البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

تأملات في فكر هيغل، هل الإسلام انعكاس لليهودية؟..

الباحث :  إيفان دايفدسون كالمار - Ivan Davidson Kalmar
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  14
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2019 م / 1440 هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 16 / 2019
عدد زيارات البحث :  873
تحميل  ( 371.072 KB )
تسعى هذه المقالة للباحث والأنثروبولوجي الكندي إيفان دايفدسون كالمار إلى الخوض في فكر هيغل ضمن سياق تأمّليٍّ، وفيها يطرح سؤالاً جوهريّاً طالما شغل فكر الحداثة في جانبيه العلماني واللاهوتي على امتداد أحقابه، عنينا به السؤال حول أن الإسلام يشكل ـ بحسب المزاعم الهيغلية ـ انعكاساً أنطولوجيّاً للديانة اليهودية.

ومع تحفظنا المسبق على ما ذهب إليه كالمار في نقده لأطروحة هيغل تبقى هذه المقاربة النقدية مهمة من جانب باحثٍ غربيٍّ حاول تبيين الاختلالات المعرفية في نظرة هيغل إلى الإسلام.

المحرر

---------------------------

حينما دافع فيلهلم دوهم (Wilhelm Dohm)في القرن الثامن عشر عن منح الحقوق المدنيّة لليهود، فإنّه قد وصفهم بـ"اللاجئين الآسيويِّين البؤساء". في السابق، كان الجميع يُسلِّم جدلاً بأنّ اليهود هم شعبٌ شرقيٌّ وأنّهم أنسباء العرب بالرغم من أنّ العقود التي شهدها الشرق الأوسط من العداء العربي-اليهودي قد حجبتْ هذه الحقيقة وأوصلتها إلى حدّ النسيان. لطالما تمّت المقارنة بين اليهوديّة والإسلام، وقد ذكر إدوارد سعيد في العام 1978 أنّه "تتشابه معاداة السامية – كما ناقشتُها بفرعها الإسلامي - مع الاستشراق بشكلٍ وثيق" وقد عبّر مراراً عن هذا الرأي. على الرغم من ذلك، تمّ التغافل إلى حدٍّ كبيرٍ عن آراء سعيد لدى مناقشة مؤلّفاته. لحسن الحظ، أصبح تاريخ "اليهود" و"المسلمين" -كمصطلحين مرتبطَين بالخيال المسيحي الغربي- ينال منذ عهدٍ قريب أهميتهما المستحقَّة في المواد المنشورة. وعليه، سوف يتناول هذا البحث الصياغة المشتركة للـ"اليهودي" و"المسلم" في فكر جورج فيلهلم فريدريش هيغل.

 اعتبر هيغل كجميع مُعاصريه أنّ اليهوديّة والإسلام هما دينَين نمطيَّيْن في غرب المشرق وأنّهما يتميّزان عن الأديان الشرقيّة المحضة في الهند والصين ويميلان إلى الغرب المسيحي. تناول هيغل اليهوديّة بتفصيلٍ كبيرٍ في سياقاتٍ متعدّدةٍ بينما تطرّق إلى الإسلام بشكلٍ متقطِّع. وعليه، لا يُمكننا أن نلوم الباحثين الذين عالجوا مسألة اليهوديّة وفقاً لهيغل بسبب عدم ذكرهم لشيءٍ تقريباً عن الإسلام. مع ذلك، وعلى الرغم من عدم اعتماد آراء هيغل حول اليهوديّة على فهمه للإسلام مطلقاً، إلا أنّ العكس ليس صحيحاً لأنّ فهمه للإسلام قد استند بشكلٍ حاسمٍ إلى الطريقة التي كان ينظرُ فيها إلى اليهودية. بالنسبة لهيغل، انتهت الدعوة اليهوديّة مع تجسُّد المسيح وكان ينبغي لها أن تختفي آنذاك، ولكنّها لم تزُل بل أنتجت عبر مبدئها الديني ردّة فعلٍ متأخّرةً، واندفاعاً غريباً من الحماس، ومجهوداً أخيراً من الطاقة تمثّل بالإسلام. بما أنّ هيغل قد اعتبر أنّ الإسلام هو يهوديّةٌ متأخّرة فقد أخفق إخفاقاً ذريعاً في تناوله التاريخ الشامل عن الشعوب والأديان.

 يرى هيغل أنّه حينما انبعثت الروح اليهوديّة مجدّداً على هيئة الإسلام، فإنّها قد ظهرت في بيئةٍ تاريخيّة مختلفةٍ عن إسرائيل القديمة. تنامى الإسلام في مقابل قوّةٍ جديدةٍ تمثّلت بالمسيحيّة الغربيّة الألمانية، وقد اعتبر هيغل أنّ النظام السياسي والثقافة في ألمانيا خلال القرون الوسطى كانا همجيَّيْن بينما أنشأ الإسلام في الحقبة نفسها حضارةً باهرةً. بالإضافة إلى ذلك، ذكر هيغل أنّ الإسلام -كالدين المسيحي- قام بنبذ الاصطفاء اليهودي المتجلّي بإصرار اليهود على أنّ الله قد اختار شعبه على جميع الشعوب. لهذه الأسباب، أشار بعض المؤلّفين المسلمين إلى أنّ هيغل كان معجباً بالإسلام. في كتابه "أوروبا والإسلام"، يصفُ هشام جعيط نظرة هيغل إلى الإسلام التي تتّسم "بالصدق العميق والشاعريّة البارزة" على أنّها تتسامى فوق "اختصاص الإله اليهودي، وتأخذ فوراً الأرضيّة العالية المتمثّلة بالشمول وبالتالي فإنّها تنقّي الذكاء البشري وتحرّره".

 هذه هي كلمات جعيط لا هيغل. على الرغم من أنّ هيغل كان يعتبر الاعتقاد بالاصطفاء اليهودي خللاً في اليهودية، إلا أنّه كان يعتبر أنّ الشموليّة بهيئتها الإسلاميّة ليست شيئاً أفضل بل هي أسوأ بكثيرٍ. أغلب ما أصرّح به هنا يقتفي أثر الفكرة التي طرحها جيل أنيدجار في كتابه "اليهودي والعربي: تاريخٌ عن العدوّ". ما يحملُ أهميةً خاصةً هو أنّ أنيدجار قد أدرك الطابع "السياسي ـ اللاهوتي" الذي تتّسم به الرابطة بين اليهودي والمسلم المتخيَّلَيْن، وقد اعتبر أنّه في التاريخ الثقافي الغربي فإنّ الإخضاع التام للمجتمع في الشرق الإسلامي لحكم "الطاغي الشرقي" يُوازي الاستعباد الكامل للمسلم واليهودي على أعتاب إلهٍ بعيدٍ ومنسوبٍ إلى عالمٍ آخر. تظهر هذه المقارنة الضمنيّة في فلسفة هيغل بشكلٍ صريحٍ، وأودُّ أن أستفيض في توضيح فكرة أنيدجار الأساسية هنا مع الإشارة إلى تفاصيل أكثر حول الأبعاد المتعدِّدة في فلسفة هيغل التي تتطرّق لمسألة الصياغة المشتركة للـ"المسلم" و"اليهودي".

