الباحث : علي قصير
اسم المجلة : الاستغراب
العدد : 12
السنة : السنة الرابعة - صيف 2018 م / 1439 هـ
تاريخ إضافة البحث : July / 22 / 2018
عدد زيارات البحث : 2148
في هذه المقالة يعرض الكاتب إلى شخصية الفيلسوف السياسي والمناضل الأممي فرانز فانون كشاهد على مرحلة من أبرز مراحل التمدُّد الاستعماري في العالم الحديث. ولعل ما يمنح تجربة فانون صفة استثنائية في مقاومة هذا التمدد هو الانخراط الفعلي في ميدان ثورة الجزائر ضد الاستعمار الاستيطاني الفرنسي. وما يضاعف من أهمية شخصية كهذه المشروع الفكري الذي قاده في خمسينيات وستينيات القرن العشرين ودخوله في سجال عميق مع عدد من فلاسفة الحداثة الذين شكلت أطروحاتهم تبريراً للاستعمار ودعوة إلى العنصرية من خلال اعتبار الغرب مركز العالم وحضارة العقل في مقابل حضارات الأطراف في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.
تغطي هذه المقالة السيرة الذاتية لفانون منذ ولادته في جزر المارتينيك الفرنسية وصولاً إلى أن يصبح أحد أهم المفكرين والفلاسفة المناهضين للكولونيالية المعاصرة.
«المحرر»
-------------------------------
لا شك بأن استحضار شخصية عالمية عرفت بفكرها النيِّر وكفاحها من أجل الحرية والكرامة الإنسانية كالفيلسوف والمناضل الأفريقي فرانز فانون، يكتسب أهمية خاصة في عصرنا الراهن. وهذه الأهمية ترجع إلى ثلاثة أسباب رئيسية: أولاً، لأن فانون هو رمز للنضال من أجل العدالة والتحرر الوطني ومناهضة التمييز العنصري، وثانياً، لأن هذا الرجل شكل ظاهرة ثقافية في ستينيات القرن الماضي. وثالثاً، لأن انخراطه في النضال في صفوف جبهة التحرير الجزائرية لم يكن من باب العثور على هوية وطنية مغلقة وإنما انطلاقاً من التزامه الرسالي بحق الأمم والشعوب في تقرير مصيرها.
يعتبر فرانز فانون شخصية متعددة الأبعاد، فهو إلى كونه أفريقيّاً وجزائريّاً وفرنسيّاً هو رجل أممي بامتياز. وهذه الشخصية المتعددة الأبعاد لعبت أدواراً ذات شأن في مجالات وميادين علمية وإنسانية ومهنية شتى. فهو الطبيب النّفسي والسوسيولوجي والفيلسوف وكذلك هو المناضل في ميدان الحرب والسياسة.
ومن اللافت تاريخيّاً أن فانون لم يكن شخصية مركزية أو قائداً في جبهة التحرير الوطني الجزائرية. وبالتالي لم تكن له علاقة بالقرارات القيادية. كما أنه لم يكن دبلوماسياً مهماً، مع أنه قام فعلاً بتمثيل الحكومة الموقتة الجزائرية في غانا. بل انه لم يكن خبيراً استراتيجياً عسكرياً، مع أنه كان منخرطاً بصورة فعلية في العمل العسكري حيث عمل على تنظيم رحلة استطلاعية مهمة بهدف فتح جبهة جديدة في الجنوب الغربي. كان نشاط فانون اليومي كعضو في جبهة التحرير يتمثل في كونه صحافيّاً، أو لعله كان على وجه أدق داعية للثورة الجزائرية، من خلال صحيفة المجاهد. في الكثير من مقالاته يخاطب اليسار الفرنسي، مناشداً إياه القيام بشيء ما لمساعدة الجزائريين في نضالهم ضد الفرنسيين. ويمكن القول أن مجموعة أعمال فانون (دراسات في كولونيالية محتضرة – السنة الخامسة من الثورة الجزائرية) تشكل مفصلاً بارعاً لجدلية التجربة المَعيشة مع لغة التحول الثوري؛ ثم إنها محاولة لتوصيل فكرة إقامة جزائر جديدة إلى جمهور معظمه فرنسي. لكن في حين أن كتاب «جلدٌ أسود» ينطوي في مضمونه على مساجلات نظرية مع الفكر العنصري الأوروبي، كان كتاب «المعذبون في الأرض» محاولة لتأسيس نظرية عالمية ضد الفكرة الاستعمارية بدءاً مما يسميه أفريقيا ما بعد الكولونيالية. وإذ ينطلق العمل من أرضية الثورة الجزائرية، فإنه يعرض إلى أفكار متجددة مثل الوكالة والتنظيم، ودور المثقف في الحركات الاجتماعية. وهكذا كان تنظير فانون بشأن التنظيم الناشئ من داخل النضال ضد الكولونيالية يعمق رؤياه بشأن المستقبل في مرحلة ما بعد الاستقلال. وفي حين أن مفهوم التجربة المَعيشة يعطي نظرة ثاقبة هائلة في حياة فانون وأعماله بغية فهم ميراثه النظري، واستيعاب مسار تصفية الاستعمار الكولونيالي في أفريقيا، فإن فكرة جدلية ما لا تزال مطلوبة[2].
