البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الأصل في التقنية ، دراسة في نقد أبعادها الأنطولوجية

الباحث :  صفاء عبد السلام علي جعفر
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  15
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2019 م / 1440 هـ
تاريخ إضافة البحث :  May / 7 / 2019
عدد زيارات البحث :  3869
تحميل  ( 483.464 KB )
تستقرئ هذه الدراسة الأبعاد القصيّة في ما انطوت عليه محاضرة الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر المعروفة تحت عنوان "السؤال عن التقنية". ولقد سعت الباحثة  إلى كشف الغموض عن مراد التقنية الذي يصبو إليه هايدغر، لاسيما لجهة ما يرمي إليه سؤاله عنها بما هو سؤالٌ مركّب أنطولوجي وتاريخي في الوقت عينه. كما تبين الدراسة على وجه التحديد مقصد هايدغر من دعوته إلى ضرورة الدخول في علاقةٍ حرّةٍ مع التقنية.                                                                                                                                                                                      المحرر

---------------------------------------
 “السؤال عن التقنية” هو من أبرز محاضرات الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر التي يكتنفها قدرٌ غير ضئيلٍ من الغموض. ربما يرجع ذلك إلى أن المحاضرة - موضوع هذا البحث - ليست كما قرأها عددٌ من المفكرين الغربيين وصفاً للتقنية في عصرنا الحالي، وكذلك ليست بحثاً تاريخياً في تطور التقنية الحديثة، كما أنّها ليست محاولةً لتفادي ويلاتها المدمرة على إنسان هذا العصر[2].

إن محاضرة “السؤال عن التقنية” غامضةٌ، لأن موضوعها ليس التقنية، وإنما “الأصل” في التقنية، فهي سؤالٌ عن “الأصل” أو “الماهية”. ويبدو أن “السؤال عن التقنية” عند هايدغر ليس سوى “السؤال عن الوجود”[3]، والسؤال عن حركة “التحول”  (Kehre rcturning) من “نسيان الوجود” إلى “حضور الوجود” كما سنرى في سياق البحث.

إن موقف هايدغر من التقنية أبعد من أن يكون هجوماً على التقنية الحديثة، فهو عندما يتناول مسألة التقنية بدءاً من اليونان وحتى العصر الحديث، إنما يسعى إلى مواجهة “التحدي” الذي تفرضه على إنسان اليوم، وهو ينشد في سعيه بهذا التفكير التأملي الحقيقي في الوجود أن يتجاوز ميتافيزيقا الذات الكلاسيكية[4]، بحيث يكون هذا التفكير هو الاستجابة الوحيدة الممكنة لنداء الوجود، علماً بأن هذا التفكير عند هايدغر ليس مذهباً مغلقاً جامداً، وإنما هو رحلةٌ متجدّدةٌ عبر طريق الوجود.

     ماهية التقنية ليست هي التقنية:

يمكن القول بأن التقنية في معناها الواسع، وفي ضوء تعدّد ظواهرها، تعدّ تخطيطاً من صنع الإنسان، إلا أنّها تجبره أحياناً على اتخاذ القرار في أن يصير تابعاً لها، أو أن يحتفظ بسيادته عليها.

يشير ذلك المعنى إلى أن الإنسان هو مركز الوجود، ويرجع إليه كلّ ما في الوجود[5].

قلَب هايدغر هذا المعنى الشائع للتقنية رأساً على عقب، فالتقنية لم تعد شيئاً من صنع الإنسان، ولكنها جزءٌ من المصير (Geschick-destiny)، تشكّل أهدافنا وتُحقِّقها[6].

يقول هايدغر: “.. التقنية لا تتساوى مع ماهية التقنية[7]«، فعندما نبحث عن ماهيّة “الشجرة” ندرك أن ما جعل الشجرة يابسة ليس هو ما يمكن أن نجده في سائر الشجر، بالمثل فإن ماهية التقنية لا علاقة لها بما هو تقني. ونحن لن نعرف علاقتنا بماهية التقنية ما دمنا ندور في فلك التقنية.. فنحن دوماً مقيدون بالتقنية سواءً أتعاطفنا معها أم أنكرناها”[8]. يشير النص السابق إلى أن هايدغر في محاضرته عن التقنية قد انتهج طريق التفكير ليصل إلى ماهيّتها من خلال اللغة، وهدفه هو إعدادنا لتجربة الدخول في علاقةٍ حرةٍ مع التقنية. وما دمنا نعجز عن معرفة علاقتنا الحقيقيّة بالتقنية فإنّه يرى بأنّنا سنظل نعاني من هذه القيود، ما دمنا لم نتعلم بعد التفكير في ماهيتها[9] التي تختلف عن التقنية وما هو تقنيٌّ، كما تختلف عما هو صنع الإنسان.

إذاً، فإنّ علاقتنا بالتقنية سوف تصبح علاقةً حرةً فقط إذا حققت لوجودنا الإنساني الانفتاح على ماهية التقنية[10]. وفي ذلك أشار هايدغر إلى الوهم المضلّل بأنّ التقنية الحديثة هي تطبيقٌ للعلم الفيزيائي[11]، ورأى أن التقنية يجب ألاّ يُساء تفسيرها بوصفها مجرد تطبيقٍ للعلم الطبيعي الرياضي، فضلاً عن رأيه بأن العلم الحديث ذاته يتأسس على ماهيّة التقنية، ذلك أن النظرية الفيزيائية الحديثة عن الطبيعة تمهد السبيل لا للتقنية وإنما لماهية التقنية الحديثة، كما أن العلوم الحديثة تنتمي إلى تلك الماهية، وهذه الماهية ليست تعبيراً عن العلاقة المتبادلة بين العلم والتقنية، وإنما هي بمثابة “الكشف” عن الماهية المشتركة التي تسيطر عليهما[12].

نستخلص مما سبق أن القول الشائع بأن التقنية هي تطبيقٌ لنتائج العلم الحديث -أيًّا كان من أمر صحته- يبتعد تماماً عن محور اهتمام هايدغر الرئيسي وهو السؤال عن ماهيّة التقنية الذي هو بدوره سؤالٌ عن ماهية الوجود.

إن التقنية -في حدّ ذاتها- أمرٌ محايدٌ، ويمكن استخدامها بصورةٍ إيجابيّةٍ أو سلبيّةٍ، وعلى الإنسان أن يتخذ قراره بشأن هذا الاستخدام، إلا أنّ هذا الأمر الحيادي لا يعرفنا ماهية التقنية[13] كما يرى هايدغر.

ماهية التقنية بوصفها “تخنى”:Techné

حاول هايدغر البحث في ماهيّة التقنية في اتجاهين مختلفين ومع ذلك ارتبط كلٌّ منهما بالآخر، أما عن الاتجاه الأول فهو يدور حول ماهيّة التقنية والعلاقة العليّة كما سبق أن أوضحنا، وأما الاتجاه الثاني فهو يتناول ماهية التقنية بوصفها “تخنى” كما يلي[14]:

ذهب هايدغر إلى أن كلمة التقنية (technology, technicity, technique) مشتقةٌ من الكلمة اليونانيّة (Technikon)، وهي ترتبط بتخنى![15]« (Techné)[16]، فضلاً عن أنّ اليونان قد أطلقوا كلمةً واحدةً على العامل اليدوي والفنان وهي “تخنيتس (technités)”، ولا تعني هذه الكلمة أي نوعٍ من أنواع الصنعة أو الإنجاز العملي، بل تعني أسلوباً من أساليب المعرفة، والمعرفة بالمعنى اليوناني (episteme)[17]، كانت ضرباً من الرؤية بمعناها الأعم، أي إدراك الموجود بما هو موجودٌ، وجوهر هذه المعرفة هو الحقيقة، أي تجلي الموجود وظهوره من الخفاء.

إذاً، “التخنى” بهذا الفهم اليوناني هي إظهار الموجود من الغموض والخفاء بالمظهر الذي تراه العين فيه، “والتخنيتس” (technités) ليس هو الصانع اليدوي، بل ذلك الذي يجعل الموجود يظهر على الحقيقة أو يجعل حقيقته تظهر فيه[18].

  لاحظ هايدغر أمرين في ما يتعلق بمعنى كلمة “التقنية” أو تخنى (techné)، أما عن الأمر الأول فهو أن هذه الكلمة ليست فقط اسماً للأنشطة والمهارات المتعلقة بالعامل اليدوي، وإنما تدل أيضاً على الفنون الرفيعة والفنون الجميلة[19]، لذا فإنّ “تخنى” تعبر هنا عن معنىً في الشعر (Poiésis)، كما أنها ذات طبيعةٍ شاعريةٍ[20][21].

أما عن الأمر الثاني، فيرى هايدغر أنه حتى عصر أفلاطون ارتبطت كلمة “تخنى” (techné) بكلمة (episteme) أي المعرفة، وأنّ كلا الكلمتين يعني “أن نشعر بالألفة مع شيءٍ ما وأن تتوفر لدينا تجربةٌ معه ومعرفةٌ به[22] والكلمتان تعبران عن المعرفة و(Erkennen Wissen, Knowing) بالمعنى الواسع للكلمة[23].

كما يرى هايدغر أن مثل هذه المعرفة تزودنا بالانفتاح (Aufschluss  - an opening (up، وهذا الانفتاح هو بمثابة كشف (Entbergen – revealing)، “فالتخنى” هو نوعٌ من “الأليثيا” (allétheuein)، أي أنّها تكشف عما يحتجب عنا، ولا نراه أمام ناظرينا، أو عما يظهر ثم يطرأ عليه التحول بطريقةٍ أو بأخرى. يقول هايدغر: “.. إنّ الأمر الحاسم في “التخنى” لا يكمن إطلاقاً في الصناعة[24]، ولا في التصنيع[25]، ولا في استخدام الوسائل، إنه بالأحرى يكمن في الكشف”[26].

نستلخص مما سبق أن هايدغر عندما يتحدث عن ماهية التقنية اليوم، إنما يقصد الأمر الثاني الذي يبدو أنه يعبر أكثر عن المفهوم الأنطولوجي “للتخنى”، كما يؤكد هايدغر أن تجاوز المفهوم الأدواتي للتقنية السابق ذكره يمكننا من الوصول إلى ماهيتها[27].