لا يوجد إجماعٌ في المواد المنشورة حول درجة ثبات آراء هيغل عن اليهودية. يُشير إمانيويل ليفيناس (Emmanuel Levinas) إلى أنّه "مع بعض التعديلات القليلة" فإنّ الآراء غير المادحة التي عبّر عنها هيغل الشاب في فرانكفورت حول اليهوديّة "كان يُقدَّر لها الاندماج في المنظومة التي وعاها هيغل بشكلٍ تامٍّ في (مدينة) جينا[2] ". من ناحيةٍ أخرى، يُشير إميل فاكنهايم (Emil Fackenheim) إلى أنّ هيغل الشاب كان يعتبرُ اليهوديّة باطلةً ولكن حينما "نضج تفكيره" فقد "أدخل اليهوديّة إلى دائرة الحقيقة الدينيّة". لن نتطرّق إلى التعديلات الكثيرة التي أجراها هيغل في تقييمه النسبي لليهودية والإسلام مقارنةً مع الأديان الأخرى كتلك الموجودة في اليونان الوثنيّة أو الهند الهندوسيّة. مع ذلك، فقد صاغ أفكاره المتعلِّقة بطبيعة اليهوديّة والإسلام وعلاقتهما بالديانة المسيحيّة بشكلٍ تامٍّ تقريباً خلال فترة النضج التي قضاها في برلين وقد بقيت ثابتةً بالرغم من المراجعات العديدة لمحاضراته ومؤلّفاته.

على غرار فكره الجدلي، فإنّ آراء هيغل حول اليهوديّة والإسلام ترتكزُ على مجموعةٍ من التناقضات وأودُّ التركيز على اثنتين منها. أول تناقضٍ هو الروح المجرّد في مقابل الروح الملموس، وأمّا التناقض الثاني فإنّه يُميِّز بين وجود الروح في صورةٍ عامةٍ تنطبق على جميع البشر (Weltgeist) وهيئاتٍ خاصة تتّصل بأقوامٍ أو مناطق محدّدةٍ (Volksgeist).

الروح المجرد والروح الملموس

في ما يتعلّق بالتناقض الأول، يقودنا المسار التاريخي من المجرد إلى الملموس. في "الرواية الكبيرة" الفلسفيّة، يعتبرُ هيغل أنّ التاريخ البشري يتطابق مع تاريخ الروح. حينما تحيا البشريّة في أشدّ مراحلها البدائيّة، فإنّها لا تستطيع معرفة الروح على الإطلاق (وهذا يعني وفقاً لبيان هيغل أنّ الروح لم يبدأ بعد بإدراك نفسه)، وبالتالي يدرَك "الروح" بشكلٍ مبهمٍ كجزءٍ من "الطبيعة". لاحقاً في هيئته "المجرّدة"، يتجلّى الروح للبشر في مقابل العالم الملموس. أمّا في هيئته الأخيرة "الملموسة"، يتمُّ إدراك تداخل الروح مع العالم الملموس (أي أنّ الروح يعرف نفسه). كما يبدو ظاهرياً، فقد عاد الروح إلى تطابقه البدائي مع الطبيعة، ولكنّ هذا بعيدٌ كلَّ البعد عن الحقيقة. في المرحلة البدائيّة، لم يتحقّق إدراكٌ للروح المجرّد على الإطلاق ولكن في أكثر مراحل "الروح الملموس" تطوُّراً لم يفقد المجرّد وجوده، ولم يحذف ظهورُ الروح الملموس حضورَ الروح المجرد. على الرغم من تشابكه مع العالم الملموس، إلا أنّ الروح في المرحلة المتطوّرة يبقى منفصلاً عن هذا العالم بشكلٍ ملحوظٍ. بدلاً من إزالة التجرُّد، يقومُ الروح الملموس باستيعاب التعارض بين المجرد ـ الملموس أو استبداله، وبالتالي يتوحّد كلٌّ من بُعديِ الروح. تتّبع العملية التاريخية هنا نمطاً محددّاً، وقد اعتبرها روبرت والاس (Robert M.Wallace) من سمات مؤلّفات هيغل: الفصل أولاً، ومن ثمّ التخصيص، وفي النهاية "الحفاظ على الهويّة عبر التخصيص".

تمثّلتْ أولى خطوات هذه العمليّة بفصل الروح عن الطبيعة الملموسة، وقد اعتبر هيغل في "محاضرات حول فلسفة التاريخ" في العام 1827 أنّ هذه الخطوة هي إنجازٌ فريدٌ لليهوديّة ضمن المشهد الديني الأعم في المشرق:

"بينما كان البعد الروحي بالنسبة للفينيقيّين مقيَّداً بالطبيعة، إلا أنّنا نجده لدى اليهود منقَّى بالكامل: أي الناتج النقي للفكر. يظهر التصوُّر الذاتي في ميدان الوعي، ويُنمّي البعد الروحي نفسه في تناقضٍ حادٍّ مع الطبيعة ولكن بالاتّحاد معها."

 يُشير هيغل إلى أنّ هذا الإنجاز قد ميّز اليهوديّة عن الأديان الأخرى في المشرق، ولكن بما أنّه قد طابق بين اليهوديّة والإسلام كما سوف أُبيّن في موضعٍ آخر من هذا البحث، فقد كان بإمكانه أن يذكر الإسلام هنا أيضاً. وفقاً له، أعدَّت اليهوديّة الإنسان (مع العالم والروح) للخطوة التالية التي تجلّت في المسيحية والثالوث حيث عُدَّ تجسُّد المسيح بداية صيرورة الروح ملموساً. احتاجت هذه العملية من التحوّل إلى خطوةٍ طويلةٍ أخرى قد تُوِّجتْ بالمذهب المسيحي البروتستانتي (وكما قد يُشير بعض الباحثين فإنّ هذه العملية ما زالت مستمرةً لغاية الآن). في النهاية، نما البعد الروحي في مقابل الطبيعة ولكن أيضاً "بالاتّحاد معها".

