البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

نقد هيغل لشكوكية هيوم، التأسيس لنظرية الحتمية التاريخية

الباحث :  عبد الله نصري و أمير تركش دوز
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  14
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2019 م / 1440 هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 16 / 2019
عدد زيارات البحث :  1072
تحميل  ( 415.553 KB )
 تطرّق الباحثان في هذه المقالة إلى بيان الأسس التي يتقوّم عليها الشكّ الفكري ومعانيه وأقسامه عند ديفيد هيوم، وقد سلّطا الضوء على مواقفَ هيغل حيالها حيث اعتبر شكوكيّة هيوم ركناً من أركان المثاليّة الذاتيّة وأحد أبسط صورها. ومن جملة المواضيع المطروحة للبحث في هذه المقالة، بيان واحدة من خصائص نقد هيغل على شكوكيّة هيوم والتي تتمحور حول تفنيد النزعة التأسيسيّة بما هي السبيل الوحيد لمواجهة أزمة الشكوكيّة.

 وأمّا المباحث الأخرى فقد تمحورت مواضيعها حول النهج الذي اقترحه هيغل كبديلٍ من شكوكية هيوم، فالأوّل ضمن تأكيده على كون الإدراك يمرّ في عدّة مراحلَ ويسير بشكلٍ تكامليٍّ، فقد تبنّى فكرة أنّ النزعة الظاهراتيّة لا تنبثق إلا من حالة يأسٍ. لذا تمّ تسليط الضوء بشكلٍ أساسيٍّ على بيان طبيعة الشكوكية القديمة، حيث إنّ بعض شرّاح آثار هيوم اعتبروها بديلةً عن شكوكيّته.

المحرر

-------------------------

المذهب الشكوكي ـ الشكوكيّة ـ (Scepticism) هو أحد الميزات الفارقة في الفكر الحديث، وقد صقل وبلغ درجة النضوج الفكري في رحاب آراء ونظريات الفيلسوف ديفيد هيوم، فمنذ تلك الآونة وحتّى عصرنا الراهن طرحت مواضيعه للبحث والتحليل من مختلف جوانبه إلا أنّ أحدَ هذه الجوانب لم يحظ بأهميّةٍ تليق بشأنه العلمي، ألا وهو الجانب الهيغلي، أي موقف الفيلسوف فريدريك هيغل تجاهه، فقد أكّد هذا المفكّر الغربي على أنّ الفلسفة تتبلور في تأريخها، ومن سمات مواقفه الفكرية أنّه لم ينبذ أيّ رأيٍ أو وجهةَ نظرٍ وبما في ذلك النزعة الشكوكية، وإنّما اتّبع بدل ذلك نهجاً قوامه تعيين مكانة كلّ رأيٍ ووجهة نظرٍ ضمن مراحلَ تكامل الروح.

وأمّا أهميّة النقد الذي وجّهه هيغل لسلفه هيوم، فهي تتمثّل في كونه مطروحاً ضمن نطاقٍ متباينٍ مع نطاق النزعة العقلية، ومن هذا المنطلق أخذ بعين الاعتبار القيود التي تحدّد إطار الشكوكية وإمكانياتها الذاتية كمرتكزين متلازمين على صعيد ازدهار التوجّهات الفكرية، فضلاً عن ذلك فإنّ تفنيده لمبادئ هذه النزعة لا يتمحور حول إبطال الأدلّة التي سيقت لإثباتها ونقضها عن طريق الاستدلال، فقد اعتبر مختلف أقسام الشكوكية طوال تأريخ الفلسفة تتضمّن لحظاتٍ مصيريّةً لكنّها في الحين ذاته عابرةٌ في مسيرة الفكر الديالكتيكي.

الاستراتيجيّة التي اتّخذها هيغل في هذا المضمار فحواها تهميش الشكوكية في زوايا ضيّقةٍ من الحوار الفكري بصفتها موضوعاً لا قابليّة فيه لأن يكون بنيةً أساسيةً للفكر الجاد.[2] هذا الكلام لا يعني بطبيعة الحال عدم الاكتراث بالشكوكية من أساسها، إذ إنّ معرفة حقيقتها من حيث كونها وازعاً لتضييق نطاق الفكر، عادةً ما ترتبط بالهوامش الجانبية للبحوث والدراسات الفكرية.[3]

أوّلاً: الشكوكية في فكر هيوم

الفيلسوف ديفيد هيوم في الفصل الرابع من كتابه "تحقيق في الذهن البشري" تبنّى نهجاً شكوكياً على صعيد الشكوك التي تكتنف أداء الذهن البشري، وقد سلّط الضوء عليها ابتداءً من بيان السبب الذي يمنح الإنسان جرأةً في إصدار أحكامٍ تتعدّى نطاق إدراكاته الحسّية ومخزونه الذهني، ومن جملة معتقداته أنّ جميع الاستدلالات التي تساق حول الأمر الواقع تتقوّم في أساسها على العلاقة الكائنة بين العلّة والمعلول، لذا بدون هذه العلاقة لا نتمكّن من السير قدُماً إلى نطاقٍ يتعدّى حدود الإدراك الذهني والمعلومات المتحصّلة من حواسّنا.[4] هيوم لم يوضّح كيف توصّل إلى هذه النتيجة التي تتضّمن حكماً كلّياً، لكنّه مع ذلك ساق البحث نحو بيان كيفيّة تحقّق الحكم بالعلّية من خلال بيان كيفيّة نشأته، وممّا قاله في هذا المجال: "لا يمكن للذهن مطلقاً افتراض معلولٍ لإحدى العلل ... وذلك لأنّ المعلول بصورته العامّة يختلف عن علّته، وتأسيساً على هذا لا يمكن أن يُستكشف في علّته".[5]

حينما نعجز عن استكشاف أساس العلاقة عن طريق الاستقصاء العقلي في آثار الأشياء وخصائصها، فمن الأولى في هذه الحالة الإذعان بعجزنا عن إثبات ضرورةٍ تحقّق هذه العلاقة، وحسب اعتقاد هيوم فترجيح السلوك الخاصّ لأحد الأشياء في مجال تفاعله مع سائر الأشياء يعدّ ترجيحاً بلا مرجّحٍ. وفي موضعٍ آخر تحدّث عن الانفصال الحاصل بين العلّة والمعلول لكنّه لم يتحدّث عن الاختلاف التامّ بينهما، حيث أكّد على أنّ كلّ معلولٍ يمثّل حدثاً[6] منفصلاً عن علّته، لذا لا يمكننا استكشافه في علّته نفسها.[7]

استناداً إلى ما ذكر، لو أردنا نسبة أحد المعلولات إلى إحدى العلل عن طريق التحليل العقلي، ففي هذه الحالة نكون قد تحكّمنا بالعقل.

وفي عبارةٍ استعاريّةٍ قال هيوم: «إنّ الطبيعة جعلتنا نقبع على مسافةٍ بعيدةٍ عن أسرارنا ولم تمنحنا سوى معرفةٍ نوعيّةٍ لبعض المواضيع، كما أنّها -الطبيعة- كتمت علينا تلك القابليات والأصول التي يعود تأثير المواضيع قاطبةً إليها».[8] إذاً، النطاق الإبستمولوجي الذي يفسح للإنسان عن طريق حواسّه محدودٌ بحيث لا يشتمل على جميع الكيفيات المحسوسة للأشياء، وإنّما يعمّ فقط تلك الكيفيات التي لا تتحصّل عن طريق أمرٍ انضماميٍّ أو مقارنٍ. نستشفّ من هذا الكلام أنّ هيوم أراد إثبات انفصال متعلّق المعرفة الإنسانية.

