البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

هيغل وخديعة العقل، هوام توتاليتاري بتغطية ميتافيزيقية

الباحث :  جاك دهونت - Jacques D’Hondt
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  14
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2019 م / 1440 هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 16 / 2019
عدد زيارات البحث :  1014
تحميل  ( 416.066 KB )
تؤسس هذه المقالة فكرتها على تحليل وتفكيك ونقد ما يعرف في فلسفة هيغل بـ "خديعة العقل"، والمعني بالخديعة هي الوسائط التي يعتمدها العقل لتمرير غاياته أياً كانت النتائج المترتبة عليها غير أخلاقية.

وعلى الرغم من كون هيغل لا يقصد تبرير الخداع بما هو منقصة أخلاقية، إلا أنه يتعامل معه بوصفه أساساً لفلسفة التاريخ وتجليّاً للعقلانيّة الأداتيّة التي تتجذر في حياة الأمم وتاريخ الحضارات البشرية.

المحرر

----------------------------------

على الرغم من أنّ الخديعة مرفوضةٌ عمومًا من الزاوية الأخلاقوية (moraliste)، أعطى هيغل فلسفتَه صدىً شعبيًا من خلال إنشاء الصورة الباهرة لخديعة العقل التي تَحكم العالم البشري.

 تدلّ الخديعة على فكرٍ مُعقّدٍ ومَخفيٍّ. بغية فهمها، من المفيد أن نُميّز -بادئ الأمر- بين حجّتين يخلط هيغل أحيانًا -على ما يبدو- بينهما: خديعة الإنسان (نشاطه، عمله) تجاه الطبيعة، وخديعة عامّة تُمارَس على الجميع لتؤلّفَ منهم مجتمعًا تاريخيًا. هل تبقى هذه الخديعة العامّة محايثةً للحياة الاجتماعية، أو يجب أن تُنسَب إلى كائنٍ مُتعالٍ؟ يُعبّر هيغل مراوحةً عن هذين التصوّرين المُتعارضين.

كما تقول «موسوعة ديدرو» بتحفّظ: «عارٌ أن يُخدَع المرءُ، لكنّ العار الأكبر أن يَخدَعَ»[2] ألا يجب على العقل الهيغلي أن يخجل ممّا يدعوه هيغل ﺑ الخديعة؟ كيف استطاع هيغل أن يصِل إلى هذا المفهوم الغريب «خديعة العقل» ولِمَ جعله أحد الأسس في فلسفته للتاريخ؟ هل كان بإمكانه أن ينتصر على المفارقة التي كان يُواجهها؟

العار

بلا ريبٍ، يمكن في حالاتٍ استثنائيةٍ أن يتّخذ بعض الناس قناعًا لإخفاء عارهم، أيًا يكن السبب. يذكر ديكارت ذلك في «أفكارٍ خاصّةٍ» على النحو التالي: «كما يضع المُمثّلون قناعًا كي لا يُرى العار على جباههم، كذلك، حين أدخل إلى العالم الذي لم أكن فيه سوى مشاهد، أتقدّم مُتنكّرًا (larvatus prodeo) [3]»

ثمّة، إذًا، مناسبات عدّة يُتَهاوَن فيها مع الخديعة والكذب والتنكّر، أو تُطالب بها أذهان فاضلة. أيضًا تبقى صلاحيتها الأخلاقية وقتيةً.

لكن، عمومًا، هذه التصرّفات مرفوضة، وبطريقةٍ مُتطرّفة يُنكرها أساتذة علم الاخلاق المُتزمّتين. يقول القديس أوغسطين: إنّ الموت أفضل من إنقاذ الحياة بكذبة! يُميّز القديس توما بين خديعة الألفاظ (dolus) وخديعة الأفعال (fraus)، ويَدينهما معًا. إنّ فلاسفة الأنوار لا يبدون أقلّ تزمّتًا. في هذا الصدد، يبلغ كانط قمة العناد، مُسْتبعدًا بصورةٍ قبلية كل ظرفٍ مُخفِّفٍ.

حتى الذين يمنحون الخديعة أعذارًا عرَضيّة، لا يجعلون منها -على غرار هيغل- الخاصية الرئيسيّة للعقل التاريخي! فهي لا تُقدّم في أيٍّ من أشكالها جانبًا مُطَمْئنًا أو مُغرِيًا. إنّ التاريخ وعلم الأساطير والأدب تُغدِق علينا أمثلة كثيرة التنوّع، مُشتَبَهًا فيها ومُقلِقة.

إنّ جوبيتر، العاجز عن جذب الزوجات المُخلصات يتنكّر في شكل إوزّةٍ لكي يتغلّب بصورةٍ ماكرة على مقاومتهن. والثعلب مُخادع كبير أيضًا، فهو، بكلامٍ لبِق، يحصل على قطعة من الجبن التي ما كان ليتنازل الغراب عنها –طوعًا- له! على مستوى آخر من السمعة، يتظاهر هوراس بالهرب أمام الكورياسيين Curiace كي يتمكّنَ بعدها من القضاء عليهم واحدًا تلو الآخر. خُدع حربية، خُدع ديبلوماسية، خُدع شرّيرة، خُدع وُدّية: الطريقة بذاتها ليست برّاقةً.

الخُدعة ليست وسيلةَ قتال إلا ضدّ عدوٍّ أقوى أو أكثر عزيمة: هي ملاذ الضعفاء والجبناء. يتعلّق الأمرُ في كلّ مرّةٍ بالنسبة إلى الخُدعة بحمْل الآخر -من دون أن يفهمَ ذلك- على فعل ما لم يكن ليقوم به بِمعرفة الوقائع وبِمِلء إرادته. في كلّ الحالات، تسخر الخُدعة من الحرية وتُحوّل إرادة الذي يُسمَّى ضحيّتها، في كل مرّة يتمّ استخدامها -حتى بزعم خيرها- بفضل سذاجتها أو ولائها. إنّ الخادع والمخدوع لا يُقاسان كشخصين مُتساويين في عزّة النفس والقيمة: في هذه الحالة، المَخدوع يجد نفسه مُختزلًا إلى شيءٍ بسيطٍ، صالحٍ للاستعمال بلا حياءٍ، إلى وسيلةٍ بسيطةٍ مُسخّرة لغاياتٍ لا يسعى وراءها بنفسه ولا يُدركها.

ليس فقط أنّ الخُدَع المُستخدَمة مرفوضة، وإنّما أيضًا الهدف الذي ترمي إليه الخُدعة: فإذا كان هدفًا جديرًا بالاحترام، أو ببساطةٍ هدفًا شريفًا، لِمَ قد تحتاج الخُدعة إلى التدخّل؟ فهي تبقى في نهاية التحليل، وبحسب  تعريفها المُشترك، «طريقةً لَبِقةً وماكرةً للوصول إلى غاياتها[4]»

تشترك الخُدعة مع الكذب والمكْر، وحتى لو أظهرت الذكاء والفِطنة، نادرًا ما تستحقّ أن تُوصَفَ بأنّها معقولة في الاستعمال الاعتيادي لها من قبل البشر، ويندر أكثر وصفها بِأنّها عقلانية rationnel: فهي -بلا ريب- تُساعد الذين تستغلّهم والذين تجعلهم في بعض الأحيان موضوع سخرية من خلال إذلالهم، تُساعدهم على الإفلات من التشريع ومن المعايير الكلّية والشفّافة للعقل.

ألا يبدو -بادئ الأمر- مُخالفًا تمامًا للمطالب الأساسيّة للعقل أن يكون هناك فيلسوف عقلاني –بالتحديد- يُحاول أن يدفع الآخرين إلى القبول بأطروحاتٍ مقبولةٍ في ذاتها، بفضل حِيَل أو وسائلَ احتياليةٍ، مُتخلّيًا عن الإقناع بحجج عقليّة تتمتّع بالاستقامة والوضوح؟ ليس هناك قارئ سيتّهم هيغل بِمثل هذه الحقارة، خلا الانصراف عن قراءة أعماله.

عندئذٍ، كيف يمكن لهذا الأمر الفريد أن يَنسب إلى العقل الكلّي آفةً يُحافظ عليها؟ هو يخجل من السخرية من بعض التلامذة البسطاء، لكنّ العقل الكلّي، بالشكل الذي يفهمه، يقود العالم أجمع على هواه هو!

