البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

إقصائية هيغل، نقد النظرة العنصرية حيال الآخر

الباحث :  أحمد عبد الحليم عطية
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  14
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2019 م / 1440 هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 16 / 2019
عدد زيارات البحث :  1790
تحميل  ( 365.263 KB )
يتناول الباحث المصري أحمد عبد الحليم عطية في هذا البحث جانباً مثيراً في فلسفة هيغل السياسية والسيوسيولوجية، حيث يتطرّق إلى نظرته العنصرية حيال الآخر، وخصوصاً إلى العنصر الإفريقي باعتباره كائناً دونيّاً بالنسبة إلى العرق الجرماني.

يقوم البحث على تبيين المرتكزات الفلسفية التي اعتمدها هيغل في مؤلفاته ليصوغ نظرته الإقصائية للآخر، والتي شكّلت أحد أبرز التأسيسات المعرفية والثقافية للحداثة الاستعمارية..

المحرر

----------------------------

كتب يوهان غوته رسالةً امتزجت فيها مشاعر الخوف والهلع والصدمة إلى صديقه العالم الفيزيائي توماس يوهان سيبيك (1770 – 1831)، لكن سبب هذه المشاعر يعود أساساً إلى ما سبق وكتبه صديقه هيغل وهو ينظر إلى الآخر غير الجرماني. إن ما أرعب غوته في فكر هيغل  هو منطق الإقصاء والإعدام، الذي لا يتجلّى فقط في الصورة المجازيّة/ الحقيقيّة  الدالة على الصراع القائم داخل النبتة، والذي بموجبه تقصي الوردة البرعم و«تعدمه»، بل أيضًا تلك «البنية الفلسفيّة» التي نراها تنسج رؤية هيغل باسم الجدل الجامع بين الشيء ونقيضه، والمؤدي بالتالي إلى التجاوز والتركيب، فتطفح نزعةٌ إقصائيّةٌ وعنيفةٌ تجاه الوجود والطبيعة والأشياء. إنّ صورة النبتة المحتوية على صراعٍ إقصائيٍّ بين الوردة والبرعم، تلخّص فلسفة هيغل في الهويّة والغيريّة خير تلخيصٍ. فلا هويّة من غير صراعٍ مع الغير، ولا غيريّة إلا وفيها إقصاءٌ بل وإعدامٌ، والإعدام هنا ليس مجازيًّا فحسب، وإن صعُب التمييز داخل فلسفة هيغل بين المجازي والحقيقي أليس «كلّ ما هو واقعيٌّ هو عقليٌّ، وكلّ ما هو عقليٌّ هو واقعيٌّ؟»[2].

 يصرّ هيغل على أن هذا العالم حديثٌ بالمعنى المادي الفيزيقي، لذلك لا توجد أميركا القديمة بنظره، وإذا وجدت فإنّها في طريقها إلى الزوال، إذاً لا بد أن تزول بمجرّد لقائها مع الغرب. بروحٍ عجيبة البرودة يخبرنا هيغل أنّه في ما يتعلّق بالسكان الأصليين في أميركا «لم يبق إلا القليل من سلالاتهم». لقد أمعن هيغل في تصوير دونيّة السكان الأصليين ليُعلي من شأن الوافدين الأوربيين في حركةٍ «جدليّةٍ» ناجحةٍ يقول: «إنّ الوداعةَ والنقصَ في العفويّة والوضاعة مع خضوعٍ حسير، هذه هي الخاصيّة الرئيسيّة للأميركيين (السكان الأصليين) ويجب الانتظار طويلاً حتى يستطيع الأوربيون أن يمنحوهم قليلاً من الكرامة الشخصيّة. إنَّ أمرَ دونيّة هؤلاء الأفراد في كلّ الأحوال، حتى بالنسبة لقاماتهم، ظاهرٌ كلّ الظهور»[3].

 مزاعم دونيّة الإفريقي

 ينعت هيغل الرجل الإفريقي بالرجل «الطبيعي بدرجةٍ أولى»، ومن المعروف أن الدنوَّ من الحالة الطبيعيّة عند هيغل يرادف الدونيّة. «إنّ الرجل الإفريقي يمثل الرجل الطبيعي بكلّ وحشيّته ونزقه. إذا أردنا فهمه، يجب تناسي كلّ طرائق رؤيتنا للأشياء نحن الأوربيين. يجب ألا نفكر لا في إلهٍ روحيٍّ ولا في قانونٍ أخلاقيٍّ، يجب تعليق كلّ احترامٍ وكلّ أخلاقٍ لما نسمّيه مشاعر. كلّ ذلك يُنقص الإنسان (الإفريقي)، الذي ما زال في مرحلةٍ خامٍ، لا يمكن أن نجد في طبعه ما يمكن أن يذكّرنا بالإنسان». لا يجد هيغل ضالّته في إفريقيا السوداء، بل بعكس ذلك، إنّه يجد كلّ ما لا يناسب شروط انبثاق الروح الكونيّ. فإفريقيا مرتعٌ للحيوانات الأكثر توحشًا وشراسةً ومناخها سامٌ بالنسبة للأوربيين.

يتحدث هيغل في سياق جولته الإفريقية عن الحس الغريزي البدائي الذي يمنع الأوربيين من أكل لحوم البشر، ويلمّح بذلك إلى غياب هذا الحسّ الغريزي عن الكائن الإفريقي، كما يرفع هيغل من فعل أكل لحوم البشر إلى مبدأٍ عامٍ وقارٍّ في الثقافة الإفريقيّة. ويعرّج على موضوع العبوديّة في «الحضارة» الإفريقيّة ويجعل منه «خاصيّةً» إفريقيّةً بامتيازٍ، إذ إنّ «في كلِّ الممالك الإفريقيّة المعروفة تُشكّل العبوديّة مؤسّسةً محليّةً وهي تطغى بشكلٍ طبيعيٍّ». لهذا فهو بعد أن يخبرنا أنّ الأوربيين يبيعون الأفارقة كعبيدٍ في القارة الأميركيّة يعلق على ذلك قائلاً: «مع ذلك فمصيرهم في بلدانهم الأصليّة أنكى وأشدّ بسبب وجود عبوديّةٍ مطلقةٍ أيضًا»[4].

