البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

شبح الهيغلية فوق أفريقيا، شرعنة المركزية الأوروبية فلسفياً

الباحث :  نيكولاس روسو - Nicolas Rousseau
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  14
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2019 م / 1440 هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 16 / 2019
عدد زيارات البحث :  1017
تحميل  ( 385.060 KB )
ترصد  هذه المقالة منطق هيغل في النظر إلى أفريقيا بما هي قارةٌ دونيّةٌ بالنسبة إلى الكائن الأوروبي. والواضح أن الكاتب والباحث الفرنسي نيكولاس روسو أراد من مقالته هذه بيان الأبعاد والعنصريّة في الشخصيّة الهيغليّة لا سيما حين يفصح الفيلسوف الألماني في سياق محاضراته حول أفريقيا عن هذا النوع الصارخ من العنصريّة في قوله أن «الأسود هو بيولوجيًّا دون الأبيض».

أهميّة هذه المقالة أنّها تلقي ضوءاً كاشفاً على شطرٍ مستترٍ من منظومة هيغل الفلسفية، وخصوصاً في الجانب المتعلق منها بولائه الشديد للعرق الجرماني.

المحرر

-----------------------

بمناسبة مطالعة كتاب أحمد علي ديانغ «هيغل وأفريقيا السوداء»، كنت قد حاولت فهم معنى نصوص هيغل عن أفريقيا، لأقرّر إذا ما كان الفيلسوف الألماني، يدرك جريرة عنصريّته (الأسود هو بيولوجياً دون الأبيض).علي ديانغ برّأ هيغل من هذه التهمة، مبيّناً أنّ استبعاد أفريقيا إلى مستوى خارجٍ عن تاريخ العقل ليست لعنةً، وإنّما هي وضعيّةٌ ممكنةٌ، ناتجةٌ من جغرافيّة القارة السوداء. ولكن تبقى شبهة المركزيّة الإتنيّة الهيغليّة (فيكون الأفريقي دون الأوروبي ثقافيًّا). تلك هي الصياغة الأولى للإمبرياليّة النظريّة للغرب، التي برّرت استعمار القارة، والتي لا تزال تفرض نفسها حتى  اليوم. وعليه ليست الغاية بناء تهمةٍ، وإنّما فهم إنشاء خطابٍ منظّمٍ، موضوعه العالم بأسره، وذلك لأنّ هيغل يتكلم بوصفه فيلسوفاً إلا أنّ أغلاطه بحق أفريقيا تقوم على أفكارٍ مسبقةٍ، وهي الأفكار المنبثقة من آليات الديالكتيك، أي من المنطق الخاص لخطابه، الذي، إذ يقصد أن يدمج القارة السوداء سلمياً في تاريخ العالم، يبعدها عنه إلى حدود اللامعقول. إنّ ما يوحي بالحالة الأفريقية بطريقةٍ نموذجيّةٍ ليس هيغل نفسه بقدر ما هو الوهم الناتج من تطبيق الفهم الديالكتيكي للعالم، من هنا تنطلق الشبهة التي يمكن أن تكون طريقةً في خطابٍ عامٍّ، لا يمكن الدفاع عنه دون رميه بشيءٍ من العيب.

هيغل دون هيغليّة                                                                

تشكل الذكرى الخمسون لاستقلال الدول الأفريقية مناسبةً لمراجعةٍ شاملةٍ للاستعمار الأوروبي[2]، ولمواضيع مثل موقع أفريقيا في التاريخ العالمي -خصوصاً لجهة استقلال دولها عن الدول الغربية- ومستقبل القارة وهي مناسبةٌ لا تكفي لإعادة قراءة هيغل. سنجد عند هذا الأخير التبرير الأول للدونيّة التاريخيّة لأفريقيا، وربما أيضاً الأدوات لتجاوز هذه النظرة (الأوروبيّة المركزيّة) ـ إذا كان حقاً قد أعطانا هيغل كلّ الأدوات لتجاوزها. وعلينا في الواقع القول أنّ هيغل على عكس مؤلفين آخرين، كان ربما أقلّ قلقاً من دحض قد يوجه إليه، بالمقارنة مع عدم الإمكانيّة التي ستواجه خلفاءه للخروج من نسقه. هكذا تصبح المواجهة مع هيغل وسيلةً لطرد شبح الهيغليّة، على النحو الذي صُوّر به السكان الأصليون في فيلم جان روخ حيث مارسوا طقوساً يقلدون بها  المستعمرين البيض، حتى يتخلصوا من خلال عمليّة تقمّصهم من السيطرة الممارسة عليهم[3]. هذا الانعتاق هو من الصعوبة بمكان، لأنّ دسائس الديالكتيك الهيغلي تبدو عصيّةً على الانكشاف. فالهيغليون الأوائل يحبون أن يردّدوا، أنّ هيغل لا يمكن تجاوزه، وأنّ الذي يريد أن يكون مضاداً لهيغل يكون أكثر هيغليّةً من أي وقتٍ مضى إلخ. وبعض الهيغليين يتبادلون الإعجاب من خلال رؤيةٍ ذهنيّةٍ لفيلسوف العقل الكلي، مثل فوكو في نظام الخطاب، حيث يقدّم لنا سيّداً غير مرئيٍّ، محتالاً ومخادعاً يترك ضحاياه يعتقدون أنّهم تحرّروا ليعيد إخضاعهم لسطوته على نحوٍ أفضل  «...لايعني استنجادنا ضدّه أن يكون، على سبيل الاحتمال، حيلةً تواجهنا وفي نهايتها تنتظرنا دون حراكٍ وفي مكان آخر»[4] .ثمة هنا، في ما يتعدى الاحترام نوعٌ من عبادة المفكر بإجلالٍ وهيبة. هل يوجد هنا مجاملةٌ في الموقف الهلع، أو اعترافٌ  بحقيقة أنّه علينا تجاوز ذلك، بفهمٍ خاطئٍ للمفكرـ هيغليّة سيئةـ لنجد على نحوٍ أفضل في مرةٍ أخرى هيغلاً حقيقيًّا؟ وفي الحقيقة إذا اتبعنا منطق الفيلسوف نفسه، يكون من الضروري أن نفهمه بشكلٍ سيّئٍٍ في البدء، حتى لاحقا، تحديداً، نفهمه: الخطأ ليس إلاّ لحظةً من الحقيقة. هذا المساق الانعتاقي يبدو أنه يتطلب جهداً لا ينتهي...لنلحظ، على سبيل المثال أن امرأً مثل نيتشه آلى على نفسه على الدوام أن يحذّر من هذا الموقف التقديسي :إذ يعرض فكره بشكلٍ حادٍّ، جداليٍّ ومفرطٍ في حيويّته،إنّه يحذر من أيّ تقديسٍ لكلامه أو لشخصه. الشفقة ليست الدرس الذي يعلّمه السيّد لتابعيه وإنّما الخطأ الذي ينقله التابعون للدرس... ليس من الجائز في الحقيقة تقديس الذي كان قد تجرأ أن يقدم نفسه «كمهرّج الأبدية».

