البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

المبتدأ : وثن التقنية وعبادة الشيء

الباحث :  محمود حيدر
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  15
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2019 م / 1440 هـ
تاريخ إضافة البحث :  May / 7 / 2019
عدد زيارات البحث :  749
تحميل  ( 201.898 KB )
ليس ثمة ما يدعو إلى الاستغراب، حين يُرى إلى حداثة الغرب وهي تنتقل بلا رويَّة من تقديس العقل إلى تقديس الشيء الذي صنعه العقل. هذه الفَرَضية موصولة بالتساؤل عن مآل حضارة استهلت رحلتها بعبادة العقل المحض، ثم هوت إلى عبادة الفرد، كيف لها ألا تنتهي إلى عبادة الآلة؟..
الجواب سيكون مركباً بالضرورة. فالمسألة هنا لا تعود وحسب، إلى السببية التاريخية واستقراءاتها المنطقية، وإنما أيضاً وأساساً إلى البَدْءِ الميتافيزيقي الذي قام عليه عقل الغرب وروحه.
مفكرو الغرب من الذين آلَمَهُم المآل وشرعوا بنقد الذات، راحوا يكشفون عن رابط وطيد بين ثلاث صُوَر للإنسان الحديث: صورة الإنسان المفكر، وصورة الإنسان الصانع، وصورة الإنسان الاقتصادي أو المنتج. فالإنسان المفكر ذو الذهن العقلاني يمكن أن يكون في الوقت نفسه قادراً على الهذيان والحُمق. والإنسان الصانع، الذي يتقن صنع واستعمال الأدوات التقنية، هو الذي كان قادراً منذ بدايات الإنسانية على إنتاج أساطير لا تحصى. أما الإنسان الاقتصادي الذي يُعرف انطلاقاً من مصلحته الخاصة، فهو انسان الاستهلاك، أو إنسان اللعب والإنفاق والتبذير. لكن هذه الخصائص المتناقضة تبدو متداخلة بين بعضها البعض. حسب المفكر الفرنسي إدغار موران. ففي سياق مطالعاته النقدية لما سمَّاه "البربرية الأوروبية" رأى أن ترياق الهذيان و"الحمق" يمكث في أعماق العقل الحديث. يضيف: نظن في غالب الأحيان أننا داخل العقلانية بينما لا نكون في واقع الأمر إلا داخل العقلنة. أي عقلنة ما هو غير منطقي وغير أخلاقي وغير معقول. إذ بإمكان العقلنة أن تخدم الهوى، وتقود إلى الهذيان. فالإنسان الصانع ينتج أساطير هاذية، ويمنح الحياة لأوثان متوحشة قاسية ترتكب أفعالا بربرية وحروب إبادة لا تبقى ولا تذر. ومع أن هذه الأوثان هي من إنتاج الذهن البشري، كما يلاحظ موران، إلا أنها  تتمتع بحياة خاصة، وبسلطة تمكِّنها من السيطرة على الأذهان. وبهذه الكيفية تنجب البربرية الإنسانية معبودات تكنولوجية قاسية تدفع البشر نحو البربرية. ثم ينتهي إلى القول: إننا نحن الأوروبيين نشكل آلهة تشكلنا بدورها. ذلك بأن التقنيات التي أنتجها الإنسان، مثلها في ذلك مثل الأفكار، ترتد ضده، وتنفلت من عقالها لتلتهم الإنسانية المنتجة لها.
