البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

فلسفة الإنكار، نقد نظر هيغل إلى الإسلام والشرق

الباحث :  محمود حيدر
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  14
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2019 م / 1440 هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 16 / 2019
عدد زيارات البحث :  1163
تحميل  ( 425.573 KB )
يقترب هذا البحث مما  يختزنه العقل الغربي الحديث من ريبٍ حيال الآخر الحضاري والثقافي والديني. ولئن أخذت «الريبة» الغربيّة بالظهور على هذا النحو النافي للغير بدءاً مما سمي بعصر التنوير، فقد وجدت أصولها المعرفيّة في قلب الفلسفة المؤسِّسة للحداثة. هذا البحث يسعى إلى تظهير ما يسميه الكاتب بـ «فلسفة الإنكار» من خلال ما ذهبت إليه تنظيرات ميتافيزيقا الحداثة حيال الشرق عموماً والإسلام على وجه الخصوص. ولقد ارتأى مقاربة رؤية هيغل لتكون إحدى التمثّلات المؤسِّسة لفلسفة الإنكار، وبما تنطوي عليه من إبطالٍ لمشروعية حضور الآخر في المنظومة الفلسفية والمعرفية للحداثة الغربية.

المحرر

--------------------------

في عالمنا المعاصر تحيُّزان حضاريان حيويان، الغرب والإسلام، يتاخم واحدهما الآخر، متاخمة الضد للضد، ولا يلتقيان إلا لقاء النقيض للنقيض. وبحثنا يقوم على مقاربة هذه المتاخمة، وتأصيل طبيعة التقابل المعقد والإشكالي بين هذين التحيُّزين، متَّخذين من البيان الفلسفي للحداثة بعامة، ومن خطبة هيغل على وجه الخصوص منفسحاً لاستقراء تشكلات الوعي الغربي حيال الإسلام والشرق. وعليه يسعى بحثنا إلى تظهير ما يختزنه العقل الفلسفي الغربي من تنظيرات سوَّغت للتعالي على كل ما لا ينتسب إلى نقائه الحضاري، وراحت توظف منجزات الحداثة لفرض الغلبة عليه.

مؤدّى الفرضيّة التي يتأسس عليها مسعانا، أن التفكير العنصري هو حيِّزٌ معرفيٌّ متأصِّلٌ في فلسفة التنوير. ولو كان من استدلالٍ أوّليٍّ على هذا المدّعى لتيسّر لنا ذلك في ما درج عليه عدد من الرواد المؤسِّسين فقد انبرى جمعٌ من فلاسفة وعلماء الطبيعة في القرن الثامن عشر من كارل فون لينيه (kARL VON LINNE) إلى هيغل (HEGEL)[2]، وإلى من تلاهما من فلاسفة ومفكِّري الحداثة الفائضة، ليضعوا تصنيفاً هَرَميًّا للجماعات البشريّة، على مبدأ الأرقى والأدنى وجدلية السيد والعبد، الشيء الذي كان له عظيم الأثر في تحويل نظريّة النشوء والارتقاء الداروينيّة -على سبيل المثال- إلى فلسفةٍ سياسيّةٍ عنصريّةٍ في الأزمنة المعاصرة.  أما أحد أكثر التصنيفات حدةً للمجتمعات غير الغربية، فهي تلك التي تزامنت مع نمو الإمبرياليات العابرة للحدود وتمدُّدها نحو الشرق، وتحديداً باتجاه الجغرافيات العربية والإسلامية. من تمظهرات هذا التمدد على وجه الخصوص، ملحمة الاستشراق التي سرت كترجمةٍ صارخةٍ لغيريّةٍ إنكارية لم تشأ أن ترى إلى كلّ آخرَ حضاريٍّ إلا بوصفه كائناً مشوباً بالنقص. لهذا ليس غريباً أن تتحول هذه الغيرية الإنكارية إلى عقدة «نفسٍ حضاريةٍ» صار شفاؤها أدنى إلى مستحيل. وما جعل الحال على هذه الدرجة من الاستعصاء أنّ العقل الذي أنتج معارف الغرب ومفاهيمه، كان يعمل في أكثر وقته على خطٍّ موازٍ مع السلطة الكولونياليّة، ليعيدا معاً إنتاج أيديولوجيا كونيّة تنفي الآخر وتستعلي عليه[3].

المسألة الأكثر استدعاءً للنقاش في هذا الموضع، تتمثل في التأسيس الميتافيزيقي لثقافة الغرب الحديث حيال الغير. فقد كان للتنظير الفلسفي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مفعولاً حاسماً في ترسيخ ثقافة الإنكار. وثمة من المؤرخين من عزا اختفاء أثر فلسفة آسيا وأفريقيا من صرح الفلسفة الغربيّة إلى تظافر عاملين:

الأول: الذهنية الحصرية لبعض مدوِّني الفلسفة لمَّا عمدوا إلى تظهير الفلسفة كخطٍّ ينتهي امتداده عند نقد المثاليّة الكانطيّة للميتافيزيقا.

العامل الثاني: التفكير الاستعلائي لدى رهطٍ من مفكري وفلاسفة أوروبا لما حصروا الفلسفة بالعرق الأبيض.

مما ينبغي أن يذكر في هذا المنفسح ما انبرى إليه إيمانويل كانط حين قارَبَ مسألة الأعراق بتراتبيّةٍ هي أشبه بالطريقة التي قوربت فيها كائنات الطبيعة.[4]:

فلقد صنّف كانط المجموعات البشرية وفق مراتبَ وصفاتٍ كالتالي:

ـ في المرتبة الأولى، يتصف  العرق الأبيض حسب كانط بجميع المواهب والإمكانيات.

ـ في المرتبة الثانية: يتصف الهنود بدرجةٍ عاليةٍ من الطمأنينة والقدرة على التفلسف، وهم مفعمون بمشاعر الحب والكراهية، ولديهم قابليّةٌ عاليةٌ للتعلم. وأما طريقة تفكير الهندي والصيني فإنها تتسم بحسب كانط بالجمود على الموروث، وتفتقد القدرة على التجديد والتطوير.

ـ في المرتبة الثالثة: يتصف الزنوج بالحيويّة والقوة والشغف للحياة، والتفاخر، إلا أنهم  عاجزون عن التعلم رغم كونهم يحوزون على قابليّة التدريب والتلقين.

ـ في المرتبة الرابعة والأخيرة: يأتي سكان أميركا الأصليون، وهؤلاء غير قادرين على التعلم ولا يتسمون بالشغف، وهم ضعفاء حتى في البيان والكلام[5].

هذا هو رأي كانط الذي يُعتبر بداهةً من بين أشهر أربعة أو خمسة فلاسفة في تاريخ الغرب الحديث. سوى أنّ الأمر لم يقتصر عليه أو على من وافقوه على مدرسته من بعد، بل ثمة من يؤيّد هذا الرأي من المعاصرين الذين يجهرون بعدم وجود فلسفةٍ غير غربيّةٍ، وأنّ الموروث الفكري لتلك الشعوب إنّما هو محض صدفةٍ تاريخيّة.

معضلة الهوية المنكِرة للغير

إنّها معضلةُ الهويّة التي تسلّلت إلى روح الحداثة، فأمسكت بها ولمَّا تفارقها قط. ولسوف يظهر لنا ذلك اضطرابَها المزمن أمام عالمٍ متعدّد الأديان والثقافات والأعراق. فلقد تشكّلت رؤية الغرب للغير على النظر إلى كلّ تنوعٍ حضاريٍّ باعتباره اختلافاً جوهرياً مع ذاته الحضارية. ولم تكن التجربة الاستعماريّة المديدة في الجغرافيا العربيّة والإسلاميّة سوى حاصل رؤيةٍ فلسفيّةٍ تمجّد ذاتها وتُدنئ من ذات الغير. من أجل ذلك سنلاحظ كيف أنشأ فلاسفة الحداثة وعلماؤها أساساً علمياً معرفياً  لشرعنة الهيمنة على الغير، بذريعة تمدينه وتحديثه.

