البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

هيغل ناقداً كانط، معاثر الذاتية في الاستنباط الترانسندنتالي

الباحث :  دينيس شولتنغ - Dennis Schulting
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  14
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2019 م / 1440 هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 16 / 2019
عدد زيارات البحث :  2851
تحميل  ( 412.236 KB )
غالباً ما انحكمت العلاقة بين الكانطية والهيغلية بإشكاليات فهمٍ لم يكن لكلٍّ من المدرستين  معاً القدرة على النفاذ منها إلى يومنا هذا. لكن المشكلة الأصلية تعود إلى قراءة هيغل لكانط، وما شابها من خصومةٍ ومن التباساتٍ وتعقيداتٍ جمّةٍ.

هذه المطالعة التي قدمها الباحث والمؤرخ البريطاني دينيس شولتنغ، تحاول الوقوف على واحدة من أهم ما أشكل فيه هيغل على كانط في سياق نقده لأعماله، عنينا بها أطروحة الذاتية في الاستنباط الترانسندتيالي.

المحرر

----------------------------

يُعتبر جورج فيلهلم فريدريش هيغل (G.W.F. Hegel) واحداً من أكثر القرّاء فهماً لكانط. فقد كان تفسيره في تقريره الشامل عن كانط الموسوم بالإيمان والمعرفة (Faith and Knowledge 1802) منحازاً لقراءة فلسفة كانط من منظور نظامٍ لم يكن قد اكتمل بعد، وهو الذي صار يُعرف بـ «المثاليّة المطلقة»، إنّها مثاليّة هيغل التي تنطلق من مثاليّة كانط الترنسنداليّة بطرقٍ عدّةٍ. لكن، وخصوصاً في الإيمان والمعرفة، وفي ما يعدّ في المنطق الكبير والمنطق الصغير، أبدى هيغل، وعلى الرغم من هواجسه حيال الاستراتيجيات العامة لكانط، تفهّماً عظيماً لجوهر الاستنباط الترنسندالي (Transcendental Deduction) أو على الأقل لبعض تفاصيله الجوهريّة. يعتقد هيغل أن فكرة كانط عن وحدة فهم التوليف - الأصلي هي «واحدةٌ من أعمق مبادئ التطوّر الفكري». وخلافاً لمعظم الكانطيين، ورغم هواجس هيغل حيال إجراء كانط، فقد أصاب عندما رأى أنّ الاستنباط الترنسندالي يتعلّق باشتقاق مبادئ التعيّن الموضوعي للتمثّلات التي «هي وحدة «الأنا» مع ذاتها»، وهذا يعني أنّ الذات متماهيةٌ مع موضوع وحدة تمثّلات التوليف-الأصلي. وبالنسبة لهيغل، كما بالنسبة لكانط، إنّ شروط هويّة وعي الذات هي في الواقع نفس الشروط التي تحكم هويّة موضوع وعي. هكذا أصاب هيغل في تحديد دليل كانط، في الفصل 17 من (B-Deduction) على وحدة التمثّلات الموضعيّة، الذي يرتكز على الوحدة الترنسنداليّة للوعي الذاتي ويبدأ بتعريف الموضوع من حيث ارتباطه بموضوعيّة الفكر ذاته[2]، إنّه “تماهي المفهوم والشيء، وهذا يعبّر عن الحقيقة”.

لكن ما هو واضحٌ أيضاً أنّ هيغل يسيء التفسير في عدّة جوانبَ أخرى مهمّةٍ من حجج كانط، كما أنّ قراءته تكشف أجندته الفلسفيّة الخاصة في مواجهة استراتيجيّة كانط العامّة. لكنّني في هذا الفصل، سأركّز على قراءة هيغل للاستنباط الترنسندالي في الإيمان والمعرفة، من باب التفسير فقط؛ ولن أركّز تحديداً على مدى انحياز تفسيره لكانط، وتشكيله جزءاً متمّماً لاقتراحه المثاليّة المطلقة التي لم تتطور فعلاً إلاّ في التقريرات اللاحقة لفينومينولوجيا الروح (Phenomenology of Spirit) وعلم المنطق (Science of Logic). وهكذا لم تكن مقارنة القيمة الجوهريّة لنظام التفكير الهيغلي مع قيمة نظام كانط موضوع مناقشتي في هذا البحث. كما أنّني ركّزت على التقرير الأوّل لكانط في “الإيمان والمعرفة”، لأنّني أعتقد أنّه يوفّر الإطار الأساسي لرأي هيغل بكانط الذي يبقى متماسكاً في تفسيراته المتأخرة لكانط، وبشكلٍ خاصٍّ تلك الموجودة في المنطقين معاً، وفي محاضرات تاريخ الفلسفة[3].

كثرت المناقشات في الكتابات التي تناولت هيغل الشاب، حول أنّ كتاب “الإيمان والمعرفة” صيغ أساساً في النموذج المفهومي للفيلسوف شلنغ، وأنا أعتقد أنّ اللّغة على الأقل والفائدة الرئيسيّة لمقالة هيغل متجذّران جداً فيه. وهذا ما يمكن ملاحظته من خلال الاستعمال الأساسي لمصطلحات مثل “الهويّة المطلقة”، “القوّة”، وعدم الاهتمام العام بالنسبة إلى الذاتيّة بشكلٍ عام، التي كانت أكثر وضوحاً من موقف هيغل، كما جاء في المنطق الكبير الذي صدر بعد عشر سنوات، أو ربّما حتى المتناقضة معه، فمثلاً، الجذور الشلنغيّة للتفسير الهيغلي ظاهرةٌ في مقاطعٍ شبيهةٍ بالمقطع التالي، الذي يبدو أنّه مقتبسٌ مباشرةً من كتاب شلنغ “نظام المثاليّة الترنسنداليّة”
(System of Transcendental Idealism ) الذي نشر قبل ذلك بسنتين:

إذا أمكن اعبار الفكر لذاته تعبيراً مجرّداً عن الشكل في ثلاثيّته، فإنّه واحدٌ سواءً أعتبر فكراً للوعي أم فكراً للطبيعة، شكلاً من الذكاء الواعي أم غير الواعي: فكما يُعتبر الوعي متصوّراً في الأنا، فإنّه يعتبر متحققاً في الطبيعة.

بالنسبة لمصطلحات شلنغ، لا سيّما مفهوم “الهويّة المطلقة”، الذي سيتبيّن أنّه مساعدٌ، سوف أناقش في تحديد الطريقة التي يؤكّد فيها هيغل ويرجّح جوانبَ محدّدةً من الاستنباط الترنسندالي، كما سأناقش في إثبات الأسس التي يعتقد هيغل أنّ كانط لم يتبعها من خلال ما يعتبر أنّه العناصر “المثاليّة” القيّمة والأصيلة لما يسمّيه (Keim des Spekulativen) في الفكر الكانطي. ومن الأسباب الأخرى لاعتبار تقرير هيغل عن الاستنباط الترنسندالي الكانطي مفيداً هو الطريقة التي يمكن من خلالها اعتبار هيغل الناقد النموذجي للتصوريّة الكانطيّة، أي الأطروحة القائلة بأنّ بعض المضمون الحسّي ليس مصنّفاً وأنّه لا يمكن أن يصنّف ضمن مفاهيم الفاهمة، وأن الحدس لا يحتاج إلى وظائف الفاهمة. ويعتقد هيغل أنّ كانط لا تصوّريٌّ، كما أنّه يرى أنّ هذا يتناقض مع تصوريّة كانط الصارمة، أي إنّ كانط يجمع بين نظريّتين متعارضتين حيال العلاقة بين المفاهيم والحس. ويدعو هيغل إلى وجوب تطهير ما بقي من لا تصوريّة كانط، من خلفيّةٍ كانطيّةٍ، وإلى وجوب فهمه على نحوٍ صحيحٍ، فبدون الوسائل التجريبيّة والسيكولوجيّة غير الضروريّة، يمكن اعتبار كانط تصوّريًّا أصيلاً.

هذا يرتبط بأسف هيغل على ذاتيّة كانط المزعومة (أي ما سمّيته “الذاتيّة السيّئة” في المقدّمة)، أي الموقف القائل أنّ الحقيقة حيال الموضوعات هي حقيقة مخطّطنا المفهومي، ولا داعي لضرب مثلٍ على مقولاتنا من الأشياء الواقعيّة في ذاتها. إنّها الذاتيّة التي ترى أنّ ما نعرفه صحيحٌ فقط بالنسبة إلى منظورنا الخاص، وذلك بسبب كيفيّة إعدادنا سيكولوجيًّا (أو ثقافياً، أو معرفياً، إلخ)، وهذا يختلف عن الذاتيّة “النقديّة” التي ترى أن الفاعليّة الذاتيّة هي المكوّن الأوّل للموضوعيّة، إذ لا يمكن أن يكون أيُّ شيءٍ موضوعيًّا، مهما كانت طبيعته، بدون الصور الذاتيّة للفاهمة. لكن هيغل لا يميّز بين ذاتيّةٍ رديئةٍ وذاتيّةٍ “نقديّةٍ”. بالنسبة لهيغل في كتاب “المعرفة والإيمان” على الأقل، الذاتيّة رديئةٌ وحسب[4]. وسوف نناقش لاحقاً لماذا يعتبر أنّ ذاتيّة كانط “النقديّة” هي مجرّد شكلٍ آخر من أشكال الذاتيّة الرديئة. الاتهام بالذاتيّة مرتبطٌ مباشرةً بنقد ما يسمّى أطروحة التقييد الكانطيّة، أي الأطروحة المثاليّة التي ترى أنّ مقولات التجربة لا تنطبق على الأشياء في ذاتها، وهذا أيضاً ما سأناقشه لاحقاً.

ولأسبابٍ تتعلق بحجم البحث، لن أوغل في المسائل المرتبطة باللاتصوريّة المرتبطة بنقد هيغل لكانط (للاطلاع على هذا الموضوع انظر تفسيري في شولتنغ)[5]. ناقشنا نقد هيغل لذاتيّة ومثاليّة كانط “السيكولوجيّة” المزعومة في القسم 8.3. والقسم 8.4. التي تناولت ما أعتقد أنّه الخطأ الأساسي في تفسير هيغل لكانط، وهو الذي بواسطته يساعد هيغل نفسه على قراءة الخيال المنتج باعتباره العقل نفسه، وفي اختلافٍ واضحٍ مع وجهة نظر كانط حيال المخيّلة بوصفها “تأثيراً للخيال على الإحساس”. لكنّني أولاً سأعيد سرد أسس هيغل العامّة لنقد كانط كنموذجٍ للفلسفة التأمّليّة “غير النقديّة” (القسم 8.2.).

