البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

نقد نظرية الوجود الهيغلية، رؤية العلامة مرتضى مطهري

الباحث :  علي دجاكام
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  14
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2019 م / 1440 هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 16 / 2019
عدد زيارات البحث :  2395
تحميل  ( 449.071 KB )
يعتبر الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم فريدريش هيغل أحد أشهر فلاسفة العصر الحديث، وقد حظيت معظم نظرياته الفلسفيّة بمكانةٍ رفيعةٍ لا يمكن إنكارها، وتضمّنت كثيراً من الأصول والقواعد الصحيحة التي أمست في ما بعد مرتكزاتٍ للنظريات الفلسفيّة الجديدة التي طرحت في الفكر الماركسي وفي مبادئ الفلسفة الوجوديّة. والحقّ أنّهم لم يبالغوا حينما قالوا أن هيغل أحدث ثورةً في الفلسفة الغربيّة.

هذه الدراسة تضيء على رؤية الفيلسوف العلامة الشيخ مرتضى مطهري للفلسفة الهيغليّة في الميدان الأنطولوجي حيث تتركز على مبحث الوجود عند هيغل ونقدها الاستثنائي لعلم الإلهيات الإسلامية.

المحرر

-----------------------------

الوجود حسب مبادئ نظريّة هيغل يعدّ أعلى المقولات مرتبةً، وقد طرح هذا الفيلسوف السؤال الآتي ثمّ أجاب عنه: ما الدليل على كون الوجود أعلى المقولات مرتبةً؟ وقد تسلسل في الإجابة من المراتب المتقدّمة، إذ قال أنّ الجنس هو أحد المعاني التي تصدق على الموجود وهو مقدّمٌ على الفصل، ثمّ استدلّ بالمثال الآتي: حينما تكون لدينا منضدةٌ صلبةٌ لونها بنّيٌّ برّاقٌ، فإنّنا حتّى وإن جرّدناها عن لونها لكنّنا لا نستطيع أن نجرّدها عن حقيقتها، إذ تبقى منضدةً، وكذلك قد نتمكّن من تجريدها عن صلابتها وفي هذه الحالة أيضاً تظلّ منضدةً كما هي حقيقتها. ولكن إن جرّدناها عن وجودها فعندئذٍ لا تبقى على حقيقتها، أي إنّها ليست منضدةً بعد ذلك.

يريد هيغل من هذا المثال إثبات أنّ الوجود بمنزلة الجنس، وسائر الصفات بمثابة الفصل.

- نقد نظريّة هيغل

ذُكر على نظريّة هيغل إشكالٌ لا يرتبط بمسألة الوجود، لذا قد لا يمسّ بأصل استدلاله، وهو: حسب تعاليم مدرسة أرسطو فالمنضدة لها مادّةٌ وصورةٌ وصفاتٌ، ولنفرض أنّ مادّتها من الخشب أو المعدن، والصورة هي الميزة التي تجعلنا نطلق عليها عنوان (منضدة)، أي إنّها صنعت بشكلٍ جعلها تتّصف بهذا الأثر الخاصّ؛ وهذه الأمور هي التي تقوّمها وتجعلها مصداقاً لعنوان (منضدة). أمّا سائر الصفات مثل صلابتها ولونها البنّي البرّاق فهي عوارض غير مقوّمةٍ لها، لأنّ المقوّم هو ذات الصورة أو المادّة أو كلاهما، أي إنّنا لا نتحدّث هنا عن معنى الوجود، فهي تبقى موجودةً أيضاً حينما نسلب منها صورة المنضدة ونجعلها بصورة كرسيٍّ، وهنا نكون قد جرّدناها عن ماهيتها السابقة وصوّرناها في ماهيّةٍ جديدةٍ.

لو تساءل أحدٌ بالقول: شيئيّة الموجود إنّما تتحقّق بصورته فقط لا بمادّته، نقول له أنّ كلامك صحيحٌ، إذ حتّى وإن تغيّرت مادّة المنضدة فهي تبقى منضدةً ولا فرق في ذلك بين كونها خشبيةً أو معدنيّةً أو مطّاطيّةً، لأنّ الصورة هي الأساس. بحثنا هنا لا يتمحور حول دخول المادّة والصورة بنسبةٍ واحدةٍ في ماهيّة الشيء، وكذلك لسنا بصدد إثبات أن الصورة هي الأساس، لأنّ هذه المسائل لا تأثير لها على موضوع بحثنا. ما نحن بصدده هنا هو ذلك الأمر الذي إن جرّدنا الماهية منه تصبح معدومةً ويصدق عليها أنّها غير موجودةٍ، وكذلك الأمر الذي إن جرّدنا الماهيّة منه فهي لا تنعدم ولكنّها تصبح ماهيةً أخرى، كما لو قلنا إن هذه الماهيّة التي كانت منضدةً لم تعُد كذلك لأنّها أصبحت كرسياً بعد أن سلبنا صورتها السابقة وأضفينا عليها صورةً أخرى، لذا فهي ليست معدومةً. تدرّجنا في هذا الكلام لنصل إلى رأي هيغل الذي ذهب إلى القول بأنّ تجريد الشيء عن وجوده يعني انعدامه وزوال شيئيّته، وقد ردّ عليه حكماؤنا بالآتي: الجنس عبارةٌ عن شيءٍ له قابليّة على تكوين ماهيّةٍ ما بالاشتراك مع الأجزاء الأخرى، إلا أنّ القضيّة المطروحة هنا هي عدم اتّساق الجنس مع الفصل، فليس أيٌّ منهما جزءاً للآخر، بل هما جزءان للنوع الذي يجمعهما، أي إنّ الجنس هو جنسٌ للنوع لا للفصل، والفصل بدوره هو فصلٌ للنوع لا للجنس؛ لذا إن اتّصفت الأجناس والفصول بشيءٍ غير الوجود - بالمعنى العامّ - فلا إشكال في ذلك، ولكن إذا عددنا الوجود هو الجنس المضاف إلى الفصل الذي هو شكل المنضدة من حيث كونها صلبةً وبنّيةً وبرّاقةً، وعددنا هذه الأشياء هي التي أوجدت ماهيّتها، فعندئذٍ يطرح السؤال الآتي: هل إنّ الفصول موجودةٌ في الأساس ثمّ أُضيفت للوجود أو أنّها غير موجودةٍ؟ هذه الفصول بحدّ ذاتها - في نفس الأمر - إمّا أن تكون موجودةً أو غير موجودةٍ، فإذا قلنا أنّها غير موجودةٍ بذاتها وقد أُضيفت للوجود فهذا يعني أنّها معدومةٌ ولكنّ الوجود موجودٌ، وبالطبع لا يمكن الحصول على جنسٍ وفصلٍ من انضمام موجودٍ إلى معدومٍ. من المؤكّد هنا أنّ الفصول لا يمكن أن تكون معدومةً، وهيغل أيضاً لا يريد أن يقول بعدميتها، وهنا نذكّر بوصفه للوجود بكونه أعلى المقولات، فهو يقصد من ذلك أنّه المظلّة التي يستظلّ تحتها كلّ شيءٍ فهو الأمر الذي تتصوّره أذهاننا خارجاً عن الماهيات ولكنّه في واقع الحال محقّقٌ في كلّ شيءٍ. عندما نقول (هذه منضدة) فهذا يعني أنّها موجودةٌ، وعندما نقول (لونها بنّي) فهذا يعني أنّ اللون البنّي موجودٌ، وعندما نقول (برّاقة) فهذا يعني أنّ البريق موجودٌ؛ ولكن ليس من الضروري أن تمتاز سائر الأشياء بهذه الصفات، لذا يمكن عدّها دليلاً على أصالة الوجود الذي لا يتّصف بما تتّصف به.

ولتقريب الاستدلال نقول: إمّا أن تكون هذه الصفات حقائق انتزع الذهن منها مفهوم الوجود، وإمّا أن يكون الوجود هو الحقيقة الوحيدة وكلّ هذه الصفات من صناعة الذهن؛ وعلى هذا الأساس لا يمكن تنصيفها وادّعاء أنّ أحد نصفيها وجودٌ والنصف الآخر ماهيّةٌ. إذا عددنا الوجود هو الجنس وجعلنا له فصلاً، فهذا الفصل لا بدّ من أن يكون موجوداً ليكون فصلاً، إذ لو كان معدوماً لا يمكنه بتاتاً أن يكون فصلاً حينئذٍ؛ وعلى هذا الأساس فهو ما دام موجوداً فلا مناص من كونه جنساً لأنّ كلّ وجودٍ جنسٌ، ومن ثم  لا بدّ من وجود فصلٍ لهذا الجنس؛ وهذا يعني كينونة هذا الفصل فصلاً لفصلٍ آخر، ومرّةً أخرى ينتقل الكلام إلى فصل الفصل كما فعلنا في بادئ البحث، ومن ثمّ تصبح لدينا أعدادٌ غير متناهيةٍ من الفصول والأجناس.

إذاً، استناداً إلى ما ذكر لا يمكن عدّ الوجود جنساً في مقابل الفصل، وكما ذكرنا آنفاً فالوجود يعمّ كلّ شيءٍ وبما في ذلك الفصل لجميع الأنواع، فالأمر الأعمّ الذي يشمل جميع الأشياء من أجناسٍ وأنواعٍ وفصولٍ - سواءً أكان اعتبارياً أم حقيقياً - لا يمكن عدّه جنساً وادّعاء أنّ سائر الفصول تنضوي تحت مظلّته، كذلك ليس من الصواب ادّعاء أنّه فصلٌ وسائر الأشياء أجناسٌ له؛ وهيغل نفسه أكّد على أنّه أعلى المفاهيم والمقولات، لذا لو دقّق في معنى دلالة (أعلى) لما عدّه جنس الأجناس، إذ إنّ معنى كون الوجود أعلى المقولات هو شموله كلّ الأشياء بحيث لا يمكن عدّه في مقابل أيّ شيءٍ كان أو القول بأنّه جزءٌ من شيءٍ آخر، إذ إمّا أن يكون هو وسائر الأشياء تعيّناتٍ من وضع الذهن، أو أن تكون سائر الأشياء تعيّناتٍ ويكون هو مفهوماً انتزاعياً، لذلك لا يمكن تصوّره إلى جانب الأشياء الأخرى.[2]

- الوجود والعدم

الوجود هو أوّل المقولات التي بدأ هيغل بالبحث فيها، حيث قال: إنّ الوجود هو ذات الوجود لا أنّه وجود شيءٍ معيّنٍ، فهذا الشيء المعيّن إن أخذناه بنظر الاعتبار لوجدناه عدماً بذاته لا عدم وجودٍ. هذه الفكرة في الحقيقة هي نقطة انطلاق فلسفة هيغل، ولكنّ البحوث الفلسفيّة التي طرحها الحكماء المسلمون تتقدّم رتبةً على بحوث هيغل، فقد كانت بدايتهم صحيحةً وهي طرح المسألة الآتية للبحث والنقاش: هل إنّ الوجود بما هو وجودٌ يعدّ فراغاً محضاً؟ أو إنّه عدمٌ؟ أو إنّه الحقيقة بذاتها والماهيات تعدّ فراغاً محضاً بغضّ النظر عنه؟ ومعنى العبارة الأخيرة هو أنّنا إذا نسبنا الوجود إلى الموجود (أ) فهو فراغٌ محضٌ لا أنّ وجوده فراغٌ محضٌ.[3]

- الماهيّة في فلسفة هيغل

تبنّى هيغل وأتباعه مبدأ تبدّل الكمّية إلى النوعية في عالم الطبيعة، ومعنى ذلك أنّ الأشياء تطرأ عليها تغييراتٌ كمّيةٌ متواصلةٌ سوف تصل إلى مرحلة التغيير الأقصى فتتحوّل إلى تغييراتٍ نوعيّةٍ - كيفيّة - ولكنّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هو السبب في تحوّل التغييرات الكمّية إلى نوعيةٍ حينما تصل درجة الذروة؟

يا ترى لِمَ يتحوّل الماء المغليّ إلى بخارٍ؟ فما السبب الذي جعل التغيير الكمّي الذي طرأ عليه يتحوّل إلى تغييرٍ نوعيٍّ؟ ألا يمكن عدّ تبخّر الماء تغيّراً كمّياً؟ قيل في الإجابة عن هذا السؤال أنّ الماهيّة هنا تغيّرت، فهي قبل نقطة التحوّل والانقلاب كانت لدينا ماهية (ماء) وبقيت على حالها إلى أن وصلت نقطة الذروة لتتحوّل إلى (بخارٍ)، وفي هذه الحالة لا يمكننا إطلاق عنوان (ماء) عليه. هذا الكلام يثبت أنّ هيغل وأتباعه أقرّوا بوجود الماهيّة وقالوا بأنّها تتغيّر إثر تغيّر القوانين الخاضعة لها، أي إنّ القوانين الحاكمة على الناتج الجديد تختلف عن تلك القوانين التي كانت حاكمةً على أصله، وهذا يشير إلى حدوث اختلافٍ ماهويٍّ. إذاً، تحوّل الكمّ إلى كيفٍ هو في الحقيقة من مباحث الماهيّة.[4]

- إنكار الماهيّة في فلسفة هيغل

أحد الآراء التي طرحها الفيلسوف هيغل يستتبع إنكار الماهيّة، حيث يقول بأنّ أجزاء العالم تسير نحو الارتباط مع بعضها البعض وماهيّتها هي عين هذا الارتباط، وقد توصّل إلى هذه النتيجة بعد أن قام بطرح نظريّته ابتداءً من المسائل الذهنيّة. استناداً إلى هذا الرأي فالإنسان عبارةٌ عن سلسلةٍ من العلاقات التركيبيّة التي تربطه بسلسلةٍ من الأشياء الأخرى، وكذا هو الحال بالنسبة إلى الأرض والسماء، بمعنى أنّ الأشياء كلّها ليست سوى إضافاتٍ، لذا عندما تتغيّر هذه الإضافات سوف تتغيّر ماهياتها.

