البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الأخلاق التقنية ، هوام توتاليتاري بتغطية ميتافيزيقية

الباحث :  مارك غراسان - Mark Grassin
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  15
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2019 م / 1440 هـ
تاريخ إضافة البحث :  May / 7 / 2019
عدد زيارات البحث :  1101
تحميل  ( 374.103 KB )
 يذهب الباحث والطبيب الفرنسي مارك غراسّان في هذه الدراسة إلى أنّ التقنية أمرٌ تتضمّنه الحركة الأولى للبشريّة، إلا أنّه لا يمكن القول بأنّ أيّ تطبيقٍ للتقنية أمرٌ مرغوبٌ فيه، لأنّها لم تكتف بتغيير الواقع المادي للوضع البشري وإنّما أسهمت في التأثير على واقعه الرمزي والأنطولوجي. كما يسلّط الباحث الضوء على الفاعليّة التقنية ونتائجها العمليّة لناحية الإعلاء من شأن الذات وبالتالي مركزيّتها، وأنّ الحلم بتقنيةٍ مركزيّةٍ أنتربولوجيّةٍ وإنسانويّةٍ تكون في خدمة الإنسان يضمحلّ بمجرّد فهم حقيقة الذاتيّة التي تتبناها الليبراليّة المعاصرة.

المحرّر

------------------------------------------
يمثّل القرن العشرون أكثر القرون تقدّماً في حقل التقنيات. برز ذلك في ازدهار فعاليّتها والانتشار غير المحدود لِحقولها التطبيقية، ما عجّل في حركة تحوّل المجتمعات إلى حدّ بقي فيه الإنسان حائرًا لجهة قدرته على مرافقة واستباق ما يرتسم. فالقضية ليست إلا نفسيّةً. إنّها تتمحور حول تحوّل طبيعة التقنية نفسها، التي تُحطّم وتَكسِر «الذي هو إلى ذلك الحين أنتروبو-وجودي” في الإنسان[2]. إنّ التقنية الحديثة ليست الأداة التي تزيد في امتداد القوة، البَدَل المُرافق والمُسهّل للانتماء إلى العالم. كما أنّها ليست أداةَ تحويلٍ وإعادةَ إنتاجٍ للطبيعة، بل هي العضو الخاصّ بإعادة تشكيل الطبيعة بِما هي كذلك وإعادة تشكيل الوضع البشري. من هنا فإنّها تَتَسبّب في الكثير من القلق والحماسة[3]. إنّ التحوّلات التي تَتَسبّب بها التقنيةُ، والوسائل الجديدة التي تُدخِلها إلى العالم، تجعل الإنسان المعاصر تائهًا يتنازعه الذهول أمام محاسنها والرعب من انزلاقاتها. ذلك أنّ الوسائل الجديدة التي نُحسّ بها ليست تحوّلًا صغيرًا في الهوامش، يترك العالم وكلّ المعرفة التي اكتسبناها وصبرنا على اكتسابها، يتركهما سليمين. إنّ طبيعة التحوّل مزدوجةٌ: من جهةٍ أولى، هو إقرارٌ فعليٌّ لسلطةٍ شبه كليّةٍ على الطبيعة[4]، ومن جهةٍ أخرى، فهو يُعيد تشكيلَ عناصرَ أنتروبولوجيةً أساسيةً كانت تبدو إلى حدّ ذلك التاريخ في منجًى مثل الزمان والمكان والرمزي واللغة[5]. إنّنا مَدعوّون إلى أن نأخذَ على عاتقنا إعادة التفكير بطريقةٍ تقلبنا رأسًا على عقِب، بِما في ذلك إعادة التفكير في الأبعاد التي -إلى الآن- لا يُؤثَّر فيها، وثابتة، وأزليةٌ، وبنيويةٌ. يتعلّق الأمرُ بِتغيّرٍ حقيقيٍّ، وليس هذا فحسب، بل باختبارٍ وتحدٍّ. إنّ الوضع المعاصر، بِقطع النظر عمّا نعتقده بشأنه، يُجبر على الدخول في كونٍ جديدٍ، يأخذ المرءُ فيه على عاتقه عدم التعيّن القبلي لِما نحن عليه أو نعتقد أنّنا عليه. إنّه بالتأكيد صدْمةٌ للإنسان الهزيل عندما يتعلّق الأمرُ بِدمْج الوسائل الجديدة، ذلك الذي “ما يزال لم يُفهَم”، لكنّ الصدمة أكبر بالنسبة إلى الفكر نفسه، الذي من أجل أن يكون وفيًا لِما هو عليه، لا يمكنه أن يتفادى ما يجري ويُوطَّد. وعندما يجد الفكرُ فيه توجّهًا مُثيرًا للقلق وغامضًا لِمصير الإنسان، يكون مُضطرًّا إلى إعادة توظيف المصطلحات والتمثيلات التي عرف الاحتفاظ بها كي يُحرِزَ تقدّمًا بصفاءٍ نسبيٍّ.