ما يضاعف من المعضلة المشار إليها ظهور أعراض «أزمة هويتيّة» (Crise Identitaire) عميقة الغور يعيشها العالم الغربي المعاصر، من دون أن يدرك أبعادها وحقائقها الواقعية. تبرز هذه الأعراض بشكلٍ خاص في التوتر الواضح بين تضخّم موقفه المرتبط بالحضارة الكونيّة، والطابع المحوري الذي تتخذه أزمة الهويّة فيه، وكذلك في علاقته ببقيّة العالم، وحيث تُختزلُ هذه العلاقة بالتسليع وإرساء الأمن وتعميم الطابع الإنساني، وفي قَلَقِهِ وضيقه الشديد حيال التنوّع الثقافي والإثني والديني[6].

 نحن هنا لسنا بإزاء مُشكلٍ معرفيٍّ مستحدث. فلطالما شكّل «العالم الغربي» موضوع تساؤلاتٍ متعدّدةٍ حول وجوده وتعريفاتٍ شتّى لهويته. جرى استدعاء التاريخ والجغرافيا والدين والثقافة إلى غيرها من العناصر من أجل تركيب الهويّة التي رأى العالم الغربي نفسه ورآه العالم من خلالها. غير أنّ المفهوم الأنطولوجي الواقع في قلب تعريفه الذاتي، والذي استقت منه كلّ هذه العوامل معناها ومحتواها، هو مفهوم عالميّة حضارته. لقد طرح الغرب نفسه عبر التاريخ كمفهومٍ عالميٍّ، وبالتالي كنموذجٍ معياريٍّ وتعبيرٍ نهائيٍّ عن التطور البشري. ولقد بدا بوضوح أنّ جغرافية الغرب الأوليّة التي تمثّلت تعييناً بأوروبا أعطت لنفسها «رسالة تحضيريّة(Mission Civilisatrice)»[7]؛ ففي علاقة الغرب مع بقية شعوب العالم، بدت عدساته الثقافيّة مع الوقت مصبوغةً برؤيةٍ عالميّة. وهذا ما عرف بـ «العالميّةـالمرآة»، التي تعتبر أنّ «كل ما يشبهني هو عالميٌّ». وقد انبنت رؤيته التاريخيّة للغيريّة على النظر إلى الآخر باعتباره كائناً مختلفاً بصورةٍ جذريةٍ. وعليه راح فلاسفته وعلماؤه، لا سيما علماء الطبيعة، يقدمون أساساً علميّاً وفلسفيّاً لشرعنة «رسالته التحضيريّة» وفق هرميّة الثقافات والأعراق والأجناس حسب بعض علماء الاجتماع، فقد تبلورت «العالمية المرآة» في الوعي التاريخي للغرب من خلال ثلاثة مجالات حديثة: حقوق الإنسان، والعمل الإنساني، والاقتصاد[8].

 ففي إطار ديناميكيّة المركزيّة التاريخيّة التي نصّبها نموذج الحضارة الغربي لنفسه، تكتسب عالمية حقوق الإنسان شرعيتها بفعل السمة العالمية للنموذج الغربي نفسه. بمعنى أنّ الحضارة الغربيّة هي المكان الوحيد والمتميّز والحصري الذي تنبثق منه القيم التي تحدّد وتعبّر عن المرحلة النهائية من التطور البشري. لذا صارت "الرسالة التحضيريّة" للغرب تعبيراً طبيعياً عن هذه الشرعيّة الأنطولوجيّة. وعلى هذا النحو من التنظير والممارسة جرت ترجمة هذه الشرعيّة المدّعاة عبر خطبةٍ إيديولوجيّةٍ تقوم على مسلّمتَين حول علاقة الغرب بالعالم وهما:

الإيمان بعالمية القيم الغربية.

المماثلة القطعيّة والتطابق بين حقوق الإنسان والقيم الغربيّة.

 تأسيساً على هاتين المسلَّمَتين، صار يُنظَر إلى أيّ معارضةٍ سياسيّةٍ للقيم الغربية على أنّها تشكيكٌ بعالميّة حقوق الإنسان. ومن الوقائع الدالة على ذلك استخدام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كأداةٍ إيديولوجيّةٍ تستهدف المعارضَين السياسيَيْن التاريخيَّين للغرب:  وهما العالم الشيوعي والعالم الإسلامي المستعمَر. ما تجوز الإشارة إليه في هذا الصدد أنّ نظريّة نهاية التاريخ التي أنتجتها النيوليبرالية في نهاية القرن العشرين المنصرم، شكلت التعبير الأبلغ عن مفهوم «العالميةـ المرآة» من جهة كونها تسلّم بأنّ النصر الأيديولوجي النهائي سيكون لليبراليّة السياسيّة والاقتصاديّة.

لنر الآن كيف جرى التنظير الغربي حيال الشرق والإسلام، انطلاقاً من تظهير النموذج الأمثل للتاريخ البشري الذي اشتغلت عليه الهيغلية وترسّخ عميقاً في الفلسفة السياسية المعاصرة...

الشرق كآخرَ ناقصٍ

عند هيغل كما سنرى بعد هنيهة، سوف يظهر الشرق كآخرَ سلبيٍّ يعتريه النقص من الوجهين الأنطولوجي والفينومينولوجي، فالشرق ـ تبعاً للرؤيوية الهيغلية ـ ليس مجرد تناظر جغرافي مع الغرب، وإنّما هو تحيُّزٌ جيو- دينيٌّ وحضاريٌّ نقيضٌ لروح الغرب.

في التراث الاستشراقي الذي حفر سبيله بالتوازي مع صعود الحداثة وبداية تشكُّل المركزيّة الأوروبية سوف نقرأ العلامات الكبرى التي تأسس عليها وعي الغرب حيال الشرق عموماً، وتجاه الإسلام على وجه الخصوص. من أبرز تلك العلامات، النظر إلى الشرق كنقيضٍ وجودي للغرب، أي بما هو الوجه المغاير للعقلانيّة، والعلم، والتطور، والنمو الاقتصادي، والازدهار. وبتعبيرٍ آخر، لقد انبنى هذا الوعي على قاعدةٍ مؤداها أنّ كلّ عناصر التفوّق التي تحققت في الغرب كانت مفقودةً في الشرق. بنتيجة ذلك أهمل حقل البحث العلمي الاجتماعي والسوسيولوجي بشكلٍ أساسيٍّ إجراء بحوثٍ حول التعقيد، والتغاير، والتحولات الكبرى في ما كان يسمى «الشرق»[9]. فمفاهيم مثل المجتمع المدني الإسلامي، والأيديولوجيات السياسية الإسلامية، والإسلام الحديث، كانت مثار جدلٍ وتريُّب. وقد رفضها عددٌ من باحثي العلوم الاجتماعيّة المعاصرين والكلاسيكيين. وهذا يعود إلى أنّ الشرق بما هو شرقٌ لم يتسنّ له أن يسري بصورةٍ طبيعيّةٍ في الوعي التاريخي الغربي. ذلك بأن ما ترسَّخ في هذا الوعي هو صورة شرقٍ انتجه الغرب وفق منطقِهِ وتبعاً لرغباته.

