البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

جورج فريدريك هيغل، الفيلسوف الشاهد على ولادة المركزية الأوروبية

الباحث :  رامي طوقان
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  14
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2019 م / 1440 هـ
تاريخ إضافة البحث :  January / 16 / 2019
عدد زيارات البحث :  1332
تحميل  ( 572.979 KB )
يكاد يجمع الباحثون في الفكر الغربي الحديث على أنّ فلسفة هيغل من أصعب الفلسفات. والصعوبة في هذا المعنى لا تكمن فقط في تعقيدات مفاهيمها، بل حتى في إمكانيّة بلوغها وغربلة اتجاهاتها. ذلك أنّ هذا الفيلسوف الألماني الكبير كان أحياناً يُدخل مفاهيمَ جديدةً أو يُشدّد على نواحٍ ليست من صلب نظريّته. لقد دخلت في فلسفة هيغل أمورٌ متشعبةٌ أضفت عليها أحياناً مسحةً من الغموض والتناقض. لكنّ ذلك كان من صلب نظريّته المبنيّة على المنطق الجدلي، حيث يكون النقيض أساسيّاً في فهم وكينونة الفريض. ومع ذلك لم يكن هيغل معزولاً عن قضايا ومشاكل عصره، أو أنّه كان يعيش في صومعةٍ فكريّةٍ. لقد درَّس الفلسفة وتاريخها في أهم جامعات ألمانيا من توبنغن إلى يينا وفرانكفورت وأخيراً في جامعة برلين. ودخل في نقاشٍ واسعٍ حول الأنظمة السياسية، وكان مؤيّداً للثورة الفرنسيّة ولحملات بونابرت، التي وجد فيها إنقاذاً لأوروبا من ظلمات القرون الوسطى. ولكن نستطيع القول أنّ فلسفة هيغل، على الرغم من غموض موضوعاتها وتداخلها، فقد كانت في مساحةٍ واسعةٍ منها فلسفةً سياسيّةً تم تسخيرها في خدمة الاجتماع السياسي الأوروبي.

فالهيغلية –كما لاحظ بعض مؤرخي الفلسفة الحديثة- هي فكرٌ للفردانيّة، رغم ما يُقال عنها بأنّها فلسفةٌ «توتاليتارية». فالحريّة السياسيّة للمواطن الحديث هي في قلب فكر هيغل المناصر لأفكار ثورة 1789. هذا إلى جانب أنّ الفردانيّة الفيزيائيّة–البيولوجيّة والفردانيّة بالمعنى الماورائي للتعبير تحتلان مكاناً أساسياً في هذه الفلسفة.  وبناءً على هذا الرأي فإنّ أبسط نقدٍ لهيغل، لا أقلّ النقود أهميّةً، هو أنّه كتب بطريقةٍ غلب عليها الغموض وصعوبة الفهم. لذلك يظلّ السؤال مفتوحاً، وهو الذي يتعلق بمقدار ما تعلم هيغل من المعنى الذي قصده لوك من توضيح التصورات، أو من إرادة كانط لناحية توضيح آرائه وتسويغها[2].

وما من شكٍّ أنّ فكر هيغل هو، من نواحٍ عديدةٍ، فكرٌ يعكس التغير عبر التوترات. فمن الثورة الفرنسيّة وأحداثٍ أخرى تعلم أن ينظر إلى التاريخ كعمليّة تشكيلٍ مندفعةٍ جيّاشةٍ، وفي أيّ وضعٍ تاريخيٍّ يمكننا دائماً أن نفهم هذه الحوادث التاريخيّة بالتفكير الانعكاسي العميق اللاحق بما حدث.

لقد وجهت في هذا المضمار عدة اعتراضاتٍ حول فلسفة هيغل. خصوصاً منها تلك التي وجهها الفيلسوف الوجودي كيركيغارد في قوله «أن ليس للفرد مكانٌ في نظام هيغل، أو بالنسبة إلى ما اعتبره نظاماً فلسفياً أدخِل الفرد فيه ضمن فكرة الكلي، أي في الدولة والتاريخ. فهو لم يعتقد أنّه يمكن للفرد أن يتدخل في التاريخ، أي إنّ من يصنع التاريخ ليسوا من سُمُّوا بالسياسيين العظام، بل التاريخ هو الذي يستعمل هؤلاء. وغالباً من غير أن يكون هؤلاء الفاعلون واعين بما يفعلون فعلياً. فقد ظنّ نابليون أنّه سيوحّد أوروبا، غير أنّ التاريخ استخدم نابليون ليؤسّس قوميّةً جديدةً. وعليه فالتاريخ يحقّق تقدمه المعقول الموضوعي سواءً أَفَهم أناس ذلك الزمان أم لم يفهموا ما يفعلون. فللتاريخ منطقه الخاص الذي يمكن للفاعلين فيه أن يسيئوا تأويله.[3]