في بعض الأحيان، وسواءً أكانت التقنية عونًا مهمًّا وشريكًا للأنسنة أم مسؤولةً عن كلّ الأوجاع التي نتجت عن نزع الطابع الإنساني وعن تشْيِيء العالم الإنساني، نعتقد أنّنا مُجبَرون على اختيار فريقٍ ما، كما لو أنّ الانضمام إلى فريقٍ معيّنٍ في نظر التقنية له معنًى. إنّ الأكثر اعتدالًا، الذين يَقيسون الدَيْن الضخم الذي نَدين به للتقنية ويتذكّرون أنّها كانت -من خلال المزاوجة بينها وبين العلوم- الحليف الموضوعي للإنسانويّة والحداثة. يُكرّرون بالإجماع المبدأ القائل بأنّ التقنية ليست هي المشكلة، بل المشكلة في استعمالها. لذلك يدعون إلى تحمّل المسؤولية في استعمال التقنية، وإلى الوعي والأخلاق من أجل تأطير الإضافات الجوهريّة والتأثيرات التي جاءت بها العلوم والتقنيات على الوضع والحياة البشريين، مُنتصِرين بذلك للتقنية البشريّة[6]. إنّ المتشائمين والقلِقين لديهم هذا الشيء العتيق والسخيف، بِقَدَر ما يكون للرّفق بِالإنسانية وقعٌ حسنٌ في خطابهم، كما لو أنّ النيّة والتصريح والكلام المفخّم تكفي لتأكيد عالم الغد. يعبرون فوق القلق بسبب عدم وضوح ما يحدث، فيجدون في التقنية كبش فداءٍ يُجنّبهم إيضاح الأسباب الحقيقية لِتعزيماتهم (incantations) المتشائمة، كذلك أسباب فقدانهم بعض المواقع التي اكتسبوها، ولَحِقَت بها الإهانة من جرّاء إعادة تشكيل الوقائع. أخيرًا، فالمتفائلون ومُحِبّو التقنية المُعتادون عليها يُثيرون السخرية لدى البعض الذي لا يُبالي بالكارثة، وقد أصابه العمى بعد أن قام -بشكلٍ إراديٍّ أو لا، على الدّوام أو موقّتًا- بتخدير الجهد النقدي للفكر. مُحِبّو وكارِهو التقنية، مُتطرّفون أو مُتشدّدون، ينضمّون ويضعون أيديهم بأيدي بعضهم دون أن يبدو عليهم ذلك، وذلك كي لا يأخذوا على عاتقهم إلى النهاية تأثير البعد الأنتروبولوجي المُقوّم للتقنية، أي وجوب التفكير بحركة الإنسان «المُجدَّد» (innové) من خلال هذا الجزء الفعّال منه (التقنية).

لا مجال لاختيار فريقٍ والانضمام إليه. إنّنا نعيش وننتفع بالسرعة ذاتها من عصر التقنية، وذلك بالاستفادة من هباتها السخيّة على الرغم من السيّئات «الصغيرة»، التي سرعان ما يتمّ نسيانها عند العودة إلى ميزان الربح والخطر[7]. الهرب من التقنية وشيطنتها يقودنا إلى “معيشةٍ” مُستحيلةٍ من الناحية الموضوعيّة، فنُضطرّ إلى الانسحاب من العالم أو الانفصال عنه. قد يترتّب على هكذا انطواءٍ كارِهٍ للتقنية تقهقر الشروط المادّيّة بحيث يصعب إدراكه، ما دام الاعتراف بالذاتية الليبراليّة مُلصَقًا بها[8]. إنّ التقنية واقعةٌ إنسانيةٌ وجوهريّةٌ كغيرها من الوقائع الأخرى للوضع البشري. لا يتعلّق الأمرُ باختيار مجموعةٍ من التقنيات، وإنما بفتْح طريقٍ بشريةٍ تَليق بالإنسان، عبر الانفتاح (Béance) السعيد والشرّير الذي شقّته التقنية. يقول الأقدمون أنّه انقضى زمانٌ لم تعرفه أوساط الشباب، زمانٌ سعيدٌ تقاسَمَت فيه الكائنات والوجود والطبيعة والتقنية الأدوار، وقدّموا أطرًا مفهوميّةً موزّعةً ومُنظّمةً. إنّ محاربة الفوضى في العالم بدأت بالسعي إلى الفصل والتفريق والترتيب. وجدتْ التقنية إطارها، وهو أن تكون في خدمة أولية الكائن، خادمٌ يُتحكّم به لأجل غايةٍ. إنّ طريق العالم التقني نحو تحقيق تاريخٍ مركزيٍّ-أنتروبولوجيٍّ (anthropocentrique) ووجوديٍّ، طويلٌ وجميلٌ، يمكن أن يبدأ. إنّ القدرة الضعيفة على إعادة تشكيل الوقائع الماديّة، والبطء في تسلسل التجديد التالي، يُحافظان على الأطر المفهوميّة السليمة. كلّ شيءٍ كان يحدث كما لو أنّ التقنية لم تؤثّر في طبيعة الإنسان. إنّ التغيير الذي أدخلته التقنية لم يكن مُمكنًا إلا في إطار استمراريّةٍ صافيةٍ للتطوّر.

ولأنّنا نستطيع تجريب ذلك، علينا مُلاحظة أنّ عصر الحركة المُستمرّة ليس جليًا. فهو لم يكن العصرَ السعيد المزعوم حيث ظلّت الحدود باستمرارٍ جزءًا من اللّوغوس. وترتسم الحدودُ من جديد، فترسم أشكالًا جديدةً ومخطّطاتٍ للفكر، وتُشوّه أو تطمس ما يمكنه أو يجب عليه أن يُحدّد نسقًا ما. إنّ النسق القديم للتوزيع المُحدّد مُسبَقًا بات وراءنا، من دون أن يعني هذا أنه كذلك أو أنّه لا يعلّمنا شيئًا عن أنفسنا. إنّ التحدّي الحديث ماثلٌ هنا، في هذه الحرية لشخصٍ نشيطٍ وصانِعٍ، والتي تقع بين قوة الاختراع -التي للعالم- وإرث التمثيلات والتوزيع التي سمحت لنا بالوصول إلى هنا. في الخاتمة، يتعلّق الأمر بأن نأخذ على عاتقنا ضرورة نقد العلاقة بين التقنية والإنسان بشكلٍ غير قبلي.

