البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

العلم والدين.. بداية كل الأشياء ، هل يمكن أن تكون هناك نظرية واحدة لكل الأشياء؟

الباحث :  هانس كونغ
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  13
السنة :  السنة الرابعةــ 1440هـ خريف 2018م
تاريخ إضافة البحث :  October / 23 / 2018
عدد زيارات البحث :  1391
تحميل  ( 602.744 KB )
هذه الدراسة للفيلسوف واللاهوتي السويسري المعاصر هانس كونغ، مثيرةٌ لإشكاليات شتى لا سيما لجهة قوله بنظرية النسبية المعرفية التي تنطبق على الدين والعلم. الأمر الذي يستدعي التعامل مع هذا النص تعاملاً نقدياً على الرغم مما يذهب إليه في اعتبار العلم والدين بداية كل الأشياء في الوجود. في هذه الدراسة التي هي ترجمةٌ للفصل الأول من كتابٍ شهيرٍ له بعنوان: “العلم والدين ـ بداية كلّ الأشياء”. يتناول كونغ العلاقة بين الرؤية الأنطولوجيّة للوجود وواقعيّة الخلق الفيزيائي، وذلك انطلاقاً من مبدأ التلازم الوثيق بين الدين والعلم في النظر إلى الوجود وإن بلغةٍ مختلفةٍ. من الجدير هنا لفت عناية القارئ إلى تضمّن هذه المقالة جملةً من الإشكاليّات المركزيّة، كما سبق وأشرنا. لعل أبرز ما يطرح بهذا الخصوص نظريّة التكامل بين العلم والدين بمعنى التفاعل النقدي والبناء بينهما. وانطلاقاً من هذه الفرضية يدعو كونغ إلى نفي جميع أنماط المطلقات سواءً في العلم أو في الدين، كما أنّه يعتبر اللاهوت علماً لابدّ وأن يخضع لمنهج التجربة والخطأ. وهذا كما نرى يؤدّي إلى انسحاب سلبيات العلم من النسبيّة وإلى عدم القطعيّة في الدين أيضاً، وعليه فلا حقيقة غائيّة يمكن الوصول إليها. فمشروع كونغ للتلاحم بين العلم والدين ورفع التناقض بينهما، هو في الحقيقة تنازلٌ من جانب الدين لصالح العلم ليصبح الدين فرضيّةً قابلةً للنقاش والأخذ والرد، وهذا مرفوضٌ وعودٌ على بدء.

«المحرر»

يحقّ لعلماء الفيزياء أن يفتخروا بكلِّ نتائج أبحاثهم التي اكتشفوها، وتفكَّروا فيها، وأكّدتها لهم التجارب. كما يجب على باقي العلماء  -في الواقع- أن يعودوا باستمرار لهذا العلم الأساسي، الذي يختبر ويحلّل الجزئيّات الأوّليّة والقوى الأساسيّة للواقع المادي. من هنا يمكننا أن نفهم أنّه على أساس النجاحات العظيمة المنجزة التي لا خلاف عليها والتي تحققت، يتوقع بعض علماء الفيزياء أنّه سيكون من الممكن في يوم ما سبر غور الكون. أمّا كيف؟ فمن خلال إيجاد نظريّةٍ «لكلّ شيء»، أي لكلّ القوى الطبيعيّة، ولكلّ شيءٍ يمثّل صياغةً (formula) للعالم يمكنها حلّ الألغاز العميقة لكوننا، لعالمنا، وبالتالي تفسير الواقعيّة كلّها عن طريق الفيزياء.

لغز الواقعية

للكلمة اليونانيّة «الكون cosmos» تاريخٌ طويل. لقد كانت في الأصل تعني «النظام». جاء أوّل ذكرٍ لها في «هوميروس» في القرن الثامن قبل الميلاد لتعني الجيش المنظّم. ثم أصبحت تعني «الزينة decoration»، وهو المعنى الذي اختبره فيثاغورس أوّل مرّةٍ في القرن السادس قبل الميلاد. وأخيراً، فمع بداية العصر الذي نعيشه، صارت تعني «انسجام» الكون، ثم استخدمت بعد ذلك لتعني «نظام العالم» والكون. من هنا فإنّ كلمة «الكون cosmos» تعني العالم من حيث إنّه كلٌ منظّمٌ. أو الكون في مقابل الفوضى.

إنّ كلمة «العالم universe» تعني «التحوّل إلى الواحد» مشتقّة من الكلمات اللاتينيّة unus, vertere, versum. من حيث إنّها وحدةٌ. ومن ثم فإذا شئنا الدقّة، فإنّ «الكون» يعني «الكلُّ المكوّنُ من أجزائه». من هنا فإني في هذا الكتاب سوف أستخدم مصطلحي «universe»، و«cosmos» بمعنى واحد، محاولاً أن أصل إلى أصل ومعنى الكون.

اللغز الثنائي A Twofold Riddle

ينطوي هذا العنوان البسيط «بداية كلّ الأشياء» على سؤالٍ ذي شقين:

السؤال الرئيسي عن «البداية بصفة عامة»: لماذا يوجد الكون؟ لماذا لم يكن غير موجود؟

السؤال حول «الظروف المحيطة بالبداية»: لماذا الكون على ما هو عليه؟ لماذا له هذه الخصائص المعيّنة الحاسمة لحياتنا البشريّة وبقائنا؟

المسألة إذاً، ليست أقلّ من أصل الكون ووجوده ككل، أي الواقعيّة ككل.

ولكن، ما هي «كليّة» هذه الواقعيّة؟ هل هي فقط «الطبيعة»، أم أنّها «الروح» أيضًا؟ هل يمكن للعلوم أن تدرج الروح أيضاً كموضوعٍ لها؟ وهل يجب علينا في بعض الحالات أن نعتقد بوجودِ أكثر من كونٍ واحد؟ بأكوانٍ عدّة، كلٌّ منها من نوعٍ مختلف؟ «كون متعدّد»، وإن لم يكن هذا ليكون أكثر من مجرّد افتراضٍ لن تدعمه أيّ ملاحظةٍ مباشرة؟ ما هي الواقعيّة؟ سوف أبدأ من وصفٍ أوليٍّ وكاملٍ يحوي «كلّ الأشياء». الواقعيّة هي «كلّ» ما هناك.

صاغ الناس في العصور الوسطى أسئلتهم صياغةً غرضيّةً: ما الغرض من شيءٍ ما؟ أمّا في العصور الحديثة، فقد وُضع السؤال بطريقةٍ غائيّة: لماذا الشيء هو على ما هو عليه؟ كيف صنع؟ ممَّ يتكون؟ وما هي القوانين التي يستجيب لها؟ إذا ما أردنا أن نعرف ما هو كلّ شيء، يجب أن نعرف كيف جاء كلّ شيءٍ للوجود. إذا أردنا أن نعرف ما هو الكون، يجب أن نعرف كيف أتى للوجود. لقد كان ما فكّر فيه غالباً المفكّرون نظريًّا في أوائل العصر الحديث، وما اكتشفته التجارب وصمد أمام كلّ أشكال المقاومة وحارب من أجل صورةٍ جديدةٍ للعالم شيئاً مبهراً.

واليوم لا يجب أن نفهم تاريخ العالم فقط من حيث كونه تاريخ الإنسان (ذلك الذي امتدّ لمئات الآلاف من السنين) ولكن من حيث كونه التاريخ الحقيقي للعالم الذي امتدّ منذ 13.7 بليون عاماً منذ الانفجار العظيم.

على كلّ حال، لقد احتاج «النموذج» الفيزيقي الفلكي للعالم، وهو الأساس العلمي للصورة الحديثة للعالم، لأربعة قرون من الزمان لكي يتأسس.

النموذج الحديث للعالم: كوبرنيقوس، كبلر، جاليليو

لم يكن عالِماً علمانيَّ النزعة، ولكن رجلاً من رجال الكنيسة (من بولندا إلى ألمانيا) يُدعى نيقولاس كوبرنيقوس (1473 – 1543م) ذلك الذي تبنّى فكرة أريستاركوس من مدينة ساموس Aristarchus of Samus (القرن الثالث قبل الميلاد)، وعلى أساس ملاحظاته وحساباته وتفكيره الهندسي الحركي، قدّم التصوّر الرائع لنموذجٍ ثوريٍّ بالفعل للعالم. على كل حال، فإنّه كان قد درس في إيطاليا وقدّم – كما هو معروف- في كتابه (ستة كتب في ثورات الميادين السماويّة (De revolutionibus orbium coelestium libri V1، Six Books on the Revolutions of Heavenly Spheres)[2] نظريّةً أحلّ فيها هذه الصورة محلّ النموذج التقليدي المغلق للعالِم الذي قدمه بطلميوس Ptolemy، والذي كان يثبت بشكلٍ متزايدٍ على عدم موافقته لحساب أماكن الكواكب على فتراتٍ زمنيّةٍ أطول، بنموذج شمسي المركز.

لقد كان هذا تغيراً في النموذج الإرشادي بامتياز، بدأ في الفيزياء ثم أصبح له تأثيرٌ على صورة العالم الكاملة وميتافيزيقا الإنسان. لقد أصبح هذا التحوّل الكوبرنيقي هو البداية لعددٍ آخر من التحولات الثوريّة الأساسيّة التي تشكّل ما يُعرف بالحداثة. كما أنّه المثال الأوّلي لما نعنيه «بالتحوّل في النموذج الإرشادي». إنّه أكثر من كونه مجرّد تغييرٍ في «طريقة التفكير» شكّل رؤيتنا العالميّة للزمن، إنّه التغيير الذي وصفه توماس كون بأنّه «المجموعة الكاملة للمعتقدات والقيم والآليات التي يشترك فيها أعضاء مجتمعٍ ما»[3].

أكّد يوهانز كبلر (1571 – 1630) ـ الذي درس اللاهوت البروتستانتي في توبنجن Tubingen- هذا النموذج للعالم الذي قدّمه كوبرنيقوس بطريقةٍ نظريّةٍ محضةٍ وصحّحه أيضاً. ثم تحول كبلر بعد ذلك إلى الرياضيات والفلك: ليست مدارات الكواكب دائريّةً ولكن بيضاويّة.

 لقد أصبحت قوانين كبلر الثلاثة لحركة الكواكب هي أساس  كتابه «الفلك الجديد an Astronomia nova) 1609)[4]. ولقد أصبحت المعرفة التي يمكن اختبارها تجريبياً وتلك التي يمكن قياسها، هي فقط التي يمكن بها تفسير الطبيعة. ومع هذا، -بالنسبة لكبلر- إنّ الفلكي صاحب النظرة الفلسفيّة الكليّة لا يستبعد معه الاعتقاد في وجود إلهٍ خالقٍ أو انسجامٍ إلهيٍّ في عالم كلّ الأشياء والعلاقات ذات الأساس الرياضي[5].

بدا هذا النموذج الجديد للعالم مهدِّدًا للصورة التقليديّة للعالم، وذلك عندما اكتشف الرياضي والفيزيائي والفيلسوف الإيطالي جاليليو جاليلي (1564 – 1642)[6] بالتلسكوب (المصنوع بنموذج هولندي) أوجه كوكب فينوس، وأربعة أقمارٍ من أقمار كوكب المشتري، وحلقات الكوكب زحل. كما اكتشف أيضاً أنّ البريق الغائم لدرب اللبّانة milky way يتكوّن من نجومٍ مفردة. بهذا التأكيد للنموذج الكوبرنيقي غير القابل للدحض، والذي وفقاً له تدور الأرض حول الشمس ومن خلال تقديم التجارب الكميّة (قوانين البندول والجاذبيّة) أصبح جاليليو مؤسس العلم الحديث.

لقد وضعت الآن الأسس للبرهان على قوانين الطبيعة والبحث غير المحدود فيها. لقد أدرك جاليليو نفسه كيف تهدّد أبحاثه الرؤية الإنجيليّة للعالم. لقد أراد من حيث المبدأ أن يكتب الطبيعة بلغة الرياضيات، وأن يجعل لكتابها الجديّة نفسها التي «لكتاب الإنجيل». لقد أوضح في رسالةٍ كتبها لبندكتين كاستيللي Benedictine Castelli 1613 آراءه في العلاقة بين الإنجيل والمعرفة بالطبيعة: لو أنّ المعرفة العلميّة يقينيّة وتناقض ما جاء في الإنجيل، فإنّه من الضروري تقديم تفسيرٍ جديدٍ للإنجيل[7].

ولكن ماذا كان ردّ فعل الكنيسة أمام هذه الصورة الجديدة للعالم؟ كيف كان رد فعلها أمام هذا التغيير الكوبرنيقي الكلّي؟ هذا التغيير في النموذج الإرشادي؟

الكنيسة ضد العلم

من المعروف  -وهو أمرٌ له دلالة- أنّ كوبرنيقوس أخّر نشر أعماله إلى ما قبل وفاته بفترةٍ قصيرةٍ، خوفاً من القائمة الكاثوليكيّة الرومانيّة للكتب الممنوعة ومن النار. هل كان هذا مثالاً للخوف الكاثوليكي الروماني من الفلسفة الطبيعيّة الجديدة، والعلم الطبيعي الجديد؟ لا، إذ قد رُفض عمله من قبل المصلحين لوثر و فيليب ميلانكتون Melanchthon. ولأنّ عمله أُعطي له أساسٌ نظريٌّ  ويُقال أنّه قُدم فقط كافتراض، فلقد اعتقدوا أنّه من الممكن عدم الانتباه له. ثم إنّ كوبرنيقوس كان قد وُضع ضمن الممنوعين فقط عام 1616، عندما وصل موضوع جاليليو لذروته. ومن وقتها أصبح الدين قوّةً مضادّةً، والكنيسة الكاثوليكيّة مؤسسةً شيمتها الرقابة وتسجيل الأسماء الممنوعة والاستجوابات، بدلاً من أن تهتم بالفهم والجهد والقبول لما هو عقلاني.

ففي عام 1632 تم استدعاء جاليليو للاستجواب، واتهم بأنّه تخطّى بنظريّته في مركزيّة الشمس التي أعلنها عام 1616 خطاً يُمنع تخطّيه. نعم، ربّما لم يذكر جاليليو الاقتباس الذي ينسب له كثيراً «ومع هذا فها هي الأرض تدور»، كما أنّه لم يتم تعذيبه -كما يُزعم غالباً- إلاّ أنّه من الثابت أنّ الضغط كان كبيراً لدرجة أنّه في 22 يونيو 1633 اعترف بأنّ خطأه كان خطأً كاثوليكيًّا مقدساً. ولقد حكم عليه بالإقامة الجبريّة في فيلته الكائنة في مقاطعة «أرستري Arcetri»، وهناك فقد جاليليو بصره بعد أربعة أعوام، وعاش بعدها ثمان أعوامٍ مع مجموعةٍ من طلابه، وكتب كتابه في الميكانيكا وقوانين الجاذبيّة الذي كانت له أهميّةٌ بالغةٌ للتطوّر اللاّحق في علم الفيزياء.

«وفقاً للحالة الحاليّة «لأبحاث جاليليو» لا خلاف على أنّ المكتب المقدس Holy Office في 1633 أطلق حكماً خاطئاً، ولقد كان جاليليو مسؤولاً مسؤوليّةً جزئيّةً عمّا اتّهم به». بهذه الكلمات يُعارض مؤرّخ الكنيسة الكاثوليكيّة جورج دنزلر Georg Denzler في كتابه المعنون (لا نهاية لحالة جاليليو No End to Galileo Case)[8] المدافعين عن الكنيسة الكاثوليكيّة الرومانيّة النشطين حتى يومنا هذا.

هل كان خلاف جاليليو مع الكنيسة حدثاً مفرداً يعبّر عن سوء حظ؟

لا، لقد كانت سابقة سمّمت العلاقة بين العلم الناشئ الجديد والكنيسة والدين، خاصةً أنّه في الفترة التالية أيضاً لم يتغّير اتجاه روما، بل على العكس أصبح أقوى في مواجهة تقدّم العلم (وبعد ذلك خاصة بالنسبة لأبحاث تشارلز دارون). وبعد الاستبعاد الكارثي لكلٍّ من لوثر والبروتستانت من قبل روما، تلا واقعة جاليليو شبه هجرةٍ جماعيّةٍ للعلماء من الكنيسة الكاثوليكيّة وصراعٍ دائمٍ بين العلم واللاهوت الدائم. وبالتالي – تحت نيّر الاستجواب- لم يعد هناك في إيطاليا وأسبانيا حتى القرن العشرين علماءٌ يستحقون الذكر. ولكنّ القمع الكنسي لم يستطع الاستمرار في مواجهة أدلّة العلوم الطبيعيّة.

انتصار العلم

لم تستطع حتى روما أن توقف انهيار بنية العصور الوسطى للعالم، ولم تستطع أن توقف علمنة demystification الطبيعة والتغلّب على اعتقاد العصور الوسطى في الشياطين والسحر والخرافة. وبعد خمسين عاماً من اتهام جاليليو وعندما كانت الكنيسة الكاثوليكيّة في قمّة مقاومتها للاصلاح ومقاومة الشعور السائد بالانتصار في العصر الباروكي، تمّ تصوير رؤية العصور الوسطى القديمة في كنيسة سان اجنازيو San Ignazio للجزويت في روما: كان صحن الكنيسة بأكمله مزيّناً بجداريّةٍ ضخمةٍ تصوّر السماء بزينة الثالوث وكلّ الملائكة والقساوسة، كما لو كان التلسكوب لم يُخترع بعد ولم يحدث أيّ تغيرٍ باراديمي في الفلك والفيزياء. ولكن على المدى الطويل، لم يستمر هذا الوهم- الذي عبّر عنه التصوير- ضدّ الثورة العلميّة. ولم تعد السلطات التقليديّة مع الوقت مقنعة.