قد يبدو اعتراض كيركيغارد، من الوهلة الأولى، اعتراضاً صحيحاً. إذ من السهل إدانة دعم هيغل للوحدة الألمانية بغية تقوية الدولة الألمانية في ضوء المائة والخمسين عاماً التي تلت من تاريخ ألمانيا. غير أنّ مثل هذا الحكم ينطوي على مفارقةٍ تاريخيّةٍ. وقد كان أمراً معقولاً في ذلك الزمان عند المواطن الألماني الواعي سياسياً أن يكافح من أجل تقوية الدولة. وعلى الرغم من أنّ هيغل نفسه اعتقد أحياناً أنّه كليُّ المعرفة، فإنّه ليس بالضرورة أن يكون عارفاً، أو أن يتحمل جزئياً مسؤوليّة الكوارث الألمانية السياسية في القرن العشرين، كما أنّه من المعقول الاعتقاد بأنّ ما كتبه هيغل في "فلسفة الحق" (The Philosophy of Right)، وتحت ضغط المراقبين، لا ينطبق بكامله على وجهات نظره الخاصة، بمعنى أنّ هيغل في أوساطه الخصوصيّة كان يعبّر عن وجهات نظرٍ ليبراليّة.

في ما يتعلق بمسألة توتاليتارية هيغل المفترضة، يمكننا القول أنّ هيغل الرسمي نجده، مثلاً، في كتاب «فلسفة الحق» حيث يدعم الدولة البروسية في زمانه (حوالى 1820). فالمثال الأعلى الذي عبّر عنه هيغل عموماً كان من نواحٍ عديدةٍ سلطوياً ولم يكن توتاليتارياً ولا فاشياً[4]. فقد دعم فكرة حكمٍ قويٍّ دستوريٍّ، ورفض فكرة دكتاتورٍ حاكمٍ وفقاً لنزواته. وعليه فإنّ ما أراده هيغل هو دولةٌ محكومةٌ بالقانون والحق، وازدرى اللاعقلانيّة، في حين أنّ الفاشيين امتدحوا اللاَّعقلانيّة والحكم غير الدستوري. وتبعاً لهذه النظرة عن الفكر الشمولي تركّزت أبحاثٌ كثيرةٌ على تحليل الطبيعة المحافظة عند هيغل. والذين ركزوا على هذا الجانب المحافظ في شخصيّته هم المفكرون اليساريون على الأغلب. غير أنّ لمصطلح "محافظ" معانيَ عديدةً- كما له معانٍ مرافقةٌ إيجابيّةٌ وسلبيّةٌ. فإذا كان المعنيّ بـ «المحافظ» من يريد الحفاظ على الوضع القائم (status quo)، فإنّ هيغل لم يكن محافظاً، إذ رأى أنّنا لا نستطيع بشكلٍ دائمٍ «المحافظة» على أشكال الحكم القائمة لأنّ كلّ ما هو موجودٌ يخضع لتغيّرٍ تاريخيٍّ[5]. لذا، كان معارضاً، وبشكل مباشر، لفكرة المحافظة السكونيّة. والتغيّر التاريخي في فكره إنما يحدث على شكل قفزات نوعيّة. أي إنّ التغيّرات حتميّةٌ، وتحدث عبر تحولاتٍ بعيدة الأمد. غير أنّ هيغل زعم أنّ ما هو جوهريٌّ، يحفظ، دائماً، في صورة حلول (Syntheses) أعلى. فالقفزات الحتميّة النوعيّة تؤدي دائماً إلى حلولٍ تضم الطروحات (Theses) والنقائض (Antitheses) في مستوى أعلى. لذا، فإنّ الأشكال القائمة تكون محفوظة[6].

نقد الحتميّة التاريخيّة

لكن ماذا عن رؤية هيغل كفيلسوف تاريخٍ وخاصةً بالنسبة لموقفه من مقولة الحتميّة التاريخيّة؟

هذا السؤال شغل مساحةً واسعةً من النقاش في زمن هيغل، وفي الأزمنة التي أعقبت طروحاته الفلسفية. والمعروف أنّ نظريّة هيغل الخاصة بما يعرف ب «الفوز الديكالكتيكي» تتضمن تفاؤليّةً تاريخيّةً. ذلك أنّ التاريخ يجمع كلّ النواحي الفُضلى للخبرات السابقة. هنا بالتحديد يطرح نُقّاد هيغل مجموعةً من الأسئلة: هل نحن على يقينٍ من أنّ عصرنا هو جميعةٌ (Synthesis) لأفضل ما في الماضي؟ ألا يمكن أن تكون نواحٍ جوهريّةٌ قد فقدت؟ ألا يمكن ألاّ يكون كلّ تغيّرٍ شاملاً ومنتصراً في صعوده إلى مستوًى أعلى، وأن تكون معظم التغيرات ناتجةً من صراعات بين جماعاتٍ مختلفةٍ وثقافاتٍ مختلفةٍ. ولكن ألا يمكن أن تمثل فلسفة هيغل من هذه الزاوية شَرْعَنةً للرابحين التاريخيين، ولو كانت «باهتة» من الوجهة السياسية؟

يعتقد بعض الهيغليين المحدثين أنّ التاريخ قد وصل إلى نهايته، أي: إن الجميعة الأخيرة (Synthesis) تبدو ماثلةً في رأسماليّةٍ ذات دولةٍ ضعيفة التنظيم، وسوقٍ قوية التوجه، مع وجود حكمٍ ديمقراطيٍّ واعترافٍ بحقوق الإنسان، ولذا فلا وجود لنفيٍ مقبولٍ لهذه المؤسسات، ولا لانتصارٍ مقبولٍ على هذه المؤسسات. والتقدم التاريخي، منذ الآن فصاعداً، لا يعني سوى رأسماليّةٍ متحسنةٍ ومزيدٍ من الديمقراطيّة وحقوق الإنسان.

