البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مآلات فلسفة الروح عند هيغل، متاخمة نقدية لأيديولوجية تمجيد الذات الغربية

الباحث :  مجدي عز الدين حسن
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  14
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2019 م / 1440 هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 16 / 2019
عدد زيارات البحث :  5367
تحميل  ( 390.754 KB )
يندرج مفهوم الروح عند هيغل في رأس منظومته الفلسفية، فقد انبرى جمعٌ غفيرٌ من مجايليه، وممن جاؤوا من بعده إلى التركيز على مساجلة هذا المفهوم باعتباره نقطة الجاذبية التي تتمحور حولها وتغتذي منها مجمل أطروحاته في الوجود والأخلاق والفلسفة السياسية.

لقد ذهب كثيرون من هؤلاء إلى اعتبار "فيمينولوجيا الروح" بمثابة مرتكزٍ فلسفيٍّ مؤسّسٍ للعنصرية الجرمانية وتمجيد للأمم الأوروبية، حتى إذا حلّ القرن العشرون ظهرت الهيغلية كتسويغٍ للامتداد الاستعماري على القارات الكبرى الثلاث آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.

في هذه الدراسة للباحث السوداني مجدي عز الدين حسن نجدنا أمام متاخمةٍ نقديةٍ "أنطو ـ أبستمولوجية" للمنظومة الفلسفية الهيغلية انطلاقاً من فلسفة الروح، كمفهومٍ مسيطرٍ على أعمال هيغل الفكرية بمجملها.

المحرر

---------------------------

يهدف هذا المقال إلى الاشتباك نقديّاً مع فلسفة الروح عند هيغل. وتستدعي طبيعة الموضوع أن نعرض أولاً لفلسفة الروح عنده، كما حدّدها في مؤلفاته العديدة، وهذا ما فعلناه في المحاور الأولى لهذا المقال. ومن ثم، بعد عرض وتحليل أفكار هيغل بهذا الخصوص، ذيّلنا المقال بخاتمةٍ نقديّةٍ تناولنا فيها ما سبق عرضه من أفكار.

وكخاتمةٍ لهذه المقدمة، نقول أن التعرض لفلسفة الروح عند هيغل، هو في حقيقة الأمر تعرّضٌ لمجمل فلسفته: الأخلاقيّة والسياسيّة، فلسفة التاريخ، فلسفة الدين، فلسفة الجمال، وكذلك فلسفة الطبيعة والمنطق. «وما أسماه هيغل بشمول المنطق ينظر إلى كلّ شكلٍ من أشكال الوجود على أنه شكلٌ للعقل. والانتقال من المنطق إلى فلسفة الطبيعة، ومن هذه الأخيرة إلى فلسفة الروح (Philosophy of Mind)، يتحقق على أساس افتراض أن قوانين الطبيعة تنبثق من البنية العقليّة للوجود، وتقود بشكلٍ متصلٍ إلى قوانين الروح.[2] وبالتالي فإن اهتمامنا بفلسفة الروح عنده، يعني في حقيقة الأمر اهتماماً بجلّ فلسفته. ففلسفة الروح عنده هي بمثابة تتويج لمجمل النسق الفلسفي الهيغلي، وتمثل في نظرنا (روح) فلسفة هيغل بأكملها، وتقع موقع القلب منها، ويشكّل فهمها المفتاح إلى الفهم العميق لكلّ النسق الهيغلي.

لعل أكثر الأوصاف التي ذهبت في التصعيد حدَّ الغلو هو ما ذكره "باطاي " حين قال في حقّ الفيلسوف الألماني هيغل (1770-1831): "إنّ هيغل هو الحقيقة مكتملة". فإذا كانت فلسفة أرسطو تمثّل قمّة نضوج واحتراق الفلسفة اليونانيّة في العصر القديم، فإنّ فلسفة هيغل هي الأكثر عمقاً واكتمالاً في الفلسفة الحديثة، ما يجعل هذا الأخير مستحقاً وبجدارة لقب ( أرسطو العصر الحديث).

فلا أحد من المتخصّصين في تاريخ الفلسفة الحديثة والمعاصرة، وكذلك من المؤرخين لها، بوسعه إنكار الدور الكبير والهام الذي لعبه، وما يزال يلعبه، النسق الفلسفي الهيغلي في خارطة الفلسفة الحديثة والمعاصرة، فالفلسفة الهيغليّة، من جهة، تعتبر أعلى قمة بلغتها الفلسفة الحديثة، وتأتي كتتويجٍ لكلّ الجهود الفلسفيّة السابقة عليها، ومن جهة أخرى، كان للهيغلية تأثيرٌ كبيرٌ في الفلسفة المعاصرة. بمختلف توجهاتها وتياراتها وألوان طيفها. فبداية من الهيغليين الشباب مروراً بماديّة كارل ماركس إلى فينومينولوجيا هوسرل والفلسفة الوجودية، ومدرسة فرانكفورت، وانتهاءً بفلسفة الاعتراف عند الألماني أكسيل هونيث، لا تزال الفلسفة المعاصرة في تحركها داخل حدود السياج الفلسفي الذي اختطه هيغل ترنو للقفز فوقه والتحرّر من قبضته.

وعلى أيّ حالٍ، ليس بالمقدور غض الطرف عن الحضور الطاغي للفلسفة التي أرساها هيغل، وإن في شكلٍ سلبيٍّ، داخل نصوص الفلسفة المعاصرة والتي عملت على الاشتغال عليه وإعادة تأويله واستثماره وتوظيفه بطرقٍ مختلفةٍ.

فابتداءً من القرن التاسع عشر نشأت تياراتٌ فكريّةٌ شديدةُ التباين، كان من شأنها أنّها جعلت الهيغلية تبدو حيناً وكأنّها التفسير الأكثر عمقاً للمسيحية، وحيناً كأنّها الأساس الأكثر وثوقاً للإنسانويّة الملحدة. كما جعلتها تبدو من جهة أخرى وكأنّها مصدر الوحدة الجرمانيّة حيناً، وحيناً كأنها جذر الماركسية[3].

ويكفي لإبراز الأثر العظيم الذي خلّفه هيغل في الفكر الفلسفي المعاصر، مطالعة القول المنسوب إلى الفيلسوف الفرنسي الكبير ميشيل فوكو الذي يعّرف الفلسفة المعاصرة بأنّها محاولةٌ مستمرةٌ للإفلات من قبضة النسق الهيغلي، وبالتالي يحدّد مهمتها بالخروج من الهيغلية. يكتب فوكو: «إنّ عصرنا كله، سواءً من خلال المنطق أو من خلال الإبستمولوجيا، عصرٌ يحاول أن يفلت من هيغل. لكن أن يفلت المرء فعلاً من هيغل، فهذا أمرٌ يتطلب تقديراً مضبوطاً لما يكتنفه الانفصال عن هيغل، وهذا يقتضي أن نعرف ما الذي ما يزال هيغلياً، ضمن ما يمكننا من التفكير ضد هيغل، وأن نقيس القدر الذي يحتمل فيه أن يكون سعينا إلى مناهضته خدعة ينصبها في وجهنا وهو ينتظرنا في نهاية المطاف هناك هادئاً».[4] 

ويتساءل فوكو في كتابه ( نظام الخطاب) عن إمكان التفلسف في غيبة هيغل، وبعيداً عن حدود فلسفته: فهل ما يزال بإمكاننا أن نتفلسف، هناك حيث لم يعد هيغل ممكناً؟ وهل ما يزال في إمكان الفلسفة أن توجد وألا تكون هيغليةً؟ وهل ما هو مضادٌّ للفلسفة هو بالضرورة غير هيغليٍّ؟ [5]

الحريّة بوصفها طبيعة الروح

اهتم هيغل في كتابه: «فينومينولوجيا الروح» (Phenomenology of Mind)، والذي يُعد من أشهر أعماله، بالكيفيّة التي يرتقي بها الروح صعوداً في سلّم المراتب من الأدنى إلى الأعلى، حتى يصبح هو والمطلق شيئاً واحداً. ودرس في كتابه: (العقل في التاريخ) الخصائص المجرّدة لطبيعة الروح، والتي هي ذاتها الطبيعة الجوهرية للحرية، وبيّن الوسائل التي يحتاجها الروح لكي يحقق فكرته في الوجود.