في حقبةٍ لاحقةٍ على هيغل بدا تصوّر عالم الاجتماع الأميركي من أصل ألماني ماكس فيبر (Max Weber) حول «السوسيولوجيا الخالية من القيم»[10]، امتداداً لهذه العقدة حيال الشرق. كان فيبر يأخذ بفَرَضيّةٍ تقول أنّ حقل إنتاج المعرفة هو جزءٌ لا يتجزأ من إنتاج الروابط السلطويّة في المجتمعات الحديثة. وهذه الفرضيّة نجدها أيضاً لدى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (M Foucault)، وإن لم تندرج في السياق العنصري نفسه. ففي معرض تأصيله لهذه الفرضية يرى فوكو تلازماً بين السلطة والمعرفة، فحيث لا يوجد علاقةٌ سلطويّةٌ من دون القانون الملازم لحقلٍ معرفي، لا توجد معرفةٌ لا تسلّم بالعلاقات السلطويّة وتشكّل هذه العلاقات في الوقت عينه[11]. كذلك يؤكد أن «السلطة تنتج معرفة»، فإحداهما تحتاج الأخرى من أجل المحافظة على النظام الذي يخدم السلطة والمعرفة معاً، وعليه فإنّ انتصار العقل هو انتصارٌ لتحالف السلطة والمعرفة. فالتحالف بين هذين الجناحين سيؤدي إلى وجود «الآخر»، الذي يمكن أن يكون هو نفسه «المجنون»، و«المجرم»، و«المنحرف». وهذه الثلاثيّة من النعوت سوف تُخلع على الشرق كنقيضٍ حضاريٍّ للغرب. وهكذا تظهر المعادلة على الشكل التالي: الإنسان العاقل الحديث -حسب فوكو- هو حامل المعرفة والسلطة، ولذا فإنّه يحتاج إلى الجنون من أجل تعريف العقل السوي والحفاظ عليه. وعليه فلا فرق إن كان هذا «الإنسان العاقل» بنيةً حديثةً، أو تطوراً للإنسان العاقل القديم الذي تمتد جذوره إلى اليونان القديمة. فالعقل والجنون كانا ومازالا متلازمين كما يبين جاك ديريدا.[12] ويمكننا من خلال اتباع سير النقاش هذا، أن نقول بأنّ تصور الغرب لذاته، كان مرتبطاً مباشرة وبالضرورة بالبنية المنحرفة لـ «الآخر». وبالتالي فإن إيجاد نموذجي الشرق والغرب هو أحد صيغ السيطرة الغربية التي وجدت في الاستشراق سبيلاً بيِّناً لإنجاز مراميها، فالاستشراق خطابٌ مؤلّفٌ من شبكةٍ من تصنيفات وجداول ومفاهيم يتم من خلالها تعريف الشرق والسيطرة عليه في الوقت عينه. وكل هذا على قاعدةٍ تقول: «أن تعرف هو أن تُخضِع». وعليه كان للثقافة العنصريّة الإمبريالية دورٌ حاسمٌ في تكوين التصور الغربي للإسلام وتحليل «المجتمعات الشرقية».[13] وقد لاحظ إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق» السياسات الاستعماريّة والغربيّة المعادية للإسلام التي تشكلت بسبب التنميط الاستشراقي وكيف استخدمه الغربيون كخطاب إخضاعي. فأوروبا التي عرَّفت الشرق كانت مطبوعةً بما يسمى الشرق وكان لها علاقةٌ مزدوجة به. لم يكن هذا بسبب وجود الشرق على مقربةٍ من أوروبا، بل لأنّ أوروبا وجدت ضالَّتها هناك، في المستعمرات الأغنى والأقدم، مصادر حضارتها ولغتها، ومنافسها في الدائرة الثقافيّة، وواحدة من أكثر الصور الاعتيادية لـ «الآخرين الحقيقيين». لقد بدأت أوروبا مشروعها السوسيو- بوليتيكي في تكوين هويّةٍ أوروبيّةٍ أو غربيّةٍ منذ مطلع القرن السابع عشر في كلّ شيء: العقلانيّة، والديمقراطيّة السياسية، والفردانية. وباختصارٍ، كان يفترض أن تبدأ أوروبا عند حدود اليونان مقابل الشرق – المجال الجغرافي العامر الذي قدم إسهاماتٍ ثقافيّةً واجتماعيّةً وسياسيّةً كبيرةً لكلّ العالم. فقد تبيّن أن كل الخصائص التي ساهمت في تمييز الغرب عن باقي العالم، مثل العلم، والفلسفة، والديمقراطية، كان لها جذورٌ في اليونان القديمة.[14] وكان ثمة تجاهلٌ متعمّدٌ للتأثير غير الغربي  أي التأثير الشرقي كما يسميه التراث الغربي لفلسفة العلم. وكما عبّر كنغ (King): «يبدأ كل تأريخٍ للفلسفة الغربية مع اليونانيين، ويتجاهل أي تأثيرٍ إفريقيٍّ وشرقيٍّ على اليونانيين القدامى. والأهم في هذا هو غياب الإشارة إلى الدور الذي قام به «تراث الأسرار» المصري والشرقي في تشكيل المقاربات والأفكار الفلسفية اليونانية»[15].

هيغل كمؤسس لفلسفة الإنكار

لم تفلح الحداثة في تجاوز الأفق الجيو- ديني لأوروبا وهي تصوغ فلسفتها السياسية. وحين أُبعدت الكنيسة عن عرشها السياسي ظلّت المسيحيّة حاضرةً ولكن بروحها الأيديولوجي في مجمل المنجزات المعرفيّة والفلسفيّة، سواءً ما تعلق منها بمعرفة ذاتها الحضارية، أو لجهة التعرُّف على صورة الآخر وما تعلق بهذه الصورة من أحكامٍ. تلقاء هذا الحضور، سيظهر الإسلام في الفلسفة السياسيّة التي أسهم هيغل في رسم معالمها كآخرَ مستنكرٍ. ومع الهيغلية بصفةٍ خاصةٍ تموضعت رؤية الغرب الفلسفي إلى الإسلام بوصفه شرقاً. ثم شيّدت على هذا التموضع تناظراً بين غربٍ ممتلئٍ بلاهوته ومزهوٍّ بحداثته، وشرقٍ هو بالنسبة إليها مجرد مكان فسيح لامتحان رغباتها.

في محاضراته التي ألقاها عام 1831 تعدّدت إشارات هيغل إلى الإسلام، لكنّه كان لا يزال بالنسبة إليه على هامش تاريخ الأديان[16]. في تلك المحاضرات لم تكن رؤيته للإسلام حاصل دأبٍ ذاتيٍّ في التعرف على واحد من أبرز أديان الشرق. بل هو نتيجة تحقيقات استشراقيّةٍ ولاهوتيّةٍ في الغالب الأعم. فقد استعان هيغل ببعض هذه التحقيقات ليعزّز متونه بهوامش عن الشرق والإسلام في سياق محاضراته في فلسفة التاريخ. وما يجدر ذكره في هذا الصدد أن ما سمي بـ «علم اللاهوت المتحرّر» للقرن التاسع عشر، الناشئ عن التلاقي بين ليبراليّة المجتمع المدني الأوروبي وبين علم اللاهوت الإنجيلي، قد وَجَدَ بشائره التاريخيّة تحديداً في علم اللاهوت عند شلاير ماخر وفي فلسفة الدين لدى هيغل.