يذهب هيغل إلى أن الإفريقي هو أصل العبوديّة، وهو أصل استعباده لنفسه. ورغم أنّنا لا نجد كلاماً واضحاً عن العرق أو الأعراق عند هيغل، إلاّ أنّ كلَّ تحليلاته -كما يقول عبد الواحد التهامي- توحي بأنّه كان يستبطن شيئًا من هذا ويحاذيه في مختلف تحليلاته ووقفاته عند ثقافات الشعوب، وإلا كيف نفسّر تراجعه عن المعايير الجغرافيّة المساعدة على الفاعليّة الحضاريّة، التي وضعها هو نفسه في بداية سفره الفلسفي عبر التاريخ، ثم التراجع عن ذلك عند السفر التطبيقي على الشعوب. كيف تكون القارة الأميركيّة معتدلة المناخ ومنتميةً للشمال المعتدل كما وصفه ولم يستطع شعوبها المساهمة في تحقيق الروح الكوني؟

يخلص التهامي إلى أنّ التجربة الفلسفيّة الغيريّة عند هيغل تنمّ عن كثيرٍ من الاختزال والقولبة الماهويّة للآخر. دائما ما ينزع إلى البحث عن ماهيّةٍ ثابتةٍ للآخر يختزله فيها، يقولبه على منوالها بدون أدنى حرجٍ أو تريّثٍ في الأحكام والتقييم. وعلى الرغم من أنّه أكثر الفلاسفة بحثاً عن تجليّات الروح الكوني أو العقل المطلق، إلا أنّه أشدّهم اختزالاً للآخر، وأكثرهم تبريراً للنزعة الفوقيّة التي سادت خطاب الغرب تجاه باقي العالم[5].

 الهيغليّة والعالم الشرقي

 يعرض الهيغلي المصري إمام عبدالفتاح إمام[6] في ترجمته للجزء الثاني من محاضرات في فلسفة التاريخ مقدمة عن «هيغل والعالم الشرقي»، الخصائص العامّة لفلسفة التاريخ عند هيغل، وفيها يوضّح أن التاريخ عند هيغل هو عرضٌ للروح، وماهيّة الروح الحرّ، ومن ثم فإنّ مسار التاريخ هو تقدّم الوعي بالحريّة، لكنّها ليست حريّةً فرديّةً سلبيّةً تعسفيّة. التاريخ عند هيغل غائيٌّ، فكلّ ما يحدث له معنًى، وله ما يبرّره. والغائيّة هي الجانب الموضوعيُّ الذي يمثل الضرورة في هذا المسار، لكن الضرورة أو الجانب الموضوعي لا يعمل لوحده، فهناك الجانب الذاتيّ الحر للأفراد، ومن ثم كان التاريخ ارتباطاً وثيقاً بين الضرورة والحريّة[7].

  والسمة الأولى التي يذكرها إمام لفلسفة التاريخ الهيغليّة، هي أنّ الروح يكشف عن نفسه في حقيقته الأكثر عينيّة، فالروح منذ البداية يحمل إمكاناتٍ كثيرةً يبثّها في مراحل التاريخ المختلفة، مكتسباً معرفةً ووعياً بما هو عليه في ذاته. ومن هنا اقتضى التحقّق الكامل للروح: «أن تنمو المجتمعات لكي تُعبّر تعبيراً كاملاً عن العقل وتجسّده، ما دام الرّوح يحقّق نفسه في الزمان، فهدفه أيضاً أن يتحقق في التاريخ وأن يصل إلى فهمٍ لنفسه، ومعرفةٍ بذاته، وذلك يتحقق في الدولة. وتبدو السّمة الثانية واضحةً في التأكيد على أنّ طبيعة الروح هي الحرية، غير أنّ الحريّة هنا ليست هي الحريّة الفرديّة السلبيّة، وإنّما هي الحريّة في أن يتّبع الإنسان ماهيّته الخاصّة المتمثّلة في العقل، وهذا يعني المشاركة في حياةٍ اجتماعيّةٍ أوسع في كيانٍ واحدٍ يسمّى الدولة، إذ في الدولة وحدها يكون للإنسان وجودٌ عاقلٌ».

 مسار التاريخ عند هيغل، يشكّل حلقاتٍ متتابعةً تمثّل درجاتٍ مختلفةً من الوعي بالحريّة، فمراحلها الأولى هي تعبيراتٌ ناقصةٌ تماماً لما سوف تجسّده المراحل المتأخّرة بشكلٍ أكثر كفايةً وأكثر إقناعاً. إنّ تحقّق الرّوح ووعيه بذاته الذي يشكّل حرّيته، يتمُّ في التاريخ على مراحل متعدّدةٍ هي الحضارات المختلفة ومن هنا كان: «تاريخ العالم هو عرضٌ لمسار الرّوح في أعلى صورها، أي التقدّم التدريجي الذي تبلغ بواسطته حقيقتها ووعيها بذاتها. والصورة التي تتخذها مراحل التقدّم هذه هي «الأرواح القوميّة» المميّزة في التاريخ، وهي الطابع الخاص لحياتها الأخلاقيّة وحكومتها وفنّها ودينها وعلمها [8].

  تاريخ العالم -كما يتابع إمام شرحه لهيغل- هو مسارٌ يُكافح فيه الرّوح لكي يصل إلى وعيٍ بذاته، وكلّ مرحلةٍ من مراحل سَيْرِه تمثّل درجةً من الحريّة، المرحلة الأولى التي يبدأ منها الرّوح هي العالم الشرقي: الصين، والهند، وفارس، ومصر. وكلّ ما عرفه الشرق هو أنّ الحريّة منحصرةٌ في شخصٍ واحدٍ وهو الحاكم، أمّا المواطنون فهم جميعاً عبيدٌ لهذا الحاكم. مع ذلك فهيغل ينبّهنا إلى أنّ حريّة الحاكم لم تكن تعني سوى انسياقه وراء أهوائه وانفعالاته ونزواته، وبالتالي لم تكن حريته تعيّناً لذاته، ولا تعبيراً عن ماهيّته الحقّة (أي العقل)، ومن ثم كان الحاكم طاغيةً لا إنساناً حرًّا. أمّا المرحلة الثانية فتمثّلها الحضارة اليونانيّة والرومانيّة حيث اتسع نطاق الحريّة عما كان عليه عند الأمم الشرقيّة، فعرف بعض المواطنين اليونانيين والرومانيين الحريّة، وعليه كانوا ينظرون إلى شعوب باقي الأمم على أنّهم «برابرةٌ» أو «همجٌ»، ولهذا اتخذوا من أسرى الحرب عبيداً وأرقّاء. أقرّ أفلاطون وأرسطو نظام الرق لأنّهما لم يعرفا أن الإنسان بما هو إنسانٌ حرٌّ. أمّا الأمم الجرمانيّة فقد كانت، بتأثير المسيحيّة أوّل الأمم التي تصل إلى الوعي بأن الإنسان بما هو إنسانٌ حرٌّ، وأنّ حريّة الرّوح هي التي تؤلّف ماهيّته وقد ظهر هذا الشعور أول ما ظهر في قلب الدين، المكان الذي يمثّل أعمق منطقةٍ للروح. ولكن إدخال هذا المبدأ في مختلف العلاقات السائدة .. يحتاج إلى عمليّةٍ ثقافيّةٍ طويلة الأمد، قامت بها الشعوب الأوروبيّة لا سيّما الأمّة الجرمانيّة.