 أمّا أتباع نظريّة هيغل من الديالكتيكيين فقد تطرّقوا إلى هذا الموضوع من زاويةٍ مادّيةٍ خلافاً لهيغل الذي تناوله في إطارٍ ذهنيٍّ، وقالوا أنّ كلّ شيءٍ هو عبارةٌ عن نوع ارتباطٍ مع سائر الأشياء، وليس للأشياء ذاتٌ بالإضافة إلى الارتباط، أي إنّ الارتباط هو عين ذاتها، فالميتافيزيقيا هي التي تحكم بأنّ الإنسان الذي يذهب إلى القمر يبقى إنساناً أو لا يبقى كذلك، وهذا الحكم بالتأكيد عائدٌ لنوع الارتباط. وقد اعتمد هؤلاء على بعض الأصول العلميّة لإثبات مدّعاهم، ومن جملتهم المفكّر (أنور خامه) الذي حاول ذلك لكنّه لم يفلح. لا شكّ في عقم رأيهم هذا، فكما ذهب القدماء إلى القول بحركة الأشياء، ذهب الديالكتيكيون إلى أنّ الأشياء هي عين الحركة، وهناك من قال بارتباط الأشياء في ما بينها، وهم قالوا أنّها عين الارتباط، وإن قلنا بكون الأشياء متحرّكةً فمعنى ذلك أنّ الشيء يكون في حالة حركةٍ دائمةٍ ويبقى هو نفسه في جميع الأحوال السابقة واللاحقة، ولكن إن عددناه عين الحركة فهو ليس بذاته في الأحوال السابقة واللاحقة. فضلا عن ذلك يترتّب على قولنا بترابط الأشياء في ما بينها أنّ تغيّر هذا الارتباط لا يغيّرها - أي لا يغيّر ماهيّاتها - بل تبقى على حالها، ولكن إن قلنا بأنّ الأشياء هي عين الارتباط ففي هذه الحالة تتغيّر ذاتها - أي تتغير ماهياتها - وهذا ما يترتّب على رأي هيغل ومن حذا حذوه.

إذاً، نستشفّ من نظريّة هيغل إنكار الماهيّة، في حين أنّ الفلاسفة يقولون بأنّها جوهرٌ يقبل الارتباط والنسبة والإضافات ومختلف الأعراض.[5]

- العلّة الأولى وحقيقة العالم

معظم آراء فريدريش هيغل تختلف عن آراء الفلاسفة الذين سبقوه، فقد تساءل قائلاً: ما معنى الفلسفة؟ وأجاب عن هذا السؤال بقوله: الفلسفة تعني بيان حقائق عالم الوجود. ثمّ طرح السؤال الآتي: كيف نتمكّن من بيان حقائق عالم الوجود؟ فأجاب: إلى هذه اللحظة حاول الفلاسفة بيان حقائق العالم عن طريق بيان مبدأ العلّية، لكنّ هذا الأسلوب متقوّمٌ على قياسٍ خاطئ، إذ أدركوا أنّه من الممكن بيان القوانين الحاكمة على الأمور الجزئيّة عن طريق العلّية وقوانينها، مثلاً حينما نسألهم عن سبب انجماد الماء يقولون أنّ انخفاض درجة الحرارة دون الصفر تؤدّي إلى ذلك، وعندما نسألهم عن سبب تبخّره حينما يغلي يقولون أنّ ارتفاع درجة الحرارة وبلوغها 100 درجة مائويّة هو السبب في ذلك. تصوّر هؤلاء أنّ حقائق الكون يمكن بيانها على أساس مبدأ العلّية، ولكنّ هذا الأمر ضربٌ من المحال، وذلك لما يأتي: لنفرض تنزّلاً أنّهم على حقٍّ، فنقول إنّ الأمر كذا معلولٌ لكذا علّةٍ، وهذه العلّة معلولةٌ لكذا أمرٍ، وهذا الأمر بدوره معلولٌ لعلّةٍ أخرى، وهلمّ جرّاً ولا ندري هل نصل إلى نتيجةٍ أو لا نصل مطلقاً. لو أنّنا لم نصل إلى نتيجةٍ فهذا يعني جهلنا بحقائق العالم، مثلاً حتّى وإن وضّحنا حقيقة (أ) بالعلّة (ب)، فإنّ (ب) أيضاً بحاجةٍ إلى توضيحٍ، لذا حينما نبحث عن العلّة سنجدها (ج)، وهذه العلّة هي الأخرى بحاجةٍ إلى توضيحٍ ودواليك إلى ما لا نهاية، ومن ثم  لا نتمكّن من بيان حقيقة العالم.

حتّى وإن وصلنا إلى العلّة الأولى التي هي على رأس جميع العلل، فسوف يتوقّف بياننا للعالم، والفلسفة في هذه الحالة تكون عاجزةً عن أداء دورها، إذ كيف يمكنها بيان حقيقة العلّة الأولى؟! كما لا يمكنها بيان سبب كونها علّةً أولى. إذاً، هذا هو السبب في عجز العلماء المادّيين وكذلك علماء اللاهوت عن بيان حقيقة العالم، لأنّهم أرادوا ذلك على أساس مبدأ العلّية، فمنهم من قال بأنّ الله هو علّة العلل، ونحا بعضهم منهجاً سوفسطائياً وعدّ الذهن علّةً للعلل، في حين أنّ المادّيين أكّدوا على كون المادّة هي علّة العلل؛ ولكنّهم جميعاً لم يفلحوا في بيان حقيقة العلّة الأولى.

بعد ذلك أكّد هيغل على ضرورة الاعتماد على البرهان بغية بيان حقائق العالم، إذ لا فائدة من مبدأ العلّية على هذا الصعيد، فهناك اختلافٌ بين العلّة والمعلول من جهةٍ، وبين الدليل والنتيجة من جهةٍ أخرى؛ وتوضيح ذلك في المثال الآتي: لنفرض أنّ (أ) يساوي (ب)، و (ب) يساوي (ج)، إذاً (أ) يساوي (ج). هذه النتيجة في الواقع لا صلة لها بقانون العلّية، إذ لا (أ) علّةٌ لـ (ب) ولا (ب) علّةٌ لـ (ج)، وكذلك ليست الفرضية علّةً للنتيجة، أي إنّها ليست علّةً لأن (أ) يساوي (ج)، إلا أنّ القاعدة ليس لها سوى هذه النتيجة، وهذا هو حكم العقل.

إضافةً إلى ما ذكر فقد قال هيغل أنّ الفلاسفة أخطأوا في الأمور الجزئيّة أيضاً بعد أن تصوّروا إمكانيّة بيانها على أساس قانون العلّية، وهذا يعني أنّ بيان حقيقتها باطلٌ. لذا لو سُئل: ما السبب في انجماد الماء؟ فحسب رأي هذا الفيلسوف وأتباعه ليس من الصواب الإجابة بأنّ انخفاض درجة الحرارة إلى ما دون الصفر هي السبب في ذلك. وعندما نسأل: لِمَ يتجمد الماء عندما تنخفض درجته إلى ما دون الصفر؟ ولِمَ لا يحدث العكس؟ وإن حدث العكس فكيف ستكون حالة الماء؟ هل إنّ انعكاس هذه الحالة يعني حدوث تناقضٍ في الكون؟ ما المشكلة في ما لو انخفضت درجة حرارة الماء إلى ما دون الصفر فتبخّر؟ فالإجابة هنا لا يمكن عدّها استنتاجاتٍ عقليةً بحتةً، بل التجربة أثبتت لنا ذلك، أي إنّنا عرفنا قانون العلّية في هذا الصدد عن طريق التجربة التي هي المعيار، فقد لمسنا بالتجربة أنّ (أ) علّةٌ لـ (ب)، و (ب) علّةٌ لـ (ج)، وهذه الخصوصيّة لاحظناها في مختلف جوانب حياتنا بشكلٍ متوالٍ ومتواصلٍ، لذلك استنتجنا منها إجاباتنا؛ وحتّى لو حدث عكس ما لاحظنا لما كانت هناك مشكلةٌ والعقل لا يحكم باستحالة ذلك.

نقول لمن تبنّى هذه النظرية: من الخطأ بمكانٍ تصوّر أنّ العلم والتجربة لهما القدرة على بيان حقائق الكون، والواقع أنّهما لم يتمكّنا من ذلك وغاية ما في الأمر أنّهما وضّحا ذلك الشيء الموجود والمتحقّق بشكلٍ ملموسٍ من دون توضيح سبب وجوده ومن دون بيان السبب في حدوث عكسه.

يعتقد هذا الفيلسوف أنّنا بحاجةٍ إلى بيان حقائق الأشياء حينما تكون هناك ضرورةٌ منطقيةٌ، ولكن شريطة أن تكون النتيجة مستبطنةً في الدليل نفسه بحيث نتوصّل إليها عبر شرحه وتحليله، ومثال ذلك: إذا افترضنا أنّ (أ) يساوي (ب)، و (ب) يساوي (ج)، والنتيجة هي أنّ (أ) يساوي (ج)؛ فهذا لا يعني أنّنا توصّلنا إلى هذه النتيجة عن طريق معرفة قيمة (أ) ثمّ قيمة (ب) ولاحظنا أنّهما متساويان، ومن ثمّ تعرّفنا على قيمة (ج) ولاحظنا أنّها تساوي قيمة كلٍّ من (أ) و (ب) فتوصّلنا إلى نتيجة أنّ (أ) يساوي (ج) حسب القواعد المنطقية. لقد توصّلنا إلى هذه النتيجة لأنّنا لاحظناها هكذا، والمنطق يقتضي أن تكون بهذا الشكل.

وقد ادّعى أنّ المبادئ الفلسفية التي طرحت في العالم حتّى الآن لا تعتبر فلسفيّةً في واقع الحال لأنّها ترتكز على قانون العلّية، فالعلم فقط هو الذي يجب أن يعتمد على هذا القانون، وذلك من منطلق كونه يذكر تفسيراً مقتضباً لحقائق الأشياء، ومن هذا المنطلق فهذا القانون يفيدنا على الصعيد العملي فقط، بل إنّ ما نستحصله منه ليس تفسيراً في الواقع؛ في حين أنّ الفلسفة تهدف إلى بيان حقائق الكون بأسره.[6]

وبالنسبة إلى خلقة الكون فقد رأى هيغل عدم ضرورة البحث عن العلّة الفاعلة لأنّ العقل يحكم ببطلان التسلسل وفي الحين ذاته يبحث عن العلّة الأولى، وقال: «حتّى لو عرفنا العلّة الأولى فإنّ لغز الخلقة يبقى مضمراً، ومن ثم  يبقى السؤال الأساسي مطروحاً، وهو: لِمَ أصبحت العلّة الأولى علّةً أولى؟ لذا إن أردنا وضع حلٍّ لهذا اللغز، علينا معرفة غاية الوجود أو سببه، فلو عرفنا السبب الذي يحكم به العقل في هذا الصدد سوف نقتنع ولا نبحث حينها عن علّةٍ أخرى، ومن البديهي أنّ كلّ أمرٍ لا بدّ من أن يكون له تفسيرٌ معقولٌ، إلا أنّ نفس التفسير لا يمكن أن يفسّر».