لقد تناول هيغل تطور التاريخ البشري من زاويةٍ غايةٍ في العلمانية. حدث هذا في الوقت الذي كان فيه اهتمام الناس متوجهاً أكثر فأكثر نحو هذا العالم، وليس نحو ذلك العالم. وعن طريق جعله الجلال الإلهي دنيويًّا بشكلٍ عميقٍ، وبشريّاً بدرجةٍ كبيرةٍ، أكد في «محاضراته في فلسفة التاريخ» أنّ الروح المتميّزة تنسق بين المجتمع البشري وثقافته.  وبالنسبة لهيغل يتعلق الأمر فقط بتظاهراتٍ ومراحلَ للروح العالميّة، وهي منظمةٌ وفقاً للمعيار الزمني أو الدنيوي. من أجل ذلك يقول في كتابه «فينومنولوجيا الروح» (في عام 1807) أنّ الروح العالميّة لا يمكن أن تحقق إمكانياتها الكاملة إلا إذا غاصت بنفسها في الشروط المحدّدة للمكان والزمان، وهي بهذا الشكل تتحقق على أكمل وجه في العقل البشري[17] وطبقاً لرؤية هيغل فكلّ ما يجري في العالم يمكن بحثه على مستوى التطور التاريخي الذي يحمل معناه الخاص به ويحمل نهايته داخل ذاته. والتاريخ هو نوع من المشهد المسرحي بمعنى تنفيذ أو تحقيق ذلك الموجود في حالة كُمون، ونهاية هذه العملية هي الحرية التي يتم تعريفها بأنها التحقيق الكامل لجوهر وجود الإنسان في الفنّ والفكر وفي الحياة السياسية. والسبل التي بها أو من خلالها تحقق الروح ذاتها هي أهواء واهتمامات بعض أفراد البشر. ومن هنا فإنّ التاريخ البشري يتألف من مراحلَ متباينةٍ، وفي كلّ مرحلةٍ من هذه المراحل تبدي الروح العلميّة ذاتها في إحساسٍ أو إرادةٍ قوميّةٍ خاصة. وهذه الروح مسيطرةٌ في زمانها وعصرها، ولكن لها قيودها التي تتناقض مع تلك القيود التي تقيمها الروح الجديدة لدى شعب آخر، وإذا حدث شيء كهذا فقد انتهى دور الإحساس القومي الذي كان قد برز في المرحلة السابقة[18].

ولكن أين المسلمون أو العرب في هذه العملية التاريخية؟

في منظور «فلسفة التاريخ الهيغلية – ينتمي العرب والمسلمون إلى الماضي في إطار تطور الروح البشرية. فلقد حققوا مهمتهم بالحفاظ على الفكر الفلسفي الإغريقي ونقله، أي بتسليم شعلة التطور الحضاري إلى الآخرين[19].

قد يعود السبب في عدم دقة التصور الهيغلي حيال الإسلام ـ حسب عدد من الباحثين ـ إلى خلطٍ جهولٍ وقع فيه هيغل فلم يميز بين الإسلام والأتراك العثمانيين، أو على نحوٍ أدق بين الإسلام بوصفه ديناً وحيانياً ورؤيةً شاملةً للوجود والحياة الإنسانية وبين بعض الممارسات التاريخيّة لقسمٍ من أتباعه.  ولقد كان على هيغل بوصفه فيلسوفاً كبيراً أن يعمل على تحرير التصور الغربي للإسلام، حتى يبرأ الأصل من شبهات الصور المزيفة له[20].

ومع أنه لم يفعل ذلك فقد اضطر هيغل في بعض أعماله الفلسفية إلى النظر إلى الإسلام كدينٍ أسوةً بنظره إلى اليهودية والمسيحية.

وعلى الرغم من أنّه لم يخصّص الإسلام بدرسٍ فائضٍ في محاضرته حول فلسفة الدين، إلا أنّ حديثه عن الشرق كان بمثابة أطروحةٍ شكَّل الإسلام أحد أبرز محاور هندستها الفلسفية. فالإسلام في نظره هو اتخاذ المبدأ الشرقي في أسمى صورة، ولكن معناه الحقيقي لا يتضح إلا متى وضع في فلسفة التاريخ الشامل، وبالتحديد في نطاق العلاقة بين الشرق والغرب الذي يشكل الإسلام أحد طرفيها، وذلك باعتبار التاريخ مادةً حيةً قائمةً بذاتها ومؤكدةً لوجودها من خلال تطورها الفعلي، ولكنها لا تزال بصدد اكتمال حلقتها الجلية، بانتظار الشكل المنظم حيث تتحقق وحدة الفكر والمادة، ووحدة العقل والواقع. وهكذا جاءت تأملات هيغل عن الإسلام والشرق مشبعةً بأفكارٍ لا يستهان بها من الفكر التاريخي الغربي وتؤثر على العلاقات التي تنحكم إليها هاتان الثقافتان[21].

رؤية هيغل الجيو ـ تاريخية للإسلام

تنطلق الرؤية الهيغلية للإسلام من منظور جيو – تاريخي للشرق، لتنتهي مقاربةً الإسلام كدينٍ في سياق معياريّةٍ مسبقةٍ تقوم على مركزيّة العرق الجرماني من جهةٍ ومركزيّة المسيحيّة بصيغتها البروتستانتيّة من جهةٍ ثانيةٍ. لكن علينا قبل أن نعرض إلى الحكم الإقصائي الذي أصدره حيال الإسلام، تفترض أمانة النقل والتحليل، بيان المنهج الذي تأسست عليه رؤية هيغل للإسلام. في هذا الصدد سوف يكون علينا أن نلحظ المعياريّة المركبة لتلك الرؤية، ونعني بها معياريّة الفيلسوف ومعياريّة المسيحي البروتستاني. في المقتبسات التالية من نصوصه النادرة حول الإسلام والشرق قد نتبين بعض النوافذ الآيلة إلى التعرف على رؤيته ومواقفه في هذا الاتجاه:

أولاً: إنّ هيغل لم ينء عن الاستقراء الموضوعي للإسلام لما نبّه إلى التعامل معه لا كمجرَّد ظاهرةٍ متواضعةٍ وإنّما كـ «دينٍ روحيٍّ مثله مثل الديانة اليهودية»، إلا أنّه لا يلبث أن يضعه في نفس تلك الديانة المسيحيّة.

ثانياً: في بعض أعماله النادرة وخصوصاً في المحاضرات التي ألقاها حول فلسفة التاريخ يحاول هيغل الفصل بين الإسلام كديانةٍ ومنظومة قيم وبين المسار التاريخي للامبراطوريات التي أنشأها. إلا أنه لم يتوصل إلى المحل الذي يميز فيه بعمقٍ بين ما يسميه الإسلام الأصلي الحضاري الذي انسحب أو اختفى من على ساحة التاريخ العالمي ودخل في هدوء الشرق ولامبالاته، وبين الامبراطورية العثمانيّة والحالة التي آلت إليها.

ثالثاً: يكاد لا يخفي إعجابه وتقديره لجوانب يراها نموذجيّةً في الإسلام مثل: “إنّ العرب في فترةٍ قليلةٍ من الزمن وجدوا أنفسهم متقدّمين على الغرب بكثير»[22].

عندما يقارن بين المسيرة الطويلة للغرب، في تطور التاريخ العالمي من أجل تحضير الروح الملموس وبين التطور السريع الذي عرفه الشرق في الوصول إلى الروح المجرد[23]، ترك للإسلام أن يقوم بدور «ثورة الشرق». وسنرى في محاضراته المشار إليها كيف يدرس هيغل الإسلام، لا باعتباره جزءاً من العالم الشرقي، الذي اكتملت ثلاثيّته بالصين والهند وبلاد الفرس، والذي سبق تاريخياً العالم اليوناني – الروماني، بل باعتباره جزءاً من العالم الجرماني. وعلى حدّ تعبير ميشال هولين(Michel Hulin)[24]، إنّ دخول الإسلام في العالم الجرماني عند هيغل هو بمثابة المقابل لدخول المسيحيّة – الشرقيّة أيضاً في الأصل – إلى العالم الجرماني بمؤسساته وأخلاقه.

تلقاء هذه الإيماءات العابرة من الإقرار الهيغلي بحاضريّة الإسلام في التاريخ الكلي للشعوب، سنجد ما يعاكسه في النتائج التي آلت مقارباته إليها. فحين يعتبر هيغل أنّ ظهور الإسلام في التاريخ الكلي هو النقيض لتطور العالم المسيحي، فإنّما لتأثره بما ذهب إليه فيلسوف عصره آنذاك شليغل. فالذي أراده الأخير، ليس فهمه لهذا الدين «العدو» (Ennemie) بل البحث بعناية عن أيّ هوّةٍ مظلمةٍ خرج هذا الدين، والأضرار المفرطة التي أوقعت العالم المتحضِّر فيها[25].