الصديق الأفضل للإنسان ليس الكلب

على عكس الفكرة السابقة، فالصديق الأفضل للإنسان ليس الكلب وإنما التقنية. بالنسبة إلى الأفضل والأسوأ، التقنية تُشبه الزواج، فالأفضل ليس أكيدًا، وكذلك الأسوأ. التقنية خليطٌ مُضطربٌ ينبغي على المرء باستمرار أن يُفاوضه ويأخذه على عاتقه. تُولَد المغامرة الإنسانيّة من الحركة التقنية[9]. إنّ الأنسنة، كما يُذكّر ب. سلوتردايك (Sloterdijk) في كتاب “تدجين الكائن” (Domestication de l’être) مُرتبِطةٌ بالتقنية[10]. فهي تسمح بفعل شيءٍ آخر، بطريقةٍ مُختلفةٍ، من خلال تحويل الشروط المُحدّدة للطبيعة والبيئة إلى إمكانيّة حرية. يولَد الإنسان وهو يُدرك أنّ بالإمكان -والأدوات في يده والتكنولوجيا بقلبه- تغيير الواقع، «وإحداث الثغرات في قفص البيئة[11]”. إنّ هذا التغيّر -بعيدًا عن كونه مجرّد وضْع يدٍ أو ملكيةٍ أو تفتيشٍ- يحمل اسم الحريّة. إنّ البيئة التي ننتمي إليها تُصبح عالمًا لأنّه يمكن تقرير شكلها وأساسها. يُصبح العالم من خلال التقنية موضوع تصنيعٍ، يتحدّث جيلبرت هوتوا عن الاصطناع المتنامي[12]. أن يكون المرء في العالم أو أن يكون جزءًا من عالمه، يعني تشكيل وإعادة تشكيل الواقع. فالطبيعة، التي تعني (phusis)، وتعني الوضع البشري، لم تعد هذه الأرض المقدّسة التي لا تُمَسّ بل باتت الرهان والغرض للغزو ولسيطرةٍ أكثر فعاليّةً بقدر ما يتطوّر العلم والتقنية ويتعاونان. ليس من باب المبالغة القول أنّه، من خلال التقنية، الحرية تكبر بينما الإنسان ينمو ويتطوّر. لكنّنا بذلك لا نقول أنّ التقنية هي الشرط الوحيد للحرية، ولكنّها شرطٌ ضروريٌّ. تطبيق التقنية على العالم أمرٌ ينطوي على تعريض طريق الحرية للخطر. وتأثير ذلك لا بد أن ينعكس على تمثيل الطبيعة التي لا تعود قابلةً للفهم بوصفها واقعًا دائمًا، أبديًا ومُقدّسًا. بل على العكس، عندما تُصبِح الطبيعة منزوعةَ القداسة لتكون في مُتناول الإنسان، فإنّها تُرسّخ قيمة الحرية، وتُعطيها أشكالها وهدفها. ذلك بلا ريبٍ هو مصدر القلق المعاصر. فالإنسان الذي يتمتّع بقدرته التقنية يجد أمامه الوضع المُقلِق المُتمثّل في أنّ عليه أن يُقرّر كلّ شيء، حتى طبيعته، وأن يأخذ على عاتقه حريته إلى النهاية، وأن يصنع مساحةً أكبر للراحة حيث لا يجب سوى العيش. فالإنسان ينتمي إلى الوجود الذي يأخذ على عاتقه الوجوب العملي المُتعلّق بتقرير العالم والذات. واليوم يظهر ذلك للجميع لكنّه -في الواقع- يندرج منذ الحركة التقنية، ومنذ الحركة البشرية الأولى. إنّ التكنولوجيات الأحيائيّة الخاصّة بالكائن الحيّ أتمّت في هذا الصدد إعلان الحقيقة «البشرية» للإنسان، «البشرية» جدًا كما يقول البعض. التحكّم بالشيفرة الوراثية وتركيبها، اصطناع الحيوان أو الإنسان، الإنجاب الاصطناعي، كلّ ذلك أيًا يكن ما نعتقده بشأنه يُعبّر عن هذا الوضع البشري الذي جرى إيضاحه أخيرًا. تحدّت الطبيعة قدرة الإنسان. وبإحياء هذا التحدّي، جعل الإنسان من هذه القدرة علامة مصنعه. فالإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يفهم الطبيعة، وكلّ ما له علاقة بها. إنّ تطبيق التقنية على الكائن الحيّ أمرٌ تتضمّنه الحركة الأولى، فهو «طبيعي» و«مُترابطٌ» من ناحية خصوصيّة الإنسان. لكننا بذلك لا نقول أنّ أيّ تطبيقٍ للتقنية أمرٌ مرغوبٌ فيه، وإنّما فقط أنّ الأمر المرغوب يتشكّل ويندرج وينفتح على هذا التغيّر البشري والطبيعي «الصانِع» و«المُسيطِر» لجملة الإنسان.

لم تغيّر التكنولوجيا الواقع المادّي للوضع البشري فقط، وإنّما غيّرت أيضًا واقعه الرمزي والأنطولوجي. لقد غيّرت التكنولوجيا الطريقة التي يرتبط بها الإنسانُ بالعالم، ويفهمه. وغيّرت التكنولوجيا الطبية، في أقلّ من أربعين سنة، مفهوم الموت، ومفهوم الولادة، ومفهوم الحدود، وقلبت رأسًا على عقِب تمثيل الجنين والعضو والصحة، فمهّدت لشكلٍ جديدٍ من الماديّة (corporéité) البيولوجيّة والبشريّة. إنّ تكنولوجيات الإعلام أوجدت علاقةً جديدةً بالمكان، لا مُتناهية وبلا مسافة، لها زمنٌ مباشرٌ وبِلا ذاكرة، فطوّرت مناهج جديدةً خاصّةً بقابليّة ردّ الفعل وقابليّة التكيّف مع الأحداث، ومع الوضع البشري الراحِل والمُتقلّب، بحسب أطروحة بيتر سلوتردايك (Sloterdijk)[13]. مع التقنية تَرجح كفّة الأنتروبولوجيا في عالمٍ تصنعه حريّةٌ مفتوحةٌ على العنصر غير المُعيَّن في ما نعتزم إنتاجه[14]. إنّ حرية الإنسان، المُستندة إلى أداته والتي هي صديقه المُفضّل، تحمل اسم السيطرة والقوة. لا يزال الإنسان أقرب ما يكون من سوء التفاهم إزاء نفسه، يستسلم لذاته في هذا «الفعل»  العجيب والفعّال الذي يكتشفه بلا انقطاعٍ، صانعًا الشروط الخاصّة بما يكون وما سيكون. يتخلّى أيضًا، في الوقت عينه، عن هذا الشيء الصغير الذي يُقاومه، وعن هذا الجزء من العالم والحياة اللذين لا يلتقيان ولا يؤولان إلى الزوال إلا ضمن علاقةٍ غير مُسيطَرٍ عليها، غير صانعةٍ، غير محكومةٍ إزاء إرادة تشكيلٍ فعّالةٍ.