إن “التخنى” كما فسرها هايدغر إنما هي صورةٌ من صور الكشف، وهي كشفٌ عن التحجّب، وما هو أساسيٌّ في “التخنى” ليس الصناعة أو التصنيع أو استخدام الوسائل، وإنما الكشف، بمعنى أن “التقنية” يتم إحضارها في مجال حدوث الحقيقة أو الكشف أو اللاتحجب (alétheia) [28].

يرى هايدغر أنّ “الشعر” عند اليونان (poiésis) هو وجودٌ من العدم “حضور”، وأن هذا الحضور كان واضحاً قبل كلّ شيءٍ في الطبيعة أو الـ(Physis)، وهذا الحضور يتجلى من خلال الشيء ذاته. كما يرى بأن “التخنى” (techné) بدورها صورةٌ من صور (الإحضار)، وهذا الإحضار يتجلّى في شيءٍ آخر من خلال الفنّ والصناعة، حيث يشارك الإنسان في إعادة تشكيل المادة والمنظور، وفي إحضار الشيء إلى الوجود. إن اليونان -من وجهة نظر هايدغر- توصلوا أيضاً إلى الفنون العقليّة “تخنى”، حيث تلقوا بانفتاحٍ كلّ ما يوجد، وحاولوا الكشف عن الوجود في كلّ ما قابلهم، كما حاولوا السيطرة عليه، وتلك السيطرة تجلّت في الفلسفة اليونانية.

يتضح مما سبق، أن مفهوم هايدغر لماهية التقنية بوصفها “تخنى” هو بمثابة المصدر الحقيقي لعصر التقنية الحديث، ف”التخنى” معرفةٌ كاشفةٌ وأسلوبٌ للإحضار وهو بدوره نوعٌ من الكشف، والتقنية الحديثة مثل “التخنى” بمعناه اليوناني القديم -من حيث المصدر المنبثقة عنه- هي أسلوبٌ للكشف، والوجود عندما يسود كلّ ما يوجد إنما يتجلّى من خلاله ذلك الكشف.

ومن ناحيةٍ أخرى، فإنّ الإنسان في العصر التقني الحديث لم يعد يفرض سيطرته على الواقع، بمعنى أنه لم يعد يتمثل الواقع وفقاً لتصوره الخاص رافضاً ظهور الأشياء كما هي عليه، ولأن “الكشف” الذي يحققه “التخنى” يفرض سيطرته على كلّ ما يوجد، فهناك علاقةٌ وثيقةٌ بين مصير الوجود، والفعل الإنساني كما سيأتي بيانه[29].

تعقيـــب:

نحاول في هذا التعقيب الإجابة عن السؤال التالي:

ما النتائج التي ترتبت على تفسير هايدغر لماهية التقنية بوصفها “تخنى”؟

النتيجة الأولى: أن “ التخنى” (techne) -كما أوضح هايدغر- هو معرفةٌ ورؤيةٌ بالمعنى الأعم للكلمة، فهو وفقاً لما ذهب إليه اليونان لا يعني أي نوعٍ من أنواع الصنعة، وإنما هو أسلوبٌ من أساليب المعرفة، أي إدراك الوجود بما هو موجودٌ، وجوهر هذه المعرفة هو الحقيقة أو تجلي الوجود وظهوره من الخفاء.

النتيجة الثانية: أن “التخنى” هو شعر (poiésis) بمعنى أنه إبداعٌ وإنتاجٌ، وصورةٌ من صور “الإحضار”: إحضار الشيء إلى الوجود، وإعادة تشكيل المادة والمنظور، وهذا الإحضار بدوره يمثّل نوعاً من الكشف.

النتيجة الثالثة: أن “التخنى” هو ألفةٌ مع الشيء ودخولٌ في تجربةٍ معه “بمعنى معرفته” وهذه المعرفة تزودنا بالانفتاح على ذلك الشيء، أو بالكشف عنه.

النتيجة الرابعة: أن “التخنى” هو نوعٌ من الأليثيا أي الكشف عن المتحجّب بمعنى الحقيقة، فالتقنية يتم إحضارها في مجال حدوث الحقيقة أو الكشف.

النتيجة الخامسة: أن “التخنيس” (technités) ليس هو الصانع اليدوي، وإنما هو -كما رأى اليونان- ذلك الذي يجعل الموجود يظهر على الحقيقة، أو يجعل حقيقته تظهر فيه.

       الكشف بوصفه نداءً للتحدي

يقول هايدغر: “.. الكشف الذي يسود التقنية الحديثة يتسم بمعنى التحدي، وهذا التحدي يحدث عندما تتفتح الطاقة المحتجبة في الطبيعة.. حيث يتم إخضاع كلّ ما يوجد للتنظيم ليكون في متناول اليد، ويلبي الحاجة إليه.. (كما أن) إضفاء طابع النظام[30]، والأمان[31] هما السمتان الأساسيتان للكشف في حال التحدي”[32][33].

ويعني ذلك أن التقنية الحديثة عند هايدغر - من حيث الماهية هي “كشفٌ يتحدى”، فهي بمثابة “نزاع” مع كل ما يوجد بحيث تحاول أن تجعله جاهزاً للاستخدام.

وأساس هذا الأسلوب من الكشف نجده لدى الإنسان عندما يحاول السيطرة على كلّ ما يقع خارج ذاته، حيث يتمثله ويجعله موضوعاً في متناول اليد[34].

ولكن ما هو الأساس الذي يقوم عليه هذا الكشف؟

يرى هايدغر أن الطاقات الطبيعية تستثير قوى الإنسان، بحيث يجد نفسه مندفعاً نحو الكشف الذي يتحدى، أي إنّ الإنسان في غمرة اهتمامه بالكشف الذي يتحدى قواه يُوجّه إليه نداءُ التحدي بحيث يبقى النداء ومصدره محتجبين[35].

يرى هايدغر أن “المنفتح”[36] يطرأ عليه التحول، وما يتحول يتم تخزينه ثم توزيعه، وتجزئته وإعادة صياغته من جديد. إذاً، الانفتاح والتحول والتخزين والتجزئه[37] إنما هي أساليبٌ للكشف، وهذا الكشف لا يصل إلى نهايةٍ ما، علماً بأن الإنسان يحاول الكشف عن الواقع عن طريق تنظيمه بوصفه مخزوناً ( Bestand - Standing resources) وأن هايدغر يميّز ما بين المخزون (Bestand) والشيء (Gegenstand)، فالطائرة في حال عدم إقلاعها تكون شيئاً، وفي حال إقلاعها تتحول إلى مخزونٍ، وتدين في حضورها لاستخدام الإنسان لها[38].

ولعلّ أصل فكرة الطبيعة بوصفها “مخزوناً” يرجع إلى النزعة الذاتيّة في الميتافيزيقا الكلاسيكية، ومن ثم  إلى تطور العلم الحديث. فالفيزياء تجعل الطبيعة إطاراً متسقاً من القوى التي يمكن حسابها سلفاً ثم السيطرة عليها، بحيث يمكن القول بأن كشف التحدي قد سيطر على الفيزياء قبل أن تخضع تقنية الآلة للتطور.

إن مصطلح “المخزون” الذي يستخدمه هايدغر في توضيح طريقة حدوث الأشياء في انتمائها إلى الكشف يتخذ معنى الإنشاء أو الإنتاج الموجود في الشعر بمعناه الأصلي (Poéssis)[39]، فضلاً عن أن “المخزون” يتخذ شكل التحدي بحيث تصبح الطبيعة مصدراً للطاقة يمكن استخراجها وتخزينها وأخيراً استخدامها. بعبارةٍ أخرى، فإن الطاقة التي كانت محتجبةً في الطبيعة قد تحولت الآن، وتم تخزينها، وتوزيعها واستخدامها، وهذه الفعالية الإنسانية إنما هي أساليبُ للكشف، على الرغم من أن الكشف لا يصل قط إلى نهايته كما سبق بيانه.

تعقيـــبٌ...

“تمكن هايدغر من أن يُحدث إنقلاباً في مفهومه عن العلم الحديث، بحيث أصبح تطور العلم الحديث، والفيزياء الرياضية، وتقنية الآلات، رهناً على إدراكه للحقيقة بوصفها كشفاً، وفهمه للطبيعة بوصفها مخزوناً للطاقة بعيد الأمد”. نحاول في هذا التعقيب الإجابة عن السؤال التالى: ما النتائج المترتبة على تفسير هايدغر للكشف بوصفه نداءً للتحدي؟

أما عن نتائج التفسير فهي كما يلي:

النتيجة الأولى: أن النزعة الذاتية[40] في الميتافيزيقا الكلاسيكية هي المسؤولة عن فكرة الطبيعة بوصفها “مخزوناً” ومن ثم تقف وراء تطور العلم الحديث، حيث تجعل الفيزياء من الطبيعة إطاراً متسقاً من القوى يمكن حسابها سلفاً والسيطرة عليها.

النتيجة الثانية: أن “المخزون” في رأي هايدغر يفسر طريقة حدوث الأشياء في انتمائها إلى الكشف، ويتخذ معنى الإنتاج الموجود في الـ(Poiésis) أو الشعر بمعناه الأصلي، ويتخذ شكل “التحدي” بحيث تصبح الطبيعة مصدراً للطاقة يمكن استخراجها وتخزينها لتصبح في متناول اليد.

النتيجة الثالثة: أن “الانفتاح” على الموجود، والتحول والتخزين، والتجزئة إنما هي أساليبُ لكشفٍ لا يتوقف، فضلاً عن أن الإنسان يحاول الكشف عن الواقع عندما يقوم بتنظيمه بوصفه مخزوناً.

النتيجة الرابعة:  أن الإنسان “يستجيب” للنداء الموجه إليه لقبول التحدي عندما يجد نفسه دوماً في حقيقة الانكشاف، ما يعني أن التقنية الحديثة -في رأي هايدغر- ليست من صنع الإنسان، وأن كلّ تحدٍّ يُفرض على الإنسان لتنظيم الواقع بوصفه مخزوناً، وهذا التحدي يتفق مع أسلوب تجلي الكشف.

النتيجة الخامسة:  أن ثمة وجهين للتحدي:

“الوجود” يواجه تحدياً في ترك الموجودات لتظهر في مجالٍ يمكن حسابه.

“الإنسان” يواجه بدوره تحدياً في أن تصبح الموجودات موضوعاً لحساباته ومشروعه في المستقبل.

ماهية التقنية بوصفها “جشطلت”[41]« تجميعاً (Ge-stell).