لقد قدّمت واقعة جاليليو مادةً لمسرحيّاتٍ كثيرةٍ: للماركسي برتولت بريخت Bertolt Brecht، واليهودي ماكس برود Max Brod، والكاثوليكي جرترود فون لفورت Gertrud von Le Fort، وغيرهم. بل لقد أدهش الأب جون بول الثاني في أيامنا هذه- والذي تعدّ أحكامه الخاصّة على تحديد النسل وقبول المرأة كراعيةٍ في الكنيسة خاطئةً تمامًا مثل خطأ سابقيه عن الفلك والفيزياء- العلماء والمؤرخين بملاحظته الغامضة الخاصة بواقعة جاليليو. لقد أعلن بمنتهى الجديّة عام 1979 – بعد 350 عاماً من وفاة جاليليو- أنّه يريد فتح تحقيقٍ في واقعة جاليليو.

ولكن عندما انتهى التحقيق، تجنّب بوضوحٍ في كلمته التي ألقاها بتاريخ 31 أكتوبر 1982 الإقرار بذنب سابقيه، واستجوابات الهيئة المسؤولة عن الدفاع عن المباديء الكاثوليكيّة، ونسب الواقعة التي لم يحدّدها بدقّة «لأغلبيّة لاهوتيي هذا الزمان». لقد كان هذا «إحياء جديداً لم يحدث»[9].

وعلى كل، لقد أعادت أسماءٌ بارزةُ إحياء جاليليو، إذ تأكّدت في الواقع اكتشافاته بعد مرور جيلين بواسطة عالم الرياضيات والفيزياء والفلك- والذي لا يقل تميزاً عن جاليليو- سير اسحاق نيوتن (1634 – 1727) والذي كان أستاذاً يعمل في جامعة كامبردج. ففي كتابه “المبادئ الرياضيّة للفلسفة الطبيعيّة”[10] المنشور 1687  صاغ نيوتن ثلاثة مبادئٍ في الميكانيكا وقانونه في الجاذبية- وهو ما كان قد تم اكتشافه قبل ذلك بعقدين من الزمان- وهي جميعها تنطبق على حركة الأجرام السماوية. ومن ثم فقد أمكن وجود «ميكانيكا سماويّة». إنّ قوّة الجاذبيّة نفسها التي تجعل التفاحة تسقط على الأرض، هي ما تربط القمر بالأرض. وكذلك اكتشف نيوتن طبيعة الضوء والكهرباء، كما اخترع الحساب في الوقت نفسه الذي اخترعه ليبنتز. وإذا كان كبلر وجاليليو قد قدّم كلٌّ منهما عناصر لنظريّةٍ شاملة، فإنّ نيوتن قد استطاع من اكتشافاتهما واكتشافات غيرهما أن يصيغ نظاماً جديداً مقنعاً للعالم، أمكن البرهان عليه بصورةٍ عقليّةٍ وبقوانين رياضيّةٍ وكميّةٍ دقيقة. وعلى هذا النحو أضحى نيوتن – بعد جاليليو – المؤسّس الثاني للعلم الدقيق، أي مؤسس الفيزياء النظريّة الكلاسيكيّة.

ولم يضع أحدٌ صورة نيوتن الردية الحتميّة والواقعيّة للعالم موضع سؤالٍ إلا مع بداية القرن العشرين من خلال النظريّة النسبيّة لأينشتين ونظريّة (الكم) الكوانتم.

هنا أصبح من الواضح أنّ الفيزياء لا يمكنها قطعاً وصف العالم على ما هو عليه، مستقلاً عن المنظور الذي يراه منه الملاحظ كما افترض نيوتن. ليست نظرياته ونماذجه أوصافاً دقيقةً للواقع على المستوى الذرّي (الواقعيّة الساذجة)، ولكنّها محاولاتٌ انتقائيّةٌ ورمزيّةٌ، تصوّر بُنى العالم ومسؤولةٌ عن ظواهر معيّنةٍ قابلةٍ للملاحظة: واقعيّة نقديّة تدرك الواقع الفيزيقي ليس ببساطةٍ من خلال الملاحظة ولكن بالاشتراك مع تفسيرات وتجارب[11].

الوصف الفيزيقي للبداية

في النموذج الإرشادي ذاته الذي وضعه نيوتن، تلا ذلك حسابات دقيقةٌ واكتشافاتٌ أخرى كثيرة، إلى أن أصبحت الفيزياء ناضجةً بشكلٍ كافٍ لتتحمّل معه تغيّرأً آخر في النموذج الإرشادي: تغيراً في الفيزياء والذي وفقاً له- وعلى غير المتوقع- أصبح الزمان والمكان كائنين مرنين جداً بحيث لم يعد من الممكن التفكير فيهما بشكلٍ مستقل.

الفيزياء الجديدة: المكان – الزمان النسبيان لأينشتين

مع بداية القرن العشرين وضع ألبرت أينشتين (1879 – 1955) هذا النموذج الجديد لعالمٍ يختلف كثيراً عن العالم اللامتناهي لفيزياء نيوتن الكلاسيكيّة[12]. يمكن اشتقاق هذا النموذج الجديد من المعادلات الأساسيّة للنظريّة النسبيّة العامة التي وضعها خلال  1914 – 1916. لقد رفع سرعة الضوء 300,000 كيلو متر في الثانية، ليكون ثابت الطبيعة المطلق وغير القابل للتغير. فلا يوجد ما يمكن توصيله بأسرع من الضوء، والذي يتساوى بالنسبة لسائر الملاحظين مهما كانت سرعة حركتهم الواحد بالنسبة للآخر. على هذا النحو، انصهرت الجاذبيّة النسبيّة لأينشتين والمكان والزمان - والتي كانت هي الثوابت في نسق نيوتن – في كيانٍ فيزيقيٍّ جديدٍ هو المكان-الزمان.  فالكتلة تلوي (تشوه) الزمان والمكان. لذا ليست قوّة الجاذبيّة سوى «التواء» المكان والزمان بالكتل المحتوية فيه. وتكون النتيجة مكان زمانٍ ذي أربعة أبعادٍ رائعةٍ لا يمكن تصوره: تحدث فيه الحسابات انطلاقاً بهندسة إحداثياتٍ مكانيّةٍ زمانيّةٍ لا اقليديّة. في مايو 1919 وبقياسات تمّ إجراؤها أثناء كسوفٍ كاملٍ للشمس، تأكد تخمين أينشتين أنّ ضوء الأجرام السماويّة البعيدة يلتوي – قياسياً- بكتلةٍ ضخمةٍ مثل الشمس (بضعف الشدّة التي توقعتها ميكانيكا نيوتن). لقد كان «المكان الملتوي» Space Warped   هو الخبر المثير.  فالكون الملوي في المكان يعني أنّنا يجب أن نفكر في الكون من حيث كونه غير محدودٍ ولكن له كتلة محدّدة. يمكننا فهم هذا بالقياس لمكانٍ ذي ثلاثة أبعادٍ (وليس أربعة أبعاد)، مثلا، سطح جسم كروي: فالخنفساء التي تزحف ولا تجد نهاية، من الممكن أن تعتبر المكان لا متناه. فهو ذو سطحٍ متناهٍ ولكنّه لا يعرف حدوداً.

كونٌ ممتدٌّ

إن لنموذج المكان الزمان لأينشتين عيوباً أيضاً: فهو يتخيّل – مثله في ذلك مثل كلّ الانجازات العلميّة في القرن التاسع عشر- كوناً ساكناً لا يتغيّر وأبدي. فلقد اعتقد أرسطو أنّ الكون محدودٌ في المكان ولكن لا بداية ولا نهاية له في الزمان.

وفي مقابل هذا، ورغم المقاومة الشديدة، تأسّست رؤيةٌ ديناميكيّةٌ جديدةٌ للكون. أسّسها – والغريب أنّه كان  لاهوتياً- عالم الفلك الفيزيائي في جامعة لوفان «أبيه جورج لامتر Abbe Georges Lemaitre» (1894 – 1966) الذي كان تلميذاً ثم زميلاً لكلٍّ من أدنجتون وأينشتين والذي استطاع أن يضع – من داخل إطار النظريّة النسبيّة العامة - عام 1927  نموذجاً لكونٍ ممتدٍّ كما أنّه كان أوّل من وضع افتراض «الذرة البدائيّة primeval atom» أو «الانفجار العظيم Big Bang» و(الذي هو في أساسه كُنية nickname).

ولقد حدّد الفيزيائي الأميركي أدون هابل Edwin Hubble – والذي تسمى تلسكوب الفضاء الضخم «هابل» على اسمه-  في فترةٍ مبكّرةٍ جداً 1923 – 1924 في باسادينا Pasadena المسافة التي تفصل مجرّة أندروميدا عن الأرض، وذلك عن طريق نجومٍ يمكن تقسيمها، وعلى هذا النحو أمكن للمرّة الأولى أن يبرهن على وجود أجرامٍ سماويّةٍ خارج درب التبّانة، واضعاً بذلك أسس علم فلكٍ جديدٍ خارج المجرّات. فلقد انتهى عام 1929 من التحولات الحمراء في خطوط طيف مجرّات درب التبّانة (تأثير هابل) إلى النتيجة بأن الكون مستمرٌّ في الامتداد[13]. هذا يعني أنّ الأنساق الضخمة للمجرّات ليست ببساطةٍ شاغرةٍ لمكانٍ، ولكنّها آخذةٌ في الامتداد في كلّ الاتجاهات بسرعةٍ هائلةٍ (مثل البالون على قارورة من الهليوم).

ومن ثم فإنّه في هذا الكون الشديد الظلمة، ليست النجوم موزّعةً بالتساوي في الأعماق التي يبدو أنّها غير متناهيةٍ للفضاء. ولكنّها تتغير وتتطور باستمرار. فخارج درب التبّانة التي ننتمي إليها، تسير المجرات بعيداً عنّا بسرعةٍ تتناسب مع بعدها عنا. منذ متى وهذه الظاهرة تحدث؟ لا يمكن بالطبع أن يكون هذا يحدث منذ زمنٍ غير متناهٍ. إذ لا بدّ أنّه كانت هناك بداية: الانفجار العظيم وهو ما يبدو أنّ الفيزياء والرياضيات قد برهنا عليه. وبعد أن زار أينشتين زميله هابل على جبال ويلسون، ترك الآخر التصوّر الثابت للكون، وقبِل بنموذج الكون الممتد، ولكنّه لم يقبل نظريّة الكم التي كانت قد صيغت في الوقت نفسه رغم البرهان التجريبي عليها. لذا، رغم شهرته العالميّة، أخذت عزلته كباحثٍ تزداد إلى أن أصبح تقريباً معزولاً تمامًا.

الانفجار العظيم ونتائجه

بإمكان علماء الفيزياء الفلكيّة الآن أن يصفوا بشكلٍ دقيقٍ بداية الكون من منظورٍ علميٍّ، وذلك على أساس هذه الاكتشافات والحسابات الدقيقة التي وصفتها باختصار، كيف نشأ الكون، أو كيف – كما يقال- حدث الخلق. إنّ الاتفاق الذي وصل إليه العلماء اتفاقٌ عظيمٌ جداً لدرجة أنّنا يمكننا أن نتحدث عن نموذجٍ قياسيٍّ لم تستطع النماذج المنافسة له أن تصمد. ما يلي هو تخطيطٌ مختصرٌ له.

لقد انضغطت في البداية كل الطاقة والمادة في كرةٍ ناريّةٍ - حارة أوليّة وصغيرة لدرجة لا يمكن تخيّلها- ذات أصغر أبعادٍ يمكن تصوّرها وأضخم كثافةً وحرارة. كانت خليطاً من الاشعاع والمادة، بلغت كثافتها وحرارتها حداً جعل من المستحيل على المجرات أو النجوم أن توجد فيها. فمنذ انفجار القنابل الذريّة التي هي «صغيرة جداً» بالمقارنة بالكون، يمكننا أن نفهم بسهولةٍ أكثر كيف بدأ الكون منذ 13.7 بليون سنة بانفجارٍ كونيٍّ ضخمٍ (وهو أحدث تقديرٍ وصل إليه علماء الفيزياء الفلكية). لقد تمدّد بسرعةٍ وأصبح أكثر برودةً، ولكن بعد مائة جزءٍ من الثانية ظلّ محتفظاً بحرارةٍ درجتها مائة بليون درجة وكثافتها تعادل أربعة بليون كثافة الماء. وظلّ الكون يتمدّد بالطريقة نفسها في كل الاتجاهات.

من المحتمل أنّ جزئيات أوليّةً تكوّنت في الثواني الأولى من فوتونات شديدة الثراء في الطاقة، وخاصة البروتونات والنيوترونات وجزئياتها المضادة، مع جزيئاتٍ أوليّة خفيفةٍ وخاصة الالكترونات والبوزيترونات. وبعد دقائق قليلة تكونت نوى الهليوم من النيوترونات والبروتونات بواسطة عمليّة اندماج (انصهار). ثم تكونت بعد مئات الآلاف من السنين ذرات من الهيدروجين المحايد والهليوم بواسطة ربط الالكترونات. وبعد ما يقرب من عشرين مليون عاماً -مع انخفاض ضغط ما كانت في الأصل كميات خفيفةٌ عاليةُ الضغط ومع انخفاض الحرارة- أمكن للغاز أن يتكثّف بقوّة الجاذبيّة ليتحوّل إلى كتلٍ من المادة ثم أخيراً إلى مجرات، أي إلى ما يقرب من مائة بليون درب تبانة، تسيطر كلٌّ منها على ما يفوق عشرة بليون نجم.

لا يوجد تفسيرٌ حتى الآن لما سبب هذا التركيز للمادة لتتحول إلى مجرات. هناك تفسيراتٌ للمراحل التي يمكن وصفها بالتبسيط على النحو التالي: لقد أدّت الجاذبيّة بسحب الغاز إلى أن يتكثّف ويصبح نجوماً وذلك عندما انهارت تحت ثقلها الذاتي. ثم حدثت فيها تفاعلاتٌ نوويّةٌ أنتجت بالإضافة إلى الهيدروجين والهليوم أيضاً عناصر ثقيلةٍ، مثل الكربون والأكسجين والنيتروجين. بعض هذه النجوم لم يظل ثابتاً عبر الزمان، وانفجر وألقى بكتلٍ ضخمةٍ لا يمكن تصوّرها للمواد الخام المتكونة حديثاً في الفضاء الواقع بين النجوم، لتعود وتكون مرةً أخرى سحب غازٍ ضخمة، وهو ما تكثّف مع الوقت ليصبح نجوماً.

ولم تتكون شمسنا في أحد الأذرع الخارجيّة لمجرّتنا اللولبيّة، والتي يبلغ قطرها مائة ألف سنة ضوئيّة إلاّ مع نجوم الجيل الثاني هذه، والتي تحوي أيضاً عناصر ثقيلةٍ إلى جانب الهيدروجين والهليوم. ولم يحدث هذا إلا بعد تسعة بليون عاماً.

لقد تكثفت المادة في شكل كواكب، والتي تحوي أيضاً الآن على كربون وأكسجين ونيتروجين وعناصر ثقيلةٍ أخرى ضروريّة جداً للحياة على الأرض. لقد شكل هذا الجيل الثاني من النجوم والكواكب أساس تطور الحياة والوعي.

ولقد برد الإشعاع على مدار بلايين السنين بحيث إنّه يمكن القول أنّه لا يوجد سوى إشعاعٍ كونيٍّ خلفيٍّ منخفضٍ تكاد درجته تصل للصفر (-273.15 درجة مئوية). وفي عام 1964 اكتشف بالمصادفة المهندسان الأميركيان أرنو بنزياس  وروبرت ويلسون (اللذان مُنحا جائزة نوبل في الفيزياء عام 1978 لاكتشافاتهما) بواسطة مقاييس مستوى الصوت باستخدام تلسكوبٍ لاسلكيٍّ أنّ الموجة الصغيرة الكونيّة، أو الإشعاع الطبيعي الخلفي الذي كشفا عنه من كل الاتجاهات، في محيط السنتيمتر والديسيمتر، لم يكن سوى بقايا الإشعاع الحراري الناتج عن الانفجار العظيم. ونتيجةً لامتداد الكون، تحول هذا الإشعاع المتبقّي إلى إشعاعٍ ذي درجة حرارةٍ منخفضة. ومنذ اكتشاف وقياس ميدان الإشعاع الكوني هذا، عُدّ نموذج الانفجار العظيم مقياساً يقاس على أساسه.

ولم يظهر الإنسان على سطح الأرض إلا بعد 13.7 بليون عاماً متكونًا من ذرات من الكربون والأكسجين، وهي المادة الكيميائيّة الخام للحياة وهي أيضاً المادة التي تكوّن منها الجيل الأول من النجوم. فكما قال الشاعر نوفالس Novalis «نحن غبار النجوم stardust».