يهتم إمام عبد الفتاح بـ «العالم الشرقي» لا لأنّه الخطوة الأولى التي خطتها الرّوح، ولا لأنّه كما يقول هيغل: «في آسيا أشرق ضوءُ الرّوح ومن ثمّ بدأ التاريخ الكلي»، ولكن لأنّه عالمنا نحن، فهو أكثر مراحل التاريخ أهميّةً لنا، إنّه تحليلٌ للشخصيّة الشرقيّة، التي لا يزال الكثير من سماتها السيّئة للأسف الشديد -في ما يرى إمام- قائمةً حتى يومنا الرّاهن، ويؤكّد إمام أنّ تعرّفنا على تحليلٍ عميقٍ لهذه الشخصيّة يقوم به عقلٌ مثل عقل هيغل، له فائدةٌ مزدوجةٌ. فنحن، من ناحية، نجد أنفسنا في هذا التحليل العميق «للروح الشرقي» أمام مرآةٍ مكبّرةٍ تنعكس عليها شخصيّتنا بكلّ ما فيها من جمالٍ وقبحٍ، ومن ناحيةٍ أخرى فإنّ وصولنا إلى هذا الوعي الذاتي ( إن وصلنا إليه أصلاً !) مسألةٌ بالغةُ الأهميّة؛ لأنّه يمثّل الموقف المعرفيّ بأدقِّ جوانبه، وهو الموقف الذي يساعدنا على أن نستيقظ فنقيم ونصحّح ثم نبني ونلحق بركب الحضارة![9].

يقسّم هيغل العالم الشرقي تقسيماً ثلاثيًّا، الصين ثم الهند وأخيراً فارس، ويلحق مصر بالإمبراطوريّة الفارسيّة لتكون الجسر الذي تعبر عليه الرّوح إلى العالم اليوناني. الصين عند هيغل هي النموذج الأوّل الذي تتحرّك فيه الروح في رحلتها الطويلة عبر التاريخ لكي تتحرّر من الطبيعة، وكان وجودها خارجيًّا فالمبدأ الذي يحكمها هو المبدأ الأبوي البطرياركي. من هنا ينتقل إمام في مقدّمته من الشرح والتوضيح ومتابعة هيغل في فلسفته للتاريخ وتطوّر الرّوح إلى تحليلٍ ومناقشةٍ ونقد أفكار الفيلسوف في ما يتعلّق بنظرته للعالم الشرقي وحضاراته المختلفة، ومصر على وجه الخصوص. وهي مسألةٌ سوف ينشغل بها إمام ويكتب فيها مرةً ثانيةً لبيان نظرة هيغل لمصر.

يرى إمام أنّه على الرّغم من عمق التحليل الهيغلي للعالم الشرقي، إلاّ أنّه قد وقع في بعض الأخطاء؛ وقع في خطأ ظاهرٍ عندما جعل مراحل التاريخ المختلفة تسير وفق فكرةٍ عقلانيّةٍ قبليّةٍ. هذا النقد سيتكرّر عند الكثير من الأساتذة العرب، الذين يرون في فلسفة التاريخ الهيغليّة تطبيقًا لفكرةٍ أوليّةٍ مسبقةٍ على أحداث التاريخ، ويطبّقها ببراعةٍ على معطيات التاريخ . هذا يعني أنّ ما يقوله ليس مستخلصاً من أحداث التاريخ، ولكنّه على العكس يُعبّر عن «فلسفة هيغل العقليّة» كما عرضها في المنطق، مطبّقةً على مجال التاريخ. لا يهتمّ هيغل كثيراً -كما يؤكد إمام- بالمسار التاريخي للأحداث أو الدولة؛ فالصين لأنّها تمثل الوحدة الجوهريّة أو أوّل مقولةٍ في المنطق (الوجود الخالص) كانت هي البداية التي يبدأ منها التاريخ، ولمّا كانت الهند تمثّل المقولة الثانية (العدم) فإنّها تُعبّر عن الخطوة التالية، في حين أنّه جعل من مصر آخر ما ظهر لتكون الجسر الذي تعبر عليه الرّوح من الشرق إلى الغرب. وهذه التواريخ كلّها في ما يوضّح مشكوكٌ في صحّتها، فقد كشف المؤرخون عن حضاراتٍ في الشرق الأدنى ربّما كانت أقدم بكثيرٍ من حضارة الصين أو الشرق الأقصى عموماً. إنّ القارئَ الشرقيَّ، بصفةٍ خاصّةٍ، عندما يقرأ تحليل هيغل لعالمنا الشرقي تصدمه النظرة الضيّقة أحياناً، والعنصريّة الفظيعة أحياناً أخرى:

تصل العنصريّة الأوروبيّة البغيضة -كما يصف إمام تحليلات هيغل- إلى قمّتها في قول الفيلسوف: «إنّ القدر المحتوم للإمبراطوريات الآسيويّة أن تخضع للأوروبيّة، وسوف تضطرّ الصين في يومٍ من الأيام أن تستسلم لهذا المصير». لقد كذّب التاريخ المعاصر نبؤات هذا المفكر العملاق فاستقلّت الصين، وأصبحت تهدّد الدول الأوروبيّة، وذهبت الولايات المتحدة الأميركيّة بكلّ جبروتها تطرق بابها بعد أن أعياها الصّراع المضني في كوريا وفينتام وغيرها، كما أنّها المنافِسة الخطرة للصناعات اليابانيّة والتي اعترفت بها الولايات المتحدة نفسها، وهذا دليلٌ قويٌّ وحاسمٌ على قدرة الإمبراطوريات الآسيويّة على الاستقلال عن الأوروبيين، بل والتقدّم إلى حدِّ المنافسة!

