمر ما تضمره، وتلمح ما تلمحه من اتصاليات اجتماعية عاطفية رومانسية ممكنة... يمكن أنْ تتحقق في أطر مغايرة يتخلص فيها الإنسان من هويته الموضوعية ليتحصل على هوية خصوصية وهي الهوية السياحية وممكناتها المتعالية إلى مستوى الآلهة والتي تفصله عن الإنساني وكل القيود والحدود والإكراهات.

إنّ هذه المعاني تعيد بناء صورة الذات عند السائحات المسنات بما تؤكّد عليه من حضور متجاوز للحدود إلى إمكانية القيام بعمل رغائبي غرائزي على الجسد يعيد له الرونق واليفاعة في زمن ذبوله ويبسه وذهاب نضارته...

نتحدث عن المسنات وليس عن المسنين لأننا لا نهمل الملاحظة السوسيولوجية التي يمكن تعميمها على أغلب المجتمعات وهي أنّ المرأة المسنة تفقد اجتماعيا الإغراء الذي كانت تدين به أساسا إلى نضارتها وحيويتها وشبابها، أما الرجل فيمكن أن يربح مع الزمن قوة إغراء متنامية لأن الثقافات السائدة ترفع لديه من قيمة الطاقة والتجربة والنضج، كما أن القِيَم السائدة تتحدث عن «إغراء الأصداغ الرمادية» وعن «الشيخ الجميل». أما المرأة فتُعمَّدُ كما تقول سيمون دي بوفوار باسم «الجلد الهرم». إنّ الشيخوخة تدمغ بشكل غير متساوٍ في الحكم الاجتماعي المرأة والرجل[25].

إننا هنا في سياق الطموح الحداثي حيث لا يجب الانهيار والاستسلام للجسد وتجاوز صرخة سيمون دي بوفوار في روايتها «المرأة المجربة» (La femme rompue)[26]: «لقد استسلمت لجسدي» واعتناق المقولة الشهيرة الشائعة: «افعل ذلك» (Do it). ومضمون هذا الطموح أنه لكي تقضّي شيخوخة آمنة من كل تهديد، ولكي تطيل حياتك للحدّ الأقصى بأن تعثر ثانية على عمق حياتك وتستعيد تذوقك لوجودك... تناول هذه الفيتامينات وتلك الأملاح المعدنية وتلك الحبوب وهذه الأنواع من الأغذية وتلك الماكس إيبي (Max Epi) التي تحمي من الحوادث القلبية وهذه البيتاكاروتين التي تؤخر شيخوخة الخلايا[27]، ومارِس تلك الرياضة وتنفَّس بتلك الطريقة وافتحْ قوسين على حياة الآلهة  تنفتحْ لك فيها كل الممكنات وتمارس فيها كل ما تشاء بدون تحفظ اجتماعي ولا أحكام معيارية قيمية ولا سلطة زمن ولا تذوية للجسد... هذان القوسان هما رحلة سياحية حيث  البيئة فردوسية استجابية إشباعية... لِنُشِر هنا إلى أنّ أحد النزل في جزيرة جربة يُسمَّى جربة الفردوس (Jerba Paradise).

هذا الإغراء بانفتاح كل الممكنات ليس مجازا، ذلك أن علاقات منكحية حقيقية تتكوّن بين الشباب المرتاد للنزل والعاملين فيها وعلى هامشها وبين السائحات المسنات الباحثات عن التعويض.

إنّ هؤلاء الشباب يَنشدون، من وراء كل اتصالية ممكنة ومتاحة مع السائحات، وخاصة المسنات، الحصول على الجنس والمال والعطايا وحتى الزواج المختلط المُخوِّل للهجرة إلى أوروبا، أيْ يبحثون عن حلول فردية لمغالبة الكبت الجنسي والتهميش الاقتصادي. أما تلك المسنات فإنهن ينشدن الحب والجنس عند آخرَ سهلٍ ومطواع يغالبن به الإقصاء الاجتماعي والعاطفي.

ويتحقق التبادل ولكنه تبادل غير متكافئ، فما يجنيه هؤلاء الشباب هو عينه ما تخسره تلك السائحات المسنات والعكس صحيح. غير أنه شتّان بين هذا الكسب وذاك وبين هذه الخسارة وتلك.