المناضل ضد الليبرالية ـ الكولونيالية
تحدى فانون النظرة الليبرالية الأوروبية محتَّجاً بأن السكان الأصليين والقبائل والجماهير والفلاحين وأمثالهم يتعرضون في الوضع الكولونيالي لعملية نزع إنسانيتهم بصورة كاملة بفعل عنف الواقع الكولونيالي وخطاباته التي تصل إلى درجة أنهم لا يبدون قادرين على الربط بين أفكارهم بالذات. ومع ذلك فإنه لم يتخل عن مفهوم الذات أو المعرفة المستعبدِة (بكسر الباء). بهذا المعنى لم يكن فانون مجرد ناقد للخطاب الكولنيالي، إذ هو يدرك أن المستعمَر والمستعمِر عالقان في شبكة معقدة من العلاقات. ومع أن المستعمَر يتم إسكاته فهو ليس ساكتاً بصورة كاملة. فالكولونيالية تريد لنفسها أن تكون شمولية وأساساً لطريقة جديدة في الحياة، لكن المفارقة هي أن هيمنتها تقوم على أساس القوة الخالصة- إنها تفضل الخيار العسكري دائماً – وتذهب بعيداً في الفصل بين المواطن الأصلي والأوروبي. هكذا تغدو الكولونيالية في الواقع لا كلية الحضور كما ظهرت في بادئ الأمر. فلقد تم تدمير الثقافات التي برزت قبل السيرة الكولونيالية، لكن ما كان بالأهمية ذاتها هو أن هذه الثقافات ظلت قائمة. ومع ذلك فإن ما بقي منها هو أيضاً قد تم جره إلى الدوامة المانوية التي أنتجتها الكولونيالية، ما جعل حتى أكثر الممارسات الرجعية الـ «ما قبل الكولونيالية» «معادية للكولونيالية». وبوعي منه لهذا المأزق، يؤكد فانون على إعادة تنشيط الثقافة التحررية من خلال النضال اليومي، وهو ما يبعث الحياة في ممارسات اجتماعية جديدة وإعادة صوغ هوية وطنية ممكنة.
هذه الثقافة التحررية نجدها بارزة بقوة حين نقرأ كتابه «جلد أسود»، وعلى ما يقول الباحثون المتخصصون فإن المسألة النظرية المتصلة بتجاوز تصنيفات العرق تشكل محوراً أساسيّاً في هذا الكتاب، وفي حين أن فانون لا يريد أن يتحدد بـ «الآخر»، فإنه لا ينفر منه. وبتعبير آخر، ثمة لحظة في «جلد أسود» يعتنق فيها فانون وعي الأسود بوصفه مطلقاً وليس لأي شخص آخر أن يخبره بغير ذلك. وأدت قوة تمثيل فانون لرد الفعل «المانوي» أدت بكثيرين إلى الاعتقاد بأن الرجل هو مجرد داعية له في واقع الأمر. لكن، بحسب تفكير فانون، وحده اعتناق رد الفعل على تركيب الأبيض لصورة الأسود، أو التركيب الكولونيالي لصورة المستعمَر، يمكِّن المرء من تفكيك «المانوية العنصرية» وبالتالي أن يبدأ بتجاوزها. ومع أن رد الفعل إزاء تركيب الصورة من طرف «الآخر» يظل في إطار لغة الأول – كرد فعل لفعل ما – فإنه فقط عبر انتقاد هذا النوع من العمل يصل المرء إلى لحظة جديدة من معرفة الذات، وبالتالي إلى القدرة على تفجير العنصرية المانوية. وهذه التجربة تمثل عملية تحرير نفسي وفكري في آن واحد. ويرى الباحث الفرنسي نايجل غبسون أن هذه العملية هي جدلية وتاريخية. ففي المقام الأول، يرفض فانون في «جلد أسود» أن «يَعْلق» في التاريخ، وأن يكون عبداً للعبودية. ويعلن قائلاً: «أنا الأساس الذي وضعته لنفسي»، ويصر في مواجهة الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر على أن مثل هذه الخطوة هي جدلية في العمق. ومع ذلك ، فإنه عبر انخراط فانون في الثورة الجزائرية تغدو هذه الجدلية، بتأكيدها على التأصيل والذاتية، احتفاءً بعبقريّة الابتكار والتحرير في آن واحد[3].