هل ذلك يعني أنّ «قوة النفي» لم تعد فاعلةً في العالم الحديث؟ إذا كان الأمر كذلك فإنّ الهيغليين اليمينيين سيكونون على صوابٍ مقابل الهيغليين اليساريين. والتأويل اليميني الهيغلي، يظهر هيغل مفكراً تاريخياً واقعياً. غير أنّه، حتى إذا افترضنا عدم وجود إمكانيّةٍ لظهور أشكالٍ من المؤسسات الاجتماعية ذات النوعيّة الأعلى، وأنّ التاريخ وفقاً لذلك المعنى قد بلغ نهايته، فإنّنا سنظلّ نختبر انهياراتٍ ونكوصاتٍ، حيث ينذر أن تبقى الحياة على وجه البسيطة كما هي وإلى الأبد، وهناك بشكلٍ دائمٍ خطرُ حدوث أزماتٍ عظيمةٍ، إمّا لأسبابٍ خارجيّةٍ (من الطبيعة) أو لأسبابٍ داخليّةٍ (من أنظمتنا الاجتماعية وثقافتنا)[7].

ثلاثيّة الديالكتيك والكليّة والتطور الصاعد

يلاحظ الباحثون أنّ هيغل كرَّس مفهومه حول الديالكتيك ليكون عماد فلسفته السياسية. لهذا السبب يتداخل في تأويله الديالكتيك مع مفهوم الكليّة الذي يؤكد اعتبار التفكير وسيلةً سياسيةً للتطور إلى الأمام. وهذا ما يتقاطع عموماً مع فلسفة عصر التنوير في القرن الثامن عشر(1700). علماً أنّ فلاسفة عصر التنوير اعتبروا الحقيقة متمثلةً في المعرفة العلمية وبمقدار كبير. أما عند هيغل، فإنّ الحقيقة الفلسفيّة تجد أساسها في تفكيره المنصبّ على الافتراضات المسبقة الترانسندنتالية الناقصة. وكما قد نرى لاحقاً، فقد أكد الهيغليون اليساريون مثل الفيلسوف الألماني المعاصر يورغن هابرماس على تلك النقطة. وعندما يتكلمون عن الانعتاق والتحرّر فهم لا يعنون (مثل الليبراليين) تحرراً فردياً من التقاليد بوصفها أبعاداً فوق–فرديّة، وإنما يعنون تحرراً من اللاَّعقلانيّة الاجتماعيّة كخطوةٍ نحو مجتمع أكثر عقلانيّةً. وهم يفعلون ذلك عبر التفكير النقدي (نقد الأيديولوجيا) الرافض للافتراضات السابقة الترانسندنتالية الناقصة أي نقد (الأيديولوجيات) لصالح أطرٍ أوفى[8].

لا يبدو التاريخ، في نظرة التفكير التحريري للهيغلية، مجموعةً من الأحداث المنفصلة، بل هو عمليةٌ تفكيريةٌ تشق البشريّة الطريق من خلالها باتجاه الإطار الأفضل. تماماً مثلما رأى أرسطو أن البشر كانوا قادرين، في بادئ الأمر، أن يبينوا معنى تآلفهم ووحدتهم عبر تحقيق قدراتهم في الأسرة والقرية ودولة المدينة. رأى هيغل أنّ البشريّة كانت قادرةً في البداية، على تحقيق الإدراك الذاتي والمعرفة الذاتية وقد فهمت الكائناتُ البشريّةٌ، أول ما فهمت، طبيعتها، عندما «عاشت» الأطر المختلفة واستطاعت أن تفكر بتلك العمليّة. وبكلماتٍ أخرى يمكن القول أنّ التاريخ هو العمليّة التي بفضلها يدرك البشر أنفسهم، عبر استعادة الماضي والتفكير فيه طبقاً لجميع الافتراضات السابقة الترانسندنتالية (طرق الوجود) التي عيشت واختبرت. وهكذا يؤدي التاريخ إلى بصيرةٍ ذاتيّةٍ متزايدةٍ. فالتاريخ بالنسبة لهيغل ليس شيئاً خارجياً يمكننا ملاحظته من الخارج. فنحن دائماً نلاحظ من خلال أبعادٍ ما، وتلك الأبعاد تتشكل في التاريخ. والبعد الذي به نفكر ونختبر هو نتيجة العمليّة التاريخيّة لتطور الذات. وهكذا، يبعد هيغل نفسه عن الموقف اللاتاريخي الذي غالباً ما يظهر مترافقاً مع المذهب التجريبي–الحسي الراديكالي. ولكن كيف لنا أن نعرف ما إذا كانت طريقة رؤيتنا للعالم هي الصحيحة وهي الرأي النهائي؟

زعمت التأويلات أن هيغل اعتقد اعتقاداً فعلياً بوجود مجموعةٍ من الأبعاد التي تمثل البعد الصحيح والنهائي (المعرفة المطلقة = فلسفة هيغل)، وأنه لم يعتقد إلا بأننا، وبشكلٍ دائمٍ، على الطريق نحو بعدٍ ينبغي أن يكون، ولكن ثبت أنّ تلك المعرفة المطلقة هي هدفٌ لا يمكن تحقيقه. وغالباً ما تقول الكتب المدرسيّة أنّ الديالكتيك الهيغلي هو نظريّةٌ عن كيفيّة تحول أطروحة (Thesis) إلى نقيضها (Antithesis) ثم تحول هذا النقيض، من جديدٍ، إلى تركيب (Synthesis) الذي هو أطروحةٌ من نظامٍ أعلى، ثم يجلب هذا التركيب بدوره نقيضاً جديداً، وهكذا.