إنّ هيغل -كما يُلفت إمام- رغم ثقافته الموسوعيّة، لم يكن يعلم عن الإسلام إلاّ ما يقوله المبشّرون، وربّما كان هذا هو السبب في أحكامه الضحلة عنه: «فالشاهنامة التي كتبها الفردوسي في القرن الحادي عشر ليس لها قيمةٌ كمصدرٍ تاريخيٍّ ما دامت محتوياتُها شعريّةً ومؤلّفُها مسلماً»!! أيُّ تعصّبٍ أعمى أو جهلٍ غريبٍ يمكن أن تكشف عنه عبارةٌ كهذه ؟! [10] . يذهب هيغل في تفكيره إلى أن العالم الشرقي لم يعرف أنّ الإنسان بما هو إنسانٌ حرٌ، وإنّما عرف فحسب أن الحريّة محصورةٌ في شخصٍ واحدٍ هو الحاكم، أمّا الحضارة الغربيّة لا سيّما الأمم الجرمانيّة منها فهي التي عرفت بفضل المسيحيّة أنّ الأنسان بما هو كذلك حرٌّ. أيمكن أن يُقبل هذا الكلام على علاّته؟! ألا يمكن أن نعترض عليه أبسط اعتراضٍ بأنّ المسيحيّة ذاتها هي عقيدةٌ نشأت ونمت واكتسبت سماتها المميّزة في تربةٍ شرقيّةٍ وارتبطت تاريخيًّا بعقائد الشرق القديمة ارتباطاً وثيقاً.

هذا ما جاء في مقدّمة ترجمة إمام عبد الفتاح لكتاب هيغل، الذي انتقد فيه بشكلٍ مجملٍ نظرته للشرق، خاصة الهند والصين. أمّا في ما يتعلّق بنظرته لمصر فقد خصّص لها مقالاً قصيراً بعنوان «مصر في عيون مفكري الغرب: هيغل». يختفي نقد هيغل ويظهر إعجابه بمصر، ما يُبيّن ازدواج نظرتنا للفيلسوف حيث ننقده في سياقٍ وُنبرز أفكاره ونُعليها في سياقٍ آخر. ننقده بسبب تأكيده غياب الحريّة في مجتمعاتنا ونشيد به حين يعرض لحضارتنا القديمة.

يعلي هيغل من شأن الحضارة المصريّة القديمة، فيجعلها أوّل حضارةٍ في التاريخ، وأول ظهورٍ للروح ومحاولته الخروج من إطار المادة، كما أنّها أول حضارةٍ آمنت بخلود النفس البشريّة ومن هنا اهتمّت بتحنيط الجسد لكي تعود إليه الروح، وهي التي علّمتنا أنّ الحضارة فكرٌ وروحٌ، الحضارة تجريد، ومهما ابتعد الأحفاد عن هذه المفاهيم السامية سوف يظلّ للأجداد العظمة والرفعة فهم بناة الأهرام وأبي الهول وهي كّلها تجسّد أفكاراً بالغة الأهميّة لا تزال البشريّة حائرةً في فهمها إلى يومنا الراهن[11].

العنصريّة الهيغليّة والمركزيّة الأوربيّة

 يذكر لنا أحمد الربعي أن إمام عبد الفتاح في مقدمة ترجمته «محاضرات في فلسفة التاريخ: العالم الشرقي»؛ وضع ما كتبه هيغل حول التاريخ «وشعوب الشرق» في إطاره التاريخي المتكامل، وأبان مدى تأثيره على جذور وأصول الاستشراق الغربي، أو جذور نظريّة «المركزيّة الأوربيّة»، وأوضح الأساس الفلسفي والنظري للرؤية العنصريّة لتاريخ البشر.

تتجلّى لنا «الرّوح» الهيغليّة العنصريّة بأوضح معانيها حين «يكتشف» شيئًا من الذكاء لدى المصريين، فيُعجب من ذلك أيّما إعجابٍ. يقول هيغل: «وإنّه يدهشنا حقًّا أن نجد بينهم وعلى مقربةٍ من الغباء الأفريقي ذلك الذكاء النظري، وذلك التنظيم العقلي...». المصريون كما يراهم هيغل على أيِّ حالٍ «يغتسلون ويستحمّون كثيراً، ويقومون بتناول شرابٍ مطهّرٍ للبطن مرةً كلّ شهر، ويُشير ذلك كلّه إلى الاستغراق في حالة السّلم المستقر». الرّوح المصريّة غارقةٌ في الطبيعة، وفي الوقت ذاته تحاول التحرّر منها. والوحدة لدى المصريين هي التقاء الجانب الحسّي مع الفهم المجرّد جنبًا إلى جنب. والمصريّون «كانوا صبيانًا أقوياء ممتلئين بطاقةٍ خلاّقةٍ، لا يحتاجون إلى شيءٍ سوى الفهم الواضح لأنفسهم في صورةٍ مثاليّةٍ لكي يصبحوا شبابًا»[12].

وإذا كان إمام عبد الفتاح يتعرّض في خاتمته النقديّة بالنقد الحذر لفلسفة هيغل حول التاريخ، حين يوضّح طبيعة الصورة الهيغليّة المقلوبة في هذا المجال، فإنّ ما يقوله ليس مستخلصًا من أحداث التاريخ، ولكنّه على العكس يُعبّر عن فلسفة هيغل العقليّة كما عرضها في المنطق مطبقة على التاريخ. فالصّين هي المقولة الأولى في المنطق (الوجود الخالص) باعتبارها تمثل الوحدة الجوهريّة، في حين أنّ الهند هي المقولة الثانية (العدم) لأنّها الخطوة التالية. أمّا مصر فهي الجسر الذي مرّت عليه الرّوح في رحلتها من الشرق إلى الغرب.

يسقط هيغل عنصر الزمان في تحليله للتاريخ، فهو ينتقل من مقولةٍ مجرّدةٍ إلى مقولةٍ مجرّدةٍ أخرى دون أن يرى عامل الزمان وأسبقيّته في أحداث الواقع. كما ينطلق هيغل من عنصريّةٍ أوروبيّةٍ ترى الشرق رجلاً مريضًا ليس أمامه سوى الاستسلام لمصيره، أي الاستسلام لأوروبا. ينتقد إمام «بعض» مظاهر العصبيّة الهيغليّة، وأنّ هيغل «لم يكن يعلم عن الإسلام، إلا ما يقوله المبشّرون» وينتقد مفاهيم هيغل حول الأخلاق الهنديّة وغيرها، والمسألة ليست مسألة «نقص معلومات هيغل عن الشرق وعن الإسلام» لكنّها مسألةٌ مرتبطةٌ بفلسفةٍ متكاملةٍ ترى في الرّوح أساس وجودها.