الأفارقة أكثر من كلّ قراء هيغل ملقّحون ضدّ تقديس السيد، كما يُظهر كتاب بنوا أوكولو أوكوندا، هيغل وأفريقيا[5]

«كيف سيستطيع الأفريقي أن يشارك في حياة العقل، إنْ لم يترك أثراً في تاريخ قراره؟ سيكون من الصعب على الأفريقي، أن يكون هيغليًّا إنْ لم يعد -بطريقة ما- إلى طرح التساؤل حول المشروع الهيغلي[6]

إذا كان من الممكن اليوم إعادة التفكر بأفريقيا، سيكون ذلك مع هيغل،وضد هيغل، وفي ما يتعداه.

سرير بروكوست الديالكتيكي                                     

«هيغل بالنسبة للأفريقي لا ينتمي أبداً لفئة المؤلّفين، الذين تعتبر شروحاتهم وتعليقاتهم، شأناً أكاديميًّا أو مدرسيًّا، كما يؤكد أوكولو أوكوندا. إنّه فيلسوفُ قدرٍ، أطروحاته وسيطات وحي، دراسته تقوم مقام تعزيم أوطرد الأشباح. ظلّه يسكن كشبح ماضي أفريقيا، كما حاضرها ومستقبلها. لا علاقة لاستيضاحه بتمرينٍ أكاديميٍّ. إنّه مسألة حياةٍ أو موت»[7].

نسق العقل الكلي بالنسبة للمؤلفين الأفارقة الذين يناقشون هيغل، يشبه بشكلٍ كبيرٍ التبرير النظري الأكثر اكتمالاً للهيمنة الاستعمارية. وإذا ما ظلّ الأفارقة في مرحلة الطفولة البشريّة، يكون من حقّ الأوروبيين بل من واجبهم إخضاع سكان القارة السوداء، لرفعهم إلى مستوى الحضارة: «إنّنا نأخذ على هيغل مركزيّتيه الإتنيّة والأوروبيّة: إنّ المعنى الكامل للتاريخ، للعقلانيّة التامة وللعالميّة بلغت ذروتها في أوروبا الغربيّة»[8]

من أجل هذه الأسباب لا يُختزل شرح هيغل بشرح نصوصٍ أكاديميّةٍ، ولكنّه يأخذ شكل عودةٍ إلى الماضي الاستعماري، إلى مراجعةٍ للغزو وإلى البحث عن مستقبلٍ آخرَ، بعيداً عن الارتهان للغرب.

إن غزو الدول الاستعماريّة لأفريقيا قد وسم بتأثيراته الثقافيّة صميمها، ولذلك فإنّ الهويّة الأفريقية حُدّدت تاريخياً بهذا التثاقف. ولهذا فإنّ أوكولو أكوندا لا يقترح دحضاً للديالكتيك الهيغلي ولكنّه أراد «تقدير ما يكلّف الانفصال عن هيغل».[9]

كيف يعرض الدور التاريخي لأفريقيا، إن لم يُخضع لمذلّة الديالكتيك؟ «دور أفريقيا في تاريخ العالم، يظهر بالاحتفال بالحيويّة المفرطة لحالة الطبيعة، وبإظهار تبعيّة حالة الطبيعة بالنسبة للمراحل الأخرى، حتى تكتسب هذه  الحالة مغزاها الكامل»[10] هذه القارة تمثل لهيغل دوراً تاريخياً وتربوياً سلبياً: تبيّن لنا أفريقيا أنّ العقل لا يمكن أن يبقى في حالة الانصهار الأصلي مع كلّ ما هو محسوسٌ. إنّها إذاً مثل مضادٍّ في وسط مراحل تطور العقل في التاريخ. لا تاريخ الاّ بالدول وبمؤسساتها.» أفريقيا التي نحن بصددها هنا، ُينظر إليها  ككلٍّ متجانسٍ. إنّها تتميّز بالثبات، بالبدائية، بغياب التاريخ والأخلاق، وبالفلسفة. إنّها بريّةٌ تماماً»[11]

إنّ كتاب علي ديانغ، يبيّن لنا أنّ هيغل لا يرفض من حيث المبدأ استعداد الأفارقة للثقافة. إنّه لا يتحقق ببساطةٍ في الوقائع من الدافع الحقيقي لتحقيقها: ثمة حقاً هنا ديناميّةٌ ولكن لا وجود للطاقة...

إنّ وحدة الرجل الأفريقي مع العالم أصليةٌ، مباشرةٌ وتتّصف بعدم التميّز، بعكس الوحدة النهائيّة التي تتوصّل إليها الحالة العقلانيّة، التي تُنتزع كمصالحةٍ خلال التاريخ. لا يزال الأفريقي في الوحدة الأوليّة للإنسان مع الطبيعة، في دوّامة الحياة ورقصها. لا تُرى أيّ صيرورةٍ قيد التشكّل في أفريقيا، ولا أيّ دولةٍ تُؤسّس لتضطلع بالبعد العالمي في قرراتها المتعدّدة. إذاً، اعتقد هيغل أنّه أسّس ليلقي بأفريقيا في طفولة العقل، واضعاً ختمه على قدرها.