تعزيزٌ وقوةٌ

إنّ القدرة المُوسّعةُ وغيرُ المحدودة للتقنية الحديثة تَكشف للإنسان عن هذا المَيْل المُتجذّر فيه عميقًا للقوة والسيطرة والتحكّم بذاته. إنّ التحكّم بالحياة والسيطرة عليها والتحكّم بِشروطها والمُمكِنات التي في خدمة الإنسان، تظهر على أنّها خيار التاريخ في مواجهة قدر العالم، وخيار الظهور بمظهر مالِك العالم وسيّده. يُحدّد بيتر سلوتردايك الحداثة بوصفها مشروع التجريب الذاتي للذات. إنّ الذات، وهي تقرن الحفاظ على الذات بالتجريب المُتنامي، تُفكّر في أفق مشروع تقوية الذات[15]. فما من شكٍّ في أنّه يجوز إثبات أنّ الفعاليّة التقنية ونتيجتها العملية تعملان بوصفهما حافِزاً لتعجيل هذا المَيْل للذات، وهذا التمركز للذات من أجل الذات. يوجد في الطابع غير المحدود (أو على الأقلّ غير المحدود في الظاهِر) للتقنية مُحرّك «رغبة» الذات التي ترتسم بوصفها مَيْلًا للقوّة. إنّ تقوية الذات، أو بتعبيرٍ آخر، إنّ هذه القوة التي تُحاول أن تجد مكانًا لها في العالم تُصبِح مشروعًا «أنطولوجيًا» لِكائنٍ لا يتحقّق إلا شريطة أن يفعل ويُقرّر ويُسيطِر[16]. فالتقنية تبني وتكشِف تمثيلًا للعالم غير منطوقٍ به، ليس هذا فحسب، بل تمثيلًا للذات يجعل من مُستطاع الفعل التقني طريقًا تؤدّي إلى السعادة البشرية الجماعية وإلى الحريّة الكاملة. هكذا تُرسَم الطريق عبر هذه القوة المُخترِعة والخلّاقة حيث يتّحد الذكاء البشري والمعرفة والتنظيم الاجتماعي والاقتصاد، ما يعني وفق سلوتردايك أنّ الحداثة تتميّز باتّحاد المعرفة والسلطة، فينشأ خليطٌ مُتفجّرٌ يُعجّل هيمنة الفعل على كلّ طريقةٍ أخرى لاحتلال مكانٍ في العالم. إنّ الحلم بتقنيةٍ مركزيّةٍ أنتروبولوجيّةٍ وإنسانَويّةٍ، في خدمة الإنسان بعامّة، وكلّ البشر بخاصّة، يضمحلّ بقدر ما يتمّ فهْم الذاتيّة الليبراليّة المعاصِرة أكثر فأكثر بوصفها غائيّةً وحيدةً للوجود والنشاط. إنّ هذا الانطواء على الذات، مَقرونًا باللاتمايز التقني إزاء الإنسان الذي تحدّث هوتوا (Hottois) [17] عنه، هو الانقلاب القاطِع للحداثة المعاصرة، الذي يضع العالمَ في خدمة الذات أو -بتعبير أدقّ- في خدمة أولئك الذين يملكون القدرات والوسائل للسيطرة على مجال التطبيق التقني المُتعاظِم في العالم البشري. إنّ العالم المَبنِيّ يُصبح عالَمًا خاصًا ببعض الأشخاص، الذي يتوفّر على فيزيولوجيا وعلم نفس مُكيّفين للعيش في هذه الحركة التي هي قيد البناء. تلك هي الأطروحة التي دافَعَ عنها كتاب (La Mobilisation infinite)، والتي تُؤكّد أنّ إتيقا الحداثة هي «يوطوبيا حرَكيّة»، أي القدرة على الحركة، بل أيضًا خيار الحركة لأجل الحركة، من دون غائيةٍ أخرى غير خيار القيام بالحركة. إنّ الحركة لأجل الحركة هو الأمر «المُخيف» حقًّا في الحداثة، لأنّه يقودنا إلى أن نعيش، لا نهاية التاريخ، وإنما التاريخ بلا نهاية للفعل وللصناعة، أو ما تُسمّيه «زمن النهاية بلا نهاية[18]”. وهذا ليس مُمكنًا إلا على أساس «القدرة على التقدّم»، فرط النشاط (activisme) أمام واجباتٍ جديدةٍ تَفرِضها حركة هذه الطريقة الجديدة في الارتباط بالعالم وصنْع المجتمع. فالمجتمع لا يمكنه إلاّ أن ينقسم أو بتعبيرٍ أدقّ أن يُبرز الوحدة «الميتافيزيقية» في فئتين، الأهل وغير الأهل، القابِل للتكيّف وغير المُكيّف، «الفائزين» و«الخاسرين» . تمتاز البشرية على أساس القدرة الفعلية على المشاركة الفاعِلة والفعّالة والمسرورة في الحركة.