نقول في نقد هذا الكلام: حسب مبادئ فلسفة أصالة الوجود فإنّ العلّية الموجودة بين الموجودات هي غير العلّية الموجودة بين الماهيات، لأنّ العلّة طبق هذه المبادئ الفلسفيّة توضّح المعلول، وهذه المسألة مطروحةٌ في أعلى مراتب المعرفة، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ العلّية - اللمّية - التي تعني معرفة المعلول عن طريق علّته، تعدّ إحدى أهمّ البراهين، لكنّ هيغل يقول بمعرفة العلّية لكن عبر التجربة فقط، وهذا يعني أنّ التجربة عبارةٌ عن قضيّةٍ وجوديّةٍ وليست ضروريةً؛ وكلامه هذا صحيحٌ ودقيقٌ ويتناسب مع ما ذهب إليه الآخوند الخراساني في مبحث اتّحاد العاقل والمعقول.

قال بعض العلماء أنّ اللمّية هي مناط علم الخالق تعالى، بمعنى أنّ ذاته المباركة علّةٌ تامّةٌ للكائنات، وهو تعالى له علمٌ بذاته، وبما أنّ هذا العلم هو علّة الكائنات، فالنتيجة أنّه علمٌ بها. هناك من اعترض على هذا الاستدلال وقال: إذا كان العلم هو نفس العلم الحصولي والتصوّري، بمعنى أنّه العلم بالماهيات، فهذا الكلام مردودٌ بداعي أنّ العلم بالماهيّة ليس علماً بعلّتها، ومن المستحيل أن يكون علم الخالق تعالى تصوّرياً، إذ يترتّب على ذلك كون علمه انفعالياً؛ ولكن إذا كان العلم علماً بالوجودات لا بالماهيات فهو علمٌ بحقيقة العلّة والمعلول على حدٍّ سواءٍ، وهو بالتالي علمٌ حضوريٌّ لأنّ وجود العلّة يعني وجود المعلول بنحوٍ أتمّ خلافاً للماهيّة التي لا يمكن أن تكون فيها ماهيّة العلّة عين ماهيّة المعلول لأن الماهيات متباينةٌ بالذات.

إذاً، العلّية والدليل مقولتان مختلفتان عن بعضهما في جميع الأحوال، ومن المؤكّد أنّ العلّية التجريبيّة والعلم الانفعالي هكذا، لكنّ العلّية الوجوديّة ليست كذلك.[7]

الذين تصدّوا لشرح آراء فريدريش هيغل وتحليلها عجزوا عن وضع تبريرات لها والاستدلال على صوابها، إلا أنّنا لو تأمّلناها قليلاً لأدركنا مراده بكلّ وضوحٍ. إن أردنا بيان جوانب هذا الموضوع على أساس مبادئنا الفلسفية وبشكلٍ ينسجم مع رأي هيغل أو على أقلّ تقديرٍ بشكلٍ يتقارب معه، فلا بدّ حينئذٍ من الإيمان بالله تعالى بصفته أمراً يقبله الذهن مباشرةً من دون أيّ إجبارٍ. هناك اختلافٌ بين الأمر الذي يقبل الذهن لـمّيته بشكلٍ مباشرٍ فيكون الإقرار به طبيعياً، وبين الأمر الذي يقبله بالإجبار لكي يعدّه دليلاً على بطلان ما يقابله، أي إنّه يقبله لأنه لا يمتلك دليلاً يعتمد عليه لإثبات هذا البطلان؛ ومن جهةٍ أخرى عندما يبطل الأمر المقابل بالبرهان فهذا يعني أنّنا ملزمون بقبول ما يقابله، إذ ليس من الممكن بطلان كلا الأمرين معاً، وحسب القواعد المنطقية لا بدّ من الإذعان بوجود أحد النقيضين، وهذا يعني أنّ بطلان أحدهما دليلٌ على وجود الآخر؛ وبطبيعة الحال فإنّ الإقرار بوجود أمرٍ على أساس بطلان نقيضه هو إلزامٌ ذهنيٌّ، لكنّه ليس إقناعاً، وكما هو معلومٌ هناك اختلافٌ واضحٌ بين إجبار الذهن على قبول أمرٍ وبين إقناعه بذلك، ففي كثير من الأحيان يلتزم الإنسان جانب الصمت إزاء أحد الأدلّة المطروحة إلا أنّ الشكّ في دلالته يبقى كامناً في باطنه.

أراد هيغل مـمّا ذكره التأكيد على ضرورة البحث عن العلّة الأولى والإقرار بوجودها، ولكن بما أنّ الذهن غير قادرٍ على إدراكها بشكلٍ مباشرٍ، فهو يقبلها حذراً من الوقوع في فخّ التسلسل، ومع ذلك فهو يدرك أنّه لا مفرّ من حدوث هذا التسلسل، لذا ليس من الممكن معرفة الفرق بين العلّة الأولى المستغنية عن كلّ علّةٍ أخرى وبين سائر العلل التي هي بحاجةٍ إلى علّةٍ تتقوّم بها. هذا الكلام يعني أنّنا عاجزون عن فهم السبب الذي جعل العلّة الأولى علّةً أولى، ولكنّنا إن بحثنا عن الغاية سوف ندرك غايةً تكون غائيتها عين ذاتها بحيث لا تحتاج إلى غايةٍ أخرى.

باعتقادنا هناك مشكلتان فلسفيتان أسفرتا عن ظهور شكٍّ لدى هيغل وأمثاله بالنسبة إلى العلّة الأولى، وإلى الآن لم تطرح الفلسفة الغربيّة إجابةً شافيةً لهما، إحداهما تتمحور حول موضوع أصالة الوجود والأخرى ترتبط بالمناط في حاجة المعلول إلى العلّة. بحثنا الراهن ليس في صدد بيان أصالة الوجود أو الماهيّة، ولكن نشير إلى ذلك بشكلٍ مقتضبٍ ونقول: القول بأصالة الماهيّة هو رأيٌ بدائيٌّ غير دقيقٍ، فعلى أساسه تكون ذات الله تعالى كسائر الذوات التي لها ماهيةٌ وجوديّةٌ، وهذا الأمر مرفوضٌ جملةً وتفصيلاً، فحتّى القائلين بأصالة الماهيّة أنفسهم لا يرتضون به لأنهم يعدّون ذاته المقدّسة وجوداً محضاً؛ لذا فالأسئلة الآتية تطرح نفسها هنا: ما السبب في حاجة كلّ ذاتٍ إلى علّةٍ وعدم افتقار ذات الله تعالى إلى أيّ علّةٍ؟ لـِمَ ذات الله تعالى واجبة الوجود في حين سائر الذوات ممكنة الوجود؟ أَليس جميعُ الذوات عبارةً عن ماهياتٍ عرض عليها الوجود؟

 أمّا بالنسبة إلى الرأي القائل بأصالة الوجود، فالقضية تختلف بالكامل، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الحكيم صدر الدين الشيرازي (الملا صدرا) هو الرائد في طرح هذا المبدأ.

إذاً، ذوات الأشياء استناداً إلى نظريّة أصالة الماهيّة ليست من سنخ الوجود، ولا بدّ من وجود مصدرٍ يفيض الوجود عليها وهو الذي نعدّه علّةً لها. ولكن استناداً إلى نظرية أصالة الوجود فإنّ ذوات الأشياء هي عين وجودها، إذ ليس هناك ذات تحتاج إلى مصدرٍ يفيض الوجود عليها. إذاً، لو اقتضت الضرورة أن تفيض العلّة الخارجية أمراً إلى الشيء، فهذا الفيض في الحقيقة هو ذات الشيء وعين وجوده وليس أمراً عارضاً مضافاً إلى ذاته.

بعد هذا الاستدلال يُطرح السؤال الآتي: هل من الواجب إفاضة الوجود -بما هو وجودٌ- من قبل مصدرٍ آخر؟ إن كانت الإجابة (نعم) سوف يترتّب عليها أنّ الوجود بما هو وجود يكون عين الفيض والارتباط والتعلّق بالغير، وكذلك يكون عين الأثر، ومن ثم  فهو متأخّرٌ رتبةً مـمّا يعني أنّه عين التقيّد. فيا ترى هل إنّ الأمر هكذا حقّاً أو هناك جانبٌ آخر غير ما ذكر؟ للإجابة نقول: حقيقة الوجود في عين اتّصافها بمراتبَ ومظاهرَ مختلفةٍ، هي ليست أكثر من كونها حقيقةً، لذا ليس من شأنها بتاتاً أن توجب حاجة الموجود إلى شيءٍ آخر، إذ إنّ معنى الحاجة في الوجود يختلف عن الحاجة في الماهية، فالحاجة في الوجود تعني عين النقص والفقر، لذا لو كانت حقيقة الوجود كذلك للزم تعلّقها بحقيقةٍ أخرى غير ذاتها؛ في حين أنّها لا تمتلك تصوّراً لهذا الغير.

من المؤكّد أنّ كلّ شيءٍ مغايرٍ لذات الوجود يعدّ عدماً أو ماهيةً اعتباريةً متناسقةً مع العدم، وعلى هذا الأساس نقول بأنّ حقيقة الوجود من حيث كونها حقيقةً للوجود توجب استقلاله واستغناءه عن غيره، كما توجب إطلاقه وعدم تقيّده، فضلاً عن أنّها توجب تجريده عن العدميّة بكلّ صورها، في حين أنّ الحاجة والتقيّد والتعلّق بالغير هي أمورٌ تنسجم مع العدميّة، أي إنّها من إحدى الجهات تنشأ مـمّا هو ليس وجوداً صرفاً بحيث يكون معلولاً لغيره ومتأخّراً رتبةً عنه.

الوجود من حيث كونه وجوداً محضاً يوجب استقلال الموجود واستغناءه عن غيره، وبما في ذلك العلّة؛ في حين افتراض أنّه بحاجةٍ إليها يعني عدم كونه حقيقةً للوجود، وهذا معنى صدوره من فيض الذات الإلهية المباركة؛ وسوف يترتّب على الأمر الذي يتلقّى الفيض أنّه يصبح متأخّراً رتبةً ومفتقراً إلى المفيض الحقيقي.

إذاً، استناداً إلى الرأي القائل بأصالة الوجود تكون النتيجة أنّ الربط بين رأي العقل وحقيقة الوجود يعني أنه تحقّقَ استغناءٌ ورتبةٌ عليا، وهذا يعني أنّ حقيقة الوجود تكافئ الوجوب الذاتي، وكما قال هيغل فالصورة المعقولة لحقيقة الوجود هي استغناؤها عن العلّة. ومن الجدير بالذكر هنا أنّ الحاجة إلى العلّة تعني التقيّد والتأخّر في الرتبة عن حقيقة الوجود، وبتعبيرٍ يناسب رأي هيغل نقول بأنّ الحاجة للعلّة هي الصورة غير المعقولة للوجود[8].

- الله في فلسفة هيغل

فريدريش هيغل يؤمن بوجود إلهٍ يختلف عن الإله الذي يؤمن به المادّيون وأتباع الأديان السماويّة على حدٍّ سواء، فهو يؤمن بإلهٍ ليس خارجاً عن نطاق هذا العالم ولا يعدّه العلّة الأولى.[9]

طبقاً لمبادئ الفلسفة الهيغلية، فالديالكتيكية متقوّمةٌ بذاتها وهي في غنى عن كلّ ما سواها، ومن هذا المنطلق فالإله المطروح فيها ليس علّةً للكون، بل هو فكرةٌ مطلقةٌ ممتزجةٌ مع منظومتها المادّية، لذا أصبحت مبادؤها الفلسفية إلحاديةً تنكر الربّ الحقيقي، ويمكن القول أنّها تؤمن بمثالٍ مطلقٍ تعدّه إلهاً. النتائج التي توصّل إليها هذا الفيلسوف صحيحةٌ على وفق حساباته ومتبنّياته الخاصّة، إلا أنّ الإشكال الذي يطرح عليه يتمحور حول المقدّمات والأصول التي ارتكز عليها، وأحد الأصول التي ارتكزت منظومته الفكريّة عليها هو أنّه قيّد مهمّة الفلسفة في بيان حقائق الكون لا تعليله، وذلك من منطلق اعتقاده بكون التعليل لا يبيّن شيئاً ولا يقنع أحداً، وذلك لسببين:

أوّلاً: كلّ شيءٍ في تسلسل علله لا بدّ من أن ينتهي إلى علّة العلل.