يقول هايدغر: “.. إن “Ge-stell” هو “تجميعٌ” يجعل الإنسان على استعدادٍ ليكشف الواقع كمخزونٍ قابل للتسخير. إن الإنسان الذي يواجه هذا التحدي يقف في المجال الأساسي للـ( Ge- stell) أو “التجميع”، وليس بمقدور الإنسان أن يتحمل مباشرةً علاقةً معه، وذلك لأن السؤال عن معرفة كيف نستطيع الدخول في علاقةٍ مع ماهيّة التقنية هو سؤالٌ يأتي دوماً متأخِّراً.. [42] ولكن السؤال عن معرفة متى وكيف ندخل نحن أنفسنا في مجال الـ (Ge- stell) أو “التجميع ذاته هو سؤالٌ لا يأتي قط متأخراً”[43].

يتضح مما سبق أن الـ (Ge-stell) أو التجميع، هو الاسم الذي أطلقه هايدغر على هذا التحدي الذي يضع الوجود والإنسان اليوم كلاً في مواجهة الآخر بما في ذلك كلّ ما يوجد.

والكلمة يستخدمها هايدغر بطريقةٍ اصطلاحيةٍ ليعبر بها عن ماهية التقنية الحديثة، فهي لا تعبر فقط عن التحدي الذي يواجه الإنسان للكشف عن الموجودات، وإنما تميز ما يسميه اليونان بالشعر (Poiésis) بوصفه إنتاجاً، وإنشاءً بحيث يصبح الشكلان الكلاسيكي والحديث من الإنتاج مترابطين من حيث كونهما أسلوبين من أساليب الكشف عن الحقيقة[44]. إذاً الـ (Ge-stell) أو التجميع تعني طريقة أو أسلوب الكشف الذي يتحكم في ماهية التقنية الحديثة، وهو في حدّ ذاته ليس تقنياً[45] كما سيأتي بيانه.

تعقيـــب...

يمكن القول بأن هايدغر قد استخدم مصطلح الـ( Ge-stell) أو “التجميع” بطريقةٍ تختلف تماماً عن الطريقة المألوفة في استخدام هذا المصطلح، ونحن في توضيحنا لذلك نحاول الإجابة عن السؤال التالي:

ما النتائج المترتبة على تفسير ماهية التقنية عند هايدغر بوصفها تجميعاً أو (Ge- stell)؟

أما عن النتائج فهي كالتالي:

النتيجة الأولى: إن إدراك الوجود بوصفه عالم التقنية ممتنع، لأن “التقنية” تحجب عنا رؤية الإنسان والوجود رؤيةً حقيقيّةً، وليس أمامنا من مخرجٍ سوى أن نتوقف عن إدراك التقنية بوصفها شيئاً تقنياً من صنع الإنسان وحده وأن نحاول إدراك ماهيتها بوصفها “تجميعاً”.

النتيجة الثانية: أن “التجميع” يعبر عن التحدي الذي يواجه الإنسان لتنظيم عناصر الواقع في صورة “مخزون”، كما يعبر عن ماهية التقنية الحديثة من حيث إنه تحدٍّ يواجهه الإنسان في الكشف عن الموجودات من حيث إنه يميز ما يسميه اليونان بالـ(Poiésis) بمعنى (الشعر) أو الإنتاج في الكشف عن الحقيقة.

النتيجة الثالثة: أن “التجميع” مصيرٌ يهدف إلى بلوغ الكشف الذي يتحدى، وهذا المصير هو الذي يضع الإنسان على الطريق إلى الكشف أو إلى حضور ماهية التقنية، وليس ذلك من صنع الإنسان. إذاً ماهية التقنية تستقر في “التجميع” بوصفه أحد تجليات المصير، وهي لا تحدث بمنأى عن الإنسان، وإن لم تكن من صنعه وحده.

النتيجة الرابعة: أن ماهية التقنية ليست مسألةً إنسانيّةً خالصةً، لأن الإنسان أساساً على الطريق إلى الكشف الذي لا يحدث عن طريق الإنسان وحده، وإنما يتلقى الإنسان “نداء الوجود” للقيام بهذا الكشف.

النتيجة الخامسة: “التجميع” إرسال للوجود: يرسل الإنسان إلى طريق الكشف، وهذا التجميع ليس أمراً تقنياً، إنه الأسلوب الذي ينكشف من خلاله ما هو موجودٌ، علماً بأن “الإرسال” الذي يضع الإنسان على الطريق إلى الكشف ويحدّد ماهية التاريخ بأسره، ليس ملزمًا بجبر الإنسان، وإنما تتحدّد حرية الإنسان بقدر انتمائه إلى مجال الإرسال، بحيث يصبح “منصتًا” لما يمليه عليه نداء الوجود.

إذاً، الحرية عند هايدغر هي “مجال المصير” الذي يعمل باستمرارٍ على الكشف عن الحقيقة، ولكن بأسلوبٍ خاصٍّ لا يرتبط أساساً بالإرادة أو بالعلاقة العليّة المألوفة.

  ماهية التقنية ومفارقة الخطر هو ما ينقذ ( Die Gafahr- the danger)

 (أ) - ماهية التقنية تهديد للكشف:

يقول هايدغر: “.. مصير الكشف.. في كلّ صورةٍ من صوره هو بالضرورة خطر[46]«.. إن مصير الكشف في حدّ ذاته.. هو الخطر بما هو كذلك.. وما هو خطيرٌ ليس التقنية.. وإنما الخطر هو ماهية التقنية بوصفها مصيراً للكشف”[47].

يرى هايدغر في تفسير ذلك أن المصير عندما يسيطر على طريقة الـ( Ge-stell) أو “التجميع”، يكون الخطر الحقيقي، وهذا الخطر يؤكد نفسه بطريقتين: فالمنكشف لم يعد يشغل الإنسان بوصفه شيئاً أو موضوعاً، وإنما بوصفه مخزوناً، والإنسان في غمرة ذلك لم يعد يهتم إلا بتنظيم المخزون، حتى إنه يعتبر نفسه مخزوناً، وفي الوقت نفسه، يعتبر نفسه سيد الأرض بما في ذلك من مفارقة، ويترتب على ذلك أن يسود الانطباع بأنّ كلّ ما يلقاه الإنسان يوجد فقط ما دام من صنعه، ويؤدي هذا الوهم إلى وهمٍ آخر مؤداه أن الإنسان في كلّ مكانٍ وزمانٍ إنما يلتقي بذاته، والحق أن إنسان اليوم على وجه الخصوص لم يعد يلتقي بذاته أو بماهيّته في أيّ مكانٍ.

إن الإنسان يقف دائماً في انتظار تحدي “التجميع” وهو في ذلك لا يدرك هذا التجميع بوصفه نداءً، فضلاً عن أنّه يخفق في أن يدرك أنّه ذلك المنادي، ويخفق من ثم في الإنصات إلى الطريقة التي يوجد بها من خلال ماهيته، ومن ثم لا يلتقي أبداً بماهيته.

أما عن الطريقه الثانية التي يظهر من خلالها الخطر، فيرى هايدغر أن “التجميع” يحوّل الإنسان إلى نوعٍ من التنظيم، وعندما يسيطر هذا التنظيم على فعالية الإنسان، فإنّه يؤثر على كلّ إمكانيّةٍ للكشف[48]، فضلاً عن أن “التجميع” يحجب المعنى الحقيقي للكشف بوصفه تجلياً للظهور، أي إنّه يحجب الكشف ذاته، والحقيقة أو الأليثيا التي تحدث بحدوثه. إذاً، يحجب “التجميع” تجلي الحقيقة، ويسيطر عليها، ما يعني أن المصير الذي يتجه في إرسالاته نحو التنظيم إنما هو “الخطر الحقيقى”.

أشار هايدغر إلى أن التهديد الذي يواجه الإنسان لا يأتي لأول وهلةٍ من قبل الآلات وأجهزة التقنية، فالخطر الحقيقي يؤثر على الإنسان من حيث ماهيته، استناداً إلى أن “التجميع” يهدّد بإنكار قدرته على الدخول في كشفٍ أصليٍّ[49]، أو تجربة الحقيقة الأصلية[50][51].

كما أشار إلى أن السؤال عن التقنية هو السؤال حول التجميع (Constellation) الذي يحدث فيه الكشف والحجب معاً، أي الذي تحدث فيه الحقيقة.

ويعني ذلك أن ماهية التقنية -كما يرى هايدغر- إنّما تهدّد الكشف، حيث يتم استنفاد كلّ كشفٍ في عملية التنظيم وتحويل كلّ شيءٍ إلى “مخزون”.

وعلى الرغم من ذلك فإن “التفكير الإنساني” بوسعه أن يفترض أن “ما ينقذ” من ذلك الخطر لا بدّ وأن يكون من طبيعةٍ أسمى مما يهدّد بالخطر، مع أن ثمة صلةً وثيقةً تجمع بينهما[52] كما سنرى تفصيلاً.

يتضح لنا مما سبق أن “التقنية” تهدد الإنسان بتحويله إلى “حيوانٍ آليٍّ”[53]، ما يحتم علينا تأسيس سيطرتنا عليها في إطار نسقٍ أخلاقيٍّ ملائمٍ يسمح لنا بالتخلص من هيمنتها على الإنسان[54].

(ب)- المفارقة في ماهية التقنية: “الخطر هو ما ينقذ”

اختتم هايدغر محاضرته "السؤال عن التقنية" بمفارقة نوضح طرفيها كما يلي:

(1)- الخطر (أو الأزمة في ماهية التقنية)

يمكننا إجمال أهم سمات “الخطر” في ماهية التقنية على النحو التالي:

السمة الأولى: سيطرة التجميع أو الـ (Ge-Stell)

يقول هايدغر في هذا الصدد: “.. حيث يسيطر التجميع يتمثل الخطر الأعظم”[55].

ومع ذلك، فحيث يوجد الخطر يوجد أيضاً ما ينقذ، أي إنّ “التجميع” لا يسيطر بوصفه خطراً فحسب، وإنما بوصفه المنقذ أيضاً، فالخطر هو ما ينقذ[56]، و”التجميع” كشف ينجلي في الابتعاد عن معنى الوجود، وغربة الإنسان عن الوجود؛ ومع ذلك يظل كشفاً.