أفريقيا المسحورة

في القسم الأول من كتابه يعرض بنوا أوكولو مختلف أبعاد التاريخ لدى هيغل: التاريخ الأصلي (الذي كتبه معاصرو الحدث)، والتاريخ الأخلاقي(نقد وتلخيض يحاكم الماضي بمقياس الحاضر)، ثم التاريخ الاستشرافي(الذي يستخلص المعنى العقلاني والحقيقي للأحداث). هذه الفصول الأولى تشكل درساً جيداً للمدخل إلى فلسفة التاريخ الهيغلي، ولا تستدعي تعليقاً خاصاً.

القسمان الآخران هما أكثر أهميّة، حيث المؤلف يعبر عن انتقاداته، ويعرض طرقاً لتجاوز الهيغلية.

بالنسبة لكلّ قراء هيغل الرصينين، لا مجال لاتهامه بالعنصريّة: ليس الأفارقة محكومين من خلال طبيعتهم بالجهل وعدم الخبرة.عرف هيغل كيف يتجاوز نظريّة المناخ، التي كانت متبناةً في القرن الثامن عشر. لم يعد من الممكن أن تُشرح ثقافة شعب وأخلاقه بحسب هيغل بالظروف الطبيعية:

ريتر (Ritter)

يؤكد هيغل من جديد على نظريّةٍ، هي كما يبدو ليست جديدةً، لأنّ من الممكن أن نجدها قبله لدى كانط: ثمة علاقة بين البيئة الطبيعيّة للإنسان وثقافته، لكن هيغل لا يربط على نحو مطلقٍ بين الطبيعة والثقافة. إذ يرافق الارتهانَ للطبيعة مواجهةٌ وصراعٌ بين الطبيعة وعقل الإنسان. تحتفظ الروح بشيءٍ من الاستقلاليّة حيال الشروط الطبيعيّة. ولنكرر القول، هيغل بعيدٌ عن نظريّة الطبيعة وعن عنصريّة معاصريه»[12].

العقل (الروح) لا يستطيع أن يجد حقيقته، إلا بتفلّته من الطبيعة، حيث كان سجيناً في البدء. إلاّ أنّ هيغل، مع علمه بذلك، كان من الممكن أن يكون له هذا الموقف حيال أفريقيا، ولكن كان لا يزال لديه نظرةٌ مفرطةٌ ببساطتها عن القارة، ما جعله يعتبرها عالماً خالياً من أيّ تاريخانيّةٍ. وإذا كان له أن يخترع على نحوٍ ما صورة إبينال لأفريقيا كطفلةٍ مسحورةٍ، ألا يكون ذلك على الأقل فعل فكرةٍ مسبقةٍ، ولكن لا بدّ من الأخذ بالاعتبار معرفة العصر»الهزيلة»:

«وإذ تكلم هيغل عن أفريقيا، هل كان يقصد أفريقيا هيرودوس القديمة، أو أفريقيا القرن السابع عشر، إبّان إرسالية جفازي، أو أفريقيا معاصريه في القرن التاسع عشر؟ نماذج أفريقيا هذه ليست متماثلةً، وتوحيدها يقتضي إخضاعها لعمليّةٍ ديالكتيكيةٍ. أي ينبغي أن نُدخل إليها لعبة التاريخ، بقراءتنا المصادر التاريخيّة وكأنّها كتابٌ واحدٌ. إنّنا بالتأكيد نفتقد للبعد التاريخي لأفريقيا. وهو لن يكون العبوديّة ولا الاستعمار، الذي كان قد أدخل أفريقيا في التاريخ. وعلى العكس، ففي اللحظة التي كان فيها هيغل يتكلم عن أفريقيا، كانت عدّة ممالك وأمبراطوريات ذات شأن تقوم  لتوّها رغم وجود العبوديّة والاستعمار تحديداً. وكان القرنان الثامن عشر والتاسع عشر لا يزالان يشهدان ديمومة إحدى أكبر الممالك الأفريقية: مملكة بنين، بغناها ونظامها واحتفالاتها الباذخة والفظة أحياناً»[13]

هيغل الذي أراد للديالكتيك، أن يكون تعبيراً عن صراعٍ جوهريٍّ ذي تحديداتٍ مفهوميّةٍ وزمن تاريخي، فاته تعقيد القارة السوداء. فمن المسموح إذاً الذهاب أبعد من هيغل، أن نعيد إدخال الدعوى الدراميّة للتاريخ حيث الفيلسوف لم يكن يرى سوى أرضٍ يغفو فيها العقل. أوكولو أوكوندا يبيّن من  جهةٍ أخرى أنّ نقصان المعلومات في ذلك العصر لا يعذر من كل شيء. كان لدى هيغل لائحة قراءاته، وعلى الرغم من إرادته الموسوعيّة، كانت معالجاته لا تزال مغلوطةً  حيث إنّه فهم بشكلٍ سيِّئٍ عدة نقاط من روايات هيرودوس، حين كان هذا الأخير يناقش السحر والدين. إذ اعتقد أنّه يمكن القول أنّ الدين في أفريقيا، ليس سوى سحرٍ وخرافاتٍ، وهذا ما لم يقله هيرودوس، فالمؤرخ اليوناني قال ببساطةٍ أنّ الكهنة أيضاً مارسوا السحر.

العبقرية الديالكتيكية لم تضع صانعها بمأمن من الأخطاء الواقعية والتفسيرات المتسرعة. هيغل استسلم لإغراء ادب الرحلات الذي كان تنقل روايات شعبية عن القرن الماضي ،ويستوقفنا، لدى أكثر من فيلسوف كبير من عصر الأنوار، كثيرٌ من مظاهر البهجة، إزاء طبع الزنوج الطفولي والضاحك[14]

ليس لنا أن نصدق هيغل في كلامه عن أفريقيا. وعلينا أن نقوم بالرهان الأفضل وهو أنّه لا يطلب أفضل من أن نناقضه في كلّ موضع حيث يبلغ نسقه حدوده ، ودون ذلك يصبح ديالكتيكه أفيوناً حقيقيًّا. إذا كانت الصفحات عن ديالكتيك الجوهر تستمر في إسكار وإدهاش أكثر من قارئٍ، إلاّ أنّ المقاطع عن أفريقيا، تستحق على الأقل أن تعيد أنسنة المفكر مبينةً أيضاً أنّه هو أيضاً يمكن أن يُخدع.