ثانياً: العلّية هي أمرٌ تجريبيٌّ تترتّب عليه أمورٌ وجوديّةٌ من سنخ القضيّة المطلقة العامّة وليست المنطقيّة الضروريّة، والذهن على هذا الأساس يدرك من خلال التجربة بأنّ وجود كذا أمرٍ سببٌ لوجود الأمر الكذائي أيضاً، وهو بالطبع أمرٌ وجوديٌّ وليس منطقياً.

الإشكال الأوّل الذي يطرح على هذا الرأي هو أنّ التعليل سيصل إلى طريقٍ مسدودٍ في نهاية المطاف، لأنّ علّة العلل تبقى دون توضيحٍ، وثاني إشكالٍ هو أنّ العلّة ليس من شأنها أن تكون موضّحةً في بادئ الأمر، حيث إنّه من الناحية العقليّة ليس هناك فرقٌ بين تبخّر الماء إثر ارتفاع درجة الحرارة أو انجماده عند انخفاضها، ولكن هناك مواضيعُ تعدّ توضيحيةً في واقع الحال وتتمثّل في القضايا التي تتطلّب شرحاً وتحليلاً، أي حينما يتمّ استكشاف قضيّةٍ من باطن قضيّةٍ أخرى أو استنتاج مسألةٍ من أحد المواضيع، ففي هذه الحالة يصوغ العقل قضيّةً حقيقيّةً ليست خارجةً عن طبيعة الأمر، وكأنّه يقول: إن أردت للقضيّة أن تتحقّق فلا بدّ من أن  تكون كذلك ولا يمكن أن تكون بشكلٍ آخر. هذه القضيّة في الحقيقة هي من سنخ القضايا التحليليّة، واستناداً إليها وصف أرسطو البرهان بأنّها تحليلٌ وتركيبٌ، إذ إنّ المقدّمات عبارةٌ عن تحليلٍ والنتائج هي التركيب. هذه المسائل يستنتجها الذهن، أي إن افترضنا أنّ (أ) هو ذات (أ)، فليس من المستحيل حمل (ب) عليه، ومن ناحيةٍ أخرى إن كان (ب) هو ذات (ب) فمن الممكن حمل (ج) عليه، ومن ثم  فالمنطق والضرورة يقتضيان حمل (ج) على (أ)، وخلاف هذا الأمر محالٌ؛ ولكن كيف يمكن تطبيق هذه القاعدة على مسألة تبخّر الماء إثر الحرارة وكيف بإمكاننا إثبات أنّ انجماده في هذه الحالة مستحيلٌ؟ هذا الأمر في الواقع ليس مستحيلاً بحسب القواعد العقلية، وهو ما استنتجناه لحدّ الآن، إذ ليست هناك ضرورةٌ توجب تحقّقه.

حينما يتمحور الحديث حول الضرورة المنطقيّة سوف يتبادر إلى الذهن مبدأ الاستغناء عن العلّة، أي إن كان أحد الأشياء موجوداً بالضرورة لا لعلّةٍ، فإنّ افتراضه يكون كافياً، ذلك لأنّ الذاتي لا يُعلّل. مثلاً حينما نقول (الإنسان حيوانٌ) فإن كان كذلك بالإمكان فهو مفتقرٌ إلى علّةٍ، ولكن بما أنّه كذلك بالضرورة فهو ليس محتاجاً إلى علّةٍ. وحسب القواعد العقلية فالعلّية تطرح عندما تكون العلاقة بين الشيئين ممكنةً لا ضروريّةً، وأفضل ما قيل على هذا الصعيد هو كلام العلماء القدامى في مبحث (الجعل)، حيث قالوا: «ما جعلَ اللهُ المشمشةَ مشمشةً ولكن أوجدها»، فالجعل إمّا أن يكون متعلّقاً بالماهيّة أو بالوجود، وهو في كلا الحالتين عبارةٌ عن جعلٍ بسيطٍ. استناداً إلى ذلك فالجاعل يجعل للإنسان وجوداً لا أن يجعل وجود الإنسان وجوداً؛ ولو تعلّق الجعل بالوجود فهو يتعلّق بالماهيّة عرضياً، أي مجازاً. خلاصة الكلام أنّ الجعل لا يتعلّق بالوجود والماهّية حقيقةً، ومن ثم  هما ليسا مجعولين لأنهما ذاتيين حسب مبادئ المنطق الإيساغوجي، وكذا هو الحال بالنسبة إلى ذاتي البرهان، مثلاً قولنا: (الإنسان ممكن بالضرورة) يعني أنّنا متى ما تصوّرناه سنتصوّر الإمكان ملازماً لذاته، وحسب القواعد الفلسفيّة فالذاتي لا يعلّل.[10]

- وحدة الذهن والخارج 

من الأصول التي يتبنّاها هيغل، وحدة الذهن والخارج - وحدة المعقول والواقع - بمعنى أنّه لا يتّفق معنا حول مبدأ الفصل بينهما، فهو رفض وجود أمورٍ ذهنيّةٍ وأخرى عينيّةٍ من منطلق اعتقاده بأنّ الذهن هو عين الخارج ومن ثم  فالخارج يكون نفس الذهن، أي إنّهما وجهان لعملةٍ واحدةٍ ولهذا السبب نجد أنّ الذهن البشري تكامل على مرّ التأريخ تزامناً مع تكامل عينه - بدنه - لذا لا يمكن القول بأنّ الخارج يكون مقابلاً للذهن.[11]

لقد حاول هذا الفيلسوف كسر الحاجز الموجود بين الذهن والخارج، لذلك أكّد على كونهما شيئاً واحداً لا أمرين مستقلّين عن بعضهما، وأراد إثبات أنّهما عنوانان لحقيقةٍ واحدةٍ.[12] بناءً على هذا فقد رفض القول بكون الذهن شيئاً والخارج شيئاً آخر، إذ إنّ تكامل العالم هو تكامل العلم نفسه، وتكامل العلم هو عين تكامل الفلسفة، وكذا هو الحال بالنسبة إلى الذهن، فدائماً ما يسير وراء الدليل؛ والعالم المادّي - عالم الخارج - أيضاً يجري وراء الدليل. كما نلاحظ فهو يشبّه حركة العالم بحركة الذهن، لذلك يؤكّد على أنّ الذهن وحده لا يستدلّ، بل الاستدلال يحدث أيضاً في الخارج،[13] وهذا يعني أنّ الاستدلال هو الأساس في عالم الذهن والخارج على حدٍّ سواء.[14]

طبقاً لمتبنّيات هيغل الفكرية فكلّ أمرٍ من شأنه أن يُنسب إلى الذهن لا بدّ من أن يُنسب إلى الخارج أيضاً، لذا إن نسبنا الإيجاب إلى الذهن وقلنا أنّه هو الذي يوجب تحقّق الشيء في الخارج، ففي هذه الحالة يجب أن ننسب نفس هذا الأمر إلى الخارج أيضاً ونقول بأنّه يوجب تحقّق الشيء في الذهن؛ وكذا هو الحال بالنسبة إلى الإنكار الذي يقابل الإيجاب، فهو في الذهن والخارج واحدٌ.[15]

2- القضايا التجريبيّة والضروريّة

تطرّق هيغل إلى بيان مجموعة من المسائل الفلسفية، وقد أكّد على وجود بعض القضايا التي يمكن عدُّها ضروراتٍ عقليّةً لا يجوز افتراض ما يتضادّ معها مطلقاً، أي لا يمكن تصوّر خلافها بتاتاً، كالقضايا الرياضية، التي عدَّها قضايا تحليليةً. مثلاً يقول علماء الرياضيات بأنّ مجموع زوايا المثلّث يبلغ 180 درجةً أو يساوي زاويتين قائمتين، والعقل يحكم بصحّة هذه القاعدة بالضرورة، أي إنّه لو أراد تصوّر مثلّثٍ، فهو مباشرةً يحكم بأنّ الضرورة تقتضي أن يكون شيئاً مجموع زواياه 180 درجةً من دون أدنى نقصٍ أو زيادةٍ. وكذا هو الحال بالنسبة إلى جميع القضايا المطروحة في المباحث المنطقية والفلسفية، أي إنّها ضروريّةٌ بأجمعها وليس من الممكن تصوّر أمرٍ يتعارض معها، والأمثلة في هذا المضمار كثيرةٌ لا حصر لها ومن جملتها استحالة اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما؛ ولكن هناك قضايا تجريبيّةٌ لا يضفي لها العقل أيّ ضرورةٍ لدى تصوّره لها، بل يصفها كما استقبلها، فنقول هي كذلك لأنّنا جرّبناها أو شاهدناها بهذا الشكل، والمثال الذي استشهد به هيغل في هذا المجال هو تبخّر الماء، إذ قال أنّ البشريّة في جميع تجاربها أدركت أنّ الماء يتبخّر لدى بلوغه درجة الغليان، ثمّ وصفت هذه الحالة بـ (العلّية)، ونحن نقول بأنّ الحرارة هي السبب في تبخّر الماء، كذلك نقول بأنّ انخفاض درجة حرارته دون الصفر هي السبب في انجماده.

من الآراء المعهودة عن هذا الفيلسوف هو عدّه الأمور التجريبيّة قاطبةً خارجةً عن نطاق الضرورات العقلية، فالإنسان يحكم على ما يشاهد طبقاً لمشاهدته، وعلى هذا الأساس يحكم على كون النار سبباً لتبخّر الماء والبرودة سبباً لانجماده لأنّه شاهد ذلك منذ ولادته ولا دخل لعقله في هذه المشاهدة، لذلك لو فرضنا أنّه شاهد عكس ذلك، أي انجماد الماء بالحرارة وتبخّره بالبرودة، لتغيّر حكمه اليوم طبقاً لهذه المشاهدة، وهذا يثبت أنّ العقل لا دخل له في هذا الحكم، لأنّ هذه الحالة تعكس قضيّةً موجودةً على أرض الواقع كانت وما زالت موجودةً بهذه الصورة.

كلام هيغل إلى هنا صحيحٌ ولا غبار عليه، وقبل ذلك فالشيخ الرئيس ابن سينا أدرك هذه الحقيقة وأشار إليها في آرائه الفلسفيّة مؤكّداً على كون التجربة هي المعيار في العلوم الطبيعيّة لكن لا يمكن استنتاج ضرورةٍ من الضرورات العقليّة على أساسها. إذاً، ما هو مدى عدّ القوانين الطبيعيّة حسب هذا الرأي؟ هل يمكننا الحكم على القوانين التجريبيّة اعتماداً على القوانين الفلسفية طبقاً لمبدأ العلّية؟ قيل هنا حينما تكون التجربة دليلاً على وجود علاقةٍ بين الأمرين، كما في مثال تبخّر الماء وانجماده، يمكن البتّ عندئذٍ بوجود عليّةٍ، إذ لولا قانون العلّة والمعلول لما حدث ما حدث، ومن ثم  فالعلّة الحقيقيّة لا يمكن استبدال أيّ علّةٍ أخرى بها مطلقاً، ولكنّ البحث يدور هنا حول ما إن كانت هذه العلّة هي نفسها التي ندركها في حواسّنا عن طريق التجربة أو لا، فهذه العلّة غير مؤكّدةٍ الأمر الذي جعل العلوم التجريبيّة تتغيّر بين الفينة والأخرى، فكثيراً ما تنسخ بعض القوانين وتستبدل بها قوانين جديدةٍ. مثلاً حينما شاهد التجريبيون الحجر وهو يسقط من الأعلى إلى الأسفل قالوا إنّ الجاذبية موجودةٌ فيه وهي التي تسيّره نحو مركز الأرض، وقد توصّلوا إلى رأيهم هذا بعد تجاربَ مضنيّةٍ دامت سنينَ مديدةً لدرجة أنّهم اتّفقوا على ذلك، ولكن بعد أن جاء إسحاق نيوتن تغيّرت الفكرة وطرحت قاعدةٌ جديدةٌ أكّدت على أنّ الجاذبيّة موجودةٌ في مركز الأرض وهي التي تستقطب الحجر نحوها، وبعد ذلك طرحت النظريّة النسبيّة التي أُعيد النظر فيها إلى القواعد التي طرحت قبل ظهورها.