ما الذي يحمل العالم كله في وجوده الأعمق

بالطبع، لا يجيبُ النموذج القياسي على كلّ الأسئلة، ويبرز ذلك في عدم وجود تفسيرٍ لتوزّع المادة المتجانس بشكلٍ كبيرٍ ودقيقٍ، ولماذا أدى التوزيع العادل للمادة إلى تكوين البُنى: المجرات ومجموعات المجرات. على هذا النحو، نجحت الفيزياء الجديدة بصورةٍ مذهلةٍ في تقديم وصفٍ تجريبيٍّ دقيقٍ لبداية الكون. وليس عجيباً أنّ بعض علماء الفيزياء يحاولون التغلغل في الواقع بصورةٍ أعمق من هذا المستوى العالي للمعرفة، لكي يقدموا إجابةً محدّدةً لسؤال جوته الذي وضعه على لسان فاوست: «ما الذي يحمل العالم كلّه في أعماقه؟»

هايزنبرج ونظريّة الكم

لقد افترض ألبرت أينشتين – وهو افتراضٌ صحيحٌ- أنّ المكان والزمان لم يظهرا في الفضاء الخالي، ولكن مع واقعة الانفجار العظيم. فالمادة لم تتكثف والمجرات والنجوم لم تأت إلى الوجود إلا مع المكان والزمان الممتدين. فالواقعة بأسرها حدّدتها الجاذبيّة. ففي تكملةٍ منطقيّةٍ مع نظريّة النسبيّة ولعقودٍ من الزمان بعد عام 1920، حاول أينشتين أن يقدّم نظريّةً في المجال «الموحد» تشمل الجاذبيّة والديناميكا الحراريّة، إلا أنّه لم ينجح كما نعرف. فهو لم يأخذ في الاعتبار متطلبات نظريّة الكم وفيزياء الجزيئات الأوليّة، وخاصة وجود مثل هذه التأثيرات المتبادلة كالقوى النوويّة.

وعلى أيِّ حالٍ، فلقد أدرك مبكراً -عام 1900- الفيزيائي ماكس بلانك في برلين أنّ الطاقة المغناطيسيّة الكهربائيّة تصاب بالإشعاع  فقط في أجزاءٍ متقطّعةٍ محدّدة، في كميات من الطاقة. على هذا النحو ولدت نظريّة الكم: وهو أكبر تغيّر حدث في الفيزياء منذ نيوتن، إذ لولاها  لما وجدت طاقةٌ نوويّةٌ حتى الآن، أو ساعات ذريّةٌ أو خلايا شمسيّة، أو ترانزيستور أو ليزر. فبينما انتقد أينشتين أفكار بلانك، أحدث الفيزيائي الدنماركي نيلز بور تقدماً محدداً بنموذجه الذري- فالإلكترونات المشحونة سالباً تدور حول نواةٍ ذريّةٍ مشحونةٍ شحناً موجباً.

وبعد عقدٍ من الزمان، بدءاً من 1925 استطاع كلٌّ من الألماني فيرنر هايزنبرج تلميذ العالم بور (1901 – 1976) والنمساوي أرفن شرودنجر(1887 – 1961)  كلٌّ على حدة اقتراح نظريّةٍ للكم أكثر تطوراً، وهي ما طوّرها بصورةٍ أفضل ماكس بورن (1882 – 1970) والبريطاني بول ديراك (1902 – 1984). تصف ميكانيكا الكم هذه ميكانيكا عالم الذرات والجزيئات الصغيرة غير المرئيّة: إذ يمكنها أن تستوعب كلاً من الجزيء والخاصيّة الموجيّة لأصغر كتلةٍ للطاقة تظهر كوحدة (كم) ومن ثم تجمع بدون تناقضٍ كلاً من النظريّة الموجيّة والجسيميّة. ومن ثمّ أصبحت فيزياء الكم أساس الكيمياء الحديثة والبيولوجيا الجزيئيّة.

ولكن كما يحدث غالباً، يأتي جهلٌ جديدٌ مع كلّ معرفةٍ جديدة: أضحت فيزياء الكمّ موضوعاً لقانون العلاقات غير المحدّدة أو الغائمة الذي صاغه هايزنبرج.

فإذا عرفنا مكان الإلكترون، لا يمكننا معرفة ما يفعل. فمهما استطعنا أن نحسب ونقيس، لا يمكننا قياس مكان وقوّة دفع الجزيء في الوقت نفسه، لأنّ القياس يصبح غائماً. المغزى هنا أنّه لا يوجد يقين فيزيقي ولكن فقط احتمالٌ إحصائي. وتكون النتيجة أنّه لمّا كان من المستحيل القياس الدقيق للحالة الحاليّة لموضوعٍ ما (بالمعنى الكلاسيكي)، فإنّه لا يمكننا أيضًا توقّع مستقبله بدقة. وهو ما يعني أنّ الصدفة أضحت بالضرورة عنصراً مرتبطاً بنظريّة الكم، ولا يمكن حذفها بملاحظاتٍ أخرى أكثر دقّة.

لهذا السبب، وعلى الرغم من أنّ أينشتين استطاع التنبّؤ بنظريّة الكم عام 1905 بالافتراض العبقري عن الكم الخفيف، فإنّه قاوم حرباً ضروساً ضدّ هذا الفرض: «من المؤكد أن ميكانيكا الكم تفرض نفسها، إلا أنّ صوتاً داخلنا يقول أنّها ليست بعد الشيء الواقعي. تخبرنا نظريّة الكم بالكثير، إلاّ أنّها لا تقرّبنا من سر النظريّة الأقدم. وعلى أيّ حالٍ فإنّي على قناعةٍ أن الله لا يلقي بالنرد».[14]

صياغة العالم – أمل عظيم

قد يطمئن كلّ من هو غير متخصّصٍ في الفيزياء بقول رتشارد فينمان -الحاصل على جائزة نوبل وأحد روّاد نظريّة الكم- «إنّ كلّ من يزعم أنّه فهم نظريّة الكم لم يفهمها». فالعلاقة الغائمة في الواقع لا تتناسب لا مع نموذج نيوتن ولا نموذج أينشتين للعالم، والذي وفقاً له يخضع سائر الكون من الكواكب وحتى أصغر جزيئات لقوانينه التي تفرض نفسها. ومنذ ذلك الحين تركّز عمل علماء الفيزياء في محاولة دمج قوانين الجاذبيّة التي تصف العالم كلّه وفيزياء الكم التي تصف البناء الأصغر للمادة في نظريّة واحدة. وبعد كلّ هذه النجاحات السابقة، بدا أنّ النظريّة الشاملة لكلّ قوى الطبيعة أو «صياغة العالم»  كامنة في ميدان ما هو ممكن.

كان أينشتين قد قدّم بالفعل نسخةً أوّليّةً لصياغة العالم في عام 1923،  ولقد تم البرهان على وجود أخطاءٍ في هذه الصياغة، بل وفي الصياغات التالية عليها. لقد كان فيرنر هايزنبرج هو من حاول بعد الحرب العالميّة الثانية تقديم مثل هذه النظريّة الموحّدة للمادة بمساعدة نظريّة مجال الكم، وهي صياغة العالم لكلّ الجزيئات الأوليّة وتأثيراتها المتبادلة. ولكن حتى «صياغة العالم التي قدمها هايزنبرج» 1958 والتي اكتشفت أخيراً لم تقنع الفيزيائيين.

وأخيراً قدّمت «نظريّة الأوتار string theory» أملاً في حلّ المشكلات الأساسيّة بتوجّهٍ جديد. هذه النظريّة لا تعدّ أكثر الجزئيات الكميّة أوليّةً كنقاطٍ لا امتداد لها، ولكن كأوتارٍ دقيقةٍ جداً تتذبذب بتردّداتٍ مختلفة. وعلى كلّ حال، فقد ثبت عند محاولة تكميم هذه النظريّة أنّه من الصعب تقديم وصفٍ رياضيٍّ متّسقٍ لهذه الأوتار. لقد توصّل العلماء لأكثر من أحد عشر بعداً مكانياً زمانياً، وألف كون ممكن حيث يختلف أحدهما عن الآخر، ولكنهم لم يتمكنوا من تفسير لماذا الكون الذي نحياه هو الكون الذي تحوّل إلى واقع[15].

لقد بدا أنّ بعض علماء الفيزياء -وليس هايزنبرج- يحلمون -بتأثير هذه النظريّة- بإمكان التوصّل إلى نظريّةٍ فائقةٍ لا لبس فيها بأنّ الإله الخالق ما كان سيكون له خيارٌ بشأن كيفيّة خلقه للعالم، وهو ما يجعل الله لا لزوم له أو أنّ بينه وبين صياغة العالم المنشودة هويّة. إنّ هؤلاء العلماء مازالوا يفكرون – بوعي أو بدون وعي- إنطلاقاً من نموذج العلم الميكانيكي المادي الذي كان شائعاً منذ القرن التاسع عشر، وكان الاقتناع بأنّ بإمكانه حلّ مشكلات العلم خطوة خطوة. ولم يجعل أحد  الخلفيّة الأيديولوجيّة واضحةً مثل العالِم الذي حاول مؤخراً عمل نظريّةٍ كبيرةٍ موحّدةٍ ترى الإله الخالق لا لزوم له.

GUTالنظريّة الموحّدة الكبرى  بدلا من GOD الإله ؟  هوكنج Hawking

لقد كان عالم الفيزياء الانجليزي ستيفن هوكنج Stephen Hawking (المولود 1942) في كمبردج الذي نال عن استحقاق إعجاب النّاس (وذلك لأنّه بسبب خللٍ عصبيٍّ لا علاج له في الحبل الشوكي، لم يكن بإمكانه التواصل مع البيئة الخارجيّة إلا من خلال الكمبيوتر)، هو من أمل في أبحاثه عن الكون في الحالة التي أعقبت الانفجار العظيم أن يضع نظريّةً موحدة كبيرة يدمج فيها كلّ التفاعلات المعروفة. كان المقصد من هذه النظريّة هو تفسير «ما يحمل العالم بأسره في وجوده الأعمق». فإذا كان هايزنبرج بنظريّته في ميكانيكا الكم استطاع أن يقدّم نظريّةً كبيرةً تم التحقق منها بصورةٍ تجريبيّةٍ، وتظهر في الوقت نفسه احتراماً كبيراً للجانب الديني، فإن هوكنج في كتابه الذي حقق أعلى نسبة مبيعات «تاريخٌ ملخصٌ للزمان (لقد تم بيع 25 مليون نسخة من هذا الكتاب رغم صعوبة فهمه حتى للعلماء) وَعَدَ - حيث يملؤه الأمل في تحقيق التنوير- بتقديم نظريّةٍ واحدةٍ كبيرةٍ لا تقدم فقط تفسيراً لمعطياتٍ تجريبيّةٍ محدّدةٍ، ولكن تمكننا من «معرفة عقل الله»[16].

لقد وُضعت هذه الملاحظة عن قصدٍ وقُصد بها التهكّم. ذلك لأنّ رأي هوكنج كان يتلخص في أنّ العالم بهذه النظريّة الشاملة التي ستفسّر كلّ شيءٍ سيفسّر نفسه، ولن يكون هناك حاجةٌ لافتراض وجود الله كخالقٍ للكون. فإذا ثبت أن العالم كيانٌ مغلقٌ على نفسه، بدون مفردات وحدود، وأمكن تفسيره تماماً بنظريّةٍ موحدة، فستبرهن الفيزياء على أنّه لا حاجة لافتراض إلهٍ خالق.

وفقاً لرأي هوكنج القائل بأنّ العالم كيانٌ مغلقٌ لا مفردات فيه أو شروط أوليّة، وذلك في مقابل نظريّة الانفجار العظيم، لن يكون هناك «تفرداً» وفقاً له يكون لله الحريّة التامّة لوضع شروط بداية العالم وقوانينه. «سيظل لله بالطبع حريّة اختيار القوانين التي يخضع لها العالم. إلاّ أنّ هذا لن يكون اختياراً. فقد يكون هناك نظريّةٌ واحدةٌ فقط أو مجموعةٌ صغيرةٌ من نظرياتٍ موحدة تامة، مثل نظريّة الأوتار المغلقة تتصف بالاتساق الذاتي وتسمح بوجود بُنى معقّدة مثل الكائنات الحيّة تبحث في قوانين الكون وتسأل عن طبيعة الإله» [17].

هل هذه «نظريّة موحدة كاملة»؟ لقد أجاب هوكنج – بوعي- أنّه رغم عبقريّة المعادلات لكلّ شيءٍ، فإنّ واقعيّة كلّ شيءٍ لم تعط بعد.

ويظلّ السؤال قائماً عن مبرّر وجود الكون من الأساس. «حتى وإن أمكن وجود نظريّةٍ واحدة، فإنّها ليست سوى مجموعةٍ من القواعد والمعادلات. ماذا هناك بحيث يشعل النار في هذه المعادلات بحيث تصف عالماً؟ إنّ الأسلوب المتبع في العلم والقائم على إيجاد نموذجٍ رياضيٍّ لا يمكنه أن يجيب على السؤال لماذا يجب أن يكون هناك عالمٌ يصفه هذا النموذج.» [18]

وعلى كلّ حال، فقد عبّر هوكنج بوضوح عن أمله بأن تتمكن نظرية GUT يوماً ما من تقديم مبرّرٍ لوجود الكون. «وعلى كل، فإذا اكتشفنا نظريّةً كاملة، يجب من حيث المبدأ أن تكون قابلةً للفهم بواسطة الجميع وليس فقط مجموعة صغيرة من العلماء. عندئذ سنتمكن جميعاً – فلاسفة وعلماء وأناس عاديون- من المشاركة في السؤال حول مبرّر وجودنا ووجود الكون. ومتى وجدنا الإجابة على هذا السؤال، سيعدّ هذا أكبر انتصار للعقل البشري- لأنّنا عندئذٍ سنعرف عقل الله.»[19] إلاّ أن الأمور سريعاً ما سارت على خلاف هذا تماماً.

صياغة العالم – إحباط عظيم

لقد اعتقد هوكنج أنّه بالإمكان إيجاد صياغةٍ كاملةٍ لقوانين الطبيعة: أي مجموعة من القواعد تمكّننا من حيث المبدأ على الأقل من توقّع المستقبل «بدقّة تعسفيّة»، ومن ثم نتمكن من تحديد حالة الكون في زمنٍ معيّن. لقد افترضت الفيزياء الكلاسيكيّة أنّه متى عرفنا جزيئات وقوة دفع كلّ الجزيئات، يمكننا أيضاً حساب الأماكن والسرعات في أيّ زمنٍ آخر. ولكن فيزياء الكم أظهرت أنّ هناك حالات لا يمكن حسابها من حيث المبدأ. وعلى كلّ، فقد كان هدف هوكنج وكلّ من يفكر على منواله أن يجد وصفاً شاملاً للواقعيّة بما في ذلك نظريّة الكم، وصفاً يحتوى أو لا يحتوى على إله.

وهنا نصل إلى المفاجأة الكبرى: فقد لاحظ هوكنج في محاضرةٍ ألقاها عام 2004 في كامبردج أنّه توقف إلى الأبد من حيث المبدأ عن البحث عن «نظريّة موحّدة كبيرة»[20]. وانتهى إلى أنّ الأمل في إيجاد نظريّةٍ شاملةٍ تامة تعرّف العالم في أعماقه، ومن ثم تتحكم فيه كان خدعة. فلم يكن من الممكن بالنسبة له أن يؤسس نظريّةً للكون بعددٍ محدّدٍ من القضايا.

ما يثير الدهشة أنّ هوكنج هنا يشير إلى نظريّة عدم الاكتمال الأولى لعالم الرياضيات النمساوي كورت جودل 1906 – 1978 الذي قد يعدّ أكثر المناطقة أهميّة في القرن العشرين. من عام 1930، تقول هذه النظريّة أنّ النسق المتناه للمسلّمات يحوي دائماً صيغاً لا يمكن لا البرهان عليها ولا دحضها داخل النسق نفسه[21]. يشبه هذا الموقف المثال المعروف منذ القدم حين يقول شخص ما «هذه القضيّة كاذبة». وإذا ما افترضنا أنّ كلّ قضيّةٍ هي إمّا صادقة أو كاذبة (وهذا هو اكتمال النسق)، فإن هذه القضيّة تصدق تحديداً إذا كانت كاذبة. لذا فهناك تناقض[22].

وبغض النظر عما إذا كان هوكنج قد اقتبس من جودل وفهمه جيداً أم لا، فإنّ ما فعله بكلّ هذا هو أنّه كرّر الخبرات التي كانت لعلماء الرياضيات والفيزياء النظريّة السابقين عليه لعقود مضت. ذلك لأنّ تطوّر الرياضيات أدى تقريباً عام 1910 إلى خلافٍ حول أسسها، وهو الخلاف الذي مازال قائماً حتى الآن، وخاصة حول مكانة نظريّة الفئات ومبدأ الثالث المرفوع[23]. فلن يندهش أولئك الذين يهتمون بشدّةٍ بنتائج العلم - وهو ما أفعله منذ 1970 -[24] بالتغير الذي حدث في تفكير هوكنج. لذا، فهل هناك إله GOD بدلاً من نظرية موحدة كبيرة GUT؟ أريد أن أتحقّق من هذا المبدأ تحديداً، ولكن بعد أن أتناول مشكلات أسس الرياضيات.