بدايةً نشير إلى أن الكلمة الألمانية (Geist) عادة ما يتم ترجمتها للغة الأنجليزية ب (Spirit) (الروح) وكذلك ب (Mind) أو (Reason) ( العقل). وفي هذا المقال يكون من الأفضل والمفيد استصحاب هذه الترجمات معاً. فمقولة الروح هنا رديفٌ لمقولة العقل أو للفكرة المطلقة أو للوعي المجرد.

فالروح، عند هيغل، وحدةٌ مثاليةٌ، وليس النفس والوعي والعقل إلا مراحلَ مختلفةً أو جوانبَ لحياةٍ واحدةٍ تنبض فيها كلها بغير انقطاع.[6]

هناك قولٌ مأثورٌ للعرب: ( بأضدادها تعرف الأشياء)، وهو ذات ما يفعله هيغل في تعريفه للروح في كتابه: ( العقل في التاريخ)، حيث يستهل شرحه لطبيعة الروح من خلال ضدها المباشر: المادة. فكما أن الثقل هو ماهيّة المادة، فالحريّة هي جوهر أو ماهيّة الروح. وكل صفات الروح لا توجد إلا بواسطة الحرية، وإنّها كلها ليست إلا وسيلةً لبلوغ الحرية. والتاريخ الكليّ هو عرضٌ للروح وهو يعمل على اكتساب المعرفة بما تكونه بالقوة. وكما أن البذرة تحمل في جوفها كلّ طبيعة الشجرة، وطعم الفاكهة وشكلها، فكذلك تتضمن البوادر الأولى للروح تاريخه كله.[7]

لكن علينا أن نحذر من الوقوع في فخّ الركون للفهم البسيط الساذج المتأسس على الثنائيات المتعارضة ( روح- مادة) لفهم ما يعنيه هيغل، لأننا بذلك لا نكون قد أحسنا قراءته بل، على الضد تماماً، نكون قد أسأنا فهمه، خاصةً وأنّه لا يرى العالم الروحي كمقابلٍ للعالم المادي، وإنما ينظر إلى العالم المادي بوصفه مجرّد تمظهرٍ للعالم الروحي لا غير. فالروح الذي تتجلى في التاريخ، هو المحرك الأساسي له، والعالم بأكمله من خلقه، فالوجود كنتاجٍ للفكر ذو طابعٍ عقليٍّ محضٍ، ولا شيء فيه يخرج عن الفكر، لا خارجيّة الأشياء ولا تعالي الإله حتى. وبصورةٍ أعم، إن ما يحتل مكان الصدارة بالنسبة لهيغل هو الوعي، ولكن لا الوعي الذاتي، وإنما الوعي الموضوعي الذي يتماثل مع الكلي.

ونجد بالمقابل فلسفاتٍ ماديّةً، كالماركسية مثلاً، تذهب في الاتجاه المعاكس لهيغل حيث ترى أن العالم المادي هو الجوهري وما العالم الروحي إلا تابعاً له. وهذا ما أسمته الماركسيّة بالمسألة الأوليّة في الفلسفة، والتي تتمثل في السؤال: أيهما يسبق الآخر المادة أم الوعي؟ ماركس يجيب: المادة تسبق الوعي وبالتالي يعتبر هذا الأخير مشتقًّا وتابعاً للمادة التي هي خالقةٌ له. وهيغل يجيب: الوعي يسبق المادة، وبالتالي فالمادة ناتجٌ من نواتج الوعي.

إنّ الروحي هو وحده الحقيقي. وما يوجد لا يوجد إلا بقدر ما يشكل روحيّةً.[8] هذه العبارة المنسوبة لهيغل تعني أن العالم الروحي هو الجوهري بينما يظلّ العالم المادي مجرد تابعٍ له، أو بلغة الفكر النظري ليس له حقيقة في مقابل العالم الروحي. وما يوجد بخلاف الروحي في العالم ليس إلا تجسيدات الروح وتمظهراته فيه.

فبفضل أن الإنسان روحٌ يكون الإنسان إنساناً، ومن الإنسان باعتباره روحاً تنطلق التطورات العديدة للعلوم والفنون ومصالح الحياة السياسية وكل تلك الظروف التي لها صلةٌ بحرية الإنسان وإرادته.[9] 

ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، نلاحظ كذلك الربط الذي يجريه هيغل بين الروح من جهةٍ والحرية من جهةٍ ثانية، والتاريخ من جهةٍ ثالثةٍ. وعلى ذلك تلعب ثلاثيّة ( الروح أو العقل، التاريخ، الحرية) دوراً هاماً في فهم فلسفة هيغل بشكلٍ عامٍّ، وفلسفة الروح بشكلٍ خاصٍّ.

فالعقل يمثل الوجود الحقيقي، الذي يتجلى في الطبيعة ويصل إلى التحقق في الإنسان. هذا التحقق يحدث في التاريخ، ولما كان تحقق العقل في التاريخ هو الروح (mind)، فإن فكرة هيغل تتضمن القول بأن الذات الفعلية أو القوة المحركة للتاريخ هي الروح.[10]

والتاريخ عند هيغل هو عرضٌ لمسيرة الروح، وماهيّة الروح الحريّة، ومن ثم كان مسار التاريخ هو تقدم الوعي بالحرية، لكنها ليست حريّةً فرديّةً سلبيّةً تعسفيّة، لأنّ مثل هذه الحريّة جزئيّة ومحدودة، وإنما الحرية المقصودة هنا هي أن يتبع الإنسان ماهيّته الخاصة وهي العقل، وهي تعني المشاركة في حياةٍ اجتماعيّةٍ أوسع هي الدولة.[11] يكتب هيغل: (إننا نذهب إلى أن مصير العالم الروحي، وتبعاً لذلك، العلة الغائية للعالم ككل  -ما دام هذا العالم الروحي هو العالم الجوهري بينما يظل العالم الفيزيائي تابعاً له- هو وعي الروح بحريته الخاصة).[12]

وعي الروح بحريته (التي هي عين ذاته)، إذاً، هو الغاية النهائيّة لا للتاريخ وللعالم فحسب، إنما وقبل كلّ شيءٍ للروح نفسه. وهو، بحسب هيغل كذلك، الغرض الذي وضعه الله للعالم، لكن الله هو الوجود الكامل على نحوٍ مطلق، ومن ثم فلا يمكن له أن يريد شيئاً غير ذاته، أي لا يريد سوى إرادته الخاصة، وطبيعة إرادته، أي طبيعته ذاتها، هي ما يسميه هيغل هنا بفكرة الحريّة، وإذا ما ترجمنا الدين إلى لغة الفكر. ومن ثم فإنّ السؤال الذي يفرض نفسه هنا لا بدّ أن يكون هو السؤال الآتي: ما الذي يعنيه القول بأنّ الحريّة ماهيّة الروح؟ وما هي الوسائل التي يستخدمها مبدأ الحرية هذا لكي يحقق ذاته؟.