8.2. نقد الفلسفة ال تأمليّة

في كتاب “الإيمان والمعرفة” ينقد هيغل ما يسمّيه “الفلسفة التأمليّة” حيث يزعم أنّ فلسفة كانط هي ممثّلٌ نموذجيٌّ للتخلي عن الهدف الرئيس للفلسفة، أي التفكير بـ “المطلق”، في المقابل يدفع بفكرة أن “العقل يجب أن يتخلّى عن وجوده في المطلق”. كما ينقد هيغل كانط بسبب قنوعه بدور العقل المحدود من خلال اعتباره مجرّد شكلٍ فارغٍ لما هو تجريبي، وبسبب محاججته بأنّ العقل متمظهرٌ بالفاهمة، “يتلقّى مضمونه” من النقيض الذي يتوجّه إليه فقط، أي المضمون التجريبي أو “الحقيقة التجريبيّة”. ومن جهةٍ أخرى، يرى هيغل إشكاليّةً كبرى في اعتبار كانط أنّ المضمون الإمبريقي مطلقٌ، أي التسليم به كمعيارٍ يجب أن يقاس كلُّ شيءٍ به. كما رأى هيغل تناقضاً تاماً في فكرة كانط بأنّ المزاعم التصوّريّة حيال الواقع لا يمكن أن تكون حقيقيّةً إلاّ إذا كان لها أساسٌ في التجربة الإمبريقيّة مع ما ينبغي أن تطمح إليه الفلسفة الحقيقيّة. وهذا سبب انتقاد هيغل لفلسفة كانط لكونها في الأساس شكلاً من “الإمبريقيّة الفلسفيّة”.

من جهةٍ أخرى بالنسبة لكانط، وكما أثبت هيغل، فإنّ التصوّريّة والمضمون الإمبريقي لا يكونان مرتبطين إلا إذا بقيت الطبيعة الشكليّة للفاهمة معتمدةً على المضمون المادي الخارجي في حالة المعرفة، أي إنّ الشكل التصوّري والمضمون المادي لا يجتمعان إلا من جهة “الهويّة النسبيّة”، ولا يمكن فهمها من جهة “الهويّة المطلقة” حيث لا يعود المفهوم والمضمون متعارضين بالمطلق، بل يصبحان موضوعاً أصيلاً للتفكير من خلال علاقتهما العقليّة الصحيحة، حتى لو تعذّر اختزال أحدهما بالآخر. هذا جانبٌ مهمٌّ من نقد هيغل، إنّه يقول بأن كانط ليس منسجماً بما يكفي في تأمّله بالعلاقة بين مختلف العناصر المتلازمة في المعرفة. ويتحدث هيغل عن نقصٍ في “التأمل بالمقابل” في فكر كانط وهذا يعني أن شكل التصوريّة “الوحدة”، ومضمون “الكثرة” لا يُتصوران في علاقتهما العكسيّة. أي إنّ نفس التقابل بين العبارات المتقابلة لا يتم تصوّره بموضوعيّة، كي تبدو الكثرة نفياً للتصوريّة، وفي الوقت عينه تبدو التصوريّة نفياً للكثرة[6]. غير أن التقابل يُفهم تماماً، كما لو كان معلومةً مسبقةً (يشير هيغل إلى هذا بأنّه قوام الأطروحة النقيضة المطلقة) وبالتالي فإنّ وحدة المفهوم والكثرة الإمبريقيّة “يواجه أحدهما الآخر باعتبارهما مجردين”. ما يعنيه هيغل بهذا هو أنّ كانط يعتبر صورة المفهوم ومادة التعدّد الإمبريقي ليسا إلا تعابيرين مجرّدين، شكليّين، ثانويّين، عن الوحدة التي يشكّلانها بالضرورة في المعرفة، الوحدة التي وفقاً لقراءة هيغل لكانط كانتا تشكّلانها دائماً. لقد عبّر هيغل عن تجرّد الاعتبارات التأمليّة للعلاقة بين الوحدة والكثرة على الشكل التالي:

تتعيّن الكثرة بالوحدة [...] كما يمتلئ فراغ الهويّة بالكثرة [...] سواءً أكانت فاعلةً أم منفعلةً، وكلٌّ منها يعرض للآخر بطريقةٍ شكليّةٍ باعتباره شيئاً غريباً. لا ينتج عن هذه المعرفة الشكليّة إلاّ هويّاتٌ ضعيفةٌ، وتتيح للأطروحة النقيضة البقاء على إطلاقها التام.

هذا التجرّد هو النتيجة المباشرة للصيغة التي تعمل فيها الفلسفة التأمليّة، أي من خلال المقاربة التأمليّة، التي تبدأ من وجهة نظرٍ شكليّةٍ، “نقطة الأنا الثابتة” وتسعى لدمج شكليّتها الخاصة (أشكالها وإجراءاتها) بمضمونٍ يأتي من خارجها، مما هو واقعيٌّ (ولا شكليٌّ). إنّ وجهة النّظر الشكليّة هي وجهةُ نظر الفاهمة بوصفها “مبدأ التعارض” التي تسعى للاتحاد بالمضمون الخارجي الذي لا تندمج معه أبداً. ينتقل هذا المنظور الشكلي، وبعد إجراء التغييرات الضروريّة، إلى كلّ الموضوعات التي تُعنى بها الفلسفة التأمليّة سواءً أكانت تُعنى بمسائل الفلسفة النظريّة أم العمليّة. وهذه المسألة كما يرى كانط، في مبدأ “إطلاق التناهي، الذي ينتج عنه، والأطروحة النقيضة للتناهي واللاتناهي، الواقعيّة والمثاليّة، المحسوس وما فوق الحس، وما ورائيّة ما هو واقعٌ حقاً ومطلقٌ”. إن الفلسفة التأمليّة وبسبب نقطة بدايتها الشكليّة الصادرة في الاعتراف بالأطروحة النقيضة كأمرٍ واقعٍ، تخفق في طبيعة الحال بالوصول إلى معرفةٍ ما تهدف الفلسفة أن يكون موضوعاً لها، المطلق، اللانهاية، الواقع الحقيقي، أي ما هو متجاوز لمجرّد الاعتقاد والمعرفة المحدودة، وما يشكّل بحقٍّ وبدون شروطٍ المسألة في الواقع.

هذه إذاً هي الميزة الرئيسيّة للفلسفة التأمليّة: إنّها تبقى متمسّكةً بمتقابلاتها التأمليّة (الذهن/ العالم، الشكل / المضمون، ما قبل / ما بعد/ الذات / الموضوع، الوحدة / الكثرة، الواقع / المثال، التناهي / اللاتناهي... إلخ.)، في حين أنّها تخفق في التأمل بهذه المتقابلات التأمليّة، وفي أخذ هذه المتقابلات بنظر الاعتبار كافتراضاتٍ غير متأمّلٍ فيها (بقدر تعلقها بإطلاقها المزعوم)، والمفارقة أن هيغل في الواقع يتّهم الفلسفة التأمليّة، ومن ضمنها فلسفة كانط، بافتقارها المحدّد إلى التأمّل، وتحديداً من خلال اعتبار نقطة البداية التأمليّة، افتراضاً لا إشكالياً. وينتج عن هذا نسبيّةٌ، ذاتيّةٌ، سيكولوجيّة، ومثاليّة لم تُتصوّر من خلال بناها التأمليّة وافتراضاتها النظريّة، وفي المقابل تضفي الإطلاقيّة على هذه الافتراضات المسلّم بها، الصادرة في ثنائيّةٍ فلسفيّةٍ وثوقيّةٍ، تعجز عن تحقيق ما تسعى إليه: أي معرفة ما هو واقعٌ صحيحٌ، من غير أن تكون مقيّدةً بأيّ مسلّماتٍ أو افتراضاتٍ غير متأمّلٍ فيها. المشكلة الأساسيّة في الفلسفة التأمليّة، ومن ضمنها فلسفة كانط، هي حيثيّتها الثنائيّة والنسبيّة أو الشكوكيّة التي تنتج عن هذا.

لكن لا سيّما في فهم كانط للتوليف الما قبلي –سنبحث تقييم هيغل بتفصيلٍ أكثر في الفقرات التالية– الميزة الثنائيّة للفلسفة التأمليّة التي يواجهها المرء في الاستنباط الترنسندالي[7] هي ما فيه من تناقضٍ داخليٍّ: لأن التصوريّة إذا قامت أساساً على توليفةٍ قبليّةٍ، كما يرى كانط، “إنها بالتأكيد تحتوي على التحدّد والتميّز في داخلها” ونظراً لأن التحدّد تأسّس أولاً بواسطة التوليف الما قبلي، التحدد –وكذلك الفرق المحدّد أو الأطروحة النقيضة بين الشكل والمضمون– لا يأتي من خلال الكثرة الحسيّة، ومن خلال المضمون، وخارجياً، بل من داخل التوليف الما قبلي. يبدو أنّ هيغل لاحظ أن الكثرة حتى لو كانت خارجةً عن المفهوم، فإنّ خارجيّتها، وبالتالي تميّزها عن المفهوم هي شيءٌ يمكن أن يتحدّد من داخل المفهوم. وبتعبيرٍ آخر “التمايز هو لحظة أساسيّة للمفهوم”. المضمون المادي و”الهويّة التأمليّة الفارغة” أو “الكليّة المجرّدة” لا يتعارضان في ما بينهما بمعنى أنّهما في الواقع خارجيان عن بعضهما بالنسبة للآخر و”منفصلان جوهرياً”.