الخلاف حول أسس الرياضيات

منذ بداية العصر الحديث، تطوّرت الرياضيات جنباً إلى جنب مع الفيزياء بخطٍّ مستقيم. ومع انطباقها على الميكانيكا السماويّة وعلوم الصوتيّات والبصريّات والكهرباء وأخيراً على كلّ فرعٍ من فروع العلم والتكنولوجيا، كانت تحقّق نصراً بعد نصر. وبالتالي ألا يمكن تحقيق حلم وجود علمٍ رياضيٍّ شاملٍ ذلك الذي بدأه ديكارت وليبنتز؟ سأحاول في هذا الجزء أن أتناول مشكلةً عويصةً تؤثّر بشكلٍ أساسيٍّ في أولئك المهتمين بالرياضيات والمنطق، إلا أنّ لها تأثيرات هامة على العلاقة بين العلم والدين. وبإمكان أولئك الأقل اهتماماً بالرياضيات والمنطق تخطّي هذه الصفحات.

هل يمكن أن تكون هناك رياضيات بدون تناقض؟ جودل

إنّ ما أدّى إلى هذه المشكلة هي محاولة جعل الرياضيات العلم الأساسي والشامل لكلّ شيءٍ: لقد هدّدت نظريّة الفئات التي اخترعها عالم الرياضيات الألماني جورج كانتور (1845 – 1918) دقة الرياضيات وخلوّها من التناقضات. إذ أدت إلى ظهور معضلات ومفارقات وتناقضات: قضايا يمكن البرهان على صدقها وكذبها في الوقت نفسه. المثال الشهير هو مثال «فئة كلّ الأعداد الترتيبيّة» (وفقاً لبورالي- فورتي): لكلّ فئة من فئات الأعداد الترتيبيّة هناك عددٌ ترتيبيٌّ أكبر من كلّ الأعداد الترتيبيّة الموجودة في الفئة. إلا أنّه لا يمكن لأيّ عددٍ ترتيبيٍّ أكبر من «فئة الأعداد الترتيبية» أن يوجد في هذه الفئة (لأّنه أكبر)، ومع هذا – كما يمكن البرهان على ذلك في الوقت نفسه- يجب أن يوجد في الفئة (وإلاّ لن يكون لدينا فئة كلّ الأعداد الترتيبيّة). ومن ثم فقد أدّى التعامل مع المفارقات الرياضيّة المنطقيّة، وكذلك المفارقات اللغويّة (البنائيّة أو السيمانتيكيّة) في الرياضيات إلى ظهور أزمةٍ خطيرةٍ  حول أسس الرياضيات. فلأول مرةٍ في تاريخ الرياضيات تظهر مشكلة خلوّ النظريّة الرياضيّة من التناقض. ولقد ظهرت محاولاتٌ كثيرةٌ لحلّ هذه المشكلة بأساليبٍ وطرقٍ مختلفةٍ في التفكير. وفي النهاية ظهرت ثلاثة تفسيراتٍ قياسيّةٍ مختلفةٍ في المنطق، ولكن يناقض أحدها الآخر (وكانت في الوقت نفسه مدارس في الرياضيات): النزعة المنطقيّة ( فريدريك لودفيج جوتلوب فريجة، F. L. G. Frege، برتراند رسل B. Russell، ألفرد نورث وايتهد A. N. Whitehead)، النزعة الحدسيّة ( لويتزن اجبرتس جان بروور L. E. J Brouwer)، ثم النزعة الصوريّة ( دافيد هلبرت D. Hilbert). ولكن لم تستطع النزعة المنطقيّة التي تشتقّ المنطق من الرياضيات ولا النزعة الحدسية التي حاولت أن تؤسس المنطق إنطلاقاً من بعض الحدوس الرياضيّة الأساسيّة أن تلقى قبولاً عاماً. والأمر ينسحب أيضاً على النزعة الصوريّة التي رأت في كلٍّ من المنطق والرياضيات في الوقت نفسه نسقاً من القواعد نتج عن حساب المصادرات (تاركة كل المعاني جانباً).

على هذا النحو تقف النظريّة الثانية لعدم الاكتمال لكورت جودل 1930 في سياقٍ تاريخي. لقد برهن جودل في هذه النظريّة أن المرء لا يمكنه أن يثبت خلوّ نسق - معقد بشكل كاف- من التناقض بوسائل من داخل النسق ذاته. وهو ما يعني أن معظم أنساق المسلّمات الرياضيّة ليست في وضعٍ يمكنها معه أن تبرهن على خلوّها هي ذاتها من التناقض. لم يكن من الممكن حماية الفكر الرياضي ببراهين بنائيّةٍ متناهيةٍ عن الخلوّ من التناقض بطريقةٍ ملزِمةٍ بشكلٍ عام. ودارت الملاحظة الذكيّة والمضحكة في الوقت نفسه التالية بين علماء الرياضيات: الله موجودٌ لأنّ الرياضيات خاليةٌ من التناقض، والشيطان موجودٌ لأّنه لا يمكن البرهان على هذا الخلو من التناقض ( أندريه وايل Andre Weil).

لاحظ عالم الرياضيات والمنطقي هانز هرمز Hans Hermes في كتابه الشهير الصادر عام 1961 (إمكانية العد، إمكانية التحديد، إمكانية الحساب Enumerability, Decidability, computability) أنّه «بالنسبة للدور المهم الذي تقوم به الرياضيات اليوم في تصورنا للعالم... فإنّه من المهم للغاية... أنّ عالم الرياضيات استطاع أن يبيّن بمناهج رياضيّةٍ دقيقةٍ أن هناك مشكلات رياضيّةً لا يمكن تناولها بمناهج  حساب الرياضيات»[25]. يتحدث هرمز هنا – متابعاً في ذلك نهج ايميل بوست  Emil L. Post- عن «القانون الطبيعي الخاص بحدود ريضنة mathematizing قوة الإنسان العاقل.» [26]

علماء الرياضيات أنفسهم إذاً، يريدون رياضيات خاليةً من الأوهام. وقد يبدو الحكم الذي أطلقه عالم الرياضيات الأميركي المهم موريس كلاين (1908– 1992) وفقاً لبعض زملائه حكماً مبالغاً فيه  -بل وضارًا- ولكنّه حكمٌ يمكن فهمه في ضوء الكثير من الشكوك uncertainties الأساسيّة التي لا يعي بها الكثير من علماء الرياضيات إلا قليلاً. لقد اتضح هذا الأمر بصورةٍ جيّدةٍ بالنسبة لي من خلال الحوارات. فلقد كتب كلاين عام 1975 وذلك قبل ظهور كتاب هوكنج -الذي حقّق نسبةً عاليةً من المبيعات- بعقدٍ من الزمان، يقول:” إنّ الحالة الراهنة التي عليها الرياضيات حالةٌ مؤسفة. إذ عليها أن تهجر إدعائها الصدق. لقد فشلت محاولات استبعاد المفارقات، كما فشل التأكيد على خلوّ بُناها من التناقضات. والجميع يختلفون بشأن تطبيق مسلماتها... علينا أن نهجر إدعاء البرهان غير القابل للاعتراض عليه. وأخيراً، فلم يستطع التصور السائد عن الرياضيات بأنّها مجموعةٌ من البنى، يتأسس كلّ منها على مجموعةٍ من المسلمات أن يضم كلّ ما كان يجب أن تحتويه الرياضيات»[27].

 نظرية نهائية لكل شيء[28]:

في الممارسة الرياضيّة اليوميّة، تؤدي التساؤلات التي تثيرها المشكلات المتعلقة بأسس الرياضيات دورًا ثانويًا؛ فما هو مهمٌ بالنسبة لمحورنا هو أنّ الرياضي أو الفيزيائي الذي يهدف إلى «معرفة عقل الإله» قد يكون مضطرًا إلى التصدّي بجديّةٍ للتساؤلات الفلسفيّة واللاهوتيّة مثلما هو الحال في الفيزياء. والسؤال الذي نطرحه الآن: إذا كانت أسس الرياضيات غير مبرهنةٍ غالبًا، فهل ينبغي على المرء صياغة الدعاوى الكليّة للرياضيات والتفكير العلمي بمزيد من التواضع وضبط النفس؟

اليوم يرى ستيفن هوكينج Stephen Hawking أنّه «إذا كانت هناك نتائجٌ رياضيّةٌ لا يمكن البرهنة عليها، فإن ثمة مشكلات فيزيائيّة لا يمكن التنبؤ بها... فنحن لسنا ملائكة تشاهد الكون من الخارج،  بل إنّنا ونماذجنا بالأحرى جزءٌ من الكون الذي نصفه، ومن ثم فالنظريّة الفيزيائيّة لها مرجعيّتها الذاتية، مثلما هو الحال في مبرهنة جودل، ولذا يمكن للمرء أن يتوقع أنّها إمّا غير متّسقةٍ أو غير مكتملة»[29].

على أنّه بعد فشل محاولته الهادفة لوضع نظريّةٍ موحّدةٍ تزعم معرفة عقل الإله، اعترف هوكينج في النهاية بشكلٍ مباشرٍ أن «بعض الناس سوف يُصابون بخيبة أملٍ كبيرةٍ إذا لم تكن ثمة نظريّة نهائيّة يمكن صياغتها كمجموعةٍ متناهيةٍ من المبادئ». وذهب هوكينج إلى أنّه ينتمي إلى هذا المُعسكر، مُعبّرًا عن ذلك بقوله: « لكنّي غيَّرتُ رأيي، وأنا الآن سعيدٌ بأنّ سعينا نحو الفهم لن ينتهي أبدًا، وأنّنا سنواجه دومًا تحديًا بكشفٍ جديد». لذا يجعل هوكينج من الضرورة Necessity فضيلة؛ «فبدونها سوف نُصاب بالركود، وقد أكدت مبرهنة جودل أن ثمة عملاً بشكلٍ دائم لعلماء الرياضيات»، وبالطبع لعلماء الفيزياء.

 فرصة للاستفادة من النقد الذاتي:

وهكذا فإن الطموح المتغطرس للفيزيائي الذي أراد أن يُدرج العالم بأكمله في نظرية فيزيائية واحدة، غير عابئ بما تثيره الفلسفة واللاهوت والأنثربولوجيا من مشكلات، قد سقط على أرض الواقع. وبإمكاننا أن نفهم تعليق جون كورنويل John Cornwell (مدير مشروع البُعد العلمي والإنساني بكليّة يسوع بكاليفورنيا، إذ صرَّح قائلاً: «إن شُهرة هوكينج» –  التي لم تُثمر أيّ نظريّة تمّ اختبارها على مستوى نظريات آينشتين Einstein، بوهر Bohr، ديراك Dirac، أو هيزنبرج Heisenberg – «كانت تقوم على فكرة أنّه كان في سباقٍ مع الزمن من أجل اكتشاف الحقيقة النهائيّة للوجود قبل موته. وباعترافه أنّ هناك دائمًا شيئًا لم يُكتشف بعد، ينضم الآن إلى صفوف العامة فكريًا. بل قد يُسلّم – كما فعل العالم البريطاني اللامع جون بوردون ساندرسون هالدن B. S. Haldane – بأن الكون قد لا يكون فقط عصيًا على التخيّل، بل عصيًا أكثر مما يمكننا أن نتخيل»[30].

وقد بيّن هوكينج مع صديقه وزميل عمله روجر بينروز[31] أنّ «نظريّة آينشتين في النسبيّة العامة تنطوي على أنّ المكان والزمان قد بدأ بالانفجار العظيم، وينتهيان في الثقوب السوداء»[32][33]. لكن هوكينج قد صحَّح أيضًا وجهات نظره التجريبة حول الثقوب السوداء، تلك التركيزات الهائلة من الكتلة الكثيفة للغاية التي تتشكل لدينا في مركز درب التبانة، وربما أيضًا في مركز معظم المجرات[34]. إن الثقب الأسود – الذي وصفه وحدَّد قياساته منذ زمنٍ بعيدٍ الفيزيائي الألماني كارل شفارتزشيلد (1873 – 1916) – ينشأ حين يحترق وينهار نجم ضخم بشكلٍ بارز، وتحت ضغط جاذبيّته الخاصة يتكاثف إلى كتلةٍ من المادة مركّزة للغاية، بحيث تستعصي على الخضوع لقوانين الجاذبيّة وقوانين ميكانيكا الكمّ. على سبيل المثال، لكي تتحول الأرض إلى ثقبٍ أسودٍ يجب أن تكون بمثابة كرةٍ نصف قطرها أقل من سنتيمتر، ولكي تتحول الشمس إلى ثقب أسود يجب أن يصل نصف قطرها إلى أقل من ثلاثة كيلومترات[35].

ووفقًا لنظرية هوكينج المبكّرة سنة 1976، فإنّ كلّ شيءٍ يتجاوز حدًا معينًا (أفق الحدث  Event Horizon)[36] يتم ابتلاعه داخل الثقب الأسود بسبب الثقالة والكثافة الشديدة، التي تمنع حتى الضوء من الفرار منه، وقد صادر هوكينج على فكرة الإشعاع النقي Pure Radiation الذي لا يحوي أيّ معلومات. وفي سنة 1997، راهن هوكينج على نطاق واسع -بمشاركة زميله الأميركي جون بريسكيل[37] – على أنّ المعلومات التي يبتلعها الثقب الأسود تظلّ مخفيّةً إلى الأبد ولن يتم إطلاق صراحها على الإطلاق.

ومع ذلك، أعلن هوكينج – في المؤتمر السابع عشر عن النسبيّة العامة والجاذبيّة الذي عُقد في يوليو من سنة 2004 بمدينة دبلن – أنّ المعلومات في النهاية يمكن أن تظهر من خلال التقلّبات على حافة الثقب الأسود. لقد خسر رهانه، وفي الوقت ذاته، نقَّح وجهة نظره التي طرحها قبل ثلاثين عامًا، القائلة بأنّ الاختفاء المزعوم للمادة والطاقة داخل الثقب الأسود ينبغي تفسيره بفكرة الأكوان الموازية لكوننا. إنّ الاضطرابات الهائلة التي تحدث عندما تنهار النجوم لا ترسل الطاقة والمادة التي امتصّتها إلى كونٍ موازٍ، بل إنّ كلّ شيءٍ يظلّ في كوننا وينجو من الفناء في الثقب الأسود في شكلٍ مضغوط؛ «فليس ثمة كونٍ وليدٍ كما ظننت من قبل»[38]، وأعرب هوكينج عن أسفه الشديد لأنّه اضطر إلى تخييب ظنّ المجتمع العلمي.

علاوةً على ذلك، ووفقًا لــ رودولف تاشنر Rudolf Taschner (أستاذ الحوسبة العلمية بفيينا)، تؤدي مبرهنة جودل الأولى في عدم الاكتمال إلى النتائج التالية لخبراء الحاسوب: ليس ثمة إجراء كلّي يمكن أن تقوم به آلة حاسبة، بحيث تقرر – بالنسبة لكل برامج الحاسوب – ما إذا كانت هذه البرامج ستتوقف في النهاية لتُنتج خرجًا، أم أنّها ستظل تعمل دون انقطاع في حلقةٍ لا متناهية. تلك هي الرسالة الفائضة للمعتقد الديني غالبًا، أعني عدم إمكانيّة وجود حاسوب لديه معرفة بكلّ شيءٍ، وقادر على كل شيء. وعلى أيّ حالٍ فإنّ التصور الدقيق للآلة الحاسبة لابدّ وأن يُواجه بالفشل، لأنّنا سنظلّ دومًا أمام شيء يصعب فهمه[39]. وحتى قبل تاشنر، أدرك جودل وبرهن على أن «مشكلة التوقف Stop Problem» [40] لا حلّ لها.

ألم يأن إذن لكلٍّ من هوكينج وكافة العلماء من ذوي العقليّة المماثلة – وأنا أسأل نفسي – أن يفحصوا، ليس فقط التخيمنات الرائعة وبعض وجهات النظر التجريبيّة، ولكن أيضًا الأسس الوضعيّة لفكرهم العلمي، تلك التي تمتدّ جذورها إلى القرن التاسع عشر؟ لن تكون هذه العمليّة هينة على أيّ حال، نظرًا لتأثيرها على أسس الرياضيات والمنطق؛ فالوضعيّة Positivism أكثر من مجرّد نظريّة؛ إنّها وجهة نظرٍ إزاء العالم، ولا يُلاحظ بعض علماء الطبيعة أنّهم يبحثون في العالم من خلال الرؤى الوضعيّة، وهو ما يستلزم منّا الآن إلقاء الضوء على وجهة نظر الوضعيّة إزاء العالم.