ومع ذلك حتّى وإن عجز الإنسان عن معرفة تلك القوى التي توجب تحقّق تأثير بعض الأمور بنحوٍ خاص، لكن كلّما عرض عليه شيءٌ بكيفياتٍ ظاهريةٍ أو بتأثيرٍ من أحد المواضيع، أو حينما يرتقب صدور معلولٍ متشابهٍ من هذا الموضوع، ففي هذه الحالة تتكوّن لديه حالةٌ يتحقّق فيها أمرٌ يطلق عليه توقّع[9] صدور معلولاتٍ مشابهةٍ لما واجهه قبل ذلك في تجربته[10] من عللٍ متشابهةٍ. وأكّد هيوم على أنّ اليقين -عدم الشكّ- بالنسبة إلى إمكانية تكرار التجربة يعني توالي حدوث أمرٍ بعد أمرٍ آخر، لا يعتبر ثمرةً للنشاط الذهني.[11]

ومن جملة ما تبناه هيوم من وجهات نظرٍ على صعيد ما ذكر، أنّ العلم بالكيفيات الظاهريّة لأحد الأمور لا يتيح لنا معرفة طبيعته، وبما أنّ الإنسان لا يمتلك علماً بالأمور الخفيّة فلا يمكن القول بأنّ توقّع تكرار التجربة هو ثمرةٌ للنشاط الذهني، وعلى هذا الأساس تبلورت في آراء هيوم حالةٌ من الشكّ ضمن بيانه للعلاقة العلّية وحديثه عن السبب في كون علمنا يمنحنا معرفةً عن حقائق تفوق ما نناله بواسطة حواسّنا وأذهاننا، ومضمون هذه النزعة الشكوكيّة هو عدم وجود أمرٍ قطعيٍّ في مجال العلم بحقيقة أحد الأشياء والقوى الخفيّة الكامنة في باطنه والآثار التي تترتّب عليها. لكن رغم هذه النتيجة الشكوكية التي توصّل إليها، فقد تبنّى من الناحية العمليّة نهجاً آخر، حيث أقرّ بأنّ ما توصّل إليه من نتائجَ عمليّةٍ خلال تجاربه المكرّرة باعتباره إنساناً لا فيلسوفاً، أقنعته في ما بعد بإمكانيّة معرفة العلاقة الكائنة بين النتيجة والأمر المجرّب. إلا أنّ المسألة التي راودت هاجسه باعتباره فيلسوفاً، تمحورت حول معرفة السبب في كون الذهن البشري يرتقب تحقّق ما ذكر أعلاه، ومعرفة السبيل الذي يتحقّق في رحابه هذا الارتقاب -التوقّع- بصفته حالةً ذهنيةً.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذا الفيلسوف الغربي أعرب بصراحةٍ عن يأسه في وضع حلٍّ لما ذكر، ومن البديهي أنّ يأسه هذا يضرب بجذوره في واقع رؤيته الخاصّة بالنسبة إلى القابليات الفكريّة الإنسانيّة.

وبعد أن طرح شكوكياته، حاول فكّ رموزها على ضوء مذهبه الشكوكي، وفي هذا الفصل -من كتابه- اقترح بشكلٍ صريحٍ تبني نهجاً فلسفياً شكّياً أو أكاديمياً.[12] فقد أكّد على أنّ الشريحة الفكريّة الأكاديميّة تحرّرت من القيود الدقيقة للتحرّيات الذهنية، ورفضت جميع وجهات النظر الخارجة عن نطاق الحياة والتجارب العملية المتعارفة، وكمثالٍ على الفلسفة الشكّية نشير إلى ما ذكره هذا الفيلسوف حول العادة أو الطبع البشري، إذ ادّعى أنّ كلّ استدلالٍ يبدأ من التجربة، فيه خطوةٌ لا بدّ للذهن وأن يتّخذها، لكنّها في الحين ذاته غير مدعومةٍ من أيّ دليلٍ[13] أو نشاطٍ عقليٍّ، فالإنسان بطبعه يتجاوز إطار شهادة الحواس ومدّخراته الذهنية، والطبع في الواقع عبارةٌ عن رغبةٍ.[14] والجدير بالذكر هنا أنّ هيوم أقرّ بأنّه لا يقصد معرفة سبب إيداع هذه الرغبة في النفس الإنسانية.

أكّد هيوم على أنّ كلّ عقيدةٍ نمتلكها بالنسبة إلى موضوعٍ واقعيٍّ[15] أو وجودٍ حقيقيٍّ، لا بدّ وأن تكون منبثقةً من طبعنا وعادتنا في ملاحظة إحدى العلاقات، فالعقيدة هي في الواقع واحدةٌ من نشاطات الروح[16] التي تنشأ على ضوء طبعنا، وقد وصف هذه الحالة بأنّها من جملة القابليات الذاتية -الغرائز الطبيعية- لدى الإنسان، وهي حالةٌ لا يمكن تحقّقها أو الحيلولة دون وقوعها عن طريق أيّ استدلالٍ عقليٍّ أو أيّ عمليّةٍ ذهنيّةٍ.[17]

ثانياً: نقد هيغل لشكوكيّة هيوم

قال بعض شرّاح آثار هيغل أنّ نقده لشكوكية هيوم يضرب بجذوره في نقاشاته التي طرحها حول آراء الفيلسوف الألماني جوتلوب إيرنست شولتسه[18] وآراء كينيث ويستفال،[19] حيث قال: «إنّ النزعة التجريبيّة بلغت ذورتها في باكورة القرن التاسع عشر الميلادي بفضل جهود شولتسه الذي حاول مرّةً أخرى توسيع نطاق النقد المطروح على المنظومة الفكرية لديفيد هيوم، ومن هذه البوّابه ردّ على فلسفة إيمانوئيل كانط النقدية متّبعاً نهجاً استقرائياً ومعتمداً على المفهوم المطروح حول العلّية في الأوساط الفكرية، لكن مع ذلك لم يتمكّن من معرفة واقع المعضلات التجريبية التي أشار إليها ديفيد هيوم».[20]

المقالة التي دوّنها هيغل حول العلاقة بين المذهب الشكوكي والفلسفة والتي تمحورت مواضيعها حول نقد آراء شولتسه، أكّد فيها على وجود اختلافٍ بين النزعة الشكوكية التي كانت سائدةً في بلاد الإغريق والشكوكيّة الحديثة -أي شكوكية هيوم ومن بعده شولتسه- فالنمط الأوّل -القديم- برأيه يتّصف بميزةٍ إيجابيّةٍ من حيث عدم ارتباطه بالمعطيات الحسّية الخارجية، في حين أنّ النمط الثاني -الجديد- يكون الذهن فيه تابعاً لمعطيات حسّيةٍ جزئيّةٍ بحيث يثبت سكونه وخموله قبل أن يبدر منه أيّ نشاطٍ، وقد اعتبره هيغل متناقضاً من حيث كونه شكّيةً متقوّمةً على دوغماتيّةٍ تامّةٍ.[21] يشار هنا إلى أنّ أكثر البحوث النقديّة انسجاماً في ما طرحه هيغل على شكوكيّة هيوم بشكلٍ مباشرٍ، يتجلّى في كتابه «محاضرات في فلسفة التأريخ»، حيث تطرّق فيه إلى نقد آراء ونظريات هيوم وبيركلي تحت عنوان «المثالية والشكوكية»، ففي هذا المبحث المقتضب من الكتاب اعتبر شكوكيّة هيوم نمطاً من الشكوكيّة الحديثة، ثمّ ذكر وجه تباينها مع النمط القديم، فهي تتمحور حول كون الذهن مدركاً، وعلى أساس إدراكه هذا يمسي وكأنّه حركةٌ باطنيّةٌ ذاتيّةٌ، وهذا الإدراك الذاتي يكون في الوهلة الأولى صورياً وفردياً. ثمّ استنتج أنّ هذه الصورة من الشكوكية تختلف عن الصورة القديمة من حيث إنّها تجعل التصديق بالحقيقة نقطة انطلاقٍ لها، في حين أنّ الفلاسفة الشكوكيين القدماء كانوا يؤكّدون على ضرورة اللجوء إلى الإدراك الفردي بصيغةٍ لا تجعله أمراً فكرياً واقعياً، فشكوكيتهم حسب رأي هيغل لا تظهر النتائج التي يتمّ التوصّل إليها لكونها لا تبلغ درجةً إثباتيةً، ولكن بما أنّ جوهر الأشياء يعدّ أمراً مطلقاً حسب الفكر المعاصر ونظراً لكون وحدة الأشياء ضمنيّةً والإدراك الذاتي أمراً أساسياً، فالشكوكيّة هنا تتّسم بطابعٍ مثاليٍّ يتجسّد في إدراكها لذاتها ويقينها بوجودها باعتبارها حقيقةً عامّةً. أبسط أشكال هذه المثاليّة يتحقّق حينما يمكن لإدراكنا الذاتي -الفردي أو الصوري- اتّخاذ خطوةٍ تتعدّى نطاق تصوّره بأنّ جميع الأمور الموضوعيّة ليست سوى مفاهيمَ مختصّةٍ بنا، وأكّد هيغل على وجود هذه المثاليّة الذاتيّة في فلسفة بيركلي بصيغةٍ معيّنةٍ، وصيغتها الأخرى متجسّدةٌ في فلسفة هيوم.[22]