ثلاث درجاتٍ للوعي بالحرية عبر التاريخ

تاريخ العالم عند هيغل هو مسارٌ يكافح فيه الروح بصورةٍ دائبةٍ لكي يصل إلى وعيٍ بذاته، أي لكي يكون حرّا. هنا الحريّة كماهيّة للروح تعني بلوغ الروح مرحلة الوعي بذاته، وهذا الوعي لا يتحقق إلا عبر مسيرة الروح في التاريخ، حيث تمثل كلّ مرحلةٍ من مراحل سيره في التاريخ درجةً من درجات الوعي بالحرية. وفي هذا السياق، يتحدث هيغل عن ثلاث حالاتٍ تمثل ثلاث درجاتٍ مختلفةٍ للوعي بالحرية عبر التاريخ الكلي، ما يعني ثلاث درجاتٍ من وعي الروح بذاته:

أولها الأمم الشرقيّة القديمة كالصين والهند وفارس (التي تتضمن حضارات بابل وأشور) ومصر، التي هي في نظر هيغل تمثل طفولة التاريخ البشري، فهذه الحضارات لم تع الحريّة ولم تعرفها، وكلّ ما عرفته أن هناك شخصاً واحداً هو الحر. والمقصود به شخص الحاكم المستبد، أما الذين يحكمهم هذا الحاكم فهم جميعاً عبيد له. وينبهنا هيغل إلى أنّ حريّة الحاكم لم تكن تعني سوى انسياقه وراء أهوائه، وبالتالي لم تكن حريته تعبيراً عن ماهيته الحقة ( أي العقل)، ومن ثم كان هذا طاغيةً لا إنساناً حراً. 

وثانيها العالم اليوناني، والذي يشبّهه هيغل بطور المراهقة في تاريخ البشرية، حيث ظهر الوعي بالحرية لأول مرةٍ عند اليونان ومن بعدهم الرومان، حيث يبلغ التاريخ طور رجولته، فعرفوا أنّ البعض أحرار، أما بقية الناس في الأمم الأخرى فقد كان يُنظر إليهم على أنّهم محض برابرة. وبالتالي لا الشرقيين ولا اليونانيين توصّلوا إلى معرفة أن الإنسان بما هو إنسانٌ حر. وهو أمرٌ أوضح ما يكون في فلسفة أفلاطون وأرسطو اللذين لم يعرفا ذلك.

وثالثها، الأمم الجرمانية والتي استطاعت بفضل المسيحيّة أن تكون أول الأمم إدراكاً لحقيقة أن الإنسان حرٌّ بما هو إنسان. وأنّ حريّة الروح هي التي تؤلف ماهيتها. ويصف هيغل هذه المرحلة بطور الشيخوخة، والتي لا تعني عنده الضعف وإنّما الكمال والقوة ومنتهى النضج.

الدولة هي التحقق الفعلي للحرية

يتحدث هيغل عن فكرة الحرية بوصفها طبيعة الروح والغاية المطلقة للتاريخ. ويرى أن هدف الروح أن يحقّق ذاته في التاريخ، وأن يصل إلى فهمٍ لنفسه، ومعرفة بذاته، وذلك لا يتحقق في نظره إلا في ظلّ الدولة.

فالدولة، بذلك، هي التحقق الفعلي للحرية، وهي الغاية النهائيّة المطلقة، فهي توجد لذاتها. فالقيمة التي يملكها الكائن البشري، لا يملكها إلا من خلال الدولة. ف« ليس بمقدور الفرد أن يكون حراً إلا بوصفه كائناً سياسياً. وهكذا يعد تفكير هيغل استكمالاً للنظرة اليونانيّة الكلاسيكية القائلة أن: دولة المدينة تمثل الحقيقة الصادقة للوجود الإنساني. وبناءً على ذلك، فإنّ التوحيد النهائي بين الأضداد الاجتماعية لا يتحقق بسيادة القانون، بل بالنظم السياسية التي تجسد القانون، أي بالدولة بمعناها الصحيح.[13] 

وعلى هذا النحو وحده يصبح الإنسان واعياً وعياً كاملاً، وعلى هذا النحو وحده يشارك في الأخلاق الذاتية كما يشارك في حياةٍ اجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ أخلاقيّةٍ عادلة. والكليّ إنما يوجد في الدولة، في قوانينها وفي تنظيماتها الكلية والعقلية. والدولة هي الفكرة الإلهية كما توجد على الأرض، ومن ثم فإننا نجد فيها هدف التاريخ وموضوعه في شكلٍ أكثر تحدداً. وفيها تبلغ الحرية مرحلة الموضوعيّة وتحيا حياة الاستمتاع بهذه الموضوعية، ذلك لأن القانون هو موضوعيّة الروح وهو الإرادة في صورتها الحقيقية. والإرادة التي تطيع القانون وتخضع له هي وحدها الإرادة الحرّة لأنّها تطيع نفسها وتخضع لذاتها.[14] 

عمليّة تحرير الفرد تنتج بالضرورة الرعب والدمار طالما قام بها أفرادٌ ضدّ الدولة، لا الدولة ذاتها. إنّ الدولة وحدها هي التي يمكنها أن تمنح التحرير، على الرغم من أنّها لا تستطيع أن تمنح حقيقةً كاملةً وحريّةً تامةً. فهاتان الأخيرتان لا تتحققان إلا في مملكة الروح (realm of mind) بمعناها الصحيح، أي في الأخلاق والدين والفلسفة.[15]

هذا ما أقرّ به هيغل في كتاباته الأولى في فلسفة الروح (philosophy of mind)  فقد كان أساس تحقق الحرية كفاءة نظام الدولة، وقد ظلّ مرتبطاً به ارتباطاً وثيقاً. أما في كتابه ( فينومينولوجيا الروح) (Phenomenology of Mind)  فإنّ هذا الارتباط يكاد يضيع تماماً. فالدولة لا تعود ذات دلالةٍ شاملةٍ لكلّ شيء. والحرية والعقل يصبحان نشاطاً للروح الخالص(pure mind)، ولا يتطلبان نظاماً سياسياً واجتماعياً محدداً كشرطٍ مسبقٍ لتحقيقهما، وإنما يتماشيان مع الدولة الموجودة بالفعل.[16]

وبالإضافة إلى الدولة هناك المجتمع الذي ينظر إليه هيغل على أنه يمثل، أيضاً، شرطاً أساسياً لتحقيق الحرية. فالحرية بوصفها مثلاً أعلى لما هو أصليٌّ وطبيعيّ، لا توجد كشيءٍ أصليٍّ وطبيعيّ، بل ينبغي بالأحرى السعي للحصول عليها ونيلها، وذلك بعد توسط عملية تهذيبٍ وترويضٍ هائلةٍ للقوى الأخلاقية والعقلية. ولذلك فإنّ حالة الطبيعة يغلب عليها الظلم والجور والعنف، وتسودها الدوافع الطبيعية التي لم تروَّض والأعمال والمشاعر اللا إنسانية. ولا شك أن المجتمع والدولة يمارسان نوعاً من الحدّ لكنه حدٌّ للغرائز الفجّة وللانفعالات الوحشيّة وحدها، كما أنّه في مرحلةٍ حضاريّةٍ أرقى، حدٌّ للأنانيّة المتعمّدة التي تتجلى في النزوات والأهواء. وهذا اللون من التقييد هو جزءٌ من الوسيلة التي يمكن عن طريقها وحدها أن يتحقق الوعي بالحرية والرغبة في بلوغها في صورتها الحقيقية، العقلية والمثالية. فالقانون والأخلاق مستلزمان ضروريّان للمثل الأعلى للحرية.[17] 

والملاحظ أنّ مفهوم هيغل للدولة يتعارض مع المفهوم الليبرالي لها، فمن منظور الأخير يكون الفرد هو الغاية لا الدولة. على عكس هيغل الذي عنده أنّ الدولة غايةٌ، وهي ليست بخدمة الفرد وإنما تتطلب من هذا الأخير خدمتها والتضحية بحياته إن تطلب الأمر ذلك.