فانون في مواجهة الافتراءات
عندما نُشِر كتاب «معذبو الأرض» ووُجِه بالنقد من جانب المثقفين الليبراليين واليساريين الفرنسيين، وقد اتفق الشيوعيون والليبراليون على أن تحليل فانون كان على خطأ، وأن نظرته لم تُضِفْ أي شيء نظري جديد، وأنه قام بتعميمات لدى رفضه مقولة البروليتاريا الثورية، الأمر الذي كان عبثيّاً بقدر ما كان تبنّيه الفلاحين و«البروليتاريا الرثة». وبعد ترجمة الكتاب إلى عدد من اللغات خلال الأعوام القليلة اللاحقة، كانت الولايات المتحدة الأميركية، بلاد الإعدام للكتاب من دون محاكمة، بحسب تعبير فانون ذلك على الرغم من أنها كانت حاضنة كتبه المعروفة. ومع أن الراديكاليين السود الأميركيين اقتبسوا من كتابَيْ «معذبو الأرض» و»جلد أسود» مصدراً لتحررهم النفسي ذاته، جرى تصويره بصورة كاريكاتورية، حتى بأقلام من هم في مستوى الفيلسوفة الأميركية حنة أرندت، على أنه فيلسوف للعنف. ومثل هذا الاختزال غير الصحيح لا يزال ملموساً حتى بعد خمسين عاماً من صدور أعمال فانون.
الأكثر من هذا أنه في الوقت الذي افتتح فيه حزب «الفهود السود» الأميركي، الذي ربط بين فانون والجزائر الثورية، فرعاً أمميّاً في الجزائر في عام 1970، كان فانون في حقيقة الأمر نسياً منسيّاً لدى قادة الجزائر الحديثة الاستقلال، حيث كانت مقالاته مُفرِطة في انتقادها النظام الجديد. وحتى عندما نُشرت الترجمة العربية لكتابه «معذبو الأرض» في عام 1963 [4]. طُمست أهميتها الثورية من خلال حذف انتقاد فانون للنخب الوطنية – الحزبية والعسكرية والثقافية – التي كانت تتحكم بالنظام تحت عباءة الاشتراكية والقومية العربية[5].
ويلاحظ الباحثون أنه على الرغم من وسم كتاب «معذبو الأرض» بأنه كتّيب العنف، بتأكيد من مقدمة جان بول سارتر (Jean-paul Sartre) المؤثرة، فإن فانون ليس مجرد كاتب يمجِّد العنف. ففي حين أدرك الأهمية النفسيّة والرمزية التي يحظى بها العنف المضاد للكولونيالية في سياق اختلال التوازن الهائل الذي مثله العنف الكولونيالي، فقد أشار إلى أن العنف هو أيضا «إشكالية». هذه الإشكالية تتوضح في سياق انتقاد فانون الشديد للسياسات الضيقة المتعلقة بمعاداة الإمبريالية والكفاح الوطني. ودليله أن القراءة البالغة التشويه لكتابه، يمكن أن تخلص إلى الاستنتاج الذي مؤداه أن التحرير فقط يشكّل أعمال عنف. بيد أن فانون صاحب كتاب «معذبو الأرض»، والمنظّر السياسي للتحرر الوطني جرى حجبه خلال العقدين السابقين وحل محله فانون الذي يهتم بقضايا العرق والتمثيل. وهناك توطئة مهمة أخرى كتبها هذه المرة هومي بهابها (Homi Bhabha) للطبعة التي نُشرت في لندن من كتاب «جلد أسود، قناع أبيض»، برهنت عن تأثيرها من خلال إعادة تأويل مؤلف فانون باستخدام مفاهيم «تضاربات الهوية»؛ وهو ما أدى الى تحويل الاهتمام به بعيداً من «حقائق» الحكم الكولونيالي الاجتماعية والاقتصادية.