إنّ «خديعة العقل» تصدم قرّاء هيغل اليَقظين. ومع ذلك، ينبغي الاعتراف في الوقت عينه، وبسبب هذا الأمر بالذات، بأنّها تُثير انتباههم، وتُفسِد هدوءهم. بل قد تُغريهم وحتى تُبهرهم.

إنّ هذا المبدأ الذي يدعو إلى الدهشة -إضافةً إلى مبادئَ أخرى- أمَّنَ للمذهب الهيغلي اهتمامًا شعبيًا، وحافَظَ عليه من النسيان، حيث كادت تدفنه الصعوبات والتعقيدات والغموض الأسطوري للمذهب. لكنّه لا يُؤدّي فقط هذا الدور التربوي والإعلامي، حتى وإنْ قدّم نفسه كصورة، فهو لا يُمثّل أقلّ من مجموعة أفكارٍ بدونها تفتقر الفلسفة الهيغلية إلى الترابط المنطقي.

خديعة العقل! كيف يمكن لِما يُرى تناقضًا في العبارات أن يصلح لإعطاء مزيدٍ من الترابط المنطقي -الظاهِر على الأقلّ- لتصوّرٍ عامّ للعالم البشري ولتاريخه؟

بغية محاولة فهْم ذلك، من المُلائم والمفيد، وربما من الضروري، أن نُميّز -في مذهب هيغل- بين نوعين من الخدع يُظهر هيغل الفروق الفعليّة بينهما، لكنّه يخلط بينهما على نحو مُجرّدٍ تحت الاسم ذاته. يتعلّق الأمرُ في بعض الأحيان بما يمكن أن نُصنّفه بالتحديد ﺑ «خديعة الإنسان»: الخديعة التي يستخدمها الجنسُ البشري عبر تاريخه تجاه الطبيعة. وفي منظورٍ آخرَ، يتعلّق الأمرُ بما يمكن أن نُخصّص له على نحوٍ أخصَّ، اصطلاحًا، اسم «خديعة العقل»: الخديعة التي يستخدمها العقلُ الكلّي التاريخي تجاه الجنس البشري. الضحية ليست هي نفسَها في الحالتين. في إحداهما، الطبيعة هي التي تستسلم وتُستَغَلّ. في الحالة الأخرى، المُستغِلّ للطبيعة، أي الإنسان، هو الذي، على مستوى آخر من التجربة التاريخية، يصبح ألعوبةً.

الشرف

بالنظر إلى الوضع الحقيقي للإنسان في الطبيعة، يعتقد هيغل أنّه يستطيع مُلاحظة أنّه يُؤثّر في الطبيعة مباشرةً، وبلا توسّط، وبوجهٍ ما، على نحو سحريّ. فهي لا تنقاد لشهواته الخَفيّة، ولا لأوامره الجازمة. إنّ الطبيعة «لم تُصنَع لأجل الإنسان»، بل وُضِعَت قبلُ في متناوله. ربّما هو سيّدها «بالقوة»، لكن يقينًا لا رأسًا «بالفعل»، وعليه الانتقال إلى الفِعل لتحيين هذه القوة. لو عبّرنا عن ذلك نثريًا: يجب على الإنسان أن يؤثّر agir فعليًا، أي، من حيث الأساس، أن يعمل كي يبقى فرديًا ونوعيًا على قيد الحياة. عليه بذل الجهد وأن يتكبّد العناء.

يرفض هيغل ويدحض النظرة الاختزالية للغائيّة الأنتروبو-مركزويّة التقليدية. عندما تَعرِض الطبيعة للإنسان بمثابة نوع من الجنّة مُتكيّفٍ تمامًا أو بدرجة مقبولة مع حاجاته ورغباته ونزواته، يجب عليه الامتناع عن تغييرها أو تحويلها أو الاعتناء بها ولو إلى حدٍّ ضئيل. لا تتسبّب باضطراب أفضل العوالم الممكنة! عندئذ سيتنزّه المرء في هذه الحديقة ويلتذّ من ثمارها. سينقاد كإداريّ أو «مُدبِّر» للطبيعة[5]، مُقتصرًا، عند الضرورة، على تصحيح بعض الأخطاء؛ وعند الحاجة، على إحياء المسار الطبيعي للعالم المُتعثّر عرضًا.

نظرة خادعة، إلى حكم هيغل! فهو يضع في الحسبان دومًا عداءَه لِما يُسمّى «الغائية القديمة»، الغائية الطبيعية كما وصفها سابِقوه، وبخاصّة وُلف Wolff. تُعبّر إحدى كتاباته الأولى -من ناحية خاصّة- على نحو ملموس وحَيّ عن هذا التنافر. في نصّ يعرض فيه تفاصيل رحلة قصيرة إلى الألب قام بها سنة 1796، يكتب:

إنني أشكّ في أنّ عالِم اللاهوت الأكثر إيمانًا يتجرّأ على أن ينسب إلى الطبيعة الغائية المُرتبطة بِفائدةٍ مُعينة [أكّدَ هيغل عليها]، لأنّ على الإنسان أن يتحمّل عناء سرقة القليل من الطبيعة، والاستعمال الهزيل لها؛ فليس متأكّدًا من أنّ ما يسرقه (abstehlen)، كسرقة القليل من العشب، لن يُفرّق الحجارة، ولن يُحدث رُكامًا ثلجيًا؛ وليس متأكّدًا من أنّ الكتاب التعيس الذي بين يديه، لن يُقضى عليه في ليلة ما. في هذه الصحارى المعزولة، استطاع بعض البشر إنشاء كلّ النظريات وكل العلوم، لكنهم لم يستطيعوا أن يصوغوا هذا الجزء من علم اللاهوت الفيزيائي الذي يُثبت للإنسان الذي يُصيبه العجب بالنفس أنّ الطبيعة أعدّت كل شيءٍ من أجل متعته ورفاهيته. إنّه عُجب يُميّز حقبتنا لأنّ الإنسان يجد ارتياحًا لفكرة أنّ كائنًا غريبًا يفعل كل شيء لأجله أكثر مما يجده في إدراك أنّه هو الذي وَطَّدَ كلّ هذه الغائية في الطبيعة [...][6]

يعرف هيغل تعميم هذا الحكم: «إنّنا معزولون عن الطبيعة، لا نرى في هذه الأشياء يد القوة الواهبة، بل فقط ألمنا[7]»

لو لاحظنا غايات في الطبيعة، فتلك هي الغايات التي يُدخلها البشر إلى الطبيعة، لا لله، هذا «الكائن الغريب»!

كيف أدخلوها إلى الطبيعة؟ لقد نجحوا، من خلال فعلهم وعملهم، في تكييف الطبيعة مع حاجاتهم في بعض المناطق على نحو أفضل منه في «أوبرلاند» Oberland. لو قبلنا بغائيةٍ طبيعيةٍ، فهذه التدخّلات البشرية تستحقّ في حقيقة الأمر نعوتًا من قبيل «نهب»، «سرقة»، «اختلاس»... وبدونها، تحتفظ هذه الكلمات بقيمتها التوضيحية.

وحده عناء البشر يسمح لهم بالبقاء، في ظروف هشّة أحيانًا، وأكثر سعادة أحيانًا أخرى. نُدرك الاختلاف بين هذا الانقلاب الهيغلي والعلاقة التقليدية إنسان-طبيعة وعن «الثورة الكوبرنيكية» الشهيرة ﻟ كانط. إنّ كانط، الذي استبعَدَ التقليد، يُدير معرفيًا الأشياء حول الذات المُفكّرة، وحول كل أزليّة. يحكم هيغل بِأنّ الإنسان سَيُدير، دائمًا وأكثر، الأشياء حول نفسه.

يُشدّد على الدور الكبير للتدخّل العملي، الفيزيائي للإنسان في الطبيعة –الطبيعة التي لا يقتصر الإنسانُ على النظر إليها وتأمّلها (zusehen)، بل ينسلّ فيها (einschieben) مع أدواته. لكن في الوقت عينه، يعترف بالكلّية والثبات للسبَبيّة الطبيعية، وقوانين الطبيعة، كذلك بالقوة الهائلة للقوى الخاصّة بهذه الطبيعة بالمقارنة مع قوى البشر.