ثلاث مستوياتٍ للروح

لا يتم تجلي المطلق في الإنسان إلا بواسطة تطورٍ جدليٍّ طويلٍ وشاقٍّ، فالروح لا يضع نفسه في الحال على أنّه روحٌ مطلق، ولكنّه يبدأ من مرحلةٍ دنيا من مراحل نموّه، ولا يبلغ تحقّقه الذاتي الكامل إلا تدريجياً. والأداة التي يستخدمها هيغل في تعقب هذا التطور التدريجي هي المنهج الجدلي.

يمكن لنا مناقشة فلسفة الروح عند هيغل من خلال ثلاث مستوياتٍ، هي: الروح الذاتي، والروح الموضوعي، والروح المطلق.

الروح الذاتي

يمثل المستوى الأول، وهو دراسةٌ محضةٌ لسيكولوجيّة الحياة الداخليّة للإنسان، مضمونها العقل البشري منظوراً إليه نظرةً ذاتيّةً بوصفه عقل الذات الفردية، وتقسيماته الفرعيّة مثل: الإدراك الحسي، الشهوة، الفهم، العقل، الخيال، والذاكرة. في هذا المستوى تكون الروح مضمرةً. والخلاصة أن الروح الذاتي يعني هنا الروح منظوراً إليه من الداخل.

بدوره يتبدى الروح الذاتي على مستوياتٍ مختلفةٍ، وهذه المستويات، هي أيضاً، لحظاتٌ في التطور الديالكتيكي لأفهوم الروح. لذلك يميز هيغل بين النفس (موضوع الأنثروبولوجيا)، والوعي (موضوع الفينومينولوجيا)، والذهن (موضوع علم النفس). فالنفس هي الذهن من حيث ما يتعلق بشروطٍ طبيعيّةٍ وفيزيولوجيّةٍ (العرق، المزاج، إلخ) أو حتى فيزيائيّة (المناخ مثلاً). وكلّ ما يجري في الذهن إنما أصله في الإحساس وفي الحالة العاطفية البدائية.[18]

وإذا كان ثمة واقعٌ لا مجال للمماراة فيه فهو امتلاك الروح للمقدرة على النظر إلى نفسه وبكلّ ما ينبثق عنه، ذلك أن التفكير يشكل بالفعل الطبيعة الأكثر صميميّةً وجوهريّةً للروح. وبفضل هذا الوعي المفكر الذي يمتلكه الروح تجاه ذاته ومنتجاته، يأتي سلوك الروح، إذا كان حقاً وفعلاً محايثاً فيها، مطابقاً لماهيّته وطبيعته.[19] 

الروح الموضوعي

هذا المستوى الثاني تغطيه فلسفة هيغل الأخلاقية والسياسية، وفيه يخرج الروح من ذاته ليخلق عالماً موضوعيّاً خارجيّاً، يتمثل في انجازات الروح في نتاجاته الخارجيّة كالتنظيمات والمؤسسات الروحية كالقانون والأخلاق والدولة والعادات. وهي تموضعٌ للذات لا بوصفها فرديّةً بل بوصفها ذاتاً كليّة.

على ذلك، يعني الروح الموضوعي الروح وقد خرج من جوُّانيته وذاتيته وأوجد نفسه في العالم الخارجي. وهذا العالم الخارجي ليس هو بالطبع عالم الطبيعة، إذ إنّ الروح يجد هذا العالم الأخير موجوداً بالفعل، لكنه العالم الذي يخلقه الروح لذاته لكي يصبح موضوعيًّا، أي لكي يوجد ويؤثر في العالم الفعلي. وهو بصفة عامة عالم المنظمات والمؤسسات. ولا يعني ذلك المنظمات الوضعيّة كالقانون والمجتمع والدولة وحدها، لكنه يشمل كذلك العرف والعادات والحقوق والواجبات عند الفرد، وكذلك الأخلاق والرعاية الخلقية.[20]

والتمييز بين الروح الذاتي والروح الموضوعي يرتدّ إلى تمييزٍ آخر يقوم بين المعرفة والإرادة، فالمعرفة هي الأنا حين يفكر، بينما الإرادة هي الأنا حين يعمل.

يميز هيغل بين دائرة الوعي ودائرة الذهن، وبين المعرفة والإرادة أو بين الذهن النظري والذهن العملي. ف«الأنا تواجه الموضوع في دائرة الوعي. أما في دائرة الذهن ( دائرة علم النفس) فإننا نجد أن الذات قد امتصت الموضوع في جوفها، وأنه قد ظهر بداخلها على أنه مضمونها».[21]

فالذهن أو الروح ليس مجموعةً من الملكات ترتبط ارتباطاً خارجياً كالمشاعر والإرادة والعقل، إذ ينبغي ألا نتخيل أن الإنسان في أحد جوانبه تفكيرٌ وفي جانبٍ آخرَ إرادةٌ. كما لو كان يضع الإرادة في جيب والفكر في جيبٍ آخر. فالذهن أو الروح وجودٌ واحدٌ يظهر في سلسلةٍ من المراحل التطورية: كالإرادة أو الفكر أو الشعور.[22]

وهكذا نجد أن الروح الموضوعي يقوم على نشاط الإرادة، فالمنظمات والمؤسسات هي عملٌ من أعمال الإرادة، حين تتجلى في العالم فتشكل مادته الخام وتحوله إلى عالمٍ جديدٍ للعقل. وللإرادة وجهان في هذا النشاط، الأول: هو أنها في سعيها نحو الكلي تريد نفسها لأنّ الكلية هي جوهرها، ولهذا السبب فإن العالم الجديد الذي خلقته ليس موضوعياً فحسب، لكنه روحيٌّ كذلك (فهو الروح الموضوعي) لأنه هو نفسه ما تصنعه الروح في العالم. والوجه الثاني هو أنّها تريد أن تجاوز نفسها وتريد أن تصل لا إلى ما هو ذاتي فحسب، بل إلى ما هو موضوعيّ.[23]

وبهذا المعنى، فإنّ العالم الخارجي نتاجٌ وتجلٍّ للروح الموضوعي، وبالتالي ليس له أيّ وجودٍ قائمٍ بذاته باستقلاليّةٍ تامةٍ عن الروح.

فالفكر يعرف أنّ مضمونه هو ذاته، وأنه بالتالي يحدّد مضمونه الخاص. فلم يعد ينظر إلى العالم على أنّه كتلةٌ صلبةٌ عنيدةٌ غريبةٌ عن الفكر، ولكنه، على العكس، مصنوعٌ على ما هو عليه، ومشكّلٌ ومَصُوغٌ ومحدّدٌ بواسطة الفكر. وعلى ذلك فإنّ الذات تشكّل العالم بنشاطها الخاص، وتلك هي الإرادة أو الذهن العملي.[24]

ويقوم الروح الموضوعي على فكرة الإرادة الحرة. والمؤسسات المختلفة هي منتجات للحرية: فالقوانين هي شروط الحرية. وبوصفي محكوماً بالقانون، فأنا محكومٌ بالكليّ، أي الذي أسقطه أنا نفسي على العالم. وأنا بالتالي محكومٌ عن طريق ذاتي، فأنا إذاً حرٌّ.[25]

ويتطور الروح الموضوعي في ثلاث مراحل هي: الحق المجرّد، الأخلاق الذاتيّة، والأخلاق الاجتماعيّة.

الحق المجرد (Abstract Right): دائرة الحقّ المجرّد هي دائرة الحقوق والواجبات التي تنشأ بوصفها مطالبَ مشروعةً للموجودات البشريّة، لا بوصفهم مواطنين في دولةٍ. ويقع الحق المجرد في ثلاث مراحل هي: الملكيّة(property)، العقد(contract)، الخطأ(wrong) . وهذه الحقوق الثلاث لا تقوم على أساس وجود الدولة، وإنما على أساس الشخص الفرد.[26]

الأساس العقلي للملكية يتمثل في أنّ الشخص غايةٌ ولا يمكن استخدامه كوسيلةٍ، أما الشيء فيمكن للشخص أن يستحوذ عليه كوسيلةٍ تحقّق مطالبه الخاصة.