ولئن احتفى المحللون السياسيون السابقون بما يبدو تبسيطاً اقتصاديّاً للعبة عنف مجموع حاصلها صفر بين المستعمِر والمستعمَر، فإن منظِّري الأدب والثقافة الذين برزوا في تسعينيات القرن العشرين قد تجنبوا ذلك، في حين كانوا يحتفون بما اعترى كتاب جلد أسود من مظاهر الغموض الخاصة بالهوية. وأعتقد أن كلا المنهجين محدود بصورة جدية. فالأعمال التي نُشرت في السنوات القليلة الأخيرة، مثل كتاب لويس ر. غوردون (Lewis R. Gordon) بعنوان Fanon and the Crisis of the European Man (قانون وأزمة الإنسان الأوروبي) وكتاب آتو سيكي – أوتو (Ato Sekyi- Out) بعنوان Fanon’s Dialectic of Experience (جدلية فانون بشأن التجربة)، بادرت إلى وجهة النظر هذه. وكتابنا هذا يقتفي أثر هذا النهج النقدي، وينظر إلى أعمال فانون بوصفها كلاًّ لا يتجزأ. إن المشكلات التي يعالجها فانون لا تتم في فراغ، بل تنجم عن أوضاع تاريخية واجتماعية محددة، وعن الطريقة التي يفكر الناس في شأنها. وبالتالي فإن فانون، شأنه شأن غيره من المفكرين الراديكاليين، ينخرط في العالم الذي يحوطه سعياً منه إلى فهمه وتغييره. وانتقال فانون إلى الجزائر، الذي نناقشه في الفصل الرابع، هو نقطة مركزية في هذا الكتاب. وتركز الفصول من 1 إلى 3 على القضايا التي طوّرها في كتابه جلد أسود، في حين تعالج الفصول من 5 إلى 8 الإشكاليات المتصلة بالثورة ضد الاستعمار الكولونيالي[6].
ولا شك في أن الكتابين المشار إليهما «جلد أسود و«معذبو الأرض» يبدوان مختلفين تماماً من حيث إنهما يعكسان تجارب مختلفة بشأن الاستعمار الكولونيالي الفرنسي. فالكتاب الأول يناقش إشكالية عقدة النقص المشتقة، في آن واحد، من النزعة الفرنسية التي سادت جزر المارتينك قبل الحرب، ومن تجربة أن تكون أسود البشرة في الأعوام التي تلت الحرب مباشرة في المركز الاستعماري في فرنسا. أما الكتاب الثاني فهو نتاج لثورة ضد الاستعمار الكولونيالي في مستعمرات الاستيطان الكولونيالي. وهنا ربما يعتقد بعضهم بأن كتاب «معذبو الأرض» يعكس أكثر من غيره واقعاً مانوياً بين الأبيض والأسود، وأن نظرات فانون الثاقبة بشأن غموض ما بعد الكولونيالية في كتاب جلد أسود هي التي تضع حقاً الأساس لأي تحليل قادر على الاستمرار يتجاوز التفكير المانوي. مع ذلك يذهب كثيرون ممن علَّقوا على أعمال فانون إلى أن اعتباره منظِّراً منسجماً مع ذاته يستوجب منهجاً تحليليّاً مختلفاً.
وهكذا يصر فانون في كتابه «جلد أسود» على أنه لم يأت ليعلن «حقائق أزلية». ويستمد هذا التحليل جذوره من الراهن: «يجب النظر في كل مشكلة إنسانية من زاوية الزمن». المسألة ليست تاريخية فحسب، أو هي تتوقف على القرينة فقط، بل هي مسألة ممارسة. «يجب أن يكون المستقبل واجهة مدعومة بالعيش(...) وهذا البناء يرتبط بالحاضر إلى درجة أنني أعتبر الحاضر في منزلة شيء ينبغي تجاوزه» (BS,12). وأنا، بهذه الروح، أتناول أعمال فانون.