والحقيقة أنّنا نعلم أنّه عندما تتفوّق التقنية وتحكم، فإنّها تقود الإنسان إلى خسارة هذا الشيء الصغير «البشري»، «البشري حتْمًا» الذي هو الواجب الناظِم للوشيجة. إنّ بطل الحداثة ليس وسيطًاً كما الكاهن والسياسي والوالد وأيّ شخصيّةٍ أخرى يُشار إليها بوصفها حاملةَ رسالةٍ، أو أفقاً حيًّا للجزء البشري، بل المهندس والمقاول[19]. في دراسة في التسميم الإرادي (Essai d’intoxication volontaire) يُميّز سلوتردايك الإنسان الحديث بوصفه رسولًا بلا رسالةٍ، فَقَدَ وظيفة الوساطة مع الآخرين والماضي والتاريخ، ومع المستقبل[20]. فمن الجائز بلا شكّ أنّ تُعرّف الحداثة نفسَها ضمن علاقةٍ مُتناقضةٍ ومُلتبسةٍ ومُظلِمةٍ بين تملّك الذات لإقامة وتحديد العلاقة، وإلغاء الاتّصال بكلّ ما لا يتناسب مع المطلب الذي تَفرضه الحاجة إلى تعميم وتوسيع هذه العلاقة الصانعة بكلّ مستويات الإنسان. ثمّة في الإنسان الحديث ازدواجيّةٌ لا تُختزَل، وهي إرادة أن يكون بشريًا (أي في صميم العلاقة التي تجذبه إلى نفسها من خلال الامتحان على يد الآخر –الذي هو أيضًا امتحان الذات) وأن يصنَعَ هذه العلاقة كما يُبنى غرض ما، لجعله فعّالًا، كي لا نقول عمليًا، أي مفيدًا.

في بحثه عن نقدٍ للحداثة يَليق بِحركة العالم، يتعمّق بيتر سلوتردايك في هذا التوتّر القاتِم، الذي يصعب على المرء تحمّلُه والسيطرةُ عليه. يتعلّق الأمرُ بالسيطرة على «ما يُدرّبنا» على العالم البشري، البشري حقًّا، في البادرات الخاصّة بإنتاج التقنية وفي هذا الماضي الرمزي الذي يُعبّر أيضًا وبطريقةٍ مُختلفةٍ عن وضع الإنسان. بالإقامة في ماضي الطبيعة، ماضي الآلهة أو الله، الذي يتعلّق بما نُسمّيه الخالق أو أيّ أسماءٍ أخرى، يبرز التحدّي المُتمثّل في إعادة انفتاح الإنسان على ما كان يميل إلى تغطيته في مسار ومشروع تقويته. يقول سلوتردايك أنّ الحداثة تُشبه «الحُمّى التي تُصيب الجميع»، وهي بمثابة «جوّ أكثر منها مشروعٍ يُعرّف نفسه مفهوميًا». وتُشكّل الحداثة امتدادًا للعلاقة الفاعلة بالعالم، بدءًا بالطابع اللامُتناهي لهذا الامتداد، وصولًا إلى دفْع الإنسان إلى أن ينسى ماضيه وميتافيزيقيته وكل ما يصدر من أعماق ذاكرته، مُبيّنًا له أنّ طريقه هو أيضًا الطريق الذي ينبني من خلال العلاقة بالعالم، الفاعلة بشكلٍ مختلفٍ. وباحثًا بين أحداث العالم المعاصر عن المعطى «الأنتروبو-أنطولوجي» المعاصر، لا يدعو لا إلى تقديس الجهد الصانع الفعّال للعالم لصالح الخوف، ولا إلى تقديس النقد[21]. إنّ الجزءَ التقنيّ من العالم والحياة البشرية ليس هو الخطر الحقيقي. لا يكون إنقاذُ الإنسان بصرف النظر عمّا يُمكّنه من الحصول على حريته. كما أنّ غضّ النظر عن الحقيقة التي تُنشئ العالم وتؤثّر فيه يعني أن نُخطِّئَ العدوّ بدل أن نُصدّقه. إنّ العدوّ الحقيقي للجزء الإنساني من العالم الذي نبنيه تُعبّر عنه الفكرة المظلمة والمُقلِقة القائلة بأنّ التقنية (تطبيق التقنية) تسمح بتجنّب اللغة البشرية، أو أنّ بإمكانها التعويض عنها. عندما تتوقّف اللغة، يختفي الإنسان –ما يفترض الاعتراف بأن العنصر البشري في الإنسان يرتبط بإثبات جزءٍ أخلاقي من الإنسان لا يُختزَل-، لكن لِمَ علينا بالضرورة الاعتقاد بهذا الواقع الذي ينتمي إلى اللغة، وبأهمّيته، بل بضرورته؟ إنّ إمكانية الانخراط في العالم تبدو متوقّفةً على الفرط في النشاط والقدرة على أن نكون في خدمة تحويل الحياة الاجتماعية والبشرية إلى تقنيةٍ إلى حدّ أنّ اللغة لا تبدو سوى معونةٍ صغرى، بل رادعًا، تبدو آتيةً من قلب العصور حيث لم يكن الزمن محسوبًا من هذا العصر القديم الذي لم يكن قد اكتشف بعد القدرة الأسطورية للتقنية لكي توجد، أي قدرة تحرير شكلٍ خاصٍّ من الوجود: القوة وإثبات الذات.