أوجه القصور في الوضعية:

لا يحتاج ستيفن هوكينج إلاّ للتشاور مع زميله البريطاني البارز كارل بوبر Karl Popper (فيينا 1902 – لندن 1994) الذي كان أستاذًا للمنطق والعلم النظري بكليّة الاقتصاد في لندن منذ سنة 1946، كي يزداد معرفةً في مرحلةٍ مبكرةٍ بالحدود الأساسيّة للعلوم الطبيعيّة؛ فقد كان بوبر في شبابه على مقربةٍ من حلقة فيينا الوضعيّة، والتي شملت فلاسفة ورياضيين وعلماء التفوا حول مورتز شليك  Moritz Schlick تلميذ ماكس بلانك Max Planck [41]. وقد ضمت الحلقة أيضًا كورت جودل، ونشرت في سنة 1922 بيانًا تحت عنوان «رؤية علمية للعالم» Scientific View of the World [42]، أكدت فيه أنّ نوعين فقط من الجمل يمكن اعتبارهما جملاً ذات معنى؛ يتمثل النوع الأول في جمل الرياضيات والمنطق، وهي جملٌ صوريّةٌ خالصةٌ دون محتوى تجريبي؛ بينما يتمثل النوع الثاني في جمل العلوم التجريبيّة، وهي الجمل التي يمكن إثباتها تمامًا من خلال التجربة. فهل كلّ الجمل الميتافيزيقيّة – غير الخاضعة للفحص التجريبي – لا معنى لها؟

هل يمكن رفض الجمل غير الخاضعة للفحص التجريبي؟ (بوبر):

لم تعد الوضعيّة المنطقيّة، التي تفترض شيئًا ما كـ «معطى» بالمعنى التجريبي كأساسٍ نهائيٍّ لحُججها، ترغب في قبول خبرة الحواس كنقطة ابتداء، مثلما هو الحال بالنسبة للوضعيّة التجريبيّة القديمة التي دشّنها الفيسلوف الفرنسي أوجست كونط Auguste Comte، حيث صكَّ كونط مصطلح «الوضعية» سنة 1830، لكن خبرة الحواس كانت تُعد السلطة المسيطرة لصحّة كلّ التأكيدات، وإلى هذا الحدّ تحدّث الناس عن الوضعيّة المنطقيّة الجديدة أو النزعة التجريبيّة.

لقد تأثر الوضعيّون الجُدد بعمق – بعد قرنٍ من كونط – بموضوعيّة وصرامة ودقّة العلوم الطبيعيّة والرياضيات، وطالبوا أيضًا بالفحص التجريبي للفلسفة، بمعنى فحص مدى قابليّة كلّ جمل الفلسفة للتحقق؛ فلا تُعدّ أيّ جملةٍ واقعيّةٍ وذات معنى إلا تلك التي تُعبّر عن حالةٍ تخضع مباشرةً للملاحظة، أو تكون قابلةً للفحص من قبل التجريبيين. ومن الواضح أنّه في مثل هذا العلم وتلك الفلسفة لن يكون هناك أي اعتبارٍ للقضايا غير الخاضعة للفحص التجريبي، بما في ذلك القضايا الدينيّة وقضايانا عن الله. وبهذا المعنى تقتصر وظيفة الفلسفة على التحليل المنطقي للغة العلم، حيث يتم استبعاد الميتافيزيقا تمامًا، ويغدو اللاهوت بشكلٍ قبلي بلا معنى. 

ومع ذلك، وبشكلٍ عام، أليس «اعتراف» الوضعي بأنّ المشكلات الميتافيزيقيّة مجرد مشكلات زائفةٍ بلا معنى يمثل تفكيرًا رغبويًا (مجرد أمنية)؟ كان هذا هو اعتراض بوبر في مرحلةٍ مبكرة:

[إن هذه الرغبة... يمكن دائمًا أن تكون مرضيّة. ولا شيء أسهل من تبيان أن مشكلةً ما لا معنى لها أو زائفة. كل ما عليك فعله هو أن تركّز على المعنى الضيّق المريح لكلمة «معنى»، وسوف تجد نفسك على الفور مُلزمًا بأن تقول عن أي سؤال غير مريح أنك غير قادرٍ على أن تجد له أيّ معنى! وفضلاً عن ذلك، إذا سلَّمت بأنّه ما من مشكلةٍ ذات معنى بخلاف تلك التي تنطوي عليها العلوم الطبيعيّة، فإن أيّ مناقشةٍ حول تصور «المعنى» سوف تغدو أيضًا بلا معنى. إن معتقد المعنى – بمجرد تتويجه – يعلو إلى الأبد فوق المعركة؛ فلا يتسنى بعدها مهاجمته، بل يغدو – على حد تعبير فتجنشتين Wittgenstein – مُحصنًا وحاسمًا][43].

لكن الأمل الممتزج بالتفاءل لكلٍّ من مورتز شليك ورودلف كارناب Rudolf Carnap، وغيرهم من أعضاء حلقة فيينا، بأن المستقبل سوف يؤول إلى النزعة التي تهدف قبل كلّ شيءٍ إلى الوضوح، قد دمرته النازيّة والفاشيّة؛ ففي بواكير سنة 1935 هاجر كارناب إلى الولايات المتحدة الأميركية، وفي سنة 1936 قُتل شليك بطلقٍ ناريٍّ من تلميذٍ سابق له، وفي سنة 1937 هاجر بوبر إلى نيوزيلاندا، وفي سنة 1938 هاجر الأعضاء الآخرون بحلقة فيينا، الذين كان أغلبهم من اليهود وتم حظر نشاطهم. ومع ذلك، وبسبب هذا تحديدًا، امتدت الوضعيّة المنطقيّة إلى العالم الأنجلوسكسوني، وهذا يجعل الأمر الأكثر إلحاحًا هو السؤال النقدي: هل ثمة مشكلات زائفة فقط بلا معنى؟ 

هل ثمة مشكلات زائفة فقط بلا معنى؟

كانت تلك هي المعضلة الداخليّة [44] التي سبّبت أزمةً لبرنامج الوضعيّة المنطقيّة، بل واعترف بها المناطقة أنفسهم في نهاية المطاف. وقد تعدّدت الاعتراضات على مثل هذا الإيمان بالعلم؛ فهل يمكن مثلاً أن نضع تعريفًا مُحددًا بوضوح للتصورات الأساسيّة للعلوم الطبيعيّة مثل تصور «الذرة»؟ ألاّ يعتمد هذا على مجرى البحث الذي يتغيّر باستمرار، بحيث إنّنا كلّما سعينا إلى وضوح التصورات عجزنا عن بلوغه؟ ألم ينبذ العلم كلمة «الذرة» ذاتها (غير القابلة للتجزئة)؟ وهل بإمكاننا في المعرفة والبحوث الرياضيّة والعلميّة أن نستبعد تمامًا الذات العارفة (أي الشروط والافتراضات ووجهات النظر والرؤى الذاتية)؟ وهل يجب على كلّ علمٍ أن يتبنّى المنهج الرياضي العلمي بوصفه المنهج الشرعي الوحيد؟ ألم يتم السعي في ذلك الوقت إلى لغةٍ موحدة للعلم، وفي معيّتها ثبت بوضوح أن وحدة العلم مجرد وهم؟ 

ومع ذلك، علينا أن نطرح سؤالاً أعمق حول «المعنى» و«اللامعنى»: هل من المشروع أن يستبعد المرء تساؤلات قبليّة معيّنة بوصفها «بلا معنى» إذا لم يستطع أن يُحدّد ما يعنيه بـ «المعنى» باستخدام مصطلحات تجريبيّة رياضية؟ وبأيّ حق يجعل الخبرة التجريبيّة للحواس معيارًا للمعنى؟ ألا يتخذ بذلك موقفًا ميتافيزيقيًا، ومن ثم بلا معنى، ويُعلن في الوقت ذاته أن ألفي سنة من التفكير الناقد في الميتافيزيقي بلا معنى؟ هل «التغلب على الميتافيزيقا بالتحليل المنطقي للغة» – وتلك عبارة كارناب – قد تم تحقيقه بمثل هذا التوجه؟ وهل كل ما هو ميتافيزيقي لا يعدو أن يكون بالفعل سوى ضرب من ضروب الخيال؟ هل الجمل الميتافيزيقية مجرد جمل زائفة حقًا؟ وهل التصورات الميتافيزيقية مثل المطلق Absolute، غير المشروط Unconditional، كينونة الكيان Being of the entity، أنا The I، محض تصورات زائفة؟ ألا تختلف كلمة «إله» God عن كلمة مُختلقة بلا معنى مثل «بابيغ» Babig، التي لا تخضع لأي معيار للمعنى؟[45] هل التمييز بين التوحيد Theism والإلحاد Atheism واللاأدرية Agnosticism حقًا بلا معنى؟ هل يجب أن ينتهي بنا الأمر إلى إعلان «موت الإله» في «اللغة» بسبب نجاح الرياضيات والعلم؟  على العكس: ليس المنطق الحديث ونظريّة العلم في حاجة إلى أن يكونا بالضرورة على طرف نقيضٍ من الميتافيزيقا واللاهوت. لماذا؟

استحالة البرهنة

كل الجمل صادقة، حتى في العلم

في وقتٍ مبكر من سنة 1935، حلَّل كارل بوبر بدقّة في كتابه المؤثر «منطق الكشف العلمي» The Logic of Scientific Discovery قواعد التوّصل للفروض والنظريّات العلميّة، وأثبت قصور المنهج الاستقرائي في العلوم التجريبيّة. لقد طرح السؤال التالي: كيف يصل الباحث إلى نسقٍ نظريٍّ من خلال تجارب جزئيّة؟ وكيف يمكن تحقيق رؤى علميّة جديدة؟ وجاءت إجابته المُحيّرة على النحو التالي: ليس من خلال التحقق Verification والبرهان Proof، بل من خلال التكذيب Falsification والتفنيد Refutation.

إن مبدأ التحقّق، وهو مبدأ محوريٌّ للوضعيّة المنطقيّة، بمعنى أنّه المطلب الجذري للتحقّق التجريبي من كل الجمل الإنسانيّة، لن يضع حدًا للجمل غير الخاضعة للتجربة، وسوف يُبطل الفروض التجريبيّة في الوقت ذاته، وبالتالي كلّ المعرفة العلميّة: «ففي مسعاهم لإبادة الميتافيزيقا، أباد الوضعيّون المناطقة أيضًا العلم الطبيعي»[46]. لماذا؟ لأنّ معظم الجمل العلميّة لا يمكن التحقّق منها تجريبيًّا، ومن ثم يجب رفضها باعتبارها جملاً زائفة، «بل إنّ قوانين العلم لا يُمكن أن تُرد أيضًا إلى جملٍ أوليّةٍ للتجربة». خذ مثلاً الجملة التالية: «كل النحاس مُوصل للكهرباء»؛ فلكي نُحقق هذه الجملة تجريبيًا لابد وأن نُخضع كلّ النحاس في الكون للفحص للتحقق من هذه الخاصيّة، وهو أمرٌ مستحيل بالطبع. لذا فإنّ أيّ نظريّة لا يمكن أن تكون محلّ ثقةٍ استنادًا إلى التجربة التي تم تعميم النظرية انطلاقًا منها.

لقد تمثّل موقف بوبر المعارض في أنّ القوانين العلميّة – التي يجب أيضًا أن تجعل التنبؤات الحاسمة بالمستقبل ممكنة – لا يمكن التحقق منها، بل يمكن فقط تكذيبها باستخدام منهج التجربة والخطأ. خذ مثالاً آخر: إنّ الجملة «كل البجع أبيض» لا يمكن التحقق منها لأنّنا لا نعرف كلّ البجع على امتداد العالم، لكنّ بجعةً سوداء واحدة تمّ اكتشافها في أستراليا كانت كافيةً لتكذيب الجملة «كل البجع أبيض». فلنتحلّى إذن بالتواضع! «ومن المؤكد تمامًا.. أنّ المثاليّة العلميّة القديمة قد توارت بما لدينا من معارف مؤكدة لتتجلي كوثن، أو فلنقل بشكلٍ إيجابي: كلّ جملةٍ علميّةٍ يجب أن تظلّ مؤقتةً إلى الأبد، قد تكون حقًا مُعزّزة، لكن كلّ تعزيزٍ إنّما يتعلق بجملٍ أخرى»[47].

وهكذا، ففي بداية معرفتنا، لا تكون لدينا سوى تخمينات، افتراضات، نماذج وفروض تخضع للفحص. وثمة أساس نهائي للجمل العلميّة التي لا يمكن انتقادها، هو بالنسبة لـ بوبر «الاعتقاد» Belief الذي ينتهي إلى معضلةٍ ميؤوسٍ منها. وقد تبنّى بوبر هذا الرأي انطلاقًا من الفيلسوف الألماني فرايز يعقوب فريدريش Jacob Friedrich Fries (1773 – 1843)؛ فإمّا التأكيد البسيط على الدوجماطيقيّة، Dogmatism أو التراجع اللامتناهي نحو استنتاجٍ جديدٍ دائمًا، أو النزوع النفسي نحو تعميم الخبرات الفردية[48]. وكل هذه الطرق غير قابلة للتطبيق.

ماذا يعني هذا بالنسبة لمعيار التحقق؟ يعني أنّه لا يمكن أن يُستخدم كمعيارٍ إيجابيٍّ للمعنى، أو كقاعدةٍ للتمييز بين الجمل ذات المعنى وتلك التي لا معنى لها. ربّما أمكننا استخدامه فقط كمعيارٍ لتعيين الحدود، أي للتمييز بين الجمل الموثوق بها وغير الموثوق بها في المنطق والرياضيات والعلوم التجريبيّة. ويعني هذا – وضعيًا – أن هذا المعيار العقلاني – غير الإيجابي – لتعيين الحدود يفسح المجال أيضًا للجمل غير الفيزيائيّة وغير التجريبيّة ذات المعنى، والتي هي ميتافيزيقيّة بالمعنى الواسع؛ أي الجمل التي تتجاوز نطاق المجال العلمي. ويصل بوبر من هذا إلى نتيجةٍ مؤدّاها أن التحليل العقلاني للتساؤلات الميتافيزيقيّة ممكن من حيث المبدأ. وهذا يشمل كلّ «مشكلة الكوزمولوجيا» التي «تعني بكل الكائنات المفكرة»: مشكلة فهم العالم بما في ذلك أنفسنا، ومعرفتنا، كجزءٍ من العالم[49].

وهكذا، نستطيع القول وفقًا لبوبر: «إنّها لحقيقة أنّ الأفكار الميتافيزيقيّة المجرّدة – وبالتالي الأفكار الفلسفيّة – كانت ذات أهميّةٍ قصوى للكوزمولوجيا؛ فمن طاليس Thales إلى آينشتين  Einstein، ومن المذهب الذري القديم Ancient atomism إلى تكهنات ديكارت Descartes حول المادة، ومن تكهنات جلبرت Gilbert ونيوتن Newton وليبنتز Leibniz وبوسكوفيتش Boscovic حول القوى إلى تكهنات فاراداي Faraday وآينشتين حول مجالات القوى، كانت الأفكار الميتافيزيقيّة علامةً مضيئةً على الطريق»[50]. ماذا يعني هذا كلّه بالنسبة لمعرفتنا بالواقع؟

استقلالية وحدود المعرفة العلمية:

لقد حاول العلماء حقًا، وبنجاح كبير، الارتقاء بمعرفتهم إلى حد اليقين الرياضي، والنموذج المعياري للانفجار العظيم، مثالٌ لهذا مثير للإعجاب، فالبحث في فروع العلم من الفيزياء النوويّة إلى الفيزياء الفلكيّة، ومن البيولوجيا الجزيئيّة إلى الطب، يمكن أن يتم بهذه الدرجة من الدقّة التي تُحقق أكبر قدرٍ ممكنٍ من اليقين الرياضي. وهكذا، فالعلم الموجَّه رياضيًا مُبرَّرٌ ومستقلٌّ وقائمٌ بذاته تمامًا، ولا ينبغي على أيّ لاهوتيٍّ أو كاهنٍ أن يُشكك فيه بالإشارة إلى سُلطة أعلى (الله، الكتاب المقدس، البابا، الكنيسة). نستطيع القول أيضًا أن المواجهة مع محاولات السيطرة من قبل السلطات الدينيّة، من النوع الذي يُشكل حتى الآن تهديدًا مستمرًا لمسائل مُحدّدةٍ تتعلق بالتمييز بين الجمل الرياضيّة العلميّة والجمل الفلسفيّة واللاهوتيّة المتجاوزة للتجربة، هي مواجهة مُبرَّرة وضروريّة مبدئيًا.

هذا التمييز لا يقتصر فقط على العلم؛ فالعلم  يُفضل التمييز. وإذا كانت تساؤلات العلم تتم مناقشتها حقًا وفقًا لمنهج ونمط العلم، فإن تساؤلات العلوم الإنسانيّة؛ أعني تساؤلات النفس البشريّة والمجتمع: القانون والسياسة والتاريخ؛ علم الجمال والأخلاق والدين – يجب أن تُناقش أيضًا وفقًا لمنهج ونمط مميّزٍ يتوافق مع أهدافها. ومع تأكيدنا المشروع على استقلاليّة وذاتيّة التسيير الذاتي للعلم، فإن مشكلات أسسه لا ينبغي تجاوزها؛ فلا ينبغي التغاضي عن السمة الفرضيّة لقوانينه؛ ولا يجب أن نخلع على نتائجه طابعًا مطلقًا.