لكلّ إنسانٍ الحق في الملكيّة الخاصة، لكن تحديد كميّة الملكيّة التي ينبغي أن يملكها كلّ منهم لا يمكن أن يتم على أساس المساواة. إنّ كلّ إنسانٍ هو أكثر من شخصٍ محضٍ، إنه بالإضافة إلى ذلك إمكانياتٌ، وقدراتٌ، وسماتٌ، ويختلف الأفراد في ما بينهم من حيث هذه الصفات، ويقابل هذا الاختلاف تفاوتاً في كميّة الملكية التي يمكن أن يمتلكها كلّ منهم. فالأفراد متساوون من حيث إنّ كلاًّ منهم هو عبارةٌ عنّي أنا أو أيّ شخصٍ آخرَ. لكنّهم يختلفون في جوانب أخرى تجعل بينهم تفاوتاً.[27]

العقد هو نقلٌ للملكيّة، ويقوم الانتقال من الملكيّة إلى العقد على حقّ التنازل عن هذه الملكيّة.

أما الخطأ فلا يعني به هيغل هنا الشرّ الأخلاقي، فالحق هنا ليس هو الحق الأخلاقي لكنّه الحق التشريعي مثل حقّ الملكيّة والتعاقد. وبالتالي فالخطأ هنا هو خطأٌ تشريعيٌّ أو مدنيٌّ، أي إنّه خرقٌ لحقٍّ تشريعيٍّ. في دائرة الخطأ تنتهك حرمة الحقّ وتسلب.[28] 

أما الأخلاقية (Morality) فالمقصود بها الأخلاق الذاتيّة أو الأخلاقيّة الفرديّة أو أخلاق الضمير. وإذا كان الحقّ المجرّد هو التموضع الخارجيّ للحريّة المتجسّد في الملكيّة في مرحلة، فإنّ الأخلاقيّة ليست شيئاً خارجياً كالملكيّة ولكنّها بالضرورة تهتم بحالة النفس: فهي موضوعٌ يتعلق بالضمير الداخلي للفرد. والفارق الرئيسي بين الحق المجرد والأخلاقيّة هو أنّ الأول يوجد ويتجسّد في العالم الخارجي في حين أنّ الثانية مسألةٌ تتصل بالوعي الداخلي.[29]

فالقانون الأخلاقي يشرع بإطلاقٍ ويكبت كلّ ميلٍ طبيعيٍّ، ومن يراه كذلك فإنّما يسلك حياله مسلك عبدٍ له. لكنّ القانون الأخلاقيّ هو في الوقت عينه الأنا نفسه، ويتأتى من صميم ماهيتنا الخاصة، فإذا امتثلنا له، فإنما نمتثل لأنفسنا وحسب، ومن يراه كذلك، فإنّما يراه من وجهٍ إستيطيقيٍّ. أن نمتثل لأنفسنا، فذلك يعني أن ميلنا الطبيعي يمتثل لقانوننا الأخلاقي.[30]

بالمقابل، يتمثل موضوع الأخلاق الاجتماعيّة (Social Ethics) في النظام الأخلاقي الذي يتألف من الأسرة، والمجتمع المدني والدولة. وهي (نتاج الذات نفسها أو إسقاطٌ من الذات لما بداخلها على العالم الخارجي. إنها الذات حين تخرج ذاتها إلى عالم الموضوعية).[31]

إنّ الأخلاقيّة الحقة هي، بالنسبة لهيغل، الأخلاقيّة الموضوعيّة، أي تلك التي يكتسبها الإنسان في المجتمعات التي تؤدّبه: العائلة، المجتمع المدني، الدولة. فالإنسان يبلغ الحرية الحقّة باندماجه بصورةٍ واعيةٍ في هذا الكلّ العينيّ، ألا وهو الهيئة الجماعيّة للدولة.[32]

في الواقع، عندما يعيش الإنسان القانون بدل أن يتلقاه من الخارج، يبطل هذا الأخير أن يكون بالنسبة إليه إكراهاً، ويصبح شكلاً من أشكال التحرّر، بحيث يؤدي به إلى السيطرة على فرديّته الإمبريقيّة، على هواه الأعمى، وعلى مصالحه الأنانية.[33]

وتمرّ الأخلاق الاجتماعيّة بثلاث مراحل هي: الأسرة (The family)، المجتمع المدني (Civil Society)، الدولة( The State) .

المجتمع المدني هو الذي يصبح فيه الشخص المستقل غايةً في ذاته. أما داخل الأسرة فلا يكون الشخص هو الغاية بل تصبح الأسرة هي الغاية.

والفارق الأساسي بين المجتمع المدني والدولة هو أن الفرد في المجتمع المدني ينظر إلى نفسه على أنه غايةٌ وحيدةٌ لدرجة أنه يصبح غايةً جزئية، في حين أن الدولة تعدّ غايةً أعلى يوجد الفرد من أجلها لدرجة أن غايته تصبح كليّةً.[34].

الروح المطلق

في المستوى الثالث، نجد الروح المطلق، وهي تمثل الروح البشري في تجلياته العليا على نحو ما يتجلى في الفن والدين والفلسفة. هذا المستوى تغطيه فلسفة الجمال وفلسفة الدين وفلسفة الفلسفة عند هيغل. والروح المطلق عنده هو مركبٌ من الروح الذاتي والروح الموضوعي. في هذا المستوى الأخير يصبح الروح حرًّا حريّةً مطلقة.

الروح المطلق هو الروح الكامل. وهو موجودٌ بداخلي، أعني داخل هذا الفرد الجزئي المعيّن بوصف أنّ جوهري وماهيتي ذاتها، لأنّه النموذج الذي صُنعتُ على غراره: لكن أنا هذا الفرد الجزئي المعيّن المليء بالأهواء اللامعقولة، وبالخصائص الجزئيّة الفرديّة، وبالأنانيّة لست إلا تشويهاً للروح المطلق. وإذا استخدمنا لغة الدين، لقلنا أنّه ليس شيئاً آخر غير روح الله الكامل العاقل العليم بكلِّ شيءٍ، الحكيم في كلّ شيءٍ. أما القول بأنّ الروح المطلق هو آخر مرحلةٍ من مراحل الروح البشري، فهو لا يعني أكثر من أنّ الروح البشري هو بالضرورة من النوع نفسه كروح الله، وأنّ كلّ إنسانٍ هو إلهيٌّ بالقوة.[35]

موضوع الروح في هذا المستوى هو الروح نفسها، ولا شيء غير الروح ذاتها. ومن ثم فالروح المطلق هو تأمل الروح لنفسها. والروح المطلق هو تلك المرحلة النهائيّة التي يعرف فيها الروح أنّه في تأمله لنفسه فإنّه يتأمل المطلق أيضاً. ويتخذ إدراك المطلق ثلاثة طرقٍ تعطينا ثلاث مراحل للروح المطلق هي: الفن، الدين، الفلسفة.[36]

الفن كتجسيدٍ حسيٍّ للفكرة هو جزءٌ من العقل المطلق، إلى جانب الدين والفلسفة. هو إذاً واحداً من ثلاثة أشكالٍ تتحقق فيها حرية الروح ويجري التعبير عنه. هو أول ظهورٍ للمطلق، هو تعبيرٌ محسوسٌ عن الحقيقة. يجتمع الفنّ مع الدين والفلسفة في نفس الإطار، إذاً، ولا يتميز الفنّ عنهما إلا في شكله، أي في تعبيره المحسوس. وهذه المجالات الثلاثة التي تمتلك، بشكلٍ أساسي، مضموناً واحداً وهو المطلق، ولا يتميز واحدها من الآخر إلا في شكل تقديم ذلك المضمون إلى الوعي الإنساني.[37] 