إذاً، ثمة مزيجٌ فلسفيٌّ – لاهوتيٌّ، يغطي لهيغل مصادره المعرفيّة، ومن خلالها سيبني أحكامه على الإسلام والشرق. من هذه المصادر، يضيف الباحثون إلى شليغل كلاًّ من فلسفة مونتسكيو (Montesquieu) التي انطلقت من تعالي المسيحية على الديانات الكبرى في العالم، وفلسفة فولتير (Voltaire) التي مضت بعيداً في صيغتها التكفيرية للإسلام. ففي معجمه الفلسفي يضع فولتير مقالةً حول الإسلام تحت عنوان «الضروري» (Nécessaire). وفيها ما يفصح عن رفضٍ يكاد يصل درجة الإنكار الكامل لدين الشرق كما يقول.

الطابع الإنكاري للاهوت الهيغلي

لا يتوقف هيغل عند هذا الحد، فسيمضي ليبني على هذا التصور موقفاً لاهوتياً صارماً[26] عندما يرى إلى الإسلام باعتباره النفي الدقيق للديانة المسيحية في ما يتعلق بتصور وحدة الله والإنسان. في المقابل إذا كانت المسيحيّة هي ديانة المصالحة، للوحدة في حقيقتها وفي حريتها المحسوسة، وإذا كانت تبحث عن تحقيق الوحدة بين الذاتي والموضوعي عند كلّ البشر، فإنّ الإسلام على العكس هو دينٌ يفرض الانفصال بين الموضوعي والذاتي والذي يبحث عن «إثارة المحبة للكائن الواحد الأحد عند البشر»[27]. بمعانٍ أخرى، الوعي الإسلامي، بالنسبة لهيغل هو ذروة النفي والفصل.حسب زعمه، إنّه يمقت وينفي كل ما هو محسوس»[28]. وإنّه الوعي الأكثر سلباً للحرية، إنّه «الاتجاه المعاكس».[29]

لا يخرج التقرير الهيغلي عن السياق الإجمالي للاهوت المسيحي في إصداره أحكامه السلبية على الإسلام. ومثل هذا الحكم سيعطي انطباعاً أكيداً على «مركَّبٍ عجيبٍ» يستحكم بعقل فيلسوفٍ كبيرٍ كهيغل في ما هو يعاين الشرق كجغرافيا والإسلام كدين، بوصفهما عدوًّا لمسيحيّة الغرب وهويّته الحضاريّة. فلو كان ثمة من تفسيرٍ لهذه «الورطة الأيديولوجية» لفيلسوف «الروح الكلي». لظهر لنا ذلك على بيانات عددٍ من نقاده الجدد، ومنهم ما ذكره الفيلسوف واللاهوتي الفرنسي إتيان غلسون (1884- 1979) من أنّ المنهج الهيغلي المثير في تناسقه المعماري الظاهر، يعاني في جوهره من تناقضٍ عميقٍ بين وحدانيّة العقل الإنساني ـ الذي تفترض فيه الهيغليّة الشموليّة والكونيّة ـ وبين القراءة العنصريّة والتراتبيّة لتجليات هذا العقل في شتى الحضارات[30].

يتعدى مصطلحا شرق – غرب في فلسفة هيغل مدلولهما الجغرافي المحض. فالمصطلحان يكتظَّان بجواهرَ عنصريّةٍ – ثقافيةٍ متناقضةٍ، ويجعل من ثنائيّة شرق–غرب رديفاً عصريّاً للثنائيات الكلاسيكيّة القديمة: يوناني–بربري، روماني–بربري، وهي ثنائياتٌ تتنوع بأسماء مختلفةٍ على مبدأ فلسفيٍّ تأسيسيٍّ يقوم على ثنائية السيد بالقوة والفعل، والعبد التابع في الجوهر والواقع، ووفقاً لهذه الفرضيّة سيقرّر هيغل أنّ الحضارات الشرقيّة هي عالم الغربة بالنسبة للعقل. فالشرق متاهة الروح الذاهب من المجرد والمطلق إلى الطبيعي والمحسوس، ومثل هذا الارتحال الدرامي للشرق يشهد على اختلاط الروح المجرّد بالطبيعي والمحسوس. «فالمحسوس كما يذهب هيغل هو مبدأ العقل الشرقي الكامن والمميّز»[31].

في موضع من مقارباته للشرق يمضي هيغل إلى تقديم توصيفٍ تأمليٍّ للشرق، هو أقرب إلى الشاعرية منه إلى التفلسف. إنّ الشرق هو موطن الشرقي المنخطف أبدا بالشروق الطبيعي، بالشمس الخارجيّة ونورها الخارجي الذي يعميه عن شمسٍ داخليةٍ تشعّ بالبريق الأنبل: «شمس الوعي» والغرب هو مستقر الشمس الخارجيّة الآيبة من الوجود إلى الماهيّة، من الخارج إلى الداخل بعد نهار التاريخ القائظ الطويل. وفي الغربي المستبطن لنوره الذاتي تجد الروح مستقرها ومأواها الأخير. يضيف: إنّ الشمس الطبيعيّة تغيب وتتلاشى في الذات الغربيّة التي تعي أنّ الله هو نور الوعي المشع في داخلها وليس من الخارج. ولأنّ حركة التاريخ الهيغلي لولبيّةٌ وليست دائريّةً، فإنّ شمس العقل لا تعود لتشرق من الشرق في دورةٍ جديدةٍ. فأسطورة العنقاء التي تبعث من رمادها هي أسطورة شرقيّةٌ تتصل برؤيةٍ دائريّةٍ لتاريخ يعيد نفسه، وهذه الأسطورة يرفضها العقل الغربي المؤمن بتقدّمٍ صاعدٍ متواصل وثابتٍ على اتجاهٍ واحد[32].

سوف يُرى إلى هيغل، تبعاً لهذا التصور على أنّه أحد أوائل مؤسسي مفهوم «الاستبداد الشرقي»، وقد استخدم هذا المفهوم ليجسّم «عالماً متحداً في ظلّ سلطانٍ واحدٍ». لقد انتهى هيغل إلى موضوعته الشهيرة القائلة بأنّ الروح «لم يتوصل في الشرق إلاّ إلى معرفة أنّ الواحد فقط هو الحرّ، أما اليونان وروما فقد أدركتا أنّ البعض هو حرٌّ، في حين أدرك العالم الجرماني أنّ الجميع هم أحرار[33].

وإذا شئنا تتبع رحلة ذهاب العقل بحسب النسق الذي يضعه له هيغل في فلسفة التاريخ نستطيع أن نلخِّص تمظهر هذا الروح كالتالي:

يبدأ الروح تمظهره على مسرح الزمان والمكان في الصين. يتمظهر في ديانة كونفوشيوس السالبة للذاتيّة ويعبر مسرعاً إلى الهند البوذيّة والهندوكيّة حيث تعيش الذاتيّة حالة الانتفاء، فيعبر إلى بلاد فارس وهناك يكتشف الروحُ النورَ مبدأ ماهيته، والنور ليس النور الطبيعي وإنّما النور الروحي ممثلاً بمبدأ الخير، وهكذا يبدأ الروح انفكاكه عن كثافة الطبيعي والمحسوس، «وتتعرف إلى وحدتها في هذا النور الجامع الذي يتشارك الجميع في جوره بما يضمن لكلّ فردٍ كرامته الشخصيّة»[34]. لكن هيغل ينتقد الفرس لأنّهم لم يشملوا شعوب إمبراطوريتهم بمبدأ النور الذي يساوي بين شتى الأعراق، وإن كان يعفي إمبراطوريّة الرومان الكبرى وقبلها إمبراطورية بركليس الأثينية الأصغر من نقدٍ مماثلٍ. ومن هنا يقرر هيغل أن الروح أقسى غربته في بلاد ما بين النهرين في ظلّ الإمبراطورية الآشورية–البابلية، كما في سوريا الداخلية والساحلية حيث يتجلى اغتراب الروح عن ذاته في تعدّد الآلهة وعبادة الأصنام والتضحية بالبشر من أجل إرضائها. فقط في أرض فلسطين، وفي الديانة اليهوديّة، تدرك الروح نورها الداخلي، ويصبح النور ليس شيئاً آخر سوى الإنسان الطاهر الذي يرى إلى نفسه بعين نفسه. من بعد هذا كله يتوصل هيغل إلى نتيجة مؤداها أن  الشرق  لم يعرف مبدأ الذاتيّة المستقلة، فالأخلاق الهنديّة والصينيّة تنفي الذات، تأمرها بالتنازل والتضحية إلى حدّ التلاشي والامّحاء، تغيّبها ولا تؤكّدها. ورغم تجلي الروح الإنساني يسمو ديانات الهند والصين وفنونها وفي رفعة الأخلاقيات الغيريّة التي أبدعتها الأمتان، إلاّ أنّ الأمّتين «افتقدتا وبالكامل الوعي الضروري لفكرة الحرية[35]. فالأخلاق بالنسبة للصيني والهندي هي «قوانينُ خارجيّةٌ لا تختلف عن القوانين الطبيعيّة». إنّ أخلاق الأمّتين هي «أخلاقٌ أمريةٌ» تصدر من الخارج السياسي دون وساطة الضمير الشخصي.. أي إنّها أخلاقٌ تستمد مسوّغها من القسر والقوّة لا من التمثل والقناعة.

تناقضيّة هيغل

أول ما يلفتنا في مقاربة هيغل للإسلام هو الحيّز الضيّق الذي يخصّصه له (خمس صفحات من مؤلف في 457 صفحة). والأمر الثاني اللافت، وهو الأهم، أنّ هيغل، بالرغم من اعتباره الإسلام «ثورة الشرق»[36] إلا أنّه ينتزع الإسلام من إطاره الشرقي، ولا يعرض له كمحصّلةٍ لتطوّر الأديان السامية والثقافات الشرقيّة، وإنّما يضعه بين مزدوجين في سياق عرضه للمسار الروحي المسيحي في العالم الجرماني! وهكذا يبدو الإسلام «مفصولاً عن الشرق في الشريحة القروسطية كجسمٍ غريبٍ، وكتيارٍ ثانويٍّ على هامش التاريخ العالمي»[37].

يقارب هيغل الإسلام من منطلق الاختلاف بينه وبين العالم الجرماني في تلك المرحلة. في القرن السابع، كان الروح المسيحي يمزقه التناقض بين مبدأ الحريّة الذي ينطوي عليه بالقوة وبين الهياج والعنف الانفعالي البربري الذي كان يتمظهر فيه الروح بالفعل. وكان الروح يستجير بالكنيسة من شرور الصراعات الدمويّة بين السلالات الباحثة عن الامتيازات الخاصة، جاهلاً أنّ الأهداف الدنيويّة هي شغل الروح الشاغل.

إنّ الإسلام، يقول هيغل، قد حرر الفكر من الخصوصيّة اليهوديّة التي أعاقت الروح عن إدراك حقيقتها الكونيّة المجردة، والإسلام «في روحه الكوني وفي طهارته اللامحدودة وفي وساطته المفهوميّة عيّن للشخصيّة الإنسانيّة هدفاً واحداً لا يقبل الاستبدال وهو تحقيق كونيّته وبسطة المبدأ المحمدي»[38]. فالله الإسلامي –كما يظهر عند هيغل- لم يحمل هدف الإله اليهودي الإثباتي المحدود. فالذات المؤمنة مطالبةٌ بعبادة الواحد الكوني كهدفٍ وحيدٍ لنشاطها، ولكن هذه العبادة ليست تأمليّةً سلبيّةً نافيةً للذات، كما نشهد الكونفوشيوسيّة والهندوكيّة، «وإنّما هي مرفقةٌ بالفعل النشِط الذي يستهدف إخضاع الدنيوي لحكم الواحد». لكن، رغم هذا التحرّر المعرفي والتاريخي الذي يميّز الروح الإسلامي عن مبدأ الذاتيّة السلبيّة الشرقي، فالإسلام يعود ليلتقي بمبدأ الشرق موطن استلابات الذات الفرديّة حين يعجز عن جسر ثنائيّة الله المفارق من جهةٍ والذات الإنسانيّة من جهةٍ ثانية.

كما يتجلى استلاب الذات يتعالى الله عن كلّ سببيّةٍ أو قانونٍ طبيعيٍّ يربط بالضرورة بين العلّة والمعلول. إنّ مبدأ التعالي الإلهي الشرقي يستقل بالله عن كلّ الظواهر المحسوسة والمحدودة. فالله المحمدي، هو «تمامٌ» لا يحدّ نشاطه قانونٌ أو جوهرٌ، وهو قادرٌ على «خلق كلّ العوارض في الجواهر من دون وسائل طبيعيّةٍ ومن دون عون العناصر والأشياء»[39].

ومن اللافت أنّ هيغل الذي يعقد المقارنات بين الإله الإسلامي الكوني والإله اليهودي الخاص، وبين الإسلام والديانات الصينيّة والهنديّة، يتحرج من عقد أيّ مقارنةٍ بين المسيحيّة والإسلام، متجاهلاً النزعة الكونيّة الجامعة بين الدينين، وذلك للاحتفاظ، ربما، بالجوهر الغربي في حالة النقاء.

والسبب الذي يقدمه لتبرير ربط الإسلام بالمبدأ الشرقي السالب للذاتيّة هو استغراق الذات المحمديّة في موضوع عبادتها (عبادة الواحد) إلى حدّ الامحاء. والنتيجة التي تترتب على تنازل الذات العابدة عن ذاتها لموضوع عبادتها، يبقى «الواحد» هو الفاعل المجرد، ولا يجد هذا الإله الواحد المجرد سنده الإنساني المحدد. فلا الذات تنعتق لتصبح من جانبها حرّة الروح، ولا موضوع تقديسها (الواحد) يتموضع.

ويشير هيغل إلى أنّ العبادة المحمديّة ترفض وساطة الصور ولا تتسامح مع التجسيمات الحسيّة الرامزة لفكرة الله، لكنّه يبقى محايداً بالكامل إزاء هذه الموضوعيّة، ولا يتطرق إلى مقارنة هذا التجريد المتسامي مع الحروب المدمرة التي تكشفت عنها حرب الأيقونات في الغرب المسيحي. إنه يدرك أن محمداً يجمع بين النبوّة والإنسانيّة التي لا تدعي العصمة عن الخطأ. ولكنّه لا يستخلص المردود الديمقراطي الذي تنطوي عليه إنسانيّة النبي المؤسس للدولة الجديدة.

لكنّه ينهي بحثه في الإسلام بملاحظةٍ تتعرّى من مهابة العقل الموضوعي لتفصح عن مشاعر مركزيّةٍ أوروبيّةٍ كان هيغل أحد أهم منظريها. إنّها مركزيّةٌ تتعامل مع الشرق وكأنّه كوكبٌ آخر، ومع الإسلام بوصفه معتقدَ الآخرٍ. يقول في ملاحظةٍ ختاميّة: «وفي الزمن الحاضر، وبعد أن تم دحر الإسلام إلى ربوعه الآسيويّة والإفريقية، وحيث لم يعد يوجد إلا في جيبٍ أوروبيٍّ يبقيه فيه تحاسد القوى المسيحيّة، فإنّ الإسلام قد تلاشى عن مسرح التاريخ وتراجع إلى ربوع الشرق الساهي المسترخي»[40].