نستنتج من جملة ما ذكر أنّ شكوكيّة هيوم تنتظم في إطارٍ معيّنٍ على ضوء فهمه الخاص لمسألة العلّية، وهذا الأمر طرحه هيغل للبحث والتحليل ضمن كتابه "محاضرات في فلسفة التأريخ"، حيث وصف التوجّهات الفكرية التي تبناها هيوم في هذا الصعيد بالساذجة لكونها تتقوّم على فرضيةٍ أوّليةٍ بخصوص مفهوم العلّية -العلّة والمعلول- لذا لا محيص لنا من معرفة العلاقة الضرورية في ما بينهما عن طريق التجربة فحسب. كما أكّد على أنّنا نستشفّ من التوجّهات الفكرية التي تبناها هيوم فشل التجربة المشار إليها -عدم صواب الفرضية الأوّلية المذكورة- وثمرة ذلك القول بعدم إمكانية تبرير الضرورة على أساس التجربة، فنحن الذين نسرّيها إلى باطن التجربة.[23] كما قال بأنّ الطبع برأي هيوم يعتبر من الأمور الضرورية في الإدراك، ومن هذا المنظار بإمكاننا ملاحظة مثالية هيوم الأساسية -أي على ضوء الطبع- وهذه الضرورة كائنةٌ في الإدراك، لذا تتجلّى المثالية في الطبع. أضف إلى ذلك قال هيغل: إنّ هذه الضرورة تعتبر أمراً يتجلّى بشكلٍ عارٍ بالكامل عن الفكر والصور العقلية.[24] إلا أنّ الإشكال الذي يُطرح على هذه الرؤية الخاصّة بالضرورة هو اعتبارها تركيباً من أمرين متعارضين مرتكزين بالكامل على ضربٍ من الطبع الذاتي، فهي كالسدّ الذي يحول دون وصول الإنسان إلى طبقةٍ أكثر عمقاً في عالم الفكر وذلك من منطلق عدم وجود صورةٍ عقليةٍ لها.

ومن جملة ما أكّد عليه هيغل أنّ العقل ذاتياً من وجهة نظر هيوم لا فاعلية فيه، أي إنّه لا يمتلك بذاته أيّ أصولٍ أو مضامين أو معايير، لذا ذهب الثاني إلى القول باستحالة إزالة الاختلاف الكائن بين الرغبات الفردية بذاتها واختلافها مع العقل، ومن هذا المنطلق يقال أنّ كلّ شيءٍ في نطاق المنظومة الفكرية الهيومية يتجلّى على هيئة وجودٍ غير عقلانيٍّ أو عارٍ عن الفكر، وهذه الرؤية تختلف تماماً عمّا تبناه هيغل بخصوص الحقيقة وعلاقتها بالفكر، إذ إنّ الحقيقة برأي هيوم غير كامنةٍ في الفكر، وإنّما تتبلور في رحاب الغرائز والرغبات.[25]

وأمّا الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور[26] فقد ادّعى أنّ هيغل سلّط الضوء على ذاتانيّة ديفيد هيوم ليس باعتبارها إقراراً يائساً بعجز الفكر الإنساني، بل بمثابة بيانٍ لشعورٍ عميقٍ فحواه أنّ كلّ أمرٍ معتمدٍ وهامٍّ لترسيخ أسس الحقيقة، يعدّ ميسّراً للإدراك البشري المحدود، وعلى هذا الأساس فإنّ شكوكية هيوم على الصعيد الأخلاقي تنسف كلّ معيارٍ ذاتيٍّ للأخلاق الاجتماعية «الخلوقية»[27] وتسوقنا نحو شعورنا الأخلاقي.

الجدير بالذكر هنا أنّ هيوم وسائر مفكّري ذلك العصر وسّعوا نطاق إحدى النظريات التي طرحت حول الشعور الأخلاقي، وفي رحابها تمّ تسليط الضوء على مبدأ الاطمئنان العام بالإدراك الذاتي مرّةً أخرى باعتباره مرحلةً من مراحل حركة الروح.[28]

ثالثاً: هيغل ونقد مواجهة الشكوكية برؤيةٍ تأسيسيِّة

المفكّر توم روكمور[29] هو أحد الباحثين الذين شرحوا آثار فريدريك هيغل، حيث أكّد ضمن شروحه على أهميّة الفكر الهيغلي على صعيد مواجهة التحدّيات الإبستمولوجية التي تعصف بالعالم في العصر الحديث، وقال بأنّ إحدى أهمّ ميزات هذا الفكر تتمثّل في تفنيد الرؤية الرتيبة المتقوّمة على وجود مواجهةٍ بين النزعتين التأسيسية[30] والشكوكية، واعتبره السبيل الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه في التصدّي للشكوكية. ومن جملة ما قاله في هذا الصدد، أنّ التصوّر السائد هو كون التأسيسية تعدّ السبيل الوحيد في التصدّي للنزعة المذكورة، لذا لو لم نتمكّن من الدفاع عنها ففي هذه الحالة لا يبقى لنا محيصٌ من تبنّي نهجاً شكياً.[31] وبعد أن قسّم الاستراتيجيات الإبستمولوجية إلى حدسانيّة[32] وتأسيسيّة واستداريّة -حلقة مفرغة[33]- أكّد على أنّ هيغل سار على نهج الاستراتيجية الثالثة، وقال أنّ هذا الفيلسوف واجه النزعة الشكوكية على أساسٍ فكرٍ تأسيسيٍّ لا صواب له، وهو في حقيقته ليس سوى حلقةٍ مفرغةٍ،[34] وادّعى أنّ مفهوم الحلقة الإبستمولوجية المفرغة[35] عبارةٌ عن مفهومٍ قديمٍ وثمرةٍ لبسط المفهوم الذي طرح قبل عصر سقراط، وهو أنّ الشبيه يعرف شبيهه.

الكلام حول واقع العلاقة المستقلّة بين العقل والواقع أو الفكر والذاتية البنيوية، طرح من قبل هيراقليطس بغموضٍ، ومن قبل بارميندس وأفلاطون بوضوحٍ، وذلك اتّكاءً على مفهوم الحلقة المفرغة، فالعلاقة بين العلم وهذه الحلقة في العرف الإغريقي القديم قد تزعزعت بفضل جهود الفيلسوف أرسطو.

إضافةً إلى أنّ هيغل اتّخذ مواقف تتعارض مع آراء أرسطو، رفض أيضاً ما قيل حول رؤية رينيه ديكارت البنيوية باعتبارها الحلّ الوحيد لمواجهة المذهب الشكوكي، لكن لو كانت النظريّة بحدّ ذاتها حلاً للمعضلة، فهي في هذه الحالة مستغنيةٌ عن اللجوء إلى أطروحة ديكارت أو أيّ أطروحةٍ أخرى، وهيغل الذي كان على علمٍ بأهميّة هذا الأمر، وصفه في الموسوعة كما يلي: «بالنسبة إلى مفهوم الدائرة، فالمركز والمحيط كلاهما أمران ذاتيان لها، وكلاهما ميزتان مرتبطتان بها، لكنّهما في الحين ذاته مختلفان ومتضادّان مع بعضهما».[36]

ومما ذكره توم روكمور في هذا المضمار، أنّ فكر هيغل الظاهراتي تمحور حول فكرة أنّ الحقيقة هي الكلّ أو النظرية التامّة التي لا تحتاج إلى أيّ أساسٍ آخر، كما أن هناك غموضاً حول اعتباره النظرية بمثابة كلٍّ واحدٍ يمكن على أساسه معرفة الحقيقة، ومن هذا المنطلق أكّد روكمور على أنّ هيغل لم يطرح رأياً قطعياً حول كون النظرية أمراً متكاملاً وتامّاً، إذ اعتبر العلم وكأنّه يجري في رحاب عمليةٍ حيويةٍ وفاعلةٍ قوامها التكامل النظري، فالنظرية في بادئ الأمر ليست ثابتةً حسب رأيه، وإنّما يتمّ إثباتها تدريجياً وبشكلٍ متصاعدٍ لكي يتمّ بعد ذلك إثبات صواب نتائجها، وفي هذه الحالة يواجه المنظّر ضرباً من الاستدارية - الحلقة المفرغة - لكنّها لا تندرج ضمن الأخطاء الإبستمولوجية، بل تعتبر نتيجةً مقبولةً لكسب العلم.[37]