يعتقد الربعي أنّ من الضروري وضع الفلسفة الهيغليّة حول تاريخ الشرق في موقعها التاريخي المناسب، فهذه الفلسفة المغرقة في عنصريّتها لم تكن مجرّد «آراءٍ فلسفيّةٍ لفيلسوفٍ عظيمٍ»، بل هي الوريثة الشرعيّة لكلّ الفكر العنصري ونظريّة «المركزيّة الأوربيّة»، وأخطر من ذلك فإنّ فلسفة هيغل للتاريخ، وخاصةً تاريخ الشرق، كانت أحد الأسس الهامّة التي اعتمد عليها الفكر الاستعماري والإمبريالي اللاّحق.

يشير البعض إلى التوظيف الاستعماري لفكر هيغل والتشابه الكبير بينه وبين بلفور، «إن هيغل يُخلق من جديدٍ في ثوب جيمس بلفور وهو يُلقي خطابًا في مجلس العموم البريطاني في الثالث عشر من حزيران 1910، يتحدث فيه لا بلغة الفيلسوف بل بلغة رجل السياسة، عن وضع الاحتلال الإنجليزي لمصر، يقول بلفور: «إنّ الأمم الغربيّة فور انبثاقها في التاريخ تُظهر تباشير القدرة على حكم الذات؛ لأنّها تمتلك مزايا خاصةً بها. ويمكنك أن تنظر إلى تاريخ الشرقيين بأكمله في ما يسمى بشكلٍ عامٍّ المشرق دون أن تجد أثراً لحكم الذات على الإطلاق (إنك) لا ترى أمةً واحدةً من هذه الأمم تؤسّس بدافع حركتها الذاتيّة ما نسميه نحن من وجهة نظرٍ غربيّةٍ حكم الذات. هذه هي الحقيقة». ويعلق الربعي: أيّ تشابهٍ في الكلمات وتطابقٍ في المعاني بين هيغل وبلفور! أليس ما يقوله بلفور هو قراءةٌ هيغلية لمصر مستخدمًا الألفاظ والتعابير نفسها؟

وهناك من يدين موقف هيغل في رفض ونبذ وعدم الاعتراف بالإسلام، ويقدّم قائمةً من الانتقادات، بل الاتهامات التي يذكرها عددٌ من الأكاديميين والباحثين العرب لموقف هيغل من الإسلام. إنّ ما قدّمه الفيلسوف الألماني في ما يخصّ الشرق على العموم والإسلام على الخصوص، يجيء في سياق محاولته لاصطفاء الشعب الجرماني على أنّه أفضلُ الشعوب، مثلما كان أرسطو قبله بقرونٍ ينظر لأفضليّة اليونانيين على من سواهم. غير أنّ الرّفض الذي يصل إلى حدِّ نبذ الآخر وعدم الاعتراف به مطلقًا لا يصحّ عند واحدٍ من كبار الفلاسفة في العصر الحديث مثل هيغل.

الهويّات وإقصاء الأمم

يسعى بودريس بلعيد في دراسته -وهي دراسةٌ علميّةٌ دقيقةٌ مبنيّةٌ على معرفةٍ عميقةٍ بالأنثروبولوجيا الأمازيغيّة، «هيغل ... وهويّة إفريقيا الشماليّة»- أن يحقق هدفين في غاية الأهميّة، كلٌّ منهما مرتبطٌ بالآخر. يتمثّل الأول في الدفاع عن هويّة [الأمازيغ] [أهل] إفريقيا الشماليّة، لغتهم، وجودهم التاريخي، مقاومتهم، استمراريّتهم. أما الثاني فهو عبارةٌ عن نقد مقولة هيغل في كتاب «العقل في التاريخ» حول الأمازيغ، ذلك أن هيغل يعتبر من أشهر الفلاسفة، هو أيضًا يمثّل علامةً بارزةً في فلسفة التاريخ. ومن هنا جاءت أهميّة الاطلاع على ما قدّمه، وضرورة مناقشة أطروحاته، ومسؤوليّة تفنيدها.

يرى بلعيد أنه من المفيد أن نتأمّل فهم هيغل الفلسفي، لسكّان شمال أفريقيا، والتصنيف الذي اعتمده في هذا الفهم، وهو أنّ سكان شمال أفريقيا لا هويّة لهم، وأنّهم كانوا دائمًا مواطنين من درجةٍ ثانيةٍ، أو يشتغلون في كواليس مسرح التاريخ، يقومون بأدوارٍ ثانويّةٍ. بل نكاد نستشفّ من كتاباته انعدام السكان «الأصليين» وغيابهم وتلاشيهم أمام توالي الوافدين باستثناء ذكرهم كقراصنةٍ، وأنّ هذا الجزء من أفريقيا هو الجزء غير المستقل فيها، إنّه الجزء الذي كان دائمًا في علاقةٍ مع الخارج. فقد كان أولاً مستعمرةً للفينيقيين ثم صار بعد ذلك مستعمرةً للرومانيين والإمبراطوريّة البيزنطيّة والعرب والأتراك. تلك هي الصورة السلبيّة التي يقدّمها هيغل والتي تستحق النقد والتحليل.

يواصل بودريس بلعيد تحليلاته في الدفاع عن الأمازيغيّة ضدّ الدعاوى الهيغليّة والوقائع التاريخيّة. لا بدّ أنّ هيغل قد اطّلع على «فتوحات» المرابطين والموحّدين التي نظّمت وموّلت -في ما يرى- نشر الإسلام في شبه الجزيرة الأيبيريّة من مرّاكش (بلد الله) ثم يحكم على تلك الحركات بأنّها تأكيدٌ على الارتباط مع «الآخر» القادم من الشرق، وفي هذا السياق تمّ استعمال هؤلاء «القراصنة الأمازيغ» من أجل النّهب وإغراق السفن.