لِذلك يُطرَح المشكل على هذا النحو: كيف يضع الإنسان في خدمته هذه القوى والعناصر التي ليست مُعَدّة له مُسبقًا ولا مُتكيّفة معه، والتي ليست أقوى منه؟ كيف يمكنه التغلّب على ما يقدّم نفسه بادئ الأمر بوصفه عدوًا غير متكافئ؟

يعتقد هيغل أنّه يستطيع حلّ هذه المعضلة بالتطرّق إلى الخديعة. ففي مقابِل القوّة المُعادية، أو على الأقلّ اللامُبالية للطبيعة، لا يُمكن للإنسان أن يضع غير الخديعة (die List). يتعلّق الأمرُ بأن يأمر الإنسان الطبيعة فتخضع له. يحكم هيغل بِأنّ الإنسان يُجيد تحويل تطبيقات قوانين الطبيعة لِصالحه من دون الإضرار بها، وذلك بتوسيط وإدخال أشياء بينها، أشياء هي عناصر تنتمي إلى هذه الطبيعة،  وذلك من خلال إشارات طبيعية، من أجل غاياتٍ هي رهينة بالطبيعة ذاتها.

يُزحزح الحصاة أمام قليل من الماء، ينصب شَرَكًا أمام عصف الريح: يتدبّر أمره، كأبطال الأساطير اليونانية القديمة، كي تؤثّر القوى في بعضها البعض أو تُقاوم بعضها البعض، حيث لا يمكنه أن يحكمها على نحو سحريّ؛ يتلاعب بِها، و»يخدعها»، أو «يُديرها» على هواه، من أجل استغلالها، لا يحدث لها شيء: لا تُفسّر هذه الحِيَل الجاذبية ومقاومة موادّ البناء. لأنّها طيِّعة، في لامبالاتها، مُجرّدة من كلّ غائيةٍ خاصّة.

إنّ هذه اللعبة البشرية تنجح على نحوٍ أفضل عندما تَتَزوّد بِأدوات بدائية، بخلاف بعض الحيوانات. إنّ هيغل فَهِمَ فرانكلن ولا شكّ: «الإنسان حيوان يصنع الأدوات» هو ذكيّ وحِرَفيّ وخدّاع!

تُصبح الأداةُ الوسيلة المُفضّلة للتدخّل البشري في مُركّب القوى الطبيعية. على مستوىً مُعيّن من التطوّر التاريخي، تَصلح لإشباع رغباتٍ مُتجدّدة ومتنوّعة بالتسلسل. لقد اكتشف كانط قبلُ: إنّ الوسائل «ضرورية حتمًا لبلوغ الغاية». إذا أردتُ إشباع إحدى رغباتي، فإنّني أحتاج أيضًا إلى الوسيلة التي ستؤمّن هذا الإشباع. بدون ذلك، تبقى الرغبة «نذرًا تقيًّا».

إنّ الوسيلة المُحكمة للوصول إلى نتيجةٍ مَرجوّة، جاهِزة لإنتاج وسائل أخرى. إنّ السُلّم المصنوع لقطف الثمار يسمح بالقطاف اللاحق. إنّ الحقل المُسْتصلَح بقصد الحصاد سيسمح بعمليات بذرٍ أخرى، من سنةٍ إلى أخرى. تتجاوز فعّالية الوسائل (الأدوات) وقيمتها كثيرًا وجود وقيمة الرغبة أو الإشباع الموقّتين. إنّ الوسيلة تَكسب الوقار الخاصّ بالغاية التي هي أعلى من الغايات التي تتعلّق بها الوسيلة أولًا:

على هذا النحو، الوسيلة هي شيء ما أعلى من الغايات المتناهية للغائية الخارجيّة؛ -فالمحراث مُثقَل بالأمجاد (ehrenvoller) أكثر من اللذّات (die Genüsse) التي من خلال المحراث تجد نفسَها مُهَيّأة بل هي الغايات. إنّ الأداة تبقى في حين أنّ اللذّات المُباشِرة تختفي ويكون مصيرُها النسيان. في هذه الأدوات يَملك الإنسان السلطة على الطبيعة الخارجية، حتى وإن كان -وفقًا لِغاياته- خاضِعًا لها[8].

بذلك تنكشف الأداة بوصفها الخادم الجيّد للخديعة، وتحليلها يجب أن يُساعِدَ في أن نفهم بشكلٍ أفضل ما تعنيه خديعة العقل ﻟ هيغل. بل من المفيد -لهذا السبب- الاهتمام بهذا التجاوز للأداة المُتمثّلة في الآلة.

تتحكّم الآلة في وقتٍ واحد بأدواتٍ عديدة. وقبل كلّ شيء تُحرّكها طاقات طبيعية (الريح، مجرى مائي، الفحم)، لا قوّة العضلات، كما كانت الأداة:

لا تفهم الأداة [...] النشاط في ذاته. إنّها شيء ساكن، لا تقوم بنقدٍ ذاتي. معها يكون عليَّ أن أعمل. بين الواقع الخارجي وبيني، أدسُّ الخدعة einschieben كي أعتنيّ بنفسي وأحافظ على وجودي، تاركًا الأداة ترثّ [...]. في هذه القضية، لا أتحاشى إلا الكمّية، لكنني ألتقط الكَنَبات[9].

ولكن مع الآلة تتغيّر استراتيجية الخديعة تغيّرًا كبيرًا. بفضل الخديعة، سَيُفلِتُ الإنسان من الكنبات. تضع الخديعة قوى الطبيعة في خدمة الإنسان بحيث لا يُضطرّ، في بعض الحالات، إلى استخدام قوته الخاصّة. إنّ الطحّان يترك الريح تهبّ وتنضب وتمرّ، ويقتصر على النظر (zusehen) بهدوء إلى طاحونته وهي تعمل (er sicht ruhig zu). يوجّه هذا العمل بقدر ضئيل جدًا من الطاقة. وقد ينام بينما طاحونته تَعمل... بذلك يُحوّل الإنسانُ قوى الطبيعة عن تطبيقها المباشر والأعمى. يُصادرها، «يسترجعها»:

النشاط الخاصّ بالطبيعة، مرونة الطاقات، الماء، الريح، تُسْتَعمَل، في وجودها الحسّي، لِتنفيذ شيء ما مُختلف كلّيًا عمّا تُريده هي. إنّ فعلها الأعمى يتحوّل إلى نشاطٍ غائيّ، ضمن النقيض الذي من شأنها: سلوك الطبيعة العقليّ، قوانين، في وجودها الخارجي. لا يحدث شيء للطبيعة نفسها؛ إنّ أهدافًا خاصّة بالكائن الطبيعي تُصبح شيئًا من قبيل الكلّية [...].

يُشير هيغل بالتحديد إلى هذا السلوك البشري: «تعرّض الجانبُ الكبير للقوة للاعتداء بواسطة رأس الخديعة (List). إنّه يعكس شرف الخديعة التي تُواجه القوة العمياء، عوضًا عن تنظيمها من أحد جوانبها بحيث تنقلب ضدّ نفسها[10]».

إذا خضعت الطبيعة رأسًا لرغبات الإنسان، كما لِرغبات سيّد مطلق، كما تخضع لله، فلا حاجة للمكر معها. إنّ الخديعة لا تُخاطِب إلا من لا يستسلم سلفًا، من يُقاوم ، ومن يتمرّد.

بحسب هيغل، إنّ هذه الخديعة تُميّز ماهيّة العمل البشري، في شكله الأعمّ، المجرّد: في صُنْع وإنتاج وابتكار الأعمال والأشياء القابلة للاستعمال. غيرَ آبِهٍ بِقوى الطبيعة ومُخاطِرًا بِها، يتزوّد الإنسان بوصفه كائنًا جنسيًّا (مُتعلّق بجنس من الأحياء) بِما يحتاج إليه. ولمّا كان غير قادرٍ على خرْق قوانين الطبيعة، قام بتغيير وجه الأرض التي لو خُصَّت بشخصية لكانت مُختلَسة ومخدوعة. إنّ علاقته الأولى التي تقوم على الخدمة غدت سيطرة على الطبيعة، وازدادت اتّساعًا.