إذاً، “التجميع” يحمل في أعماقة الخطر المحدق بالإنسان من ناحيةٍ وإمكانيّة تحرّر الإنسان من شعوره بالغربة والوحشة من ناحيةٍ أخرى، وذلك كي يتمكن من الدخول في علاقةٍ أساسيّةٍ مع الوجود ليتلقى معنى الحضور في كل ما يوجد[57].

السمة الثانية: الانشغال عن ماهية التقنية

يقول هايدغر: “إننا في حال السؤال (عن التقنية) نكون شهوداً على الأزمة، أي انشغالنا البعيد عن ماهية التقنية، بمعنى أننا لم ندخل بعد في تجربةٍ معها، وأننا في إدراكنا للإستطيقا، لم نعد نعرف ماهيّة الفن، ولم نعد نحافظ عليها، وكلّما تساءلنا وأمعنا في التفكير حول ماهية التقنية، زاد غموض ماهية الفن، وكلّما اقتربنا من الخطر، تجلت لنا الطرق المؤدية إلى ما ينقذ”[58].

يشير النص السابق إلى أنّنا في مواجهة التقنية نخفق في فهم ماهيتها ما دمنا نفهمها من ناحيةٍ أدواتيّةٍ، وأن ماهية التقنية تتجلى من حضور ما هو حاضر، أي ذلك الوجود الذي لا يسيطر عليه الإنسان قط وإنما يمكنه على أحسن الفروض أن يخدمه[59]، وينطبق ذلك على إدراكنا لماهية الفن بوصفها إنشاءً أو إنتاجاً. أو شعراً كما سيأتى بيانه.

السمة الثالثة: حجب الكشف، تهديد علاقة الإنسان بذاته

يرى هايدغر أنه كلما ابتعد الإنسان عن معرفة ذاته أو انتزع من تلك المعرفة انتزاعاً تحت سيطرة التقنية، فإنه يصبح أكثر قرباً من حافة الهاوية، أي إمكانيّة أن يتحول هو نفسه إلى “مخزون” بحيث لا يظل “سيداً على الأرض أو مالكاً لها” كما كان من قبل.

ويعني ذلك أن الإنسان قد احتجبت عنه ماهيته الصميمة بوصفه كذلك، ومع ذلك يتوهم أن كل ما يلتقي به يوجد بقدر ما يدخل في التركيب الذي صنعه بيديه، أي إنّه يخفق في أن يفهم بوصفه المنادى الذي يتلقى نداء الوجود، ويحسن الإنصات إليه[60].

ومن ناحيةٍ أخرى، يرى هايدغر أن الخطر الكامن في ماهيّة “التقنية” يحدّد مقياس الأشياء جميعاً من خلال الكشف الذي يتحدى الإنسان، وأن هذا الكشف -من ثم- “يحجب” بطريقةٍ ما كل إمكانيّةٍ أخرى للكشف، تلك الإمكانية التي تمثل حضوراً أصلياً وصميماً للأشياء[61].

السمة الرابعة: سيطرة التفكير الحسابي[62]

يرى هايدغر أن من سمات الخطر -فضلاً عما سبق- انشغال الإنسان بكلّ ما هو مباشر، وتفسيره للأشياء في ضوء العلاقة العلية، وفي ضوء التفكير الحسابي الذي أصبح يسيطر على الإنسان، بحيث انتهي إلى نوعٍ من الكشف لا يزيد عن كونه نظاماً حسابياً، ما يستبعد كلّ أمكانية أخرى للكشف.

إذاً، في ظل الخطر الناجم عن التقنية تبقى الحقيقة محتجبةً، مقنعةً، وخافيةً عنا[63].

السمة الخامسة: نسيان الوجود

أشار هايدغر إلى أنه في التقنية تصبح علاقتنا باللغة والأشياء “مهددة”؛ لأنه من خلال اللغة تكون الأشياء لأول مرة، ويتحقق لها الوجود، ما يعني أنّ سوء استخدام اللغة يدمر علاقتنا الحميمة بالأشياء، وهذا التهديد يكمن مصدره في التهديد الأساسي المتمثل في “نسيان الوجود” حتى يمكن القول بأن جذور الإنسان في عصرنا هذا مهدّدة حتى الصميم.

إن هايدغر يدعونا إلى أن نترك أنفسنا لندخل في حركة “التحول” (Kehre-turning) التي تكفل لنا عودةً من جديدٍ إلى جذور الإنسان، وهذه العودة تدعونا بدورها إلى الإنصات إلى نداء الوجود، والتحدث بلغةٍ هي لغة العودة إلى الأصل أو (الوطن) المسؤولة عن أسلوبه في الكشف. و”التجميع” هو أعظم الأخطار في هذا الصدد، لأنه يهدد بإنكار دخول الإنسان إلى مجالٍ يمكّنه من الإنصات إلى نداء[64] الوجود؛ بل إنه يدفعه دفعاً إلى نسيان الوجود.

يعني ذلك أن الإنسان لن يكون بوسعه أن يرى أيّ نوعٍ من الكشف، وأنه يصبح غافلاً عن ذلك الكشف الذي يمكّنه بدوره من رؤية ماهية المنكشف. والخطر كله يتمثل في أنّ الإنسان قد يسيئ فهم المعنى الحقيقي للإرسال، أيًّا كانت طبيعة إرسال الكشف، ووقت حدوثه[65].

إن التجميع في ماهيّة التقنية لا يحجب فقط طريقة الكشف، وإنما يحجب أيضاً الكشف ذاته، أي الحقيقة التي تحدث معه؛ أي إنّ “التجميع” يحجب بحق نور حقيقة الوجود[66].

إذاً، الخطر الحقيقي -كما يرى هايدغر- لا صلة له بالمخاطر التي تحدق بالإنسان الحديث في كلّ مكانٍ وزمانٍ، ولا بالخطر الذي تسببه أكثر الأسلحة تدميراً للإنسان. إنّ الخطر الحقيقي هو احتجاب الوجود، فالأمر هنا ليس وصفاً للموقف التاريخي للتقنية بقدر ما هو وصفٌ لتجمع الوجود الذي يتجه بذاته إلى الإنسان. كما أن من تفرض عليه التقنية سيطرتها، فهو لا يزال عاجزاً عن الاستماع أو رؤية أعمق أسرار الوجود تحت سيطرة التجميع أو الـ (Ge-stell) “إن الخطر الحقيقي -كما يراه هايدغر- ناجمٌ عن ماهيّة “التجميع”، حيث يتحول الوجود من الحضور إلى النسيان[67]، وفي هذا التحول الذي يحجب معنى الوجود يكمن الخطر الحقيقي بالنسبة للإنسان، حيث يفقد علاقته الحقيقية بنفسه وبالآخرين هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى تصبح اللغة مجرد وسيلةٍ لتبادل المعلومات، بدلاً من أن تكون تجربة الإنسان في الفكر والوجود[68]. إنّ أعظم الأخطار[69] ليغشي أبصارنا عن أكثر الحقائق أصالةً في ماهيتنا أو في طبيعتنا الأساسية والمنقذ[70] هو إدراك ماهية ذلك الغياب[71].

2  - ما ينقذ (حل الآزمة):

يمكن القول بأن حل “الأزمة” أو الاتجاه نحو “ما ينقذ” يتم على المراحل التالية:

المرحلة الأولى:  السؤال عن ماهية التقنية إتجاه نحو ما ينقذ

يقول هايدغر مقتبساً عن هيلدرلين:

لكن هناك حيث يكون الخطر هناك أيضاً ينمو ما ينقذ[72]

يرى هايدغر أن الفعل “ينقذ” (retten – save) في معناه المألوف إنما يشير إلى العمل على إيقاف ما يهدّدنا حتى يعود الأمان والطمأنينة كما كان الحال من قبل؛ ومع ذلك فإن الفعل “ينقذ” يعني عند هايدغر أكثر من ذلك. إنه يعني “العودة إلى الأصل أو الماهية وذلك لإحضار الماهيّة لأول مرة في صورتها الحقيقيّة[73]، ففي اللحظة نفسها التي يحتجب فيها الوجود، فإن “ما ينقذ” يتخذ جذوره من هذا الاحتجاب، وإذا ما طبقنا ذلك على ماهية التقنية، فإن التجميع أو الـ (Ge-stell) يحجب[74]« في ذاته “ما ينقذ”[75]، ولكن -يتساءل هايدغر- ألا يمكن للنظرة الفاحصة في ماهية “التجميع” بوصفها مصيراً للكشف أن تظهر “ما ينقذ”؟ وإلى أيّ مدى يمكن لما ينقذ أن ينمو حيث يوجد مكمن الخطر؟ يرى هايدغر أنه وفقاً لكلمات الشاعر فليس لدينا الحق في أن نتوقع أننا سوف نكون قادرين على السيطرة على “ما ينقذ” مباشرة دونما إعدادٍ، حيث يكون الخطر[76].

إن الأمر المثير للدهشة في نظر هايدغر ليس أن عالمنا قد أصبح تقنياً تماماً، وإنما بالأحرى أننا لم نستعد بعد للتحول الكامل نحو “ما ينقذ”، وأنّنا مازلنا عاجزين عن مواجهته بطريقةٍ تأمليّةٍ بحيث نضع التفكير التأملي وجهاً لوجهٍ أمام التفكير الحسابي[77].

ويؤكد هايدغر في هذا السياق أن التفكير التأملي لن يعمل على إدانه العلم والتقنية، ولن يدعو إلى التخلص منهما، وإنما يحاول أن يضع تصوراً لأسلوب التعامل مع التقنية يحول دون أن تسيطر علينا أو تحولنا إلى مجرد عبيدٍ.

ومن ناحيةٍ أخرى يتعين علينا أن “نفكر” في حضور الوجود ذاته بوصفه موضوعاً خليقاً بالتقكير، ولذلك علينا أن نتساءل أولاً كيف يمكننا أن نفكر، لأنّ التفكير هو الفعل الحقيقي، لأنه يعمل على إحضار الوجود إلى اللغة. فاللغة تكفل الطريق الذي ينبغي أن يسلكه كلّ إنسانٍ يسعى إلى فعل التفكير، وبدونها يفتقر كلّ فعلٍ إلى البعد الأصلي الذي عن طريقه يتوقف أسلوب الإنسان في الوجود، واستجابته لنداء الوجود بما يتضمنه ذلك من الدخول في علاقة انتماءٍ مع كلّ ما يوجد، والتفكير التأملي هو بصفةٍ خاصةٍ هذه الاستجابة الأصلية[78].