هذه حجّةٌ تصوريّةٌ وهي حجّةٌ يستعملها الكانطيون أيضاً عادةً في تفادي القراءات غير التصوريّة للعلاقة بين الحدس والمفهوم. لكن بالطبع القول بأنّ التمييز بين الحدس والمفهوم لا يمكن أن يتحدّد إلا داخل المنظور التصوري هو الشرط الضروري للتعيّن، كما في التفسير الكانطي، هذا لا يدلّ على أنّ الحدس ذاته تصوريٌّ، كما أنّه لا يدلّ على أنّ الحدس والمفهوم متوازيان دائماً (ولا يمكن أن ينفصلا جوهريّاً). يبدو أنّ هذا يضعف أيّ نقدٍ قويٍّ لما يسمّى بالمواقف الثنائيّة في الفلسفة التأمليّة، وتحديداً ما يسميّه هيغل “التأمّل السيكولوجي” الكانطي باعتبار التصوريّة محدودةً بالحس، ويبدو أنّ هيغل يريد أن يدمج التصوريّة مع الحدس إلى حدٍّ لا يكون الحدس مجرّد مندمجٍ بالضرورة مع التصوريّة بقدر ما تحصل مزاعم حول الموضوعات (من خلال الفاهمة)، لكنّهما في الواقع متّحدان بالضرورة، مع مبسّط التصوريّة، بصرف النّظر عن مسألة ما إذا كانت للفاهمة مزاعمُ فعليّةٌ حول الموضوعات. يرى هيغل قيود كانط المعرفيّة، التي يمكن التعبير عنها من خلال الادعاء الشكلي M*[8] تماماً نتيجة لـ “الانعكاس السيكولوجي” للمنظور الإبستيمولوجي الشكلي المذكور سابقاً. لكن نتيجة هذا النقد التصوري القوي لتواضع كانط المعرفي، هي أن التمييز المطلق الذي قام به كانط بحذرٍ بين أشكال التصوريّة وأشكال الحس، في سياق نقد المثاليّة التصوريّة للعقليين، تنذر بأن تكون ضبابيّةً[9].

الذاتيّة و”المثاليّة السيكولوجيّة” المزعومة عند كانط

نتيجةً لانحياز كانط “التأمّلي” الذي بدا واضحاً من خلال اختياره لنموذجٍ منطقيٍّ استطراديٍّ، ثمّة تشديدٌ، وفقاً لهيغل، على نقاء المفهوم، الذي بالتالي يعتمد على المضمون الإمبريقي لاكتساب المعنى: يتحدث هيغل عن “فراغ المفهوم الذي يحرز مضمونه وأبعاده بشكلٍ حصريٍّ تماماً في الإمبريقي وبالتالي من خلال صلته به”. ولهذا السبب يعتقد هيغل أنّ مثاليّة كانط حيال الموضوعات ليست إلاّ “إتماماً لسيوكولوجيا لوك الإمبريقية وجعلها مثاليّة”، حيث تكون وجهة نظر الذات أعلى نقطة استشرافٍ فيها. وفقاً لهذا الرأي، فإنّ أطروحة كانط حيال موضوعيّة الموضوعات، الزعم الرئيسي للاستدلال الترنسندالي، لا يثبت الحقيقة حيال الأشياء الموجودة في العالم (كالأشياء في ذاتها)، بل فقط حيال الطريقة التي نفهم فيها الموضوعات بوصفنا ذواتٍ عارفةً، وكيف تبدو لنا بوصفنا كائناتٍ بشريّةً محدودةً، لا كيف تكون الأشياء في جوهرها. هكذا تكون مثاليّة كانط مجرّد مثاليّةٍ ذاتيّةٍ، “مثاليّةٍ ذاتيّةٍ (مبتذلةٍ)”، “مثاليّة المتناهي” التي تأخذ في النهاية شكل الشكوكيّة، ولهذا فهي ليست الحقيقة، المثاليّة الموضوعيّة التي تتصور تقابُل المتناهي واللامتناهي، الحسّي والفائق للحس، العقل والعالم، من خلال تصوّر وحدتها الحقيقيّة، وكذلك “الحقيقة الأصيلة” أو “الصحيحة”. أحياناً يعبّر هيغل عن ذلك بعبارة “المصطلح الوسطي” الذي تفتقر إليه الفلسفة التأمليّة، حيث يتمّ إلغاء كلٍّ من الطرفين، فيخفقان في تقابلهما أو تناقضهما: وهذا الإلغاء للمتقابلات هو الذي يشكّل ما يسمّيه هيغل المطلق أو الهويّة المطلقة. هذا “المصطلح الوسطي” هو ما يفتقر إليه “الفكر التأمّلي” الذي يفكر فقط في متقابلاتٍ مجرّدةٍ (المتناهي / اللا متناهي، الشكل / المضمون، الذات / الموضوع ... إلخ). ولا يصوّر التوسط التبادلي للعبارات المتقابلة.

اتضح أنّ مقدمات نقد هيغل لكانط هي إمكان تصوّر الهويّة المطلقة للمتناهي واللامتناهي، للتعدّديّة الإمبريقيّة والمفهوم. فهيغل يرفض تمييز كانط المطلق بين الحدس والمفهوم مباشرةً. وهذا يبدو إثارةً للشك حيال مقدّمات كانط المنطقيّة، وهو نتيجةٌ لما يبدو أنّ نقد هيغل سلك توجّهاً خاطئاً من البداية. بالطبع من الإنصاف القول أنّ هيغل انتقد كانط بشكلٍ صحيحٍ في قبوله بوجوب توجيه العقل الإنساني نحو الإمبريقي، وأنّ أيّ شيءٍ لا يُقاس من خلال تطبيقٍ أمبريقيٍّ ممكن أن يصل إلى مستوى رفع شعاراتٍ فارغةٍ إذا اختلف المرء مع تأكيد كانط على وجوب أن يكون للمزاعم التصوريّة أساسٌ في الحقيقة الإمبريقيّة، وإلا فإنّها ستكون مفتقرةً لمشروعيّةٍ حقيقيّةٍ. يبدو من النظرة الأولى على الأقل، أنّ هيغل على حقٍّ في اعتقاده بأنّ الفلسفة عند كانط ليست إلاّ “ثقافةَ تأمّلٍ ترقى إلى مستوى النّظام”، غيرَ نقديّةٍ، لا شيء أكثر من فلسفة منطقٍ سليمٍ في الواقع، حيث إنّ الفلسفة “الحقيقيّة” هي الفلسفة التي تملك فكرة “الموضوعيّة المطلقة” كموضوعٍ مركزيٍّ لها نزلت رتبتها إلى مستوى “التأمّل الفارغ”؛ فالموضوعيّة المطلقة أو الهويّة هي، بالنسبة لكانط، على الأغلب “مسلّمةٌ لن تتحقق أبداً”. أمّا بالنسبة لهيغل فإنّ هذا الموقف الميتافلسفي يشبه في جوهره فلسفةً معاديةً للفلسفة.

رأى هيغل أنّ الفلسفة ينبغي أن تبدأ بفكرة الموضوعيّة المطلقة، وهذه الموضوعيّة المطلقة ينبغي أن تكون مضموناً وحيداً للفلسفة –الفكرة التي تعبّر عن “نفي النقيض” المطلق أو “الهويّة المطلقة” التي هي “الحقيقة الأصيلة الوحيدة”– ولا تنتهي به كمجرّد مسلّمةٍ، كما فعل كانط. المقصود بهذا هو أنّه سيكون غريباً، على سبيل المثال، افتراض أنّ التمييز بين العقل والعالم، بين الذات والموضوع، هو معطًى ما قبل فلسفيٌّ مطلقٌ ويتعذّر رفضه؛ فهو لن يتوافق مع قواعد النقد من وجهة نظرٍ فلسفيّةٍ خالصةٍ. فهيغل يتهم كانط بهذه الفرضيّة التي لا تتوافق مع قواعد نقد معطًى ما قبل فلسفيٍّ. لكن “الحقيقة الأصيلة الوحيدة” التي تكلّم عنها هيغل ليست العالم الحقيقي الواقعي الموجود خارج الذهن، بل هي الحقيقة التي لم تعد تعرف التمييز المطلق بين الذهن والعالم، حقيقة ألاّ يكون الذهن خارج العالم، بل حقيقة ألاّ يعود العالم خارج الذهن. كذلك يتكلم هيغل عن “هويّةٍ مطلقةٍ للفكر والكينونة”. إنّ رأي هيغل بالمثاليّة كرأيه بالواقعيّة لا يعبّر عنه بالكلمات، فلا العقل ولا العالم يمكن أن يُختزل أحدُهما في الآخر.

في المقابل، تحتاج رؤية كانط النقديّة إلى معطًى خارجيٍّ، قائمٍ على حقيقة أنّ المنطق الذي استعمله كانط هو منطقٌ استطراديٌّ، يتطلّب فصلاً دقيقاً بين مصطلحين معرفيين غير قابلين للاختزال، وهذا ما يمكن أن يدمج لأهداف اكتساب المعرفة فقط. فقد انتقد هيغل اعتماد كانط على الأحاسيس المفترضة في الكثرة الإمبريقيّة بالحدس بوصفها الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن ندخل من خلالها إلى الواقع، أي إلى الأشياء في ذاتها التي تؤثّر فينا. هذا الافتراض للإحساس، بوصفه الوسيلة للوصول إلى الواقع، لم يشرحه كانط أبداً، لكنّه افترضه كواقعٍ فقط –يسمّيه شيئاً “مستغلقاً” في منظومة كانط الفكريّة-شيئاً لا يُحسب له حساب. لكن فرض أن تكون الإحساسات معطى، وعلاقتها بالواقع لا تدلّ على أنّ كانط يفترض–كما جعلنا هيغل نعتقد– أنّ هناك تمييزاً مطلقاً بين الذهن والعالم، وأنّه لا يمكن ردم الهوّة بينهما. إنّ التمييز بين “أنا أفكر” شكليّةٌ ومحتوًى ماديٌّ مفترضٌ (أنظر في القرة التالية 8.4) يمكن أن يُقرأ كما هو، لكنّه لا يدعم الموقف الميتافيزيقي الذي يقول أنّ الذهن والعالم متمايزان بمعنًى مطلقٍ. بالإضافة إلى أن هذا الموقف يتعارض مع أطروحة التقييد الكانطيّة حيال إمكان معرفة الحقائق المطلقة. فلا فهم لحقيقة الأشياء في ذاتها، لذا لا نستطيع أن نفترض تمييزاً مطلقاً بين الذهن والعالم، لأنّ هذا العالم يشير إلى أنّنا نفهم العلاقة بين الأشياء في ذاتها.