الباحث كينيث ويستفال[38] هو الآخر أحد الشرّاح الذين حذوا حذو روكمور وتطرّق إلى بيان الإبستمولوجيا الهيغلية، حيث أكّد على أنّ هيغل عندما بادر إلى نقد الفكر البنيوي، سلّط الضوء في بادئ الأمر على إحدى ميزات هذا المسلك الفكري، ألا وهي النزعة التجريبية القصوى التي يمكن بيانها كما يلي: «نحن نمتلك علماً مفهومياً مطلقاً حول الجزئيات المحسوسة». وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ معظم فلاسفة المدرسة الأسكتلندية لم يؤيّدوا هذه الفكرة رغم أنّ هيوم التزم بها في نظريته التي طرحها حول الانطباعات والتصوّرات، وهي نظرية النسخ أو الاقتباس[39] وأمّا الفكرة المشار إليها كانت شائعةً أيضاً بين أبرز العلماء التجريبيين الألمان من أمثال هامان[40] وياكوب[41] وشولتسه وكروج[42] إذ افترض هؤلاء أنّ العلم حينما يكون فيه مبدأ مطلق لأحد المفاهيم، ففي هذه الحالة يمكن الاعتماد عليه لبيان العلوم المشتقّة - الفرعية - وهذا العلم برأيهم يجنّبنا من الوقوع في الإشكاليات الناجمة عن نقطتي الغموض الموجودة في المعيار وبما فيها النقاط الغامضة التي طرحت من قبل الشكوكيين القدماء والتي ردّ عليها هيغل بكلّ حذاقةٍ وتعقيدٍ، وبيان ذلك كما يلي: لو امتلكنا علماً حسّياً مطلقاً حول المفهوم الخاصّ بالجزئيات، سوف لا نبحث عندئذٍ سوى عن الأمور الواقعية[43] المرتبطة به كي نتمكّن بواسطته من تجاوز كلّ تحدٍّ ووضع حلٍّ لكلّ معضلةٍ بالاعتماد على العلم التجريبي. وادّعى ويستفال أنّ هذا الأسلوب يصون الأنموذج الأساسي للبنيوية الإبستولوجية التي يتمّ على أساسها التمييز بين العلمين البنيوي «الأصل» والمشتق «الفرع»، وهو أنموذج معتمد في إزالة غموض الشكوكية الكلاسيكية، أي الفلسفة الشكّية البيرونية.[44] وأضاف هذا الباحث أنّ هيغل بطبيعة الحال اتّخذ موقفاً تجريبياً مضادّاً لهذا الأنموذج البنيوي، حيث وضّح ذلك قائلاً: «هذه الفكرة البنيوية باعتقاده - هيغل - عاجزةٌ عن وضع حلٍّ لإشكاليات المذهب الشكوكي، إذ لا يوجد هكذا علم بنيوي مطلق للدلالات المفهومية ... كما أنّ الأنموذج البنيوي للعلم التجريبي يعدّ سبباً للانحراف الفكري المفرط، فالأنموذج المذكور - تسويغ[45] العلم المشتق - يسلّط الضوء على المصطلحات في إطارٍ مقارنٍ، وفي غير هذه الحالة يفتقد قابليته المقنعة حين مواجهة الشكوكيين؛ ناهيك عن أنّه يعتبر كلّ جزءٍ من العلم البنيوي مستقلاً عن سائر الأجزاء، وقد عزم هيغل على تعديل مسار النهج الأصيل والواقعي التجريبي اعتماداً على نهجٍ آخر غير تجريبي من خلال اعتماده على العقل، وفي هذه الحالة تسنّى تبرير آرائه الخاصّة، حيث دافع عنها في ثلاثة فصولٍ من قسم الإدراك ضمن كتابه فينومينولوجيا الروح، ومحور كلامه في هذه الفصول الثلاثة هو أنّ المعرفة[46] التجريبية الإنسانية لا يمكن أن تنطبع في أذهاننا إلا بشكلٍ متفاعلٍ عن طريق أمرٍ موضوعيٍّ أو بواسطة حدثٍ ما،[47] وعلى هذا الأساس أكّد على أنّنا لا نمتلك أيّ علمٍ بنيوي مما يُدّعى عن أيّ حقيقةٍ تجريبيةٍ بصورةٍ مستقلّةٍ عن علمنا بسائر الحقائق التجريبية، لذا يتمّ تسويغ العلم التجريبي بشكله الكلّي،[48] وذلك بمعنى أنّ الأسباب التي دعتنا إلى تسويغ أحد الادّعاءات لها ارتباط مع الأسباب التي تسوّغ لنا توجيه الادّعات التجريبية الأخرى».[49]

وفي الفصل الذي دوّنه تحت عنوان "اليقين الحسّي" ضمن كتابه فينومينولوجيا الروح، بسط هيغل موضوع البحث بمحوريّة النزعة التجريبيّة المفهوميّة، وخلاصة كلامه إمكانيّة وضع تعريفٍ لكلّ حالةٍ تجريبيةٍ لكوننا نعتمد فيها فقط على المفاهيم القبليّة الأصيلة، مثل الأنا والآخر والزمان والأزمنة والمكان والتفرّدية.[50] وبهذا الشكل يتبيّن لدينا مدى قابلية تحقّق المعلوم. وفي الفصل الذي خصّصه لبيان معنى الإدراك، أكّد على أنّ ذات المفهوم الذي يمكن إدراكه حسّياً، هو أمرٌ قبلي، وفي الفصل الذي عنونه بعبارة "القدرة والذهن" طرح فكرة أنّ المفهوم المنطبع لدينا عن الأمر الذي يمكن إدراكه حسّياً عن المفهوم فقط، يمكن أن يكون معقولاً لدينا لأنّه أمرٌ قبلي.[51]

رابعاً: المقترح الهيغلي البديل لشكوكية هيوم

ذكرنا آنفاً أنّ أوّل مبادرةٍ قام بها فريدريك هيغل في نقد المذهب الشكوكي، تمثّلت في النقد الذي طرحه على نظريات شولتسه ضمن المقالة التي دوّنها تحت عنوان علاقة الشكوكية بالفلسفة، حيث تبنّى فكرةً تختلف تماماً عمّا تبناه شولتسه ولم يعتبر الشكّية أمراً متعارضاً مع الفلسفة، بل اعتبرها واحدةً من العوامل المحرّكة للفلسفة، كما أكّد على أنّ الشكّية والدوغماتية يجسّدان مرحلتين مختلفتين في المسيرة الأساسية لعلم الفلسفة. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ أفلاطون قبل ذلك أكّد على عدم ضرورة وجود تضادٍّ بين هذين الأمرين، بل من شأنهما إعانة بعضهما في هداية الذهن وتقريبه إلى الحقائق والمثُل.[52]

وفي مقدّمة كتابه فينومينولوجيا الروح فنّد الرأي القائل بكون المعرفة عبارةً عن وسيلةٍ، وعلى هذا الأساس رفض مدّعيات الشكوكيين بصفتها تحميلاً على الموضوع قبل تحقّقه، فالشكوكي يبدأ تفكيره من افتراض كون موضوع فكرةٍ معيّنةٍ موجوداً على أرض الواقع، ومن ثمّ تصبح معرفته مجرّد جزءٍ من الوسائل أو الوسائط التي نتمكّن من خلالها بلوغ هذا الواقع. من المؤكّد أنّ الانطلاق من هذا التوجّه يقتضي افتراض أمرٍ آخر يتمحور حول وجود اختلافٍ بيننا وبين الأمر الواقع - الأمر المطلق - والأسوأ من ذلك أنّ معرفتنا بحسب الاستدلال الذي تتقوّم عليه هذه الفرضية منفكّةٌ عن الواقع لكنّها في الحين ذاته تعتبر أمراً واقعياً، أي إنّها جزءٌ من الواقع غير المرتبط بها![53]

إن أردنا امتلاك صورةٍ صائبةٍ عن الرؤية التي تبناها هيغل تجاه المذهب الشكوكي، فلا محيص لنا هنا من ملاحظة مبادئ آرائه وفهمه الخاصّ لمفهوم غريزة الإدراك، فقد اعتبر الإدراك هويةً ذاتيةً متعاليةً، وهذا البيان نلمسه جلياً ضمن تحليله لمفهوم طريق اليأس في كتابه فينومينولوجيا الروح.