السموّ

اعتبر هيغل أنّه تمّ إدراك الـ(Geist) (الروح) خلال المرحلة اليهوديّة من الدين على هيئة إلهٍ عظيمٍ وقديرٍ لكن منفصلٍ تماماً عن العالم؛ الواحد الذي يُعدُّ العالم لا شيء بالمقارنة معه. حتّى سبينوزا (Spinoza) الذي يُمكن أن نحلِّل بأنّه قد تخيّل إلهاً يسكنُ داخل العالم كان يُفكّر "كيهوديٍّ" وفقاً لهيغل. صرّح هيغل بأنّ فلسفة الدين لدى سبينوزا كانت "نظريةً شرقيةً" و"صدًى آتٍ من بلادٍ شرقيةٍ" لأنّه كان يعتقد بأنّ "الله وحده هو المتيَّقَن، والقطعيّ، والماهية المنفردة. أمّا جميع الأشياء الأخرى فإنّها مجرّد تعديلاتٍ لهذه الماهية" وبالتالي فإنّها لا شيء بجوهرها. انسجم هذا المفهوم حول الله مع فهم هيغل لفكرة "الأعلى" التي نالت قسطاً كبيراً من النقاش آنذاك. وفقاً لهيغل، فإنّ مفهوم السموّ يُمثّل "محاولة التعبير عن المطلق مع عدم العثور في ميدان الظواهر على شيءٍ يُناسب هذا البيان". آخذاً هذا التعريف بعين الاعتبار، أطلق هيغل على اليهوديّة تسمية "دين السموّ".

يؤدّي إدراك صغر العالم والإنسان مقارنةً بالخالق إلى إحساس الأفراد المؤمنين ب"الأعلى" أنّهم عبيدٌ في مقابل سيدهم. كان هيغل قارئاً ناقداً لكتابات كانط وقد تعرّض لهذا الموضوع كما غيره. اتّفق هيغل مع كانط حيث إنّه قد فهم الشعور الذي يُلازمنا لدى التفكُّر بالأعلى على أنّه شعورٌ بالتسليم التام. صرّح كانط بأنّ الشعور بوجود الأعلى يتلازم مع "الإحساس بفقدان حريّة الخيال نفسه". يُشيرُ أنيدجار إلى الطابع السياسي لهذه الفقرة حيث يُعدُّ فقدان الحريّة مقام الخاضعين لـ"العنف أو الهيمنة" و"الجبروت والقوة" وغير الممارسين لها. بالنسبة لأنيدجار، فإنّ كانط قد وضع القواعد لهيغل الذي اعتبر بدوره أنّ الخضوع اللاهوتي لليهود على أعتاب الإله الواحد العليّ (بسبب فقدانهم للحريّة) يُشبه الخضوع السياسي للمسلمين على أعتاب الله والطغاة الشرقيين.

لا ينتبه أنيدجار لإحدى الاختلافات بين كانط وهيغل ما يُعزّز استنتاجه الأخير بأنّ هيغل هو الذي قد "طرَحَ المسلم". تتألف نظرة كانط حول الشعور بالأعلى من خطوتين: الأولى هي الإحساس بالخضوع الذليل تجاه شيءٍ لا نستطيع تصوّره، وأمّا الخطوة الثانية فهي استعادة ثقة الفرد المتدبِّر. يحصل هذا حينما يُدرك العقل أنّه نظراً إلى قدرته على التفكير بالأمر الذي لا يُمكن تصوّره (أي الأعلى)، فإنّ العقل هو أعظم من ذلك الشيء.

"الذهول الذي يُقارب الرهبة، والرعب والارتعاش المهول الذي يعتري الناظر حينما يُشاهد سلسلة الجبال التي ترتفع إلى السماوات، والوديان السحيقة مع السيول التي تجتاحها، والأراضي المقفرة الغارقة في الظلال التي تُثير التأمُّل الحزين... نظراً إلى الأمان الذي يعلم الناظر أنّه يتمتّع به، فإنّ هذا الخوف ليس حقيقياً ولكنّه مجرّد محاولةٍ للتورّط الذاتي عبر الخيال من أجل الشعور بقوّة تلك القدرة الذهنيّة نفسها، ودمج حركة العقل المثارة مع هدوئه، وبالتالي نكون أسمى من الطبيعة في داخلنا وكذلك في الخارج بقدر ما يؤثِّرُ ذلك على شعورنا بالهناء."

في الخطوة الثانية، يعودُ الاطمئنان والثقة. لا نشعرُ بالخضوع الذليل بل بنوعٍ من الاستكبار وأنّنا لسنا أدنى من الطبيعة. وعليه، فإنّ كانط لا يُساوي بين السموّ والخضوع التام. إذا كانت إحدى الأديان تُؤمن بالسموّ ديناً من الذل النفسي التام في مقابل الإله العظيم، فإنّه لا يمتُّ بصلةٍ إلى السموّ الذي تصوّره كانط. ولكنّه يتّصل بالسموّ الذي تصوّره هيغل. وفقاً لهيغل، فإنّ العابد اليهودي والمسلم (على خلاف الشخص الذي يراقب الجبل العالي في المثال الذي قدّمه كانط) لا يُدرك أنّ السمو الخارجي هو مجرّد مؤشِّرٍ على العظمة الداخلية للإنسان. استناداً لهيغل، فإنّ الأعلى يطمسنا كلياً من خلال عظمته الخارجية وحينما نلاحظه فإنّنا نتّسم بالضآلة الباطنية. في الدين الذي يؤمن بالسمو، لا يُدرك الروح أنّه ملموسٌ ويسكن في العالم بل يكون مجرداً وخارج العالم بشكلٍ تام.

هيغل والمشرق

لم يكن هيغل أول مفكِّرٍ يصف اليهوديّة بأنّها دينٌ شرقيٌّ يؤمن بالسموّ – بمعنى كونه ديناً يتهيّب من السموّ الإلهي الجذري الذي يعلو على التفاهة النسبيّة للوجود البشري - ولكنّه كان أكثر من أعلن عن آرائه بصراحةٍ. يبدو أنّ جوزف سْبِنس (Joseph Spence: 1699 -1768) كان أول من استخدم كلمة "الاستشراق" في اللغة الإنكليزية في مقالته المنشورة في العام 1726 التي تعالج ترجمة (Pope) لملحمة الأوديسة[3] . تُعلّق إحدى الشخصيات في مقالة سبنس على جملةٍ وردت في الملحمة:

"اختفت الشمس من السماء، واندفع الظلام ليشمل الأرض! هذه الرؤية التنبُّؤية... هي السمو الحقيقي؛ وعلى وجه الخصوص تُقدّم استشراقاً يفوقُ ما نصادفه في أيِّ موضعٍ آخرَ في كتابات هومر".