إنّ هيغل يقرأ كانط من خلال الرؤية التي عرضناها سابقاً، والتي تبيّن أنّ في جذور نقد هيغل لكانط يكمن تصوّرٌ عامٌ للفلسفة شديدُ الاختلاف عن تصوّر كانط، رغم أنّ هيغل يعتقد أنّ نقده لكانط هو على الأقل إلى حدٍّ ما، من داخل الفكر الكانطي ذاته. يجد هيغل أصل هذه الفكرة في قول كانط المأثور “لا قيمة للمفهوم المعزول ولا الحدس المعزول؛ [و] أنّ الحدس بذاته أعمى وأنّ المفهوم بذاته فارغٌ”، هنا يبيّن كانط أن الوصول إلى شكلٍ من الموضوعيّة والتطابق بين الفكر والوجود لا يتمّ إلا عندما يترابط المفهوم والحدس بعضهما ببعض. لكن حقيقة أنّ كانط يحدّد هذه الهويّة في الوعي، أي في التجربة الإنسانيّة، ولا يصفها وفقاً “للمعرفة العقليّة”، يعني أنّ كانط، وفقاً لهيغل، لا يفي بوعده بتطوير فكرة التطابق المطلقة والمعرفة المطلقة، وهكذا “تتراجع إلى التناهي المطلق والذاتية”. التماهي هنا، التطابق بين المفهوم (كصورةٍ للفكر) والحدس (كصورةٍ للواقع)، هو مجرد “تطابق متناه” بمعنى إلى الحدّ الذي يرتبط بالمعرفة الإنسانيّة الإمبريقيّة. لكن هيغل يعتقد أنّ هذه الخطوة غير مضمونةٍ على أساس مقدّمات كانط المنطقيّة. إنّها الذاتيّة الرديئة التي يندبها هيغل في كانط أي الذاتيّة “البحتة” التي تبقى مكتفيةً بالتطابق المتناهي لمعرفتها بالموضوعات الإمبريقيّة، وتتعارض مع الجانب التأمّلي الصحيح المزعوم (سنتحدث عن هذا لاحقاً في الفقرة 8.4).

وبالتالي، يرى هيغل أنّ مثاليّة كانط الترنسنداليّة ليست في الواقع إلاّ “مثاليّةً سيكولوجيّةً” يعني بها هيغل أنّ المقولات هي “التعيّنات الوحيدة المستمدّة من الوعي الذاتي”، لكنّها ليست تعيّناتٍ متمثّلةً بالأشياء في ذاتها. العلاقة بين الذاتي والموضوعي هي مجرّد جانبين “لوجهتي نظر الذاتيّة”.[10] لكن المشكلة المباشرة مع هذا الرأي الشكلي والذاتي البحت –“المثاليّة السيكولوجيّة” المزعومة لكانط– هو أنّ هويّة الذات الشكليّة “تجد نفسها في مواجهةٍ مباشرةٍ مع اللاهويّة اللامتناهية أو إلى جانبها، التي يجب أن تتحد معها بطريقةٍ مستغلقةٍ”. ترتبط هذه المواجهة بعلاقة الذات بالأشياء في ذاتها عن طريق، وفقط عن طريق، الحس الذاتي. بيد أنّ موضوعات معرفتنا الإمبريقيّة لا تحصل على شكلها الموضوعي (وهذا يحصل بواسطة مقولات الكيف: الواقع، النفي، الحدود)[11] إلاّ عن طريق فعل التعيّن الذي تقوم به الذات، من خلال هذه الإحساسات التي تقابلها في الحس الباطن. فالموضوعيّة مفروضةٌ، كما كانت، على الأشياء التي نواجهها بفضل إحساسنا، وفقط على ظهورها الذاتي في الحس. إنّ “عالم” الأشياء في ذاتها، بمعزلٍ عن الفوائد الملائمة للذات المعيِّنة، التي تطبّق المقولات على المضمون الحسّي في الحدس أي “حالما تعزلها المقولات [ ... ] لا يمكن أن تكون إلاّ كتلةً لا شكل لها”؛ ففي التفسير الكانطي، عالم الأشياء في ذاتها هو في الحقيقة ليس إلا “لا نهاية من الأحاسيس”. وهكذا فإنّ كثرة الحسّ، الوعي الإمبريقي، الإحساسات، هي جميعها في ذاتها شيءٌ “غير مندمجٍ”، ولأنّ الحس هو طريقنا الوحيد للوصول إلى الأشياء في ذاتها، فإذا لم يكن الحس متعيّناً من خلال الفاهمة، فإنّ الأشياء في ذاتها لن تكون متعيّنّةً كذلك.

إذاً يرى كانط أنّ “العالم يتفكّك”، وهذا ما اكتسب واقعيّةً وترابطاً موضوعياً، وحتى إمكاناً وفعليّةً، من خلال الذات. وأن يكون الإمكان (ما يعنيه هنا هو ما يسمّيه كانط الإمكان الحقيقي) والفعليّة متوفرين من خلال الذات هو نصف الحقيقة، لأن كانط يقوم بالتمييز بين الوجود بوصفه معطًى يحتوي على الأشياء في ذاتها، وبين تعيّن الوجود عن طريق مقولة الوجود (انظر إلى التمييز في الفصل التاسع): لا يمكن للذات أن تزوّد الشرط المشروط لوجود مبسّط الأشياء. مع أنّ التعيّن الموضوعي الكانطي في نظر هيغل هو فقط وبالضرورة تعيّنٌ مسقطٌ من خلال البشر على العالم بحدّ ذاته وهو عاجزٌ عن إزالة التناقض بينه وبين الأشياء في ذاتها:

يحصل التعيّن الموضوعي وأشكاله بالدرجة الأولى من الارتباط بينهما [الذات والشيء في ذاته]، [ ... ] إذ يصبح الشيء في ذاته موضوعاً بقدر ما يحصل من الذات الفاعلة على بعض التعيّن [ ... ]. وبمعزلٍ عن هذا فإنّهما متغايران تماماً.

بهذه الطريقة تصبح موضوعيّة المقولات، وضرورتها، شيئاً ممكناً وذاتيّاً من جديد، لأنّها لا تعيّن الأشياء بحدّ ذاتها، بل فقط من منظور التجربة الذاتيّة، كظواهر.[12] المعرفة بالموضوعات التي حصلت عبر الفاهمة ليست معرفةً حقيقيّةً بحقيقة الأشياء على ما هي عليه. ومع ذلك فإنّ التعيّن الموضوعي للموضوعات التي تحصل عليها الفاهمة عن طريق المقولات، سنبقى غير مدركين تماماً للطبيعة الحقيقيّة للموضوعات أي كأشياءَ في ذاتها. أو كما يعبّر يعقوبي (Jacobi) “كل ما نزعمه من معرفةٍ ما هو إلا تنظيمٌ لجهلنا.”

هكذا يتّهم هيغل مثاليّة كانط بجعل معرفتنا محدودةً بالظواهر، وبالتالي فهي تعيق الوصول إلى معرفةٍ أصيلةٍ وحقيقيّةٍ بالأشياء في ذاتها. وفي الواقع، إنّ هيغل يتهم كانط بالتناقض: فمن جهةٍ من غير المنطقي أن نقول أنّ أشكال المعرفة (المقولات) الحاصلة عن طريق وحدة التوليف الأصلية للاستبطان، تؤسس أولاً لموضوعيّة الموضوعات، وثم من جهةٍ أخرى، أن ننكر أنّ تلك الأشكال متمثلةٌ بالموضوعات التي يتحدّد جوهرها بها، في المقابل تنطبق على كثرة إحساسات الذات فقط. لكن يبدو أنّ هيغل هنا فقط يخلط شروط موضوعيّة الموضوعات (المعرفة) مع شروط وجود الموضوعات، ما يجعل الموضوعات أشياءَ ذاتَ وجودٍ مستقلٍّ عن معرفتنا بها.

اللافت للنظر، أنّ هيغل يستنتج أنّ ما يتعيّن من خلال الفاهمة هو ظاهرٌ فقط، إذاً الفاهمة ذاتها لا يمكن أن تكون إلا ظاهراً، وهي في ذاتها ليست شيئاً:

الأشياء كما يدركها العقل، هي ظواهرُ فقط. إنّها ليست أشياءَ في ذاتها، وهذه نتيجةٌ صادقةٌ تماماً. غير أنّ النتيجة الواضحة جداً، هي أنّ العقل الذي ليس لديه إلا معرفةٌ بالظواهر ولا يدرك الشيء في ذاته، هو في ذاته ظاهرٌ فقط وليس شيئاً في ذاته. لكن على العكس، يعتبر كانط أنّ الفكر اللاسياقي، الذي يعرف بهذه الطريقة، هو مطلقٌ في ذاته. ففي المبدأ تعتبر معرفة الظواهر، النوع الوحيد من المعرفة الموجودة، أمّا المعرفة العقليّة فهي مرفوضةٌ. إذا لم تكن الأشكال التي توجد الأشياء من خلالها أشياءَ في ذاتها، فيجب ألاّ تكون أشياءَ في ذاتها بالنسبة للعقل العارف. مع ذلك يبدو أنّ كانط لم يكن لديه أدنى شكٌّ بأنّ الفكر هو مطلق الروح الإنسانيّة. فالفكر (بالنسبة له) هو المطلق الثابت، ومحدوديّة العقل البشري التي لا يمكن تخطّيها.