لقد نزع هيغل الإسلام من سياق التطور التاريخي في «محاضرات في فلسفة التاريخ»، وذكره كشيءٍ عارضٍ على هامش تطور الروح المسيحي في الحضارة الجرمانيّة، وإن كان هذه المرة أكثر حظًا إذ أعطى له ما يقارب خمس صفحات من مجلد تجاوز 450 صفحة. ونظراً لأنّ تحليل هيغل للحضارة الإسلامية ليس موضوعنا الآن، فإنّنا سنكتفي بتحليل هيغل للإسلام بوصفه ديناً فقط[41].

إنّ تجاهل هيغل للإسلام في فلسفة الدين وعرضه كشيءٍ هامشيٍّ عرضيٍّ في فلسفة التاريخ، يعكس روح التعصب الأوروبي تجاه الإسلام بوصفه معتقد الآخر. ويؤيد هذا أيضًا تلك الرؤى المحرّفة للإسلام – على الرغم من أنّها متجاورةٌ مع بعض التحليلات العميقة والصائبة – التي أثارها هيغل في فلسفة التاريخ. فالإسلام مرتبطٌ عنده بالمبدأ الشرقي السالب للذاتية، وهو ذو هدفٍ سلبيٍّ يتمثل في تطوير عبادة الواحد الأحد، كما أنّ الإسلام في منظوره قد انحلّ سريعًا مثلما صعد سريعًا.

هكذا يقدم هيغل مجموعةً من الأغاليط المركّبة عن الإسلام، ويجهل أنّ الإسلام مختلفٌ من حيث البنية والتكوين عن أديان الشرق الأقصى السالبة للذاتية، كما يجهل أنّ عبادة الواحد الأحد لا تنطوي على أيّ سلبٍ للذات الإنسانيّة مثل أديان الهند، وإنّما عبادة الواحد الأحد تحرّر هذه الذات وتضعها أمام نفسها وأمام مسؤوليتها الكاملة عن هويّتها ومصيرها.

وفي الأحيان التي يسجل فيها هيغل شيئاً إيجابياً للإسلام فإنّه يردّه إلى عوامل بالغة التبسيط تبخس الإسلام حقه، فالتجريد الإسلامي عنده لا يعود إلى ترقّي الوعي بالإلهي، وإنّما يعود إلى الانبساط الصحراوي الذي لا يمكن أن يتشكل فيه شيءٌ في بنيةٍ ثابتةٍ![42].

وما من شك في أن تفسير هيغل يفتقر إلى الدقة، لأنّه لو كان الانبساط الصحراوي هو المسؤول عن نبذ التجسيم والتشكل في الإسلام، لما وُجدت عبادة الأصنام وتجسيد الإلهي في البيئة الصحراوية قبل الإسلام، فالعرب هم العرب، والصحراء هي الصحراء قبل الإسلام وعند ظهوره، ومع ذلك كان هناك تجسيمٌ وبنياتٌ ثابتةٌ. فإذا ما جاء الإسلام بالتنزيه والتجريد، فليس من المقبول عقليًا تفسير ذلك تفسيراً جغرافياً سطحياً، ولا سيما إذا كان هذا التجريد كما هو معلومٌ من التاريخ النبوي مصادماً بعنفٍ لطبيعة الشعور عند عرب الجاهليّة والذي كان مرتبطاً بالتجسيم الوثني للإلهي قبل الإسلام[43].

الواضح أنّ هيغل لم يدرك حقيقة الإسلام لأنّه أسقط فهمه المسبق عليه تبعاً لفهمه لليهوديّة والمسيحيّة. أي إنّه عاين هاتين الديانيتين من خلال ظهورهما في التاريخ. أي بما هما معطيان فينومينولجيان. واضطراب فهمه للإسلام هو وليد جهله ببعده فوق الميتافيزيقي أي البعد الوحياني وخصوصيّة التوحيد كمنطقةٍ محوريّةٍ في هذا البعد.

التوصيف الهيغلي للدولة الإسلامية

حتى عندما يتحدث هيغل عن الدولة والمجتمع في تاريخ الإسلام نراه ينحو منحنىً إنكارياً ليقرر أن الدولة المنحدرة من الإسلام حسب هيغل هي بالضرورة دولةٌ لا عقلانيّة، لكن بالتوازي ومقارنة مع الدول الاستبدادية، فلتك المتعلقة بالإسلامي أكثر استبداداً، وذلك يعني برأيه النفي العام للحريّة. في المقابل، الدولة الإسلاميّة لاتستطيع أن تكون مستقرّةً ولا متحجّرةً مقارنةً بالدولة الصينيّة «التي هي أمبراطورية الديمومة «L’empire de la dureée». وأما تلك الخاصة بالإسلام فتسمى عند هيغل بإمبراطوريّة الانقلاب السرمدي، من دون أن يُحدث هذا الانقلاب تغيّراً كيفما كان في طبيعة المبدأ الذي على إثره تأسست الدولة الإسلامية.

أما بالنسبة للإرادة الفرديّة والحريّة الذاتيّة في الدولة المنحدرة من الإسلام، فليس هناك، حسب هيغل، إرادةٌ عقلانيّةٌ ولا حريّةٌ حسيّةٌ وواعيةٌ، هناك فقط «إرادةٌ متوحشةٌ» تنتج ضرورةً من الطبيعة نفسها التي يحتويها الوعي الإسلامي بين الذاتية المحسوسة من جهةٍ، والكلية المجردة من جهةٍ أخرى، طالما أنّها انفصلت من موضوعها الكلي[44].

لكن على الرغم من سعة توثيقه وتنوعه، فالشيء الوحيد والأكيد في كل البحث الهيغلي حول طبيعة الدولة الإسلاميّة، هو تأثره المباشر  بروح الشرائع (L’Esprit des Lois) وهذا ما يتأكد بالفعل. هناك فولتير(Voltaire) وفولني (Volney)  وجيبون (Gibbon) ولكن هناك دائماً مونتسكيو (Montesquieu) الحاضر بقوة. ما نؤكده في ما يخص الدولة الإسلامية هو أنّ مفهوم هيغل هو مطابقٌ لمفهوم مونتسكيو. والحال أنه، حتى معلومات مونتسكيو في هذا الموضوع هي أيضا توثيقيّةٌ محضةٌ، وهذا ما يعقّد المهمة أكثر، للعلم، إنّنا نقدر درجة أصالة الإسهام الفلسفي لهيغل في هذا المضمار[45].

مهما يكن من أمر، أمكن القول أن متاخمة هيغل للشرق بعامةٍ وللإسلام بصفةٍ خاصةٍ، كانت على الإجمال منحكمةً إلى رؤيةٍ مبتورةٍ سواءً في وجهها الأنطولوجي المتأثر ببيئة البروتستانية أو في وجهها التاريخي المشحون بالولاء الشديد للعرق الجرماني.

من هذا المحل بالذات ستساهم الهيغلية في توطيد الأساس المعرفي والثقافي لفلسفة الإنكار التي توغّلت عميقاً في قلب العالم الغربي. وسيكون لنا من حصائد المنجز الهيغلي ما يبيِّن مدى هيمنته واستبداده بفكر الحداثة في الحقلين الأنطولوجي والتاريخي، الأمر الذي أفضى إلى تحويل الغرب الحديث إلى حضارةٍ إمبرياليةٍ شديدة الوطأة على العالم كله.