لاحظ أنّ السموّ هنا لا يرتبط بالكتاب المقدّس اليهودي فحسب بل بتمام المشرق. (تطرّق سبنس للفرضيّة الشائعة آنذاك التي أفادت أنّ هومر قد تأثّر بالأسلوب الشعري الشرقي والإنجيلي). يُعدُّ هذا الموقف أساسياً في محاضرات روبرت لوث (Robert Lowth) عن "الشعر المقدّس لدى العبرانيّين" والتي نُشرت في العام 1753 حيث يقدّم أمثلةً عربيّةً لإبداء بعض آرائه المتحمِّسة عن اللغة العبرية. أمّا يوهان غوتفريد هِردِر (Johann Gottfried Herder)، فإنّه يبدأ كتابه "روح الشعر العبري" (1782-1783) عبر الإشارة إلى أنّ "الجميع يعرف كتاب الأسقف لوث الجميل الذي لقي ثناءً واسعاً". انتشرت الفكرة التي أفادت أنّ الإنجيل مشبعٌ بالسموّ الشرقي وربما كان هذا هو سبب اندفاع السموّ إلى مقدّمة التأمُّل الفلسفي.

 على الرغم من ذلك، فإنّ هيغل لا يتقاسم الإعجاب غير الناقد بالسموّ لدى الأفراد السابقين على الرومانسيّين، ولا الإعجاب الأكثر تحفُّظاً لدى هردر. اعتقد هيغل أنّ السموّ في الدين هو خطوةٌ نحو انكشافٍ أعلى للروح كما أنّ اليهوديّة (وبالتالي الإسلام) هي خطوةٌ إلى دينٍ أعلى.

في النهاية، عالج هيغل المشرق واضعاً نصب عينه نفس هدف صديقه الشاعر هولدرلين (Hِlderlin) والشاعر البريطاني كوليردج (Coleridge). أظهرت إملي شايفر (Emily Schaffer) أنّ هدف هذين الشاعرين كان إعادة طرح المذهب البروتستانتي المسيحي في وجه التحدّي المتمثّل باكتشاف الكتب الشرقيّة المقدّسة حيث تمّ العثور على الكثير من المبادئ الأخلاقية والقصص الإنجيلية في نصوص التعاليم الأخرى. تمثّل التحدّي في تنقية الأمور التي تنفرد بها المسيحيّة وإيجاد طريقةٍ للحفاظ على أفضيلتها مع توجيه كامل الاحترام للآخرين (ولكنّنا نشكّ بهذا لدى المراجعة). تنصُّ شايفر أنّ كولردج وهولدرلين قد قدّما "دفاعاً جديداً عن اللاهوت المتحرِّر فكرياً ما أنقذ المسيحيّة حتى نهاية العصر الفكتوري تقريباً". في هذا الدفاع، برز المشرق - لا اليهوديّة فحسب - كأمّ التديُّن الحقيقي، التديُّن الذي ينطبق في زمانه ويُمهِّد لما هو أكثر انطباقاً أيضاً.

قام هيغل بمنح اليهود (والمحمديِّين) شيئاً بإحدى يديه وسلبه منهم بالأخرى، ويظهر هذا الأسلوب في دفاعه الموجَّه ضدّ اتّهام سبينوزا بالإلحاد:

"ينبغي أن نرفض ذلك لأنّه يخلو من الأساس. لا يقوم (سبينوزا) بإنكار الله في هذه الفلسفة بل يعتبره الحقيقة الوحيدة الموجودة. كذلك لا يُمكن أن يُقال بأنّه على الرغم من وصف سبينوزا القطعي لله على أنّه الحقيقة الفريدة إلا أنّ هذا الإله ليس الإله الحقيقي وبالتالي فإنّه يُساوي عدمه. في هذه الحالة، إذا بقي (الفلاسفة) في مرحلةٍ ثانوية في ما يتعلق بالمفهوم (الإلهي)، يتحتّم أن نتّهمهم جميعاً بالإلحاد أيضاً؛ وينبغي ألاّ نتهم اليهود والمحمديّين فقط - لأنّهم يعرفون الله بصفته الربّ فقط- بل جميع المسيحيين الذين يعتبرون الله الجوهر الأعلى غير القابل للمعرفة والمنسوب إلى عالمٍ آخر."

من الواضح أنّ هيغل كان يعتبر سبينوزا مديناً للروح اليهوديّ الشرقيّ في فلسفته، وقد عرّف هيغل الـ"يهودي" بالتعريف العنصريّ الشائع. ما صرّح به هيغل عن سبينوزا ينطبق أيضاً على اليهوديّة والإسلام بشكلٍ عامٍّ في كلامه حيث قال في كتابه "موسوعة العلوم الفلسفية":

"حينما نعتبر بشكلٍ تامٍّ وبسيطٍ أنّ الله هو الجوهر ونقف هناك، فإنّنا نعرفه على أنّه الجبار الذي لا يُقاوَم أو – بتعبيرٍ آخر- الرب. بالطبع، فإنّ الخوف من الرب هو بداية الحكمة ولكنّه البداية فحسب.

في التعاليم اليهودية ومن ثمّ المحمديّة، فُسّر الله على أنّه الرب، وبشكلٍ أساسي الرب فقط."

 يتحدث هيغل أيضاً في "فلسفة الدين" عن "الدين اليهودي والمحمدي حيث يُدرك مفهوم الله فقط من خلال اندراجه تحت المقولة المجرّدة المتمثّلة بالوحدة".

كان هيغل يؤمن بالاستبداليّة[4] كأيّ مسيحيٍّ بروتستانتيٍّ آخر. اعتبر هيغل أنّ يهوه يظهر في الكتاب المقدس اليهودي بشكلٍ أساسيٍّ كسيّدٍ غيورٍ يتناقض مع شخصيّة المسيح المتواضعة والعطوفة. وسّع هيغل مفهومه لكي ينطبق أيضاً على ما أسماه الدين "العربي" حيث اعتبر أنّ فرضيّة وجود إلهٍ واحدٍ "غيورٍ ولا يقبل بوجود آلهةٍ أخرى معه" هي "الفرضية العظمى للدين اليهودي والدين العربي عموماً في المشرق الغربي وأفريقيا". لاحِظ أنّ هيغل يتحدث هنا عن الدين "العربي" لا "المحمدي"، ولعلّ هاتين الكلمتنين كانتا مترادفتين بالنسبة له تماماً كمعاصريه. ربما كانت كلمة "العربي" بالنسبة له متطابقةً مع كلمة "السامي" التي بدأ الآخرون باستخدامها، وهو استعمالٌ قد ظهر بشكلٍ ملحوظ بعد عدّة عقودٍ في قصص بنجامين دزرائيلي. من الواضح أنّ هيغل كان يعتبر الإسلام مديناً في طابعه للعرب، وأنّ "العربي" و"المحمدي" يمتلكان معنًى واحداً في المبادئ الدينيّة.