تعرض الجملة المكتوبة بالخط المائل استنتاجاً غريباً: لمَ تدلّ حقيقة أنّ ما نعرفه عن طريق الفاهمة هو مجرّد مظهرٍ لا معرفةٌ بالأشياء في ذاتها، وعلى أنّ الفاهمة ذاتها هي مجرّد مظهرٍ، وبالتالي تقوّض مدعى كانط بأنّ ما نعرفه عن طريق الفاهمة يكون مطلقاً، “ثابتاً”؟ فالتناقض واضحٌ هنا وهو أن “ما يحدد شيئاً باعتباره مظهراً فقط لا شيئاً في ذاته، لا يمكن أن يكون هو بذاته شيئاً في ذاته، وبالتالي لا يكون في ذاته إلا وهماً، ولا يكون حقيقياً إلا من الناحية الذاتيّة. لكن وبمعزلٍ عن حقيقة أنّ كانط يُميّز بوضوحٍ بين (Erscheinung) و(Schein)، لم يقل كانط على الإطلاق أنّ ما تحدّده الفاهمة يكون مطلقاً، أو أنّ الفاهمة ذاتها مطلقةٌ. وبالأحرى نحن نستطيع تحديد أنّنا لا نعرف إلا الظاهر، ذلك لأنّ علينا أن نحدّد من المنظور المحدّد للفاهمة – أنّه ليس لدى العقل فهمٌ مباشرٌ للواقع. فالاستنتاج المنطقي الذي قام به كانط مترابطٌ من داخله، لأنّه وفقاً لما تنصّ عليه فرضيّة كوبرنيكيوس لا يُمكننا أن نحدّد ما قبليّة الأشياء بما وضعناه في الأشياء مسبقاً. وليس لهذا أيّ علاقةٍ بالتأكيد الوثوقي حيال مجال إدراكنا، بل يظهر اعتدالاً في ما يتعلق بميدان الفاهمة (والعقل). بالتأكيد لا يمكن للمرء أن يفسّر الاعتدال بأنّه وثوقيّةٌ، وهذا ما يحاول الهيغليون إثباته دوماً، كما لا ينبغي لفهمٍ يتعلق بمحدوديّتنا ضمناً أن يتساوى مع منظورٍ محدودٍ وذاتيٍّ بحتٍ، أو أسوأ من ذلك أن يكون مجرّد مظهرٍ. بالطبع من المنظور الهيغلي للمطلق، ما تحدّده الفاهمة هو مجرد مظهرٍ، لكن هذا المنظور يثير الأسئلة حول موقف كانط[13].

كان هيغل في كتاب علم المنطق (Science of Logic) أكثر صراحةً حيال سبب اعتقاده بأنّ استنتاج كانط بأنّ المعرفة المقوليّة بالأشياء في ذاتها متناقضةٌ. ففي تفكير هيغل ما زال الموضوع في الحدس شيئاً “خارجياً، غريباً”، مجرّد “مظهرٍ”، وهو يتغيّر من خلال الفكر إلى شيءٍ مفترض، شيءٍ لم يعد مجرّد شيءٍ يمثّل ذاته في مباشرته، بل شيءٍ يفترضه العقل، بوصفه شيئاً، وموضوعاً. ورغم أن الموضوع في ذاته ولذاته (An-und-fürsichsein) غير مكتملٍ في الحدس، فإنّه لا يكون في الحقيقة إلاّ في ذاته ولذاته (an und für sich) إلا إذا فُهم هكذا في الفكر. وعندما يفهم الموضوع في الفكر، برأي هيغل، لا يعود ظهوراً (Erscheinung)، بل شيئاً في ذاته حقيقيًّا يفهم أيضاً كذلك من خلال الفكر، إنّه شيءٌ في – و- لـ - ذاته. وإنّ أصالة الشيء في ذاته ولذاته (An-und-fürsichsein) هي موضوعيّته للفكر. هكذا يكون فهم الظاهر (Erscheinung) عند هيغل مختلفاً تماماً عمّا عند كانط، على الرغم من أنّه يقدّمه على أنّه منسجمٌ مع جوهر رأي كانط على الأقل في الاستنباط الترنسندالي. لكن من الواضح أنّ الظاهر في رأي كانط لا يتحوّل فجأةً إلى شيءٍ في ذاته، عندما يتعيّن بمقولات الفاهمة. وهذا يفسّر إلى حدٍّ كبيرٍ لماذا يعتبر هيغل أنّ مثاليّة كانط هي مثاليّةٌ ناقصةٌ وأنّها مثاليّةٌ “سيكولوجيّةٌ” خالصةٌ، لكن أيضاً ومن خلال نفس الإمارة، يفسّر لماذا أخطأ هيغل بالنسبة للبند الرئيسي من مثاليّة كانط حيال الموضوعات.

8.4 التمييز بين “الأنا الفارغة” و”الأنا الحقيقية”:

المدخل لفهم إساءة قراءة هيغل للاستنباط الترنسندالي

على الرغم من أنّ هيغل صرف نظره عن أنّ كانط “حسم مسألة الظاهر بدون تحفّظٍ”، ما يدلّ على أنّ مثاليّته “سيكولوجيّةٌ” في الصميم، وأنّ في فلسفة كانط التأمليّة، “الفكرة الأعلى تفسد بالوعي الكامل”، إلاّ أنّ هيغل يؤمن بوجود جانبٍ “تأمّليٍّ حقيقيٍّ” في فلسفة كانط. “هذا الجانب التأملي الحقيقي من فلسفة كانط” يرتبط بفكرته عن الخيال المنتج أو المتعالي. يقول هيغل:

علينا [ ... ] أن نقدّر قيمة كانط في تقديمه لفكرة القبليّة الأصيلة على شكل خيالٍ ترنسندالي؛ وأيضاً في وضعه بداية فكرة العقل في الفكر نفسه. فقد نظر إلى التفكير، أو الشكل، لا كشيءٍ ذاتيٍّ، بل كشيءٍ في ذاته؛ لا كشيءٍ عديم الشكل، لا كاستبطانٍ فارغ، بل كفكرٍ، كشكلٍ صحيحٍ، أي كثلاثيّةٍ. وجوهر التأمل يكمن في هذه الثلاثية فقط. لأنّ الحكم الأساسي، أو الثنائيّة، موجودةٌ فيها كذلك، من هنا فإنّ نفس إمكان المابعديّة (a posteriority)، التي تتوقف في هذه الطريقة عن أن تكون مقابلةً مطلقًا للماقبليّة، في حين أن الماقبل، لهذا السبب، يتوقّف أيضاً عن أن يكون هويّةً شكليّةً. سنصل في ما بعد إلى الفكرة التي ما زالت أوضح للفكر التي هي في نفس الوقت ما بعد (a posteriori)، فكرة الفكر الحدسي بوصفه الوسط المطلق.

بمعزلٍ عن الخيال، يوجد مصطلحان أساسيان إضافيان يذكرهما هيغل هنا، وهما يعرضان “جوهر التأمل” في حجة الاستنباط الترنسندالي: الثلاثيّة والعقل الحدسي. وعلى الرغم من الأهميّة العليا للعقل الحدسي وملاءمته إلى أقصى حدٍّ لفهم مشروع هيغل وعلاقته بكانط، فإنّني لن أكون قادراً على مناقشته، لأّنّ هذا سيحتاج إلى تحليلٍ أعمق لا تتسع له المساحة المتاحة هنا؛ فدور وأهميّة العقل الحدسي في فهم هيغل لكانط هو أيضاً لا جدال فيه[14]. على كلّ حالٍ اتضح من نص الإيمان والمعرفة أنّ هيغل الشاب، بطريقةٍ أو بأخرى، مثل شلنغ استوحى من مناقشة كانط للعقل الحدسي في الفصول 76 – 77 من النقد الثالث، الذي يعتبره تأكيداً لقراءته لحجج كانط في الاستنباط الترنسندالي حول الخيال المنتج بوصفه الوحدة التوليفيّة الأصليّة.

سأركز هنا على فكرة الثلاثيّة لديه. ما يفصله هيغل من أجل وضعٍ خاصٍّ في تفسير كانط في الاستنباط الترنسندالي هو فكرة «الوحدة التوليفيّة الأصليّة للاستبطان» أو «الهويّة الأصليّة للوعي الذاتي» التي يطابقها هيغل مع الخيال المتعالي. هذه الوحدة التوليفيّة الأصليّة هي فكرةٌ مهمّةٌ «لأنّ لها جانبين، المتقابلات تكون حتماً واحدةً فيها». هذا إذاً ما تؤدّي إليه فكرة الثلاثيّة: وحدةٌ أصليّةٌ أو هويّةٌ تتحد فيها المتقابلات بشكلٍ أوليٍّ، والأهم، يكون فيها أيضاً التفاضل الأوّل. إنّ الثلاثيّة تنعكس من خلال الفكرة الأساسيّة عند كانط حول القبليّة التوليفيّة للمفهوم والحدس.

كما يناقش كانط فعلاً، في الفصل 15 من (B-Deduction)[15] أنّ الوحدة التوليفيّة الأصليّة للاستبطان ليست الوحدة التوليفيّة التي هي وحدةٌ ما بعديّةٌ مجموعةٌ، وحدة “تجميعٍ للكثرات المختارة أولاً” بواسطة ذاتٍ موحِّدةٍ، لكنها كما يرى هيغل “الوحدة التوليفيّة الحقيقيّة أو الهويّة العقليّة” أي “تلك الهويّة التي تكون رابط الكثرة مع الهويّة الفارغة، الأنا”، أو “المفهوم”. من هذه الوحدة التوليفيّة الأصليّة، “الأنا بوصفها الذات المفكرة” و”الكثرة بوصفها جسماً وعالماً يفصلان ذاتيهما أولاً”. لكن لا ينبغي اعتبار الخيال المنتج أو الوحدة التوليفيّة الأصليّة للاستبطان “اصطلاحاً وسطياً” يتموضع من جهةٍ، بين “مطلقٍ موجودٍ” لكن “أنا” شكليّةٍ فارغةٍ للذات الفاهمة، ومن جهةٍ أخرى، “تمايز” الكثرة في الحدس، أي “عالم مطلق موجودٍ”. ويصحّ القول أنّ الخيال المنتج يكمن في أصل الاثنين: الذات الشكليّة للفاهمة، وعالم الموضوعات.