يُثبِت المذهب الهيغلي على طريقته الفعل العملي والجهد، العناء الذي يتكبّده البشر كي يهيّئوا لأنفسهم منزلة رفيعة في العالم. بعد مذهب فيخته، يُثير المذهبُ الهيغلي، أو على الأقلّ يُذكي الحماس عند بعض الشباب الألماني المُتعطّش للعمل في كلّ المجالات. وللمذهب الهيغلي نزعات عميقة ترتبط بهيغل نفسه، الرجل المُستمرّ في عمله. يستلزم المذهبُ الهيغلي نوعًا من التشاؤم من الأصول الذي لا يخلو بالتأكيد من سوابق في تاريخ الفلسفة: يظهر الإنسان بادئ الأمر بوصفه الأكثر تجرّدًا بين الكائنات الحيّة. لكنّ المذهب الهيغلي ينمو وسط تفاؤل مُستقبلي ومنهجي: لقد اهتدى الإنسانُ إلى أن يجعلَ من الطبيعة امتدادًا لاعضويًا  لجسده، إنّه يمضي نحو الحرية.

الغَصْب usurpation

إنّ هذه الرؤية، المقبولة في حدّ ذاتها، هي نتيجة عملية تجريد بغية جعلها مُمكنة، حيث يُفصَل عن جملة النشاط البشري أحدُ الجوانب، الهامّة من حيث المبدأ.

إذا انحصر المصير البشري كلّه فيه، نكون أمام غزليّة idylle ثقافية، وذلك لعدم توفّر غزليّة طبيعية. يعيش البشر بحرية وسعادةٍ، بفضل عملهم اللبِق، وبفضل الاتّساع المُتدرّج لسلطتهم. ثمّة هنا ما يُشبه الإثبات لبعض الأطروحات الأساسية في فلسفة الأنوار.

لكنّ الأمر لا يسير على هذا النحو.

يمنح تاريخُ الجنس البشري مشهدًا مُختلفًا تمامًا. اضطُرّ هيغل ومُعاصروه إلى أن يُلاحظوا أكثر فأكثر، بصورة علنية -خلال حياتِهم- الإخفاقات المُتعاقبة والمتنوّعة للأنوار، وأخيرًا، إفلاسها العامّ. ظاهرًا، لا تُدير الأفكار الواضحة والمُختلفة العالم البشري، كما لا تُديره حتى الأفكار المُظلمة والمُلتبسة. يبدو أنّ التاريخ يتطوّر برغم المقاصد والمشاريع، وبِرغم المغامرات الفعليّة. لكنّ هذا التاريخ يصنعه الرجال: إلا أنّه لا يخضع لقراراتهم!

ضمن منظور الأنوار، قدّم فيكو هذا التفريق الشهير إذ قال اختصارًا إنّنا لا نُسيطِر على الطبيعة لأنّنا لسنا نحن الذين صنعناها. أما التاريخ، فنحن على العكس نُسيطِر عليه لأننا نحن الذين نصنعه.

لكنّ فيكو أخطأ. إنّنا نُسيطر على الطبيعة سيطرةً تزداد اتّساعًا. وبالعكس، يُفلِت التاريخُ البشري منّا، لا يتعرّض للمسار الذي نُريده ونتمنّاه، رغم الجهود المشكورة لبعض الأبطال. أيضًا قراءة الصحف تَكشف ذلك كل يوم من جديد: العالم مجنون! على الأقلّ يبدو كذلك لدى الذين يتصوّرون له مسارًا عاقلًا من النمط نفسه الذي يفرضه الإنسان جزئيًا على الطبيعة. جميع الشخصيّات التاريخية الكبيرة تقريبًا استطاع أن يقول: لم أكن أريد ذلك!

أحد الإسهامات اللافتة للمذهب الهيغلي يقوم على فكرة أنّه، من خلال الحصول فعليًا على ما يشتهونه، ومن خلال العمل والفعل الذكيّ، يُنتج البشر في الوقت نفسه، دائمًا، شيئًا ما لم يكونوا يُريدونه، مزيدًا من الآثار التي لم يُفكّروا بها، والتي ليسوا قادِرين على تخيّلها. لكنّها بالتحديد هي الإضافات اللاإرادية التي تُحدّد مسار العالم (weltlauf)، العالم كما يمضي.

إنّ العالم البشري وتاريخه، اللذَين لا يستسلمان لإرادتهما الذكيّة، واللذين يكشفان بوجهٍ ما عن استقلالهما إزاء نشاطهما الواعي، لا يفتقران إلى الترابط المنطقي. عند الفحص، نكتشف فيهما صفةً عقليّةً معيّنة. وتمكّن المؤرّخون من تفسيرهما استعاديًا. وأظهروا نجاحًا كبيرًا: الجنس البشري يستمرّ، ليس هذا فحسب، بل ينمو أيضًا، ورغم كل حماقاته الواضحة، يتكاثر عمومًا. يبدو، إذًا، أنّ العالم البشري عمومًا، كي لا نتعقّب الصفة العقلية للأفعال البشرية الإرادية، لا يشتمل بدرجةٍ أقلّ على منطقه الخاصّ، بوصفه صفةً عقلية تقبل النقاش.

إنّ الصفة العقليةَ للعمل لا تُفسّر الصفة العقلية للتاريخ تفسيرًا كاملًا. إنّ السيطرة النسبية على الطبيعة من قبل الإنسان لا تؤمّن له سيطرةً مُشابهة على الحياة الاجتماعية. كيف نُفسّر هذا النوع من قلْب الصفة العقلية؟

يُعبّر هذا القلْب عن نفسه في القول الشعبي المأثور: «الإنسان في التفكير والله في التدبير»، ويمكن الاستناد إلى قوةٍ مُتعاليةٍ لتفسيره. في هذا المعنى يقول بوسييه إنّه «لا توجد قوّة بشرية لا تنفع رغمًا عنها مشاريع أخرى غير مشاريعها[11]». رغم تلك القوة! لاحَظَ سان-جوست Saint Just المُلحد أنّ «قوّة الأشياء تقودنا غالبًا حيث لم نفكّر[12]»،

إنّ الانطباع بِأنّ الأفعال البشرية الحرّة تولّد أحداثًا لا تتحكّم بها والتي تخضع لضرورة هذه الأفعال، ينتشر بشكل لافت في عصر هيغل، ويمكن مراكمة الشهادات عليه.

نجدها عند المُفكّرين الأقرب من هيغل، عند أصدقائه. بذلك أعلن شيلينغ في العصر الذي عَمِلَ فيه هؤلاء في جوّ من الألفة: القول إنّه يجب أن تكون هناك ضرورة في الحرية، فذلك يعني أنّه من خلال الحرية نفسها، وفيما أعتقد أنّني أتصرّف بِحرية، يجب أن ينبجس بطريقةٍ لاواعية، أعني بلا تدخّلٍ مني (ohne mein Zutun)، ما لا أنظر إليه (was ich nicht beabsichtigte). أو أيضًا بعبارةٍ أخرى: في مقابل النشاط الواعي، وبالتالي النشاط المُوجِب طوعًا الذي استنتجناه من قبلُ، ينتصب نشاط لاواعٍ من خلاله، ورغم الممارسة غير المحدودة للحرية، ينبجس تمامًا، على نحوٍ لاإراديّ، وربّما خلافًا لإرادة الذي يفعل، ينبجس شيء ما لم يستطع المرء تحقيقه بإرادته. إنّ هذه القضية، التي لا تقلّ مفارقةً عمّا يمكن أن تبدو عليه، ليست من حيث الأساس إلا تعبيرًا مُتعاليًا عن العلاقة المقبولة على نحوٍ عمومي، والمُفتَرَضة سلفًا، التي تَربِط بين الحرية والضرورة الخَفيّة التي نُسمّيها تارةً القدَر، وتارةً أخرى العناية الإلهية، من دون أن يُقدّم أيّ من التعبيرين معنىً واضحًا؛ علاقة بفضلها، ومن خلال الفعل ذاته لهما، ولكن خلافًا لإرادتهما، يصبح البشر عللًا لِشيءٍ ما لم يُريدوه، أو على العكس، يجب أن يفشَلَ شيء ما وأن يُقضى عليه، شيء أرادوه طوعًا وبكلّ قواهم [...][13]

يطرح شيلينغ بوضوح المشكل الذي وجد له هيغل حلًا في خديعة العقل. يُشدّد على التعارض («رغم» «خلافًا للإرادة») حيثما الاختلاف يكفي ربّما. يُذكّر بالتفسيرات «الخارجيّة» المُقدّمة عمومًا، لكنّه لا يتردّد في استبعاد الطريقة الخاصّة بتجنّب الصعوبة: «[...] تفسير الصعوبة من خلال العناية الإلهية أو القدَر، يعني عدم تفسيرها[14]»!