ويتساءل بلعيد، رافضًا مستبعدًا هذه الأحكام، كيف تصدق أحكام هيغل على سكان الشمال الأفريقي وهم الشعوب والبطون العظيمة بتعبير ابن خلدون؟ كيف يمكن اعتماد هذه الخلاصات ونحن أمام وجودٍ ثقافيٍّ وحضاريٍّ صاحب كلّ الحضارات التي شهدها حوض البحر الأبيض المتوسط؟ ويَعرضُ لنا أنثروبولوجيًّا وتاريخيًّا الحضور الأمازيغي في الشمال الأفريقي، مخالفًا التأمّلات الهيغليّة، ومؤكّدًا على ضرورة استخدام مناهجَ مغايرةٍ لفلسفة التّاريخ عند هيغل، وأنّ الواقعيّة المعقوليّة تفرض علينا النظر إلى الموضوع من زاوية نظرٍ أخرى. تحليلاتُ هيغل إذاً، كما يمكن أن نستنتج من قراءة بودريس بلعيد، لا توضّح لنا بصورةٍ دقيقةٍ خصوصيّة الشعوب والمجتمعات والأعراق والإثنيات، فلم تكن الصورة التي قدّمها هيغل عن هويّة الأمازيغ ما يتّفق مع تاريخ وأنثروبولوجيا سكّان الشمال الأفريقي، بل وتتعارض وحقّهم في الاعتراف بهويّتهم وتاريخهم وواقعهم الحي. ويندرج ما قدّمه بودريس بلعيد في نفس السياق النقدي الذي يأخذ على هيغل قلّة إلمامه بالتاريخ الإسلامي وتوجّهاته الاستشراقيّة، التي تعرض للشعوب الشرقيّة من وجهة نظرٍ أوروبيّة لا تراعي دقائق تاريخها وأعراقها ومعتقداتها.

يتناول عفيف فرّاج في دراسته «هيغل والإسلام» غربة الرّوح الحرّة بين الشرق وثورته الإسلاميّة، موضحًا أنّ الفكرة الهيغليّة المجرّدة تعاني مع التاريخ الواقعي حالة الانقسام الذي عانته ميتافيزيقا أرسطو الشموليّة الإنسانيّة مع سياسته العنصريّة والتراتبيّة التي عيّنت جواهرَ ثابتةً متغايرةً لكلٍّ من السيّد والعبد، اليوناني والبربري. الجدلُ الصوفيُّ الهيغليُّ لا ينظّم الشعوب والثقافات في خطِّ تطوّر العقل الواحد انطلاقًا من تتبّعٍ موضوعيٍّ لتقدّم الفكرة في الزمن، وإنّما عبر نظرةٍ راجعةٍ للتاريخ تحدّد الغرب عمومًا، والعالم الجرماني المتوّج بمسيحيّة لوثر خصوصًا، باعتباره غاية التطوّر ومنتهى طريق التقدّم الذي يشكّل الشرق «بدايته الحتميّة» لينتهي في الغرب «غاية تطوّر التاريخ المطلق». ويشير فراج إلى أنّ مصطلحي شرق–غرب يتعدّيان في فلسفة هيغل مدلولهما الجغرافي، ويشحنان بجواهرَ عنصريّةٍ – ثقافيّةٍ ثابتةٍ متناقضةٍ يحدّد تمظهرها الوجودي مصائر متباينةٍ ويجعل من ثنائيّة شرق–غرب رديفًا عنصريًّا للثنائيات القديمة: يوناني–بربري، روماني–بربري؛ ثنائياتٌ تتنوّع بأسماءَ مختلفةٍ على ثنائيّةٍ أساسيّةٍ هي ثنائيّة السيّد بالقوّة والفعل، والعبد التابع في الجوهر والواقع. يتحوّل الشرق في منظور هيغل المركزوي الأوروبي إلى موطن اليأس الحضاري. وإذا استثنينا اللّحظة العبريّة من عمر آسيا فإنّ القارّة كلّها تخرج من التاريخ ومعها أفريقيا وشعوب أميركا وأستراليا الأصليّة[13].

يتساءل عفيف فراج: أين يقع الإسلام في مسار الحضارة الطويل؟ وما هي عناصر التماثل والتمايز بينه وبين المبدأ الشرقي السالب للذاتيّة، المعيق لتحرّر الذّات معرفيًّا وتاريخيًّا؟ ويرى أنّ أوّل ما يلفتنا في مقاربة هيغل للإسلام هو الحيّز الضيّق الذي يخصّصه له الفيلسوف (خمس صفحات من مؤلف يتكوّن من 457 صفحة). والأمر الثاني اللافت، وهو الأهم، أنّ هيغل، على الرغم من اعتباره الإسلام «ثورة الشرق» إلاّ أنّه ينتزع الإسلام من إطاره الشرقي، ولا يعرض له كمحصّلةٍ لتطّور الأديان السامية والثقافات الشرقيّة، وإنّما يضعه بين مزدوجين في سياق عرضه لمسار الرّوح المسيحي في العالم الجرماني! وهكذا يبدو الإسلام مفصولاً عن الشرق ومحصورًا في الشريحة القروسطيّة كجسمٍ غريبٍ، وكتيّارٍ ثانويٍّ على هامش التاريخ العالمي.

يقصر الفيلسوف ثورة الشرق الإسلامية على البعد الديني، أي على مستوى الفكرة لا على مستوى الواقع التاريخي. وعلى الرغم من اعتباره غزو الإسكندر للشرق كان يستهدف الانتقام من كلّ ما تسبّبت به آسيا من آلام لليونان وحسم ذلك الصراع المزمن بين الشرق والغرب، فإنّه لا يشير بالمقابل إلى أنّ محمدًا كان جواب الشرق على تحدّي الإسكندر، وأنّ الإسلام كان الاستجابة الواعية لتحدّي الثقافة الإغريقيّة الرومانيّة.

إنّ الإسلام -في قول هيغل- قد حرّر الفكر من هذه الخصوصيّة اليهوديّة التي أعاقت الرّوح عن إدراك حقيقتها الكونيّة المجرّدة. والإسلام في روحه الكوني، وفي طهارته اللامحدودة، وفي وساطته المفهوميّة عيّن للشخصيّة الإنسانيّة هدفًا واحدًا لا يقبل الاستبدال، وهو تحقيق كونيّته وبساطة المبدأ المحمدي. إنّ هيغل الذي يعقد المقارنات بين الإله الإسلامي الكوني والإله اليهودي الخاص، وبين الإسلام والديانات الصينيّة والهنديّة، يتحرّج من عقد أيِّ مقارنةٍ بين المسيحيّة والإسلام، متجاهلاً النزعة الكونيّة الجامعة بين الدينين؛ وذلك للاحتفاظ ربّما بالجوهر الغربي في حالة النّقاء[14].