استناداً إلى ما ذكر، فالقدر المتيقّن هنا أنّ كلّ ما يحدث لا يخلو من علّةٍ قد تسبّبت في حدوثه، ولكنّ البحث يتمحور حول ما إن كان العلم قادراً على إدراك هذه العلّة أو لا، إذ لا أحد يعلم ذلك ومن ثم  من الخطأ بمكانٍ عدّ كلّ علاقةٍ نتوصّل إليها بأنّها علّةٌ، وحتّى لو تمكّنا من خلال هذه العلاقة من تفسير سبب تحقّق أمرٍ ما، لكن مع ذلك لا يمكن عدّ هذا التفسير علّةً حقيقيّةً، فلا الحرارة علّةٌ حقيقيّةٌ لتبخّر الماء ولا البرودة علّةٌ حقيقيّةٌ لانجماده، كما أن الجاذبية الأرضيّة ليست علّةً حقيقيةً لسقوط الحجر من الأعلى إلى الأسفل.

هناك اختلافٌ جليٌّ بين القوانين الطبيعيّة وقوانين العليّة، فالإنسان على سبيل المثال لا يمكن أن يبصر النور في الحياة الدنيا حسب القوانين الطبيعية إلا إثر التناكح بين الذكر والأُنثى والذي يتمّ فيه تلقيح البويضة بواسطة الحيمن، ولكن هل يمكن القول أنّ هذا القانون هو القانون الأصيل الحاكم بحيث نطلق عليه عنوان قانون العلّية؟ فهل تستحيل ولادة إنسانٍ في غير هذه الحالة؟ أَليس من الممكن نشوء خليّةٍ في رحم المرأة تمتلك القابليّة على أداء وظيفة الخلية الذكريّة؟ العقل لا يفنّد هذا الافتراض، وإنّما يقول: حتّى اليوم شاهدنا عمليّة الولادة تجري بهذا النحو، ولكن ليس من المستحيل أن تتمّ بنحوٍ آخر، فمن الممكن حدوثها بشكلٍ آخر لم ندرك كُنهه حتّى الآن، وهذا الافتراض لا يقدح بقانون العلّية وإنّما القانون الطبيعي هو الذي يتغيّر، وهذا ما يطلق عليه (معجزة)، لذلك تمّ تعريف المعجزة بأنّها خرقٌ لنواميس الطبيعة.

نعود مرّةً أخرى إلى ما ذكره هيغل، فقد قال: لو ادّعى أحدٌ النبوّة وقال: إنّ معجزتي هي رسم مثلّثٍ يبلغ مجموع زواياه 190 درجةً، فهو كاذبٌ قطعاً، لأنّ العقل يحكم باستحالة ذلك، وكما ذكرنا فالمعجزة تعني نقض قوانين الطبيعة لا قوانين العقل الثابتة. كما يجب تكذيبه في ما لو زعم أنّه قادرٌ على فعل شيءٍ دون علّةٍ، لأنّ العقل يحكم باستحالة حدوث شيءٍ من غير علّةٍ، ولكنّ الأمر يختلف في ما لو ادّعى أنّه قادرٌ على فعل أمرٍ يتعارض مع القوانين الطبيعية، أي فعل أحد الأمور التي وصفها هيغل بأنّها لا قيمة لها وغاية ما في الأمر أنّنا لاحظناها هكذا، ففي هذه الحالة يمكن تصديقه.

إذاً، القوانين العقليّة ذات ماهيّةٍ مطلقةٍ وليست مشروطةً بشروطٍ معيّنةٍ، في حين القوانين الطبيعيّة مشروطةٌ بذلك، فحينما نقول بأنّ مجموع زوايا المثلّث يبلغ 180 درجةً أو زاويتان قائمتان، تكون النتيجة قطعيّةً ولا مجال لاشتراط أمرٍ آخر فيها بقول إن كان المقدار كذا فالنتيجة تتحقّق وإذا لم يكن كذا فلا تتحقّق، وذلك لأن النتيجة ثابتةٌ عقلاً. أمّا في القوانين الطبيعيّة، فيمكننا القول مثلاً أنّ قانون الجاذبيّة يقتضي حركة الجسم الأصغر باتّجاه الجسم الأكبر، أي إنّ الأكبر يستقطب الأصغر في ما لو لم يكن هناك مانعٌ؛ فلو وضعنا حاجباً بينهما حال دون حركة الأوّل نحو الثاني ففي هذه الحالة يتوقّف قانون الجاذبيّة ولا يتحقّق.

خلاصة ما ذكر هي أنّ الإنسان عاجزٌ عن استكشاف العلل الحقيقيّة، فهي مكنونةٌ عنه وإنّما يتمكّن من معرفة بعض العلاقات التي هي في متناول إداركه، والله عزّ وجلّ وحده قادرٌ على معرفتها جميعاً لأنّه علّة العلل.[16]

- نظرةٌ تأريخيّةٌ على النزعة الديالكتيكية

قبل عهد سقراط وأفلاطون اعتمد الفلاسفة على مبدأ الجدل في الاستدلالات التي كانت تهدف إلى تفنيد رأي الخصم، أي إنّ المجادل لم يكن يسعى لاستكشاف الحقيقة، بل كان يعتمد على قدرته الجدليّة لإفحام الطرف الآخر بغضّ النظر عمّا إذا كان رأيه صائباً أو باطلاً، وقد أمست هذه الظاهرة ميزةً للسوفسطائيين الذين عدّوا جدلهم فنّاً بلاغيًّا وأساساً للنزاعات اللفظيّة في عين إقرارهم بعدم أهميّة الحقيقة بالنسبة إليهم، لأنّ هدفهم هو الظفر على خصمهم مهما كلّف الأمر وبأيّ نحوٍ كان.

تغيّرت وجهة مصطلح الجدل في فلسفة سقراط وأفلاطون، حيث اتّصف هذا المصطلح بجانبٍ إيجابيٍّ بعد أن ركّزا جهودهما على كشف الحقيقة وتحصيل اليقين ورفضا مبدأ الجدل في الظفر على الخصم، وأطلقا عليه عنوان (ديالكتيك) إلا أنّ أرسطو أعاد إلى هذا المصطلح معناه السابق وعدّه بمعنى الجدل الهادف للغلبة على الخصم، في حين أنّه أطلق على البرهان الذي يهدف إلى كشف الحقيقة عنوان (أنالوطيقا)، وبقي هذا العنوان حتّى القرن التاسع عشر وطرح في إطار مصطلحاتٍ أخرى مشابهةٍ، وفي عهد هيغل (1770 - 1831 م) طرح مبدأ الجدل في ضمن مفهومٍ لا يدلّ على الجمع بين الضدّين أو النقيضين، إذ اختار لنفسه منطقاً خاصّاً وأسلوباً معيّناً بغية منح الفرصة للعقل لكشف الحقائق فأطلق عليه اصطلاح (ديالكتيك)،[17] وعلى هذا الأساس أقحم مفهوم التناقض فيه لأنّه عدّه شرطاً أساسياً للفكر ولكلّ ما هو موجودٌ، بل رأى أنّه يعمّ الوجود بأسره من فكرٍ وطبيعةٍ.[18]

الديالكتيكية الهيغليّة يجتمع فيها الضدّان والنقيضان، لذا لا بدّ لنا فيها من أخذ مسألتين بعين الاعتبار، هما:

أوّلاً: كلّ شيءٍ يكون موجوداً ومعدوماً في آنٍ واحدٍ.

ثانياً: التناقض الكامن في الأشياء هو الأساس في حركتها وتكاملها.[19]

نظريّة هيغل هذه، في عين كونها فلسفيّةً هي منطقيّةٌ أيضاً، أي إنّها في ضمن بيانها لحقائق الأشياء هي تسلّط الضوء أيضاً على قانون الفكر، لأنّه يرى كلّ أمرٍ ذهنيٍّ واقعياً ويرى عكس ذلك صحيحاً مـمّا يعني اعتقاده بوجود نحوٍ من التطابق بين الذهن وعالم الخارج.[20]

الديالكتيك الذي طرحه هذا الفيلسوف يؤكّد على أنّ حركة الأشياء في الذهن وعلى أرض الواقع تقتصر على ثلاث مراحل هي الإيجاب والنفي ونفي النفي (الوجود والعدم والصيرورة)،[21] أي إنّ التغيير يحصل عبر الصراع بين المتناقضات، وهذا الصراع يفرز أمراً جديداً يسمى (التركيب) وهو بدوره يتصارع مع نقيضه. الهدف الأساس الذي يراد تحقيقة من وراء الفكر الديالكتيكي هو تصوير عالم الطبيعة والذي هو في حركةٍ دائبةٍ وكأنّه في غنًى عن كلّ أمرٍ ماورائيٍّ، وهذا الفكر بكلّ تأكيدٍ خاطئٌ ومرتكزٌ على مبادئ فلسفيّةٍ لا أساس لها من الصحّة، فأطروحاته لا أساس لها من الصحّة بتاتاً ولا تنسجم مع المنطق القرآني بوجهٍ.[22]

- ماهيّة الحركة

الديالكتيكية الهيغلية تبدأ من الوجود، فقد قال بأنّنا لو نظرنا إلى الوجود بما هو وجود بحيث نجرّده عن أيّ اعتبارٍ آخر، فهو عدمٌ - وجودٌ عدميٌّ -، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّه لا يرى اختلافاً بين العدم والوجود العدمي. إذاً، الوجود استناداً إلى هذا الرأي يعني الإيجاب، والعدم يعني النفي، ومن ثمّ يتركّبان مع بعضهما لينتجان الحركة (الصيرورة).[23] الصيرورة باعتقاد هيغل ليست وجوداً ولا عدماً، وإنّما هي تركيبٌ من كلا الأمرين إذ تتجسّد في الحركة التناقضيّة،[24] وعلى هذا الأساس فالحركة هي تركيبٌ من الوجود والعدم،[25] أي إنّها مفهومٌ منتزعٌ من أمرين على نحو الضرورة الذاتيّة المنطقيّة، وهي من سنخ اللازم والملزوم اللذين نعدّهما في مبادئنا الفلسفيّة في غنىً عن الجعل، حيث نقول بأنّ العلاقة الذاتيّة تعدّ ضروريّةً بنفسها ومستغنيةً عن الجعل لأن الذاتي لا يمتلك هويّةً مستقلّةً عن ذاته، وكذلك فإنّ تعدّد الذات والذاتي هي تعدّديّةٌ يصوغها الذهن، لذا فالذات والذاتي لا اختلاف بينهما في عالم الواقع ونفس الأمر، أي إنّ هويتهما واحدةٌ.[26]

الديالكتيكية الجدلية تقول: الوجود يعني الحركة ولا وجود لأمرين أحدهما طبيعيٌّ والآخر ميتافيزيقيٌّ، كما لا يذهب أتباعها إلى القول بكون الطبيعة تعني الحركة والميتافيزيقا تعني الاستقرار والاستمرار والخلود؛ أي إنّ الوجود في حقيقته يساوي الصيرورة والحركة. وعلى هذا الأساس فالحركة الديالكتيكية ليست كسائر الحركات، فهي حركةٌ تعتقد باستحالة الاستقرار والخلود، وكل شيءٍ في الوجود يسير نحو العدم والفناء.

- منشأ الحركة

أكّد هيغل على أنّ الحركة ناشئةٌ من التضادّ، وهو لا يريد العلّية من هذا المنشأ، بل يقصد أنّ الحركة هي نتيجةٌ للتضادّ وليست معلولةً له، أي إنّنا نستحصلها منه مثلما نستنتج في المسائل الرياضية البسيطة نتيجةً واحدةً من شيئين.[27]

- تفسير الحركة

باعتقاد هيغل الحركة تنشأ من التضادّ الحاصل بين الوجود والعدم، ذلك لأنّ الذهن والخارج برأيه صورتان لشيءٍ واحدٍ؛ وهذا الأمر هو من استنتاج الذهن.[28]

- العلاقة بين التضادّ والحركة

كما أشرنا آنفاً فقد عدّ هيغل الحركة ناشئةً من التضادّ الحاصل بين الوجود والعدم، وعلى هذا الأساس فقد أكّد في مبادئه الفلسفيّة على أنّها نتيجةٌ للتضادّ. إذاً، الحركة عبارةٌ عن حقيقةٍ مستوحاةٍ من التضادّ بين الوجود والعدم، لذا لو سألنا: هل إنّ الحركة في الخارج ناشئةٌ من الوجود والعدم؟ سوف يجيب هيغل: نعم، هي كذلك، إذ ليس لدينا ذهنٌ وخارجٌ، فما يحدث في عالم الذهن نفسه يقع في عالم الخارج لأنهما من سنخٍ واحدٍ. هذا الاستنتاج بكلّ تأكيدٍ يعدّ خطأً فادحاً وقع فيه هيغل.[29]

- نقد نظريّة هيغل

لا شكّ في هشاشة نظريّة هيغل الديالكتيكية، ونقول في تفنيدها:

1 ) من المعلوم أنّ مبدأ الحركة يعدّ أحد الأصول التي طرحت من قبل الفلاسفة القدماء، لذا فإنّ هيغل لم يبتدعه في ضمن مفهوم الديالكتيك، إذ قلّما نجد فيلسوفاً أنكره، وأكثر من اشتهر به في العهد الإغريقي هو الفيلسوف هرقليطس الذي طرحه واستشهد عليه بأنّه لا يمكن العوم في نهرٍ واحدٍ مرّتين.