فجنسانية هؤلاء الشباب هي حب بدون حب، إذ لا يعايشون أثناءها ذواتهم كفاعلين إيجابيين وكمفعلين أحرار لطاقاتهم الحيوية، فهم مغتربون عن هذه الطاقات لأن هدفهم هو بيعها بأغلى ثمن ممكن، ومن ثمة فإنّ إحساسهم بذواتهم أثناء هذه الجنسانية لا ينبع من نشاطهم كعشاق وكمتلذّذين وإنما ينبع من فعلهم التّربّحي.

لقد أصبحت أجسادهم وحيوياتهم رأس مال يجب عليهم استثماره بنجاح من أجل أن يحققوا كسبا ماديّاً، وهذا ما ينحدر بهم إلى مستوى الشيء البضاعة، ويغربهم عن طبيعتهم الإنسانية، ومقابل هذا الاغتراب يكسبون من هذه الجنسانية الزائفة المال وحتى الثراء... أما السائحات المسنات فإنّ الجنس بالنسبة إليهن ليس حالة عاطفية انفعالية منشودة لذاتها، وإنما هو فاعلية حماية ضد النسيان والإقصاء وما يولده في نفوسهن من قلق اضطهادي كارب، فهو يتيح لهن امكانية تفعيل الشعور وإحياء الحس وإنعاش الجسد بعيدا عن مجتمع يلغي الشيوخ لحساب عنصرية شابة، ومقابل ذلك ينفقن أموالهن.

فهل، بحساب الربح والخسارة، يستوي من ينفق ماله لشراء حيوية الآخر وشبابه مع من يبيعهما؟ بمعنى هل يستوي من يلغي ذاته في زمن انطلاقها نحو الإثبات مع من يثبت ذاته في زمن انطلاقها نحو الإلغاء؟

لا يستويان... غير أنّه التبادل اللامتكافئ ضمن المنطق الخضوعي الاستتباعي للسياحة الغربية في البلدان العربية.

4) الدلالة الثالثة: العيش الرغيد بدون عمل وبدون شقاء.

إنّ الآلهة تعيش بدون شقاء حيث أعفتها الطبيعة الكريمة من العمل

(l’آge d’Or …les hommes vivent sans souffrir …où la nature généreuse les dispense du travail.)

هذه البيت الشعري لهيزيود (Hésiode)[28]، والذي يعكس الوعي الأسطوري الإغريقي، يحيل إلى نمط عيش الآلهة، والحقيقة أنّه حتى على المستوى الزمني التاريخي فإن الأرستقراطية تمثلت بالآلهة فهي لم تعمل إلا العمل الفكري الناعم واستمتعت بالراحة على قاعدة أفلاطون الشهيرة: «لا يدخُلَنَّ علينا من لم يكن مهندساً».

أما الطبقة البورجوازية فقد كانت مسكونة «بعقدة الأرستقراطية» وبهاجس اكتساب الوجاهة التي كانت تحظى بها هذه الطبقة، ولقد توخت، كمدخل لاكتساب هذه الوجاهة الإمعان في الاستمتاع بالراحة والترفيه[29].

بالنسبة للطبقات الشعبية المستهدفة بهذه التسميات الإشهارية للنزل، فإن أسماء الآلهة تعكس، في ما تعكس، ممارسات الآلهة البذخية اللعبية التنعمية الاستمتاعية الترفّهية الرغيدة التي يمكن أن يمارسها العامل الغربي أثناء العطلة السياحية، كما تعكس مجمل أجواء السيادة والنفوذ والحظوة والقدرة الاستملاكية التي يمكن أن ينغمر بها... وهي بطبيعة الحال ليست ممارسات هذا العامل في حياته اليومية الموصومة بالكدح والكفاف، ولا هي أجواء معيشه اليومي الموصوم بالخضوع الاقتصادي لأرباب العمل.

إنّ هذه الممارسات التي تعكس الحظوة والجاه، وهذه الأجواء التي تعكس السيادة والنفوذ، تندرج ضمن إطار ما نسميه بالتماهي الطبقي، أي أنْ يتمثلن العامل بالمنمطات السلوكية للطبقة البورجوازية فيستهلك علاماتها ورموزها التي هي ليست علاماته ولا رموزه، ويعيش نمط عيشها الذي هو ليس نمط عيشه. إنه نوع من الانفصال الظرفي والمصطنع عن الطبقة الأصلية والارتباط الظرفي والمصطنع أيضا بالطبقة العلوية، ومن ثمّة التنعّم الإيهامي للذّات بوجاهتها الاجتماعية (Prestige social) وبقدرتها الإستملاكية... إنّه نوع من التحايل على الواقع الضّنِك بواقع متخيّل رغيد. وهذا عينه فعل الأسطورة.