محور اهتمام المؤرخين
لقد حظيت شخصية فرانز فانون باهتمام استثنائي من جانب المفكرين والمؤرخين والكتاب من تيارات عالمية مختلفة معادية للاستعمار. وقد يكون من أهم وآخر الأعمال وربما أكثرها اكتمالاً، كتاب صدر مؤخراً في باريس للباحث الفرنسي دافيد ماساي، الذي توفي قبل فترة وجيزة وهو في الثانية والتسعين من العمر. وجاء تحت عنوان: «فرانز فانون، سيرة حياة».[7]
من أبرز الأفكار التي يؤكد عليها المؤلف في شخصية فانون قوله أن سنوات طفولته تضيء الكثير مما عرفه في سنوات شبابه وإضافة أن مسار حياته يجد نقاط ارتكازه في تربيته الأسرية وما عرفته من أفكار. وأن ذلك الطفل المولود في المارتينيك كان ملك كرة القدم بين رفاقه. وإذا كان قد اكتسب منذ تلك الفترة جسداً صلباً فإنه لم يكن هناك ما ينبئ أنه سيصبح صاحب القلم الذي كتب «المعذبون في الأرض» وصاحب مقولة: «الجلد الأسود والأقنعة البيضاء”.
كان فانون، كما يقدمه المؤلف [دافيد ماساي]، قاسياً إلى حد ما، في محادثاته مع الآخرين، ولكنه كان محبّاً للمعرفة ومنفتحاً على الآخر. وينقل المؤلف عن المؤرخ باسكال بلانشار عنه: «لقد حطّم [فانون] قبل الآخرين بكثير الحدود الضيقة حيث تجد كل مجموعة نفسها أسيرة عالمها ولونها. وقد اخترق المرآة الاستعمارية وفتح الطريق التي كان قد نجح القلّة من الناس في ولوجها والذين حملوا أسماء مثل ألبير كامو وألبير لوندر وأندريه جيد”.
يرى ماساي أن فانون كان متعدد الهويات. قالوا عنه أنه مارتينيكي وأسود ومتشرّب للثقافة الفرنسية وجزائري وإفريقي. ذلك يعني أنه يمتلك عدداً كبيراً من الأسماء مما يسمح برؤيته من خلال منظور الاختلاف.
عاش فرانز فانون في أجواء المدينة. وكان محبًّا للمرح أثناء سنوات مراهقته. وجعلت منه قوة شخصيته نوعا من رئيس العصابة الذي تحوّل بعد ذلك إلى ممارسة القراءة في عزلته. بكل الحالات لم يكن هناك ما يسمح بالتفكير أنه سوف يغدو أيقونة للعالم ثالثية الثورية. كما يكتب مؤلف هذه السيرة. ثم يحدد القول أن نزعته نحو الرفض والتمرّد تعود إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية التي وضعت حدّاً نهائيّاً لـنشاطات الشغب ولساعات القراءة في المكتبات. لقد أيقظت تلك الحرب وعيه المناهض للعنصرية ورفض مفهوم السواد المرتبط بالعبودية الذي كان قد نبّهه إليه أستاذه بمادة الأدب في الثانوية إيمي سيزار، المتوفي عام 2008. وعلى خلفية مثل تلك الذهنية تكوّنت لديه نزعة الطموح لاكتساب رؤية كونية وانتماء كونيّ للإنسان بعيداً عن ثنائية الأبيض والأسود. ولم يكن فرانز فانون يتردد في تأكيد القول: «العبد الأسود- غير موجود. وكذلك الأبيض ليس موجوداً. ما يعني أنه لم يكن يرغب في تحديد نفسه داخل هوية حصرية.
فانون المثالي الواقعي
ومهما يكن من أمر فإن جزءاً من مأزق فانون هو نتيجة الدور المهم الذي يوكله إلى المثقف، الذي يمكن أن يكون العنصر الأقل استقراراً في المخطط الفانوني. ومع ذلك، يساهم المثقفون مساهمة عظيمة في الاستقرار، من خلال المساعدة التي يقدمونها لخلق وعي وطني عبر سياسة ثقافية جديدة وفي تشجيع اليقين بالذات لدى الجماهير.