2 ) حينما يقال أنّ التضادّ هو منشأ الحركة فهذا يعني وجود قابليّتين باطنيتين ساكنتين تتجلّيان على شكل حركةٍ، فعندما تلتقيان تصبحان منشأً للحركة؛ وبشكلٍ عامٍّ لـمّا يقال أنّ التضادّ هو منشأ الحركة فالمراد هو كونه منشأً لحركة المحرّك لا كونه منشأً للحركة بذاتها.[30] الدور الذي يفيه التضادّ في الكون هو أنّه يحرّك المحرّك.[31]

لا ريب في أنّ هذا التضادّ له تأثيرٌ على واقع الحركة، وهذا الكلام ليس جديداً، بل طرحه القدماء أيضاً، وقد تحدّث صدر المتألّهين عن التضادّ الموجود في الطبيعة قائلاً: «لولا التضادّ لما حدث حادثٌ»، وقال الحكماء أيضاً: «لولا التضادّ ما صحّ الفيض عن المبدأ الجواد».[32] إذاً، لا يمكن إنكار دور التضادّ في الحركة برأي القدماء والمحدثين.[33]

بناءً على ما ذكر نستنتج أنّ وجه الاختلاف في مسألة الحركة بين الفلاسفة المسلمين والغربيين من أمثال هيغل لا يقتصر فقط على النتيجة التي توصّل إليها الغربيون والتي زعموا فيها اجتماع النقيضين،[34] بل هناك اختلافٌ جذريٌّ بينهم في الأصل الفلسفي للموضوع على الرغم من اتّفاقهما في ظاهر الحال على تكافؤ الوجود والعدم في الحركة.[35]

- الحركة الهوهويّة (الكثرة الغيريّة)

الفيلسوف فريدريش هيغل تبنّى أصولاً فلسفيّةً تفرّد بها عمّن سبقه من الفلاسفة الغربيين، وعلى هذا الأساس ركّب بين الوجود والعدم واستنتج منهما الصيرورة، إذ قال أنّهما ينطبقان على الخارج، أي إنّ حقيقة الوجود تتركّب مع حقيقة العدم لتنتجا الصيرورة؛ ولكن بما أنّ القدماء كانوا يعتقدون بكون الأشياء مستقرّةً فقد ذهبوا إلى القول بالهوهوية بمعنى أنّ الشيء هو هو. على أساس مبدأ الثبات والاستقرار فكلّ شيءٍ يبقى على حاله ويحتفظ بهوهويته، ولكنّ الأمر ليس كذلك حسب مبدأ الحركة، فكلّ شيءٍ لا يبقى على حاله ولا يحتفظ بهوهويته، لأنّ عدم الثبات يعني التغيّر في كلّ لحظةٍ والتغيّر بالطبع يعني حدوث غيريّةٍ.

ذات الحركة هي ذات التغيّر لذلك عرّفها بعضهم بالغيريّة لأنّ الشيء لا يبقى بنفسه دائماً وذاته تتبدّل باستمرارٍ ما دامت الحركة مستمرّةً، وبغضّ النظر عن صحّة هذا الرأي أو سقمه، لكنّ تفسيره صحيحٌ لأنّ الحركة هي التغيّر والتحوّل المتواصل حقّاً. إذاً، كما أنّ اجتماع النقيضين محالٌ على أساس مبدأ الحركة، كذلك الهوهوية مستحيلةٌ إذ يحلّ محلّها مبدأ الغيريّة، ومن ثم  يبطل الرأي القائل بالثبات واستحالة اجتماع النقيضين وينتفي أصل الهوهوية الثابتة. أصحاب هذا الرأي عدّوا مبدأ الثبات ميتافيزيقيًّا وزعموا أنّ هذا النمط الفكري يرى الأشياء ثابتةً ومن هذا المنطلق أكّدوا على استحالة اجتماع النقيضين وقالوا بزوال الهوهوية.

ذكرنا آنفاً أنّ الحقيقة ليست كما يدّعي هؤلاء، فجميع استدلالاتهم غير تامّةٍ، إذ لم يكن الفكر الفلسفي القديم يؤكّد على الثبات وأرسطو نفسه أكّد على مبدأ الحركة في أربع مقولاتٍ من مقولاته المعروفة، فقد قسّم الأشياء إلى ساكنةٍ ومتحرّكةٍ، وهذا يعني أنّه لم يكن يعتقد بسكون جميع الأشياء. وبعد أرسطو طرح الفلاسفة هذا المبدأ على نطاقٍ أوسع بحيث عدّوا أن لا شيء في الطبيعة ساكنٌ وأنّ كلّ ما فيها متحرّكٌ. وعندما طرحت نظريّة الحركة الجوهريّة وُضع تفسيرٌ لمسألة الصيرورة التي هي ذات الحركة، ولكنّه يختلف عمّا طرحه الفلاسفة الغربيون لارتكازه على أصالة الوجود لا الماهيّة، وذلك كما يأتي: الوجود بذاته إمّا ثابتٌ وإمّا سيّالٌ، والسيّال هو الحركة التي هي مرتبةٌ من مراتب الوجود وليست تركيباً من الوجود والعدم، فهي عين السيلان وليست ذاتاً لها السيلان.

الهوهوية في الحقيقة ترتكز على مبدأ الوحدة، لذلك عُدّت من لواحقها في المباحث الفلسفية، فالعنوان السائد في المواضيع الفلسفية هو (في لواحق الوحدة من الهوهوية وأقسامها)، ولإثبات القضية نقول: إمّا أن تكون هناك وحدةٌ أو لا، فإن لم تكن موجودةً سوف لا تكون هناك كثرةٌ، لأنّ الكثرة تعني اجتماع وحداتٍ مع بعضها والكثير هو اجتماع أكثر من واحدٍ. ونقول أيضاً: لو كانت الوحدة باطلةً، فمن الأولى أن تكون الكثرة باطلةً أيضاً، وإن لم تكن هناك وحدةٌ لانعدمت الأشياء من الكون، لأنّ الوجود مساوقٌ للوحدة ولا يمكن أن ينفكّ عنها مطلقاً كما سنثبت لاحقاً، أي لا يمكننا نفي الوجود وإثبات الوحدة في آنٍ واحدٍ، إذ لا يمكن القول أنّ كذا أمراً له وجودٌ حقيقيٌّ لكنّه لا يتّصف بالوحدة.

إذاً، متى ما انعدمت الوحدة فالوجود قطعاً يكون معدوماً، ولا فرق في ذلك بين كونها بهذه الأوصاف التي أشرنا إليها، أو أنّها تعني الاتّحاد المطروح في مبحث الحمل والذي له مفهومان؛ فالنتيجة في جميع هذه الأحوال واحدةٌ، وعلى هذا الأساس إن زالت الوحدة ستزول الهوهوية إثرها، فما دام (هو) غير موجودٍ فلا وجود لهويّته. وكذا هو الحال بالنسبة إلى الحركة، ففي كلّ حركةٍ لا بدّ من أن توجد وحدةٌ متواصلةٌ تدوم معها خلال جميع مراحل حركتها منذ لحظة انطلاقها وحتّى نهايتها ويصطلح عليها عنوان (حركةٌ توسّطيةٌ)، وبيانها هو: لو تحرّك شيءٌ من نقطةٍ محدّدةٍ نحو نقطةٍ أخرى، فحتّى وإن كان في كلّ لحظةٍ يتحرّك فيها فهو ليس كما كان في اللحظة السابقة، لكنّه خلال هذه الحركة هو عبارةٌ عن شيءٍ متذبذبٍ يتحرّك في هذا المسير، أي إنّ حركته من لحظةٍ إلى أخرى ليست من سنخ الوجود والعدم. إذا تحرّك شيءٌ من نقطةٍ إلى أخرى ولو افترضنا أنّه في كلّ آنٍ يكون في نقطةٍ معيّنةٍ، فهذا لا يعني أنّه ينتقل من مكانٍ إلى آخر على شكل طفرةٍ زمنيّةٍ رغم عدم صواب افتراض كون (آن) أصغر وحدةٍ زمنيّةٍ، حيث لا يمكن تعيين آنٍ زمنيٍّ لمسير الحركة، لذا لا يصحّ تصوّر أنّه في هذا الـ (آن) كان هنا وبعد ذلك انعدم ليظهر في (آن) آخر من جديدٍ بحيث تستمرّ حركته بهذا النمط، بل إنّ الحركة هي أمرٌ واحدٌ سيّالٌ.

هناك مسألةٌ تحظى بأهميّةٍ بالغةٍ في مبحث الحركة، وهي أنّ الشيء حينما يكون متحرّكاً بحيث يصبح في كلّ آنٍ في نقطةٍ معيّنةٍ، فهل إنّ هذه الآنات والنقاط هي انتزاعاتٌ ذهنيّةٌ أو لا؟ أي هل إنّ الذهن يفترض بعض النقاط للجسم أو أنّه يفترض نقاطاً منتظمةً في خطٍّ معيّنٍ رغم عدم وجود هكذا شيء في الحقيقة؟ فهل إنّ ذهننا يتصوّر الآنات الزمانيّة والنقاط المكانيّة على طول مسير الحركة رغم كونها غير موجودةٍ في عالم الواقع من منطلق عدّه الحركة وجوداً متّصلاً سيّالاً؟ إذا كان الأمر كذلك، فالوحدة متحقّقةٌ من بداية الحركة حتّى نهايتها، وكما أنّ الخطّ عبارةٌ عن وحدةٍ واحدةٍ يقوم ذهننا بتجزئتها إلى نقاطٍ، فالحركة هي الأخرى وحدةٌ متّصلةٌ سيّالةٌ وليست لها أجزاءٌ منفصلةٌ وذهننا هو الذي يتصوّر هذه الأجزاء الافتراضية. إذاً، لا شكّ في أنّ كلّ حركةٍ هي وحدةٌ حقيقيّةٌ في عين كثرتها، لأنّ الذهن هو الذي يعدّ لها الكثرة.

وفي مقابل هذا الرأي هناك من قسّم الحركة إلى عدّة مراحل، إذ قيل أنّ الذهن حينما يفرض نقطةً مكانيّةً محدّدةً في كلّ آنٍ من الحركة فهذا يعني تعدّد الوجودات أثناءها، بمعنى أنّ الوجود في النقطة الأولى يختلف عن الوجود في النقطة الثانية، ومن ثم  فإنّ الوجودين في النقطتين الأولى والثانية يختلفان عن الوجود في النقطة الثالثة، أي لدينا في هذه الحالة ثلاثة وجوداتٍ.

بما أنّ فرض المحال ليس محالاً، لذلك نفترض وجود ثلاث نقاطٍ مكانيّةٍ وثلاث نقاطٍ زمانيّةٍ وثلاثة وجوداتٍ لا وحدة بينها، أي إنّ الوجود الأوّل يزول ثمّ يحلّ الثاني محلّه وبعد ذلك يحلّ الوجود الثالث بدلاً عنهما من دون أن يوجد ارتباطٌ بينهما مـمّا يعني عدم وجود أيّ حملٍ بين هذه المراتب الثلاثة لانتفاء الوحدة بينها وكأنّها قطعٌ من الطابوق المرتّبة إلى جانب بعضها البعض ولكلّ واحدةٍ منها وجودها الخاصّ بها. أصحاب هذا الرأي قالوا لو قمنا بتحليل واقع الحركة وتعمّقنا فيها لوجدناها بهذه الهيئة، إذ ليس لدينا شيءٌ متّصلٌ سيّالٌ، لذا ليس من شأنها بتاتاً أن تكون وحدةً متّصلةً، فمن تصوّرها كذلك فهو مخطئٌ كما أخطأ الذي تصوّر أن الجسم واحدٌ، في حين أنّه مكوّنٌ من أجزاءٍ منفصلة وما تراه العين من وحدةٍ فيه يعدّ خطأً؛ وكذا هو الحال بالنسبة إلى الحركة، فمن قال بوحدتها مخطئٌ لأنّ الوجودات فيها متواليةٌ ومتراصفةٌ إلى جانب بعضها البعض.