هكذا بدأت الحداثة الغربية كتحول انعطافي انطلق مع هيمنة العقل وطَمَح إلى استيعاب شامل لما يُزعم بأنه "اللاَّمعنى". أي لكل ما يختزنه وعاء الغرب من قيم واعتقادات لا تقع تحت عينه الاستدلالي واختباراته التكنولوجية. حتى إذا جاءت التحولات بدت صورة الحداثة شديدة التداخل والمفارقة: من الناحية النظرية كانت الغاية من مشاريع التحرر أن يكون الإنسان هو غاية تاريخه لا مجرد وسيلة له، أما من الناحية الإجرائية فقد حصل ما يخالف هذا المدَّعى. فقد انعطفت حركة التحديث بلا هوادة نحو زمن مشحون بعنف الهويات الايديولوجية. الشاهد ان القرن التاسع عشر الذي افتتحته الثورة الفرنسية عام(1789م- 1799م) وانختم بمأساة الحرب العالمية الأولى، شكّل تأسيساً لزمن العنف المشار اليه. فلمَّا انفسح التاريخ أمام القرن العشرين، بلغت قيم التنوير نهايتها المحتومة. فلقد تميز هذا القرن باستشراء الشموليات الأيديولوجية التي ستبدِّد جل ما أتى به فلاسفة التنوير، ثم توغلت في أرض الغرب لتحيلها إلى مسرح يشهد على فجائعيتها المرعبة. فالعقل الذي افتتح مساره بإعلان تسيُّده على الكون، ما لبث ان وقع فريسة العنف القهري لكي يسيطر على كل شيء. كان العقل الأوروبي الصناعي في تلك الحقبة مهووساً بمصنوعه حد التطيُّر. الأمر الذي حدا باللاهوتي الإنجيلي ديتريش بونهوفر الذي قضى ضحية النازية عام 1945، إلى القول: لقد صار سيد الآلة عبداً لها، وأمست الآلة عدواً للإنسان، وحرية الجماهير انتهت إلى رعب المفصلة، والتحرير المطلق للإنسان سيختم مساره بالدمار الذاتي.
لا تبدو مآلات الحداثة التقنية في هذا السياق إلا كمحصول لعقل استبد به الغلو، فانزاح عن غايته وانحدر صوب التشييئ المروِّع للإنسانية المعاصرة. هذا هو بالضبط الأمر الذي أوْقَدَ حماسة هايدغر إلى نقد ما جَنَتْهُ التقنية على الإنسان الحديث. لكن القضية عنده تتعدى السخط على مظاهر التقنية وأعراضها لتطاول طبقاتها الخفية والعميقة.
لقد اتخذت التقنية في تفكير هايدغر أفقاً يجاوز ما درجت عليه التيارات النقدية ولا سيما مدرسة فرانكفورت باعتبارها ظاهرة من ظواهر الاستلاب الرأسمالي. طفق يقيمُها على أرض التأويل من أجل أن يكشف عن أبعادها القصِيَّة في ميتافيزيقا الحداثة. ولمّا وصفها بـ"الاصطناع المفروض" أراد أن يبيِّن كيف ان الإنسان يفقد بسببها كل طابع ميتافيزيقي. ولأنه "فيلسوف الحنين إلى الكائن" كما يصفه عدد من قرائه، فقد عكف على كشف ما ينحجبُ فيها من آثار مفجعة. جوهر التقنية بالنسبة إليه ليس بشيء تقني، وانما هو عامل مكوِّن للتفكير الميتافيزيقي في الغرب. من أجل ذلك راح يدعو إلى الاحتراس من هذا "الجوهر" الذي تأسست ملحمته الأولى مع بارمنيدس وافلاطون وأرسطو وجرى تكميله مع فلاسفة ومفكري عصر التنوير. وعلى هذا التأسيس الغائر في التاريخ، تظهر التقنية كطغيان لا راد له على الحضارة الإنسانية الحديثة. لذلك سعى هايدغر إلى متاخمتها بوصفها تعبيراً عن مأزق النزعة الانسية التي تطلعت إلى تتويج الإنسان كسيِّد للكون. ومعها بلغت الميتافيزيقا أوجها ونهايتها.
من أظهر السمات التي يمكن استخلاصها من اختبارات العقل الغربي، أنه صنع مدائن الحداثة وما لبث إلا قليلاً حتى وقع في أسرها. كما لو أنه آنَسَ إلى صنعته لتصير له أدنى إلى كهوف ميتافيزيقية مغلقة. ومع ان مساءلة الذات في التجربة التاريخية للحداثة انتجت تقليداً نقدياً طاول مجمل مواريثها الفكرية وأنماط حياتها، إلا أن هذه المساءلة ـ على وزنها في تنشيط الفكر وبث الحيوية في أوصاله ـ لم تتعدَ الخطوط الكبرى التي وضعها لها نظامها الصارم.