من المفيد أن نلاحظ في هذا المجال أنّه إذا كانت كلمة ديالكتيك المشتقة من الفلسفة اليونانية، تعني «النقاش»، فالديالكتيك عند هيغل هو التطبيق على المحادثات النظريّة وعلى العمليّة التاريخيّة الواقعيّة في الوقت نفسه. ولذلك ينشأ الديالكتيك في العمل النظري الهيغلي عندما تشير التصورات والمواقف إلى ما يتعداها من تصوراتٍ ومواقفَ أكثر كفايةً، أما في الممارسة فالديالكتيك يظهر عندما تنشأ آفاقُ فهمٍ ترانسندنتاليةٌ مختلفةٌ متجهةٌ نحو اكتمالها في الدولة.

يذهب بعض نُقّاد هيغل إلى الحد الأقصى من النقد حين يقولون أن نظريته في الديالكتيك هي مجرد نسخٍ غير موفقٍ للفيلسوف اليوناني هيراقليطس. لذلك اعتبروا أنّ ما يسميه هيغل ديالكتيكاً ليس سوى خليطٍ مضطربٍ من العلم التجريبي–الحسي (مثل البسيكولوجيا) وما يشبه المنطق. ويبدو أنّ هذا الاعتراض قد صدر عن المدرسة التجريبية – الحسية المتطرفة، التي ترى أنّه لا وجود لمناهجَ مشروعةٍ، ما خلا مناهج العلم التجريبي – الحسي ومنطق الاستنباط. ومع أن المدرسة التجريبية – الحسية هذه هي ذاتها محل إشكال ونقد فهذا لا يعني أن هيغل الديالكتيكي ليس موضع شك.

الأسرة والمجتمع المدني

معظم المجالات التي تناولها هيغل في محاضراته الجامعيّة وكذلك في كتابه الشهير «فينومينولوجيا الروح» كانت خاضعةً لرؤيته الميتافيزيقية. ونذكر هنا على الخصوص الأمور التي تتعلق بتصوره للأسرة والدولة والمجتمع المدني. على سبيل المثال يبدأ هيغل من الأسرة؛ التي فيها يصير الفرد اجتماعياً وفردياً، أي يدخل عبرها إلى المجتمع والتقاليد. ويرى هيغل أن مسألة التوفيق بين حريّة الفرد والتماسك الاجتماعي هي المسألة الأساسية التي تواجهها الحداثة. لذا، يجب فهم فلسفة الأسرة عند هيغل في هذا الضوء، أي: الأسرة الصغيرة المقتصرة على الأم والأطفال والوالد، والتي تعتمد في عيشها على ثروة العائلة، هي، في نظر هيغل، الثقل الوازن لفرديّة المجتمع البورجوازي، لأنّ الحبّ والتماسك قيمتان أساسيتان للأسرة.

أساس الأسرة الحديثة هو الحبّ المتبادل بين الرجل والمرأة. وعبر الحبّ يتبادل الاثنان التعارف. وتتحدّد هويّة كلّ شخصٍ تحديداً مشتركاً مع تحديد هويّة الشخص الآخر. ويُعرف كلّ واحدٍ منهما بالآخر. لذا فإنّ هويّة كلّ واحدٍ منهما ليست صفةً فرديّةً منعزلةً ولكن قائمةً على العلاقة المتبادلة بين الشخصين. ولذا فإنّ الزواج شيءٌ مختلفٌ عن أن يكون مسألةً شكليّةً خارجيّةً، فهو أوسع منها. فالاعتراف المتبادل بين الرجل والمرأة داخل مؤسسة الزواج المعترف بها اجتماعياً يقيم تسويةً للحريّة على شكل حبٍّ وعاطفةٍ غراميّةٍ مع الهويّة المتبادلة والاعتراف الاجتماعي.

يُستنتج من ذلك أنّ هيغل كان يميل إلى المحافظة على نظرته إلى المرأة والأسرة. فهو يعتقد أنّ المرأة تكسب الاعتراف الكامل داخل الأسرة، زوجةً كانت أو أمًّا. ويشارك الرجل أيضاً في العمل خارج حدود الأسرة، وبذلك يكسب جزءاً من هويّته الاجتماعيّة من خارج الأسرة والزواج. وكذلك ينسب هيغل إلى الرجل دوراً مزدوجاً مؤلفاً من كونه أباً للأسرة، وكونه عاملاً في ميدان الإنتاج. ومن جهةٍ أخرى نجد المرأة مرتبطةً بميدان الأسرة بكلّ أعمالها. وتكشف هذه النقطة كيف كانت نظرة هيغل إلى الأسرة مبنيّةً على مفهوم الأسرة البورجوازيّة في زمانه. وقد رأى النساءَ والرجالَ مختلفين وأعمالهما مختلفةً، فهو لم يناصر المساواة بين الجنسين.