إذاً، النظريّة الأولى التي وصفت الحركة بكونها ارتباطاً وسيلاناً واحداً، تفنّد ما ذهب إليه أصحاب نظريّة الذين عدّوها غيريةً، لأنّ الحركة عبارةٌ عن وحدةٍ حقيقيّةٍ في عين غيريّتها، بل إنّ هذه الغيريّة اعتباريّةٌ وليست حقيقيّةً. فضلا عن ذلك فلا يمكن نفي الهوهوية عن الحركة حتّى إذا قلنا أنّها مركّبةٌ من أجزاء لا تتجزّأ باعتبار أنّ المكان هو مجموع الأجزاء المكانيّة التي لا تتجزّأ - طبعاً الأجزاء الكلاميّة لا تتجزّأ وليس لها بُعدٌ لا الأجزاء الديموقريطيسية التي لا تتجزّأ - وباعتبار أنّ الزمان هو مجموع الأجزاء الزمانيّة التي لا تتجزّأ، ولا تنتفي كذلك حتّى وإن قلنا أنّها مجموع الأكوان التي لا تتجزّأ إلى (قبل) و (بعد) وفي كلّ لحظةٍ زمنيّةٍ لها كونٌ خاصٌّ في نقطةٍ خاصّةٍ. صحيحٌ أنّه لا توجد هوهويةٌ بين المراتب بداعي أنّ كلّ مرتبةٍ تختلف عن الأخرى، ولكن مع ذلك فكلّ مرتبةٍ لها هوهويتها الخاصّة بها.

خلاصة الكلام هي أنّنا حتّى وإن فسّرنا الحركة تفسيراً خاطئاً، لكن ليس من الممكن بتاتاً تفنيد أصل الهوهوية التي تعني أنّ كلّ كونٍ يبقى نفسه حينما يحلّ في كونه الآخر، إذ لا يصحّ قول أنّ الشيء ليس نفسه، ومن ثم  لا مناص من القول بأنّ سلب الشيء عن نفسه محالٌ والهوهوية تبقى أصلاً متعارفاً وصائباً.[36]

- التأثير المتبادل

التأثير المتبادل بين الأشياء هو مبدأ يعبّر عنه أحياناً بالترابط، ولو ألقينا نظرةً على هذا المبدأ في معناه الأوّلي سوف يتبادر إلى أذهاننا السؤال الآتي: هل إنّ أجزاء عالمنا منفكّةٌ عن بعضها أو لا؟ مثلاً فيه إنسانٌ وأرضٌ وماءٌ وهواءٌ وإلخ، فيا ترى هل إنّ كلّ واحدٍ من هذه الأشياء مستقلٌّ عن غيره أو إنّه مرتبطٌ معه بحيث يكون العالم شبيهاً بالماكنة العظيمة المكوّنة من أجزاءٍ مرتبطةٍ مع بعضها البعض ونحن البشر جزءٌ منها؟ فإن أخذنا بنظر الاعتبار هذه الماكنة العظيمة المكوّنة من مليارات الأعضاء الصغيرة - الأجزاء - فالإنسان فيها عبارةٌ عن جزءٍ صغيرٍ وكأنّه خليةٌ في بدنٍ كبيرٍ.

مسألة الترابط ليست جديدةً في الأوساط الفلسفية، فقد كانت مطروحةً بين العلماء على مرّ العصور ولا سيّما بين الذين يعدّون الكون إنساناً كبيراً بقولهم أنّ أجزاء هذا العالم تناظر خلايا بدن الإنسان والتي تبدو في ظاهر الحال أنّها مستقلّةٌ لكنّها في الواقع جزءٌ لا يتجزّأ منه، فكلّ إنسانٍ حتّى وإن استقلّ في وجوده إلا أنّه جزءٌ من هذا العالم، وكذا هو الحال بالنسبة إلى جميع الكائنات من ملائكةٍ وعقولٍ مجرّدةٍ وموجوداتٍ لا يحصي عددها إلا الله سبحانه وتعالى. فهذا الكون العظيم بمادّياته ومجرّداته في السماوات والأرض بمثابة بدنٍ واحدٍ، وهذا الترابط ذهب إليه سائر العلماء أيضاً، لكنّ هذه الحقيقة طرحت في الفكر الديالكتيكي بصيغةٍ أخرى، فأصحاب هذا الفكر لا يقولون فقط بارتباط الأشياء مع بعضها كارتباط أجزاء الآلة الواحدة أو البدن الواحد، وإنّما يذهبون إلى أبعد من ذلك ويؤكّدون على أنّه أوثق من ذلك بكثيرٍ، وأحياناً يتجاوزون هذا الحدّ أيضاً كما فعل فريدريش هيغل الذي عدّ الأشياء عين الترابط مع بعضها لا أنّ كلّ واحدٍ منها مرتبطٌ بالآخر، وهذا يعني أنّنا لو جرّدناها عن الترابط لزالت من الوجود ولم يبق منها شيءٌ، فماهيّة (أنا) هي عبارةٌ عن سلسلة ارتباطها بالكائنات الأخرى سواءً في الماضي أو الحاضر، لذا لو تمّ تجريدها عن ذلك سوف لا يبقى لها معنًى، فكلّ معناها يكمن في ارتباطها مع غيرها، وعلى هذا الأساس تكون جميع الأشياء مرتبطةً ببيئتها. وعلى هذا الأساس ليس هناك أيّ أمرٍ مطلقٍ في الكون، وكلّ شيءٍ ننقله من بيئته إلى بيئةٍ أخرى سوف تتغيّر ماهيته، وهذا يعني عدم وجود شيءٍ مستقلٍّ في الكون، وكذا هو الحال بالنسبة إلى الدين، فهو مرتبطٌ بالظروف البيئيّة والزمانيّة ومعلولٌ لها بحيث لا يمكن تصوّره في إطارٍ آخر.[37]

- التضادّ

الفكر الجدلي الديالكتيكي يتقوّم على مبدأ التضادّ، وقد أكّد هيغل على أنّ محور هذه النزعة الفكرية هو كون الأضداد تنشأ من باطن بعضها البعض، بمعنى أنّ كلّ شيءٍ يستبطن ضدّه، إذ قال: «كلّ شيءٍ يريد نقض نفسه ونقيضه يريد ذلك أيضاً، لذا فهما لا يجتمعان مع بعضهما، وهذا التناقض لا يُحلّ إلا بطرفه الثالث الذي له قدرة على جمع هذين النقيضين ليظهر من باطنهما». وتجدر الإشارة هنا إلى وجود نوعين من التضادّ، أحدهما تضادٌّ يستحيل الجمع بين طرفيه في شيءٍ واحدٍ، وتعريفه مذكورٌ في علم المنطق، والآخر تضادٌّ يعني اجتماع أمرين في شيءٍ واحدٍ لكنّهما في تنافرٍ متواصلٍ، أي إنّ اجتماعهما في شيءٍ واحدٍ ليس مستحيلاً.

المتضادّان حسب المعنى الأوّل لا يمكن أن يجتمعا في شيءٍ واحدٍ بتاتاً لأنّ كلّ واحدٍ منهما يعني عدم الآخر، فكرويّة الدائرة تجعل من المستحيل لها أن تتّصف بالتضليع، فمن المحال تصوّر شيءٍ دائريٍّ - مربّعٍ في آنٍ واحدٍ، فعندما توجد الدائرة ينعدم المربّع والعكس صحيحٌ. إذاً، هذا النمط من التضادّ لا يمكن تسويغه حسب تعريف الديالكتيكيين. أمّا بالمعنى الثاني، فهو كما ذكرنا يعني اجتماع أمرين في شيءٍ واحدٍ لكنّهما متنافران وفي صراعٍ متواصلٍ وكأنّهما عدوّان متناحران؛ وبه توصف العناصر الطبيعية لتضادّها مع بعضها وكأنّها تتنازع في ما بينها إثر اختلافها وعدم اتّساقها. هذا التضادّ في الحقيقة مقبولٌ لدى قاطبة العلماء، كما أنّ الإمام عليّ (عليه السلام) أشار إليه في ضمن إحدى خطبه في نهج البلاغة ناهيك عن أنّ سائر الأئمّة (عليهم السلام) أشاروا إليه أيضاً، كما أنّ الفلاسفة الذين قالوا باستحالة اجتماع الضدّين قد ذهبوا إليه أيضاً. أمّا في مبادئ الفكر الجدلي الديالكتيكي فقد طرح بمعنى خاصّ فحواه أنّ كلّ شيءٍ لا بدّ من أن يستبطن قابليةً مضادّةً لذاته ولها القدرة على محوه من الوجود، وكما قال هيغل فهو يستبطن سبب نقضه، وهذه القاعدة برأيه ورأي أتباعه جاريةٌ في جميع الكائنات من دون استثناءٍ، فالموت على سبيل المثال لا يستبطن الهلاك في باطنه، ومن ثم  فإنّ هذا التضادّ الذاتي هو السبب في الحركة.

إذاً، التضادّ هو علّة الحركة، ولولاه لما حدثت، فهي حصيلة نقض الشيء لذاته، وفي المرحلة الآتية يحدث تركيباً بين الحالتين السابقة واللاحقة، والعامل الجديد بعد أن يتغلّب على سابقه ويدحضه سوف ينشأ عاملٌ ثالثٌ مركّبٌ من الحالتين الأولى والثانية لتبدأ مرحلة التكامل، وعلى أساس هذه القاعدة يحدث التكامل في الكون. بعد أن طرح الماركسيون هذه القاعدة ادّعوا أنّهم اكتشفوا علّة الحركة وزعموا أنّهم فنّدوا بها آراء الفلاسفة المتديّنين.

النظريّة الدينيّة أكّدت على التغيّر والحركة في الكون باعتبار أنّه مدبّرٌ من لدن حكيمٍ عليمٍ، أي هناك علّةٌ محرّكةٌ توجد الحركة والتغيير في الكائنات وهي ليست سوى البارئ الخالق جلّ شأنه، وبرهان المحرّك الأوّل الذي طرحه الحكيم أرسطو أكّد على هذه الحقيقة، كما أنّ تعاليمنا الإسلامية استندت إلى هذا التعليل، إذ جاء في الذكر الحكيم قولى تعالى: (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَبًا قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغًا قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [38]. فحوى هذه الآيات هو أنّ كلّ شيءٍ في الكون متحرّكٌ ومتغيّرٌ ومصيره إلى الأفول، وهذا دليلٌ على وجود ما هو غير متحرّكٍ ولا متغيّرٍ ولا آفلٍ، وهو ليس سوى الربّ العظيم تبارك وتعالى.