إذاً، هنا أيضاً يكمن مفتاح قراءة هيغل لفكرة الما قبل التوليفي الكانطي، بينما يشير في الوقت نفسه إلى أن أكثر فكرةٍ تأمليّةٍ عند كانط هي التي تبيّن حقيقة الموضوعيّة المطلقة، وتزعم أنّها تزوّد بنقدٍ داخليٍّ لكانط. يرتبط هذا الجانب الأخير بالحقيقة التي تزعم بأنّ كانط أثناء تقديمه الفكرة التأمليّة، في شكل الوحدة التوليفيّة الأصليّة للاستبطان، فإنّه لا يتمسّك بها، لأنّه يردّ تعيين هذا المبدأ التأمّلي إلى الفاهمة فحسب. إنّه “يعبّر عن [الفكرة] و[في ما بعد] يدمرها بوعي من جديدٍ بطريقةٍ واعيةٍ”. الدليل هو التمييز الذي يقوم به هيغل، من جهة، بين ما يسمّى “الهويّة الفارغة” أو “الهويّة الشكليّة” أو “الأنا المجرّدة”، ومن جهةٍ أخرى، “الذات الحقيقيّة” وهي “هويّة توليفيّةٌ أصليّةٌ، إنها المبدأ” أي، مبدأ الوحدة التوليفيّة الحقيقيّة للاستبطان[16]. ويقول هيغل أنّ الاستنباط الترنسندالي لا يمكن أن يُفهم ما لم يميّز المرء “الأنا” الممثلة (المصاحبة) “أنا أفكر الكانطيّة”، التي هي ذات الفكر، عن الوحدة التوليفيّة الأصليّة للاستبطان، أي الخيال المنتج بين “الأنا الفارغة” و”الأنا الحقيقيّة”. فما الذي سمح لهيغل بالتمييز بين هاتين “الأنوين”؟ وما هي علاقة ذلك بمفهوم الخيال المنتج أو الخيال الترنسندالي؟

يريد هيغل أن يبرهن على أنّ الخيال الترنسندالي، الذي يعتبره “الأنا الحقيقيّة” أو الهويّة التوليفيّة الأصليّة، ليس الفاهمة أو “الأنا” المتأمّلة أو الحاكمة أو المصاحبة. هذا كما يناقش هيغل أنّ الفاهمة، “الأنا” المتأمّلة والحاكمة تبدو أولاً كواحدةٍ من المتقابلات المتّحدة أصلاً في الوحدة التوليفيّة الأصليّة. فالوحدة التوليفيّة الأصليّة موجودةٌ في المتقابلين على التوالي، في الفاهمة، التي هي الذات المتأمّلة، وكذلك “المستغرقة” “غير المتميزة” في الكثرة الحدسيّة. غير أنّها من الناحية المنطقيّة ليست حاضرةً بوصفها الهويّة المطلقة للمتقابلات، لكن كهويّةٍ نسبيّة فحسب، إما ضمنيًّا، كما في الكثرة المحسوسة، أو بشكلٍ ظاهر، كما في الفاهمة، التي تميّز ذاتها عن الكثرة، أو حتى أكثر من ذلك في الحاكمة التي تظهر هذا التقابل حرفيًّا، أي بالطريقة التي تكون فيها المحمولات والموضوعات منفصلةً بصرياً[17]. حيث إنّ في الكثرة المحسوسة لا الفارق النسبي ولا الهويّة النسبيّة بينها وبين شكل الفاهمة يصبح ملحوظاً فيها، “الهويّة متماهيةٌ تماماً مع التمايز كما تكون في المغناطيس” في الفاهمة تتضح الهويّة النسبيّة، وكذلك الفارق النسبي، مع الكثرة في الحدس، من خلال الحالة التي تميّز فيها الفاهمة أو التصوريّة نفسها عن المضمون الإمبريقي أو الحس. هذا “التمايز عن” يشير في الأساس إلى التصوريّة (الكانطيّة) اللاسياقيّة؛ فهي تبيّن أن الثنائيّة متجذّرة في التصوريّة اللاسياقيّة. يقول هيغل:” الوحدة التوليفيّة هي مفهومٌ فقط لأنّها تربط التمايز بطريقةٍ يخرج منها أيضاً، ويواجهها في نقيضةٍ نسبيّةٍ. المفهوم الخالص في العزلة هو الهويّة الفارغة. فالمفهوم لا يكون مفهوماً إلا عندما يكون متماهياً نسبياً مع الشيء الذي يواجهه”.

قبِل هيغل بما قاله كانط بأنّ الكثرة لا تُعطى من خلال “الأنا” المصاحبة، لذلك فهي “أنا” فارغةٌ. ذلك لأنّها شكليّةٌ بحتةٌ، فـ “أنا” “الأنا أفكر” متعلقّةٌ بكثرةٍ من تمثلات مضمون الفكر. لكنّه أيضاً فهم أنّ كانط يعني أنّ “الأنا الفارغة” تنبثق بالدرجة الأولى من التماهي المطلق مع الكثرة، بحيث يكون التمييز بين “الأنا” الشكليّة الفارغة وبين الكثرة ثانويًّا بالنسبة للوحدة التوليفيّة الأصليّة، الهويّة المطلقة، التي هي “الأنا الحقيقيّة”، التي تجعل -في الفهم الهيغلي- الأنا الفارغة المصاحبة الشكليّة “أنا” مشتقّةً مقارنةً مع الوحدة التوليفيّة الأصليّة للاستبطان. لكن في هذا يثير الشكوك بكانط، الذي يناقش بوضوحٍ تامٍّ، في الفصل 16 من (B-Deduction)، أنّ “الأنا” المصاحبة في “الأنا أفكر” للوعي الذاتي هي “الأنا” الأصليّة غير المشتقّة لهويّة الوعي الذاتي، التي تنشأ في فعلٍ أصليٍّ لتوليفةٍ قبليّةٍ. (for extensive discussion, see Schulting 2012, esp. Chap. 6). إنّ كون فعل المصاحبة ناشئًا في التوليفة القبليّة لا يسمح بفصلٍ حادٍّ بين الاثنين، بالطريقة التي يقترحها هيغل، أي إنّ “الأنا” الواحدة الفارغة للفاهمة مشتقّةٌ من “الأنا” الحقيقيّة للخيال الترنسندالي وثانويّةٌ لـها (أي الوحدة التوليفيّة الأصليّة). التأسيس هو تأسيسٌ منطقيٌّ، وهو يعني أنّ لكلِّ فعلٍ من أفعال المصاحبة تمثّلاته من خلال “أنا” متأمّلةٍ، هناك حالةٌ من التوليف القبلي، وبالعكس ينتج بطبيعة الحال عن كلِّ حالةٍ من حالات التوليف القبليّة فعل مصاحبةٍ. الوحدة التحليليّة للـ “أنا أفكر” المصطحبة لتمثّلاتها تكون “ذات امتدادٍ واحدٍ دقيق”، كما عبّرتُ عنها في (Schulting 2012)، مع توليفة قبليّة. وهذا يعني عدم إخفاق أيّ توليفةٍ قبليّةٍ في إنتاج فعل مصاحبةٍ من خلال “أنا أفكر”، ولا فعل من أفعال هذه المصاحبة غير مؤسسٍ على توليفةٍ قبليّةٍ. لأنّ ال “أنا أفكر” واستبطان التوليفة الأصليّة تُختزل إلى نفس فعل تفكير الوعي الذاتي، لأنّ كلّ حالةٍ فعليّةٍ من حالات وعي الذات، أي -كما يرى كانط- كلّ حالة حكمٍ فعليّةٍ. لا شيء في تفسير كانط يشير إلى أنّ الفاهمة أو الحاكمة أو ال “أنا أفكر” المصاحبة ليست الاستبطان الأصلي، الذي هو فعلٌ قبليٌّ أصليٌّ للتوليفة أو وحدةٌ توليفيّةٌ أصليّةٌ.

لا يمكنني هنا أن أكرّر القصّة الشديدة التعقيد عن رأي كانط بالوعي الذاتي المتعالي الأصلي، لكن فصل الـ “أنا” التي تصاحب تمثّلاتها عن الوعي الذاتي الأصلي، كما فعل هيغل، ليس مضموناً تماماً على أيّ حالٍ. ليس فقط أنّه غير مضمونٍ، بل أيضاً يزيد من صعوبة كيفيّة انسجام قراءة هيغل مع فكرة كانط الحاسمة حيال الوعي الذاتي من حيث علاقته بفعلٍ حدسيٍّ، ويبدو أنّ هيغل يريد أن يفصل فكرة الوحدة التوليفيّة الأصليّة أو الهويّة عن أيّ نوعٍ من النشاط الصادر عن الذات المفكّرة، وبالفعل عن “الأنا” التي تصاحب تمثّلاتها (هذا يبدو شبيهاً ب McDowell، كما أشرت في الفصل 5). أما بالنسبة لكانط، فإنّ الوحدة التوليفيّة الأصليّة بين الذات والموضوع، بين شكل تفكيرنا والمحتوى المادي في الحس، ليس معطًى أو هويّةً أوليّةً، حتى لو كانت هويّةً قبليّةً، بل هو شيءٌ يحتاج إلى أن يتأسّس في فعل الفاهمة، من خلال ذاتٍ واعيةٍ بفعلها المصاحب، ودمج تمثّلاتها لأجل كلِّ إدراكٍ عابرٍ.

يتهم هيغل كانط بالأمرين، وهو يناقش بطريقةٍ متناقضةٍ مؤكّداً على أنّ الوحدة التوليفيّة الأصليّة تكمن في أصل كلّ دمجٍ ممكنٍ للمتقابلات (الفاهمة والحاسة) ومفترضاً أن الملكة الأساسيّة التي تسبب هذه الوحدة التوليفيّة الأصليّة مناقضةٌ أيضاً لما توحّده، بتعبيرٍ آخر، هي واحدة من المتقابلات في المركّب. وبتعبيرٍ آخر، إنّ الذي يوحّد المتقابلات لا يمكن أن يكون هو نفسه مكوّناً من مكوّنات تلك الوحدة، أي أنْ يكون واحداً من المتقابلات. هذا الاتّهام هو جوهر الزعم الهيغلي بأنّ تفسير كانط متناقضٌ داخلياً، أو على الأقل ليس صحيحاً في حكمه الواعد والأكثر تأمليّة. لكن التناقض المزعوم لا ينشأ إلا لأنّ هيغل يميّز تمييزاً حاداً بين “الأنا” الفارغة و”الأنا” الحقيقيّة، حيث تكون الأخيرة هي وحدة المتقابلات، في حين أنّ السابقة هي مجرّد واحدةٍ من النقائض. وهكذا يثير نقد هيغل سؤالاً واضحاً على مدّعى كانط بأنّ الفاهمة، بواسطة الخيال المنتج في الحاسة، هي بذاتها الوحدة التوليفيّة الأصليّة للاستبطان.