دور الفنّ هو في أن يكون الوسيط أو الموفّق بين الواقع الخارجي المحسوس والفاني وبين الفكر المحض، أي بين الطبيعة والواقع المتناهي من جهة، والحرية اللامتناهية للفكر الأفهومي من جهةٍ أخرى. ففي الفنّ يبدو المحسوس مُرَوحِناً، ويرتدي الروحاني مظهراً حسياً. ومن شأن الفنّ أن يظهر الجوهري والكلي، فهو يستخرج القيمة الحقيقيّة من المظاهر الحسيّة ويعطي هذه الأخيرة واقعاً أسمى يولده الروح.[38]

ويعتبر هيغل الجمال الفنّي أسمى من الجمال الطبيعي لأنّه من نتاج الروح. فما دام الروح أسمى من الطبيعة، فإنّ سموه ينتقل بالضرورة إلى نتاجاته، وبالتالي إلى الفن. لذا كان الجمال الفنيّ أسمى من الجمال الطبيعي، لأنه من نتاج الروح. إنّ كلّ ما يأتي من الروح أسمى مما هو موجود في الطبيعة.[39]

أما بخصوص الدين، فيقطع هيغل بأنّ كلّ ما يسعى إليه الإنسان لسعادته وعظمته وفخاره يجد محوره الأقصى في الدين وفي الفكر وفي الوعي والشعور بالله. ومن ثم فإنّ الله هو بداية كلّ الأشياء وخاتمة كلّ الأشياء. ولما كانت كلّ الأشياء تنطلق من هذه النقطة، فإن الكلّ يرتدّ إليها ثانية. إنها المحور الذي يعطي الحياة، والذي يضفي طابعاً حيوياً ويحفظ في الوجود الإنساني كلّ الأشكال المختلفة للوجود العام. إنّ الإنسان يجد في الدين أماكن لنفسه في علاقةٍ مع هذا المركز، وحيث كلّ العلاقات الأخرى تركز نفسها. وبهذا العمل يرتفع إلى أعلى مستوى من الوعي وإلى النطاق الذي هو متحرّرٌ من العلاقة إلى آخر ليس ذاته، إلى شيءٍ مكثّفٍ بذاته على نحوٍ مطلقٍ، إلى اللا شروط، إلى ما هو حرٌّ، والذي هو كيانه وغايته.[40]      

في الدين حيث ينشغل (الروح) بذاته بهذه الغاية تنزل الأثقال عن كاهله، أثقال كلّ تناهٍ ويكسب لذاته إشباعاً وخلاصاً نهائيين. فهنا لا يعود (الروح) يربط نفسه بشيءٍ غير نفسه، وهذا محدود، ولكن بالارتباط باللا محدود واللا متناهي، وهذه هي العلاقة اللا متناهية، علاقة الحرية، لا علاقة التزمتيّة أو العبودية. هنا يكون وعيه حراً حريّةً مطلقةً، ويكون في الحقيقة وعياً لأنّه وعيٌ بالحقيقة المطلقة. وهذا الشرط للحريّة في طابعه كشعورٍ هو الإحساس بالإشباع الذي نسميه اليمن أو البركة. بينما كنشاطٍ فإنّه ليس لديه شيءٌ أبعد ليفعله أكثر من تجلّية جلاليّة (الله) وكشف عظمته.[41]  

إنّ هدف كلّ ديانةٍ وماهيتها، بحسب هيغل، هما تنمية أخلاقية الإنسان، وكان يقرّ بأنّ على الدين الشعبي أن يترك مكاناً للقلب وللمخيلة وحتى للحواس أيضاً.

ويرى هيغل أنّ موضوع الدين، هو في العمق، موضوع الفلسفة نفسه. إنّه المطلق أو الله. فالمضمون النظري هو نفسه. غير أنّ ما يدركه الدين بشكلٍ حسيٍّ وصوري، أي بالتصور، تعقله الفلسفة بشكلٍ مطابقٍ عن طريق الأفهوم. وبمعنى آخر، إن وحدة النهائي واللانهائي التي تفكر فيها الفلسفة بواسطة الأفاهيم، يشعر بها الدين ويتخيلها.[42]

إذاً، المطلق هو الموضوع المشترك بين الفلسفة والدين، ويتمثل الفارق بينهما في أنّ الفلسفة تتعقل المطلق بوساطة المفاهيم التي تقوم برفع مضمونه إلى صورة الفكر المجرد، في حين أنّ الدين يدرك المطلق بواسطة الشعور والمخيلة. وأخيراً، نقول أنّ الروح المطلق هو كذلك ليس من ناحيةٍ هو خاصٌ ومتناهٍ، بل من حيث هو كليٌّ وكونيٌّ في حقيقته.

تقويم ونقد      

أولاً: يمثل هيغل أعلى قمّة بلغها الميراث الفلسفي العقلاني، منذ أفلاطون وحتى عصره، وتجسّد فلسفته هذا التراث في صورته الأكثر عمقاً وجذريّة، بحيث تجعل من العقل جوهر الوجود كلّه. فمع هيغل يتمّ التعاطي مع الوجود بوصفه معقولاً بالتمام. وينطلق هيغل في تشييد نسقه الفلسفي من مسلّمةٍ فحواها أنّ كلّ شيءٍ موجود هو بالضرورة عقليٌّ، بمعنى أنّ له القابليّة للتعقل بصورةٍ مطابقةٍ لما يشكّل جوهر كينونته، ولعلّ هذا هو ما دفع بالفيلسوف الوجودي سرن كيركجارد (S. kierkegard) إلى نقد المذهب الهيغلي، فمع هذا الأخير لم يعد يُنظر إلى الفلسفة بوصفها نسقاً مغلقاً أو مذهباً شاملاً، يحوي إجابةً لكلّ شيء، كما كان الحال مع هيغل، وإّنما بوصفها مجموعةً من الشذرات غير المكتملة وغير النهائيّة. ولم تعد الفلسفة تتكلم بلغةٍ قاطعةٍ جازمة، ويظهر ذلك بوضوحٍ في عناوين كتب كيركجارد، كمثال مؤلفيه: (شذرات فلسفيّة) و(حاشية ختاميّة غير علميّة). ومن ناحيةٍ ثانية، وخلافاً لهيغل، يرى كيركجارد، ومعه فلاسفة الوجوديّة، أنّ الوجود غير قابلٍ لحبسه في إنشاءات عقليّةٍ أو مقولات فكريّة. 

أما عند هيغل فليس للعالم من تاريخٍ حقيقيٍّ باستقلال عن الروح، وماهو إلاّ أحد تجليات النشاط العملي للروح وأحد تمظهراته الماديّة، فهي تجسيدٌ لهذا كلّه في مسيرتها عبر الحقب التاريخيّة المختلفة. وجميع تمظهرات الروح المختلفة كالدولة ومؤسّساتها، والمجتمع ومؤسّساته، وكالفن والعلم والأخلاق والقوانين والدين، سواءً أكانت تجسيدات عينيّةً ملموسةً أم تمظهرات معنويّة، إنّما هي وسائل تتمكن عبرها وبواسطتها الذات من التعرف على ذاتها. على ذلك يصبح الروح هنا موضوعَ وجوهرَ وغايةَ كلّ الوجود، وكلّ التاريخ.

(العقل يحكم العالم)، إذاً، هي الفكرة التي يقرّرها هيغل، وما تخرج به فلسفته من تأملها للتاريخ، وبالتالي فإنّ تاريخ العالم يتمثل أمامه بوصفه مساراً عقلياً. فمن زاويةٍ أولى يشكّل العقل جوهرَ وأساسَ كلّ ما هو كائن، ويمثّل من الزاوية الثانية الغايةَ النهائيّة لهذا الوجود. وهو لا يتحقق ولا يتجسّد في العالم الطبيعي فحسب، بل أيضاً في العالم الروحي، وهذا العالم الأخير ما هو إلا تجسيد لانكشاف العقل عن نفسه في التاريخ، وتمظهره في العالم.