(Volksgeist) و(Weltgeist)

دعونا نلقٍ نظرةً أعمق على ما قاله هيغل بشكلٍ مفصَّلٍ عن الإسلام. شكّلَ مكان النص الوحيد الذي تحدّث فيه هيغل عن الإسلام في فقراتٍ قليلةٍ مصدراً للحيرة بالنسبة لبعض المؤلفين. في "فلسفة التاريخ"، وردت فقرةٌ عن الإسلام ووُضعت ضمن القسم الذي يتطرّق لـ"العالم الألماني". يبدو هذا الأمر غريباً للوهلة الأولى، ولكن حينما نأخذ هدف هيغل بعين الاعتبار فإنّ هذا المكان منطقيٌّ بشكلٍ تام. أراد هيغل أن يُقابل بين العالم الألماني المتوحش ونظامه الشبيه بالإمبراطورية خلال القرون الوسطى مع إمبراطوريّة الإسلام الشرقية الباهرة. كما ذكرنا سابقاً، فإنّ الألمان كانوا قوماً غلاظاً في مطلع القرون الوسطى ويذكر هيغل أنّ "دينهم كان خالياً من العمق وينطبق ذلك أيضاً على أفكارهم حول القانون. لم يُعتبر القتل جريمةً ولم يكن موضع عقوبةٍ". مع ذلك، لا ينبغي إساءة تفسير هذا "الغلوّ في الشغف" و"الخشونة والقسوة الوحشيتين" في أوروبا خلال القرون الوسطى – والذي يتناقض بشكلٍ مدهشٍ مع عالم الإسلام الأكثر تحضراً آنذاك - واعتباره خللاً دائماً. على العكس، فإنّ الحقبة الألمانية الوضيعة خلال القرون الوسطى كانت مرحلةً تدريبيّة مهّدت لقيادة ألمانيا الأوروبيّة للمرحلة الأخيرة من حمل مشعل الروح (Geist). كانت تلك مرحلة الإنبات وبذل الجهد البطيء الصابر، أي الجهد الذي سوف يؤدي في النهاية إلى الحرية الإنسانية الحقيقية. وفقاً لهيغل، نُشاهد في هذه الفترة "قيام العالم الأوروبي بتشكيل نفسه من جديد. قامت الدول بترسيخ جذورها لكي تُنتج عالماً من الحقيقة الحرة التي تتوسع وتتنامى في كلّ اتجاه. لاحظنا كيف أنّ هذه الدول بدأت عملها عبر إدراج جميع العلاقات الاجتماعيّة تحت هيئة الاختصاص". من خلال "الاختصاص"، كان هيغل يُشير إلى تنمية الأنواع المختلفة من الروح الشعبيّة في الأبعاد المتعدّدة من الانتماء الألماني التي تتمثّل في المبادئ التوتونيّة[5] الكثيرة. انشغلت أوروبا في عمليّةٍ طويلة الأمد: أي الجهد الرامي إلى تطوير نماذج محليّةٍ خاصة من الروح (Geist) على هيئة (Volksgeist) التي تعني الروح المنسوب إلى شعبٍ (Volk) محدَّدٍ.

لقد تبيّن أنّ قيام الألمان في القرون الوسطى بالقتل والاغتصاب والنهب لم يكن إلا تجلّياً ظاهريّاً لعمليّةٍ أعمقَ تيُصبح من خلالها الروح الكادح ملموساً في القرن التاسع عشر. قام هيغل هنا بإجراء رابطةٍ شهيرةٍ بين ألمانيا والعمل الدؤوب بينما سلك أهل المشرق المتقلّبون الطريق السهل وأنشأوا إمبراطوريّةً باهرةً على نحوٍ فوريٍّ تقريباً. كانت الحضارة الإسلاميّة نتاجاً رائعاً ولكنّ بريقها قد أخفى صناعتها الرديئة. لم تكن نتيجة هذا العمل المتسرِّع التحقيق النهائي للروح بشكله الملموس بل تمثّلت النتيجة في "الروح المجرد" المعروف الذي شكّله المشرق بسهولةٍ حيث "تمّ إنتاج (النموذج الإسلامي للروح) على جناح السرعة وربما فجأة في النصف الأول من القرن السابع". تمّ إغفال الجهد اللازم لتطوير روحٍ شعبويٍّ (Volksgeister) محدّدٍ، وهذا يأخذنا إلى ثاني المفاهيم المهمة التي أشرتُ إليها في بداية البحث أي مقابلة هيغل بين الروح العامّ وبين أنواعه الشعبيّة المحدّدة. تتّصل هذه المقابلة بالمفهوم الأول الذي يتمثّل بالروح المجرّد في مقابل الروح الملموس.

كانت كلمة (Volksgeist) إحدى المساهمات التي أدرجها هيغل ضمن مفردات الفكر السياسي خصوصاً باللغة الألمانية. بطريقةٍ دقيقةٍ وتقنيّةٍ، تَختصر هذه الكلمة التأملات الأقل رسميةً التي ٍقدّمها مونتسكيو وهيوم عن الطابع الوطني. يجمع هذا التعبير بين الـ(Geist) (الروح) و(Volk) التي قد تعني "الناسَ" أو "الشعبَ" أو مجموعةً عرقيّةً. تتّصل (Volksgeist) (الروح الشعبيّ) بـ(Weltgeist) (الروح العالميّ) بطريقةٍ تشبه بعض الشيء اتّصال الروح المجرد بالروح الملموس.

 لم يمتلك المشرق الروح الشعبيّ بالمعنى الهيغلي ولم يستطع ذلك لأنّ الروح في المفاهيم الشرقية هو روحٌ مجردٌ وغير متميّزٍ. على نحو دقيق، يتواجد الروح الشعبيّ فقط حينما تتحدّد الروح العالميّ عبر أرواحٍ عرقيّةٍ أو شعبيّة. نعم، اختلفت الشعوب الشرقيّة نوعاً ما في فهمها للروح ولكن لم يعتبر أيّ شعبٍ أنّ هذا الروح تتحدّد عبر أنواعٍ عرقيّةٍ - شعبيّةٍ معيّنةٍ. في عجلته، أغفل الإسلام هذا التخصيص الضروري ولكنّ الألمان المسيحيين لم يُهملوه في عملهم الصبور ولكن الوحشي.

اعتبر هيغل أنّ الإسلام هو أساساً ردّة فعلٍ على جهود الغرب في القرون الوسطى. يتّخذ أسلوبه الجدلي منعطفاً متوقّعاً هنا. بما أنّ تطوّر الأوطان والحوادث التاريخيّة في الغرب كان خطوةً نحو "التخصيص"، يقترح هيغل أنّ "التحرك في الاتجاه المخالف كان ينبغي أن يتمّ من أجل اتّحاد الكل". بتعبيرٍ آخر، فإنّ جهود أوروبا في القرون الوسطى قد أثارت ردّة فعل جارتها الشرقيّة "المحمدية". الشعب المحمدي الأساسي كان العرب -أي الأنسباء الشرقيين لليهود - وكان من الطبيعي أن يستفيدوا من ميلهم اليهودي - الشرقي الجوهري نحو الروح المجرد غير المتميّز.