بسبب سوء استبطان التمييز الشكلي البحت بين الـ “أنا أفكر” المصاحبة أي الـ “أنا” التي تعبّر عن الوحدة التحليليّة للاستبطان وبين الأنا الحقيقيّة للوحدة التوليفيّة الأصليّة للاستبطان، يفصل هيغل بطريقةٍ غير عادلةٍ الخيال المنتج عن الفاهمة، وبالتالي يحوّل قليلاً فكرة التوليفة القبليّة -كالتي من منظورٍ شكليٍّ، تجمع المضمون المادي (كما عند كانط) - إلى فكرة توليفةٍ قبليّةٍ حيث يجمع الماقبل الشكل ومبسِّط المضمون المادي، أي على نحوٍ مطلقٍ. وفقاً للمنظور السابق، لم يعد بالإمكان اعتبار الشكل خارجاً عن الجمع الماقبلي بين الشكل والمضمون، لأنّه بذاته جزءٌ من المجموع. إذاً قد لا يكون منطقياً بالنسبة لكانط -كما يحاول هيغل أن يبرهن- الاعتقاد بأنّ المضمون المادي يجب أن يكون فرضاً مسبقاً، أي يجب أن يتم تزويده من خارج الشكل أو المنظور الشكلي للذات الجامعة للفاهمة. لأنّ المضمون والشكل الماديين للفكر متّحدان مسبقاً. لكن إذا كان ادعاء الوحدة في كثرة التمثّلات بالحدس مشروطاً، أي، طالما أنّ الكثرة موحدةٌ بفعلٍ من الفاهمة، فهناك وحدةٌ في الكثرة بالحدس، إذاً لا يوجد عدم ترابطٍ في حجّة كانط بالطريقة التي يزعمها هيغل. ولكن الاتهام بعدم الترابط لا يصمد، لأنّ الوحدة التوليفيّة الأصليّة بالنسبة لكانط ليست على الإطلاق وحدةً بين الصورة والمادة، الذهن والعالم، المبسّط، أو اللامشروط. فقط طالما أنّ المضمون هو ما قبليّةٌ متعيّنةٌ، بواسطة قدرة الفاهمة على الربط بفضل الخيال، هناك وحدةٌ بين الشكل والمضمون، الحاسة والفاهمة. في المقابل، يعتقد هيغل أنّ هذه القوّة الرابطة، أي الوحدة التوليفيّة الأصليّة للاستبطان، هي، ببساطةٍ، حاضرةٌ مسبقاً في الحاسة بشكلٍ أوّليٍّ، ضمنياً، وفقط بعد ذلك تصبح واضحةً في الفاهمة والحاكمة – هذا شبيهٌ باستنتاج ماكدويل (McDowell) بأنّ القدرات التصوّريّة فعّالةٌ مسبقاً في الحاسّة لكنّها لا تتصور بالضرورة في النشاط الاستطرادي أو في الحاكمة (راجع موقف ماكدويل في الفصل الخامس). لكن بالنسبة لهيغل كما بالنسبة لماكدويل لا يكون تفعيل القابليات التصوّريّة التي تربط الشكل والمضمون في الأساس ناجماً عن الفاهمة، أو ناجماً عن فعل الحاكمة، حتى لو كانت واضحةً أو يمكن (أو يجب) أن تُجعل واضحة في الحاكمة من أجل أن ينبثق منها إدراكٌ تصوريٌّ. فوفقاً لهيغل، الخيال المنتج هو المسؤول الوحيد والحصري عن هذا التفعيل في الحاسة.

واضحٌ أنّ هيغل يعتبر الحدس الخالص والمفاهيم الخالصة مجردات، وأشكالاً فارغةً ليس لها وجودٌ مستقلٌ. وفي رأيه يجب اعتبار ثنائيّة الكثرة والفاهمة، والنقيضة، أوليّةً. يقول هيغل: إن الكثرة لا توجد بشكلٍ مستقلٍّ عن مبدأ الوحدة التوليفيّة. وهذا يستبعد بالأساس احتمال المضمون اللاتصوري، المضمون الذي لم يكن مندمجاً مع الصورة المفهوميّة، حتى لو بشكلٍ أوّلي فقط. فلا حقيقة خارج الصورة المفهوميّة، التي يجب على المضمون أن ينطبق عليها بمعنًى تصوريٍّ مبهمٍ. كما أنّ هيغل يحاول في المنطق الكبير أن يبرهن على أنّ فلسفة كانط الترنسنداليّة تفترض بطريقةٍ خاطئةٍ تعارضاً مطلقاً بين صورة الفكر والمضمون المادي، وهذا ما ينبغي أن يضفي الواقعيّة على المفهوم، كما لو كان هذا المضمون، بوصفه طريقنا إلى الواقع، متاحاً أو حاضراً سلفاً وبشكلٍ مستقلٍّ. وهذا ينسجم مع كيفيّة تفسير هيغل لرأي كانط المزعوم القائل أنّ الواقع لا يمكن أن “يُستحضر” من المفاهيم التي تشير إلى نقد كانط للبرهان الأنطولوجي على وجود الله. يقول هيغل، مادة الحس أو المحسوس ليس ما “يجب المصادقة عليه بوصفه الواقع المغاير للمفهوم”[18]. لكن كانط، بالطبع لا يسلّم بأنّ الواقع الموضوعي معطًى خارج التصوريّة المحتومة، بل يفترض أنّ الواقع الموضوعي معطًى (من المنظور التجريبي)، حتى لو لم يكن هذا الافتراض في ما يتصل بذلك مبرراً فلسفياً من قبل، ثم يسعى لتبيين أنّ الواقع الموضوعي قائمٌ بالضرورة على بعض شروط الإمكان إلى الحد الذي يكون فيه ما هو معطًى محدّداً مفهومياً باعتباره واقعاً موضوعياً (من المنظور الترنسندالي). الحس بالنسبة لكانط، ليس هو الواقع، بل هو يشير إليه فقط، من جهةِ جانبه المادي، لا بقدر ما يتعلق بشكله البنيوي (الذي يتوقف على الفاهمة، وأشكال الحدس، المكان والزمان). لكن بالطبع، لا يمكن إنكار وجود مغايرةٍ لا يمكن إزالتها بين آراء كانط وهيغل حيال معنى الواقع الموضوعي[19].

8.5 الخاتمة: “الفكرة التأمليّة”

“من خلال سطحيّة” الاستنباط يرى هيغل أنّ كانط منح امتيازاً لـ”وحدة التأمّل” باعتبارها أعلى وجهة نظرٍ فلسفيّةٍ، وأنّه ما زال متمسّكاً بالمتقابلات: الذهن والعالم، الشكل والمضمون، “أنا” والطبيعة، إلخ. في المقابل، إنّ نظرة هيغل إلى الفلسفة ترى أنّ فكرة “الموضوعيّة المطلقة” هي “النفي المطلق” لهذه المتقابلات، التي تعبّر عن “الواقع الحقيقي الوحيد” الذي يجب أن تسعى إليه الفلسفة الحقيقيّة. فالمثاليّة الحقيقيّة هي الإقرار بأن ليس لأيٍّ من المتقابلات (الجسد / النفس، “أنا” / الطبيعة، الشكل / المضمون/، الذهن / العالم) وجودٌ مستقلٌّ – أي إنّها من حيث هي “لا شيء”. فهيغل يرى هذه المثاليّة الحقيقيّة في قول كانط المأثور بأنّ لا المفهوم ولا الحدس يملك وجوداً مستقلاً (هكذا يقرأها على الأقل)، أو في سؤاله الشهير “كيف تكون الأحكام التوليفيّة القبليّة ممكنةً؟” الذي يعبّر عن هويّةٍ أصليّةٍ للعناصر المتغايرة. لكن لسوء الحظ، عندما يحلّل هيغل حجج كانط في الاستنباط الترنسندالي، فإنّه يرى أنّ المرء يمكن أن يلقي نظرةً خاطفةً فقط على هذه الفكرة من خلال سطحيّة استدلال المقولات”. ويقول هيغل، في حين أنّ فكرة الهويّة الأوليّة لما هو مختلفٌ أو غيرُ متشابهٍ هي تفكير كانط العقلاني الحقيقي -وهو يبدّدها من جديدٍ- من خلال الإعلان عن أن يكون الإدراك المحدود صورةَ المعرفة الصحيحة الوحيدة، بفضل “الهويّة الشكليّة” البحتة للفاهمة.

لكنّني برهنت على أنّ قراءة هيغل لكانط تبدأ من افتراضٍ مختلفٍ تماماً، وهو أنّ المواقف الثنائيّة غيرُ نقديّةٍ، وبالتالي لا أساس لها في الفلسفة الحقيقيّة. والنقطة البدائيّة المنهجيّة لكانط كانت -للوهلة الأولى- مختلفةً تماماً. يفكر كانط بواسطة العناصر القابلة للاختلاف في المعرفة، من خلال التحليل، آخذا بالاعتبار البحث عن وحدتها في المعرفة. وعليه، فالقبليّة التوليفيّة ليست افتراضاً؛ إذ يجب أولاً إثبات أنّها تحصل بفضل “تحليل ملكة الفهم”. ويركّز هيغل على الخاصيّة التوليفيّة للفكر بمعنًى أوسع بكثيرٍ، ليس بالضرورة المعرفة التجريبيّة تماماً، حيث يبدو أن افتراض هيغل الأساسي هو الحقيقة القبليّة التوليفيّة، التي يمكن تبيان أنّها ظاهرةٌ بالطريقة التي نفكر فيها حيال كونها فقط وتحديدا ً في المنطق الكبير. يبحث كلٌّ من كانط وهيغل عن عنصر الوحدة التوليفيّة التي تكمن قبلياً في الفكر، إما بالمعنى الضيّق (كانط) أو بالمعنى الواسع (هيغل)، لكن من زاوية مختلفة: يسعى هيغل بانتظامٍ لوحدة العقل في توظيف المفاهيم، في حين يبحث كانط عن الوحدة التوليفيّة التي تكمن في أفعال الفاهمة في الأحكام التوليفيّة حيال الموضوعات، بقدر ما تكون هذه الموضوعات صحيحةً موضوعياً. وكما يزعم هيغل فإنّ كانط يعمل فعلاً بعبارات تفكيرٍ تفاضليّةٍ (الشكل / المضمون؛ ما قبل / ما بعد؛ الذات / الموضوع؛ أنا / الطبيعة)، لكنّه لا يساوي بين هذه وبين الكيانات الميتافيزيقيّة؛ فهي لا تفيذ إلاّ في التحليل الشكلي لاحتمال المعرفة التجريبيّة. فكانط ليس من المعتقدين بثنائيّةٍ ميتافيزيقيّةٍ. لكن هيغل يتهم كانط بـ “تثبيت” أو “إطلاق” عبارات التأمّل في مقابلها، مشيراً إلى أنّ كانط يعطيها وضعاً ميتافيزيقياً. ونتيجة هذا “التثبيت”، وفقاً لهيغل، هي أنّ المرء لا يمكن أن يحقّق الوحدة العقليّة الحقيقيّة، أعني الوحدة من منظور العقل (مقابل الوحدة من منظور الفاهمة الضيق) بين عبارات التأمل المختلفة، والوحدة غير المشروطة بين الذات والموضوع، الصورة والمادة، الذهن والعالم، الفكر والوجود، إلخ.