ويمكن القول بأن التفكير التأملي يتجاوز المباشر والواضح، ويبحث في العلاقة بين الإنسان والوجود من خلال الكشف الذي يحقق الانتماء بينهما، كما أنه يختلف عن التفكير الحسابي، لأنّه يدور في فلك التراث الفكري لدى اليونان وغيرهم، والإفادة مما سبق التفكير فيه، ولأنه تفكيرٌ قد تحرّر من كونه مجرد عودةٍ إلى الوراء، وإنما هو توثّبٌ نحو الأمام  ينحصر في التخطيط والتنظيم والتجهيز للاستخدام[79] الذي يتسم به التفكير الحسابي.

وغنيٌّ عن البيان أن التفكير التأملي بهدف “العودة إلى الوجود” لا يمكنه أن يبرهن على ذاته مثل المعرفة الرياضية، وليس ذلك لأنه أقل شأناً من العلوم الدقيقة، وإنما لأنه يتجلى من خلال استجابتنا للنداء الموجه إلينا كي نفكر، وكي نتحول من نسيان الوجود إلى مصير الوجود[80].

المرحلة الثانية: الكشف وما ينقذ

ذهب هايدغر إلى أن كلّ مصيرٍ للكشف هو بمثابة “منحةٍ”[81] تكفل للمنقذ في هذا المصير أن يزداد وينمو، ذلك لأنّ هذه المنحة هي أول ما يحقق للإنسان المشاركة في الكشف.

إذاً، الإنسان يرتبط بحدوث الحقيقة، “والمنحة” التي يتم إرسالها بطريقةٍ أو بأخرى إلى الكشف هي “المنقذ” من حيث هو كذلك، ذلك لأن المنقذ يترك الإنسان ليدرك ماهيّته الصميمة، وتلك الماهية التي تمكّن في تأمل الكشف وأيضاً تأمّل احتجاب كلّ ما هو موجودٌ.

يقول هايدغر: “إن ماهيّة التقنية تحجب في ذاتها الظهور الممكن للمنقذ.. ونحن عندما نتأمل هذا الظهور، نقوم بالتجميع من جديد.. من خلال ما يتحقق له الحضور في التقنية بدلاً من النظر في ما هو تقنيٌّ”[82].

إن التجميع عند هايدغر هو بمثابة إرسال مصير الإنسان بحيث يضعه على طريق الكشف، وهذا الإرسال يُزوّد الإنسان بمدخلٍ إلى شيءٍ ليس من صنعه أو اختراعه، لذا فهو الخطر الجسيم والمنقذ في آنٍ واحدٍ، فضلاً عن أنّ كلّ إرسالٍ يقوم بعمليّة الكشف يحدث من خلال “المنحة”، علماً بأن تلك “المنحة” تحقق للإنسان مشاركته في الكشف الذي هو حدوث لحقيقة الوجود التي يبحث عنها.

يترتب على ذلك أن الإنسان في ضوء ما يحتاجه ويستخدمه يتمنى حدوث الحقيقة، كما يترتب على ذلك أن “المنحة” التي ترسل الإنسان إلى عملية الكشف هي أيضاً “ما ينقذه” لأنها تترك الإنسان ليبلغ أسمى مراتب وجوده الصميم[83].

يتساءل هايدغر في هذا الصدد بقوله: “.. ألا يمكن أن يكون هناك كشفٌ أساسيٌّ يمنح ما ينقذ انبثاقه الأول في غمرة الخطر؟ إنه - في رأي هايدغر - ذلك الكشف الذي “يحجب” أكثر من كونه “يكشف” في عصر التقنية”[84].

كما يرى هايدغر أن الإرسال الراهن للوجود هو “التجميع” وهو إحدى صور إحضار الوجود، وهي الصورة التي سوف تتحول إلى صورةٍ أخرى من حينٍ إلى آخر، علماً بأنّ مصير الوجود يتحدّد في إرسالاته في كلّ حالٍ وعندما يحدث تغيُّرٌ في الوجود، فإنّه يرسل نفسه في صورةٍ أخرى تعبر عن حضوره بحيث لا تستبعد الصورة الأولى، ولا يتم إلغاؤها[85].

المرحلة الثالثة: الفن والشعر وما ينقذ

يقول هايدغر: “.. في ما مضى لم تكن التقنية وحدها هي التي تحمل اسم “تخنى”، وإنما كانت كلمة “تخنى” تعني أيضاً هذا الكشف الذي يحضر الحقيقة في تجلي الظهور، وكانت “تخنى” في ما مضى تعني أيضاً حضور الحقيقي في الجميل[86]، لأن إنتاج (poiesis) الفنون الجميلة كان يسمى أيضاً “تخنى”[87].

أشار هايدغر في النص السابق إلى أنّه في بداية المصير الغربي ارتفعت الفنون عند اليونان إلى أعلى مستوى من الكشف، فكانت هذه الفنون تكشف عن حضور الآلهة، وعن الحوار بين ما هو طبيعة إلهية[88]، وعن المصائر الإنسانية. والفن في ذلك الحين لم يكن اسمه “تخنى” فكان كشفاً فريداً ومتنوعاً، وتقياً[89] بمعنى أنّه طيّعٌ لقوّةٍ حقيقيّةٍ، وقادرٌ على الحفاظ عليها، والأمر الهام هو أنّ الفنون -وفقاً لما يراه هايدغر- لم تكن تستمد أصلها من الإحساس الفني، فالأعمال الفنيّة[90] لم تكن قط موضوع متعةٍ جماليّةٍ[91].

يتساءل هايدغر: ماذا كان الفنّ في هذه اللحظات القصيرة الرائعة من التاريخ؟ ولِمَ حمل اسم “تخنى”؟ ذلك لأنه كان انكشافاً منتجاً، ولذلك كان ينتمي إلى الشعر (Poiésis) أو الإنتاج بالمعنى الأساسي للكلمة. إنه ذلك الكشف الذي يتحكم تماماً في كلّ فنٍّ جميلٍ، أو هو الشعر، وكلّ ما هو ذو طبيعةٍ شاعريّةٍ.

فهل ينبغي للفنون الجميلة أن تُدعى إلى المشاركة في الكشف الشعري[92]؟ وهل يمكن من جانبها أن تعبّر عن نموّ ما ينقذ، وأن توقظ وتؤسس من جديدٍ النظرة المتجهة إلى “ما يمنح” لتضع بالتالي ثقتنا فيه[93]؟

وإذا كانت الإمكانية العليا لما ينقذ ممنوحةً للفنّ وسط الخطر الأقصى، فهل يمكن لماهية التقنية أن تحدث مع حدوث الحقيقة؟

يرى هايدغر في الإجابة عن ذلك السؤال أن ماهية التقنية ليست شيئاً تقنياً، لذا فالتأمل الجوهرى حول التقنية، والمواجهة الحاسمة معها يحدثان في مجالٍ يكون من جهةٍ مدركًا لماهية التقنية، ومن جهة أخرى يختلف أساساً عنها[94].

يتضح مما سبق أن فعالية الإنسان وحدها لا تمكّنه من مواجهة الخطر بصورةٍ مباشرةٍ، وأن عليه أن يفكر في “ما ينقذ” بحيث تكون ماهيته أسمى مما يهدد بالخطر.

يعثر هايدغر على هذه الماهية في عصرٍ مضى حيث كانت كلمة “تخنى” لا تشير فقط إلى التقنية، وإنما إلى الكشف الذي تتجلى من خلاله الحقيقة، استناداً إلى أن كلمة “تخنى” تعني “حدوث الحقيقي في صورة الجميل” ذلك أن “التخنى” بوصفها فنَّ كشفٍ فريدٍ، ومتنوعٍ، قادر على الحفاظ على الحقيقة[95].

ومن ناحيةٍ أخرى يشير هايدغر إلى أن الشاعر الذي يقول:

لكن هناك حيث يكون الخطر

هناك أيضاً ينمو ما ينقذ ما ينقذ

يقول أيضاً: “.. سكن الإنسان شاعري”[96] على هذه الأرض.

فالشعر يضع الحقيقي في أفق ما يسميه أفلاطون في محاورة “فايدروس” ما يستضيئ وينير بمنتهى الصفاء”، فما هو شاعريٌّ ينقذ كلّ فنٍّ وكلّ فعلٍ تنكشف من خلاله ماهية الجميل[97].

إذاً، كلّ كشفٍ يتخذ جذوره الأساسيّة من التفكير التأملي الذي أطلق هايدغر عليه اسم “الكشف الشاعري”[98]، من حيث إنّ كلّ كشفٍ أساسيٍّ عنده هو كشفٌ شاعريٌّ[99].

المرحلة الرابعة: الانفتاح على ماهية التقنية

أوضح هايدغر أنه إذا كان “التجميع” بين الوجود والإنسان من خلال عالم التقنية ضرورةً، فإن ذلك “التجميع” هو بمثابة مقدماتٍ للحادث[100]، وفي هذا الحادث يتم التغلب على سيطرة “التجميع”، والتخلص من هيمنة التقنية ليعود الإنسان من جديدٍ سيداً لها. ويعني ذلك أن “الحادث” هو ذلك المجال الذي يصل من خلاله كلّ من الإنسان والوجود إلى الآخر من حيث ماهيتهما الحقيقية، ومن خلاله أيضاً يتخلصان من كل الصفات التي نسبتها إليهما الميتافيزيقا الكلاسيكية. إن التفكير في “الحادث” عند هايدغر يقضي بأن يتلقى التفكير الوسائل الضرورية لا من عالم التقنية، وإنما من بنية اللغة، بهدف الدخول في علاقةٍ حرةٍ مع ماهيّة التقنية.