وفقاً لهيغل، يختلف الإسلام بشكلٍ جذريٍّ عن اليهوديّة من خلال بُعدٍ مهمٍّ، فقد اقتصرت اليهوديّة كدينٍ على شعبٍ واحدٍ بينما الإسلام شمل الجميع. اعتبر هيغل أنّ هذه الشموليّة قد مكّنت المسلمين من الحلم بإمبراطوريّةٍ شاملةٍ كالمسيحيين. في ما يتعلق بالإسلام، جاءت الشمولية كنتيجةٍ لأخذ اليهوديّة إلى حدّها الأقصى المنطقي. يُصبح الفصل الراديكالي للروح المجرد أو الله عن الوجود الدنيوي للطبيعة والمجتمع والعقل الذاتي أكثر اكتمالاً حينما تضعف أو تزول صلته بالناس الموجودين في العالم المادي. تخلّص الإسلام من "التخصيص" اليهودي، وهذا الأمر قد نقّى الفصل اليهودي بين المجرد والملموس الذي بقي في صميم الإسلام فأصبح الإسلام أكثر يهوديةً من اليهود.

اعتبر هيغل أنّ نهاية "التخصيص" اليهودي كان ضرورياً لارتقاء الروح إلى مرحلته المسيحية العليا، وقد اعتبر أيضاً أنّ تدمير الهيكل والدولة اليهوديّة المستقلّة هو فعلٌ قد حرّر "المبدأ اليهودي من تعلّقه بالمكان وجعل قدوم المسيحيّة أمراً ممكناً" على حدِّ تعبير ميشال هولين (Michel Hulin). ولكن لدى الحديث عن الشموليّة بهيئتها الإسلامية، لم يعتبرها هيغل تحرّراً. وفقاً له، إذا كانت المسيحية التتمّة المثمرة والباقية لليهوديّة فإنّ الإسلام هو انبعاثها العقيم أي اندفاعٌ وجيزٌ من التألق قد تبعته قرونٌ من الاضمحلال المظلم. اعتبر هيغل أنّ الإسلام لم يُطوِّر الأبعاد الواعدة لليهودية بل قابليتها المرعبة والمدمِّرة التي تكمنُ في "حقيقة" تصوُّر اليهودية لعالمٍ خالٍ من الوجود الملموس لله.

وفقاً لتصوُّر هيغل، يُعتبر التخصيص اليهودي "عائقاً" أمام أسوأِ نتائج الشمولية وهي ظهور الشمولية قبل أوانها، وذلك في سياق دين السموّ. من دون الضمانة التي يُقدّمها التخصيص اليهودي، استطاع الإسلام أن يندفع بسرعة إلى التعصُّب الذي يُعدُّ نتيجةً منطقيةً للدين الذي يضع الإله في مقابل كلّ ما هو موجودٌ في العالم. في الإسلام، "بالقدر الذي يمتلك الإله القيمة ويتحقّق، فإنّ جميع الاختلافات تفنى وهذا هو ما يُشكّل التعصُّب". "لم يعد  الله يمتلك الهدف الإيجابي والمحدود للإله اليهودي". في الواقع، وبما أنّ "عبادة الواحد" في الإسلام هي الشيء الثابت الوحيد في العالم و"تختفي جميع الاختلافات الوطنية والطائفية"، ينصُّ هيغل على أنّ الإسلام لا يُحرّر نفسه فقط من التخصيص الوطني لليهودية بل أيضاً التخصيص الطائفي للهندوسية. يريد الإسلام أن ينأى عن كلّ نوعٍ من التخصيص وأن يُدمّر أيّ عوائق بينه وبين المطلق، حتّى أنّ المسلم يصل إلى درجةٍ يتمنّى فيها انتهاء الفصل عن المطلق الذي ينشأ عن "التقييد المادي". يُقدّم المسلم إلى الله موته المادي "فأعلى فضيلة هي الموت في سبيل الدين. من يُقتل في أرض المعركة يضمن الجنّة". (في ما يتعلق بالوقع المعروف الذي تحمله هذه النصوص الباعثة على الإسلاموفوبيا في يومنا الحاضر، ينبغي أن نذكر بأنّ الرعب من الإسلام موجودٌ لدى هيغل أيضاً بالرغم من أنّه قد ظهر في سياقٍ سياسيٍّ مختلفٍ للغاية. كان هيغل مؤيّداً سابقاً للثورة الفرنسية، وقد قال: "الدين هو الإرهاب؛ هذا هو المبدأ في هذه الحالة (أي الإسلام)، كما كان يعتبر روبيسبيير أنّ الحرية هي الإرهاب").

انعدام الاستقرار: التهديد الشرقي

من خلال الحماس، حصل المسلمون على نظامٍ سياسيٍّ متألقٍ ولكن لفترةٍ وجيزةٍ فقط، وقد تمثّل بالخلفاء الأوائل الذين كانوا منافساً أسمى للغرب. لم يحصل اليهود على هذا النجاح السياسي أبداً، وقد لخّص جيل أنيدجار الفارق بين اليهودي والعربي/ المسلم في الفكر الغربي على أنّه  -بشكلٍ جوهريٍّ- الفارق بين "العدو اللاهوتي" و"العدو السياسي". بالنسبة لهيغل، فإنّ هذا التناقض يتمتّع بالصلاحيّة ولكن على مستوى التاريخ العملي فقط، والروح المجرّد هو الذي أنتج كلّاً من اليهودي والمسلم.

يظهر مدى تماثل الروح اليهوديّة (أي العهد القديم وفقاً لهيغل) مع الروح العربية - الإسلامية حتّى في مجال السياسة، وذلك في الطريقة التي يناقش من خلالها هيغل التعارض بين الدولة والعائلة في المشرق. كما في مواضع أخرى، فإنّ الإسلام يعكس المبدأ "اليهودي" في أقصى حالاته. كتب إدوارد سعيد أنّه في المفهوم الغربي يُعتبر العربي مفتقداً للسياسة وحائزاً على العائلة فقط، وقد ربط سعيد ذلك الإجحاف بالإجحاف المعاصر الذي يعتبر أن العائلة العربيّة هي مرتعٌ للتناسل. هذا الإجحاف قديمٌ جداً ويمسّ المشرق بشكلٍ عام لا العرب وحدهم، وقد أرجعه ألان غروسريشارد (Alain Grosrichard) إلى أرسطو الذي كتب عن الشرق ما يلي: "وكأنّ الشعوب الآسيويّة غير لائقةٍ بالانضواء تحت نظامٍ سياسيٍّ، وأنّ عليها أن تنحصر إلى الأبد في العلاقات العائليّة". أظهر غروسريشارد كيف أنّ التفاسير الطويلة لمؤلفات أرسطو في القرن الثامن عشر قد أثّرت على التصوُّر الغربي الحديث عن النظام السياسي الشرقي.