تكتسب ملاحظات هيغل صدقًا ونفاذًا وتألّقًا حين يتحدّث عن الرّوح المحمّدي النشط الذي تطهَّر من جميع التحديدات القوميّة والتمايزات الفئويّة الاجتماعيّة. فالإسلام قد تسامى على خصوصيّة العرق والمولد والملكيّة الفرديّة. فالرّوح المحمّدي لا يُدخل هذه الخصوصيّات في اعتباره: الإنسان كمؤمنٍ، هو المعتبر الوحيد فقط. ويعرّف هيغل الإنسان المؤمن بأنّه الذي يُمارس الصّيام والزكاة والجهاد[15].

لقد كان هيغل واحداً من أهم من أسّس لما سيعرف بـ «الاستشراق الحديث»، ولم يكن هذا الأخير ممكن النّشوء فقط لمجرّد وجود رجالٍ كبارٍ في حقل الفكر والثّقافة، من حيث الأساس. كان الأمرُ مرتبطاً بالمرحلة التاريخيّة التي عاش فيها وفي آفاقها هيغل (من 1770 الى 1831 ميلاديّة)، أي بمرحلةٍ كانت منعطفاً في تاريخ العالم، تحقّق فيها في الغرب تحوّلٌ كبيرٌ باتّجاه التكوين البورجوازي والتأسيس للنظام الرأسمالي. وفي سياق ذلك، كان هذا الغرب يحقّق سلسلةً مترابطةً من «الثورات»، الثورة الصناعيّة والأخرى العلميّة والثالثة السياسيّة والرابعة الثقافيّة.. .إلخ، ويلاحظ أنّ ذلك راح يتحقّق عبر اكتشاف «العالم الآخر» وهو بكيفيّةٍ خاصةٍ عالم الشرق، الذي سيوسّع لاحقاً تحت عنوان «الجنوب».

كان هيغل، الفيلسوف الكبير والغارق حتى أذنيه في لوثة «المركزيّة الأوروبيّة»، قد وضع يده -كما رأى آخرون- على ما اعتبره العلّة الحاسمة والكامنة وراء كون الشرقيين على النحو الذي قُدِّموا فيه. فهم -وفق ذلك- لا يملكون مبدأً آخر غير (الوحي). وهذا الأخير أمرٌ ثابتٌ وقاطعٌ لا يتطلّب أكثر من انصياع النّاس إليه والعمل بمقتضى ما يتطلّبه[16].

الشرق كما يراه هيغل في “محاضرات في فلسفة التاريخ”، نقيضٌ كاملٌ للغرب، وبالتالي فإنّه يتّسم بـ: “اللاعقلانيّة والطفوليّة، والاستبداد، والأنثويّة، والتخلّق، والقوّة، والبربريّة”. وغنيٌّ عن القول أنّ تجربتي الصين والهند اللّتين اعتمدهما هيغل في جوهر نظرته التمييزيّة بين الشرق والغرب، وقد برهن عليهما من خلال التقدّم الهائل الذي لم يقتصر على ما حققتاه من تطوّرٍ اقتصاديٍّ، بل على بروز فعاليّات المجتمع المدني فيهما ونموّهما المطّرد وذلك على الرغم من اختلاف نظامي الحكم في البلدين وما يشوب الحضارتين من قصورٍ[17].

يؤّكد جميل قاسم على أنّ الفلسفة الهيغليّة مصدر النزعات الشموليّة والدولويّة والقومويّة بوجهيها اليساري واليميني ومنها النازيّة. إنّ فلسفة الحقّ الهيغليّة عنده شموليّةٌ ودولويّةٌ، وتطابقيّةٌ. على خلاف المفهوم الدستوري الحديث للفصل بين السلطات عند مونتسكيو، ومفهوم «العقد الاجتماعي» لروسو الذي يقوم على المشاركة، بحريّةٍ، ومن دون إكراهٍ ولا إذعانٍ في «الإرادة العامّة» أو السياسة، بمعنًى آخر، نجد أنّ مفهوم هيغل للدولة مستمدٌّ من الفكرة المثاليّة التي يتطابق كلُّ ما هو عقليٌّ، فيها، بما هو واقعيٌّ، وكلُّ ما هو واقعيٌّ بما هو عقليٌّ، في نظرةٍ شموليّةٍ واحدةٍ، لا تميّز «الكلّ» المنطقي، من الكليّة الشموليّة. ويعد هيغل الدولة التجسّد الملموس للفكرة الظواهريّة، التي يتطابق العقل فيها بالتاريخ والدولة، في فلسفةٍ جرمانيّةٍ-آريّةٍ عرقيّةٍ تقوم على الجمع بين العناية الإلهيّة ودولة العناية[18].

وقد أوضح سيد آدم عنصريّة هيغل؛ حيث أورد لنا نصًّا من محاضراتٍ في فلسفة التاريخ: «ليس هناك –في طبيعة السود– ما يشبه الإنسان، ويصل احتقار الإنسان عندهم إلى مستوياتٍ غيرِ معقولةٍ؛ فالاستبداد لا يعدّ ظُلماً، وأكل لحوم البشر أمرٌ مباحٌ وواسع الانتشار. ولا تعرف الصين معنى الكرامة. وفي غياب الكرامة يشيع التذلّل الذي ما يلبث أن يتحوّل –في سهولةٍ ويسرٍ– إلى خُبثٍ، ويرتبط الانحطاط الأخلاقي للصينيين بهذا الخُبث، وإذا كُشف ذلك الغشّ، فإنّه لا يُعدّ أمراً يؤاخَذ عليه. أمّا أبرز صفات الهندي فهي الخداع والمكر، وهو مذعنٌ وذليلٌ أمام السيد والمنتصر، ومتوحّشٌ وقاسٍ، تماماً، مع المقهورين والمذعنين»[19]. وأكّد أنّ النصّ يُبيّن عنصريّةً واضحةً تكشف عن النظرة الـ «مركزيّة» الأوروبية لدى هيغل. المعروف في الدراسات الأخلاقيّة، أنّ «الفرد» هو الذي يوصف بأنّه «صاحب» أخلاقٍ، أو بأنّه «منعدم» الأخلاق لا الشعب / المجموع، ما يعني أنّنا لو جعلنا الحسّ الأخلاقيّ «امتيازاً» لـ أعراق، أو لـ شعوب، بعينها، فإنّ هذا الإجراء سوف يقضي على «القيمة» الأخلاقيّة من حيث إنّه سيفرغها من معناها...