لقد أثمر التاريخ الأحدث لكلٍّ من الفيزياء والرياضيات نتائج مثيرةً للإعجاب، لكنّه يُظهر أيضًا حدودًا أساسيّةً للمعرفة الفيزيائيّة والرياضيّة. ويجب أن يكون هذا مهمًا بالمثل للبيولوجيا، التي تستند إلى الفيزياء والرياضيات، وبصفة خاصة بيولوجيا الأعصاب.

لقد واجهت الفيزياء حدودًا أساسيّة في معيّة ميكانيكا الكمّ، لاسيما بعد تبنّي هايزنبرج لعلاقة اللاتحديد Indeterminacy relation: فحيث إنّنا لا نستطيع تحديد موضع أيّ جسيم وقوّته الدافعة في الوقت ذاته، فلن يمكننا مبدئيًا قياس بعض الحوادث الذريّة سلفًا. إنّ اللاتحديد لا يسمح سوى بالاحتمال الإحصائي.

وقفت الرياضيات أيضًا ضد حدودٍ أساسيّةٍ، خصوصًا في مشكلة أسسها؛ فوفقًا لمبرهنة عدم الاكتمال الثانية لكورت جودل سنة 1930، ليس ثمة براهين استدلاليّة متناهية يمكن أن تقدم ضمانةً مقنعةً كليًا على أن الفكر الرياضي خالٍ من التناقض.

كل هذا يعني أنه إلى جانب الإمكانات الضخمة للعلم، علينا أيضًا أن نلاحظ حدوده، فثمة حدٍّ تنتهي عنده كفاءة الرياضيات والفيزياء. وفي مواجهة خطر السيطرة على الفكر والفعل الإنسانيين، ليس فقط من قبل الدين، ولكن أحيانًا من قبل العلم بالمثل، يجب أن نضع في اعتبارنا دائمًا أنه لا يوجد معيارٌ رياضيٌّ أو علميٌّ يمكن وفقًا له التصريح بأنّ الجمل غير الخاضعة للتجربة، الفلسفيّة – اللاهوتيّة، ليست بذات معنى، أو أنّها بمثابة مشكلات زائفة. إنّ تحقيق الدقّة الرياضيّة لا يمكن أن يكون هدفًا لأيّ علم، ولا يمكن تحقيقه من خلال التاريخ الذي يُعالج أحداثًا مفردة، ومن الواضح أنّه قد وقف أيضًا ضد الحدود في علم النفس والفلسفة.

على أيِّ حال، لقد تحوّلت النبرة الرياضيّة بعد الثمانينات من التساؤلات المؤرقة حول أسسها – والتي عجزت بوضوح عن تقديم إجابات نهائيّةٍ عنها – إلى موقفٍ أكثر واقعيّةً تمثل في طرح مشكلات ملموسة. وهنا أتاح الحاسوب إمكانات غير متوقعةٍ، ولكن لدي الآن أكثر من سبب للعودة من الرياضيات إلى التساؤلات الفلسفيّة الكليّة التي ترتبط بالواقع على هذا النحو.

الشك في الواقع:

ذكرت في المقدمة أن الواقع هو كلّ شيءٍ حقيقي؛ الكيانات، والمجموع الكلي لها، والوجود قائم بهذا المعنى. ولكن هل هذا تعريف للواقع؟ لا، فالواقع لا يمكن تعريفه بشكلٍ قبلي. ولا يمكن تعريف الكل – الجامع الشامل – على نحوٍ محدد. وكي لا نتحدث بطريقةٍ مجرّدة وفارغة، فسوف أشير بكلمات قليلةٍ إلى ما أعنيه بالواقع.

إنّ الواقع ليس واقعًا قبليًا متعاليًا، يستعصي على الشك، ولا جدال فيه؛ لكنّه واقعٌ مشكوكٌ فيه في العديد من الجوانب. لماذا؟

الواقع في المقام الأول هو عالمنا، الأصل الذي ننتمي إليه، كوننا، العالم وكلّ ما يُشكل العالم في المكان والزمان، الماكروكوزم والميكروكوزم بكلّ أغوارهما، المادة وضد المادة، البروتونات ومضادات البروتونات، الجسيمات الأوليّة، مجالات القوى والسطح المنحني، الأقزام البيض[51] White dwarfs، العماليق الحُمر[52] Red giants، والثقوب السوداء. لكن الواقع أيضًا هو العالم بتاريخه الذي يمتدّ إلى ما يقرب من ثلاثة عشر مليار سنة منذ الانفجار العظيم، وخمسة مليارات سنة منذ تشكل الشمس، وثلاثة ونصف مليار سنة منذ بزوغ الحياة، وفقط حوالي 200.000 سنة منذ أنسنة البشر[53] Hominization. إنّه العالم شاملاً الطبيعة والثقافة، بكلّ ما فيه من عجائب وأهوال. هو ليس «العالم في مجمله»، بل العالم الحقيقي بكلّ شكوكه وهشاشته، وبكلّ مخاطره العينيّة وكوارثه الطبيعيّة، وبؤسه الحقيقي وأنماط معاناته التي لا حصر لها. إنّه الحيوانات والبشر في صراعهم من أجل الوجود، في خروجهم إلى الحياة وفنائهم، في تأرجحهم بين آكل ومأكول.

الواقع العالمي هو بصفةٍ خاصة البشر؛ البشر من كلّ المستويات والطبقات، كلّ الألوان والأعراق، الأمم والمناطق، الفرد والمجتمع – عظمة وبوس العرق البشري. إنّه الإنسان ككائنٍ طبيعي؛ كموضوع للعلم والطب، وهو في الوقت ذاته الإنسان ككائن حُر؛ كموضوع للعلوم الإنسانية؛ الإنسان غير الخاضع لدقة الحساب، والذي غالبًا ما يُمثل لُغزًا لنفسه، فالبشر مسؤولون عن التقدم التكنولوجي الهائل، لكنهم أيضًا مسؤولون عن التدمير غير المسبوق للبيئة، وعن الانفجار السكاني ونقص المياه والإيدز وما إلى ذلك.

الواقع هو بصفة خاصة «نفسي»؛ فأنا يمكن أن أصبح هدفًا لنفسي كموضوع، لدي الوعي بذاتي؛ الواقع هو نفسي روحًا وجسدًا، استعدادًا وسلوكًا، بمواطن قوتي وضعفي، مرتفعاتي وأعماقي، وجوانبي المشرقة وضلالي. ووفقًا للرؤى العلميّة، أنا خاضعٌ تمامًا للسببيّة الماديّة والبيولوجيّة: السببيّة دون أيّ ثغرات على ما يبدو، لكنّي من خلال خبرتي المؤكدة بنفسي (وخبرتي بعددٍ لا يُحصى من الآخرين الذين يمكن أن يكونوا أيضًا موضع تفكير) أدرك أنّني قادرٌ على معرفة نفسي، واتخاذ قرارٍ عن نفسي، والتفكير والعمل بشكلٍ استراتيجي.

من الممكن إذن أن أجيب عن السؤال الذي طرحته في البداية: ما الواقع؟ وأقول: الواقع ليس أحاديّ البُعد أو على مستوى واحد، لكنّه غنيُّ الأوجه[54].

الواقع متعدّد الأبعاد، ومتعدّد الطبقات:

يُقال أنّ العلم يهدف إلى سبر أغوار الأشياء (التماس الجذر Radix)، لكن الإحاطة الحقيقيّة والتجذير لا ينبغي تحديدهما من جانبٍ واحدٍ أو من بُعدٍ واحد؛ ففي مواجهة العقلانيّة المطلقة، وفي مواجهة أيديولوجيا المذهب العقلاني، يجب أن ننتبه بشكلٍ قبلي للسمة المميّزة الواقع، ألا وهي كونه متعدّد الأبعاد ومتعدّد الطبقات؛ فالواقع يتجلّى قطعًا بطرقٍ مختلفة للغاية، ويمكن أن تكون له سمة مختلفة للغاية.

في هذا الصدد، أتذكر زيارة المتحف الوطني في أثينا بصحبة أصدقاءٍ من دفعتي في مدرسة لوسيرن Lucerne school، وقد فوجئت بأنّ واقع المتحف ذاته يمثل شيئًا بعينه للكيميائي الذي يُلاحظ قبل كلّ شيءٍ مشكلات صبّ البرونز والعمليات التقنيّة الأخرى. وهو شيءٌ ثانٍ بالنسبة للمؤرخ الذي يهتم بتطوّر الفن من قديم إلى كلاسيكي إلى هلينستى Hellenistic. وهو شيء ثالث بالنسبة لمُحب الفن الذي تفتنه جماليات المعروضات دون غيرها! ويمكن وصف القناع الذهبي ذاته لملك مايسيني Prince of Mycenae وتقدير قيمته من وجهات نظر مختلفة. ومن المهم أن نلاحظ أن كل وصف وتقييم – سواءً أكان للكيميائي أم للمؤرخ أم لمُحب الفن – يمكن أن يكون صادقًا اعتمادًا على المنظور.

ومن الواضح أنّ الواقع ذاته يختلف اعتمادًا على المنظور الذي يبدو فيه للملاحظ، فضلاً عن اهتمامات هذا الأخير، ومن ثم فليس هناك واقع «في ذاته»، بل ثمة جوانب وأبعاد وطبقات عديدة مختلفة للواقع. وقد كان فيرنز هيزنبرج (في وقتٍ مبكر من سنة 1942، خلال الحرب العالميّة الثانية) في مقدمة كبار الفيزيائيين الذين أشاروا إلى هذه الحقيقة، إذ تحدث في «نظريّة طبقات الواقع» عن الطبقة الأدني، التي يمكن فيها للعلاقات السببيّة للظواهر والعمليات أن تكون موضوعيّة، وعن الطبقة الأعلى للواقع، التي تتسع فيها الرؤية لتلك الأجزاء من العالم التي لا نتحدث عنها إلا في الحكايات الرمزيّة: الأساس الأخير للواقع[55].

يعني هذا – بالنسبة لممارسة البحث والتدريس والحياة – أنّه لا يوجد تفسيرٌ واحدٌ (أي التفسير الفيزيائي) للموضوعات البسيطة مثل المناضد والدراجات، بل مستويات عديدةٍ من التفسير (بما فيها التفسير الوظيفي). ولا يمكن التوصية بإضفاء الطابع المطلق على جانبٍ نوعيٍّ من جوانب الواقع، لأنّ المرء في هذه الحالة يُصبح أعمى حرفيًا بالنسبة للآخرين. وبين الفلاسفة وعلماء اللاهوت والفقهاء، وكذلك بين علماء الرياضيات والفيزيائيين وعلماء الفيزياء العصبيّة، وكل العلماء، يمكن للعماء المهني أن يغدو بسهولةٍ عماء تجاه الواقع، إذ لن تعد لديهم رؤيةٌ للواقع كما هو بالفعل، بل كما يريدون رؤيته. ويحدث هذا في المناقشات التي تتعلق بـ «نظريّة كلّ شيء»، تلك التي تبدو – حين ننظر إليها عن كثب – نظريّةً لكلّ ما هو فيزيائي، ولا تُسهم إلا قليلاً في فهم شكسبير  Shakespeare وهاندل Handel، أو نيوتن Newton. كذلك يحدث هذا في النقاش حول الدماغ وحريّة الإرادة كما سنرى لاحقًا.

تأمّل بصفةٍ خاصة الشخصيات العظيمة التي أعطت زخمًا للعلم الحديث؛ فلاسفة مثل ديكارت Descartes، سبينوزا Spinoza، وليبنتز Leibniz، بل وفولتير Voltaire، ليسينج Lessing، وكانط Kant، وكذلك علماء الطبيعة أمثال كوبرنيكوس Copernicus، كبلر Kepler، جاليليو Galileo، نيوتن، وبويل Boyle: هل كانوا سيستسلمون ببساطةٍ لإنكار بُعدٍ آخر بخلاف ذلك الذي يرصده العقل الرياضي العلمي، أو يرفضونه بوصفه بُعدًا بلا معنى؟ في هذا الصدد، من الخطأ على الأقل أن نُدرج هؤلاء المفكرين العظام تحت ما نسميه المذهب العقلاني، فهم ليسوا ممثلين لأي مذهب، ولم يكونوا عميانًا تجاه الجوانب الأخرى للواقع.

ومع ذلك، يجب أن أحذّر فورًا من سوء الفهم؛ فعلى الرغم من وجود العديد من مستويات الواقع، لا يمكن للمرء أن يقول ببساطةٍ أنّ الطبقات المختلفة للواقع هي بمثابة وقوع (جمع واقع) Realities مختلفة. وفي ما يتعلق بجميع الأبعاد المتعدّدة للواقع، لا يجوز للمرء أن يغفل الوحدة في الأبعاد المختلفة. وفي جميع المنظورات والطبقات والأبعاد والجوانب والتمييزات، هناك واقعٌ واحدٌ يتقاسمه البشر، دائمًا على حساب إنسانيّتهم الكاملة في هذا العالم. لذا نجد أنّ ثنائيّة ديكارت: بين الذات والموضوع، الفكر والوجود، الروح والمادة، النفس والجسد، الإنسان والحيوان، قد تعرّضت للانتقاد في مرحلةٍ مبكرة. لكن وحدة وحقيقة الواقع – في مواجهة الثنائيّة بين العقل والإيمان، والفلسفة واللاهوت – يجب التعبير عنها مرارًا وتكرارًا: فالسؤال الذي طرحته الفلسفة اليونانيّة عن وحدة وحقيقة الوجود، والسؤال الذي طرحه العبرانيين القدامى حول الخلاص ومعنى الكل، لم يُحسما قط. وهنا يجب أن أتوقف قليلاً.

العقل، ولكن ليس العقل وحده:

منذ القرن السابع عشر – عصر اللايقين العظيم الذي لم يكن علم الكونيات الجديد سببه الوحيد –  تعلَّم البشر أن يجدوا في العقل أساسًا جديدًا لليقين (الكوجيتو: أنا أفكر إذاً أنا موجود Cogito, Ergo Sum)، وتعلموا استخدام العقل على نحوٍ شاملٍ أكثر من أيّ وقتٍ مضى في محيط الشك. وقد كان لهذا التوجه ما يبرّره من حيث المبدأ، بل هو ضروريٌّ من المنظور التاريخي للبشر في التنوير العلمي بضرورة البحث في الطبيعة وقوانينها دون تحيز، وبطريقةٍ عقلانيّةٍ ونسقيّةٍ، وكذلك للبشر أنفسهم في علاقاتهم الاجتماعيّة بكلّ جوانبها المختلفة.

لكن البشر لا يحيون بالعقل وحده؛ فعلى الرغم من أنّ العقل المستقل والمعرفة العلميّة لهما ما يبرّرهما من حيث المبدأ، بل وضروريان تاريخيًا، فإنّ العقلانيّة المطلقة مرفوضة. وسواءً أكان المرء فيزيائيًا أم فيلسوفًا أم أيًا كان، فإنّ كلّ رجلٍ أو امرأة لديه – أو لديها –  ما هو أكثر من العقل؛ لديه الرغبة أو الشعور، الخيال والاستعداد، والعواطف والشهوات، تلك التي لا يمكن ببساطة ردَّها إلى العقل. وإلى جانب التفكير العقلاني المنهجي – الذي تجلى في روح الهندسة Sprit de géométrie عند ديكارت – هناك أيضًا معرفة حدسيّة كليّة، واستشعار  Sensing، وشعور، وروح الإبداع Esprit de finesse.

ومع ذلك فبإمكان المرء أن يعترض قائلاً: أليس «الموضوعي» فقط هو الواقعي؟ على أيّ حال، حتى الموضوعيّة العلميّة –  التي هي في غاية المركزيّة بالنسبة للعلم الحديث –  مرّت بمراحل تاريخيّة في الأزمنة الحديثة[56]. وربما كان في استطاعتنا القول أنّ الموضوعيّة ليست في هويّةٍ مع الحقيقة؛ فكما أنّ العدالة بعيدة تمامًا عن استنفاد قائمةٍ من الفضائل الاجتماعيّة، فكذلك الموضوعيّة، بعيدةٌ تمامًا عن استنفاد الفضائل الإبستيمولوجية. وكما أنّ العدالة يمكن أن تتعارض مع الخير، فالموضوعيّة يمكن أن تتعارض مع جوانب أخرى للحقيقة. ومهما كانت صيغ الفيزياء والرياضيات والكيمياء تبدو موضوعيّةً، إلا أنّها ليست على الإطلاق المعايير الوحيدة للواقع. إنّ العلماء لديهم أيضًا خبرة ثابتة بعالم الألوان والنغمات والروائح، لكن الثروة الحسيّة للعالم أكثر ثراءً بشكلٍ لا متناهي من كلّ الصيغ الفيزيائيّة والكيميائيّة. وقبل أن يتمكن علماء الفيزياء أو الكيمياء من ملاحظة الموجات الكهرمغنطيسيّة عديمة اللون ذات الأطوال والترددات المتفاوتة، رأوا أيضًا – بكلّ العواطف المصاحبة للحالة – الأحمر والأصفر والأزرق والأخضر بآلاف من تبايناتها.