شكلٌ جديدٌ للعناية الإلهية

لا بدّ هنا من ملاحظةٍ تجعل مسألة الهيغليّة (وتجاوزها) أكثر صعوبةً: لم يرتكب هيغل الخطيئة فقط بافتقاده لمعلومات أمبريقيّة، ذلك أنّ كل الاحتجاجات الواقعيّة التي نأخذه عليها لن تبلغ حدّها الأقصى  لعناد  النسق في تمدّده. فالبعض قد يتكلم عن الأيديولوجيا (بمعنى الخطاب الشامل الذي يشجب مسبقاً أي دحض يمكن أن نوجهه إليه)، ومع ذلك تبقى الكلمة غير ملائمةٍ.

وكما بيّن جيرار ليبرون في قفا الديالكتيك[15]. لم يستطع هيغل أن يوضح نمط خطابه الفريد تماماً، لأنّه أجرى بعض الخيارات غير المعروضة، وغير المبرّرة والتي تحدّد مسبقاً خلاصاته. ونحن، بفضل الديالكتيك، لدينا الثقة أن العقل سنجده في كلّ مكان ،حيث يتمدّد، يشبه ذاته في كلّ تحولاته، متماثلاً وأبعد من اختلافاته .«إذاً لم يعد أي  شيءٍ غريباً ولا أيّ شيءٍ نخشاه تحت شمس العقل. ولهذا نفهم ماذا يعني هذا التجديد الذي لا يتراخى والذي يسبغ على الديالكتيك هالته «النقدية والثورية» : ليس هو سوى فهرس الأمان الوجودي الأكبر(...) من أين لنا أن نتصور تخريباً أكثر لطفاً «وهذيانا مخمورا»ً، أكثر طمأنةً من ذلك؟»[16].

إنّ فهم التاريخ قد تم مسبقا: أكبر الأمبراطوريات اختفت، وأكبر المشاريع دُمّرت بين ليلةٍ وضحاها، والشعوب سيقت بالمئات أضاحيَ إلى مذبح التاريخ، ولكن في النهاية، ثمة معنًى يستخلص من هذه الجلجلة. المصير غير المتوقع، هو هنا مسحورٌ من جديدٍ: الحكومات لا تموت إلا عندما يُستوفى قدرها. ليس من شعبٍ يظهر أو يختفي قبل أوانه، كلّ شيء له حينٌ يظهر فيه على مسرح العالم. جلجلة التاريخ تجري بهدوء، في موكبٍ مؤلمٍ ولكن منظمٍ جيداً. هنود أميركا يستسلمون ويتحوّلون إلى المسيحيّة، لأنّهم يعون مسبقاً أنّ زمنهم قد أفل، وما عليهم سوى الامتثال لسيرورة العقل... المطلب الهيغلي الأدنى في تحرّي الحقيقة، يخبئ بحسب ليبرون مطلباً أقصى في الإيمان بالآخرة: آخرة فداء الزمن، من أجل إدارة الحقيقة. تتحوّل الفلسفة إذاً إلى عنايةٍ إلهيّةٍ حقيقيةٍ: المفهوم في فعاليته لا يمكن أن يتمدّد على غير النحو الذي صنعه. هذا المساق المطمئن تماماً، ينبغي اليوم أن يبدو في غاية الإقلاق.

التيوديسيا الهيغليّة ترفض في النهاية البعد المأساوي للتاريخ: لا يوجد عنفٌ حقيقيٌّ موجهٌ للشعوب، لأنّ ما يتعرضون له أو ما ينزلونه بجيرانهم يأخذ في النهاية معنى وجهة نظر المفهوم-المحدود وبالتالي المنذور للإلغاء الذاتي. للمآسي جانب خاص وتستخلص من وجهة نظر، هي الأخرى خاصةٌ ومدعوةٌ لأن تُتجاوز. الخاص ينحلّ في العام الذي يجسّد الدولة. وضجة التاريخ وغضبه يهدآن في صمت العظمة والوئام.

حين قال نيتشه أن الأمبراطورية الرومانية كانت قد هزمت في زمن تألقها على يد المسيحية[17]،فإنّ رؤيته ليست، بدون شك، أكثر صوابيّةً تاريخياً[18]، وهي على الأقل ارتضت البعد المأساوي والخسارة دونما تعويضٍ. نيتشه الذي أكد أيضاً أن أوروبا حذت حذو الحيوان المفترس حيال المستعمرين لم يحاول أن يبرّر هذا الاحتلال بحججٍ أخلاقيّةٍ ويبيّن الاستمراريّة بين المدنية والتوحش.

تاريخ لا-هيغلي لأفريقيا؟

لمواجهة أيّ نظرةٍ تجاه أفريقيا، من المناسب بحسب أوكولو أوكوندا أن نستعيد في تعقيداتها كلّ الصراعات والمساقات المتغيّرة للتثاقف الذي وسم القارة. قد نفهم إذاً أنّ العالم الأفريقي يتجاوز حدوده الجغرافيّة، من ناحيةٍ بإظهار التأثيرات الخارجيّة التي صاغته، ومن ناحيةٍ أخرى من خلال تأثيره الذي امتد إلى المناطق المجاورة من العالم. فلا تعود أفريقيا تظهر كقارةٍ منغلقةٍ على نفسها، وكتلةٍ متراصةٍ وعصيّةٍ على الاختراق. وبحسب هيغل نفسه، «أن نكون في إسبانيا نكون أيضاً في أفريقيا» وذلك لسببين: المناخ الحار والجاف لوسط شبه الجزيرة الإيبيرية ومن جهةٍ أخرى، تراث الفتح العربي.