أتباع المذهب المادّي الديالكتيكي يقولون أنّ محور البحث هو حاجة الحركة إلى محرّكٍ، ويدّعون أنّهم تمكّنوا من كشف هذا المحرّك - العلّة - في باطن الأشياء، وهو التضادّ الموجود فيها، وعلى هذا الأساس فالمحرّك طبيعيٌّ وليست هناك ضرورةٌ للبحث عنه في القضايا الماورائية - الميتافيزيقية - لأن الحركة في الطبيعة متقوّمةً بذاتها، لذا لا حاجة للسعي بحثاً وراء محرّكٍ آخر.[39]

الخطأ الذي وقع فيه هيغل هو عدّه العلاقة بين الضدّين على صعيد الشرّ في الكون من سنخ التضادّ المنطقي الذي يقضي باستحالة اجتماعهما، وبرأي حكمائنا فكلّ شيءٍ لا بدّ من أن يكون مركّباً من عناصر عدّةٍ متنافرةٍ في ما بينها لكنّها في النهاية بعد شدٍّ وجذبٍ تنسجم مع بعضها، وسبب هذا التضادّ باعتقادهم هو أنّ طبيعة كلّ عنصرٍ تكون متضادّةً مع طبيعة العنصر الآخر، فالماء على سبيل المثال طبيعته باردةٌ رطبةٌ، في حين أنّ النار ذات طبيعةٍ حارّةٍ وجافّةٍ، وهذه العناصر حينما تتركّب في ما بينها خلال ظروفٍ معيّنةٍ سوف تؤثّر على بعضها البعض فينقل كلّ واحدٍ منها خصوصيّته إلى الآخر ليحدث شدٌّ وجذبٌ في ما بينها إلى أن تتحقّق حالة اتّزانٍ واستقرارٍ نسبيٍّ، وهو ما عبّر عنه القدماء بـ (المزاج) الذي لا يمثّل هذه العناصر كلاً على حدةٍ إلا أنّه يعمّها جميعاً. عندما ينتج مزاجٌ جديدٌ تستعدّ طبيعة الشيء لقبول صورةٍ جديدةٍ، فيتولّد مركّبٌ جديدٌ إثر ذلك. إذاً، الأمور المركّبة ناشئةٌ من تضادِّ العناصر الذي يعني تنافرها ومن ثمّ انسجامها مع بعضها، وبكلّ تأكيدٍ هناك بونٌ شاسعٌ بين هذا الرأي وبين مبدأ التناقض الديالكتيكي.[40]

- الوجود

إحدى النظريات التي طرحها هيغل هي نفي (الوجود المحض) جملةً وتفصيلاً، وذلك من منطلق اعتقاده بكون كلّ وجودٍ إنّما ينشأ إثر تركيبه مع العدم، بمعنى أنّ الوجود والعدم يجتمعان مع بعضهما ليتمخّض عنهما الوجود الطبيعي، في حين أنّ الفلاسفة المسلمين من أمثال صدر المتألّهين الذي قال بأصالة الوجود، يؤكّدون على أنّ الوجود المحض هو الحقيقة بعينها وسائر الوجودات مترتّبةٌ عليه، فهو الذي يعيّنها ويقدّر لها الوجود، وعلى هذا الأساس فهو ذو مراتبَ تنازليةٍ، حيث يتدرّج حتّى يصل إلى وجودٍ ضعيفٍ، وهذا التدرّج عبارةٌ عن تشخّصٍ سيّالٍ يتواكب مع العدم ليظهر بشكل صيرورةٍ؛ وهذا الرأي يتعارض مع رأي هيغل بالكامل.[41]

- انسجام المتناقضات

كما أشرنا في المباحث السابقة فإنّ فريدريش هيغل يعد أبرز الفلاسفة الذين طرحوا مبدأ التضادّ في الفلسفة الغربية بحيث أصبح الفكر الجدلي الديالكتيكي يعرف بمبادئه الثلاثة التي أُطلق عليها المثلّث الهيغلي أو مثلّث الديالكتيك، بمعنى أنّ كلّ ما يحدث في الطبيعة ناشئٌ من تبدّل الشيء إلى ضدّه، ثمّ هذا الضدّ إلى ضدّه، فيحدث التركيب في مرحلةٍ ثالثةٍ (فكرة - نقيض - تركيبٌ بين الفكرة والنقيض). الجدير بالذكر هنا أنّ الفلاسفة الذين سبقوا هيغل طرحوا هذه النظرية، لكنّ تفسيره لها يختلف عمّا ذكروا، فهو فسّرها في إطار نشوءٍ وانسجامٍ بين المتناقضات، لذلك أصبح هو أوّل من أقحم مبدأ التناقض في الفكر الديالكتيكي، ومن ثم  عُدّ مؤسّساً للديالكتيك الحديث.[42]

على الرغم من اعتقاد الفلاسفة المسلمين بامتزاج الوجود مع العدم في عالم الطبيعة، إلا أنّهم في ذات الوقت يؤكّدون على استحالة اجتماع النقيضين لدرجة أنّهم عدّوا هذا الرأي أصلاً ثابتاً وقضيةً لا نقاش فيها، ولكن هناك اختلافاً كبيراً بين قاعدة امتناع اجتماع النقيضين وبين مبدأ اتّحاد الوجود والعدم في الطبيعة والذي يعدّ من مقوّمات الصيرورة، أي من مقوّمات الوجود السيّال المتدرّج، لذا من الخطأ بمكانٍ تطبيق الأمرين على بعضهما، ولكنّ هذا الخطأ وقع فيه هيغل ومَن حذا حذوه، فهو لم يميّز بين اعتبارات العدم المتعدّدة، أي إنّه لم يدرك المعنى الذهني له.[43]

ليس من شأن العدم أن يتّصف بالوجود على أرض الواقع باعتباره نقيضاً له، لذا لا يمكن تصوّر حدوث انسجامٍ واتّحادٍ في ما بينهما، ولكن حسب عدّه في الخارج - في نفس الأمر - فهو متّحدٌ مع الوجود وليس نقيضاً له. بناءً على ذلك، أخطأ هيغل وأتباعه حينما قالوا أنّ اتّحاد الوجود والعدم في (الصيرورة) هو من سنخ اجتماع النقيضين واتّحادهما مع بعضهما، فهذه الصيرورة تنقض مبدأ امتناع اجتماعهما ما يعني نجاح النظرية الديالكتيكية الحديثة في تفنيد قاعدة امتناع اجتماع النقيضين. هذه الزلّة الفكرية ناشئةٌ من عدم الاكتراث بالمفهوم الحقيقي للموضوع وعدم الالتفات إلى مختلف اعتبارات العدم.[44]

لا ريب في أنّ كلّ من يدرك المفهوم الصحيح لمبدأ استحالة اجتماع النقيضين لا يمكنه بتاتاً تصوّر اجتماعهما، لذا يمكن عدّ ما تبنّاه المادّيون الجدليون ضرباً من المزاح العلمي وقد يكون ناشئاً من التعطّش الشديد لطرح مبانٍ جديدةٍ وابتكار آراء لم يطرحها السلف. هذه القاعدة العقلية الثابتة بين العقلاء والفلاسفة مطروحةٌ أيضاً بين العلماء والمفكّرين بمختلف مشاربهم وتوجّهاتهم الفكرية، وحتّى بين العرفاء والشعراء الذين سبقوا هيغل رغم تبنّيهم للفكر الديالكتيكي، إذ أدركوا عدم إمكانيّة اجتماع الوجود والعدم مع بعضهما لأنهما أمران متناقضان، وهيغل نفسه أدرك هذه الحقيقة وأقرّ بأنّ النقائض التي قال بإمكانية اجتماعها تختلف عن تلك النقائض التي ترفض العقول اجتماعها.

يقول المفكّر الفرنسي بول فولكي في مقالته (ديالكتيك هيغل والتناقض): «باعتقاد هيغل فإنّ فكرة المثال المطلق تتّسم بصورةٍ واقعيّةٍ في الطبيعة والذهن على أساس مبدأ التناقض المطروح في المنهج الديالكتيكي، ولكن لا بدّ لنا من الالتفات إلى أنّ ديالكتيك هيغل لا ينفي استحالة اجتماع النقيضين بالكامل، وبذلك فهو لا يختلف عن الفكر الديالكتيكي القديم الذي كان متقوّماً على مبدأ استحالة اجتماعهما... وعلى الرغم من أنّه طرح آراءً تختلف عن مبدأ استحالة اجتماع النقيضين، لكنّه في باطنه يؤمن بهذا المبدأ حاله حال كلّ إنسانٍ آخر». كما قال في مقالةٍ أخرى دوّنها تحت عنوان (ما بعد الطبيعة): «هيغل نفسه وخلافاً لما يُنسب إليه، كان يعتقد باستحالة اجتماع النقيضين، لأنّ رأيه الذي أكّد فيه على إمكانية اجتماعهما وانتفائهما ناظرٌ إلى التناقض الظاهري لا الواقعي. لقد أكّد هذا المفكّر على أنّ كلّ أمرٍ يتصوّره الإنسان حقيقياً فهو حقيقيٌّ بالفعل، ويبقى هكذا دائماً ويتجلّى في التركيبات اللاحقة، لذا فالتطوّر الفكري إنّما يقتصر على عدم قبول المبادئ العلمية التي يكون خطؤها ثابتاً».

الاختلاف بين الفلاسفة المسلمين والغربيين من أمثال فريدريش هيغل حول مسألة الصيرورة لا يقتصر فقط على النتيجة التي طرحها الغربيون على أساس تجويز اجتماع النقيضين، بل هناك اختلافٌ بنيويٌّ، فحتّى وإن اتّفقا في ظاهر الحال على أنّ الصيرورة هي نتيجةٌ لاجتماع الوجود مع العدم، لكنّ المبدأ مختلفٌ في الأمرين والفكرة ليست على حدٍّ سواءٍ.

-----------------------------------

علي دجاكام : باحث في الفلسفة الغربية الحديثة ـ إيران.

ـ ترجمة: أسعد مندي الكعبي.

[2]  - مرتضى مطهّري، شرح مبسوط منظومة (باللغة الفارسية)، ج 1، ص 49 - 55.

[3]  - المصدر السابق، ص 94.

[4]  - المصدر السابق، ج 4، ص 293 - 294.

[5]  - المصدر السابق، ص 302 - 308.

[6]  - مرتضى مطهّري، مجموعة آثار (باللغة الفارسية)، ج 13، ص 194 - 196.

[7]  - المصدر السابق، ص 200.

[8]  - المصدر السابق، ج 1، ص 494 - 499.

[9]  - المصدر السابق، ج 13، ص 202.

[10]  - المصدر السابق، ج 13، ص 884 – 886.

[11]  - مرتضى مطهّري، شناخت در قرآن(باللغة الفارسية)، ص 194.

[12]  - مرتضى مطهّري، مجموعة آثار(باللغة الفارسية)، ج 1، ص 501.

[13]- مرتضى مطهّري، شرح مبسوط منظومة (باللغة الفارسية)، ج 4، ص 280.

[14]  - مرتضى مطهّري، مجموعة آثار(باللغة الفارسية)، ج 13، ص 200.

[15]  - المصدر السابق، ص 542.

[16]  - مرتضى مطهّري، تفسير قرآن (باللغة الفارسية)، ج 1 - 2، ص 211 – 215.

[17]  - مرتضى مطهّري، مجموعة آثار (باللغة الفارسية)، ج 6، ص 72.

[18]  - المصدر السابق، ص 782؛ مرتضى مطهّري، علوم اسلامي (باللغة الفارسية)، ج 1، ص 73.

[19]  - المصدر السابق، ص 783.

[20]  - المصدر السابق، ص 784.

[21]- مرتضى مطهّري، مجموعة آثار (باللغة الفارسية)، ج 6، ص 784. هذا ما يعبّر عنه بالمثلّث الهيغلي أو مثلّث الديالكتيك، بمعنى أنّ كلّ ما يحدث في الطبيعة سببه تبدّل الشيء إلى ضدّه، ثمّ هذا الضدّ يتحوّل إلى ضدّه ليحدث التركيب في مرحلة ثالثة. إذاً، المراحل الجدلية الثلاثة في ديالكتيك هيغل هي: الفكرة، النقيض، التركيب بين الفكرة والنقيض.

[22]- مرتضى مطهّري، شناخت در قرآن (باللغة الفارسية)، ص 177.

[23]- مرتضى مطهّري، مجموعة آثار (باللغة الفارسية)، ج 13، ص 522 - 523.

[24]- المصدر السابق، ص 159.

[25]- مرتضى مطهّري، فلسفه تاريخ (باللغة الفارسية)، ص 80.

[26] - مرتضى مطهّري، مجموعة آثار (باللغة الفارسية)، ج 13، ص 892.

[27] - مرتضى مطهّري، شرح مبسوط منظومة (باللغة الفارسية)، ج 4، ص 280.

[28] - مرتضى مطهّري، شناخت در قرآن (باللغة الفارسية)، ص 171.

[29]  - المصدر السابق، ص 170.

[30]  - المصدر السابق، ص 175.

[31]  - المصدر السابق، ص 176.

[32]  - المصدر السابق.

[33]  - المصدر السابق، ص 177.

[34]  - النتيجة التي توصّل إليها هيغل من مسألة تكافؤ الوجود والعدم في الحركة هي عدم استحالة اجتماع النقيضين، ذلك لأنّ الوجود والعدم اللذين يتّصفان بالتناقض قد اجتمعا مع بعضهما وأوجدا الحركة (الصيرورة).

[35]  - مرتضى مطهّري، مجموعة آثار (باللغة الفارسية)، ج 13، ص 171.

[36]  - مرتضى مطهّري، مجموعة آثار(باللغة الفارسية)، ص 476 – 479.

[37]  - مرتضى مطهّري، شناخت در قرآن (باللغة الفارسية)، ص 153 – 154.

[38]  - سورة الأنعام، الآيات 75 إلى 79.

[39]  - مرتضى مطهّري، شناخت در قرآن (باللغة الفارسية)، ص 149 – 152.

[40]  - مرتضى مطهّري، مجموعة آثار (باللغة الفارسية)، ج 13، ص 867.

[41]  - المصدر السابق، ص 172.

[42]  - المصدر السابق، ص 158.

[43]- المصدر السابق، ص 164.

[44] - المصدر السابق، ص 169.