من جهةٍ أخرى، يجب التصدّي لنزعة ردّ المعرفة العلميّة عن طريق العقل؛ ولقد كان كانط مُحقًا حين صرَّح قائلاً: إنّ الدين الذي يعلن الحرب على العقل من دون تفكّر في العواقب لن يتمكّن من الصّمود أمامه على المدى الطويل[57]. وقد صاغ اللاهوتي جورجن مولتمان[58] Jürgen Moltmann – من توبنجن Tübingen العبارة الصحيحة المناظرة لمقولة كانط، فكتب قائلاً: «حتى العقل، في انتصاره التنويري على ما أسماه الإيمان، لم يكن قادرًا على الصمود بمفرده، بل وضع أشكالاً غير معقولةٍ للغاية من المصداقيّة الساذجة»[59]. والحق أنّ عبادة العقل كإلهٍ لم تمنع إرهاب المقصلة إبّان الثورة الفرنسيّة. وحتى العلم، الذي هو عقلانيّ للغاية، غالبًا ما يعمل بطريقةٍ غير عقلانيّة تمامًا، ويؤدي أحيانًا إلى نتائج غير عقلانيّة. 

العلم واللاهوت: وجهات نظر مختلفة:

لقد فقد العلم منذ وقتٍ طويلٍ عذريّة بداياته الأولى، وتبخّرت نشوة التقدّم في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. وعلى مدى العقود الماضية أصبح من الواضح بشكلٍ متزايدٍ أنّ التقدم العلمي هو أبعد ما يكون عن التقدم الإنساني دائمًا.

العلم: الأساس وليس الكل:

كل مظاهر التقدّم العلمي والتكنولوجي الكبير تقريبًا (التكنولوجيا النوويّة، تكنولوجيا الجينات، العناية الطبيّة المركّزة، الثورة الخضراء، أتمتة الإنتاج، عولمة الاقتصاد والتكنولوجيا والاتصالات) كانت لها أيضًا عواقبها السلبيّة التي ينبغي وضعها في الاعتبار؛ فبعد انهيار الاقتصاد الفقاعي في نهاية القرن العشرين، حتى الاقتصاديين من الليبراليين الجُدد لم تعد لديهم قناعة بأنّ الأسواق التي تمّ الزعم بأنّها ذاتيّة التنظيم يحكمها العقل. وحتى في الألفيّة الثالثة يتم استثمار مليارات الدولارات في صناعة الأسلحة بمختلف أنواعها بدلاً من مكافحة الفقر والجوع والمرض والأميّة، وهذا كله يتعارض مع العقل.

والواقع أنّ الحرب في كلّ من أفغانستان والعراق كان من المفترض أن تُقاوم بعقلانيّةٍ كبيرة في بداية القرن الحادي والعشرين، لاسيما مع توافر تكنولوجيا رفيعة المستوى لها عواقب مدمرة للبلدان المعنيّة والعالم أجمع، وتدفع كثير من الناس إلى التشكيك فيما إذا كان الجنس البشري لديه أيّ سببٍ على الإطلاق لإطلاق عنان التكنولوجيا الحربيّة. وهذا كله بالتأكيد ليس حجّةً ضدّ العقل والعلم، لكنّه حُجّة ضدّ العلم الذي يخلع على العلم والتكنولوجيًا طابعًا مطلقًا.

لقد أصبح العلم بحق أساسًا للتكنولوجيا والصناعة الحديثتين، وللصورة الحديثة للعالم، وللحضارة والثقافة الحديثتين، لكن العلم لن يُحقق هذا الدور بشكلٍ عادل إلا  إذا كان الأساس متينًا بما يكفي لحمل المبنى بأكمله؛ إذا رأى الناس النسبيّة والوقتيّة  Provisionality، والتكيف الاجتماعي والآثار الأخلاقيّة، في كلّ صورةٍ للعالم، وفي جميع التصميمات والنماذج والأوجه؛ وإذا ما كانت العلوم الإنسانيّة والعلوم الاجتماعيّة مسموحًا بها إلى جانب المناهج العلميّة، فضلاً عن الفلسفة واللاهوت. وبعبارةٍ أخرى، يجب ألاّ يكون العلم هو منفذنا الوحيد للنظر إلى العالم، فالعلم – مهما كانت دقّته ونظرته الثاقبة –حين يتشح بالطابع المطلق يغدو أضحوكةً للجميع، بل وخطرًا مشتركًا. وإذا حاول علاج الوهم الذي يكتنف كافة المجالات الأخرى – بلغة التحليل النفسي – فسوف يُعالج وهمه هو ذاته في نهاية المطاف. لكنّنا هنا في حاجةٍ إلى مناقشة نقطةٍ مضادة.

اللاهوت أيضًا في حاجة إلى النقد الذاتي:

وجهات نظرٍ مختلفة: العلم أكثر اهتمامًا بتحليل المعطيات والوقائع والإجراءات والعمليات والطاقات والبني والتطورات، وهو مُحقٌّ في ذلك. لكن علماء اللاهوت – والفلاسفة إن أرادوا ذلك – يمكن فقط أن يكونوا على حقّ في الاهتمام بالتساؤلات التي تدور حول المعاني والغايات النهائيّة أو الأولى، بالإضافة إلى القيم والمثل العليا والمعايير والقرارات والمواقف. ونحن نرحب اليوم أيضًا بأن يعترف العلماء بأنهم لا يمكنهم تقديم حقائق محدّدة ونهائيّة، إذ يبدون على استعدادٍ أكثر من أيّ وقتٍ مضى لمراجعة وجهات نظرهم، بل وإخضاعها برمتها للفحص مرةً أخرى وفقًا لمنهج التجربة والخطأ.

من جهة أخرى، ينبغي بالمثل على علماء اللاهوت والفلاسفة أن يحتفظوا بتواضعهم وقدرتهم على النقد الذاتي في نقاشهم مع العلماء، لأنّهم وإن كانت تشغلهم أيضًا حقيقة الإيمان بحكم مهنتهم، فإنّهم لا يمتلكون هذه الحقيقة بشكلٍ قبلي وقاطع؛ عليهم السعي نحو الحقيقة مرّةً تلو الأخرى كشأن غيرهم من الناس، وبإمكانهم فقط تقريبها. عليهم أيضًا أن يكتشفوا الحقيقة باستخدام منهج التجربة والخطأ، وأن يكونوا مستعدين لتنقيح وجهات نظرهم. إنّ تفاعل الخُطط، والنقد، والنقد المضاد، والتحسين، كلّها أمورٌ ممكنة ومطلوبة بشكلٍ مبدئيٍّ في اللاهوت إذا اعتبرناه علمًا وليس مذهبًا دوجماطيقيًا عقيمًا.

كذلك يجب على علماء اللاهوت عدم جعل الجدل مع العلماء سهلاً بإقحام حجّةٍ تتعلق بالسُلطة في النقاش؛ الحُجّة التي تبين على الأقل منذ عصر النهضة أنّها غير علميّة، وهو سلوكٌ يتجلّى في الانسحاب إلى العصمة المزعومة للكتاب المقدس والبابا وقرارات المجامع الكنسيّة التي لا تسمح بمزيدٍ من النقاش والفحص[60]. 

ولا شكّ أنّ اللاهوت الألماني في حاجةٍ ملحّةٍ إلى تطوير علاقته بالعلم؛ فلقد تم منع أعضاء مدرسة كارل بارث Karl Barth’ School من الحوار مع العلماء تحت تأثير الكراهية التاريخيّة لأيّ «لاهوت طبيعي» Natural Theology. وفي مدرسة رودولف بولتمان Rudolf Bultmann’s School كان هناك تركيزٌ على الوجود المضيء للإنسان، مصحوبًا بتجاهلٍ تامٍ للكوزمولوجيا. وكان علماء اللاهوت الكاثوليك مهتمين فقط بالوثائق الكاثوليكيّة الرومانيّة المدمّرة وإعادة تأهيل جاليليو وتيلار دي شاردان[61] Teilhard de Chardin.

وكانت الأمور مختلفةً تمامًا على الصعيد الأنجلوسكسوني، إذ لم يكن علماء اللاهوت فقط مغرمين بالفيزياء، بل كان علماء الفيزياء أيضًا منشغلون إلى حدٍّ بعيدٍ باللاهوت، وقدموا أعمالاً بيّنية هامة. وعلى مدى عقود، كان العديد من الباحثين بمثابة نماذج أثمرت عددًا من المنشورات الهامة، ومنهم مثلاً الفيزيائي واللاهوتي الأميركي إيان بربور[62] Ian G. Barbour (نورثفيلد، مينيسوتا)، وقد سبقت الإشارة إليه[63]؛ وكذلك الكيميائي وعالم اللاهوت البريطاني آرثر بيكوك Arthur Peacoeke (أكسفورد)[64]، و جون بولكينغهورن John Polkinghorne أستاذ الفيزياء الرياضية واللاهوت بكامبردج[65].

ولا يعترني القلق هنا إزاء التوازي في المنهج بين العلم واللاهوت والتصور الموحد للعلم والعقلانيّة، من النوع الذي نجده لدى بولكينغهورن في كتبه المبكرة. على العكس، حيث إنّ الاستقلاليّة المنهجيّة لكلّ من العلم والعلوم الإنسانية، خصوصًا الفلسفة واللاهوت، تبدو لي هامة، كما أنّ أيّ موقفٍ دفاعيٍّ تبريريٍّ أراه غريبًا. وبخلاف العلماء الأنجلوسكسونيين، أرغب في مقارنة نتائج العلم قليلاً بالمعتقدات الهلينستية للبابوات اليونانيين، تلك التي تعرضت لفحصٍ تاريخيٍّ دقيق بالغ الأهمية[66]، مقارنة بما يحويه العهدين القديم والجديد، مثلما يتضح من الشروح التاريخيّة النقديّة المعاصرة[67].

أخيرًا، وفي عملية المقارنة مع العلم، لن يكتفي المرء بالنظريات الكلاسيكية لنيوتن، بل يواجه بثبات نظريتي النسبية والكم[68].

المعرفة الفيزيائية لا يمكن أن تتجاوز عالم الخبرة:

كان إيمانويل كانط في رؤيته مدركًا غالبًا لحقيقة أنّ المعرفة الفيزيائيّة لها علاقة بالمكان والزمان، ولكن ليس بالعالم «في ذاته» مستقلاً عن ذواتنا؛ فالفيزياء تُعالج فقط عالم الظواهر، ولا يمكن أن تتجاوز من حيث المبدأ خبرتنا بالمكان والزمان.

ومع ذلك، فالفيزياء الحاليّة تختلف مع كانط في نقطتين:

أولاً: أنّ التحديدات الأساسيّة للطبيعة مثل المكان والزمان والسببيّة لا ينبغي أن تُفهم كمعطيات موضوعيّة، بل هي فحسب شروط قبليّة لمعرفتنا، وعالم الخبرة لا يرتكز بأكمله على الذاتيّة الخالصة.

ثانيًا: ليس التفوّق المطلق للذاتيّة الخالصة للعلم هو ما تم استبعاده فقط، بل لقد أصبح «الشيء في ذاته» تصورًا إشكاليًا؛ فالوعي التكويني ليس بمثابة سُلطة أبديّة، ولا هو بمثابة محتوى موضوعي لعالم ما وراء الظواهر. وبعبارة أكثر وضوحًا نستطيع القول أنّ البعد الفيزيائي هو عمليّةٌ لا يمكن أن ترتكز فقط على الذات،أو تقوم ببساطةٍ في عالم الأشياء في ذاتها، ولكنّها تشكل عالمًا خاصًا بها، هو ما يسميه والتر شولتز  Walter Schulz «عالم الفيزياء»[69].

ويترتب على ذلك أن الفهم الذاتي الكلاسيكي للعلم، الذي يمكن للمرء أن يصفه بوصفه كيانًا كما هو بالفعل، أي كـ «شيء في ذاته»، لم يعد من الممكن الحفاظ عليه اليوم. إنّ ميكانيكا الكم ومناقشات أسس الرياضيات تشير إلى عدم اكتمال وغموض المعرفة البشريّة، والحق أنّنا حتى لو تمكنا من جمع كلّ النظريات العلميّة في حقلٍ محدودٍ من الصحّة، ولو تمكنا من جلبها جميعًا داخل صورةٍ علميّةٍ للعالم، فلن تزداد الموثوقيّة التجريبيّة بالضرورة. 

أما بالنسبة للعلماء الذين يأخذون نسبيّة رؤاهم للواقع مأخذ الجد، على المستوى الأعلى كما فعل هيزنبرج، أو على المستوى العميق كما أفضّل القول، فإنّ السؤال الذي يفرضه موقفهم هو التالي: ما الذي يجعل العالم متماسكًا في باطنه؟ وليس هذا سؤالٌ عن القوّة الرابطة بين أصغر الجسيمات (الكوركات Quarks) في النوي الذريّة (وقد فاز كل من جروس  D. J. Gross وويلكزيك P. Wilczek وبوليتزر H. D. Politzer بجائزة نوبل سنة 2004 عن عملهم في هذا الصدد)، لكنه سؤال عن أساس ومعنى الواقع بأكمله.

ولا يزال علماء الرياضيات وعلماء الفلك اليوم يتبعون أسلافهم نيكولاس كوزا Nicholas of Cusa، وكبلر Kepler، وجاليليو Galileo، وحتى كانتور Cantor وبلانك Planck يفترضون – على غرار أفلاطون وفيثاغورث – أن الخواص الرياضية للأشياء هي بمثابة مشيرات لأصلها الإلهي.

ومع ذلك، فبعد مناقشة الأسس، يجب أن نفكر أكثر من أيّ وقتٍ مضى في أنّ الرياضيات، التي هي اختراع للروح الإنسانيّة والعالم، والتي لم تكن خلقًا حرًا للبشر، مناسبة تمامًا للجميع على نحو مثير للدهشة؛ فهي تبدو عقلانيّةً للكل على حدٍّ سواء، ومنظمة، وبسيطة جدًا في النهاية. الآن يجب أن يكون واضحًا كيف أفهم العلاقة بين العلم والدين.



[1]*ـ فيلسوف ولاهوتي سويسري معاصر (1922 -......).

ـ العنوان الأصلي بالألمانية: Der Anfang aller Dinge: Naturwissenschaft und Religion  

Hans Küng

ـ المصدر:2005 Piper Verlag GmbH, Munich

ـ العنوان الأصلي بالإنكليزية: The Beginning of All Things ( Science and Religion)

المصدر بالإنكليزية:  Published June 1st 2007 by William B. Eerdmans Publishing Company, 2007 (220 pages)

ـ نقله من الألمانية إلى الانجليزية جون بودن.

ـ ترجمة: د. صلاح الدين عثمان - د. بهاء درويش

ـ مراجعة: د. جاد مقدسي من فريق مركز دلتا للأبحاث المعمّقة.

[2]- راجع: N. Copernicus, De revolutionibus orbium coelestium libri Vi (1543)

طبعة نقدية جديدة. (Hildesheim, 1984)

[3]- T.S. Kuhn, the Structure of Scientific Revolutions. 2nd ed.

 (الطبعة الثانية). بحاشية. Chicago, 1970) 175).



[4]- راجع  J. Kepler, an Astronomia nova (Prague, 1609), في الأعمال الكاملة (Munich, 1937, vol.3;  The New Astronomy Cambridge, 1922).



[5]- V. Bialas, Johannes Kepler (Munich 2004)

وخاصة الفصل الثالث , “ The Harmony of the World,” يقدم صورة كاملة عن كبلر



[6]- G. Galilei, Dialogo (1632); Dialogues Concerning Two New Sciences (New York, 1954).



[7]- Galilei, letter to B. Castelli, 21 December 1613, in Opere, vol.5 (Florence 1965), 281, 88.



[8]- G. Denzler, “Der Fall Galilei und Kein Ende,” Zeitschrift Fur Kirchengeschichte 95, no.2 (1984): 223- 33, هنا 228



[9]-  راجع: الأبحاث بواسطة مؤرخ العلم م. سيجرى M. Segre  «ضوء على حالة جاليليو”  Light on the Galileo Case مجلة Isis  (History of Science Society) 88، 1997: 484 – 504.   يبين هذا الملف كيف عاد القس جون بول الثاني 1992 في رأيه الذي أعلنه عام 1979. راجع:  Segre, “ Galileo: A ‘Rehabilitation’ That Has Never Taken Place,” Endeavour 23, no.1 (1999): 20-23. Segre, “Hielt Johannes Paul II sein Versprechen?” in Der Ungenandigte Galilei. Beitrage zu einem Symposiun. Ed., M. Segre.and E. Knobloch.(Stuttgart 2001), 107-11.



[10]- I. Newton, Philosophiae naturalis principia mathematica (London, 1687; 3rd ed.

طبعة جديدة من مجلدين  1726 -  Cambridge, Mass 1972.



[11]- I. G. Barbour, Religion and Science (San Fransisco, 1998),  الفصل السابع.

عالم الفيزياء واللاهوتي الشهير الذي ميز نفسه بالحوار بين الدين والعلم وقدم تحليلا علميا وفلسفيا دقيقا للاختلافات الابستمولوجية بين الفيزياء الكلاسيكية والفيزياء الحديثة.



[12]- A. Einstein, Relativity: The Special and The General Theory (1917: New York, 1961),

 بصفة خاصة  الصفحات 30 – 32  “ Considerations about the World as a Whole”



[13]- F. Hubble, The Realm of the Nebulae (New Haven, 1936).