«أن نكون في إسبانيا نكون أيضاً في أفريقيا» هذا يوحي أن إسبانيا كانت في لحظةٍ ما أفريقيّةً. سلالة الموحدين كانت قد أدارت إسبانيا انطلاقاً من المغرب. ولنلحظ أنه منذ قرونٍ طويلةٍ أصبح الإسلام عنصراً مميّزاً لأفريقيا بشكلٍ عامٍّ، فهو لم ينحصر بأفريقيا الشماليّة. لقد امتدّ إلى أفريقيا الغربيّة. واجتاح أفريقيا الشرقيّة، كما أنّ بعض خصائص الثقافة العربيّة غزت أفريقيا الوسطى. لقد دعمت الظاهرة العربيّة إلى درجة معيّنةٍ الوحدة الأفريقية بدلاً من أن تعزل أفريقيا السوداء»[19]

سيأتي يومٌ لا نرى فيه العالم الأفريقي وحدةً منغلقةً ولكن سنراه مركز اشعاعٍ نحو الخارج. تلك هي على ما اعتقد إحدى الأفكار القويّة المستوحاة من هذا  الكتاب:

«ماذا كان سيكون عليه الغرب لولا أوغسطين البربري؟ ماذا كانت ستكون عليه الرياضيات والعلوم الأوروبيّة لولا الأرقام العربية؟ ماذا كانت ستكون عليه الملاحة البحريّة والجويّة لولا البوصلة التي مصدرها الشرق؟ هل كان يمكن اكتشاف أميركا لولا مساعدة الأفارقة؟ هيغل لا يرى وحدة العالم القديم كمكان للتبادل المثري. الوحدة الهيغلية تبدو فارغة: ليست سوى فضاءٍ مشهديٍّ حيث يظهر مرةً بعد مرةٍ صناع التاريخ ليقولوا كلمتهم، ثم يختفون في الحال»[20].

أفريقيا هي بحسب شكسبير كالممثل الذي يتبختر ويتحرك على المسرح[21] ثم لا نعود نسمع عنه شيئاـ كذلك هو الأفريقي الذي يرقص ليسلي المستعمر الأبيض ثم عليه أن يختفي سريعاً إذا لم يرد أن يُطرد بفظاظة...

أفريقيا الهيغليّة محكومةٌ أن تظلّ في غرفة انتظار التاريخ(...) التاريخ يغفو في أفريقيا والعقل يتحرك دون أن يتقدم. في أفريقيا يقيم فراغٌ روحيٌّ وثقافيٌّ، وغيابٌ للنظام والطبيعة(...) إنّ مزيداً من الجغرافيا ومزيداً من التاريخ قد يبشر أنّ بأفريقيا ديناميّة حيث العقل حيٌّ على الدوام ويتطور»[22]

أوكولو أوكوندا استعرض عدة مؤلفين اقترحوا تحضير تاريخٍ ليس ذا خطٍّ واحدٍ، وغير موجّهٍ نحو التقدم (نحو التقدم الغربي، في الحقيقة). دسائس الديالكتيك هي من الإطباق بحيث إنّها لا تُرى: لا يكفي الدفاع عن تاريخٍ ذي نظرةٍ إجماليّةٍ وصدفوي  للتفلت من سجن النسق الهيغلي: «بادئ الأمر، الانقطاع التاريخي المواجه للاستمراريّة لا يعفينا (كذا) من الهيغليّة. لأنّ الاستمراريّة تستدعي الانقطاع باسم الديالكتيك، وهذا يعني أنّه باسم الانقطاع استبعدت أفريقيا  عن التاريخ والفكر.(...) نقطةٌ أخرى: بيديما على حق إذ يضع النظريّة الاحتماليّة بمواجهة النظريّة الكلية. ولكن فضلا عن أنّ حقيقة النظريّة الكلية هي ضروريّةٌ لتفكّر نظريّة الاحتمال فإنّ النزعة الكليّة نفسها، تبدو مقيمةً في قلب أيٍّ كان، وفي النهاية فإنّ الاحتمال لا يبعدنا إلا قليلاً عن الهيغلية. ذلك أنّ تعدّد حيرة البعد اللاعقلاني حيال صيغ التاريخ المتعدّدة، تضعنا في حالة بحثٍ عن عقلانيّةٍ متشظيةٍ، وبصيغة الجموع[23].

أوكولو أوكوندا ينتقد بعض أقوال المفكر الكبير الشيخ أنتا ديوب الذي، لأجل أن يعيد الاعتبار لأفريقيا، ينزع إلى تعظيم أصولها، حيث هيغل كان يحطّ من قدرها[24]. لقد أفرط في تعظيمها جاعلاً منها مهد الحضارة (رابطاً إياها تحديداً بمصر)، أنتا ديوب ارتكب نفس خطأ خصومه: أسطرة أفريقيا يحول بينها وبين صيرورةٍ تاريخيّة:«ينبغي القول أن مقولات الشيخ ديوب تعزّز، من بعض النواحي نسق هيغل، فوسواس الأصول في أفريقيا يؤكد، مع بعض التحفظ «بدائية» الزنجي حين فتنة البدايات تحلّ محلّ فتنة النهايات»[25].

القدر الأفريقي

ينبغي رفض  انغلاق أفريقيا على نفسها: إنّ العودة إلى وحدةٍ حقيقيّةٍ إلى جانب الاستعمار هي وهميّةٌ تماماً. ليس فقط أنّ هذه العودة مستحيلةٌ (لا نعود إلى الوراء) ولكن أولئك الذين يريدون أن يفترضوا، أن أفريقيا لم تدخل التاريخ ، إلاّ مع الملحمة الاستعمارية تكذبهم دراسة القرون السابقة. وإذا أرادت أفريقيا أن تكون قوّةً حرةً، عليها أن تواجه هذا القدر المفروض عليها من الخارج. لأنّ الإنسان لا يستطيع أن يسمو فوق قدره إلا إذا بدأ بقبوله:

الفكرة الهيغليّة عن القدر، القريبة من فكرة هولدرن، لعبت دوراً كبيراً في فلسفة هيغل الشاب. هذا المفهوم العقلاني واللاعقلاني في آنٍ، يسمح له بإعداد جدل (ديالكتيك) الحياة والتاريخ. القدر يقترن بتاريخ العالم ويصوّب باتجاه فضاء العالم. إنّه يتجسد في الأقدار الخاصة للشعوب والأفراد حيث العقل(الروح) أرهقته الأهواء التي تتسبب بتوتر بين النهائي واللانهائي، وبين الحرية والضرورة. قدر الشعب كما قدر الفرد هو معطًى لا يرد، ولكنّه هو أيضاً مهمّةٌ مستقبليّةٌ للشعب كما للفرد(...). مفسرو النصوص المعاصرون[26] لا يتبعون هيغل حتى الإقفال الأخير للمعرفة. إنّهم يتوقفون عند المرحلة الرومنطيقيّة للشاب هيغل. إلا أنّ القدر عندهم كما عند هيغل يُعطى في النهاية كرسالةٍ محدّدةٍ جيدا مآلاً خاصاً: إذا لم تكن أوروبا مدعوةً لتسيطر على الشعوب، فهي على الأقل مدعوةٌ لتحضيرها وتحريرها وروحنتها[27]