أما بالنسبة إلى رؤيته للمجتمع المدني، فقد وضع هيغل هذا المفهوم في منطقةٍ تقع بين الأسرة والدولة، إذ إنّه يعدّ أحد المنظرين الأوائل الذين أثاروا موضوع المنظمات الخصوصيّة والطوعيّة المتنوعة، التي ظهرت في العالم الحديث بوظائفَ لا يمكن القيام بها من طرف الأسرة أو الدولة. والمعنى الواسع لفكرة المجتمع المدني يشمل الحياة المهنية واقتصاد السوق، غير أنّ هيغل ركز أيضاً، في المصطلح، على مسائلَ تُدرس اليوم في مقابل الدولة والسوق[9].

وراثة هيغل لكانط

السؤال المطروح هنا يكمن يدور حول المرجعيات الفلسفيّة التي تأثّر بها هيغل سلباً أو إيجاباً وكانت حافزاً له لبناء نظامه الفلسفي؟ ربما أمكن القول أنّ فلسفة هيغل كانت من عدة نواحٍ حصيلةَ سجالٍ عاصفٍ مع مواطنه إيمانويل كانط. فالموضوعات الأساسية التي قدمها الأخير ولا سيما منها التي تتعلق بالجانب الميتافيزيقي ستشكّل مدار هذا السجال الذي منه سيمضي هيغل إلى تظهير التأسيسات الإجماليّة لنظامه الفلسفي.

اعتقد كانط أنّه وجد افتراضاتٍ مسبقةً ترانسندنتاليةً ثابتةً مغروسةً في جميع البشر في جميع الأوقات صورت إدراكهم الحسي، وهي المكان والزمان والمقولات بما فيها مقولة العليّة. أما هيغل فقد زعم بوجود طيفٍ أوسعَ من الافتراضات المسبقة الترانسندنتالية، وأن الافتراضات المسبقة الترانسندنتالية متغيرةٌ بدرجةٍ كبيرةٍ، فهي في ثقافةٍ ما، في مرحلةٍ ما من التاريخ ليست دائماً صحيحةً في ثقافات أخرى، وفي مراحل أخرى من التاريخ. وادعى هيغل أن الافتراضات المسبقة الترانسندنتالية هي ذات نشوءٍ تاريخي، ولذلك، فهي نسبيّة للثقافة. وباختصارٍ نقول أنّ بعض الافتراضات المسبقة الترانسندنتالية ليست كليّةً شاملةً لجميع البشر، وإنما تخص بشراً معينين في ثقافاتٍ معينةٍ.

يمكننا أن نعرِّف الافتراض المسبق الترانسندنتالي بالقول أنّه ذلك الذي منه نتكلم («ونحن» قد نكون أفراداً أو طبقاتٍ أو عهوداً زمنيةً). وكان كانط مهتمّاً بالافتراضات المسبقة التي لا نتخلى عنها إطلاقاً، لكنّنا نتحدث عنها وحسب، أما هيغل فقد وجّه اهتمامه للتي يمكن التخلي عنها، والحديث عنها. وفي حين بحث كانط عما هو يقينيٌّ وثابتٌ، نجد أنّ هيغل بحث عن عملية التشكيل التاريخيّة لنظرات العالم المتغيرة والمختلفة، فبدأ عنده أنّ المكوّن هو نفسه مكونٌ، وتكوين المكوّن هو التاريخ. ورأى كانط أن الذات المكوِّنة هي الصخرة التي لا تتزعزع، والتي لا تتغير وليست بتاريخيةٍ. غير أن هيغل اعتبر الذي يكوِّن هو المكوَّن في التاريخ، وبالتالي يصير مختلفاً عن سلسلةٍ من الأحداث وأكثر من سلسلةٍ من الأحداث الماضية. فيصبح التاريخ تصوراً إبستيمولوجياً أساسياً، ويفهم التاريخ على أنه عمليةٌ جمعيّةٌ لأشكالٍ أساسيةٍ من الفهم مختلفة وذات تطورٍ ذاتي. أما لناحية الفرق بين رؤية الفيلسوفين الألمانيين فقد تميزت العلاقة عند كانط بين المكوِّن والمكوَّن، بين الترانسندنتالي والتجريبي–الحسي، بأنّها علاقة اختلافٍ مطلقٍ. أما عند هيغل كانت على العكس حيث تتحول تلك العلاقة إلى علاقةٍ مائعةٍ. وذلك له صلة باختلافٍ أساسيٍّ في طريقتي تفكيرهما. غالباً ما كان كانط يفكر بمفردات التضاد الثنائي، بينما حاول هيغل أن يسوّي بين الأضداد، من خلال وضعها في سياقٍ ديالكتيكيٍّ. وهكذا، حاول هيغل التغلب على الثنائيّة الكانطيّة بين ظواهر التجربة والشيء في ذاته (Ding an sich) برفضه فكرة الشيء في ذاته. وبدلاً من ذلك اعتمد على العلاقة المتبادلة بين الكائن البشري والعالم. وتشير تلك العلاقة إلى وجود صراعٍ مستمرٍّ بين ما يبدو أنّه (المظهر) وما هو كائن (الوجود). وذلك التوتر الديناميكي بين المظهر والوجود، داخل العلاقة بين الإنسان والعالم هو أساسيٌّ في تفكير هيغل الديالكتيكي.[10]