لقد فتحت حركات التحرير الأفريقية ديالكتيكاً جديداً وصفحة جديدة في التاريخ. واليوم قد تبدو أفكار فانون مفرطة في مثاليتها، لكنه كان في حقيقة الحال واقعيّاً من الطراز الأول. ومن المؤسف أن توقعاته بشأن إفريقيا ما بعد الاستعمار غالباً ما ثبتت صحتها: فإفريقيا الآن هي أسوأ مما كانت عليه قبل ما يزيد على أربعين عاماً. ومن جهة أخرى، لم يتوقف الضغط الثوري في أفريقيا. إن الطبيعة غير المكتملة لإزالة الاستعمار هي التي تستمر في ترويع أفريقيا في هذه اللحظة الراهنة من التحلل. ومفهوم فانون للتنمية، بتركيزها على العمل (عمل النساء غالباً في أفريقيا المعاصرة)، لم يعد «مثاليّاً» أكثر مما كان قبل أربعين عاماً. تروي الوقائع الصعبة والخاصة بإفريقيا القرن الحادي والعشرين قصة مختلفة. إذ شهدت الأعوام الخمسة والعشرون الأخيرة انخفاض متوسط العمر المتوقع، وأزمة في الرعاية الصحية وأنظمة التعليم، وتدني إنتاج الأغذية. وثمة هوة متزايدة الاتساع بين الأغنياء والفقراء. ولم يكن للتكيف الهيكلي أي نتائج إيجابية تقريباً. من يصدّق، غير أصحاب الجمود الأيديولوجي، أن أفريقيا يمكنها الآن أن «تتطور» على أسس رأسمالية؟ إن تكهنات فانون، وإن كانت غير مكتملة، تظل واقعية على نحو مخيف. لم تقتصر غايته على توقع الأزمة في أفريقيا وانحطاط الحركات الاستقلالية، بل كانت تشتمل على التدخل في العملية والتأثير بها. نزع السدادة عن المخزون الهائل من المقاومة الشعبية ومحاولة «إطلاق الحركة في أفريقيا (...) وراء المبادئ الثورية» – تلك كانت المهمة التي حددها لنفسه.
لعل ميراث فانون الأكثر استدامة اليوم هو أنه صاغ سلسلة من الإشكاليات أكثر مما هي إجابات. ومن هنا، فعندما يطرح فانون في وسط كتاب «معذبو الأرض» السؤال: «هل أنا موجود؟» «في الحقيقة، من أنا؟»، فإن السؤال يتناول قضايا وجودية ومعرفية في آن واحد؛ تشظي الهوية وكذلك عدم يقين المفاهيم الثنائية الواجب استخدامها لفهم الوضع الاجتماعي ما بعد الاستعمار. وبدلاً من أن يحتفي فانون بيقينها أو غموضها، أو أن يتراجع إلى موقف «حيادي»، يشتبك مع هذه التصنيفات، مُدركاً أنها من منتجات السلطة. وظلت حرية الإنسان تحتل حيزاً مركزياً في ديالكتيك فانون. ومع ذلك، فإن إصرار فانون على جلب «الابتكار إلى الوجود» وتخيل المستقبل، هو في الواقع إجابة ملموسة على السلطوية الاقتصادية التقنية المجردة الخاصة بالتكيف الهيكلي، أي عن هذا الحصَاد الشرس الذي لا يزال يروِّع القارة.
وبعد.. فإن الحكمة التي مثلت عمق مسار فرانز فانون النضالي هي إجماع المفكرين وعلماء الاجتماع الذين عاصروه على انه أطلق أطروحة جامعة بين النظرية والتطبيق قوامها: «لا يكفي تحرير الأرض ولا بد من تحرير العقول”.
----------------------------
علي قصير : أستاذ جامعي ـ وباحث في سوسيولوجيا الإعلام المعاصر ـ لبنان.
[2] - نايجل سي غبسون- فانون والمخيلة بعد الكولونيالية – المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات- ترجمة: خالد عايد أبو هديب – بيروت – 2013- ص 29.
[3] - نايجل سي غبسون- مصدر سابق ص 35.
[4] - أنجز الترجمة العربية كاتبان سوريان هما جمال الأتاسي وسامي الدروبي وصدرت الطبعة الأولى ببيروت عن دار الطليعة في العام 1963.
[5] - راجع مقدمة كتاب: فانون، المخيلة بعد الكولونيالية – مصدر سبق ذكره – ص 16.
[6] - انظر مقدمة كتاب «معذبو الأرض» والتعليق عليه تحت عنوان «غياب البعد الإسلامي في نصوص فانون – مدارات للأبحاث والنشر – القاهرة – 2015.
[7] - دافيد ماسي – فرانز فانون – سيرة حياة – منشورات لادوكوفيرت – باريس – فرنسا – 2011.