معرفة هيغل المطلقة يمكن أن تكون وبوعيٍ واضحٍ أمّ الخطابات الاستعماريّة («عبء الرجل الأبيض»). إنّ المنتج الثانوي لفلسفة التاريخ، علم السلالات وفلسفة السلالات تشكّلت في العلوم الوضعيّة، وحملت دفعاً عقلانيًّا لتفوق الرجل الأوروبي. والنضال ضدّ هذه العلوم المغلوطة سينتهي في اليوم الذي سنبيّن فيه تجذّر زيف المزاعم الهيغليّة فيها: «وينبغي على هذا المستوى أن نطرح مسعًى آخرَ في البحث، بحث تاريخ الفكر التقليدي لأفريقيا وأفكاره متفحصين عند الضرورة نتاج المؤرخين، الفنون، الآداب، الأديان، العلوم والعلوم المحليّة لنعطيها عمقاً تاريخياً.(...) ومن أجل ذلك ينبغي الانطلاق من تعقيد المجتمعات الأفريقية، كما من أيّ فكرٍ آخر، وأيّ طبيعةٍ صراعيّةٍ للعلاقات الاجتماعية، وارتقاء هذه الصراعات إلى مستوى الفكر. ذلك أنّ تجاوز الهيغليّة وفلسفة السلالات دونها مثل هذا الجهد»[28].

علم السلالات ينطلق في آن من الإرادة الحقيقية لفهم الشعوب الأخرى ومن ثقافةٍ خاصةٍ. إذا كان موضوعه عاماً، إلا أنّ خصوصيّته تزيّف فهم الشعوب الأخرى. عالم السلالات لا يتفلت إلا بصعوبةٍ من أفكاره المسبقة بسبب القيم الخاصة بثقافته التي يعيد إنتاجها في بحثه. ومن دون إرادةٍ منه يستمر في رؤية العالم وفقاً لآرائه المسبقة. إنّه يعيد إنتاج ترسيمة الهيمنة من خلال الخطاب، (الطوطميّة كدينٍ بدائيٍّ يخلط بين الإنسان والحيوانات).

وعلى نحو أكثر عموميّةً، فهو إذ يعرّف قيمة الثقافات، بحسب معاييره، تستأثر أوروبا لديه دائماً بالدور الخيّر. إنّه الخصم والحكم، لا يضيره شيءٌ في أن يبرهن لماذا ظلّ الأفارقة على حالة الطبيعة. من أين لشعوب ليس لها تاريخٌ، ولا مؤسساتٌ، ولا دينٌ، ولا ثقافةٌ، ولا حتى كتابة أن تسجّل تمايزاً أصيلاً، إذ لا تاريخ من دون كتابةٍ، وبالتالي لا تقدّم، لا وعي ولا حريّة من دونها.

كل الخطابات التي تحاول أن تضع التاريخ والعلم والفلسفة كحصيلةٍ للكتابة هي خطاباتٌ مشبوهةٌ، لا لأنّها مزيّفةٌ بالمطلق، بل لأنّ الإرادة الصريحة في تأكيد امتياز الكتابة، تخفي نوعّية المعارف المحصّلة في عالم المشافهة، والرغبة المخفيّة في الانخراط في نظامٍ ومعارفَ قائمةٍ، تخفي أيّ إمكانيّةٍ أخرى للبحث عن نظامٍ آخرَ.

إنّ هذا التلميح إلى تجاوز المشافهة ما كان إلا لتلميع تفوّق حضارة الكتابة على سائر الحضارات. ويذهبون أبعد من ذلك إذ يتكلمون عن المستوى العالي للكتابة الأبجديّة بالنسبة لأنماط الكتابة الأخرى. هكذا يرتفع الغرب إلى قمة صرح المعرفة [29].

وإذ يستخدم هيغل الكتابة كوسيلة تعبيرٍ قصوى عن العقل (العقل يكتمل باعترافه كلياً  بالخطاب)، فإنّه يكرّس تراتبيّة قيمٍ بين الحضارات. وإذا كانت أفريقيا لا تذكر إلاّ ضمن مفاهيم سلبيّة، فلأنّها ليس لديها ما هو جوهريٌّ من أجل العقل، وليس لديها إلا حيّزٌ خارجيٌّ غيرُ محدّدٍ.

 نجح هيغل في مشروعه، وذلك في تلخيص زمنه. لقد كتب على عتبة الاستعمار، ولخص من أجل الغرب ما كانت عليه أفريقيا في فكره. أراد أن يقوم بتوضيح كلّ شيءٍ، وأن يمسك بكل الماضي ليجيد ترك المستقبل مفتوحاً. وكان المفسرون قد ركزوا على البعد الهيرقلي والجبار لمشروعه. فكروا أيضاً بالعملاق أطلس حاملاً العالم على ظهره، ويكاد ينسحق تحت هذا الحمل.

وكما أن المستقبل لا يمكن أن يكون موضوعاً للفيلسوف، فإن مستقبل قدر أفريقيا كما سائر الأمم الأخرى كان ينبغي أن يظلّ لهيغل صفحةً بيضاء.