فلقد عُدَّتِ الحضارةُ الغربية في المخطط الأساسي للتاريخ وفي الإيديولوجيّات الحديثة، وحتى في معظم فلسفاتِ التاريخ بوصفها الحضارة الأخيرة والمطلقة، أي تلك التي يجب أن تعمّ العالم كلّه، وأنْ يدخلَ فيها البشر جميعاً. في فلسفة القرن التاسع عشر يوجد من الشواهد ما يعرب عن الكثير من الشك بحقّانيّة الحداثة ومشروعيّتها الحضاريّة. لكنّ هذه الشواهد ظلّت غير مرئيّةٍ بسبب من حجبها أو احتجبها في أقل تقديرٍ، ولذلك فهي لم تترك أثراً في عجلة التاريخ الأوروبي. فلقد بدا من صريح الصورة أنّ التساؤلات النقديّة التي أُنجزت في النصف الأول من القرن العشرين، وعلى الرغم من أنّها شكّكت في مطلقيّة الحضارة الغربيّة وديمومتها، إلا أنّها خلت على الإجمال من أيّ إشارةٍ إلى الحضارات الأخرى المنافسة للحضارة الغربيّة. حتى إنّ توينبي وشبنغلر حين أعلنا عن اقتراب أجلِ التاريخ الغربيّ وموته، لم يتكلّما عن حضارةٍ أو حضاراتٍ في مواجهة الحضارة الغربيّة، ولم يكن بإمكانهما بحث موضوع الموجود الحضاري الآخر. ففي نظرهما لا وجود إلا لحضارةٍ واحدةٍ حيّةٍ ناشطةٍ هي حضارة الغرب، وأما الحضارات الأخرى فهي ميتةٌ وخامدةٌ وساكنةٌ[46]...

حين توصل جان بول سارتر إلى قوله المشهور «الآخر هو الجحيم»، لم يكن قوله هذا مجرد حكمٍ يصدِرهُ على آخر أراد أن يسلبه حريته أو علَّةَ وجوده، وإنّما استَظْهَرَ ما هو مخبوءٌ في أعماق الذات الغربية. إذ لا موضع حسب سارتر للحديث عن محبّةٍ أو مشاركةٍ أو تآزرٍ بين الذوات، لأنّ حضور الذات أمام الغير، هو بمثابة سقوطٍ أصليٍّ، ولأنّ الخطيئة الأولى حسب ظنّه ليست سوى ظهورٍ في عالمٍ وُجِدَ فيه الآخرون..»[47].

لم يكن سارتر في هذا التوصيف الملحمي للآخر سوى ضرب من الاحتجاج على حداثة آلت إلى تمجيد الذات الغربية واختزال الذوات الأخرى والنظر إليها كجحيم لا ينبغي الاقتراب منه إلا على نحو السوء. وهو يعلم كما سواه من نقّاد التمدد الإمبريالي.

إن هيغل ومن سبقه من فلاسفة التصنيف العرقي للشعوب، هم الذين أطلقوا مسارات العقل الإنكاري لكلِّ آخرَ.

وبعد.. فلو كان من نعتٍ لهيغل وهو يفلسف تعالي روح الغرب على الشرق، لصحّ نعته بـ "فيلسوف الإمبريالية" في صعودها الأول وفي امتداداتها المعاصرة.

-----------------------------

محمود حيدر : مفكر وباحث في الفلسفة والإلهيات ـ لبنان.

[2] - خوليو أولالا – أزمة العقل الغربي – السمة الاختزالية للعقلانية – ترجمة: كريم عبد الرحمن – فصلية «الاستغراب» العدد الأول- خريف 2015.

[3] - محمود حيدر – الغيرية البتراء – فصلية «الاستغراب» – العدد العاشر» – شتاء 2018.

[4]-   Bryan W Van Norden

is Kwan Im Thong Hood Cho Temple professor at Yale-NUS College in Singapore, professor of philosophy at Vassar College in New York, and chair professor at Wuhan University in China. His latest book is Taking Back Philosophy: A Multicultural Manifesto (2017), with a foreword by Jay L Garfield.

[5] - Bryonvan Norden, Ipid, P,75.

[6] - دودو ديان – أزمة الهوية في العالم الغربي – ترجمة: رواد الحسيني – فصلية «الاستغراب» العدد الأول – خريف 2015.

[7] تحضيريّة: من حضَّر أي أدخل في الحضارة أو جعل (ه) متحضّراً، ترجمة كلمة (Civilisation) في صيغتها المصدريّة التفعيليّة.

[8] - دودو ديان ـ المصدر نفسه.

[9] - مسعود كمالي- تصور الآخر: تمييز ممأسس وعنصرية ثقافية – فصلية الاستغراب» العدد العاشر – شتاء 2018 – ترجمة طارق عسيلي.

[10]- For more discussion see, Lewis John (1975) Max Weber and value-free-sociology, London: Lawrence and Wishart.

[11] - Foucault Michel (1977) Discipline and Punish, The Birth of the Prison, London: Penguin books Ltd.

[12] - لمزيد من المناقشة والمقارنة بين أفكار فوكو ودريدا حول الجذور القديمة للعقل أنظر:

Boyne Roy (1994) Foucault and Derrida, The Other Side of Reason, London: Routledge.

[13] Daniel N. (1960) Islam and the West: the Making of an Image, Edinburgh: Edinburgh University Press.

Southern R. W. (1962) Western Views of Islam in the Middle Ages, Cambridge: Harvard University Press.

[14]- For more discussion in this specific issue, see Emanuel Chukwidi Eze (1999) Race and the Enlightenment.

[15] - مسعود كمالي – مصدر سبقت الإشارة إليه.

[16] - محمد عثمان الخشت – نقد صورة الإسلام عند هيغل – فصلية «الاستغراب» العدد العاشر – شتاء 2018.

[17] - عدنان سيلاجيتش، مفهوم أوروبا المسيحية للإسلام – تاريخ الأديان – نقله عن اللغة البوسنية جمال الدين سيد أحمد- المركز القومي للترجمة – القاهرة ـ الطبعة الأولى ـ  2016 - ص 155.

[18] - راجع: هيغل، محاضرات في فلسفة التاريخ كما ينقلها  سيلاجيتش ـ المصدر نفسه، ص156.

[19] - المصدر نفسه، ص158.

[20] - المصدر نفسه.

[21]- د. محمدي رياحي رشيدة ـ هيغل والشرق ـ دار ابن النديم ودار الروافد الثقافية ـ الجزائر ـ بيروت ـ 2012 ـ ص 13.

[22] - Hegel, Leçons sur L’histoire de la philosophie, tome 5, p 1018.

[23] - Hegel, Leçons sur la philosophie de L’histoire, p. 274.

[24] - Hulin M, Hegel et l’Orient , éd, Vrin, Paris, 1979, p. 135.

[25] - Hegel, Leçons sur l’Histoire de la philosophie, trad. Garniron, Paris, Vrin, 1978, tome 5, p 1018.

[26] -- Hegel, Leçons sur la philosophie de la religion, 3éme partie, p. 209.

[27]- Ibid, p. 210.

[28] -Ibid, p. 210.

[29]- Hegel, Leçons sur la philosophie de L’histoire, trad. Gibelin, 275.

[30] - عفيف فرَّاج – هيغل والاسلام – غربة الروح الحرة بين الشرق و»ثورته الاسلامية» - مجلة «الفكر العربي المعاصر»، العدد 33/ك1 1984، ك2 1985، ص 40-47.

[31] - Ibid,p. 111

[32] - Op. cit, p. 358.

[33] - Ibid, p. 104.

[34] - Ibid, p. 175.

[35] - Ibid, p.71- 111.

[36] - Ibid, p. 356.

[37] - هشام جعيط، أوروبا والاسلام (بيروت – دار الحقيقة، ط 1، الترجمة العربية 1980)، ص 99.

[38] - Ibid.

[39] - هيغل، دروس في تاريخ الفلسفة، ترجم الفصل الخاص بالفلسفة الإسلامية إلى العربية.

[40] - Ibid, p. 361.

[41] - محمد عثمان الخشت – فصلية «الاستغراب» – مصدر سبقت الإشارة إليه.

[42]- Hegel، Lectures on the Philosophy of History، New York، Dover Publications، 1956. P. 357.

[43] - المصدر نفسه.

[44] - Ibid, p. 173.

[45]- عفيف فراج، مصدر سبقت الإشارة إليه، ص50.

[46] - مسعود كمالي – مصدر سبقت الإشارة إليه.

[47] - محمود حيدر – الغيرية البتراء – مصدر سبقت الإشارة إليه.