والخلاصة، أنّ العقل موجودٌ في التاريخ، والعقل يسيطر على العالم. والعبارة الأخيرة ليست نحتاً هيغلياً أصيلاً، فقد سبق وأن قال بها الفيلسوف اليوناني أنكساجوراس (Anaxagoras)، بل هو أوّل من ذهب إلى هذا القول. لكنّه، حسب هيغل، لم يكن محيطاً بالكيفيّة التي يتجلّى بها العقل في الوجود الفعلي.

ويشرح لنا هيغل هذه العبارة بقوله: « ليس المقصود بذلك الذكاء من حيث هو عقلٌ واعٍ بذاته، ولا هو الروح بما هو كذلك. إنّ حركة النظام الشمسي تحدث وفقاً لقوانين لا يمكن أن تتغير، وهذه القوانين هي العقل الكامن في الظواهر التي نتحدث عنها، لكن لا الشمس ولا الكواكب التي تدور حولها وفقاً لهذه القوانين، يمكن أن يُقال بأنّ لها أيّ ضربٍ من ضروب الوعي. ولذلك فإنّ مثل هذه الفكرة التي تقول بأنّ الطبيعة هي تجسيدٌ للعقل وأنّها تخضع دوماً لقوانين كليّة، لا تبدو لنا على الإطلاق غريبةً أو مدعاةً للدهشة».[43]   

ثانياً: ثمة رابطٌ قويٌّ بين الفكرة الهيغليّة التي فحواها: ( أنّ العقل يسيطر على العالم، ويمثل غايته النهائيّة المطلقة) والفكرة الدينيّة التي تذهب إلى ( أنّ العناية الإلهيّة توجّه العالم). بل إنّ هيغل نفسه يرى أنّ الفكرة الثانية ليست إلا صورة للأولى، وكلّ ما في الأمر أنّ إحداهما قيلت بصورةٍ فلسفيّةٍ والثانية قيلت بلغةٍ دينيّة. فالعناية الإلهيّة، حسب هيغل، هي الحكمة المزوّدة بقوةٍ لا متناهية تحقق غرضها في التدبير العقلي المطلق للعالم.

فالواقع عند هيغل يكشف دوماً عن نقصه وعدم اكتماله، ومن جهةٍ ثانية: كلّ واقعٍ قائمٍ يستبطن بداخله ( إمكاناً قابلاً للتحقق) أكثر رحابةً ممّا هو حاضرٌ بالفعل. هذا الإمكان بمثابة بديلٍ مؤجلٍ لما هو قائمٌ بالفعل، وهو بمثابة (سلبٍ) للواقع. ( ومن هنا كان الواقع ينطوي على سلبٍ لوضعه المباشر بحيث يكون هذا السلب هو طبيعته الباطنة. وليست (الإمكانات) التي يحملها الواقع خيالات يخلقها ذهنُ عابث، وإنّما هي هذا الواقع نفسه منظوراً إليه على أنّه (شرطٌ) لواقعٍ آخر، وهكذا لا تكون أشكال الوجود الفعلي الموجودة أمامنا صحيحةً في مجموعها إلا بوصفها شروطاً لأشكالٍ أخرى للوجود العقلي، وعلى ذلك فإنّ صورة الواقع المعطاة مباشرة ليست واقعاً نهائياً.

رابعاً: وعند هيغل، الواقع زائفٌ أو هو لا يمثل الحقيقة النهائية، ذلك بأن الوقائع المعطاة التي تظهر للحسّ المشترك كمحتوى إيجابيٍّ للحقيقة، هي في واقع الأمر سلبٌ لهذه الحقيقة، بحيث إنّ الطريقة الوحيدة التي تتأسس بها الحقيقة لا تكون إلا بهدمها. وفي هذا الاقتناع النقدي تكمن القوّة الدافعة للمنهج الجدلي، فالجدل بأكمله مرتبطٌ بالفكرة القائلة بأنّ هناك سلبيّةً أساسيّةً تتغلغل في كلّ أشكال الوجود، وأنّ هذه السلبيّة تتحكم في مضمون هذه الأشكال وحركتها. نلاحظ أنّ الجدل يسير في اتجاهٍ مضادٍ للفلسفة التجريبيّة أو الوضعيّة. ذلك لأنّ المبدأ الذي ظلّت هذه الفلسفة ترتكز عليه منذ ديفيد هيوم حتى الوضعيّة المنطقيّة هو السلطة المطلقة للواقع. وكانت الطريقة النهائيّة للتحقق من أيّ شيءٍ في نظرها هي ملاحظة المعطى المباشر. وكانت هذه الفلسفة تحضّ الفكر على أن يقنع بالوقائع ويتخلّى عن أيّ تجاوزٍ لها، وأن ينحني أمام الأمر الواقع، فإنّ هيغل يعلمنا أنّ الوقائع ليس لها في ذاتها سلطةٌ، فكلّ ما هو معطى ينبغي أن يبرّر أمام العقل.[44]

والوضعيّة ترتكز على يقين الوقائع. ولكن كما يُبيّن هيغل، ففي عالمٍ لا تمثل فيه الوقائع على الإطلاق ما يمكن وما ينبغي أن يكونه الواقع، يكون معنى الوضعيّة، هو التخلّي عن الإمكانات الحقيقيّة للبشر، من أجل عالمٍ مزيّفٍ غريب. فهجوم الوضعيُّ على التصورات الكليّة، على أساس أنّها لا يمكن أن ترد إلى وقائع ملاحظة، يستبعد من مجال المعرفة كلّ ما لا يمكن أن يكون واقعةً بعد. وإذ يُثبت هيغل أنّ التجربة الحسيّة والإدراك الحسي، اللذين تلجأ إليهما الوضعيّة، لا ينضويان في ذاتهما على الواقعة الجزئيّة الملاحظة، بل على شيءٍ كليٍّ، فإنّه يفنّد بذلك الوضعيّة من داخلها تفنيداً نهائياً.[45]

وهكذا تبدو، حسب تأوّل ماركيوز لهيغل، ثوريّة المثاليّة الهيغليّة بقدر ما يبدو الجانب المحافظ في الفلسفات الوضعيّة والتجريبيّة والمادية، وهي الفلسفات التي ترتكز على الواقع.

مع هيغل يأخذ الإنسان على عاتقه تنظيم الواقع وفقاً لمتطلبات تفكيره العقلي الحرّ بدلاً من الاكتفاء بتشكيل أفكاره وفقاً للنظام القائم والقيم السائدة. إنّ الإنسان كائنٌ مفكرٌ، وعقله يتيح له أن يتعرّف على إمكاناته الخاصّة، وعلى إمكانات عالمه. ومن ثمّ فهو ليس واقعاً تحت رحمة الوقائع المحيطة به، وإنّما هو قادرٌ على إخضاعها لمعيارٍ أرفع، هو معيار العقل. ولو سلّم الإنسان له القيادة، لوصل إلى تصوراتٍ تكشف عن تضادٍّ بين العقل وبين الأوضاع القائمة. وقد يصل إلى أنّ التاريخ إنّما هو صراعٌ دائمٌ من أجل الحريّة... ومن ثم فمن الواجب تغيير الواقع «غير المعقول» إلى أن يصبح متمشياً مع العقل.[46]

فالفكر ينبغي أن يحكم الواقع. وما يعتقد الناس بفكرهم أنه صوابٌ وحقٌّ وخيرٌ ينبغي أن يتحقق في التنظيم الفعلي لحياتهم الاجتماعية والفردية.[47]وهكذا فإنّ المفهوم الهيغلي للعقل يمتلك طابعاً نقدياً خلافياً مميزاً. فهو مضادٌّ لكلّ استعدادٍ لقبول الأوضاع القائمة.