إنّ هذا التماهي الطبقي يعكس حالة من توكيد الذات وتعزيزها إلا أنه ليس صلبا لأنه توازن وهمي يفنّده الواقع الصريح والفصيح... إنه نوع من التعويض الظرفي لواقع الدونية والتغطية المؤقتة عن العجز... نحن هنا بإزاء واقع زائف يحرر الرغبة ويسمح بانطلاقها، وهذا هو الفعل النفسي للأسطورة، حيث يعمل هذا الفعل على احتواء المكبوت وتفريغه من محتواه الثوري وحتى النقدي ويطرح إمكانية الاستجابة له وإشباعه الكامل من خلال عالم الخدمات المختلفة ومنها السياحة[30]... فتصبح العطلة السياحية بهذا المعنى، في نزل بأسماء الآلهة، آلية ذات نتائج نفسية هامة للتكييف مع الواقع ولخفض التوتر وتقليص الغبن وخفض الوعي بالانجراف في مجتمع لا يعبأ إلا بأصحاب القوة والمكانة[31].

لقد كتب هانس إنتزنسبيرغر (Hans ENZENSBERGER) في هذا الصدد أن الطبقة العمالية المستغلة كان مطلبها الأساسي هو الثورة على الاستغلال ونيل الحرية... غير أن الرأسمالية حرفت هذه المطالب وميّعتها، فكانت السياحة بمثابة الحل السّيّئ للمطلب الجيد حيث تمّ التغيير الظرفي لظروف العيش بالانتقال الظرفي إلى مجتمع آخر، وذلك عوضا عن التغيير البنيوي لظروف العيش بالتغيير البنيوي لمجتمع الأصل[32].

إنّ الرأسمالية حولت الحرية إلى صورة منشودة في أقاصي الوعي أيْ في الحلم، وفي أقاصي المكان  أيْ في مجتمعات الاستقبال السياحي، ومنها المجتمعات العربية، التي تمّ خفض كل مقوماتها إلى مجرد بيئة للتصعيد والتنفيس: في أقاصي تاريخها أيْ في معالمها التاريخية وفي آثارها، وفي أقاصي ثقافتها أي في فنونها ومختلف تعبيراتها الشعبية... لقد خُفِّضت هذه المجتمعات إلى محض بيئة مناسبة للتداعي الحر لحريات السائح وفسح المجال الكامل لها وحتى تعديل القيم والمفاهيم المحلية وتغييرها لتتجاوب معها وتتناغم مع انتظاراتها وتستجيب لمتطلباتها، من هنا نتحدث عن تسييح مجتمعات الاستقبال، أي تغريبها عن مقوماتها، وإخضاع مختلف هذه المقومات الثقافية والقيمية والاجتماعية لحريات السياح وانتظاراتهم المطلقة، وعوض أن يبحث هذا السائح كإنسان مقهور ومستغَل ومستلَب عن حريته الجماعية في الثورة كفعل جماعي، يبحث عنها في السياحة وفي الحلم وفي الوهم كفعل فردي، فيعيش الحرية، ظرفيّاً، واهما في بلد السياحة ما كان يجب أن يعيشه، بنيويا، حقيقة في بلده الأصل...

5) الدلالة الرابعة: نفي الموت والاستمتاع بالخلود.

إن الآلهة لا تموت، إنها خالدة وهي تعيش في رفاه، هذا هو الفهم الحاصل في الوعي الأسطوري العام للثقافة الغربية. وحينما نستعمل أسماء هذه الآلهة بكثافة في تسمية النزل فإننا بذلك نكثف صور الوجود والحياة ونُبعِد أفكار الموت والعدم.

إنّ هذه التسميات موجهة إلى مستهلك ينتمي إلى ثقافة غربية مادية ترفض فكرة الموت لما يثيره من رهبة ورعب وتعمل على إخضاعه وكبت فكرته وإقصائه من الحضور في التفكير... وذلك بتكثيف صور الحياة وإمكانيات العيش[33].