-------------------------------------------
من سيرة فرانز فانون الذاتية
ولد فرانز فانون في 20 يوليو 1925 وتوفي في ديسمبر 1961 وهو طبيب نفسانيّ وفيلسوف اجتماعي من مواليد فور دو فرانس -جزر المارتنيك، عُرف بنضاله من أجل الحرية وضد التمييز والعنصرية.
خدم خلال الحرب العالمية الثانية في جيش فرنسا الحرة وحارب ضد النازيين . التحق بالمدرسة الطبية في مدينة ليون، وتخصّص في الطبّ النفسي ثم عمل طبيباً عسكرياً في الجزائر في فترة الاستعمار الفرنسي، عمل رئيساً لقسم الطبّ النفسي في مستشفى البليدة ـ جوانفيل في الجزائر، حيث انخرط مذ ذاك الحين في صفوف جبهة التحرير الوطني الجزائرية. وعالج ضحايا طرفي الصراع، على الرغم من كونه مواطناً فرنسياً. وفي عام 1955، انضم فرانز فانون كطبيب إلى جبهة التحرير الوطني الجزائرية (F.L.N). غادر سرّاً إلى تونس، وعمل طبيباً في مشفى منوبة، ومحرراً في صحيفة «المجاهد» الناطقة باسم الجبهة، كما تولى مهمات تنظيمية مباشرة، وأخرى دبلوماسية وعسكرية ذات حساسية فائقة.
وفي عام 1947 غادر فانون المارتينيك. وفيما كان يقرأ الفلسفة، درس التحليل النفسي في كلية ليون الطبية، ودافع عن أطروحته في عام 1951. كان المشرفون الأكاديميون قد رفضوا فكرة أطروحته الأولى التي سماها «تشخيص اجتماعي» للاغتراب في الأنتيل – «جلد أسود». ويصف «جلد أسود» «تجربة السود المعاشة الذين ترتبط صورة أجسادهم بغياب القيمة الإنسانية في نظرة البيض (العنصرية): يقول في هذا المضمار في فرنسا اكتشفت سوادي، وخصائصي العرقية؛ وهناك عرفت إنني انحدر من طبول صغيرة وأكل لحود البشر وتخلّف روحي وعبادة الأوثان ونقائص عرقية وسفن عبيد، وفوق هذا كله، BS, 12) Y’a bon Banania).
بعد تخرجه في كلية الطب، تولى فانون وظيفة في مستشفى بليدة – جوينفيل للتحليل النفسي في الجزائر، وحاول بنجاح محدود أن يطبق بعضاً من أفكاره الراديكالية بشأن إصلاح المستشفى. وقد أدى إخفاقه في تجاربه في هذا الصدد الى إعادة تنظيم جذرية لتفكيره وممارسته. ومع أن فانون لم يجر دراسة تفصيلية للثقافة العربية (عملت محاولات فانون غير المثمرة بمعظمها لتعلم اللغة العربية على تشديد حساسيته تجاه مسائل اللغة)، فإنه بحث في المقاربات الحساسة ثقافياً التي نجم عنها تأسيس أول»مستشفى نهاري» في أفريقيا. وبعد عام من وصوله الى بليدة – جوينفيل، بدأت حرب التحرير الجزائرية (في تشرين الثاني/نوفمبر 1954). وإذ وجد صعوبة متزايدة في ممارسة التحليل النفسي في سياق تزايد العسكرة والعنف والتعذيب، استقال من وظيفته وغادر الجزائر في كانون الأول/ديسمبر 1956. وبعد أن تخلى عن جنسيته الفرنسية أصبح ثائراً متفرغاً ورئيس تحرير صحيف المجاهد. وقد جُمعت تحليلاته للتغييرات التي أتت بها الثورة الجزائرية على العلاقات الاجتماعية، وعلى المجتمع في كتاب واحد هو السنة الخامسة الذي نُشر في عام 1959 (انظر الفصل 6 أدناه). وفي تلك السنة أصبح فانون الممثل الدائم لجبهة التحرير الوطني في أكرا، بغينيا. وبعد عام من ذلك، شارك في رحلة ميدانية الى مالي بقصد فتح جبهة ثالثة وحشد المزيد من التضامن عبر الصحراء الكبرى. بيد أنه في السنة نفسها تم تشخيص سرطان الدم عنده. وقد تجمعت عوامل عديدة لتشكل الخلفية لكتابه الأخيرة معذبو الأرض (أنظر الفصول 5و 7و 8 أدناه)، وهذه العوامل هي: تجاربه في الثورة الجزائرية، ومعرفته باتجاهاتها ونقاشاتها السياسية، وملاحظاته بشأن غانا، الى جانب جريمة قتل باتريس لومومبا، رئيس الوزراء المنتخب ديمقراطياً للكونغو المستقلة في عام 1960. وتم إنجاز العمل بعد عشرة أسابيع من تفجر الطاقة الفكرية لديه، في أيار/ مايو 1961. لقد كان عقله «عقلاً على نار» لا يمكن إطفاؤها إلا بوفاته في نهاية تلك السنة.