الباحث هاوارد كينز[54] ذكر في تقريرٍ له حول الموضوع أنّ هيغل في مقدّمة كتابه فينومينولوجيا الروح استخدم تعبيراً مجازياً حينما قال: إنّ الإدراك الطبيعي - الفينومينولوجي - يمكن أن يتّخذ كعنوانٍ دالٍّ على أمرٍ كلّي عندما يتبلور في طريق اليأس.[55] ويقصد من هذا الكلام أنّ كلّ رأي متعيّن يسير نحو فنائه ومن ثمّ يفسح المجال لغيره لـمّا يصل إلى مرحلةٍ يصبح في رحابها أكثر تعيّناً وثبوتاً، وهذا الفناء يتجلّى في تحديد نطاق الرأي المتعيّن - الصريح - فضلاً عن ذلك فالشكّ يتبادر إلى الذهن بشكلٍ صريحٍ حول مدى صوابه.[56]

العلم الذي يعتبر بمثابة عملية مرحلية برأي هيغل، هو عبارةٌ عن فناءٍ أو موتٍ متواصلٍ لمواضيعه التجريبية المتعيّنة،[57] وهنا يطرح معنى خاص للموت بطبيعة الحال، إذ خلال مراحل فناء الجسد لا يتمّ التخلّي عن أيّ أمرٍ متعيّنٍ، وإنّما يتّسم هذا الجسد الفاني بصورةٍ تجريبيةٍ جديدةٍ، وهذه الحالة هي التي أطلق عليها هيغل عنوان الانحلال والترفيع.[58]

وأمّا الباحث إنوود[59] فقد قال: إنّ هيغل عادةً ما كان يؤكّد على مسألة الانتقال من عنصرٍ إلى عنصرٍ آخر عن طريق نفي الأوّل، ومن ثمّ اعتبر العنصر صورةً لنفي سلفه دون واسطةٍ، وثمرة هذا الكلام أنّ تفنيد كلّ عنصرٍ من أساسه يعدّ ضرباً من الشكوكية.[60]

الجدير بالذكر هنا أنّ هيغل لـمّا حاول اجتناب الوقوع في هاويتي الغرور والمبالغة في نقد المذهب الشكوكي، سلك نهجاً متقوّماً على شكّيةٍ سالمةٍ وجادّةٍ تجري بشكلٍ راقٍ.[61] فقد قال في مقدّمة كتابه فينومينولوجيا الروح: «الشكّ الراقي في واقعه على خلاف المذهب الشكوكي الضعيف الذي يبالغ في ما يطرحه، فالأوّل يعمّ نطاقه جميع جوانب الموضوع ومراحل الإدراك، وبالتالي يهيّئ الروح لأجل أن تنظم شؤون متابعتها وتحرّيها المطلق لحقيقة جميع آرائها وأفكارها وعقائدها الطبيعية».[62] الشكّ الذي يجري نحو الرقي عادةً ما يواجه - بحسب طبيعته - تحدّيات قبال جميع الصور المعقولة أو المفاهيم المنطبعة في ذهن الإنسان، ولو أنّ هذه العملية المرحلية جرت بشكلٍ منتظمٍ وغير شاذٍّ، ففي هذه الحالة سوف تجعل العلم مضطرّاً لأن يسير نحو تحقيق هدفه بشكلٍ تدريجي، وهذه هي المرحلة التي وصفها هيغل قائلاً: « ... إنّها مرحلةٌ لا يتقيّد العلم فيها بتجاوز نفسه، إنّها مرحلةٌ لا يواجه العلم فيها إلا نفسه، وفيها ينطبق المفهوم على الموضوع والموضوع على المفهوم». كما قال في مقدّمة كتابه فينومينولوجيا الروح: إنّ هذه المرحلة المتأخّرة يتساوق فيها الظهور مع الذات، وتبلغ ذروتها عندما يتّضح لنا على أساس وجهة النظر السابقة أنّها تتحرّك في رحاب وجودها المتعيّن الذي يقيّدها، أي إنّها تنتقل من المكانة التي عيّنتها لنفسها في مضمار وجودها التجريبي.[63]

هاوارد كينز فنّد الشكوكية المترقّية قائلاً بأنّها تعمل على تفنيد جميع جوانب الإدراك المتعيّنة، أي إنّها تسير بذاتها نحو الفناء، ومن هذا المنطلق اعتبرها متعارضةً بكلّ صراحةٍ مع المذهب الشكوكي؛ لأنّ صاحب هذا النهج الفكري يقيّد نفسه في جدران حصن الآراء المتعيّنة دون أن يبقي لنفسه أيّ منفذٍ للخروج، ومن ثمّ فهو يحرم نفسه من الحقيقة والأمر التامّ[64] ويتسبّب في عرقلتها عن السير في نهج متعالٍ رغم أنّه يقرّ ضمنياً بوجود أمرٍ تامٍّ.[65]

كما نستشفّ من مقدّمة كتاب هيغل "فينومينولوجيا الروح" أنّ المعرفة تسعى إلى أن تصبح على غرار الجوهر، وهذا التناسق بين الأمرين هو واقعٌ يمكن تحقّقه عبر طي مراحلَ متوالية، حيث قال في هذا المضمار: «عادةً ما نتصوّر أنّ الصواب والخطأ يتعلّقان بتلك الأفكار التي تمّ تعريفها وبيان تفاصيلها بدقّةٍ تامّةٍ، أي الأفكار التي يدّعى أنّها ذات طابعٍ راسخٍ، وذلك كما يلي: أحد الأمرين يمرّ في مرحلة انفصالٍ غير مرنٍ في أحد جوانبه، والآخر كائنٌ في جانبٍ آخر دون أن يوجد أيّ ارتباطٍ في ما بينهما. نقول في نقض هذا الرأي، أنّ الحقيقة ليست كالعملة ذات الوجهين والتي تصنع في ورشة صكّ العملات بشكلٍ متكاملٍ وتامٍّ بحيث يمكن للإنسان استخدامها دون أي خللٍ».[66]

ومن جملة معتقدات هيغل أنّ معرفة أحد الأمور بشكلٍ خاطئ يعني كون المعرفة وحدها لا تكفي في تحقّق العلم بتفاصيلها، فهي في هذه الحالة لم تتجانس بالكامل مع جوهرها ولم تنطبق عليه بشكلٍ متساوٍ، ومع ذلك فعدم التجانس هذا يعتبر بشكلٍ عام مرحلةً أو لحظةً لتجانسٍ ذاتي في المعرفة، إذ عندما تتحصّل لدينا معرفةٌ متجانسةٌ فهي تجسّد في واقعها حقيقةً ثابتةً.[67]

الباحث جاكوس هوندت[68] اعتبر هذا الجانب من الظاهراتية متضادّاً مع الدوغماتية،[69] وعلى أساس ما ذكر فالأمر الخاطئ الذي يتعارض مع الحقيقة قبل أن يتسبّب بحدوث شكٍّ وترديدٍ لدى الإنسان، فهو يجسّد لحظةً من مرحلةٍ يبحث العلم فيها عن إمكانية تجانسه مع جوهره.

خامساً: اختلاف المذهب الشكوكي عن سائر الشكّيات برأي هيغل

1 ) هيغل والشكوكية المتعارفة

الرؤية المقارنة التي لجأ إليها هيغل باعتبارها بديلةً عن شكوكية هيوم، لها القابلية على بيان مختلف دقائق وزوايا النزعة الشكوكية بكلّ وضوحٍ، وقد ذكرنا آنفاً أنّ الفكر ضمن حركته في طريق اليأس ينتقل من عنصرٍ إلى عنصرٍ آخر، وهو على ضوء هذه الحركة ينفي العنصر الأوّل، لكن لا ينبغي اعتبار هذا النفي المتعيّن بكونه ذات الشكوكية الفارغة المتحصّلة من تجاهل الأصول المعرفية المتعارفة، وهذا الموضوع تمّ تقريره بوضوحٍ من قبل المفكّر بيتر سينجر[70] حينما قال: «نفي الأمر المتعيّن يعتبر بذاته (أمراً) ... وهذا الأمر ليس سوى ثمرةٍ لمعرفتنا بكون الصورة الإدراكية الكذائية غير محبّذةٍ، وهو بنفسه يمثّل صورةً جديدةً لهذا الإدراك، لذا نحن مضطرّون إلى السعي لنيل المعرفة الحقّة عبر الحركة المتواصلة من صورةٍ إدراكيةٍ إلى صورةٍ إدراكيةٍ أخرى».[71]

الشكوكية المتعارفة بحسب ما قرّره الباحث إنوود، لا تتسرّى تلقائياً إلى موضعٍ آخر حينما تنتقد موضعاً سابقاً وتفنّده، وإنّما تنتظر لترى ما إن كان هناك أمرٌ جديدٌ يهيّئ نفسه للتفنيد أو لا، وإذا ما تحقّق ذلك فهو يقطع الطريق عليها بالكامل. وفي مقابل هذا الرأي وضّح هيغل مفهوم الشكوكية وعلاقته بالنفس المتعيّنة كما يلي: «... وفي المقابل عندما تكون نتيجتها - نتيجة الشكوكية - على غرار ما هو موجود في الحقيقة، أي حينما يتمّ إدراكها تحت عنوان نفي المتعيّن، فبواسطة هذا الإدراك يظهر مباشرةً نمطٌ جديدٌ، ثمّ يحدث الانتقال تلقائياً عن طريق ذلك الأمر الذي يحدث التطوّر بواسطته على أساس سلسلةٍ كاملةٍ من الأنماط».[72] القيد التلقائي الذي وضعه هيغل في هذه العبارات يشير إلى إحدى الميزات الهامّة في فكره الديالكتيكي، ولو أنّه علمٌ بفحوى الموضوع وفق أنماطٍ إدراكيةٍ متطوّرةٍ رغم يأسه من كسب مختلف أشكال الإدراك، ففي هذه الحالة يتحرّك إلى الأمام بدعمٍ من قابليةٍ تسمّى «الطموح»، وهذا الطموح يبلغ مرتبةً من الإدراك الراسخ الذي لا يمكن أن يزيحه أيّ شيءٍ.[73] وقد أكّد المفكّر جوزيف ماك كورني على اتّساق هذا الطموح مع مفهوم غريزة العقل وغريزة تحصيل الدلالة المفهومية.