لا شك بأن ما قدمه هيغل من أعمالٍ في هذا الصدد إنما يوضح كيف أن التغطية الفلسفية للحداثة قد أدّت إلى نشوء ثقافةٍ تبريريّةٍ للإمبرياليات الأوروبية بخاصةٍ والغربية عموماً في سياق تعاملها مع المجتمعات والحضارات الأخرى في آسيا وأفريقيا.

----------------------------------

أحمد عبد الحليم عطية : باحث وأستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة ـ جمهوريّة مصر العربيّة.

[2]- عبد الواحد التهامي العلمي: هيغل والآخر، الكونيّة المعطوبة، المنهل، 2015، https://goo.gl/X3sUGG، ص152.

[3]- المرجع السابق، ص154.

[4]-المرجع نفسه، ص 155.

[5]- المرجع نفسه، ص 157.

[6]- حول إمام عبد الفتاح إمام، يراجع: تجربتي مع هيغل، مجلة أوراق فلسفية، العدد السادس، القاهرة، 2002. وانظر دراستنا: حق الفرد وديموقراطية الدولة، الهاجس السياسي في أعمال إمام، ص 37 – 57، في دفاتر فلسفية، العدد الرابع، إمام عبد الفتاح إمام والفلسفة الهيغلية، القاهرة، 2014.

[7]- إمام عبد الفتاح إمام: مقدمة ترجمة كتاب هيغل، فلسفة التاريخ، المجلد الثاني (العالم الشرقي)، مكتبة مدبولي، القاهرة، ص7.

[8]- المرجع السابق، ص10.

[9] - نفس المرجع، ص 14.

[10]- انظر: إمام عبد الفتاح: المرجع السابق، وهذا ما لاحظه عدد كبير من الباحثين حول قلة معلومات هيغل عن العالم الإسلامي، واعتماده على مصادر استشراقية. راجع في ذلك كل من: حسين هنداوي: دراسات هيغل والإسلام لوثـرية فـي ثوب فلسَفي، https://goo.gl/vTZMWo، 2013. ومحمد عثمان الخشت: صورة الإسلام عند هيغل، نقد الفصام الفلسفي، مجلة الاستغراب، ع 9، بيروت، 2018، ص 33 – 49. ورشيدة الرياحي: هيغل ثورة الشرق، دار الروافد وابن النديم، وهران، بيروت، 2012.

[11]- إنّ هيغل على الرغم من أنه جعل من مصر جزءاً من الإمبراطورية الفارسية، فإنه كما يستدرك إمام جعلها درةً ثمينةً في هذا التاج، ويورد قول هيغل: «إننا مع مصر نصل إلى المركب النهائي في العالم الشرقي، فهي الجسر الذي عبرت عليه الروح الإنسانية من الشرق إلى الغرب، وهي تسترعي الانتباه بصفة خاصة لا لأنها أرض الآثار فحسب بل لأنها: «تمثل النتيجة النهائية لعمل عظيم يفوق في ضخامته وجبروته كل ما خلفه لنا القدماء. كانت المهمة التالية التي قامت بها مصر هي توحيد هذه العناصر المتناقضة. ويركز هيغل في تحليله، كما كتب إمام، على صورة أبي الهول، ويرى فيها رمزاً للروح المصري: أبو الهول لغز غامض نصفه حيوان ونصفه إنسان؛ الرأس البشري يبرز من خلال جسم الحيوان، ويعرض الروح على نحو ما يبدأ في الانبثاق من جانب الطبيعة منتزعا نسفه. ويركز هيغل على الارتباط بين ما هو روحي وما هو مادي أو طبيعي عند المصريين القدماء: فالشمس والنيل هما الألف والياء في تصور المصريين لماهية الطبيعة. ولقد عبرت أسطورة أوزوريس عن ذلك كله أدق تعبير، فقد قتله شقيقه الذي يمثل رياح الصحراء المحرقة، أما إيزيس الطيبة التي حرمت من الشمس والنيل فقد جمعت عظام أوزريس المتناثرة وراحت تنوح عليه، ومعها مصر كلها، وهنا نجد الألم وقد أصبح شيئاً إلهياً، ثم يعود أوزريس ليحكم، ولكنه لم يكن إلهاً أو رمزاً فحسب، بل هو الذي أدخل الزراعة واختراع المحراث، وشرع القوانين. ووضع في يد الناس وسائل العمل وضمان إنتاجه.

ولو سرنا قليلاً متابعين إمام لوجدنا أن الفكرة تعمل على تحرير نفسها من الصورة الحيوانية المباشرة، بحيث ينبثق المعني الخفي والروحي بوصفه الوجه البشري من الصورة الحيوانية ولهذا تعددت الأشكال التي يتخذها أبو الهول ما يؤكد أن معنى «الروحي» هو المشكلة التي طرحها المصريون على أنفسهم في صورة لغز هو «أبو الهول» بصفة عامة لا يبوح بشيء مما هو مجهول، لكنه يمثل التحدي للكشف عنه، وهكذا نجد أن مصر قد حصرت نفسها في ارتباط وثيق بالطبيعة وإن حاولت أن تكسر هذا الارتباط ليبرز الروح الكامن تحت السطح..!».

[12]- أحمد الربعي، ص 214.

[13]- عفيف فراج: مجلة الفكر العربي المعاصر، مركز الإنماء القومي، لبنان، ع33، 1985، ص 40، 41.

[14]- عفيف فراج: المصدر السابق، ص 43.

[15]- المصدر نفسه، ص44.

[16]- الطيب تيزيني: هيغل والشرق ذو البعد الواحد، جريدة الاتحاد، 2009، https://goo.gl/fKMG3e.

[17]- خلدون شمعة: الاستبداد الشرقي، مجلة العرب، ديسمبر 13، 2014https://goo.gl/ACYfyN.

[18]- جميل قاسم: هيغل وهتلر وأصول الاستبداد، جريدة الحياة، 2005، https://goo.gl/zMqXRR.

[19]- سيد آدم: هيغل عنصريا، منتدى العقلانيين العرب، 2008، https://goo.gl/rf6PuM