إنّ قوة فرض التقنية، المُرتبطة بفعاليتها العملية وبالقدرة العجيبة المُعطاة للإنسان، تطرد الكلام، وتُبعِده إلى مرتبة النقاش التافِه. بالنسبة للتقنية الجاهزة للعمل، تظهر فعّالية اللغة هشّةً، مُثيرةً للسخرية قليلًا عندما تبرز هنا الحاجة إلى فعل شيءٍ. إنّ صناعة العالم والسعي وراء مغامرته التقنية لا ينتظران، خاصّة عندما تتكاتف التكنولوجيا والاقتصاد من أجل أن يَعِدا الإنسان بغدٍ أفضل. عندما لا يكون الخطاب الموجّه للإنسان سوى الخطاب الدنيء الذي يخدم التقنية، لا يعود مُوجّهًا إلى الإنسان. فجأةً لا يعود العالم يتحدّث مع البشر كي يتحدّث فقط عمّا يستطيع القيام به. مع الكون التقني، يُفرَض المعنى ويُعطى كما تكون الصدمة، وهذا بخاصّةٍ عندما يترافق مع القوة العظيمة للتسويق الثقافي والتجاري، والخادِم للسيطرة على سوق التقدّم التكنولوجي، الذي هو ضروريٌّ. يترافق العالم البشري الذي غزته التقنية مع خطر اختفاء اللغة بالاستبدال والإبدال، أو تفشّي الخطاب الذي له وظيفةٌ حقيقيةٌ وحيدةٌ هي جعل الاستعمال التقني عمليًا من الناحيتين الاجتماعية والثقافية. يتعلّق الأمر ﺑ «بلْع الحبّة»، أعني جعل أيّ استخدامٍ للتقنية مُلائمًا ومشروعًا، أساسيًا، ومَرغوبًا به وضروريًا، وفي خدمة تمثيل الكائن بوصفه تأكيدًا للذات وقوةً لها. إنّه لأمرٌ مُعبّرٌ أن يترافق التنظيم الاجتماعي المرتكز على التقنية مع خطابٍ حول الاستعمال، يُسمّى «المُمارسات الجيّدة»، ويزيدان سنناً وإجراءاتٍ تسمح ﺑ «دمْجٍ مقبولٍ». وهذا يترك المجال للمرء ليفهمَ أنّ اهتمام الإنسان يُشكّل جوهر النشاط، ويبقي غائيته، ويكون مُؤطّرًا على نحوٍ يكون فيه تطبيق التقنية الحديثة على الحياة كاملًا وعمليًا واجتماعيًا من جهة، ولغويًا وأخلاقيًا من جهةٍ أخرى. إنّ التقنية تُشبِع (كي لا نقول تجتاح) الجسم الاجتماعي بخطابها ونتيجتها، وتُشبع في الوقت ذاته وجود الإنسان. بوجهٍ ما، ولا غرابة في ذلك، ترتكز التقنية على الخطاب. يبقى أن نعرف ما يُنتِجه عالم الخطاب بلا ألفاظ. هل ما يزال عالمًا بشريًا بالكامل؟ ذاك هو السؤال الأخلاقي الذي تطرحه علينا التقنية اليوم. وبالتأكيد ليست التقنية بوصفها كذلك هي المشكلة، بل خطر أن تؤدّي إلى «تاريخ بلا ألفاظ» وبالتالي إلى تاريخٍ «بلا إنسان».

صادَفَ الطبّ هذه الصعوبة وأحسّ بها بشكلٍ عميقٍ، ولمّا قدّم ثقل التقنية العون، طُرِحَ السؤالُ عمّا بقِيَ من الإنسانوية الطبّية في التسعينات، ووُجِدَ جوابه في تصاعد مدّ الأخلاق الطبّية الأحيائية والسريرية. وهذا ما كانت تتضمّنه مطالبات المرضى بأن يُسمَعوا ويؤخذوا في الاعتبار. لم يكن النقد يتمحور حول توظيف التكنولوجيا في الطبّ، الذي يعلم الكلّ حسناته، بل حول الحاجة إلى تحمّل المسؤولية في «جوف الرابِط»، في ما لا يمكنه الاقتصار على خطاباتٍ بلا ردٍّ. المطالبة بطبٍّ بشريٍّ في جوف لغةٍ تعترف وتُوجِد الإنسان المريض لا يختلف عن المطالبة الصريحة وغير الصريحة التي تُعبّر عن حاجة الإنسان -سواءً المُحوّل إلى تقنية أم لا، بأيّ درجةٍ كانت حاجته- إلى لغةٍ يستدعيها بواسطة الوشيجة واللقاء الفعّال بين الكلمات المُتبادلة. إنّ بيئة الشركة تُصادِف هذه المساءلة نفسها. من خلال تبيين النتائج الضارّة إنسانيًا أو على الأقلّ غير الكافية لجهة أن ليس على المؤسّسة إلا أن تكون فاعلًا للمناهج التي لا تحتاج في الحقيقة إلى التزامٍ بالوشيجة، تشعر من دون معرفة كيفية ذلك بالحاجة إلى تَتِمّة روح. وتعرف أنّ الإنسان يُطالِب أيضًا بهذا الجزء الذي يحتاج إلى شيءٍ آخر غير أن يكون الذراع المُسلّحة لاهتمامٍ عمليٍّ محضٍ.

خاتمة

المسألة ليست: أين نحن من التقنية؟ بل: أين نحن من الكلام؟ إنّ مسار تطبيق التقنية على الحياة البشرية والبيولوجية والاجتماعية والسياسية يتعذّر اختزاله، طبعًا باستثناء أنّه لا توقفه أحداثٌ أقوى تُجبِر على التغيير. من الصعب تخيّل أن الإنسان يمكنه أن يُقرّر شيئًا آخر بطريقةٍ مُختلفةٍ، وفي الوقت عينه من الصعب تخيّلُ حدثٍ ما يمكن أن يقع. ثمّة إمكانيّةٌ أخرى ترتسم، أكثر بطءًا، وأكثر تجريبيّةً، وأكثر ظاهراتيّةً. إنّها تتعلّق بالتجريب الملموس للصعوبة، بل للّاإنسانيّة في العيش مع هذا الاختفاء للكلام. إنّ الإفناء والتوهين في هذا السباق نحو الذات، الذي هو حربٌ ضاريةٌ ضدّ الآخر، يمكن أن يقود إلى قصْد أمرٍ آخر. وهذا الأمر الآخر يتضمّن كلامَ الآخر، والآخرين، والهمس الذي يدلّ به أحد ما على هشاشة «اتّصاف الذات بالرصانة والجدّية». فجأة، يمكن للإنسان أن يعود إلى الاعتقاد بالفعاليّة البشريّة للكلام وضرورته وأوليّته، على نحوٍ ما، لا يختفي الكلام كلّيًا، فالإتيقا والدين والسياسة والفنّ تُبقيه حيًا. وكلّ وساطةٍ بشريةٍ، ضمن أسلوبها الخاصّ، تعمل كناطقٍ رسميٍّ لِما يتعإلىويتخطّى قدرتنا على وصف وفهم العالم. وتتضمّن -من باب التنبيه والمطلب- تعاليًا يُعيد إدخال الإنسان في العالم. ليس من قبيل التعسّف في الاعتقاد -لهذا السبب- بأنّ التاريخ يبقى وسيبقى تاريخًا بشريًا، يتجاوزه الردّ على الإنسان بأنّ باستطاعته التحدّث مع نفسه لأجل العمل. لكنّنا في الوقت عينه نتوقّع أن إبقاء الكلام محكومٌ بالطريقة التي تنبني بها هذه الوساطات التي لا تُفلِت من حركات العالم لاختراع العالم. إنّ هذه الوساطات يعترضها القلق الذي يُخفيه البشر الذين يقومون بها.