بسبب من هيمنة العقل التقني، سنلاحظ ان جلَّ المنعطفات التي حدثت في حقل المفاهيم والنظريات والأفكار جاءت مطابقة لمعايير ومقتضيات الثورة العلمية. بيد أن الذي حصل ما كان ليأتي على سبيل المصادفة. فالمعاثر التي عصفت بالعقل الغربي في طوره المعاصر لم تكن حديثة العهد، بل كانت موصولة بأصلها اليوناني ولم تفارقه قط.
لقد بذلت الميتافيزيقا مذ ولدت في أرض الأغريق وإلى يومنا الحاضر ما لا حصر له من المكابدات. اختبرت النومين (الشيء في ذاته) والفينومين (الشيء كما يظهر في الواقع العيني) لكنها ستنتهي إلى معضلة استحالة الوصل بينهما. كانت ذريعتها ان العقل قاصرٌ عن مجاوزة دنيا المقولات ولا ينبغي له العلم بما وراء عالم الحس. على هذا النحو انعطفت الميتافيزيقا الأولى نحو مفارقة سؤال الوجود كسؤال مؤسِّس، لتستغرق في بحر خضم يمتلئ بأسئلة الممكنات الفانية وأعراضها الزائلة.
ظهرت التقنية كفجوة تتوسع يوماً إثر يوم في بنية العقل الغربي الحديث. لعل أشدها وقعاً توضيع العقل في مواجهة الإيمان، والتقنية في مواجهة البعد الروحي للإنسان. والنتيجة أن وقع العقل الحديث في أحادية جائرة ستجرِّده من إمكانات هائلة هي ضروريّة لتجدّده الحضاري. أمّا السبب فيعود إلى شغف العقل الحداثي غير العقلاني بعقلانية العلم ومنجزاته. فالغلو بالعقلاني حين يصل إلى حدّه الأقصى يحدثُ مساراً ارتدادياً على العقل نفسه، بحيث تظهر علاماته باضطراب السلوك وعدم القدرة على ضبط حركة التقدّم في الميادين الحضارية كافة. فمن المنطقي القول بإزاء فجوة التناقض بين التقدّم العلمي والإيمان، أن الأشياء والظواهر لا تتضاد أو تتصارع إلّا بين أجناسها. ولكن لم يدرك العقل التقني - وبسبب من استغراقه في دنيا الرقمية الصمَّاء - ان العلم لا يمكن ان يحتدم إلّا مع العلم، والإيمان إلّا مع الإيمان. فلم يكن الصراع الشهير بين نظريّة التطوّر ولاهوت بعض الطوائف المسيحيّة صراعاً بين العلم والإيمان، كما يبين الفيلسوف واللاهوتي الألماني بول تيليتش، بل بين علم يجرّد إيمان الإنسان من إنسانيّته، وإيمان شوَّه التأويل الحرفي للكتاب المقدّس تعبيراته.[تيليتش – 46]. تأسيساً على هذه الفرضية لن يكون ثمة من صراع بين الإيمان في طبيعته الحقيقية والعقل في طبيعته الحقيقية. ويشمل هذا التأكيد حقيقة تالية هي أنه لا يوجد صراع جوهري بين الإيمان والوظيفة الإدراكية للعقل.
في الحداثة التقنية حصل الانشطار المزعوم بين الحقيقتين المتلازمتين. ما أفضى إلى"جاهلية جديدة، انبرى العقل يتوكَّأ فيها على المشاهدة والاختبار والتجريب؛ ولا تعير أهمية إلا للعقل الأداتي الجزئي الاستدلالي، الذي لا شأن له سوى الاستدلال طبق قواعد المنطق الصوري. الأهلية الوحيدة لهذا العقل هي أن يصبّ القضايا المتأتية عن المشاهدة والاختبار والتجربة الحسية الظاهرية في قوالب الاستدلالات المنطقية المنتجة، ويقدم نتائج جديدة. في ما يتصل بوجود الله سلكت الحداثة منحى إنكارياً حيناً أو لاأدرياً حيناً آخر. فالإنسان الحديث صنع لنفسه عالمًا خاصًا بيده، هو عالم نسيان الله، وتفريغ المعرفة من مضمونها المقدس، والتضحية بمسؤولية الإنسان حيال الله لصالح الإنسان، وتدمير الطبيعة. وتخلص هذه الرؤية إلی أن خير العالم الجديد الحداثي عَرَضي، وشرّه ذاتي؛ أمّا خير عالم الماضي ما قبل الحداثي فهو ذاتي، وشرّه عرضي. وهو يقصد هنا الماضي الذي كان فيه الوحي المسيحي حاضراً ومؤثراً في الوجدان الغربي.