لم يستطع هيغل تجاهل رأي زميله الأقرب إليه.

لقد عثرا معًا على هذا الارتسام لنظرية الاغتراب alienation عند أستاذهما كانط: «[...] إنّ البشر وبعض الشعوب، وهم يسعون وراء غاياتهم الخاصّة، كل فرد حسب شعوره الشخصي، وغالبًا الواحد ضدّ الآخر، لا يُفكّرون في أنّهم يتوجّهون من دون أن يعرفوا باتّجاه تدبير الطبيعة، الذي هو مجهول بالنسبة إليهم، ويعملون من أجل تحقيقه؛ فذلك، حتى وإن عرفوه، يكون مهمًا قليلًا لهم[15]

القدَر، العناية الإلهية، الطبيعة؟ سيقول هيغل: العقل. إنّ ماهيّة السيرورة التي جرى تحليلها تبقى ذاتها، تحت تسمياتٍ متنوّعةٍ.

لقد فضّل شيلر Schiller تحميل هذه المسؤولية للتاريخ، وذلك في محاضرة ألقاها سنة 1789:

ثمّة بعض الشذوذ الذي تَجيء به حرية الإنسان في سيْر الأشياء (weltlauf) ينظر التاريخ بهدوء (sieht ruhig zu) إلى هذا النشاط الفوضوي، لأنّ عينيه النافِذتين تريان من بعيد الموضع حيث الحرية المُتسكّعة تُكبّلها (geleitet) قيود الضرورة. هذه الحقيقة التي تُخفيها الحرية عن وعي كلّ من كرومويل Cromwell وغريغوار Gregoire، لا تجد الحرية حرجًا في الإعلان عنها للبشر، ومفادها: يمكن أن يسعى الإنسان الأناني وراء هدفٍ بغيض لكن من دون أن يُريد ذلك [unbewubt: من دون معرفة ذلك] هو يساعِد في انتصار الخير[16]!

إنّ الجملة الأخيرة من نصّ شيلر يُذكّر فيها، على نحو لا يمكن تجنّبه، بتصريحات ماندفيل Mandeville التي نعلم أنّ هيغل قرأها بانتباهٍ شديد. إنّ خرافة النحل Fable des abeilles تتضمّن، كما يُشير عنوانها، «تحليلًا نُثبِت فيه أنّ عيوب الأمور الفريدة تَميل لِصالح العامّة[17]

بحسب ماندفيل، يفعل الناس الخير من دون أن يريدوا ذلك، ومن دون أن يُدركوا، وحتى عندما يكتشفوا ذلك، «رغمًا» عنهم، أو «خلافًا» لمقاصدهم: «وهكذا، يُساعد أفرادُ المجتمع بعضهم بعضًا –إذ لا حيلة لهم- وذلك باتّباع طرقٍ مُعاكسةٍ تمامًا[18]»

في الحياة الاجتماعية، يتصارع الأفراد تِلقائيًا ضدّ بعضهم البعض بالطريقة نفسها التي تُثار بها قوى الطبيعة على نحوٍ اصطناعي ضدّ بعضها البعض من خلال خديعة العقل. إنّ الخير العامّ هو نتيجة هذا التصارع الذي يُسبّبه بعضُ الأفراد طوعًا ويستخدمونه بدِراية: «لم يُخبِر السياسيون عن بصيرتهم وسلطتهم وكذلك عملهم والرعاية في سبيل تمدين المجتمع على نحوٍ أفضل ممّا يكون في الاستعانة بأهوائنا  ضدّ بعضها البعض[19]»

هكذا ندفع الآلة الاجتماعية إلى العمل. لكنّها تعرف جيّدًا، بالمناسبة، أن تعمل لوحدها! تتعارض الأهواء مع بعضها البعض، والنتيجة لا تُعبّر عمّا يَهدِف إليه كل منها.

بخلاف ماندفيل، لا يتجاهل هيغل ولا يستخفّ بالأفعال الغيرية، النبيلة. لكنّه يعرف حدودها، وحقل ممارستها الضيّق، وندرة الذين يأتون بها: «هم أفراد معزولون، قليلو العدد بالنظر إلى عديد البشر، وكذلك مجال تطبيق الفضائل ليس له سوى مدىً ضئيلٍ نسبيًا.» ينقاد الأفراد العاديون وراء مصالحهم وأهوائهم، وأيضًا أبطال التاريخ. يُعلِن هيغل بصراحة: «في العالم، لا شيء عظيمًا أنجِزَ بدون هوىً[20]»

أليس ثمّة هنا تلميح إلى روشفوكو Rochefoucauld أو هلفِتْيوس Helvétius؟

ليس ذلك بالضبط، لأنّه، بحسب هيغل، نتيجةُ الأفعال المُختصّة، الأنانية، لا تتوافق كلّيًا مع النتيجة التي يهدف إليها مَن يأتون بها. إنّ أفعالهم تندرج ضمن جدليةٍ مُسْتقلّة عن هذه المصالح، وهذه الأنانية التي تُظهرها. على عكس روشفوكو الذي يستلهم هيغل منه، لا يُثقِل هيغل الحبّ الخاصّ بكلّ الخطايا، فبدونه لا يُنجَز شيء.

أولًا، لا تُنجَز الأفعال، بحسب الشهوات، إلا عندما تجتمع شروطُ إمكانها الموضوعية: «عندما تحضر جميع الشروط، ينبغي أن يكون الشيءُ فعليًا [...][21]» وإلا تتحوّل الشهوة الضعيفة إلى أحلام ويوطوبيا. إنّ الفِعل والعمل يجب أن يتّفقا مع ميراثٍ موضوعيٍّ، هو ثمرة الأعمال السالفة، مُسْتعادٍ بوصفه مادّةً أولية لبلورةٍ جديدة.

في هذا الوضع، لا يبقى الفعل أنانيًا بقدر ما تظنّ. من خلال لعبة العلاقات البشرية التلقائية، ما يفعله كل فردٍ لنفسه ينفع الكلّ، بفضل التبادل. ينجم عن ذلك عمل عقلاني للمجتمع. القلب هو المخدوع في هذه القضية.

إنّ كلّ فردٍ يؤدّي بلا ريبٍ دورًا بِأعلى درجة من الخبث، وذلك بإخفاء شغفه أو عجرفته بستارٍ من الكلمات العظيمة. هو يخرج بحذق من اللعبة: كل واحد لأجل ذاته! لكنّ جميع الذرّات البشرية تفعل الكثير من ذلك. من فوضى المهمّات الفردية يَنتج نظام مُعيّن. هيغل، على أثر خبراء الاقتصاد الذين عاصروه، والذين استلهموا أيضًا من ماندفيل، يكشف النقاب عن هذا التضليل الكوني.

على غرار ما توصّل إليه كانط، إنّها «الانطوائية» التي، في الحياة الحديثة، تؤسّس «الألفة»، وتُبقي على الوحدة والتماسك. بدون «تنافراته» الداخلية، لا يبقى الجنس البشري ولا يُحرِز تقدّمًا[22]. هو يشبه «مملكة الحيوان الروحية» (das geistige Tierreich)، يقول هيغل: غابة خلقها العقل البشري. يتسلّح صراع البشر فيما بينهم بِنتاجات العقل، ويصبح مُرعِبًا أكثر. ولكن، بالإجمال، ليست حال ذلك سيّئة جدًا، على الأقلّ بالنسبة لهذه الجملة الروحية التي هي البشريّة.

وجَدَ شيلينغ الوصف الصحيح للسيرورة التي وصفها: إنّها مُفارِقة. لا شيء أغرب، بالنسبة إلى الوعي العامّ، من أن يتفطّن المرء لِهذه الخديعة: إنّ البشر، الذين خُلِقوا على صورة الله، وقعوا ضحية الغشّ من طرف العناية الإلهية، التي يُسْتَعاض عنها بسهولة بالقدَر، حريتهم المزعومة تُخضعهم لضرورة صارمة!

الضِّيق

نفهم اضطراب الفلاسفة الألمان أمام هذه المفارقة، في بداية  القرن التاسع عشر.