على الرغم من أنّ غروسريشارد لا يذكر رأي هيغل في هذا المجال، إلا أنّ الفيلسوف الألماني مناسبٌ لهذا النموذج بشكلٍ مثاليٍّ. اعتبر هيغل أنّ الانتماءَ الشرقيَّ نفسه شبيهٌ بالعائلة حيث قال: "يمتلك المشرق انتماءً شبيهاً بالعائلة في أساسه". في خطاب هيغل، لا نجد أنّه يرجع إلى التراث اليوناني في ما يتعلق بهذه الفكرة بل يعتمد على فهمه الشخصي لليهودية حيث يكتب:

"تمتلك العائلة قيمةً جوهريّةً لأنّ عبادة يهوه تتصل بها وبالتالي يُنظر إليها على أنّها كيانٌ مهم. أما الدولة، فإنّها مؤسّسةٌ لا تتناغم مع المبدأ اليهودي... أصبحت العائلة وطٌناً كبيراً: من خلال غزو أرض كنعان حصل (اليهود) على دولةٍ كاملةٍ وشيّدوا الهيكل في القدس لجميع الشعب. ولكن بالمعنى الدقيق، لم يكن هناك وجودٌ لاتّحادٍ سياسيٍّ."

وفقاً لهيغل، فإنّ هذه النظرة هي جزءٌ من التقييم الموجّه للمجتمع الشرقي الذي تظهر طبقيته بشكلٍ واضحٍ للغاية. يُشير هيغل إلى أنّ "الصلات العائلية" وكلّ أنواع الانتماء إلى المجموعة في المشرق هي قصيرة الأجل: "على الرغم من أنّ الانتماء الوطني، والروابط الطبيعيّة، والصلات العائلية، والوطن، وما إلى ذلك تبقى (صلاتٍ محدودةً بينما العلاقات الثابتة مسموحةٌ)، فإنّ خدمة (الإله) الواحد تتضمّن منطقياً محدوديّة كلّ مادةٍ وتقلّبها". لا تضمّ لائحة المجموعات المتقلّبة "الشعب" فقط بل أيضاً "الطائفة" و"كل الادّعاءات السياسية حول الميلاد أو التملُّك":

"تشتمل خصائص الدين المحمدي على التالي: لا يُمكن أن يصبح شيءٌ ثابتاً في الوجود الفعلي، ويُقدَّر أن يوسِّع كلُّ شيء نفسه عبر النشاط والحياة في السعة اللامحدودة للعالم. وعليه، تُصبح عبادة الواحد الرابط الوحيد الذي يستطيع الكل أن يتوحّد عبره. من خلال هذا التوسُّع والنشاط الفعّال، تختفي جميع الحدود والفروقات الوطنيّة والطائفيّة ولا يُنظر إلى أيّ عرقٍ أو ادّعاءٍ سياسيٍّ على الولادة أو التملُّك بل الإنسان فقط بصفته مؤمناً."

 يعتبرُ هيغل أنّه في أوساط المسلمين، يتمُّ استبدال المجتمع السياسي بـ"اتّحادٍ" متقلِّب "من الأفراد":

"يؤدِّي الغزو إلى السيادة والثراء واتّحاد الأفراد، ولكن كلّ هذه الأمور عرضيّةٌ ومبينةٌ على الرمال؛ إنّها متحققةٌ اليوم ولكن لا غداً. بالرغم من الاهتمام الشغوف الذي يُظهره الإنسان المحمدي، ولكنّه لا يبالي فعلاً تجاه هذا النسيج الاجتماعي ويقتحم دوّامة الحظ المستمرة."

 ولكن مع ذلك، يوجد شبهٌ دنيويٌّ–وسياسيٌّ نوعاً ما- في العلاقة بين الله الواحد وعباده، والعلاقة بين الجبّار والخاضعين له. في كتاب "روح القوانين"، أصّل مونتسكيو تقييم عصر التنوير لـ"الطغيان الشرقي" المؤثِّر على أجيالٍ من المفكرين السياسيين اللاحقين.

"في الحكومة الجمهورية، ترجع السلطة السياديّة إلى الناس كمجموعةٍ (أي الحكومة الديمقراطية)، أو كجزءٍ معيّنٍ من الشعب (أي الأرستقراطية). أما في الحكومة الملكيّة، فإنّ شخصاً واحداً يُمسك بزمام الحكم ولكن وفقاً لقوانين ثابتةٍ ومتأصلةٍ بينما في الحكومة الطاغية يحكمُ شخصٌ وحيدٌ ولكن من دون اتّباع القانون والقواعد ويُسيِّر كلّ شيءٍ وفقاً لإرادته ونزواته."

 في الممارسة الاجتماعيّة اليوميّة، فإنّ انعدام "الادّعاءات" المتينة على "الملكية" لا يُعبّر هنا عن حكومةٍ طاغيةٍ. تمّ التعليق كثيراً في تقارير الرحلات على المساواة في العبوديّة بين عامة الناس، ولا بد أنّ مونتسكيو قد قرأ بنهمٍ في هذا المجال كما هيغل في زمانه. قرأ مونتسكيو (ترجمةً فرنسية لعمل) أحد المؤلفين الإنكليز في القرن السابع عشر، وهو التاجر والدبلوماسي بول رايكوت (Paul Rycaut). كتب رايكوت عن الإمبراطورية حيث لا يساهم النسب ولا الأرباح في تقديم حمايةٍ دائمةٍ من نزوة الطاغي لوضع الناس في مستوًى واحدٍ.

"إنني أتفكّر في الحسنات القليلة للفضيلة وانعدام العقوبة على الإثم المربِح والمزدهر؛ وأتفكّر في كيفيّة تربية الرجال على التملّق والحظ ونيل رضا الأمير في حال عدم امتلاكهم للدم النبيل...إلى أكثر الأتباع أهميّةً وثراءً وشرفاً في الإمبراطورية؛ ... إنني أتفكّر في قِصر مدّة بقائهم، كيف أنّهم يتعرضون للهلاك بمجرد قيام أميرهم بتقطيب وجهه؛ كيف أنّهم يطمعون أكثر من جميع الناس في العالم، ويتعطّشون ويُسرعون لنيل الثراء مع علمهم بأنّ كنزهم هو فخّهم وأنّهم يجهدون باعتبارهم عبيداً لراعيهم وسيدهم العظيم، وأنّ ما يجهدون لنيله سوف يؤدِّي حتماً إلى هلاكهم ودمارهم (أي حينما يفقدون حظوة سيدهم)، بالرغم من وجود جميع حجج الوفاء والفضيلة والصدق الأخلاقي (التي يندرُ وجودها لدى الأتراك)[6] للدفاع عنهم والتشفُّع لهم."