لكي يستقيم النقاش في شأن الاستعمال الحداثي للعقل سيكون علينا ان نتساءل عن المقصود من كلمة "عقل" حين تُواجَه بالإيمان. هل المقصود بها، كما هي الحالة في الغالب اليوم، أن تُطلَق بمعنى المنهج العلمي والصرامة المنطقية والحساب التقني؟ أم هي تُستعمَل، كما كان الحال في كثير من حقب الثقافة الغربية، بمعنى منبع المعنى والبنية والمعايير والمبادئ؟

في الجواب نلحظ ما يلي:
-في الحالة الأولى أو حالة العقل الأدنى فإن هذا العقل يوفر الأدوات اللازمة لمعرفة الواقع والسيطرة عليه، ليهتم بتدبير الحياة اليومية لكل إنسان وبالتالي فهو القوة التي تحدد الحضارة التقنية لعصرنا.
-في الحالة الثانية أو حالة العقل الممتد، وهي التي يتماهى فيها العقل بإنسانية الإنسان في مقابل جميع الكائنات الأخرى. فهو أساس اللغة، والحرية، والإبداع وحافظ القيم الإيمانية والأخلاقية.
العقل إذاً، هو الشرط القبلي للإيمان: لأن الإيمان هو الفعل الذي يصل به العقل في نشوته الانجذابية إلى ما وراء ذاته. كما يبين بول تيليتش. صحيح ان عقل الإنسان متناهٍ ويتحرك داخل علاقات متناهية حين يهتم بالعالم وبالإنسان نفسه. لكن هذا العقل ليس مقيداً بتناهيه. بل هو يعيه، وبهذا الوعي، يرتفع فوقه. ولا يتحقق العقل إلا إذا سيق إلى ما وراء حدود تناهيه، إلى الحضور في المقدس. ومن دون هذه التجربة، يستهلك العقل نفسه ومحتوياته المتناهية. ويصبح مليئاً بالمحتويات اللاعقلية أو الشيطانية، فتدمره هذه المحتويات. وبهذا يصير العقل مسلّمة الإيمان، والإيمان هو تحقق العقل ولا يعود هنالك من تناقض بين طبيعة الإيمان وطبيعة العقل، بل يقع كل منهما في داخل الآخر.
كانت التقنية حاضرةً بقوةٍ لمَّا نشر أوسويلد شبنغلر (Oswald Spengler) الطبعة الأولى من كتاب تدهور الحضارة الغربية (The Decline of the West)، في ستينيات القرن المنصرم. يومها عبّر بعض القرّاء عن اعتراضهم على بعض نتائجه، مشكّكين باقتراب انهيار الحضارة الغربية، إلا أن غالبيّتهم كانت تتوقّع الانهيار منذ زمن طويل. لم يكن هذا بسبب الحرب العالمية الثانية، فعلى العكس، كانت الحرب وقت حماس وتكريس تامّ للنفس من أجل هدف مقدّس، وغدت المخاوف والشكوك المقلقة بالنسبة لمستقبل الثقافة الغربية طيّ النسيان. مع ذلك كله كان واضحاً وقتذاك أن الحضارة الغربية تسير بثبات نحو الانحلال. أما كيف ستبدو صورة الانحلال في خواتيمها الأخيرة، فهذا ما أخذت تنبئ عنه الميديا منذ عقدين من سيرتها المدوية؛ إذ حوَّلت المعرفة البشرية إلى مجرد رموز وأرقام وعالم بلا يقين...
هذا العدد من "الاستغراب" يتاخم التقنية في مظاهرها التاريخية وأصولها الفلسفية.. كذلك يرقُب تداعياتها وآثارها المؤذية على أنظمة القيم والمعايير التي تحكم حركة الإنسان المعاصر ومصيره. وقد ساهم فيه جمعٌ من المفكرين والباحثين وعلماء الاجتماع من أوروبا وأميركا والعالمين العربي والإسلامي.