هم مثاليّون على نحو صارم. يعتقدون أنّ إرادة حرّة وعقلانيّة تحكم أو يجب أن تحكم العالم. لكن في ظلّ وجود ما يُسمّيه هيغل «الإيجابية» ثمّة حقائقُ موضوعية تُعارِض النمط البشري للعقل وتقف ضدّه، و»أشياء» يُناقضها، ولا يَصِل إلى استيعابها.

لِمَ لا يَسود العقل والروح والإرادة، بكلّ أشكالها؟ في بعض الأحيان اتّسمت استبداديّتُها بالغرابة. ينقد شيلينغ بفظاظة «التبجّح» thrasonisme الحماسة المُتشدّقة عند فيخته الذي يُعبّر بالقول: «الكلّ هو لأجل الأنا، وبواسطة الأنا[23]» لكنّه يُدافِع عن مثاليةٍ مُتعالية لا تكتفي بيُسْر بِنظام أشياء مُسْتقلّ عن الروح وغريبٍ عنها في الظاهر.

في ما يتعلّق بالتاريخ البشري، يشعر المُلحد أو المادّي بالضيق نفسه. هو لم يكن بمقدوره أن يُفلِتَ من بُعْد النظر الذي تميّز به سان-جوست Saint-Just عندما أساء الظنّ في «قوّة الأشياء»، وكانت هذه «الأشياء» بشريةً، جدّ بشرية على هواه/حسب رغبته: سلوكات، قوانين اقتصادية، نزعات نفسانية أو سوسيولوجية. «ينبغي أن نرى إلى الحقائق الاجتماعية بوصفها أشياء»، قال دوركهايم في ما بعد، -لكنّها سُمّيَت هكذا- وهي تُصبح عند الإنسان بمثابة أشياء: بليدة، غير مهمّة أو متينة.

بالنسبة إلى المثاليّ، ليس ثمّة أدنى شكّ في أنّ هذه «الأشياء» الاجتماعية يُبدِعها الذهن، بوصفها إيجابيّة تُمثّل له «مصيرًا». يعاني المجتمعُ من كوارثَ وهزّاتٍ أرضيةٍ وعواصفَ لا يقلّ طابعها التدميري أهميةً عن طابعها الطبيعي.

فتلك هي ثمرات النشاط الذكيّ للبشر الذين يتحرّرون بطريقةٍ استفزازية، ويتحجّرون في استقلالهم، والذين، كما يُقال، «ينقلبون» على أربابهم. إنّ انقلاب الطابع الطوعي العقلاني إلى طابع إيجابي ضروري يُشارك على نحو كامل في ما يُسمّيه هيغل الاغتراب (Entfremdung).

يجب أن يقبل الفيلسوف صراحةً بأنّ من نشاط البشر «يجب أن ينتج بعامّة شيء آخر غير ما يطمحون إليه ويبلغونه، وغير ما يعرفونه ويُريدونه رأسًا. هم يلبّون مصلحتهم؛ لكن في الوقت عينه ثمّة شيء يتحقّق في داخل تلك المصلحة، إلا أنّه غير موجود في وعيهم ولا في نيّاتهم[24]»

كيف يتمّ هذا التعويض؟ لقد أراد هيغل دراسة  القضيّة في العمق من خلال تغيير تفسيرات الذين سبقوه، واستغلال وسيلة النجاح الغامضة التي مهّدوا لها –وأعانه في ذلك مُلاحظة وقائع جديدة دالّة. وبغية التوفيق بين حرية الإنسان وإدارة المصلحة الكونية للبشرية، أنشأ هيغل مفهوم «خديعة العقل» الذي يُثير المفارقة والذي نجد التعبير الأكثر اضطرابًا والأكثر شهرة له في الموسوعة:

العقل ماكر بقدر ما هو قويّ. تتمثّل الخديعة بعامّة في النشاط الوسيط الذي يترك الأشياء وفق طبيعتها الخاصّة تؤثّر في بعضها البعض وتصير إلى الابتذال، دون أن تتدخّل مباشرةً في هذه السيرورة، النشاط الذي لا يقعد عن بلوغ هدفه. في هذا المعنى يمكن القول إنّ العناية الإلهية، إزاء العالم وسيرورته، تتصرّف كالخديعة المطلقة. يترك الله البشر يعملون وفقًا لِأهوائهم ومصالحهم الخاصّة، وما ينتج هو تحقيق هذه الأغراض التي هي شيء مُختلف عمّا لأجله يتكبّد أولئك العناء، أولئك الذين يستخدمونه في هذه المناسبة[25]

هل يمكن أن تنطويَ جملتان على المزيد من الأفكار المُتناقضة؟ تُحَدّ حرية البشر بِأهوائهم ومصالحهم. تتمثّل حرية الله في: «دعْه يفعل» «دعْه يمرّ». يتماهى العقل مع هذا الإله –التسامحي- ومع العناية الإلهية على حدٍّ سواء. فهذه العناية لا تصنع ولا تتوقّع شيئًا: تنظر إلى «ما يقع»، وإنّها نواياه. فهل يُعقَل أن يدّعي المرء في الوقت عينه أنّ العناية الإلهية «تُنجِز» هدفها، بينما خلافًا للخديعة، لا «تتدخّل» في السيرورة، ولا «تنزلق» إليها، ولا تُدخِل فيها وسائلَ وأدواتٍ؟ هل هي قويّة بينما ينبغي تصوّرها وهي تعمل عن طريق الخديعة؟ وهل يمكنها أن تتصرّف بشكلٍ مُختلف؟ وهل هي حرّة بذلك؟ هل نُدينها بالخداع، وإلى الأبد؟

أعلن أحد المُعلّقين أنّه، بالنسبة إلى هيغل، «الروح تُحوّل لصالحها الشهوات والأهواء والمصالح الخاصة وآراء الأفراد والشعوب، بمعيّة الخديعة [...]» لكن ثمة تفسيرات تَلفت نظرنا بخاصّة إلى أنّ العقل الهيغلي بالتحديد لا «يُحوّل» شيئًا لصالحه؛ هو لا يتدخّل البتة، ويقتصر على النظر! وفي ذلك يختلف عن «خديعة الإنسان»!

إنّ التحويل détournement وانقلاب الأمر الخاصّ إلى كلّيّ يتحقّق بنفسه.

أن لا يُنسَب هذا التبديل retournement المُحايث للسيرورة إلى العناية الإلهية، وإلى الله، فهذا واضح من خلال اضطرابُ بعض الصياغات الهيغلية، ومن خلال صعوبة نقلها إلى الفرنسية. إنّ مقدّمة (فينومينولوجيا الروح) تَصِف الخديعة على الشكل التالي، بحسب أحد مُترجميها الماهرين: إنّ النشاط المُرتبط بالمعرفة هو «الخديعة التي تتصنّع الاحتراز من أن تكون فعّالة وتُلقي نظرةً كي ترى كيف أنّ التعيين وحياته الواقعية، على وجه التحديد من جهة أنّها تتصوّر أنّها تُشجّع وتصون مصلحتها الخاصّة، كيف أنّهما يُمثّلان العكس: نشاط يضمحلّ ويصنع من ذاته لحظة مُتعلّقة بالكلّ[26]»

أيُّ التواءات للّغة! تستحقّ الأفكار أن توَضّح. إذا كانت المعرفة «تتصنّع»، كما قِيل هنا، فهي تَكشِف عن نشاطٍ. لكن، في النصّ الألماني، نجد أنّها «تبدو» أو «تظهر» في حالة احترازٍ من كلّ نشاط، من دون أن يكون هذا الاحتراز نتيجة نزوةٍ خاصّة. هي لم تُقرّر بخصوص انفعاليّتها!

إنّ هذه الانفعالية -نقص الفعل- لا تمنع المعرفة من المُلاحظة. فعِوضًا عن أن تكون عمليّةً، تبدو نظريةً. «لا تُلقي نظرةً» على حياتها الواقعية، لكن، على غرار «تاريخ» شيلر، والطحان أمام طاحونته، تنظر (zusehen). ليس من باب الصدفة استخدام كلمة zusehen، حتى لو لم يكن الخيار مُعَدًّا تمامًا. النظر والتأمّل، zusehen، يُقابِله باللاتينية théôrein: العناية الإلهية، الله، التاريخ، العقل، وهو ما «تُنظّر» له الفلسفة!