تجدر الإشاره هنا إلى أنّ كلا المفهومين قد تطرّق إليهما هيغل في الصفحات 149 و 463 من كتابه فينومينولوجيا الروح، ووصف الطموح المذكور بكونه كالغريزة اللاشعورية العامّة للجنس البشري، وهذه الرؤية التي تؤكّد على كون العقل يمتلك جانباً غريزياً لاشعورياً هي - بحسب رأي ماك كورني - مختصّةٌ بهيغل فقط لا غير، إلا أنّ هذا الأمر ليس سوى ادّعاءٍ واضح البطلان، لكنّ هيغل رغم ذلك بقي متشبّثاً به جرّاء تأثيره في كيفيّة الحركة الديالكتيكية، وموقفه هذا يعدّ في غاية الأهمية بالنسبة إلى موضوع بحثنا، فقد اعتبر الثمرة المباشرة للاعتقاد بالجانب الغريزي اللاشعوري في العقل شاخصةً في إقحام عنصرٍ من الإرادة والشعور ضمن نطاق الفينومينولوجيا الديالكتيكية بحيث إنّ الديالكتيك على ضوئها يتحوّل من جدلية إبستمولوجية خالصة تخلق أنماطاً إبستمولوجيةً معروفةً، إلى جدليةٍ تتقوّم على الرغبة في التحوّل، وبالتالي من الممكن أن يكون مصيرها على أساس مبدأ الظنّ أنّها تتبلور في خارج نطاق الإبستمولوجيا.

حينما تتمحور الرغبة حول إدراكٍ آخر يقوم بذات المهمّة التي كان موضوعها يؤدّيها، فالنتيجة هي أنّ السبيل المؤدّي إلى المعرفة المطلقة يتّخذ تدريجياً بعداً شبه شخصي ثمّ يفتح الباب على مصراعيه لحركة المجتمع والتأريخ البشري.[74]

إحدى الميزات الفارقة الأخرى لما يصطلح عليه طريق اليأس من المعاني المتعارفة للشكوكية وبما فيها المعنى الهيومي، هي الثقة بالنفس التي اتّصف بها هيغل ضمن مساعيه الرامية لإدراك معنى الحقيقة المطلقة اعتماداً على قابليات الذهن البشري، وفي هذا المضمار يطرح على الشكوكيين السؤالان التاليان: ما السبب في ضرورة عدم الثقة بقابليات العلم على صعيد إدراك الحقيقة المطلقة بذاتها؟ يا ترى ألا تحتّم الضرورة علينا في هذه الحالة عدم الثقة بالسبب الذي أفقدنا الثقة ؟ [75]

2 ) هيغل والشكوكية القديمة

أهميّة الشكوكيّة القديمة بالنسبة إلى موضوع بحثنا تتبلور في ما طرحه بعض الشرّاح باعتبارها في مبادئ فكر هيغل تعدّ بديلاً عن شكوكية هيوم ذات الطابع الجديد، وكما قال إنوود فقد أكّد هيغل على أنّ سلفه هيوم اتّخذ مواقف فحواها عدم صواب الاعتقاد بحقيقة الأمر التجريبي الذي تترتّب عليه تحدّيات قبال التعيّنات والقوانين الكلّية الشمولية، في حين كان ينبغي له اتّخاذ موقفٍ مماثل لما اتّخذه الشكوكيون القدماء وتوجيه نقدٍ للأمر المحسوس.[76] ومع ذلك سوف نلاحظ في المباحث اللاحقة أنّ هيغل حتّى وإن رجّح الشكوكية القديمة على شكوكية هيوم، لكنّه أكّد على أنّ كلا المذهبين الفكريين يعانيان من مشكلةٍ واحدةٍ. ولدى شرحه وتحليله مسألة الإدراك الذاتي في كتاب فينومينولوجيا الروح، تطرّق إلى الحديث عن إطلاق الإدراك الذاتي ثمّ تحدّث عن النزعة الشكوكية، وفي هذا السياق ادّعى أنّ صاحب الإدراك الشكوكي يخوض تجربةً وكأنّ إدراكه ظاهرةٌ متضادّةٌ في باطنها، ويتبلور من هذه التجربة نمطٌ إدراكيٌّ جديدٌ تجتمع فيه توجّهات موجبة وسالبة انفصلت عن بعضها بواسطة النزعة الشكوكية، والجدير بالذكر هنا أنّ الضرورة تقتضي تجاوز أطر عدم الدقّة في الفكر حول الذات وكذلك العمل على عدم فقدانها من أساسها، لأنّ الإدراك في واقع الحال يتضمّن في باطنه الجانبين الموجب والسالب معاً، وعلى هذا الأساس يصبح هذا النمط الإدراكي الجديد أمراً واحداً يجعل من فكر صاحبه ازدواجياً، وهو ما عبّر عنه هيغل قائلاً: «إنّه أمرٌ يعتبر متّسقاً بحدّ ذاته ومنقذاً للفكر وثابتاً لا يطرأ عليه أيّ تغييرٍ»، كما أنّه في ذات الوقت أمرٌ مثيرٌ للحيرة وسببٌ لانحراف الفكر، ناهيك عن أنّه بذاته متضادٌّ مع الوجدان المدرك.[77]

الباحث جون فندلي[78] وصف طبيعة المذهب الشكوكي في العهود القديمة على ضوء المسيرة الديالكتيكية للروح كما يلي: «الشكوكية في الفكر الهيغلي تجسّد انعكاساً جلياً لأمرٍ لا نلمسه، وقد كان مطروحاً في الفكر الرواقي القديم بشكلٍ تلميحي»،[79] وهذا يعني أنّ هيغل بلغ بالشكوكية التفنيدية الرواقية إلى ذروتها المنطقية، وهي في هذه المرحلة تغضّ الطرف عن كلّ إقرارٍ إيجابي.

يشار هنا إلى أنّ المذهب الشكوكي ولا سيّما النمط القديم منه، يعتبر ذريعةً يتشبّث بها البعض لإثبات مسألة الإدراك الذاتي على أساس مبدأ النفي والتفنيد، ومن ثمّ يعتبرون أنفسهم في درجةٍ من الطمأنينة والاستقرار الفكري رغم قيامهم بنقض دعائم اليقين الحسّي وتفنيد نظريات الإدراك العلمي والخروج من حيطة الأخلاق الاجتماعية الثابتة،[80] والمعضلة الأساسية التي يواجهونها هنا أنّ نزعتهم الفكريّة هذه حتّى وإن شكّكت بواقع الإدراك الطبيعي للإنسان، لكنّها عاجزةٌ عن نقضه وتفنيده، وفي هذا السياق أضاف فندلي قائلاً: «الشكوكية مفتقرةٌ للدوغماتية، لكنّها في الوقت ذاته تسعى إلى نفيه ثمّ إثباته مرّةً أخرى، لذا أكّد هيغل على أنّ هذا الفكر يعاني من تناقضٍ ذاتي مشوبٍ بالجهل؛ وعلى أساس هذه الحقيقة واستناداً إلى الأصول الديالكتيكية الثابتة، تتحوّل الشكوكية إلى إدراكٍ يبرز فيه هذا التناقض الذاتي ولا يبقى مكتوماً على أحدٍ»[81].