كما تَعِد هذه الأسماء بالرفاه الزائد والقوة الخارقة والنشاط الجامح... وهي جميعها ممارسات هدفها الاستمتاع الأقصى بالحياة والتنعّم الأفضل بها وإشباع الحاجات المادية الغرائزية إلى ما لانهاية... كما تدعو إلى الاستسلام الكامل للذّات المادية والإنصات الإشباعي الدّقيق لشهواتها ورغباتها وتهويماتها وشواردها وذلك بغرض نفي الموت وتعميق الشعور بالحياة والكينونة[34] وإعادة إنتاج الأمن الوجودي وتبديد القلق العائم المرتبط بعدم الثبات والنقصان ...

إنّ الرسالة التي ترسلها هذه الأسماء هو أنّ هذه الحياة ليست مشفوعة بالضرورة بوجود آخر بعدها، وإنما هي الرحلة الوجودية الكاملة في مبتداها ومنتهاها، وأن الجنة، بما تعنيه من نعيم مطلق، هي ههنا في القصور الفارهة المترفة، مقر عيش هذه الآلهة، وفي نمط وجودها القائم على البذخ والمتعة والرفاه والراحة وعدم التعب، بعيدا عن لعنة الكدح والشقاء في تحصيل العيش والمقولة الدينية المؤنِّبة: «ستحصل على خبزك بعرق جبينك» (tu gagneras ton pain à la sueur de ton front) [35].

إن الجنة، مقر خلود الآلهة، هي عينها هذه النزل وهي في متناول من ينزل بها.

وإن الآلهة مطلقة الحرية، وهي غير محكومة بالمحظورات والمحرمات، ويلتقي ذلك مع وعي الإنسان الحديث الذي يبحث باستمرار عن التحقق المادي الدائم وعن الإشباع وعن اللذة الكاملة.

إن هذه المعاني والدلالات الثقافية المتصلة بالمسألة الروحية، لا شكّ أنها تخدم البعد الاستهلاكي السياحي كونها تتنزّل في سياق إشهاري. ولكنّ هذا السياق الإشهاري نفسه يتنزّل هو الآخر في سياق أوسع وهو السياق الثقافي لدول الاستقبال. وهنا ينفتح باب آخرُ للتحليل:

إنّ المجتمعات العربية السياحية التي تُرَوَّج فيها مثل هذه التصورات ذات المعاني والرسائل الثقافية المادية الزمنية هي مجتمعات ذات ثقافة روحية دينية تنظر إلى مسائل الحياة والموت والوجود والعدم نظرة مغايرة تماما. فالحياة في هذه الثقافة ليست هي رحلة الوجود برمتها وإنما هي مجرّد فاصل وجودي قصير، إنها مبتدى الرحلة فحسبُ تليها مرحلة الوجود البرزخي الذي هو الموت، تليه مرحلة الوجود الأخروي، أيْ أنّ العدم في هذه الثقافة غير موجود.

إنّ معاني هذه التصورات الإشهارية ودلالاتها تؤسّس قاعدة لعدم الاعتراف بالاختلاف الثقافي. فالقيم الروحية الدينية للمجتمعات العربية تُغيَّب لصالح القيم المادية الزمنية للمجتمعات الغربية الرأسمالية. والثقافة الروحية تُمحى لصالح الثقافة المادية وفي ذلك تخطٍّ لمفاهيم الاختلاف الثقافي والخصوصيات الحضارية والحق في الاختلاف الاعتراف بالغيريّة...[36].

خاتمة

هذه الومضات الأربع تجيب عن الاستفهام الذي طرحه عالم الأنثروبولوجيا والاجتماع دين ماكنيل من أنه يجب علينا أن نفهم ما يميز إنسان الحداثة لنستطيع تحديد دوافعه لممارسة السياحة.

إنّ الإنسان الحديث يعاني من الاغتراب والتشتت والسطحية، وبالتالي فإنّ السياحة تمثل بالنسبة له ظرفا مصطنعا يخفض فيه التوتر ويمارس فيه المتعة الخالصة ويعيد فيه إنتاج المعنى ويفتح فيه إمكانيات جديدة للفعل في كل ممكناته النزوية والرغائبية والغرائبية والرغبوية وحتى الشذوذية...