[14]- A. Einstein, Letter to Max Born of 4 Dec. 1936, in Albert Einstein and Max Born, The Born Eistein Letters: Friendship, Politics and Physics in Uncertain Times (New York 2005), 129f. (راجع أيضا 118).



[15]- في نقد نظرية الأوتار الفائقة وما يعرف بالنظريات الموحدة الكبرى راجع: M. Gell Mann, the Quark and the Jaguar (New York, 1994)



[16]- S. Hawking, A Brief History of Time: From the Big Bang to Black Holes (London and New York, 1988), 175.



[17]- Hawking, Brief History of Time, 174.



[18]- Hawking, Brief History of Time, 174



[19]- Hawking, Brief History of Time, 175



[20]- Hawking, “Godel and the End of Physics,” متاح على الرابط

www.damtp.com.ac.uk/strtst/dirac/hawking

[21]-  بالنسبة لهؤلاء الذين هم على علم بالموضوع، فإن الصياغة الدقيقة هي: في كل نسق صوري  مؤسس على قواعد انطلاقاً من مسلمات وخال من التناقض، ويمكن وصفه في المنطق من المستوى الأول ووصف الأعداد الطبيعية فيه بالإضافة والضرب، فإن هناك دلئماً صيغ لا يمكن لا اثباتها ولا تفنيدها داخل النسق. 



[22]-  يمكن تقديم البرهان هنا بمثال يثبت عدم إمكانية البرهان عليه. أشعر بالامتنان لأورلريك فلجنر Ulrich Felgner  أستاذ المنطق في جامعة توبنجن «أسس وتاريخ الرياضيات The Foundations and History of Mathematics» لهذا المرجع ولاقتراحاته القيمة الأخرى.



[23]- راجع عرض المناظرة في

C. Parsons, “Mathematics, Foundations of,” in Encyclopedia of Philosophy (London, 1967) 5:188- 213.



[24]- H. Kung, Does God Exist? An Answer for Today. (London and New York, 1978), A.III.1: “The Epistemological Discussion”.



[25]- H. Hermes, Enumerability- Decidability- Computability (Berlin 1969), vi.

يشير هنا هرمز إلى مبدأ جودل الأول في عدم الاكتمال. راجع فيما يتعلق بصعوبة الانتقال من اللغة العادية إلى اللغة الصورية للرياضيات والمنطق: Hermes, Einfuhrung in die mathematische Logik. Klassischer Pradikaten Logik, 2nd. Ed.( Stuttgart 1969).



[26]- Hermes, Enumerability- Decidability- Computability, vi.



[27]- M. Kline, “Les Fondements des mathematiques,” La Recherche  54 (Mar 1971): 200- 208, هنا  208. Kline, Mathematical Thought from Ancient  to Modern Times (New York, 1972).



[28]-   بدءاً من هنا  حتى نهاية الفصل، الترجمة للأستاذ الدكتور صلاح عثمان، أستاذ المنطق وفلسفة العلوم جامعة المنوفية.



[29]- لهذا الاقتباس والاقتباسات الثلاثة التالية، انظر هوكينج: «جودل ونهاية الفيزياء» Gِdel and the End of Physics.



[30]- ج. كورنويل: «مطلب هوكينج: بحث بلا نهاية» Harwking’s Quest: A Search without End، تابلت، 7 مارس 2014.



[31]- السير روجر بنروز Sir Roger Penrose (من مواليد سنة 1931)، عالم رياضيات وفيزياء بريطاني، وهو حاليًا أستاذ كرسي روز بول  Rouse Ball للرياضيات بجامعة إكسفورد (المُترجم).



[32]- قارن: «عن ستيفن – تاريخ مختصر لي» About Stephen: An Brief History of Mine، فيديو متاح في:

 http://www.hawking.org.uk/about/about.html



[33]-* المُترجم: المرجع المشار إليه عبارة عن ملف فيديو كان مُتاحًا على موقع ستيفن هوكينج، وربما تم حذفه أو نقله إلى موضع آخر. ويمكن للقارئ مشاهدة الفيديو ذاته على موقع يوتيوب متبعًا الرابط التالي:

Movie Hunter. (2015, Jan. 7). Stephen Hawking: A Brief History of Mine (2013) [Video file]. Retrieved from= https://www.youtube.com/watch?v=0A0J3WHgUx0

وثمة فيديو آخر مماثل تحت عنوان تاريخ مختصر لستيفن هوكينج، متاح على الرابط التالي:  

Perimeter Institute for Theoretical Physics. (2011, Nov. 23). Brief History of Stephen Hawking [Video file]. Retrieved from https://www.youtube.com/watch?v=utNQe7ZPH0Y&feature=youtu.be



[34]- للاطلاع على ما يلي انظر التقرير المنشور في صحيفة إنترناشيونال هيرالد تريبيون بتاريخ 17/18 يوليو 2004، «هوكينج يتراجع عن الثقوب السواداء» Hawking Backpedals on Black Holes.



[35]- هذا مع ثبات الكتلة الحالية لكل منهما، تلك التي تنضغط لتصبح بلا فراغات بينية في ذراتها وبين جسيمات نوي ذراتها (المُترجم).



[36]- أفق الحدث وفقًا للنسبية العامة هو حدٌ في المكان – زمان يُشكل منطقة حول الثقب الأسود، بحيث لا يستطيع الراصد من إحدى جهتيه أن يلحظ أية حوادث بالجهة الأخرى المحيطة بالثقب الأسود، وذلك لأن الضوء المنبعث من هذه الجهة لا يمكن أن يتجاوز هذا الحد ليصل إلى الراصد. وترجع عدم قدرة الضوء على النفاذ من هذا الحد إلى الجاذبية الشديدة للثقب الأسود التي تبتلع الفوتون داخل الثقب وتحول دون نفاذه. وقد وجد هوكينج لاحقًا أن هذا الوصف لأفق الحدث يتعارض مع قوانين الفيزياء الكمية، حيث أن تأثيرات ميكانيكا الكم حول الثقب الأسود تتسبب في تقلب كبير في نسيج المكان – زمان تجعل من المستحيل تواجد حد واضح في الفضاء، أي أن أفق الحدث من الممكن أن يختفي في النهاية مما يسمح بخروج أي شيء كان محتجزًا بداخله (المُترجم). 



[37]- جون فيليب بريسكيل John Phillip Preskill (من مواليد 1953)، أستاذ الفيزياء النظرية بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (المُترجم).



[38]- ستيفن هوكينج: «رسالة من أسوشييتد برس» S. Hawking, communication from AP، 22 يوليو 2004.



[39]- رودلف تاشنر: الأرقام في عملها: منظور ثقافي Der Zahlen gigantische Schatten، فيسبادن، 2004.



[40]- مشكلة التوقفStop or Halting Problem  هي إحدى مشكلات نظرية الحوسبة، وتتمثل ببساطة في عدم قدرة الحاسوب، إذا ما كان به برنامج عشوائي ذو مدخل معين، على تحديد ما إذا كان البرنامج سيُنهي عمله بناتج معين أم سيستمر في العمل إلى ما لا نهاية. وقد أثبت آلان تورنج سنة 1953 أنه لا توجد خوارزمية عامة (سلسلة من الخطوات الثابتة) بإمكانها حل مشكلة التوقف (المُترجم). 



[41]- قارن مورتز شليك: «مقالات مُجمعة 1926/1936» Gesammelte Aufsdtze 1926-1936 (فيينا 1938). وبالنسبة لشخصية شليك المعقدة (حيث لم يكن ضد الميتافيزيقا تمامًا) راجع الخطاب التذكاري الذي أعاد تلميذه فريدريك وايزمان Friedrich Waismann طباعته كتصدير للكتاب المذكور؛ ففي سنة 1930 أعلن شليك «التحول في الفلسفة»، مشيرًا إلى كل من ليبنتز وفريجه ورسل، وفتجنشتين بصفة خاصة. 



[42]- بالإضافة إلى مورتز شليك وكورت جودل ورودلف كارناب، ضمت حلقة فيينا كأعضاء أساسيين كل من هربرت فيجل Herbert Feigel، فيليب فرانك Philipp Frank، هانز هان Hans Hahn، فيكتور كرافت Vietor Kraft، كارل مينغر Karl Menger، أوتو نيوراث Otto Neurath، وفريدريك وايزمان (بالارتباط مع هانز ريشنباخ Hans Reichenbach في برلين.



[43]- كارل بوبر: منطق الكشف العلمي The Logic of Scientific Discovery (1934؛ لندن 2002)، ص 29.



[44]- Aporia: كلمة يونانية تعني الهوة التي لا قرار لها، أو الطريق المسدود، وقد استخدمها الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا Jacques Derrida (1930 – 2004) لنقد النصوص التي تحتوي على ثغرات وتناقضات (المُترجم).



[45]- انظر رودلف كارناب: «استبعاد الميتافيزيقا من خلال التحليل المنطقي للغة»ـberwindung der Metaphysik durch logische Analyse der Sprache، إركينتنيس، العدد 2 (1931): 219 – 241، ص 227. 



[46]- كارل بوبر: منطق الكشف العلمي، ص 13.



[47]- المرجع ذاته، ص 280.



[48]- قارن هانز آلبرت: «مقال في العقل النقدي» Traktat über kritische Vernunft (الطبعة الثالثة، توبينجن، 1975)، ص ص 13 – 15. حيث تغير هذا الوصف ليُعرف باسم معضـلة مونكاوزن الثلاثية = = Munchausen Trilemma: التراجع اللامتناهـي – الحجـة الدائرية – الدوجمـاطيقية. (ومؤدى هذه  المعضلة  التي ناقشها الفيلسوف الألماني هانز آالبرت في كتابه المذكور، أننا لا نستطيع إثبات صحة أي شيء أو إثبات عدم صحته، لأن الأدلة التي نقدمها في البداية تحتاج إلى أدلة جزئية تدعمها، والأدلة الجزئية ينبغي أن تدعمها أدلة جزئية أُخرى لتثبت صحة الأدلة الجزئية الأولى، وهكذا ندور في حلقةٌ مغلقة لا تنتهي. والحلول المفترضة – غير المقنعة – لهذه المعضلة ثلاثة: 1) التراجع اللامتناهي: حيث تصبح الأدلة سلسلةً لا تنتهي من الأدلة الجزئية التي ترتد على بعضها البعض وتطالب بالمزيد؛ 2) الحُجة الدائرية: حيث يكون الدليل إثباتًا للنظرية، والنظرية إثباتًا للدليل. أو كما يقول المثل العربي: فسّرَ الماءَ بالماءِ؛ 3) الدوجماطيقية: حيث تُعد فيه الأفكار بديهيات أو مصادرات ثابتة من البداية، ونقطة انطلاق لسنا في حاجة إلى البرهنة عليها – المُترجم).



[49]- كارل بوبر: المرجع السابق، ص xviii.



[50]- الموضع ذاته.



[51]- القزم الأبيض، ويُعرف أيضًا بالقزم المنحل Degenerate dwarf عبارة عن بقايا نواة نجمية مؤلفة في الغالب من مادة إلكترونية منحلة، ويتميز بكثافته الشديد، إذ تماثل كتلته كتلة الشمس، بينما يماثل حجمه حجم الأرض. كما يتميز القزم الأبيض باللمعان الخافت الناجم عن انبعاث طاقة حرارية مخزنة. وأقرب قزم أبيض إلى الأرض هو الشعرى اليمانية ب Sirius B، ويبعد عن الأرض بحوالي 8.6 سنة ضوئية. وقد صك الاسم (القزم الأبيض) عالم الفلك الهولندي – الأمريكي وليام لويتن Willem Luyten سنة 1922 (المُترجم).



[52]- العملاق الأحمر نجم يبلغ قطره من خمسة عشر إلى خمسة وأربعين مرة قطر الشمس، ويعادل لمعانه حوالي مائة مرة أو أكثر لمعان الشمس، وهو نوع من أنواع النجوم في الفضاء المحيط بمجرتنا مجرة درب التبانة. وتصل درجة حرارة سطح العملاق الأحمر إلى ما يقرب من 8.540 فهرنهيت (المُترجم).



[53]- يشير مصطلح «أنسنة البشر» وفقًا لنظرية التطور إلى نقطة التحول إلى الإنسان، ويذهب علماء التطور والأنثروبولوجيا إلى حدوثها منذ ما يقرب من 200.000 سنة (المُترجم).



[54]- سوف يجد القارئ في الأقسام التالية ردًا غير مباشر على الواحدية المادية أو الطبيعية Materialistic or Naturalistic Monism التي طرحها – على سبيل المثال – عالم البيولوجيا الأمريكي إدوارد أوسبورن ويلسون E.O. Wilson في كتابه «التطابق: وحدة المعرفة» Consilience: The Unity of Knowledge (نيويورك، 1998).



[55]- فيرنر هيزنبرج: «الواقع وترتيبه» Ordnung der Wirklichkeit (1942)، في «الأعمال الكاملة» Gesammelte Werke تحرير وولفغانغ بلوم وآخرين (مونيتش، 1984) المجلد الأول: 117 – 306، ص ص 294 – 302. 



[56]- قارن لورين داستون: «هل للموضوعية العلمية تاريخ؟» Can Scientific Objectivity Have a History، أليكساندر فون همبولدت – ميتريلونجن 75 (2000)، ص ص 31 – 40.



[57]- ورد هذا النص في تصدير الطبعة الأولى لكتاب كانط: «الدين في حدود العقل وحده» Religion within the Limits of Reason Alone (1793) (المُترجم).



[58]- جورجن مولتمان، لاهوتي إصلاحي ألماني، من مواليد سنة 1926، ويعمل أستاذًا فخريًا للاهوت النسقي بجامعة توبنجن الألمانية (المُترجم). 



[59]- قارن جورغن مولتمان: «اللاهوت في عالم العلم الحديث» Theology in the World of Modern Science، مجلة الأمل والتخطيط Hope and Planning (لندن 1971): 200 – 223، ص 207. 



[60]- هذا ما طالب به الفيلسوف الألماني برنولف كانيتشيدر Bernulf Kanitscheider في لقاء له مع مجلة طيف العلم Spektrum der Wissenschaft الألمانية في نوفمبر سنة 1995، ص ص 80 – 83.



[61]- تيلار دي شاردان (1881 – 1955)، فيلسوف وكاهن وجيولوجي فرنسي تخصص في حفريات ما قبل التاريخ، وساهم في اكتشاف «إنسان بكين» Peking Man، أحد أشهر نماذج الإنسان المنتصب Homo Erectus (المُترجم).



[62]- إيان بربور (1923 – 2013)، فيزيائي ولاهوتي أمريكي تخصص في العلاقة بين العلم والدين (المُترجم).



[63]- انظر بصفة خاصة إيان بربور: «الدين في عصر العلم» Religion in an Age of Science (لندن 1990)، وقد سبقت الإشارة لكتابه: «الدين والعلم» Religion and Science.



[64]- قارن آرثر بيكوك: «اللاهوت لعصر العلم: الكينونة والصيرورة – الطبيعية والإلهية» Theology for a Scientific Age: Being and Becoming — Natural and Divine (أكسفورد 1990)؛ وأيضًا بيكوك: «ممرات من العلم نحو الإله: نهاية كل تحرياتنا»  Paths from Science towards God: The End of All Exploring (أكسفورد 2001).



[65]- جون بولكينغهورن: «الاعتقاد في الله في عصر العلم» Belief in God in an Age of Science (نيوهافن، 1998)، وينطوي الكتاب على ملخص جديد لفكره. وانظر أيضًا جون بولكينغهورن: «العلم واللاهوت – مدخل» Science and Theology: An Introduction (لندن 1998)، وكذلك عرض أستريد دينتر Astrid Dinter لأعمال بولكينهورن المبكرة بين عامي 1979 – 1990 ذات التوجهات الإبستيمولوجية والأخلاقية، 1999.



[66]- قارن هانز كونج Hans Kung: «المسيحية – حوهرها وتاريخها» Christianity, Its Essence and History (لندن ونيويورك، 1995)، وأيضًا هانز كونج: «المفكرون المسيحيون الكبار» Great Christian Thinkers (لندن ونيويورك، 1994).



[67]- انظر كونج: عن كونك مسيحيًا On Being a Christian (لندن ونيويورك 1977).



[68]- هنا أبني تحليلاتي على الأسس المنهجية التي وضعتها من قبل في كتابي: «هل ثمة إله؟» Does God Exist?، لاسيما الفقرة المعنونة: العقل أم الإيمان؟: ضد المذهب العقلاني من أجل العقلانية Reason or Faith? Against Rationalism for Rationality، والفقرة المعنونة: إله الكتاب المقدس: الله وعالمه The God of the Bible: God and His World. وانظـر أيضـًا أندرياس بينك Andreas Benk: = = «الفيزياء الحديثة واللاهوت» Moderne Physik und Theologie، أطروحة ما بعد الدكتوراه Moderne Physik und Theologie، حيث يُقدم نقاشًا نقديًا شاملاً لنظريتي النسبية والكم. 



[69]- قارن والتر شولتز: «الفلسفة في عالم متغير»  Philosophie in der Veranderten Welt(بولينجن، 1972) ص ص 114 وما بعدها.