اعتبر رايكوت بشكلٍ صريحٍ أنّ الطغيان العثماني هو إنذارٌ لما يُمكن أن يحصل في أوروبا إذا قام حاكمٌ مطلقٌ بتجاهل الحقوق التقليدية للنبلاء. كتب مونتسكيو أنّه في الحكومة الطاغية، يُمكن أن يقوم الحاكم "بتجريد السيد من أراضيه وعبيده في أيّ لحظةٍ". بما أنّ رايكوت كان باروناً[7] تحت حكم لويس الخامس عشر، فإنّه كان مرتاباً للغاية تجاه أيّ حكومةٍ تتجاهل امتيازات الأرستقراطية التقليدية. بعد قرنٍ، توصّل هيغل من خلال اهتماماته الطبقية المختلفة إلى معادلةٍ مماثلةٍ حول الاستبداد الذي لا يأخذ الطبقات بعين الاعتبار. لم يكن هيغل أرستقراطياً ولكن مع حلول زمانه كان معظم البرجوازيِّين –الذين كانوا في السابق داعمين للحكم المطلق كطريقةٍ لإزالة تلك الامتيازات التي تفجّع عليها مونتسكيو- قد أصبحوا من أنصار الدولة الليبرالية حيث لا يُسمح لأهواء الحاكم بالتدخُّل في منطق السوق.

حينما نفهم الموضوع بهذه الطريقة –التي نعترف بأنّ هيغل لم يوضّحها أبداً- فإنّ الشخصية المتقلّبة للحاكم وانعدام الثبات في المجتمع "المبني على الرمال" يُلخّصان سمةً تُمثّل أشدّ مخاوف اقتصاد السوق الليبرالي وهي: انعدام الاستقرار. في الحياة اليوميّة، ظهر انعدام استقرار الحكم الاستبدادي في قصصٍ عجيبةٍ كالحاكم "الذي يحبّ عبده ويمجد محبوبه عبر وضع كل (الأمور) الفخمة عند رجليه، ولكن من ناحيةٍ أخرى فإنّه مستعدٌّ للتضحية به بشكلٍ متهوِّر".

يُرجع هيغل تقلُّب النُظُم الشرقيّة الاجتماعيّة إلى خطته الفلسفية حيث يُقابل بين الروح المجردة والروح الملموس. لقد رأينا كيف أنّه وصف الطابع العالمي للإسلام بشكلٍ سلبيٍّ بالمقارنة مع ألمانيا القرون الوسطى حيث مرَّ الشعب في طور تنمية الأنواع الملموسة من الـ(Volksgeist) (الروح الشعبيّ) التي تنتمي إلى الـ(Geist) (الروح) العالميّ. وفقاً له، فإنّ الممالك الإسلامية قد افتقدت الثبات لأنّه "بمقتضى القاعدة التي تُقدّمها الشمولية، فلا شيء ثابتاً".

خاتمة

يُشير أنيدجار أنّه في التاريخ الثقافي الغربي، "اليهودي هو العدو اللاهوتي (والداخلي) بينما المسلم هو العدو السياسي (والخارجي)". هذا مؤكّدٌ. ولكن بالنسبة لهيغل على الأقل، لم تكن السياسة الإسلامية سياسيةً حقيقيةً، وقد بُنيت الإمبراطورية الإسلامية على الرمال اللاهوتيّة لدينٍ يهوديٍّ عن السموّ بالأساس. يتطابق المبدأ الأساسي للطغيان الشرقي مع جوهر اليهودية حيث إنّ "الحكم الكلي في اليهودية هو الخوف من السيد المطلق" وإنّني أتحمّل مسؤولية "النظر إلى نفسي على أنّني لا شيء، وأن أُدرك اعتمادي التام أي كوني وعياً خاضعاً أمام السيد".

ينصح جيل أنيدجار بـ"تحليل (الشخصيتين الأدبيتين) المنقطعتيِ النظير: شايلوك وأوثيلو" وهو يعني اليهودي والمسلم. كما يوضّح أنيدجار أيضاً، لم تكن هذه النصيحة موضع حاجةٍ في عصر هيغل حينما كان اليهودي والموري[8] قابلَين للمقارنة لا فقط في البندقيّة بل في الغرب كلّه. ولكن في القرن العشرين، أصبحا منقطعيّ النظير. تشعّبت ثروتا اليهوديّة والإسلام بمجرد قيام "ابنيِ العم" الساميَّيْن بحمل واحدةٍ إلى أوروبا والثانية إلى آسيا وأفريقيا. ولكنّ الفكرة التي استمرت لقرونٍ وأفادت أنّ اليهود شعبٌ شرقيٌّ –وقد افتخر بها بعض الصهاينة الأوائل- قد دُفنت في الصراع الدموي في الشرق الأوسط. إذا كان دمجُ فكرتي "اليهودي" و"المسلم" يُنتج مزيجاً "قابلاً للانفجار" كما يُشير ديريدا وأنيدجار، فإنّ هذا الانفجار ليس ناجماً عن انصهار الجزئيات المتنافرة بقدر انتسابه إلى انشطار ما كان يوماً ما عنصراً واحداً - حتى وفقاً لهيغل.

-------------------------

إيفان دايفدسون كالمار : أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة تورنتو، ومشاركٌ في التعليم الجامعي الأول في كلية فيكتوريا ـ كندا.

ـ العنوان الأصلي للمقال: ISLAM AS JUDAISM GONE MAD: REFLECTIONS ON HEGEL

ـ المصدر: http://groups.chass.utoronto.ca/kalmar/426/hegel%20islam%20judaism.jhi.pdf

ـ ترجمة: هبة ناصر.

[2]- مدينةٌ في ألمانيا تقع فيها جامعة "فريدريش شيلر" العريقة، وقد تولّى هيغل مع غيره من الفلاسفة التدريس فيها.

[3]- هي واحدة من ملحمتين إغريقيتين طويلتين منسوبتين إلى هومر.

[4]- الاستبدالية (Supersessionism): تفسيرٌ خاصٌّ لعقائد وردت في العهد الجديد تعتبر أنّ علاقة الله مع المسيحيين هي بديلٌ أو إكمال للوعد مع الإسرائيليين أو اليهود.

[5]- التوتونية: في إشارة إلى "توتون" التي تدل على شخصٍ ينتمي إلى ألمانيا أو يمتلك أصولاً ألمانية.

[6]- المعنى هنا شامل، والمقصود هم المسلمين لا العرق التركي بحدّ ذاته.

[7]بارون: أدنى مرتبة في سلسلة النبلاء البريطانيين.

[8]- مصطلح يُطلق على سكان شمال أفريقيا أي المنطقة المغاربية، وكان يُطلق في السابق على الشعوب المسلمة في أسبانيا والبرتغال. يتّسع هذا المصطلح ليدل على المسلمين بشكلٍ عام.