إن السياحة هنا تنتزع الإنسان من إخفاقات الحداثة وفشلها لتكون بمثابة عودة إلى الخلف، إلى المجتمعات البدائية البسيطة التي لا تزال تعيش على حالتها الطبيعية والتي يمكن فيها ممارسة المتعة الخالصة في بعدها الأكثر حرية.

إنّ الغرب سيمارس هذه الحرية الاستمتاعية السائبة في المجتمعات النامية ومنها المجتمعات العربية التي انخفضت قيمتها إلى مستوى المادة الاجتماعية البدائية المستقبلة للسياح الغربيين بخضوع يساعدهم على التحلل الحر من الإكراهات وتصعيد الأزمات وتعويض الإخفاقات وتصريف الشذوذ والنزوات...

--------------------------------

[1]*- أستاذ جامعي وباحث في أنثروبولوجيا السياحة / تونس.

[2]- Lanfant, M.F.: Le tourisme dans le processus d’internationalisation. RISS. Vol XXXII, PARIS UNESCO, 1980, P15. Cit in: Aisner P. et Pluss C., La ruée vers le soleil, L’Harmattan, 1983, P186.

[3]- Ntanyungu F. N’Duhirahe F.: Tourisme et dépendance: le cas de l’Afrique noire, Itinéraires note et travaux, N6, GENEVE, institut universitaire d’etudes du développement, 1981, P5. Cit in: Aisner P. et Pluss C., La ruée vers le soleil, op cit, P186.

[4]- Collectif: Tourisme international et sociétés  locales. Problèmes politiques et sociaux, Paris, Documentation      française, n 423, 1981, P9, cit in: Aisner P. et Pluss C.: La ruée vers le soleil, op cit, p186.

ورد في: عادل الوشاني: أساسات علمية للظاهرة السياحية: التاريخ والهوية والمناويل، دار نشر علاء الدين، صفاقس، تونس، 2016، ص30.

[5]- Aisner P. et Pluss C.: La ruée vers  le soleil, op cit, P198.

[6]- أبو بكر أحمد باقادر: سوسيولوجيا السياحة، مجلة الفكر العربي، معهد الإنماء العربي، بيروت، لبنان، عدد 89، 1997، ص 137.

[7]- Eric Fromm: The sane society, Holt, Rinehart and Winston, New York, Eleventh Printing, 1962. P166.                                             

[8]-  علاء طاهر: مدرسة فرانكفورت من هوركهايمر إلى هابرماس. منشورات مركز الإنماء القومي، بيروت، ص 72، (بدون تاريخ).  

[9]- هاربرت ماركوز: العقل والثورة، هيغل ونشأة النظرية الاجتماعية، ترجمة فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1970، ص 95-96.

[10]- المصدر نفسه. نفس تاريخ الزيارة.

[11]- انظر:

 Georges Dumézil, Mythe et épopée, Types épiques indo-européens, un héros, un sorcier, un roi, NRF, Gallimard, 4ème édition, 1984. Tome II.

[12]- سمير عزمي: الحداثة وأزمتها، موقع الكتروني مجلة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، نشر بتاريخ 21 جانفي/يناير 2015، تاريخ الزيارة 25-4-2018.

[13]- Magazine littéraire, N° 225, 1985, p. 43.

[14]- Baudrillard, Jean, «La modernité»,  Encyclopédie Universalis, volume 11.

[15]- PERROT, Marie Dominique ; Gilbert RIST et Fabrizio SABELLI (1992), La mythologie programmée: l’économie des croyances dans la société moderne, Paris : Presses Universitaires de France. Cit in Boualem Kadri et Djaouida Hamdani Kadri : Discours publicitaire et mythologie touristique: une analyse sémiologique des mythes du Club Med. Revue téoros .2012.

[16]- ELIADE, Mircea (1957) Mythes, Rêves et Mystères, Paris, Gallimard. p 310.

[17]-  نحن نعلم أن بعض المفكرين الغربيين قد تجاوزوا هذه الاثنية المركزية الضيقة إلى قراءات أكثر موضوعية وإنصافا لغير الغربيين أمثال الأنتروبولوجي الفرنسي بيار كلاستر (Pierre CLASTRES) وتحاليله الجريئة في مجال الأنتروبولوجيا السياسية وأيضا الأنتروبولوجي الفرنسي جورج بالاندييه (Georges BALANDIER).