بينما في «خديعة العقل»، التي هي في الواقع مهارة ذكيّة، لو أنّ الطبيعة التي تُطبّق عليها الخديعة، لو أنّها لا تُتَصوّر كشخص، فالتدخّل هو الذي يُنتِج الغائية: على الطحان أن يُدير آلته ويُوجّهها مُقتصِدًا في الطاقة؛ والفلاح في جبال الألب « يسرق» من الطبيعة. أما العقل والعناية الإلهية والله فهم -برأي هيغل- لا يصنعون شيئًا في التاريخ البشري، ولا يتولّون موضوع مواجهة أهوائهم، ويشاهدون العواصف من بعيد: suave mari magno...

هل نُسامح هذا «النشاط» الماكر على احترازه من طابع»الفعالية»، ومن أن يتحوّل إلى «نشاطٍ» يضمحلّ...؟ إنّ هذه الرطانة لا تُغطّي على الملاحظة الرئيسة: ليس ثمّة نشاط!

في الحقيقة إنّ هيغل لا يتوصّل بِيسْر إلى الإبقاء على تصوير خديعة العقل على أنّها خديعة الإنسان. فالخديعة لا تتأسّس إلا على مقارنةٍ جريئةٍ يعرِضها هيغل بكل بساطةٍ. فبعد الإشارة إلى الاستخدام اللبق للعناصر الطبيعية من قبل الإنسان (خديعة الإنسان!)، يُضيف: «إنّه بالطريقة ذاتها (In نhnlicher Weise) تَشفي الأهواء غُلّتها؛ تتحقّق تبعًا لِتحديدِها الطبيعي وتُنتِج نظام المجتمع البشري الذي ضمنه تَعهد للقانون والنظام بالسلطة ضدّ نفسها[27]»

يمكن لهيغل أن يغتبط لهذا التناظر الذي يُريد جعله أساسيًا. فالتناظر يتمثّل في تطبيق قانون عقلانيّ كلّي على نظام التاريخ: «يجب أن يتحقّق الكلّي من خلال ما هو استثنائي[28]»

يتعلّق الأمرُ بأن نُبيّن أنّ الفردي –الفرد البشري- الذي لا يزال موجودًا في تفرّده، مع كلّ ما يُعيّن هذا التفرّد («تحديده») –ويعمل بالتالي ضمن هذا الهدف بشغف- أنّه يعمل ويُستنزَف في الحقيقة، بوعي أو من دونه، في سبيل الكلّ الذي ينتمي إليه، وفي سبيل الكلّيّ؛ لصالح الكلّي (الشعب، الحضارة، الجنس البشري) يُضحّي الفرد بنفسه. يُضحّى به له مُسبقًا. من يُرِد الهرب يَندثر!

إنّ البشر وأهواءهم كائنات مُتناهية، صائرة إلى الهلاك. التلَف والموت يصنعان حياة الكلّ.

لكنّ هيغل يُصرّ على وضع كل هذه السيرورات تحت مُراقبة العناية الإلهية. من جهة يُصرّ على طوعيّتها ومُجانستها واستقلالها. ومن جهة أخرى يُحمّلها اتّجاهًا خارجيًا، فوطبيعيًا، يحكم عليها بالتبعية. يرفض هيغل في الظاهر أن يختار بين هذين التصوّرين. ومع ذلك يبدو بقاؤهما غير ممكن.

إنّ عدم الاتّساق في تصوير «خديعة العقل» على أنّها «خديعة الإنسان» يُلاحَظ عند أدنى تحليل. كي تستمرّ المُقارنة، ينبغي ردّ الأفراد، الذين لا يعلمون ولا يريدون ما تصنعه الخديعة بهم، إلى حالة الأشياء التي يمكن أن لا يُؤبَهَ بها كما الريح والماء والطاقات. ماذا تُصبح عندئذ حريتهم، التي تُصوَّر على أنّها نزوات العاطفية؟ إنّ ما يبتغي الفيلسوف مساعدتهم فيه هو أن يُدرِكوا وضعَهم! سيكتشفون الغِشّ الذي وقعوا ضحيّته.

بإعلان أنّ الأهواء تَشفي غُلّتَها «بالطريقة ذاتها»، لا يبدو هيغل مُدرِكًا أنّه يُغيّر ذاته بهذه الطريقة. وهذا يبرز من خلال الانتقال إلى الفعل المُصرّف مع ضمير الفاعل: الأهواء تَشفي غُلّتَها، الأمر الذي لا يمكن أن يُقال عن قوى الطبيعة.

من جانب تُستخدَم هذه القوى وتُطبّق من خلال ذوات واعية وماهرة (angewendet, gegen sich selbst gebraucht): نعرف الرابحين والإجراءات المُرتبطة بعمليتهم التي تضع الغائية الاصطناعية مع السببية الطبيعية.

أمّا، من الجانب الآخر، فالعقل «يدع البشر يفعلون» من دون أن يتدخّل في قضاياهم: «تتحقّق الأهواء، وأهدافها، وفقًا لِتحديد طبيعي».

تنافر

إنّ تعارض أنواع العلاقات التي يُقيمها هيغل بين الإنسان والطبيعة وبين الأهواء والمجتمع لا يمكن أن يُفلِتَ من فكر ثاقب كفكر هيغل. فلو كان مهتمًا بالوضوح، لكان عليه أن يُطلق الاسم نفسه على السيرورتين.

في النهاية، إنّ حركة الأهواء شديدة التضادّ أو التي تتناقض هي التي تبني وتُعزّز المجتمع. في هذه الوظيفة، لا حاجة لوجود قائد للأهواء، وهي لا تَرضخ لِمَطالب كائن «غريب». تتصرّف «وفقًا لِتحديدِها الطبيعي»، من دون أن تهاب أي محاولة تدخّل في عالمها.

ولا يذكر هيغل العناية الإلهية أو الله، في صفحات (العقل في التاريخ) التي تهتمّ على الخصوص بخديعة العقل.

لو اقتُصِرَ على هذا العرض الحضوري (نسبة إلى مذهب الحضورية immanentisme) للتاريخ، ولمّا كان الكثير من قرّاء هيغل لديهم شعور بذلك، نحن نحتاج إلى شكلٍ من وحدة الوجود المثالية (Panthéisme)، القريبة من الإلحاد –حتى لو لم تكن هذه المصطلحات قابِلة لأن تُدرَك من قبل الذين عاصروا هيغل بالصرامة ذاتها التي يتّصفون بها في زمننا. في هذه الأوضاع ليست الخدعة سوى صورة.

ولا يبقى، تصوّرًا، شيء منها عندما يُصرّح هيغل: «العقل مُحايث للواقع التاريخي، هو يتحقّق فيها وبها»[29]

يعرض هيغل في بعض الأحيان توسيعه لفكرته من دون أن ينطق باسمه المجازي. في أحد مقاطع كتاب (مبادئ فلسفة الحق)، يصف حركة العلاقات البشرية التي تؤلّف بنظره الحياة الاقتصادية:

بواسطة هذا الارتباط المُتبادل في العمل وفي تلبية الحاجات، تتحوّل الأنانية الذاتية إلى إسهام في تلبية حاجات كل الآخرين، بتوسّط الفريد عن طريق الكلّي، في حركة جدلية تفوز وتُنتِج وتلتذّ لأجل ذاتها، ما يُساعد كل واحدٍ في أن يفوز ويُنتِج في الوقت عينه من أجل مُتعة الآخرين. إنّ هذه الضرورة التي تكمن في التشابك المُتقلّب الذي يخلقه ارتباط الكلّ هي، بالنسبة إلى كل واحد، الثراء العامّ، الثراء المديد. كل واحدٍ لديه الإمكانية للمساهمة في هذا التشابك من خلال ثقافته ومهارته، لتأمين بقائه وبالطريقة نفسها يُبقي الربْح بواسطة العمل ويُنمّي الثراء العام[30]

عتدما يتعلّق الأمرُ بِكشْف خديعة العقل في نصٍّ ما، حيث لا تُقرّ باسمها، يكتسب أدنى فارِق في الترجمة أهمّية. حرفيًا، لا يقول هيغل إنّ وساطة الخاصّ بواسطة الكلّي تتمّ «ضمن حركةٍ جدلية»، بإمكان الخديعة أن لا تُشارِك فيها. يُصرّح تحديدًا أنّ الوساطة، التي تُوصَف بأنّها «خديعة العقل»، هي أيضًا الحركة الجدلية: «إنّ وساطة الخاصّ بواسطة الكلّي هي الحركة الجدلية». لا تُضاف الوساطة إلى الحركة الجدلية، إنّها تُشكّل نمطها Modalité

من المعلوم أن بعض المترجمين شعروا هنا ببعض الملل. فمن جهةٍ، لا يميلون بعامّةٍ إلى الاعتراف بمحايثةٍ ما؛ ومن جهة أخرى، يتذكّرون مبادئ هيغل التي تتظاهر باستبعاد تلك المحايثة.