-----------------------------
[1]* ـ باحثٌ في الفلسفة، وأسناذٌ محاضرٌ في الصيدلة والأخلاقيات الطبيّة - فرنسا
ـ المصدر: Revue d’éthique et de théologie morale 2011/3  n 265 p. 75 - 89
ـ العنوان الأصلي: Technophilie et technophobie: quelle critique possible?
ـ ترجمة: عماد أيوب.
[2]- في «التنكيد بواسطة الآلات»، يؤكّد سلوتردايك أن الجراح النرجسية التي تؤدّي إليها التحوّلات العميقة الناجمة عن الموقع المُتنامي للتقنية واستخدام التكنولوجيا لا تُحَلّ من خلال إعادة تهيئة نفسيّة. إننا نعيش «قلْبًا كوبرنيكيًا» حقيقيًا يفرض إعادة بلورة عميقة للتمثيلات التي ما تزال تحكم وتضمن إمكانية فهْم العالم. يقترح سلوتردايك عدم تقييد الانقلابات بالرأي الكوبرنيكي الكلاسيكي الذي يقول بمركزية الشمس وبنظرية داروين حول التطوّر وباكتشاف اللاوعي. علينا الاعتراف بحالات عدّة من «التنكيد» التي يتعرّض لها الإنسان، خصوصًا ما تُسبّبه «الآلات»، وذلك بغية تقييم الآثار والنتائج.
P. SLOTERDIJK, L’Heure du crime et le Temps de l’oeuvre d’art, Paris, Hachette littératures, coll. «Pluriel », 2001
[3]- لم نَصِل إلى تعريفٍ للتقنية بوصفها مهارةً في فنّ أو مهنة. تُصبح التقنية الحديثة مُستقلّة تمامًا، وتولّد ذاتيًا تطوّرها وعللها.
[4]- وهذا ما يتناسب مع المشروع الغربي الحديث. من المُمكن القول، على الأقلّ رمزيًا، أنّنا وصلنا إلى الوضع الذي أصبحت فيه المُراقبة كلّية. إنّ ازدهار علم الوراثة الحديث والتكنولوجيات الأحيائية للكائن الحيّ تُثبت الاتّساع اللافت لقدرة السيطرة. إنّ القدرة على الحياة لا تُمثّل، في حقل الطبّ، القدرة على التصحيح والإصلاح، وإنّما القدرة على الصناعة أو التأسيس. إنّ الاعتراض القائل بأنّ السيطرة فكرة محدودة، وبأنّه في الوقائع تُذكّر الطبيعة بضعف وهشاشة الواقع، إنّ هذا الاعتراض لا يمنع أن تكون فكرة السيطرة مُثبتة ومدموجة ثقافيًا
[5]- “الميزة الأكثر إثارةً للانتباه في الوضع الدولي الراهن، في مجال تاريخ الفكر والتقنية، تتمثّل تحديدًا في أنّ الثقافة التكنولوجية تُنتج رُكامًا لغويًا ونصّيًا لا يشترك في أيّ شيءٍ مع تأويلاته التقليديّة من قبل الدين والميتافيزيقا والإنسانويّة»   P. SLOTERDIJK, La Domestication de l’être, Paris, Mille et une nuits, 2000, p. 75
[6]- يبقى أن نعرف ما يعنيه ذلك وما إذا كان لذلك معنى. يؤكّد هوتوا Hottois أنّ التقنية ليست غير بشرية، ولكنّها لامُبالية وتجهل الإنسان، وتجهل الجوهر اللوغوسي-النظري والخِلاقي للإنسان. انظر   G HOTTOIS, Le Signe et la Technique. La philosophie à l’épreuve de la technique, Paris, Aubier, 1984
[7]- إنّ مساوئ بعض الوسائل الجديدة تُعوّضها (أي يتمّ التغاضي عنها أو نسيانها) المنافع التي توفّرها. الجدير بالذكر أنّ ميزان ربح / خطر لا يتمّ احتسابه بالضرورة في حقل التدخّل نفسه. مثلًا، المشكلات الإتيقية الناجمة عن البحث حول الجنين تُخفيها جزئيًا المنافع التي يمكن أن يوفّرها البحث المزعوم لمرضٍ معيّن. يوجد اختلالٌ اجتماعيٌّ وسياسيٌّ مُرتبطٌ بالقدرة المُتّسعة للتقنية.
[8]- إنّنا نُوافق هنا على فرضية أن الشروط المادّية وتنامي سيطرتها تُسهم في تعزيز مفهومٍ مُعيّنٍ للذاتية الليبرالية. إنّ الإقرار بالذاتية مرتبطٌ ارتباطًا جزئيًا بالقدرة التقنية التي تؤمّن لها، من خلال المُراقبة والسيطرة والابتكار، إمكانية الظهور بمظهر الحرية الذاتية. وهكذا، يُمهّد التحرّر التقني الطريق إلى شكلٍ جديدٍ من التعبير عن الذاتية الليبرالية الحديثة التي هي ضربٌ من نزع طعم الذاتية، ما يترك قيمةً أكبر للعوامل الخارجية من دون التمكّن من التحكّم بها. عن طريق التقنية، تتغلّب طبيعة التوازن بين خضوع العالم لما يكون ويصبح وبين أن يخضع المرء لِعالمٍ يتحكّم به أكثر ممّا يفترضه.