 لأنّه لم يرد أن يقول شيئًا أكثر مما هو حاصلٌ الآن، ولأنّ هيغل لم يأتِ بأحكامٍ مسبقةٍ عما سيكون. لم يكن هيغل يملك وسائل حقيقيّةً لتجاوز المركزيّة الإتنية في زمانه وكان يضطلع برفعة هذا الموقع كما بتبعيّته. ولأنّه كان يستطيع أن يحدّد حدوده الخاصة، أحدث في هذا النسق المقفل ظاهرياً ثغرةً، سيتسلل منها أولئك الذين يريدون تجاوزه: «أولئك الذين سيدفنوني هم  بينكم». لا ينبغي إذاً التردّد في الإساءة إلى هيغل إذا كان ذلك سيسقط  صنماً. «إذا كان لا بدّ من هيغل أفريقي، لن يكون شيئاً آخر غير هيغلٍ حقيقيٍّ، بريء من أيّ عقديّة أو أيّ مركزيّة إتنية[30]

أفريقيا ما بعد الاستعمار

أوكولو أوكندا يطلق في هذا الكتاب دعوةً من أجل المسؤوليّة والعالميّة والتثاقف ما بين الشعوب. «إننا إذ نحفر عميقاً نكشف غطاء العالميّة حيث مختلف التقاليد ليست سوى أمكنةٍ تتدفق منها الينابيع»[31].

لنعد إلى قول أرسطو أنّ الإنسان يعرّف بطرق شتى. إنّه يدافع عن الفكرة بأن «الكائن يظهر على أنحاء شتى» وأن الفلسفة ينبغي أن تأخذ في الحسبان هذه التعددية، وأن تكفّ عن الاعتقاد  بالقبض الحصري على معنى الأشياء وتاريخها.

يستعيد المؤلف أيضاً مفهوم الهويّة الذي اقترحه بول ريكور:

«تصب الهويّة السرديّة في المسؤوليّة التاريخيّة: إنني أضطلع بسعادة أجدادي وبشقائهم، وأحمل عبء ضعفي التاريخي كما أحمل مجد مآثري، ومن خلال سلوكي الراهن، أريد أن أكون ابناً جديراً بأبيه، وأن أؤكد السمعة التي تشهد لها مآثري وأفعالي الماضية، وفي الوقت نفسه أريد أن أصحح ما يتوجب تصحيحه إذا اقتضى الأمر»[32]

استعادة التقاليد ضروريّةٌ للنظر إلى الماضي وجهاً لوجهٍ، لكي لا نحمل وهماً بصدده، ولكي لا نبقى في الوقت نفسه  أسراه. هكذا يحاول المؤلف أن يحدّد ما تكون عليه فلسفةٌ أفريقيّةٌ لما بعد الاستعمار، إذا  كنا نفهم ب«ما بعد الاستعمار»  ما حدث بعده، ولكن بشكلٍ خاصٍّ تجاوز أطره الثقافية[33].

المسألة إذاً هي مسألة إيجاد فلسفةٍ أفريقيةٍ، وإذا ما نفينا إمكانية ذلك، فإننا نقبل فكرة أن الأفريقيين لايفكرون : وإذا ما دافعنا عنها، نوشك أن ننشئ نسقاً فكريًا للهوية، خاصاً ويخون النزعة لإنشاء نظامٍ عالميٍّ. وإذا كان لهذه الفلسفة معنًى، ينبغي أن يفكر بشكلٍ خاصٍّ بمفهومٍ لأفريقيا.

سليم عبد المجيد اقترح في سنة 2011 سلسلة من المحاضرات عن هذه التيمة[34]، حول فكرة الوحدة الأفريقية. لن تجد أفريقيا وحدتها إلاّ من خلال تحديد إشكاليتها. خلف المقاربة الدولوزيّة (من دولوز) («توجد المشكلة»)،نكتشف تأثير آلان باديو، الذي عرف بحزم كيف يلقن أكثر من شاب دولوزي لغة الهويّة والوحدة والتفوق وأن يضع الدولة في قلب التاريخ.

وفي الوقت الذي لا تعود فيه أوروبا تدّعي نقل «الحضارة»، وإنما الإنماء تستمر في فرض رؤيتها للعالم، على أفريقيا السوداء بطرقٍ أخرى، ينبغي أن نتساءل: من الذي ينبغي عليه أن يحدّد ماهيّة المفهوم أو المسألة الأفريقية؟ هل ثمة هويّةٌ واحدةٌ ومسألةٌ واحدةٌ؟ أما زالت اللغة الشاملة لغة مختلف الدول التي باشرت باستعمارٍ جديدٍ غير معترفٍ به (بعد فرنسا الأفريقية والصين الأفريقية...)؟.

الفكر الأفريقي هو صرخةٌ يبيّن لنا أنّنا لم نعد نستطيع أن نظلّ على رؤية العقل والمفهوم المظفّرة. «السؤال الكبير هو: كيف يمكن وينبغي أن تكون  أفريقيا؟ إن اعتباراتنا تلتقي مع الاعتبارات التي تقترحها رواية نغال، ينبغي التحرّر من عقدة المستعمَر، والالتزام بالقضيّة الأفريقيّة والتصالح مع تقاليد ديناميّة وحاسمة، حيث يُعبّر عن تعدّدية الحكمة والفلسفة.(...) وعلى الأثر تنمحي النظرة العنصريّة: فيكون وداعٌ للاجماع ووداعٌ للفلسفة وللميتافيزيقيا المضمرة(...) تلك هي اللحظة التي يمكن أن نصرخ فيها كما تمبلس  لدى نهاية فلسفة البانتو:

«هذا هو مغيب الآلهة. إنّنا حيال فيلسوفٍ بين عدّة فلاسفةٍ». لم يعد الفيلسوف الأفريقي يلعب دور العميل الوسيط لخطابٍ يأتي من الخارج، لا عمل له سوى إثارة الإعجاب. لقد وجد هويته، راضياً  بتقاليده وبسائر التقاليد، وعلى نحوٍ حاسمٍ[35]

 لقد أُعيد إذاً التفكير بهيغل في حدود كلامه عن أفريقيا، وبالمقابل أُعيد الاعتبار لأفريقيا في ما يتعدى الحدود التي كان هيغل قد سجنها داخلها. إنّ التواريخ الأفريقية كما التواريخ الأوروبية، مترابطة الارتهان في السراء وفي الضراء. ولتجاوز النزعة الهيغلية، ينبغي أيضاً تجاوز النزعة التي تعتبر أنّ أفريقيا هي أصل الحضارة، وإدراجها ضمن الصيرورة ومواجهة التحدي الذي أطلقه هيغل: تجاوز الشعور المأساوي واليأس، وبتعبير آخر، الخضوع لواقع الحال. إن ما يؤجج  شعور الأفارقة وربما الشعور بالتشاؤم تجاه التاريخ، هو فكرة أن ليس بالإمكان فعل أيّ شيءٍ وأنّه ينبغي عليهم قبول البؤس والخضوع للمؤسسات التي ورثوها من الإمبراطوريات الاستعمارية.