كنا ذكرنا، في ما سبق، أنّ التجريبيّة–الحسية الإبستيمولوجيّة الراديكاليّة هي متناقضةٌ تناقضاً ذاتياً، بمعنًى من المعاني. تدّعي هذه التجريبيّة الحسيّة أن المعرفة التجريبية–الحسيّة والرؤية التحليليّة لهما وجودٌ، رغم أنّ هذه التجريبيّة الحسيّة ليست في حدّ ذاتها تجريبية حسيّة ولا تحليليةً. بكلامٍ آخرَ، فالتجريبية–الحسية (Empiricism) تمثل موقفاً فلسفياً كان علينا أن نرفضه لأسبابٍ منطقيةٍ بعد أن نظرنا فيه. والتفكير العميق في ذلك الموقف أدى بنا إلى تجاوزه. وكذلك فإن التفكير العميق بالافتراض المسبق الترانسندنتالي الذي يمكّننا من التخلي عنه قد يظهر لنا أنّ الافتراض غير حصينٍ فلا يمكن الدفاع عنه، وبالتالي يبعدنا عنه. وقد يخلق التفكير العميق تغيراً، ويقودنا نحو مواقفَ أكثرَ حصانةً.

اعتقد هيغل أنّه من الممكن النظر إلى التاريخ على أنّه سلسلةٌ من الأفكار يتم فيها اختبار افتراضاتٍ ترانسندنتاليةٍ مسبقةٍ ومختلفةٍ اختباراً كاملاً، ونقدها لكي تتقدم الروح البشريّة نحو أوضاعٍ متزايدةِ الصحة. (ويجب ألّا يُفهم ذلك بأنّه يعني أنّ هيغل اعتبر التاريخ مجرد فكر، لا فعلاً ومصيراً). فالفلسفة الترانسندنتاليّة عند هيغل هي فلسفةٌ فكريّةٌ وفلسفةُ تاريخٍ، أي إنّ التاريخ هو الحوار الداخلي الذي أدّى بنا عبر الزمن إلى المزيد من الآراء الفلسفيّة. وهذا يعني أنّ لهيغل تصوراً معيناً عن الخبرة. ففي التقليد التجريبي–الحسي كانت الخبرة تفهم بشكلٍ رئيسيٍّ على أنّها خبرةٌ حسيّةٌ. أما مفهومه للخبرة فهو بمعنى ما، أقرب إلى المفهوم اليومي للخبرة، حيث يكون للخبرة صلةٌ بنشاطنا. فلا وجود عند هيغل لذاتٍ منفعلةٍ ولا لشيءٍ منفعل، لأنّ البشر والواقع يشتركان في تكوين أحدهما الآخر، وتؤدي الخبرة في هذه العمليّة دوراً مركزياً.

لقد اعتقد هيغل أنّ على كلّ فردٍ أن يعيش في عمليّة تطوّر الروح، ولكن في شكلٍ أقصر مدةً وأكثر تركيزاً. ثم يشير إلى تجربته الشخصيّة كمثالٍ ويقول في كتابه «فينومينولوجيا الروح»: «يمكننا أن نتذكر تطورنا الخاص «كسيرة حياة ذاتية»، وغالباً ما نقول أنّنا ننضج عبر الأزمات الدينيّة أو السياسيّة أو الوجوديّة، وعندئذٍ نرى النواحي الساذجة والناقصة في حالة وعي سابقة، وندفع إلى المضي قدماً. وهكذا يمكن فهم تطور الفرد على أنّه عمليّة تشكلٍ. ولهذا السبب غالباً ما كانت رسالة فنومينولوجيا الروح تقارن بما يسمى تربية الإنسان (Bildungsroman) (مثل كتاب غوته (Goethe) Wilhelm Meisters Lehrjahre). كما يمكننا أن نذكر كتاب إبسن (Ibsen) بير غنت (Peer Gynt): فهنا، أيضاً، تسرد القصة الطريق الذي يسلكه الفرد نحو نفسه الحقيقية، ومحاولة الفرد أن يجد نفسه. ورأى هيغل أنّ تلك المحاولة الرامية إلى أن يجد النفس، هي ما يحدث بشكلٍ رئيسيٍّ من خلال تفكيرٍ تاريخيٍّ–نقديٍّ. وقد قال هيغل أنّ الفنومينولوجيا هي «طريق الروح» التي تمرّ بمراحلَ مختلفةٍ يُدرك فيها الروح تدريجياً عيوب حالات وعيه السابقة، ونواقص الشروط السابقة الترانسندنتالية التاريخيّة المختلفة التي انطلاقاً منها يصدر تفكيرنا وفعلنا.

-------------------------------------

رامي طوقان : مترجمٌ وباحثٌ في الفلسفة الغربية.