الباحث إنوود بعد أن نقل جانباً مما ذكر في الموسوعة الفلسفية حول الموضوع، قال إنّ هيغل قد أجاد في بيان طبيعة هذا التحوّل من حيث بنيته وكيفيته، وأكّد على أنّ مضمون فكرة انفصال الإنسان المدرك عن عالم الواقع قد تكرّر مراراً في مدوّنات هيغل باعتبار أنّ عدم الاتّحاد هذا يمثّل معضلةً ناجمةً من العقل، والعقل بدوره هو الذي يضع حلاً لها. وأضاف إنوود قائلاً بأنّ النزعة الرواقية القديمة التي انطبع فيها المذهب الشكوكي قد جسّدت مساعي فاشلة لحلحلة معضلة الانفصال هذه، ناهيك عن أنّها فشلت أيضاً في التغطية عليها وتهميشها أو الالتفاف حولها. وأمّا من الناحية غير الفلسفية، فنحن بواسطة نشاطاتنا العملية قادرون على إيجاد بيئةٍ إنسانيةٍ غير طبيعيةٍ من تلقاء أنفسنا لأجل وضع حلٍّ مناسبٍ إلى حدٍّ ما للمعضلة المشار إليها، ولكن مع ذلك تبقى حجّية رأي هيغل القائل بأنّ عالم الواقع يعتبر أمراً منفصلاً عن الإرهاصات الفكريّة لكلّ مفكّرٍ.[82]

نستشفّ من كلام إنوود أنّ الديالكتيك لمختلف الإدراكات يعتبر منطلقاً لمعرفة طبيعة الفكر الرواقي الشكوكي، ولكنّ السؤال التالي يرد عليه هنا: ما هي الميزة الذاتية أو القابلية التي تجعل من الشكوكية قادرةً على إيجاد تحوّلٍ؟

الباحث جان هيبوليت[83] تطرٌق أيضاً إلى ذات الموضوع وادّعى أنّ هذا التحوّل يمكن أن يتحقّق إحدى زوايا إدراك صاحب الفكر الشكوكي، حيث قال: «إدراك صاحب الفكر الشكوكي هو في حقيقته ليس سوى إدراكٍ للنزاع الحاصل بين قابليات الروح الإنسانية وحركتها، أي إنّه إدراكٌ متحقّقٌ في رحاب نفي مطلقٍ اسمه (فكر)»، ومن ثمّ فالنفي الضمني في هذا المضمار لا يعمّ وجود ذات الشكّاك بالكامل إلا في إطار إدراكٍ سلبي،[84] وهذا النفي يعتبر نقطة انطلاقٍ أساسيةٍ للظاهراتية بأسرها لكونها الانعكاس التامّ للنشاط الإدراكي المراد منه ملء الفجوات التي يشعر الشكوكي بوجودها في نفسه.[85]

وأمّا الشكوكية القديمة، فعلى الرغم من أنّها تتّسم بقدرةٍ ذاتيةٍ كبرى على تفعيل الفكر الجدلي، لكنّها تواجه مشكلةً هنا؛ لأنّ الشكوكي بحسب هذا النمط الإدراكي حتّى وإن تمكّن من إيجاد تلاحمٍ بين أمرين منفصلين بنحوٍ ما، إلا أنّه عاجزٌ في الحقيقة عن إيجاد تلاحمٍ تامٍّ ومطلقٍ بينهما، لذلك أكّد هيبوليت قائلاً: «فلسفة صاحب الفكر الشكوكي نقضت واحدةً من الدعامتين الأساسيتين للإدراك بنفيها عالم الواقع، وضمن اللحظة التي يحدث فيها النقض أدّت إلى حدوث ازدواجيةٍ في الدعامة الأخرى؛ وهذا هو السبب الأساسي في معضلتها».[86] بإمكاننا تقرير المعضلة الشكوكية التي أشار إليها هيبوليت اعتماداً على ما ذكره في مواضع أخرى، كما يلي: صاحب الفكر الشكوكي حتّى وإن كان لديه إدراك للعنصر الذي يسفر عن حدوث تغييرٍ فكري دائمٍ، إلا أنّه عاجزٌ عن القيام بنشاطٍ فكري يتزامن فيه هذا الإدراك مع أمرٍ إدراكي يقابله.

أشرنا في القسم الأوّل من هذه المقالة إلى أنّ هيوم اعتبر الأداء العملي - النشاط التجريبي - علاجاً للفكر الشكوكي، ولو أمعنّا النظر في ما ذكره بعض شرّاح آثاره حول التضادّ الحاصل بين النظرية والتطبيق في المذهب الشكوكي القديم، سوف نتوصّل إلى نتيجةٍ فحواها أنّ هيغل يعتقد بكون هيوم أيضاً عانى فكرياً من هذا التضادّ.

الباحث ليو راوتش[87] ذكر مثالاً على التضادّ أو التعارض الحاصل في الفكر الشكوكي من الناحيتين النظرية والتطبيقية حينما ينتج لدى الشكوكي إدراكٌ سلبي، ثمّ قال: «باعتقاد الشكوكيين ... كما أنّ الاختلاف غير متحقّقٍ بين الآلهة والعبد، كذلك لا معنى لأيّ قيمٍ أقرّها المجتمع لأعضائه؛ لكنّهم في الحقيقة يعيشون في المجتمع بحسب القيم الموجودة فيه رغم أنّهم يبحثون عن وسيلةٍ لنفيها!

الفكرة المذكورة تسفر عن إيجاد إدراكٍ ازدواجيٍّ يحدث على ضوئه تناقضٌ في ذات الإنسان، وهذه هي الميزة الحقيقيّة لمسيحيّة القرون الوسطى».[88]

ويبدو أنّ صاحب الفكر الشكوكي يواجه تضادّاً ضمن إدراكه الذاتي في ذات لحظة تحقّقه، لأنّه في واقع الحال ينفي الإدراك من أساسه، لكنّه مع ذلك يبقى مدركاً؛ فهو ينكر الانطباعات الفكرية إلا أنّه يفكّر فيها![89] .

* نتيجة البحث

بعض جوانب النقد الذي ساقه فريدريك هيغل على شكوكيّة ديفيد هيوم، لا يمكن قبولها إلا إذا أذعنّا بمبادئ الفكر الهيغلي، لكنّ جوانبه الأخرى لا ترتبط بهذه المبادئ الفكرية.

الشكّ يعني التردّد في وجود انطباقٍ تامٍّ بين أحد المفاهيم وموضوعه، ورأى هيغل عدم وجود أيّ ارتباطٍ بين الصور المعقولة ومواضيعها، وبرّر ذلك قائلاً أنّ المقصود من هذا الانطباق هو ليس تطابق الصورة المعقولة مع موضوعها الأوّلي الذي يعدّ ضمنياً وذاتياً، بل المقصود منه تطابقها مع المواضيع التجريبية، وبما أنّ التجربة تعتبر ضرباً من الاختصاص المفهومي، نتيجةً لذلك فالموضوع الذي يتمخّض عنها يكون صريحاً وذاتياً وشأناً من شؤون الإدراك.

وإذاً، لا يكون نقد هيغل وجيهاً استناداً إلى ما ذكر إلا إذا أقررنا بكون الموضوع شأناً من شؤون الإدراك -من متعلّقاته- وأمّا بالنسبة إلى الجوانب النقدية الأخرى التي طرحها، بإمكاننا تشذيبها إلى حدٍّ ما، بحيث يمكن قبولها كنقدٍ واردٍ على شكوكية هيوم دون أن نضطرّ إلى الإذعان بمبادئه الفكرية التي تبنّاها.

ومن جملة الأمور التي تمّ تسليط الضوء عليها في هذه المقالة أنّ الإدراك برأي هيغل يعدّ أمراً متعالياً بذاته، وهذه الميزة المتعالية ليس من شأنها بتاتاً أن تتناغم مع الترديد الموجود في الفكر الشكوكي الذي هو في واقعه أمرٌ حاصلٌ في مقابل الأمور الحاصلة الأخرى، إذ إنّ صاحب هذا الفكر يجزم برأيه -الحاصل- حينما يروم تفنيد الرأي المقابل -الحاصل- وفي هذا السياق نجح هيغل حقّاً ضمن نقده لدى تعميمه الشكوكية على ذاتها وتسريتها إلى باطنها، لكنّه فشل من ناحيةٍ أخرى عندما حاول وضع حلٍّ لأهمّ المعضلات التي استكشفها بنفسه في شكوكية هيوم، وذلك كما يلي: ذكرنا في تفاصيل المقالة أنّ شكوكية هيوم تتقوّم من أساسها على رؤيته الخاصّة بالنسبة إلى العقل وطبيعة ارتباطه بالغريزة أو الرغبة، ومن جملة النقد الذي طرحه هيغل عليه أنّه لا يعتبر الحقيقة ماثلةً في الفكر، بل أكّد على تجسّدها في نطاق الغريزة والرغبة، ومن هذا المنطلق اعترض عليه متسائلاً: لماذا اعتبر هيوم العقل فارغاً بحدّ ذاته ولا يمتلك أيّ أصولٍ أو معاييرَ خاصّة به؟

ومن جملة الأمور التي تطرّق إليها الباحثان في هذه المقالة أنّ الأمر الذي يسوق الديالكتيك الهيغلي نحو الأمام، هو الجانب الغريزي واللاشعوري للعقل، ومن هنا بالتحديد تحوّلت جدليّته الإبستمولوجية إلى جدليّةٍ في الرغبة الغريزية، حيث أكّد على أنّ ارتكاز الغريزة على مسألة «إدراك الآخر» يؤدّي تدريجياً إلى تحوّل الحركة نحو المعرفة المطلقة لتصبح في ما بعد أصلاً اجتماعياً وتأريخياً، أضف إلى ذلك يمكن القول أنّ هيغل عبر لجوئه إلى النزعة البراغماتية -حينما حاول وضع حلٍّ لمعضلة البحث- واجه ذات المشكلة الشكوكية التي واجهها سلفه هيوم، وذلك لأنّه اعتبر العقل سبباً في الانفصال الحاصل بين صاحب الإدراك الذاتي وعالم الواقع، وفي الحين ذاته دعا إلى التمسّك بالعقل إنْ أُريد وضع حلٍّ لهذه المعضلة.