الفلسفة الأفريقية بهذا المعنى هي دعوةٌ لوعيٍ فلسفيٍّ بشكلٍ عامٍّ. وكما نرى فإنّ بنوا أوكولو يؤول إلى موقفٍ هو في المحصلة، موقفٌ تصالحيٌّ وهادئٌ، يدعو إلى التفكير بقدرٍ مفتوحٍ ومسؤولٍ من أجل أفريقيا ـ لأنّه من غير المفيد تحريك السكين في الجرح وإعادة إحياء الأحقاد القديمة، ومشاعر الغضب والسخط، التي كان سيمينون شاهداً عليها، حين عاد بعد رحلة في أفريقيا الاستوائية في العام 1932 حيث شاهد بؤس المستعمرات الذي كان صداه مدوِّياً حين نشر تحقيقه: « أيها السادة إنّ أفريقيا تخاطبكم: تباً لكم!».

---------------------------

نيكولاس روسو : صحافيٌّ وأستاذ الدراسات السياسية في معهد رين (1994-1999) – باريس  فرنسا.

ـ العنوان الأصلي: Benoît Okolo Okonda: Hegel et L’Afrique

ـ المصدر:  https: www.actu-philosophia.com. Benoît Okolo Okonda: Hegel et L’Afrique  

ـ تاريخ الصدور: 7 شباط 2013.

ـ ترجمة: صلاح عبد الله.

[2]- 1960 est l’année d’accès à l’indépendance d’une quinzaine d’Etats issus des empires coloniaux français, belges et anglais : Cameroun, Togo, Mali, Tchad, Sénégal... Voir la liste complète sur le site de France24.

[3]- Voir le film de Jean Rouch, Les Maîtres fous (1955).

[4]- L’ordre du discours, page 74.

[5]- Benoît Okolo Okonda, Hegel et l’Afrique. Thèses, critiques et dépassements, Le Cercle Herméneutique, 2010.

[6]-  Page 44.

[7]- Page 19.

[8]- Page 21.

[9]- Page 23.

[10]- Page 37.

[11]- Page 38.

[12]- Page 55.

[13]- Page 66.

[14]- « Il y a, dispersés dans toute l’Europe, des esclaves nègres chez lesquels personne n’a jamais trouvé trace d’ingéniosité. Mais l’on voit continuellement des Blancs de sang inférieur, sans instruction, se distinguer parmi nous dans toutes les professions » (Hume). « Les Noirs sont extrêmement vaniteux, mais à la façon nègre, et ils sont si bavards qu’il faut les disperser à coups de bâton » (Kant). Voir Le bêtisier des philosophes, de Jean-Jacques Barrère et Christian Roche, Seuil, 1997.

[15]- Voir le compte-rendu de ce livre sur ce site.

[16]-  Gérard Lebrun, L’envers de la dialectique, page 314.

[17]- Voir l’Antéchrist, §58 : « Le christianisme a été le vampire de l’Empire romain ».

[18]- Pour une vision historique plus juste, voir le livre de Paul Veyne, Quand notre monde est devenu chrétien, Livre de Poche, 2010.

[19]- Page 66.

[20]- Page 68.

[21]- Macbeth, acte V, scène V.

[22]- Pages 69- 70.

[23]- Page 73. On pourrait toutefois préciser que, loin de méconnaître la contingence ou de vouloir l’expulser de son système, Hegel lui donne au contraire une place centrale. Voir le livre de Bernard Mabille, Hegel : L’épreuve de la contingence, Aubier Montaigne, 1999. A chaque étape de son développement vers la liberté, l’Esprit affronte une contingence de plus en plus grande.

[24]- Une question fort débattue quant aux origines de la culture africaine concerne la place de la civilisation égyptienne, au carrefour de l’Afrique et de l’Asie : peut-on dire que l’Egypte est africaine ? Autre question, celle de l’origine de la philosophie. La philosophie est-elle uniquement grecque ? Ne porte-t-elle pas l’influence de l’Inde et aussi de l’Egypte, donc de l’Afrique ? N’y avait-il pas une autre philosophie, proprement africaine, indépendante de celle née en Grèce ? Dire que la pensée rationnelle a existé aussi en Afrique, c’est mettre celle-ci à égalité avec l’Europe. Y avait-il une philosophie africaine avant l’arrivée des colons européens ? Dans sa préface au livre d’Okolo Okonda Bernard Stevens le nie, ce qui lui a valu plusieurs réponses très dures, comme celle de Louis Mpala Mbabula :Bernard Stevens, un scandale pour la philosophie africaine !. On peut toutefois se demander s’il faut absolument juger de la valeur d’une culture à la présence en celle-ci d’une « philosophie », au risque de donner au mot une extension qui en appauvrit considérablement le sens. Les paroles du sage Ogotemmêli, que Marcel Griaule recueille dans Dieux d’eau ne relèvent à l’évidence pas de la philosophie, mais pourraient définir un système de pensée cohérent quoique non philosophique - la cosmogonie Dogon en l’occurrence. Lire le livre Dieux d’eau - Entretiens avec Ogotemmêli sur le site des classiques des sciences sociales.

[25]- Page 91

[26]- Okolo Okonda pense à Ricoeur, Heidegger et Gadamer, auxquels il a consacré sa thèse

[27]-  Page 82.

[28]-  Page 83.

[29]- Page 95.

[30]-  Page 97.

[31]- Pages 121- 122.

[32]- Page 107.

[33]-  Voir cet entretien en ligne avec Jacques Pouchepadass : « est-il admissible que l’histoire se réfère toujours à l’histoire de la modernité et du parcours de l’Occident ? Ce parcours est-il le modèle nécessaire de l’histoire de tous les peuples de la planète ? Le capitalisme est-il véritablement une invention exclusivement européenne ? ».

[34]- Voir la présentation de son séminaire au Collège International de Philosophie.

[35]- Page 115.