[2]- فؤاد شاهين – مقدمة ترجمة كتاب: «هيغل والهيغلية» للباحث الفرنسي جان فرانسوا- كيرفغان –دار الكتاب الجديد المتحدة – بيروت 2017- ص 8.

[3] - المصدر نفسه، ص10.

[4] - يعترض هربرت ماركوز في كتابه العقل والثورة (Reason and Revolution) على هيغل  ويرى أنّه كان أبعد ما يكون عن الفاشية، لأنه أيد فكرة دولةٍ دستوريةٍ تحكمها القوانين.

[5] - المصدر نفسه.

[6] - للمزيد من الوضوح حول الطابع المحافظ لفكر هيغل السياسي:

انظر The Hegel Reader. Edited by Stephen Houlgate. Oxford: (n.pb.) – 1998. PP. 73 

[7] - The Hegel Reader, Ipid. PP. 77.

[8] - غنار سكيربك ونلزغيلجي- تاريخ الفكر الغربي من اليونان القديمة إلى القرن العشرين- ترجمة: حيدر حاج إسماعيل – المنظمة العربية للترجمة – بيروت 20 12- ص 657.

[9] - غنار سكيربك ونلزغيلجي- المصدر نفسه – ص 659.

[10] - غنار سكيربل ونلز غيلجي – مصدرٌ سابقٌ – ص 670.




-----------------------------------------

هيغل
من سيرته الذاتية - الفلسفية

وُلد جورج ويلهلم فريدريك هيغل (Georg Wilhelm Friedrich Hegel) في 27 آب/ أغسطس 1770 في شتوتغارت (Stuttgart)، من عائلةٍ بُورْجوازِيَّةٍ صغيرةٍ تدين بالبروتِستانتيّة اللوثرية، وكان والده مُوظّفاً. درس في الثانويّة حيث حصل على ثقافةٍ كلاسيكيّةٍ مَتينَةٍ عبر قراءته وترجمته وشرحه للمُؤلِّفين الإغريق واللاتينيين. كان يُعَدّ للمسار الكنسي، الذي يمثّل الطريق المضمون في ورتنبرغ (Wurtemberg)، حيث يتمّ تكوين القساوسة وتُدفَع لهم الرواتب من قِبل الدولة. من ثم تمّ قَبوله عام 1788 في وقف توبِنغن (Tubingen)، وهو عبارة عن مدرسةٍ إكليريكيّة كبيرة يجري فيها إعداد قساوسة المستقبل، تلقّى هيغل فيها تكويناً فلسفياً ولاهوتياً تقليدياً، كان ردّ فعله ضدّ هذا النمط من التكوين في كتاباته الأُولى قوياً. من ثمّ تابع هيغل مع زميلَيْه في الدراسة شيلنغ (Schelling) (1775 -1854)  وهولدرلِن (1843-1770) (Holderlin)، أحداث فرنسا بشغفٍ، ويُقال أنّهم غرسوا معاً شجرة الحريّة. إلاّ أنّ عصر الرعب [في فرنسا] سوف يُخفِّف من حماس هؤلاء الشباب الذين كانوا بالأحرى جيرونديين، فأُولى رسائل هيغل المحفوظة تُدين «حقارة الروبسبييريين» (Corresp., 1, 18). ولكنّه، بعكس آخرين (ومنهم شيلنغ)، لم يتراجع قطّ عن اعتناقه لمبادئ الثورة، التي تمتزج بالنسبة إليه بمبادئ الحداثة السياسيّة والاجتماعيّة .

في أواخر دراسته اقتنع هيغل أنّه لم ينشأ ليكون قسّا، بل سوف يصبح مربياً. وكانت محطّته الأولى بِرْن (Berne)، حيث قام في سنواته الثلاث الأولى بتدريس المبادئ الأوّلية لأطفال عائلة فون ستايغر (Von Steiger) النبيلة، مستفيداً من مكتبتها الغنيَّة لتوسيع ثقافته.

 اكتشف هيغل الاقتصاد السياسي بقراءته لترجمة المركنتيلي الإيكوسي جيمس ستيوارت (James Stuart)؛  وباشر في قراءة كتاب ثروة الأمم لآدم سميث (Adam Smith) (1723-1790)  الذي يذكره ويعلِّقُ عليه في مخطوطات يينا (Iéna)، وقرأ أيضاً لهيوم (Hume) وجيبون (Gibbon) ومونتسكيو (Montesquieu) وروسو (Rousseau) («بطله»، حَسَب زميلٍ له في الوقف)، وبالتأكيد كانط (Kant) (كتاب الدين، المرجع الأساسي لكتابات الشباب). واستفاد أيضاً من فصل الصيف ليقوم برحلةٍ في جبال الألب، كما يظهر أنّ هيغل لم يكن مُولعاً برومانسيّة المناظر الخلّابة للجبل! فما كان يُهمُّه همّ الناس والوقائع الاجتماعية والتاريخ لا جمال الطبيعة. تشكل إقامته في بِرْن تاريخ أول كتابٍ تمّ نشره؛ ترجمة [بدون ذكر منجزها] كانت ترجمة (مغفلة)  للرسائل السريّة لأحد ثُوّار بلاد الفود (Vaud) ج.ج. كارت (J.J. Cart). وكتب أيضاً مجموعة مُقتطفاتٍ بخصوص «الطابع الوضعي» للدين المسيحي وحياة المسيح، هذه الكتابات لم تكتمل ولم تُنشر.