خلاصة الكلام أنّ هيغل بشكلٍ عام لجأ إلى مبادئَ تطبيقيّةٍ ضمن استراتيجيّته التي اعتمد عليها لإثبات صواب متبنياته الفكرية.

--------------------------------

[1]*ـ عضو الهيئة التعليمية في جامعة العلامة الطباطبائي.

ـ حائز على شهادة دكتوراه في الفلسفة من جامعة العلامة الطباطبائي ـ إيران.

ـ المصدر: المقالة نشرت في مجلة «ذهن» ، السنة 2014م، العدد 60، الصفحات 65 إلى 86.

ـ تعريب: أسعد مندي الكعبي.

[2] - جوزيف ماك كورني، هگل وفلسفة تاريخ (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية أكبر معصوم بيكي، إيران، طهران، منشورات «آگه»، 2005م، ص 59 - 60.

[3] - المصدر السابق، ص 59.

[4] - المصدر السابق.

[5] - المصدر السابق، ص 111.

[6] - event

[7] - المصدر السابق.

[8] - المصدر السابق، ص 113.

[9] - expectation

[10] - experience

[11] - المصدر السابق، ص 114.

[12] - المصدر السابق، ص 119.

[13] - argument.

[14] - propensity .

[15] - Matter of fact .

[16] - soul .

[17] - المصدر السابق، ص 123 - 124.

[18] - Gottlob Ernest Schulze .

[19] - Kenneth R. Westphal .

[20] - Westphal Kenneth R.; “Hegel`s manifold response to skepticism” in the phenomenology of spirit, proceedings of the Aristotelian society, 2003, 103.2, p. 160.

[21] - كريم مجتهدي، درباره هگل وفلسفه او (باللغة الفارسية)، إيران، طهران، منشورات أمير كبير، 1991م، ص 64.

[22] - Hegel F. W. G.; Lectures on the History of philosophy, vol. 1, Tr. E. S. Haldane and Thoemmes Press, Bristol, England, 1999, vol. 3. Pp. 363 - 364.

[23] - Ibid, p. 371.

[24] - notion.

Ibid, p. 373.

[25] - Ibid, pp. 374 - 375.

[26] - C. Taylor .

[27] - Sittlichkeit .

[28] - Taylor Charles, Hegel; Cambridge University Press, U. K., 5 - 5 - 1977, p. 527.

[29] - Tom Rockmore .

[30] - Foundationalism .

[31] - Rockmore Tom, on Hegel`s Epistemology an Contemporary Philosophy, Humanities Press, Newjersey, 1996, p. 29.

[32] - Intuitionism .

[33] - Circularity .

[34] - Ibid, pp. 15 & 29.

[35] - Epistemological Circularity.

[36] - Ibid, p. 29.

[37] - Ibid.

[38] - Kenneth R. Westphal .

[39] - Copy theory.

[40] - Hamman .

[41] - Jacobi .

[42] - W. T. Krug .

[43] - Facts .

[44] - Westphal Kenneth R.; “Hegel`s manifold response to skepticism” in the phenomenology of spirit, proceedings of the Aristotelian society, 2003, 103.2, p. 160.

[45] - justification .

[46] - Knowledge.

[47] - event .

[48] - Holistic.

[49] - Ibid, p. 161.

[50] - individuation .

[51] - Ibid, pp. 162 - 163.

[52] - كريم مجتهدي، درباره هگل وفلسفه او (باللغة الفارسية)، إيران، طهران، منشورات أمير كبير، 1991م، ص 63 - 64.

[53] - بيتر سينجر، هگل (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية عزت الله فولادوند، إيران، طهران، منشورات «طرح نو»، 2000م، ص 103.

[54] - Howard P. Kainz .

[55] - pathway of despair .

[56] - Howard P. Kainz; Hegel`s Phenomenology; part 1, Analysis and Commentary (pt. 1), Ohio University Press, 1976, p. 25.

[57] - Ibid, p. 27.

[58] - aufhebung .Ibid.

[59] - M. J. Inwood .

[60] - Inwood M. J.; Hegel, Routledge and Kgan Paul. 6, 1983, p. 130.

[61] - Howard P. Kainz; Hegel`s Phenomenology; part 1, Analysis and Commentary (pt. 1), Ohio University Press, 1976, p. 25.

[62] - Hegel F. W. G.; Phenomenology of spirit; tr. A. V. Miller, intro. By J. N. Findlay , Clarendon Press, 1977, p. 136 - from: Howard P. Kainz; Hegel`s Phenomenology; part 1, Analysis and Commentary (pt. 1), Ohio University Press, 1976, p. 25.

[63] - Howard P. Kainz; Hegel`s Phenomenology; part 1, Analysis and Commentary (pt. 1), Ohio University Press, 1976, p. 26.

[64] - the all .

[65] - Ibid, p. 27.

[66] - Loewenberg J. [editor]; Hegel Selections, Charles Scribners Sons; New York, 1957, p. 33.

[67] - Ibid, p. 34.

[68] - Jacques D. Hondt .

[69] - جاك دونيت، درآمدي بر هگل (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية محمّد جعفر بوينده، إيران، طهران، منشورات «فكر روز»، 1998م ، ص 106.

[70] - Peter Singer .

[71] - بيتر سينجر، هگل (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية عزت الله فولادوند، إيران، طهران، منشورات «طرح نو»، 2000م ، ص 105 - 106.

[72] - Inwood M. J.; Hegel, Routledge and Kgan Paul. 6, 1983, p. 130.

[73] - جوزيف ماك كورني، هگل وفلسفة تاريخ (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية أكبر معصوم بيكي، إيران، طهران، منشورات «آگه»، 2005م ، ص 61.

[74] - المصدر السابق، ص 62.

[75] - Howard P. Kainz; Hegel`s Phenomenology; part 1, Analysis and Commentary (pt. 1), Ohio University Press, 1976, p. 58.

[76] - Inwood M. J.; Hegel, Routledge and Kgan Paul. 6, 1983, p. 73.

[77] - Hegel F. W. G.; Phenomenology of spirit; tr. A. V. Miller, intro. By J. N. Findlay , Clarendon Press, 1977, p. 126.

[78] - John N. Findlay.

[79] - جون إن. فندلي وجون بربيج، گفتارهايي در باره فلسفه هگل (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية حسن مرتضوي، إيران، طهران، منشورات «چشمه»، 2008م ، ص 123.

[80] - المصدر السابق.

[81] - المصدر السابق، ص 124.

[82] - Inwood M. J.; Hegel, Routledge and Kgan Paul. 6, 1983, pp. 103 & 106.

[83] - Jean Hyppolite .

[84] - Ibid.

[85] - جان هيبوليت، ناخشنودي آگاهي در فلسفة هگل (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسي باقر برهام، إيران، طهران، منشورات مؤسّسة «آگاه»، 2008م، ص 210، بتصرّفٍ من قبل كاتبي المقالة في ترجمة مصطلحي الروح والنفي.

[86] - المصدر السابق، ص 213.

[87] - Leo Rauch .

[88] - ليو راوتش، فلسفه هگل (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية عبد العلي دستغيب، إيران، عبادان وأصفهان، منشورات «پرسش»، 2003م، ص 56.

[89] - أبو القاسم ذاكر زاده، فلسفه هگل (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية، إيران، طهران، منشورات «إلهام»، 2009م، ص 113 - 115.