ومن ناحيةٍ أخرى، فإنّ تحديد المصير لا يلزم الإنسان بأن يرتبط بالتقنية ارتباطاً أعمى أو بأن يتمرد عليها يائساً منها كما لو كانت من عمل الشيطان؛ فالعكس هو الصحيح. إذاً، إنّ الانفتاح على ماهية التقنية يحررنا للاستجابة لنداء الوجود، كما يحررنا للإنصات إلى معنًى جديدٍ[101] كامنٍ في التقنية الحديثة، وهذا المعنى لم يخترعه الإنسان وليس من صنعه، فضلاً عن أنّه يكشف عن نفسه بطريقةٍ غير مباشرةٍ، ويحتجب في الوقت نفسه، وتلك هي السمة الأساسية لما يطلق عليه هايدغر اسم “السر” (mystery). ويصف هايدغر السلوك الذي يمكّن الإنسان المعاصر من أن يظلّ منفتحاً على المعنى المحتجب في التقنية “بالانفتاح على السر”[102]، علماً بأنّ ذلك الانفتاح يمنحنا القدرة على أن نتخذ من هذا العالم مستقرًّا لنا بطريقةٍ  جدِّ مختلفةٍ، كما أن هذا الانفتاح لا يتم إلا من خلال التفكير التأملي الذي سبقت الإشارة إليه[103].

يتضح لنا مما سبق أن “السؤال حول التقنية” هو سؤالٌ عن الكشف والحجب اللذين تَحدُث من خلالهما الحقيقة، لذا فهو يساعدنا على رؤية الخطر، وعلى أن نكتشف ما فيه من نمو “لما ينقذ” أو[104] ما يمكن أن ينقذنا.

المرحلة الخامسة: دور الإنسان في الكشف (التحول إلى الوجود)

لم يذكر هايدغر أهمية دور الإنسان في الكشف عن ماهية التقنية، ذلك أن ماهية التقنية لا تحدث تغيّراً يذكر بمعزلٍ عن الإنسان من حيث ماهيته، فضلاً عن أن حضور الوجود لا يتم بمنأًى عن وجود الإنسان لكي يتم الحفاظ عليه بوصفه وجوداً للموجود.

وعلى الرغم من ذلك، فإن الإنسان لا يمكن أن يتغلب على التقنية بذاته، ذلك أن ماهية التقنية يمكن تجاوزها فقط إذا أمكن للإنسان العثور على مكمن الحقيقة في التقنية، كما أن التغلب على “التجميع” بوصفه إرسالاً للوجود
لا يتم من خلاله وصول إرسالٍ أخر لا يمكن حسابه علمياً بصورةٍ مسبقةٍ[105].

وإذا كانت الحقيقة أو “الكشف” أو “اللاحجب” تبقى محتجبةً تحت سيطرة التقنية، فإنها سوف تتجلى من جديدٍ من خلال ذلك الحجب، ليتجلى الوجود بدوره، ولن يتم ذلك بدون الإنسان، لأن كل كشفٍ عن الوجود مستحيلٌ بدون الإنسان[106]، أو بعبارةٍ أخرى بدون الإنسان لا يمكن أن يظهر الوجود في مجال الانفتاح بوصفه وجودَ ما يوجد.

إنّ هايدغر إنّما يدعونا هنا إلى تجاوز التراث الميتافيزيقي الكلاسيكي تجاه التقنية الحديثة التي ترد الإنسان إلى مجرد شيءٍ مصنوعٍ[107] أو مخزونٍ ليس بمقدوره الفرار من طغيانها.

أوضح هايدغر طبيعة التحول من نسيان الوجود إلى حقيقة الوجود، فحيثما يكون الخطر، يكون أيضاً تحرّر الوجود، وهذا التحول إنما يحدث عن طريق الوجود ذاته، وبصورةٍ فجائيّةٍ، وهو بالتأكيد لا يتم عن طريق علاقة “السبب-النتيجة”[108]، فضلاً عن أن هذا التحول يتم في إطار “التجميع” ومن خلال ماهيّة التقنية بوصفها خطراً.

وفي هذا التحول يتحقق للوجود الحضور والانفتاح وتحدث حقيقة الوجود، على أن نضع في الاعتبار أن كلمة “يوجد” (Esist-It is) لا بد أن ننظر إليها أولا من خلال الوجود لا من خلال الموجود ذاته، والشيء نفسه يقال عن “التجميع” إذ إنّه في التجميع لم يزل هناك إرسالٌ أساسيٌّ للوجود، فإذا استجاب الإنسان في وجوده إلى نداء البصيرة[109] استناداً إلى أن التبصّر في ما هو موجودٌ يسمّى “حدث تحول الوجود” فإن “الحادث” ذاته ومن خلاله تنكشف حقيقة الوجود في صورة[110] “إنارةٍ”.

ومن ناحيةٍ أخرى، لأنّ الإنارة الفجائيّة لحقيقة الوجود التي تحدث في ماهية التقنية، هي رؤيةٌ للوجود ذاته، ولما يوجد، ولا يعبر ذلك عن رؤية الإنسان، فإنّه بالأحرى كشف الوجود عن ذاته.

وهايدغر يستخدم كلمة “الحادث” كما سبق الإشارة للتعبير عن هذه الإنارة التي هي كشفٌ ذاتيٌّ  “يتحول” في إطار الوجود ذاته، إنّه الكشف الذي يحدث، وهو إحضارٌ للرؤية بحيث يعيد الوجود إلى ذاته، ويرد ماهية التقنية إلى ذاتها بوصفها كشفاً بحيث يمكن القول بأن “التجميع” والكشف بهذا المعنى هما “التجميع” نفسه، كما يمكن القول بأن “التجميع” هو صورةٌ سلبيّةٌ لهذا الكشف، حيث يلتقي الوجود والإنسان في “التجميع” لقاءً غريباً، بينما يتجليان في نور الكشف الحقيقي وينتمي كلّ منهما إلى الآخر وتظهر ماهيتهما الصميمة[111].

لقد عرف اليونان بالفعل علاقة المعيّة بين الإنسان والوجود، ولكن في عصرنا الحالي يمكن إلقاء الضوء على الكشف الذي يحدث ويجعل كلاًّ من الإنسان والوجود في علاقة “انتماءٍ” يمكن تجربتها دوماً من جديدٍ.

يرى هايدغر أنه في “التجميع”، وخصوصاً في “التحدي” المتبادل بين الإنسان والوجود للدخول في علاقةٍ حسابيّةٍ لما يمكن أن يخضع للحساب، ما هو جديدٌ في هذه العلاقة يظهر ويتجلى، بحيث يتوقف على الانتماء بين الإنسان والوجود أسلوب المعيّة بينهما؛ أي إنّه من خلال حضور ماهية التقنية الحديثة تنبثق إمكانيةٌ جديدةٌ أكثر ثراءً للعلاقة بين الإنسان والوجود، ومن ثم بين الإنسان وكلّ ما يوجد أو ما وجد من قبل[112].

تعقيـــب...

نستلخص مما سبق أن “المصير” عندما يسيطر على طريقة التجميع أو الـ  (Ge- stell) يواجهنا الخطر الحقيقي بحيث تنطوي هذه المواجهة على مفارقةٍ.

نحاول في هذا التعقيب الإجابة عن السؤال التالي: ما النتائج المترتبة على مفارقة “الخطر هو ما ينقذ” التي فسّر من خلالها هايدغر ماهيّة التقنية؟

“الخطر في العبارة يعبر عن “الأزمة” التي تواجهنا في البحث عن ماهية التقنية -موضوع هذا البحث- وهو الطرف الأول من المفارقة ويترتب على هذا الخطر النتائج التالية:

النتيجة الأولى:  سيطرة الـ (Ge-stell) أو التجميع، حيث ينشغل بتنظيم المخزون حتى إنّه يبتعد عن ماهيته الصميمة، بمعنى أنه لم يعد يدرك “التجميع” بوصفه “نداء” ويخفق في إدراك أنه المنادى، وفي الإنصات إلى نداء الوجود.

إذاً، “التجميع” يحجب المعنى الحقيقي للكشف بوصفه تجلياً للظهور، ويهدّد بإنكار قدرته على الدخول في كشفٍ أصليٍّ أو في تجربة الحقيقة الأصلية.

النتيجة الثانية: الانشغال عن ماهية التقنية، بمعنى عدم الدخول في تجربةٍ حقيقيّةٍ معها، وكلما زاد انشغالنا عنها، واستغراقنا في المخزون، اقتربنا أكثر فأكثر مما ينقذ.

النتيجة الثالثة: حجب الكشف وتهديد علاقة الإنسان بذاته، ذلك أن الخطر في ماهية التقنية أن “الكشف الذي يتحدى الإنسان” يصبح مقياس الأشياء جميعاً، وهذا الكشف يحجب مقياس الأشياء جميعاً، وهذا الكشف “يحجب” كلّ إمكانيّةٍ أخرى للكشف، تلك الإمكانية التي تمثل حضوراً أصلياً وحميماً للأشياء.

النتيجة الرابعة: سيطرة التفكير الحسابي، حيث ينشغل الإنسان بكلّ ما هو مباشر، ويفسر الأشياء في ضوء العلاقة العلية والتفكير الحسابي، فينتهي إلى نوعٍ من “الكشف الحسابي” الذي يستبعد بدوره كلّ إمكانيّةٍ أخرى للكشف تؤدي إلى الحقيقة.

النتيجة الخامسة: نسيان الوجود، ففي التقنية تصبح علاقتنا باللغة والأشياء مهدّدةً، لأنه من خلال اللغة تكون الأشياء لأول مرةٍ، ويتحقق لها الوجود، والتقنية تحوّل اللغة إلى مجرد وسيلةٍ لتبادل المعلومات ما يدمر علاقتنا الحميمة بالأشياء، ويهدّد بنسيان الوجود، وحجب المعنى الحقيقي لإرسال الوجود.

أما “ما ينقذ” في العبارة فيعبر عن (حل الأزمة) وهو الطرف الثاني من المفارقة، وقد ترتب عليه ما يلي من نتائج:

النتيجة الأولى: “ما ينقذ” هو العودة إلى الأصل والماهية لأول مرة في صورتها الحقيقية، ولن يتم ذلك إلا عن طريق “التفكير التأملي” بوصفه الفعل الحقيقي للإنسان بما هو كذلك، وهذا التفكير يعمل على إحضار الوجود إلى اللغة التي تكفل بدورها الطريق إلى فعل التفكير.

كما أنّ التفكير التأملي يتجاوز المباشر والواضح، ويبحث في العلاقة بين الإنسان والوجود، في ضوء الكشف الذي يحقق الانتماء بينهما، فضلاً عن أنّه تحرّر وثبةً إلى الأمام لا تنحصر في التخطيط والتنظيم في التفكير الحسابي. إنه “العودة للوجود”، وهو في ذلك لا يبرهن على ذاته، وإنما يتجلى من خلال استجابتنا للنداء الموجّه إلينا كي نفكّر، وكي نتحول من نسيان الوجود إلى مصير الوجود.