 في صيف 1796، غادر هيغل سويسرا ليلتحق بمركزٍ تدريسيٍّ جديدٍ، في فرانكفورت هذه المرة، سيجدّد هناك اللقاء بهولدرلِن الذي سيكون له الفضل في حصوله على هذا العمل الذي سيشغله حتى آخر عام 1800. لا نعرف إلا أشياءَ قليلةً عن هذه الحِقْبة. سيقيم مُراسلةً مع صديقةٍ له من مرحلة الطفولة وهي نانيت أنديل (Nanette Endel)، لا علاقة لها بالمراسلات المتبادلة مع هولدرلِن ومايونيمته سوزيت كونتار (Suzette Gontard). لقد عاشر بانتظام إسحاق فون سان كلير (Isaac Von Sinclair)، صديق هولدرلِن وحاميه. ومرّ بفترة اكتئابٍ، لا تُقارَنُ بالانهيار النفسي لهولدرلِن، لكنّها تركت آثارها عليه. مع ذلك كانت الإقامة في فرانكفورت خِصبةً على الصعيد الفكري. أكيد، لم يَنْشُر هيغل شيئاً غير ترجمة النشرة الهجائيّة لِ«كارت» التي جرى تحضيرها في بِرْن؛ وتخلّى عن نشر مقالةٍ ذات ميلٍ جمهوريٍّ حول الوضع السياسي لورتمبرغ (Lunrtemberg).

بالإضافة إلى ذلك، بدأ بكتابة ما كان ينبغي أن يُصبح كتاباً حول وضعيّة الإمبراطوريّة، لو أنّ روح العصر (المُمثَّلة في نظره في نموذج البطل الحديث، بونابرت) لم تعجِّل باحتضاره، وقد لوحقت هذه المخطوطة، ثم جرى التخلِّي عنها في بداية إقامته في يينا. بعد قرن من الزمن، اكتُشفت هذه المخطوطة بعنوان تكوين الإمبراطورية الألمانية وهي مُفعَمة بالروح الجمهورية المُستوحاة من مكيافيلي. لكن الأساسي في عمل هيغل يدورُ دائماً حول المسائل الفلسفيّة – الدينيّة. أصبح أقلَّ تأثّراً بكانط ممّا كان عليه في بِرْن، فاكتشف إطاراً مفهومياً فريداً لبحث ما تقصِّر فيه اللغة المعروفة، وهو ما أوصله إلى صياغة فلسفته الخاصة. حيث يقول: من الآن فصاعداً يجب تجاوز «الانفصال» الذي يطبع حياة الشعوب الحديثة، لكن بالاضطلاع به وبمُواجهته، يجب التوصّل إلى «الاجتماع مع الزمن» بوساطة الجدليّة (Francfort, 377).

بحث هيغل عن منصبٍ أكاديميٍّ مُلائمٍ لشُهرته، وكان يأمل بكرسيٍّ في جامعة إيرلنغن (Erlangen)، لكن في النهاية وظَّفته جامعة هايدلبرغ (Heidelberg) وهو بعمر ست وأربعين سنة. قضى فيها سنتين، نشر خلالهما موسوعة العلوم الفلسفيّة (1817)، وهي اختصارٌ للنظريّة التي عرضت أخيراً بكاملها، ومن حينها أصبح يُدرِّس على قاعدة هذا الكتاب (وقد صدرت منه طبعتان عام 1827 و1830)، مُتوسّعاً في دروسه بهذا الجزء من الكُلّ أو ذاك.

إنّ مُعظم النشاط الفكري لهيغل في برلين لم يكن في مجال النشر: لقد عمل فصلاً بعد فصل في دروسه التي كان يُلقيها بالتناوب عن أجزاء النسق. نُشرت هذه الدروس من قِبل تلاميذه الذين استخدموا مُلاحظاته ودفاتر المُستمعين التي تُشكِّل مع الكتابات المنشورة خلال حياته، الطبعة الكبرى، حيث ظهر عشرون مُجلَّداً منها انطلاقاً من العام 1832. وقد أصبحت بعد ذلك دروس التاريخ والفنّ والدين وتاريخ الفلسفة تحتلُّ في التأويل الهيغلي مكاناً مُعادلاً للكتابات المنشورة، إلى درجةٍ تبدو فيها أحياناً مبدّلةً لصورة هذا الفكر.

أما في ما يتعلَّق بحياة هيغل، فإنّها قد انتهت في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1831، إذ تُوفّي متأثّراً بداء الكوليرا الذي أجهز عليه في أيامٍ قليلةٍ. غاب هيغل تاركاً أعمالاً صعبةً. وقد كان واعياً للأمر ولذلك تُعزى إليه هذه الكلمة: «واحد فقط فَهِمَني، ومع ذلك لم يفهمني». فالشهرة التي تعتبره أرسطو العصور الحديثة، لم تكن تُغيظه، بدليل أنّه ختم موسوعته باستشهاده من كتاب «ما وراء الطبيعة» الذي كان له الأثر الكبير في نظامه الفلسفي.