[9]- إنّ هذا الافتراض لا يستبعد أنّ الإنسان يولَد ضمن وبواسطة الكلمة. يجب الدفاع عن فكرة أنّ التقنية والكلمة تستجيب إحداهما للأخرى بوصفها التعبير الوحيد عن الحرية التي تستميل حريات أخرى بما هو ثابت ولا يتغيّر، وتختبر قدرتها على التمتّع بالحرية
[10]- من المهمّ أن نفهم فيمَ تكون التقنية ما يسمح بالانتقال مما قبل الإنساني إلى الإنساني، ما يُحوّل البيئة إلى عالم بشري.
[11]- “لا يتحدّر الإنسان من القرد ولا من العلامة، بل يتحدّر من الحجر، من الوسيلة القاسية” (p. 51)، “يُنتج ما قبل الإنسان الثغرات الأولى والشقوق في حلقة البيئة بعد أن يصبح، بعمله ومحاولاته، مُخترع تقنية الفعل على مسافة التي تجرّ على نفسها آثارًا رجعية غريبة” La Domestication de l’être, p. 50
[12]- G. HOTTOIS, Essais de philosophie bioéthique et de biopolitique, Paris, Vrin, coll. « Pour demain », 1999, p 187 et ID., Le Signe et la Technique, p. 220
[13]- P. SLOTERDIJK, La Mobilisation infinie, vers une critique de la cinétique politique, Paris, ةd. du Seuil, coll. « Points Essais », 2003 [1re éd. fse: Christian Bourgois, 2000]
[14]- يتحدّث مارك هونيادي في هذا الصدد عن الطبيعة المقلوبة، فالطبيعة لا تقول لنا ماذا نكون، بل ما نكونه هو الذي يخبرنا عن طبيعتنا: انظر:   Mark HUNYADI, Je est un clone, Paris, ةd. du Seuil, 2004, en particulier le chap. 1 « La nature renversée », p. 19-46
[15]- إنّ الفهم الصحيح لتعريف الحداثة لا يُقرَأ في كتاب سلوتردايك Sloterdijk إلا بتقاطع النصوص. تشتمل أطروحات كل من كتبه على الأطروحات الأخرى، على الرغم من أنّه جرى التحدّث عنها بأشكال مُختلفة وألحِقَت بالوصف. وهذا يُشكّل الحالة لاستكمال التعبئة غير المحدودة بساعة الجريمة ووقت العمل الفنّي
[16]- استطعنا هنا أن نقرأ الأطروحات النقدية للذاتية الليبرالية عند جان-كلود ميشيا L’Empire du moindre mal. Essai sur la civilisation libérale, Paris, Flammarion, coll. « Climats », 2007 وعند داني –روبرت دوفور Dany-Robert DUFOUR, La Cité perverse, libéralisme et pornographie, Paris, Denoël, 2009 كلاهما، على طريقته، يرسم ويكشف القسم المُعتم من الذاتية الليبرالية المعاصرة والعلاقة الوثيقة بين تعزيز الذات والهيمنة
[17]- عندما تُستخدَم التقنية في أمرٍ آخر غير الحِفظ، وهي وظيفة تُخالف جوهر التقنية البنيوي الابتكاري الخدّاع، فإنّها تُبرِز أطر المركزية البشرية، وبالتالي، تنمو خارج حقل الأخلاق» Le Signe et la Technique, p. 168
[18]- انظر L’Heure du crime ou le Temps de l’art تُحدّد الحداثة الوحشية من خلال الطابع الروتيني للتمدّد على كل مستويات الأرض والإنسان، «جريدةٌ يوميةٌ» هي في الوقت عينه خروج من «منزل الكائن». إنّ هذا المسخ الذي يجعل من الأرض «شغورًا مُتجانسًا»، هو في الوقت عينه «تفكير في السموّ ضمن ما يصنعه الكائن البشري» مما يجعل وضوح ما يهيئ نفسه ويتحوّل أمرًا حسّاسًا من شأنه أن يجعل النقدَ بذيئًا.
[19]- يزعم سلوتردايك، في "نقد العقل البذيء" Critique de la raison cynique (Paris, Christian Bourgois, 1987) فقدان الطابع الشهواني للعلاقة بالحقيقة. ربما معه ومع آخرين، من دون الاستغراق في وُطان nostalgie مَرَضيّ، يجب الاعتراف بِأنّنا فقدنا، في هذه المشكلة المُلِحّة المُتعلّقة بالفعالية، هذه الحماسة بِلا مُبرّر والمُتّقدة لِما وراء العالم وما وراء الإنسان، وهي حماسة سمحت إلى الآن للإنسان باحتلال موقع اصليّ، فريد في باطِن ما لا نستطيع أن نقوله أو نفعله.
[20]- يؤكّد الكاتب على أهمّية الحِرمان المُعمّم من المزايا الطبيعية أو الإنسانية (déshéritage)، فليس ثمّة شيء يُنقَل إلى الأجيال اللاحقة.   P. SLOTERDIJK, Essai d’intoxication volontaire, Paris, Hachette, coll. « Littératures », 2001
[21]- الحجّة الأسوأ في ما يتعلّق بالتقنية هي تلك التي تُفيد بأنّه «لقد كان الأفضل من قبل، سيدي»، كما لو أنّ العالم يتحمّل على نحوٍ أفضل ثبات وصلابة الماضي أكثر من التغيير.