النتيجة الثانية: “ما ينقذ” هو الكشف، ذلك أن مصير الكشف هو بمثابة “منحةٍ” تكفل للمنقذ في هذا المصير أن يزداد وينمو، وهذه “المنحة هي أول ما يحقق للإنسان المشاركة في الكشف، بمعنى أنّها هي التي ترسله إلى الكشف، وتنقذه عندما تتركه ليبلغ أسمى مراتب وجوده الصميم.

النتيجة الثالثة: ما ينقذ هو الفن والشعر، فالفن -كما يرى هايدغر متأثراً باليونان- هو “تخنى” بمعنى أنه كشفٌ فريدٌ، متنوعٌ، قادرٌ على الحفاظ على الحقيقة، فضلاً عن أنّه انكشافٌ منتجٌ، لذا فهو (Poiesis) شعرٌ بمعنى الإنتاج، وهو “تخنى” لا بمعنى التقنية المتداول، وإنما بمعنى الكشف الذي يتجلى من خلاله الخطر، أو حدوث “الحقيقة” في صورة “الجميل”.

يرى هايدغر أن “ماهو شاعريٌّ” هو “ما ينقذ” كلَّ فنٍّ وكلَّ فعلٍ تنكشف من خلاله ماهية الجميل، أي إن “ما ينقذ” كلّ كشفٍ يتخذ جذوره الأساسية من “التفكير التأملي” الذي هو بتعبير هايدغر “الكشف الشاعري”.

النتيجة الرابعة: ما ينقذ هو الحادث الذي يتم من خلاله التغلب على سيطرة التجميع وهيمنة التقنية. والحادث هو المجال الذي يلتقي من خلاله الإنسان والوجود من حيث ماهيتهما الصميمة.

كما أن الحادث يحقق الانفتاح على ماهية التقنية، ويحرّر الإنسان من أجل الاستجابة لنداء الوجود، والإنصات إلى معنًى جديدٍ للتقنية الحديثة؛ إنّه بالأحرى، يُمكّن الإنسان من الانفتاح على المعنى المحتجب في التقنية أو “الانفتاح على السر”، وهذا الانفتاح يجعلنا نتخذ من العالم مستقراً لنا بطريقةٍ مختلفةٍ تقوم على “التفكير التأملي” في معنى الوجود.

النتيجة الخامسة: ما ينقذ هو التحول إلى الوجود الذي يُمكّن الإنسان من التغلب على الخطر إذا توصل الإنسان إلى مكمن الحقيقة في التقنية، أي تغلب على “التجميع” بوصفه إرسالاً للوجود من خلال إرسالٍ آخر لا يمكن حسابه مسبقاً بطريقةٍ علميةٍ.

ومعنى ذلك أنه بدون الإنسان لن يظهر الوجود في مجال الانفتاح بوصفه وجودَ ما يوجد، وبدونه لن يتم تجاوز الميتافيزيقا الكلاسيكية والتقنية الحديثة التي تجعل من الإنسان مجرد شيءٍ مصنوعٍ أو مخزونٍ أو حيوانٍ آليٍّ.

إن ما “ينقذ” عند هايدغر هو “التحول” من نسيان الوجود إلى حقيقة الوجود، وهذا التحول يحدث عن طريق الوجود ذاته، وبصورةٍ فجائيّةٍ ولا صلة له بالعلية، ومع ذلك فالتحول يتم في إطار “التجميع”، ومن خلال ماهية التقنية بوصفها خطراً، وفيه يتحقق للوجود الحضور والانفتاح وتحدث حقيقة الوجود.

وفي الكشف الفجائي لحقيقة الوجود -الذي يحدث في ماهية التقنية بتأثير التحول-رؤيةٌ للوجود ذاته ولما يوجد؛ إنه كشف الوجود عن ذاته.

أما عن “التجميع فهو صورةٌ سلبيةٌ للكشف، وفيه يلتقي الإنسان والوجود لقاءً غريباً، بينما يتجليان في نور الكشف الحقيقي الذي يجمع بينهما في علاقة “انتماء” أي إنّه من ماهيّة التقنية الحديثة ينبثق ما “ينقذ” أيّ إمكانيّةٍ جديدةٍ أكثر ثراءً للعلاقة بين الإنسان والوجود.

الخاتمـــة:

والآن.. كيف يمكننا الاستجابة للتقنية من وجهة نظر هايدغر؟

بالطبع ليس عن طريق الفرار إلى التصوف والنزوع إلى اللامعقول[113] وإنما عن طريق “التفكير التأملي” الذي سبقت الإشارة إليه، لا “التفكير الحسابي”[114] السائد في هذا العصر. يمكننا على وجه الخصوص أن نفكّر في ماهية “التقنية”، تلك الماهية التي تختلف عن التقنية وتؤدي في نهاية المطاف إلى التفكير في الفن والشعر بوصفهما إنتاجاً وكشفاً عن الحقيقة.

فلتكن الأدوات في عصر التقنية الحديثة في متناول اليد على ألاّ تهيمن علينا بحيث نفقد ماهية الإنسان الصميمة، وإنتماءه للوجود، فالتقنية ليست أداةً من صنع الإنسان، يسيطر عليها، وإنما هي تلك الظاهرة التي يسيطر فيها الوجود ذاته على التاريخ الغربي بأسره[115].

وإذا كانت التقنية قد أحكمت قبضتها على إنسان العصر الحديث منذ الثورة الصناعية، والثقة المطلقة في قدرة العقل، والصناعة، والعلم، بحيث أصبح الإنسان سيد مصيره على هذه الأرض، فإن كوارث الحربين العالميتين، وحروبٍ أخرى لا حصر لها، والتدمير الذي لا هوادة فيه للبيئة[116] والعالم المحيط، قد ساعدت جميعاً في توجيه انتقاداتٍ حادةٍ للتقنية الحديثة. يرى هايدغر أن تجاوز السيطرة التقنية لن يتم إلا عن طريق إدراك ماهيتها، وتجاوز سيطرة الميتافيزيقا الكلاسيكية التي انصب اهتمامها على الموجود لا الوجود، وأن هذا التجاوز هو البداية الحقيقية للكشف عن الماهية الصميمة للإنسان بحيث يكون سكن الإنسان على هذه الأرض شاعرياً[117]. كما سبق بيانه.

ولعل أهم إسهام لهايدغر في فلسفته عن التقنية الحديثة هو أنه يذكرنا بأن التقنية الحديثة هي المرحلة الأخيرة من تاريخ حجب الوجود ونسيانه[118]، والحل هو التحول من جديدٍ إلى السؤال عن معنى الوجود، أي التحول من نسيان الوجود إلى التفكير في الوجود[119]، علما بأن “السؤال عن معنى الوجود إذا فهمناه فهماً صحيحاً إنما هو السؤال عن ماهية التقنية”[120] في كشفها عن العلاقة الحميمة بين الإنسان والوجود.

يقول هايدغر في نهاية محاضرته “السؤال عن التقنية”: إننا أصبحنا أكثر تساؤلاً، لأن السؤال هو تقوى التفكير[121].

والتقوى هنا تشير إلى أن التفكيرَ تضحيةٌ وشكرٌ: هو “تضحيةٌ” لأنّه يلبي مطلب الوجود، وهو المحافظة على حقيقة الوجود على الرغم من كلّ ما يحدث للإنسان (في عالم التقنية)، وكل ما هو موجودٌ، وفي هذه التضحية نعبر عن ذلك “الشكر” للفضل الذي أغدقه الوجود على طبيعة الإنسان حتى يأخذ على عاتقه - في علاقته بالوجود - حماية الوجود. والشكر الحقيقي هو “صدى” المعروف الذي قدمه الوجود هناك حيث يفسح لنفسه مكاناً ويسبب هذا الحدث الفريد وهو “وجود الموجود”.. هذا الصدى هو استجابة الإنسان لنداء الوجود الذي لا صوت له.

إن التفكير تضحيةٌ لا تتحمل أيّ حسابٍ، لأن الحساب يخطئ دائماً في تقدير التضحية ويغض الطرف عن سمو الغايات وانحطاطها، ويشوه طبيعة التضحية بالبحث عن غرضٍ يكدّر صفو التوفير[122].

إذاً، “التقوى” هنا تشير إلى معناها المعروف: “الطاعة والاستسلام”[123] أي الاستجابة لموضوع التفكير و“الإنصات للسؤال”، ومحاولة فهم معناه، علماً بأن كلّ تفكيرٍ يبدأ في أن يكون تساؤلاً عند هايدغر، وعندما يبدأ في أن يكون تساؤلاً عند هايدغر عندها يبدأ بحثه الدؤوب عن المعنى الحقيقي للوجود. هذا هو درب هايدغر الخاص، وتلك هي غايته، ولم يبق إلا أن نحاول شدّ الخطى معه على دربه الشاق الفريد!