خامساً: ثمة سؤالٌ يفرض نفسه علينا هنا بصدد ما كتبه هيغل في معرض وصفه وتحليله للشخصيّة الشرقيّة وعن صفات وخصائص المجتمعات الشرقيّة في الأخلاق والسياسة والفن والدين ومظاهر الحياة المختلفة، التي لا يزال الكثير من سماتها السيّئة قائمةً حتى يومنا الراهن. فإلى أيّ حدٍّ كانت كتاباته هذه أمينةً ودقيقةً؟

فالمركزيّة الأوروبيّة أوضح ما تكون مع هيغل حين يكتب: ( إنّ تاريخ العالم يتّجه من الشرق إلى الغرب، لأنّ أوروبا هي نهاية التاريخ على نحوٍ مطلق، كما أنّ آسيا بدايته)[48]، وهو حين يكتب: (الشرق لم يعرف، ولا يزال حتى اليوم لا يعرف سوى أنّ شخصاً واحداً هو الحر، أما العالم اليوناني والروماني فقد عرف أنّ البعض أحرار، على حين أنّ العالم الجرماني، عرف أنّ الكلّ أحرار).[49] يكون أيضاً منسجماً بالكلية مع فكرة المركزيّة الأوروبية، التي تزاوج، كما يفعل هو، بين الغرب العقلاني ذو الأصول اليونانيّة الرومانيّة والمسيحيّة المحبة للحريّة.

والخلاصة أن آراء هيغل عن الأمم الشرقية القديمة تكشف عن سطحيّة ومحدوديّة المصادر التي ارتكز عليها. وتُفصح عن تحاملٍ ظاهرٍ وبيّنٍ بصدد كلّ ما هو غير أوروبيٍّ، كما تستبطن نظرةً دونيّةً للثقافات غير الأوروبيّة التي هي في نظره تنطوي على خرافاتٍ وأساطير كثيرةٍ، وتعكس نبرةً استعلائيّةً مقيتةً يميل فيها إلى فرادة النموذج الغربي على حساب التقليل من المنجز الحضاري لباقي الشعوب الأخرى. ولا شكّ في عظم المساهمة التي قدّمتها الحضارات الشرقيّة القديمة للحضارة الإنسانيّة في مختلف المجالات من علوم وفنون وآداب. ويكفي أنّ ما تحقق لليونان أو الرومان أو لأوروبا الحديثة لم يكن ليحدث لولا التراكم الحضاري الذي ساهمت فيه الحضارات الشرقيّة القديمة إلى جانب الحضارة الإسلاميّة الوسيطة. فالرواية الهيغليّة تنفي الآخر الإنساني وتقدم المنجز الحضاري الأوروبي اليوناني على أنّه منبتُ الجذور للتراث الإنساني غير الغربي.   

---------------------

مجدي عز الدين حسن : باحثٌ وأستاذٌ مشاركٌ بقسم الفلسفة، كليّة الآداب، جامعة النيلين- السودان.

[2]- See: Herbert  Marcuse, Reason and Revolution, Hegel and the Rise of Social Theory, ( London: Routledge & Kegan Paul Ltd, 1960). p.24.

[3]-  رينيه سرو، هيغل والهيغلية، ترجمة: أدونيس العكره، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1993، ص 6. 

[4]-  ميشيل فوكو، نظام الخطاب، ترجمة: محمد سبيلا، دار التنوير، بيروت، 1984، ص 64.

[5]-  المصدر نفسه، ص 74.

[6]-  أنظر: ولتر ستيس، فلسفة هيغل، الجزء الثاني: فلسفة الروح، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط3، 2005، ص 15.

[7]-  هيغل، العقل في التاريخ،  ترجمة: أمام عبد الفتاح، دار التنوير  للطباعة والنشر، بيروت، ط3، 2007، ص 87.

[8]-هيغل، المدخل إلى علم الجمال: فكرة الجمال، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط3، 1988، ص 9.

[9]-هيغل، مدخل إلى فلسفة الدين، ترجمة: مجاهد عبد المنعم مجاهد، مكتبة دار الكلمة، القاهرة، ط1، 2001، ص 23.

[10]- See: Herbert  Marcuse, Reason and Revolution, Hegel and the Rise of Social Theory, p.227.

[11]-أنظر: هيغل، العالم الشرقي، ترجمة إمام عبد الفتاح، دار التنوير، بيروت، ط3، 2007، ص 9.

[12]-هيغل، العقل في التاريخ،  مصدر سابق الذكر، ص 89.

[13]- Herbert  Marcuse, Reason and Revolution, Hegel and the Rise of Social Theory, P.48.

[14]-هيغل، العقل في التاريخ،  مصدر سابق الذكر، ص 111.

[15]- Herbert  Marcuse, Reason and Revolution, Hegel and the Rise of Social Theory, P.91.

[16]- Herbert  Marcuse, Reason and Revolution, Hegel and the Rise of Social Theory, pp.91- 92.

[17]-هيغل، العقل في التاريخ،  مصدر سابق الذكر، ص 113.

[18]-رينيه سرو، هيغل والهيغلية، مصدر سابق الذكر، ص 35-36.

[19]-هيغل، المدخل إلى علم الجمال: فكرة الجمال، مصدر سابق الذكر، ص 24.

[20]-أنظر: ولتر ستيس، فلسفة هيغل، الجزء الثاني: فلسفة الروح، مصدر سابق الذكر، ص 61.

[21]-المرجع نفسه، ص 53.

[22]-المرجع نفسه، ص 54.

[23]-المرجع نفسه، ص 62.

[24]-المرجع نفسه، ص 53.

[25]-المرجع نفسه، ص 63.

[26]-المرجع نفسه، ص 70.

[27]-المرجع نفسه، ص 72.

[28]-المرجع نفسه، ص 75.

[29]-المرجع نفسه، ص 80.

[30]-هيغل، في الفرق بين نسق فيشته ونسق شلنغ في الفلسفة، ترجمة: ناجي العونلي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2007، ص 201.

[31]- أنظر: ولتر ستيس، فلسفة هيغل، الجزء الثاني: فلسفة الروح، مصدر سابق الذكر، ص 92.

[32]- رينيه سرو، هيغل والهيغلية، مرجع سابق الذكر، ص 39.

[33]- المرجع نفسه، ص 39.

[34]- ولتر ستيس، فلسفة هيغل، الجزء الثاني: فلسفة الروح، مصدر سابق الذكر، ص 100.

[35]-ولتر ستيس، فلسفة هيغل، المجلد الأول:المنطق وفلسفة الطبيعة، ترجمة: إمام عبد الفتاح، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط3، 2007، ص 126.

[36]-أنظر: ولتر ستيس، فلسفة هيغل، الجزء الثاني: فلسفة الروح، مصدر سابق الذكر، ص 128-129.

[37]-إ. نوكس، النظريات الجمالية (كانط-هيغل-شوبنهاور)، ترجمة: محمد شفيق شيا، منشورات بحسون الثقافية، بيروت، ط1، 1985، ص 107. 

[38]-رينيه سرو، هيغل والهيغلية، مرجع سابق الذكر، ص 42.

[39]-هيغل، المدخل إلى علم الجمال: فكرة الجمال، مصدر سابق الذكر، ص 8.

[40]-هيغل، مدخل إلى فلسفة الدين، مصدر سابق الذكر، ص 23-24.

[41]- المصدر نفسه، ص 24.

[42]-رينيه سرو، هيغل والهيغلية، مرجع سابق الذكر، ص 46.

[43]-هيغل، العقل في التاريخ،  مصدر سابق الذكر، ص 80.

[44] See: Herbert Marcuse, Reason and Revolution, Hegel and the Rise of Social Theory, P.27.

[45] Ibid, P.113.

[46] Ibid, P.6.

[47] Ibid, P.6.

[48]-هيغل، العقل في التاريخ، مصدر سابق الذكر، ص 188.

[49]-المصدر نفسه، ص 189.