وفي 1960 صار سفير الحكومة الجزائرية المؤقتة في غانا. توفي فانون عن عمر يناهز الـ36 بمرض سرطان الدم ودفن في مقبرة مقاتلي الحرية الجزائريين.
يعتبر أحد أبرز من كتب عن مناهضة الآخرين في القرن العشرين. ألهمت كتاباته ومواقفه كثيراً من حركات التحرر في أرجاء العالم ولعقودٍ عديدة. آمن فرانز فانون بأن مقاومة الاستعمار تتم باستعمال العنف فقط من جهة المقموع، فما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.
من أبرز أعماله:
روايته الشهيرة «معذبو الأرض» (The Wretched of the Earth (1961) وقد صدرت عام 1961 وترجمت الى عدد من اللغات العالمية كما صدرت باللغة العربية في عدة طبعات متتالية. كذلك اشتهر فانون بعمل ثانٍ مميز وهو كتابه (Black Skin, White Masks ) بشرة سمراء، واقنعه بيضاء وكان صدر في العام (1952).
هذا بالإضافة الى مجموعة واسعة من الكتب والدراسات والأبحاث المتعلقة بالفكر والثقافة الإستعمارية.
من أبرز أقواله:
إن العالم الثالث لا يريد أن ينظم حملة جوع واسعة على أوروبا، وكل ما يطلبه من هؤلاء الذين أبقوه عبداً ذليلاً خلال قرون عديدة، هو أن يساعدوه على رد الاعتبار للإنسان في كل مكان إلى الأبد. ولكن على دول العالم الثالث ألا تبلغ من السذاجة حد الاعتقاد بأن هذا الفعل الأنساني سيتحقق بمساعدة الحكومات الغربية وحسن نيتها.
إن الأشكال الوحشية التي يجسدها وجود المحتل على الأرض قد تزول زوالاً تاماً. والواقع أن زوالها هذا لا يعدو كونه تخفيضاً للنفقات التي ينفقها المحتل، ولا يعدو كونه إجراءً إيجابياً من اجل الحيلولة دون بعثرة قواه. ولكن الشعب الخاضع للاستعمار لا يلبث أن يدفع ثمن ذلك باهظاً، يدفع ثمنه مزيداً من تحكم الاستعمار وتلاعبه بمصيره.
على الشعب أن يدرك أن الاستقلال الوطني يُبرز وقائع أخرى كثيرة هي في بعض الأحيان متباعدة بل ومتعارضة. فهناك أجزاء منه ـ الآخر المحلي ـ لها مصالح خاصة لا تتفق اتفاقاً كاملاً دائماً مع المصلحة الوطنية. والشعب، وان تبنى في بداية الكفاح تلك الثنائية التي أوجدها الاستعمار الأجنبي: البيض والسود، العربي والرومي، يبيت لزاماً عليه أن يدرك أنه يتفق لسودٍ أن يكونوا أكثر بياضاً من البيض، وأن هناك فئات من السكان لا يحملها إمكان ارتفاع راية وطنية وإمكان قيام أمة فتية على التنازل عن امتيازاتها وعن مصالحها.
الاستقلال الوطني، يحل محل الوضوح الخيالي اللاواقعي الأول ظلام يفصم الوعي. إذ يكتشف الشعب أن ظاهرة الاستغلال الظالمة يمكن أن تأخذ مظهراً أبيضاً أو عربياً. والخيانة هاهنا ليست وطنية فحسب بل ثقافية، لذا على الشعب أن يتعلم كيف يُندد باللصوص. وعليه كذلك في مسيره الشاق إلى المعرفة العقلية، أن يترك تلك النظرة التبسيطية الساذجة التي كان يتميز بها إدراكه للمتسلط..!