لكن لا يمكن نفي الفارق بين مقاربات هيغل وكانط في نموذج الديالكتيك الهيغلي، ذلك لأنّه رغم تركيزهما المشترك على الوحدة التوليفيّة في الفكر فإنّ منهجيهما وافتراضاتهما الابتدائيّة مختلفةٌ تماماً. وباختصار، إنّ نقد هيغل لكانط يثير التساؤل حول المنهج الفلسفي عند كانط ذاته الذي يرتكز على المنطق الاستطرادي، بالتالي لا يمكن أن يكون نقداً داخلياً إذا لم يقبل المنهج الفلسفي (أو على الأقل يحسب حساباً للفوارق المنهجيّة، التي فشل هيغل في تحديدها). إنّ نقد هيغل لمنطق كانط الاستطرادي صحيحٌ بقدر قبولنا بافتراضات هيغل العامة حيال ما يفترض أن تكون فلسفة هيغل؛ لكن أيّ نقدٍ لكانط يجب أن يأخذ هذه الافتراضات بنظر الاعتبار. إذ لا يوجد نظامٌ فلسفيٌّ ذو وجهة نظرٍ حياديّةٍ، على الرغم من أنّ اعتقاد هيغل الأساسي يقول بالتحديد أنّ الفلسفة يجب أن تكون حياديّةً في وجهة نظرها، وأنّ مثاليّتَه المطلقة توفّر الوسائل المناسبة لتكوين وجهة النظر المحايدة هذه. فانحياز هيغل هو الانحياز الذي يسعى بانتظامٍ إلى وحدة الفكر من داخل منظور العقل الواسع، وهو الذي يسأل السؤال عما هو عقليٌّ، في حين أنّ تركيز كانط على الوحدة موجّهٌ لتبرير توظيف المفاهيم الماقبليّة لا سيّما في الأحكام المتعلّقة بالموضوعات، أي من أجل الحصول على مزاعمَ معرفيّةٍ تجريبيّةٍ مبررةٍ بالعالم. إن ّهدف هيغل أكثر ارتباطاً بالتماسك أو الترابط الداخل تصوري لهذه المزاعم المعرفيّة أو لغيرها من المعارف أو توظيف المفاهيم في السياق الأوسع لاستعمال المفهوم وشروطه المنهجيّة والتاريخيّة[20].

وبالإجمال نقول أنّ النقد الهيغلي القائل بوجوب اعتبار أنّ منهجيّة كانط الفلسفيّة ناتجٌ عن تناقضات في الفكر الكانطي، أو أنّ كانط بنفسه أشار إلى وجهة النظر الحياديّة للمثاليّة المطلقة، أي الفكرة التأمليّة للهويّة المطلقة، حتى لو كانت أوليّةً، أخفقت، كما بيّنت، لأنّ هيغل أخطأ في فهم العلاقة الحميمة بين “أنا” الفاهمة المصاحبة (المزعوم أنّها تأمليّة بحتة) والوحدة التوليفيّة الأصليّة التي أصاب في ربطها بالخيال المنتج، لكنّه أخطأ في فصلها عن الفاهمة. وعليه مهما كان فضل الاعتقادات الفلسفيّة لهيغل ونتائج نقده لكانط على فكر كانط نفسه، فإنّ ما يسمّى نقد هيغل الداخلي لكانط لا يمكن أن يصمد أمام التحقيق.

--------------------------------

دينيس شولتنغ : أستاذ الميتافيزيقا وتاريخها في جامعة أمستردام، هولندا، ومتحصلٌ على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة وارويك، المملكة المتحدة، في عام 2004. وهو متخصصٌ في كانط والمثاليّة الألمانيّة، وبالتحديد في قضايا فلسفة العقل ونظريّة المعرفة والميتافيزيقا.

ـ العنوان الأصلي للبحث: On Hegel’s Critique of Kant’s Subjectivism in the Transcendental Deduction

ـ المصدر: هذا المقال عبارةٌ عن الفصل الثامن من كتابٍ للمؤلف دينيس شولتنغ جاء تحت عنوان:

Kant’s Radical Subjectivism: Perspectives on the Transcendental Deduction

 ـ ترجمة: طارق عسيلي.

ـ مراجعة: فريق الترجمة والتحرير.

[2]- Cf. Pippin (2005: 32). See also my discussion of Pippin’s views in Chap. 3 (this volume).

[3]- See, by contrast , Houlgate ( 2005), who believes there is a chasm.

between Hegel’s critique of Kant in Faith and Knowledge and Hegel’s later philosophy . My view in this respect agrees with that of Sedgwick (2012).

[4]- انظر(especially Houlgate ( 2015 ) and Ameriks (2015 .

[5]- أنا أمتنع أيضًا عن التعليق على كتاب هيغل الثاني حول نقد هيغل لفلسفة كانط النقديّة. يمكن ايجاد مناقشات مهمة في:

Ameriks (2000, 2015) , Bowman (2013), Bristow (2007), Düsing (1995 , 2013), Ferrarin (2016), Gِrland (1966), Horstmann (2004) , Houlgate (2005 , 2015) , Longuenesse

(2015, Part II), Kreines (2015) , McDowell (2009) , Pippin (1989, 1993, 2005, 2014, 2016), Redding (2010), Sedgwick (1992, 1993, 2001, 2005, 2012), the essays in Verra (1981) and Westphal (1996, 2000). See also my

review of Bristow’s book in Schulting (2009) and my review of Sedgwick (2012) in Schulting (2016a). I discuss Pippin’s reading of Hegel’s critique of Kant extensively in two separate essays (Schulting 2016b, c).

[6]- Sedgwick (2012, passim) highlights this element of Hegel’s critique of Kant: conceptuality and sensibility are mutually determining, in contrast to Kant’s emphasis on the determination, by the understanding, of sensibility, as the merely determinable.

[7]- المناقشة التامة هي مجرد تحليل للتجربة وفرضياتها.

an absolute antithesis (Antithesis) and a dualism” (GuW, 4:334/FK, 78).

[8]- (M*) بالضرورة لو رأينا الحدس مساهما بالمعرفة الممكنة بالموضوعات، فاذا الحدس مصنفٌ تحت المقولات بوصفها الشروط المفهومية التي تكوّن شروط المعرفة تحتها ممكنة.

[9]- See further my account in Schulting (2016b).

[10]- يبدو أن هذا يتعارض مع تفسير هيغل المتأخر لمدعى كانط الأساسي القائل أن الموضوعية ليست إلا وحدة الوعي الذاتي، لكن وحدة الوعي الذاتي المقصودة هنا هي “الأنا” الحقيقية، التي يتحدث عنها هيغل في الايمان والمعرفة لا ما يسميه “الأنا” المتأملة للأنا أفكر التي تصاحب تمثلاتي، وهذا ما يرفضه باعتباره أمبريقيًّا بحت. See further Sect. 8.4..

[11]- See Schulting (2012, Chap. 8). See also Chap. 9 (this volume).

[12]- See also WL, 12:21–22, نقد هيغل لكانط هنا ليس اعتباطيا، لأن الادعاء أن ذاتية كانط ليست مسموحةً ناتجٌ عن اعتقاد هيغل أن الكثرة في الحدس منفيةٌ بالمفهوم، وهذا يبين عن جوهره، وكذلك يمكن الادعاء في النهاية أن المفهوم من جديدٍ يمكن أن ينطبق على الكثرة في الحدس.

[13]- لكن انظر (see Schulting 2016c) لرأي أفضل عن العلاقة بين المنطق الميتافيزيقي بين كانط وهيغل.

[14]- See e.g. Westphal (2000).

[15]- لاحظ أن كانط لا يرى وحدة التوليف الماقبلي كنتيجة لفعل الجمع بل يراه كامناً في أساس أي جمعٍ ضروريٍّ، راجع: (see B129–31). Cf. Schulting (2012:141ff.)..

[16]- Cf. Sedgwick (2005).

[17]- الحاكمة نموذجيةٌ بالنسبة للهوية النسبية للأنا الشكلية أو الهوية الشكلية للفاهمة المشتقة عن الأنا الحقيقية المؤسسة لها. الأنا الحقيقية هي الهوية الأصلية التي تشطر ذاتها، وتبدو مفصولةً داخل شكل الحاكمة، كموضوعٍ ومحمولٍ أو جزئيٍّ وكليٍّ.

[18]- ناقش هيغل في المنطق أن الحقيقة هي في الواقع مشتقةٌ أو صادرةٌ عن المفهوم على عكس رأي كانط بأن الوجود لا يمكن أن ينتج من خلال الفاهمة أو العقل. الواقع ليس شيئا خارجيا برأي هيغل، بل يجب أن يشتق من المفهوم ذاته في ما يتوافق مع اللوازم العلمية. الحس أو الحدس ما قبليان بالنسبة للفاهمة المفهومية بقدر ما يتم توضيح أن العقل هو شرطها.

[19]- See further Schulting (2016c).

[20]- See further the discussion in Schulting (2016c).