لكنّ، في الأسطر اللاحقة، يُفصِح هيغل عن مذهبه بتوضيح مُضيء: «إنّ العقل المُحايِث (die immanente Vernunft) لِترتيب الحاجات البشرية وحركاتها الجدلية هو الذي يُحوّل هذا الترتيب إلى كلّ عضويّ يضمّ عناصرَ مُتمايزةً[31]»

في هذه الجملة، أُضِيفَت كلمة dialectiques من قبل المُترجم. يُفسّر المُترجم المعنى الواضِح بذاته للكلام: ما يُسمّيه هيغل «خديعة العقل»، بلغة «التمثيل»، هو، بالمفهوم التصوّري، الوساطة (الجدلية بالضرورة) للخاصّ والكلّي!

عندما يضع هيغل صراحةً هذه السيرورة تِبعًا للعناية الإلهية أو الله، يتّبع إذًا هذا «الانتقال المُلتبس» (Verstellung) الذي في مُناسبات أخرى يلوم كانط عليه أشدّ اللوم.

يستعمل هيغل لغة أخرى، ليس هذا فحسب، بل يُدخِل مصطلحًا آخر في خطابه.

لا يخلو ذلك من صعوبات نظرية كبيرة. فِيمَ يمكن، إذًا، للخديعة أن تقوم وهي التي تستخدمها العناية الإلهية؟ النظر لا يعني الاحتيال، لكنّ مجرّد النظر نفسه يستلزم ازدواجية المتأمّل وغرضه. إنّ مذهب مُحايثة العقل الجدلي للتاريخ يستبعد الخديعة بقدر ما يستبعد الرؤية.

عندما تؤخَذ الخديعة والرؤية بوصفهما مُمكنتين في شروط فلسفة هيغل، يَحرص على تطوير هذه الفرضية، كما فعل مع الفرضية المُضادّة، وصولًا إلى نتائجها القصوى.

وتُفضي الحُضورية إلى وحدة الوجود أو إلى الإلحاد.

لم يُرِد هيغل الاعتراف بمذاهب كهذه، إمّا لأنّها تُثير نفورَه منها، أو لأنّه يهاب إدانتها من قبل الرأي العامّ ومن قبل السلطات.

وعلى العكس، لا يُخفي نتائج الاستعلائية التي ضُمَّت إلى الافتراضات الجدلية المُتعلّقة بمفهومه لِمسار العالم البشري.

عندما تَقود العناية الإلهية العالم، يجب أن يتمّ ذلك، في هذه الشروط، من دون أن يعلمه البشر أو يُريدوه. بذلك يكونون «الأدوات» العمياء أو المُحسّنات لِقوّة يجهلون أهدافَها.

إنّ العالم البشري في كلّيته يُختَزَل في هذه الحالة إلى غِشّ هائل، وخديعة «مُطلقة». إنّ الواقع الموضوعي، أو الذي يؤخَذ بوصفه كذلك، ليس سوى تَزوير، وغِطاء خدّاع تستَتِر تحته حقيقة مُختلفة تمامًا عنه: «الموضوعية إذًا، بوجهٍ ما، غطاء يتوارى تحته المفهوم[32]»

وبِلا ريب، فإنّ مهمّة الفيلسوف هي رفْع هذا الغطاء، ونزْع هذا القناع. لكنّ هذا الكشْف لا يُغيّر الطبيعة نفسها للعالم «الموضوعي»: «إنّنا نعيش في هذا الوهْم، وفي الوقت عينه يُشكّل وحده العامِلَ الفاعِلَ الذي عليه تقوم المصلحة في العالم. الفكرة في سيرورتها تخلق بنفسها هذا الوهْم، ويُعارِضها آخرُ بينما يقوم سلوكها على حذف هذا الوهم[33].

فالذي يقبل بالتحدّث بلغتين لا يعلم في النهاية ما الأمر الصحيح. ويَفرض على القرّاء مهمّة إبطال الخديعة المُعقّدة والخطيرة للفيلسوف.  

     ------------------------------------

جاك دهونت : فيلسوفٌ فرنسيٌّ، مؤسس مركز البحث والتوثيق حول هيغل وماركس CRDHM، وترأس الجمعيّة الفرنسيّة للفلسفة بين سنتي 1982-1995.

ـ العنوان الأصلي:La Ruse de la raison

ـ المصدر: revue laval theologique et philosophique 51,2 (juin 1995):293-310.

ـ ترجمة: عماد أيوب . مراجعة: فريق التحرير والترجمة.

[2]- Encyclopédie de DIDEROT (1751-1780), article : Tromer

[3]- DESCARTES, OEuvres (Adam et Tannery), tome X, 1978, p. 213

[4]- Le Petit Larousse, édition 1994, article : Ruse

[5]- Encyclopédie de DIDEROT, article : Art.

[6]- HEGEL, Journal a»un voyage dans les Alpes bernoises, traduit par R. Legros, 1988, p. 76.

[7]- ةcrit en 1793, dans Hegels Theologische Jugendschriften, Tiibingen, Nohl, 1907, p. 355

[8]- HEGEL, Science de la logique, II, traduit par P.-J. Labarrière et G. Jarczyk, Paris, Aubier, 1981, p. 363

[9]- ID., Jenenser Realphilosophie II, Leipzig, Meiner, 1931, p. 198

[10]- Ibid., p. 198- 199.

[11]- BOSSUET, Discours sur l’histoire universelle. Tours, 1899, p. 451

[12]- SAINT-JUST, Discours de Ventôse — 26 février 1794

[13]- SCHELLING, Le système de Vidéalisme transcendantal (1800), traduit par Ch. Dubois, Louvain, 1978, p. 230.

[14]- Ibid., p. 231

[15]- KANT, dans Idée d’une histoire universelle d’un point de vue cosmopolitique

[16]- SCHILLER, « Qu’appelle-t-on histoire universelle, et pourquoi l’étudie-t-on ? » (1789), dans Mélanges,

traduction française par F. Wege, Paris, 1840, p. 47

[17]- MANDEVILLE, La Fable des abeilles, avec un commentaire où l’on prouve que les vices des particuliers.

tendent à l’avantage du public, traduction de l’anglais sur la 6e édition, Londres, 1740.

[18]- Ibid., p. 11.

[19]- Ibid., p. 166.

[20]- HEGEL, La raison dans l’histoire (Introduction aux Leçons sur la philosophie de l’histoire), traduit par K.

Papaoiannou, Paris (Le monde en 10/18), 1965, p. 102 et 108- 109.

[21]- ID., Encyclopédie des sciences philosophiques, traduit par B. Bourgeois, I, Paris, Vrin, 1970, p. 396

[22]- KANT  op., cit.

[23]- SCHELLING, Contribution à l’histoire de la philosophie moderne, traduit par J.-F. Marquet, Paris, P.U.F.,

1983, p. 108.

[24]- HEGEL, La raison dans l’histoire, p. 111.

[25]- ID., Encyclopédie, I, p. 614 (Addition au paragraphe 209).

[26]- ID., Phénoménologie de l’esprit, traduit par J.P. Lefebvre, Paris, Aubier, 1991, p. 63.

[27]- ID., La raison dans l’histoire, p. 107 (traduction modifiée).

[28]- Ibid., p. 108.

[29]- Ibid., p. 110.

[30]- ID., Principes de la philosophie du droit, traduit par R. Derathé, Paris, Vrin, 1975, p. 225

[31]- Ibid.

[32]- ID., Encyclopédie, I, p. 614 {Addition au paragraphe 209).

[33]- Ibid., p. 615.