-------------------------------------
[1]* ـ  أستاذة الفلسفة الحديثة، رئيس قسم الفلسفة – كليّة الآداب جامعة الاسكندريّة – جمهورية مصر العربيّة
[2]- Sallis, J.: Heidegger and the Path of Thinking “Duquese, Uni. Press, U.S.A., 1970, P. 158.
[3]-Ibid, p. 159.
[4]-Langan, T.: “The Meaning of Heidegger” Aceitical Study of the Existentialist Phenomenology, Routledge & Kegan Paul Ltd, London, Great Britain, 1959, p, 192-193.
[5]-Heidegger, M.: “Identity & Difference”, P.25.
[6]-Inwood, M.: “A Heidegger Dictionary”, P. 214.
[7]- “Die Technik ist nicht das gleiche wie das Wsesn der Technik- Technology is not equivalent to the essence of technology”.
[8]-Heidegger, M.: “Die Frage..” ,S. 13.
[9]-Kockelmans, J,J.: “On the Truth..” ,p.230.
[10]-Ibid.
[11]-Heidegger, M.: “Die Frage..”, S.13.
[12]-Sallis J.:”Heidegger and the path of Thinking” , P.161.
[13]-Kockelmans, J,J.: “On the Truth of  Being” ,P.230.
[14]-Ibid., P.231.
[15]-يمكن القول بأن المصطلحات الانجليزية التالية مشتقة من الكلمة اليونانية (techné) وهي: (machination, enframing, technology, technik, technique) (الفن - الصناعة اليدوية) في مقابل كلمة (science) “العلم”.
(Cp.: Inwood, M.: A Heidegger Dictionary, P. 209.
[16]-Heidegger, M.: “Die Frage..”, S. 20.
[17]- قبل أفلاطون كانت “تخنى” (techné) تتفق مع (episteme)، وكلاهما يعني: يعرف أو يتصبر، أما عند أرسطو فقد أصبحت تعنى “الإحضار” (a bringing – forth) كما سيأتى بيانه:
(Cp. Kockelmans, J.: “On the..” ,P.233.
[18]- عبد الغفار مكاوي: مقال حذاء فان جوخ في “مدرسة الحكمة” دار الكاتب العربي للطباعة والنشر - القاهرة، 1970، ص:302 -303.
[19]- “Die sc..nen K..nste- the fine arts.
[20]- Poietisches-Poetic.
[21]-Heidegger, M.: “Die Frage”, S.20.
[22]- das Sichauskennen in etwas, das Sichversehen auf etwas - to be entirely at home in something, and be expert in it”.
[23]-Ibid., s21.
[24]-Machen - making.
[25]- Veferting - manufacturing.
[26]-Ibid., S.21.
[27]-Langan, T.: “the Meaning of Heidegger”, P. 193.
[28]-Kockelmans, J,J.: “On the Truth”.., P.233-234.
[29]-Lovitt, W.: “the Question..” PXXIV, XXV, XXVIII.
[30]- Seturung-regulating,
[31]- Sicherung-securing,
[32]- das herausfordern Entbergn-the challenging revealing.
[33]-Heidegger, M.: “Die Frage”.., S. 24.
[34]-Lovitt, W.: “The Question.., Introduction” PXXiX.
[35]-Sallis, J.: “Heidegger and the path of Thinking”, P.162-163.
[36]-DAS Erschlossene-the unlocked.
[37]- وهي على التوالي:
Erschliessen-Unlocking, Umformen-transforming, -speichern-storing- Vertei- len- distributing.
[38]-Inwood, M.: “A Heidegger, Dictionary”, P.210.
[39]-Kockelmans, J.J.: “On the Truth..”, P. 236.
[40]- Subjektivit..t - Subjectivity.
[41]-تعنى كلمة Ge-stell بالأنجليزية الوضوع a position أو تجميع شيء ما (something put together) أو الإطار (a framework) والكلمة الألمانيّة مشتقة من (stall) بمعنى (position) أي وضع أو مكان، والسابقة “ge” تعني (With) أو(together) أي “معا” بالعربية واستخدمت في ما بعد لتعبر عن أسماء جمعيّة مثل (Gebirge) أي “سلسلة جبليّة” و (Gem..t)  من (mut) أو الشجاعة بمعنى كل ما يتعلق بأفعال ومشاعر الإنسان المعبرة عن الشجاعة، كما تعبر عن نتيجة فعلٍ ما مثل (Geschenk) بمعنى (gift) أو هدية من الفعل يهدي (give – schenken).
(Cp. Inwood, m.: “A Heidegger Dic..”, p.210)
[42]-Ibid., S.31.
[43]-Ibid., S.32.
[44]-Kockelmans, J.J.::On the Truth..”, P. 237-239.
[45]-Heidegger, M.: “Die Frage..” ,S.28.
[46]- “Das Geschick der Entbergungen ist.. Gafahr”.
[47]-Heidegger, M.: “Die Frage..”, P. 34-35.
[48]-Ibid., P.34-35.
[49]- ein urspr..nglicheres Entbergen- Original revealing.
[50]- anf..nglicheres Wahrheit- primal truth.
[51]-Ibid., P.35- 36.
[52]-Ibid., P.41- 43.
[53]-Inwood, M.: “A Heidegger Dic.” ,P.211.
[54]-Sallis, J.: “H eidegger and the Path of Thinking”, P.164.
[55]-Hiedegger, M.: “Die Frage..”, P.36.
[56]-Sallis, J.: “Heidegger and the path of Thinking” , P. 167.
[57]-Lovitt, W.,: “The Question Concerning Technology”- Introduction, P.XXXV.
[58]-Heidegger, M.: “Die Frage..” ,S.43-44.
[59]-Sallis, J. “Heidegger and the path of Thinking” , P.166
[60]-Kockelmans,J.J: “On the Truth..” ,P.240-241.
[61]-Sallis, J.: “Heidegger and the path of Thinking”, p.166.
[62]-Calculative thinking.
[63]-Kockelmans, J.J: “On the Truth..”, p. 241- 242.
[64]-Sallis, J.J: “Heidegger and the path of Thinking” , p.168
[65]-Kockelmans, J.J: “On the Truth..” ,p.241.
[66]-Ibid., S.243.
[67]-Ibid., p.246-249.
[68]-Lovitt, W.: “The Question Concerning..”, Introduction, P.XXXiV.
[69]- Die h..chste Gefahr- the highest (outermost, extreme).
[70]- Das Rettende- the Saving power.
[71]-Lanagan, T.: “The Meaning of Heidegger..”, P.:197.
[72]- Wo aber Gefahr ist, Wنchst Das Rettende auch”.
“But where danger is, grows the saving Power also”.
(Cp. Hiedegger, M.::Die Frage..”. S. 36
[73]-Hidegger, M.: “Die Frage..” , S.36.
[74]-Bergen- harbor.
[75]-Kockelmans, J.J: “On the Truth..” P. 244.
[76]-Heidegger, M.: “Die Frage..”, P.37.
[77]- meditative thinking- calculative thinking.
[78]-Kockelmans, J.J: “On the Truth..” , P.242-247.
[79]-Lovitt, W.: “The Question..”, Intro, P.XXXVII.
[80]-Sallis, J.: “Hiedegger and the Path of Thinking”, P.165.
[81]-ein Gewنhren- a granting.
[82]-Heidegger, M.: “Die Frage..” , P.40.
[83]-Kockelmans, J.J:”On the Truth..”, P.245.
[84]-Heidegger, M.: “Die Frage..”, P.40.
[85]-Kockelmans, J.J: “On the Truth..” P. 246-247.
[86]-das Schِne- the beautiful.
[87]-Heidegger, M.: “Die Frage..”, P.42.
[88]- das gِttliche - divine.
[89]- الصفات على التوالي هي:
einziges - vielfنltiges - fromm - single - manifold - pious.
[90]- Die Kunstwerke - Art works.
[91]-Ibid., P.42.
انظر أيضاً: محمد سبيلاً... “التقنية - الحقيقة - الوجود”، ص 84.
[92]- das dichterisch Entbergen - Poetic revealing.
[93]-Heidegger, M.: “Die Frage..”, P.43.
[94]-Ibid.
قارن: محمد سبيلا وعبد الهادي مفتاح: “التقنية..” ص 85.
[95]-Kockelmans, J.J: “On the Truth..”, P. 245-246.
[96]-dichterisch wohnet der Mensch anf dieser Erde - Poetically dwells man upon this earth.
[97]-Heidegger, M.: “ Die Frage..”, P.43.
قارن أيضاً: محمد سبيلا..: “التقنية - الحقيقة..” ص85.
[98]- The fundamental Dictare.
[99]-Langan, T.: “The Meaning..”m P.197.
[100]-Ereignis - event of appropriation Ereigins.
Das Ereigins: تُرجمت كلمة Ereigins في الإنجليزية إلى عدة ترجمات منها appropriation وConcern، وتعنى: ما يتعلق بالإنسان وينتمى إليه، وتعنى حرفياً التمييز بالعين والرؤية، وهي مستمدة من Con-Cerno اللاتينية، وأحد معاني Cerno هو التمييز والرؤية، ومن ثم تتشابه مع Ereigins إصطلاحياً المشتقة من augen بمعنى يوضح، ومنها Auge أو العين، فتصور er-eigen مستمد أصلاً من النشاط البصري، أما فكرة الحدوث التي تؤدي معنى هذا المصطلح، فهي تشير إلى الذات وامتلاكها، وتشير إلى قرب الوجود الشديد منه، وتقربنا من الوجود الذي ننتمي إليه، بحيث يمكن القول أنها تصف المجال الداخلي الذي يتلامس فيه كلّ من الوجود والإنسان وفقاً لماهيّة كلّ منهما، ومن خلاله يحقق كلّ منهما طبيعته الأساسيّة.
(Cp. Heidegger, M.: “Essays in Metaphysics: Identity & Difference”, P. 27, P. 73.
[101]-Kockelmans, J.J: “On the Truth..”, P. 240-241.
[102](««)Openness to the mystery.
[103]-Ibid., P.243.
[104]-Ibid., P.245.
[105]-Ibid., P.247.
[106]-Lovitt, W.: “The Question..” Intro, P.XXXV- XXXVI.
[107]-Langan, T.: “The Meaning of Heidegger..” P.197.
[108]-Kockelmans, J.J: “On the Truth..” P.248.
[109]-Einblick - the insight.
[110]-Ibid., P.248-249.
[111]-Lovitt, W.: “The Question..”, Introduction, P.XXXVI-XXXVII.
[112]-Ibid., P.XXXVII.
[113]-Inwood, M. “A Heidegger Dictionary”, P211.
[114]-Heidegger, M.: “Identity & Difference”, P.32.
[115]-Lovitt, W.: “The Question...”, Introduction. PXXiX.
[116]-Zimmerman, M., E.: “Heidegger’s Confrontation with Modemity- Technology, Politics and Art”, Indi- ana Uni. Press, U.S.A., 1990, P.248-249.
[117]-Langan, T.: “The Meaning of Heidegger..”m P.199.
[118]-Ibid., P.248.
[119]-Sallis, J.: “Heidegger and the Path”, P.167.
[120]-Ibid., P. 158.
[121]-“Denn des Fragen ist die Frِmmigkeit des Denkens” for Questioning is the Piety of Thought”.
[122]- فؤاد كامل: “الحاشية” في “مارتن هايدغر - ما الفلسفة؟ ما الميتافيزيقا، هليدرلين وماهية الشعر”، ترجمة فؤاد كامل ومحمود رجب، سلسلة النصوص الفلسفية (2)، دار الثقافة للطباعة والنشر - القاهرة 1973م، ص: 134- 135.
[123]-Lovitt, W.: “A Question Concerning Technology”, Introduction. P. XXXIX.