اُنظر:

- جورج بالاندييه: الأنتروبولوجيا السياسية، ترجمة علي المصري، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع بيروت، 2007.

- بيار كلاستر: مجتمع اللّادولة، ترجمة محمد حسين دكروب، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1991.

[18]-  Bugnicourt (J) et al: Touristes_rois en Afrique, Dakar-Paris, Enda-Karthala, 1982, P120- 121.

[19]- علي شعيب: الاستشراق وكتابة التاريخ، الفكر العربي المعاصر، عدد 70-71، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1989، ص 59.

[20]- عادل الوشّاني: السياحة الدولية في البلاد العربية: حوار بين الثقافات أم مدخل آخر للهيمنة الغربية على البلاد العربية. مؤلَّف جماعي بعنوان الممارسة الثقافية في مجتمع المعلومات والاتصال، منشورات المركز الوطني للاتصال الثقافي، تونس، ،2005 ص 101-107.

[21]- إنّ الاشهار يشتغل على الرغبات المكبوتة وعلى التعويض كما يشتغل على صناعة الأحلام والاستجابة لها.

اُنظر:

Fabienne Baider, Marcel Burger et Dionysis Goutsos (dir), La communication touristique, Approches discursives de l’identité et de l’altérité, L’Harmattan, Paris, 2004.

[22]- دافيد لو بروتون: أنتروبولوجيا الجسد والحداثة، ترجمة محمد عرب صاصيلا. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1993، ص 156.

[23]- Simone de Beauvoir, La vieillesse, Gallimard, Paris, 1970, P 130.

[24]- W.A. Sutton: Travel and understanding :Notes on the social structure of touring. INTJ. Comp. Social, 8(2), 1967, p23.

ورد في: أبو بكر أحمد باقادر: سوسيولوجيا السياحة، الفكر العربي، العدد التاسع والثمانون، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1997، ص140.               

[25]-  دافيد لوبروتون: أنتروبولوجيا الجسد والحداثة... مصدر مذكور سابقا، ص147.

[26]- De Beauvoir, Simone: La femme rompue, Edité par Gallimard ,1973.

[27]- Daniel Cohn- Bendit: Nous l’avons tant aimée la Révolution .Barrault ED,‎ 1986. 

ورد في: دافيد لو بروتون: أنتروبولوجيا الجسد والحداثة ...مصدر مذكور سابقا، ص 158.

[28]- Hésiode: Les Travaux et les Jours.  ةditions Mille et Une Nuits ,1re éd. 2006.

[29]- حول هذه الأطروحة اُنظر: T. Veblen: Théorie de la classe de loisir. Paris Gallimard 1970.

[30]- يذهب هاربرت ماركوز إلى أن صناعات اللذة في المجتمع الصناعي تقوم بترشيد أحلام الإنسان الجنسية واستيعابها داخل إطار النظام القائم، فهي تطلق الرغبة الجنسية من عقالها ولكنها تُفرِّغ مبدأ اللذة من محتواه الثوري وتحتويه تماماً، إذ تطرح إمكانية الإشباع الكامل من خلال عالم الخدمات المختلفة مثل السياحة والنوادي الليلية وأحلام الإباحية. أي أن كل شيء يتم تدجينه، وضمن ذلك الرغبة الجنسية نفسها. اُنظر: هاربرت ماركوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة جورج طرابيشي، دار الآداب بيروت، الطبعة الثالثة، 1988.

[31]- علي زيعور: اللاوعي الثقافي ولغة الجسد والتواصل غير اللفظي في الذات العربية، دار الطليعة. بيروت،1991 ، ص 48

[32]- H. M. Enzensberger, Une théorie du tourisme, in Culture ou mise en condition?, Paris, Julliard, 1965, p. 161- 162.

[33]- برهان غليون: مجتمع النخبة. دار البراق للنشر، الطبعة الثانية، 1989. ص 88.

[34]- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[35]- Calvin, Institution de la religion chrétienne. Cit in Pierre Bouvier, Le travail, PUF, Paris, 1991, p 16.  

[36]-  عادل الوشّاني: أساسات علمية للظاهرة السياحية، مصدر مذكور سابقا، ص 61-62.