البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

النظرية النقدية للتكنولوجيا ، هل غدت الديمقراطية الغربية محض وهم؟

الباحث :  آندرو فينبيرغ - Andrew Feenberg
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  15
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2019 م / 1440 هـ
تاريخ إضافة البحث :  May / 7 / 2019
عدد زيارات البحث :  2373
تحميل  ( 471.216 KB )
تهدفُ هذه المقالة للفيلسوف الأميركي آندرو فينبيرغ إلى تلخيص الأفكار الرئيسية الواردة في النظرية النقدية حول التكنولوجيا، وترمي إلى إظهار صلتها بمصدريْها: النظرية النقدية التي تبنّتها مدرسة فرانكفورت، والجهود الأولية في مجال دراسات العلم والتكنولوجيا. ومن أبرز الأفكار التي تطرق إليها الباحث هي تلك التي تتناولُ تحديد النظرية الفاعلية البشرية من قِبل المنظومة التكنوقراطية المهيمنة على المجتعمات المعاصرة. ويخلص الباحث من طرحه هنا إلى أنّ النظرية النقدية للتكنولوجيا تعتبر أنّ التكنولوجيا ليست عديمة الأهميّة ولكنّها تفتقد للشمولية، وفي الوقت نفسه تطرحُ نظريةً صريحةً حول التدخُّلات الديمقراطية في الميدان التكنولوجي.

المحرر

------------------------------------
اِستجابت دراسات العلم والتكنولوجيا في السنوات الأخيرة إلى ظهور المشاركة العامة في تحديد السياسة التكنولوجية، واقتربت أكثر من دائرة اهتمام النظرية النقدية حول التكنولوجيا[2].

ما زالت النظرية النقدية حول التكنولوجيا تتميّزُ عن أغلب مساهمات دراسات العلم والتكنولوجيا، وذلك  عبر تأكيدها على مواضيع محدّدةٍ مستقاةٍ من مدرسة فرانكفورت، خصوصاً نقد العقلانيّة في الثقافة المعاصرة. وعليه، فإنّها تمدّ جسور الصلة بين هذه الدراسات والنقد الاجتماعي الذي غالباً ما تمّ التغافل عنه. وعليه، كما لا يمكن اعتبار النظرية النقدية بديلاً عن دراسات العلم والتكنولوجيا، فهي دعوةٌ لانفتاح هذه الدراسات على نطاقٍ واسعٍ من النظريات الفلسفيّة والاجتماعية حول الحداثة.

سوف نقومُ أولاً بتصوير العلاقة بين النظرية النقدية حول التكنولوجيا وبعضٍ من أبرز العلماء والإبداعات المنهجية في ميدان دراسات العلم والتكنولوجيا. بعد ذلك، سوف نَشرعُ في توضيح التحفّظات المهمة المتعلقة بمفهوم التناغم الذي كان تاريخياً موضع اهتمامٍ رئيسيٍّ في دراسات العلم والتكنولوجيا. بعدها، سوف ننطلقُ في تفسير المفاهيم الرئيسية والطرق التي تتبّعها النظرية النقدية حول التكنولوجيا ونناقش تداعياتها السياسية. أمّا في الختام، فسوف نُظهر كيف تُحلِّل النظرية إحدى الحالات الدراسية المثيرة للاهتمام في ميدان دراسات العلم والتكنولوجيا.

تصوير النظرية النقدية حول التكنولوجيا

قبل أن تندرج دراسات العلم والتكنولوجيا بشكلٍ رسميٍّ في مجال البحث العلمي، نُسبت الدراسة الاجتماعية للتكنولوجيا إلى الماركسية والبراغماتية وفلسفة الظواهر وفقاً لهايدغر ونظريات الحداثة المختلفة، وقد تولّت هذه النظريات الواسعة والتخمينية في أغلب الأحيان استكشافَ العلاقة بين التكنولوجيا والمجتمع. سعت هذه النظريات لفهم الميزة الخاصة بالحداثة على ضوء الثورات العلميّة والتكنولوجية والانطلاق بناءً على ذلك في تفسير المساوئ الكثيرة للحداثة خصوصاً تراجُع الفاعلية البشرية في مجتمعٍ أصبح ذا سمةٍ تكنولوجيّةٍ. أضحت المواضيع مألوفةً الآن: التكنوقراطية، استبداد الخبرة، إبدال الحكمة بالمعرفة والمعرفة بالمعلومات، النظر إلى الكائن البشري والمجتمع كمنظوماتٍ وظيفيّةٍ معقَّدةٍ، خلّو الحياة المعاصرة من المعنى، زوال الإنسان، وما إلى ذلك. أما التكنولوجيا، فإنّها تضيعُ بحدّ ذاتها في أوساط هذه المخاوف الكثيرة.

نجحت دراساتُ العلم والتكنولوجيا بشكلٍ كبيرٍ في إقصاء هذه المقاربات المتنافسة، ووضع دراسة الحالات الإفرادية للتكنولوجيات الفعلية مكانها. في يومنا الحالي، يستندُ القليلون فقط إلى مامفورد (Mumford) أو ديوي (Dewey) أو هايدغر (Heidegger) أو ماركوزه (Marcuse) لنيل المعرفة المعمّقة بالتكنولوجيا. ولكن حينما وجّهت دراسات العلم والتكنولوجيا اهتمامها إلى دراسة الحالات الإفرادية باستخدام مناهجَ متجذِّرةٍ في الأنماط الفكرية الأخرى، أصبحت تُركِّز بوتيرةٍ أقلّ وبطموحٍ أخفَّ على المخاوف الاجتماعية والسياسية الأعم. تهتمُّ هذه المقالة بشكلٍ خاصٍّ بتضاؤل التأكيد على اهتمام منظِّري الحداثة بالتناقض بين الفاعلية السياسية والعقلانيّة التكنوقراطيّة.

يعودُ هذا الامتناع عن الدخول في الميدان السياسي إلى ما أطلق عليه وايبي بيجكر(Wiebe Bijker) «الانعطاف نحو الأكاديمية» الذي اعتُبر ضرورياً من أجل إرساء دراسات العلم التكنولوجي كعلمٍ اجتماعيٍّ[3]. بالطبع، لم يسلك الجميع الانعطاف الشهير ولكنّ الميدان امتاز بالامتناع عن الجدال السياسي ما شكّل متاعبَ لمناصري الفكر النقدي السابق. تكلّم لانغدون وِنير(Langdon Winner)  بالنيابة عنهم في مقالةٍ تحت عنوانٍ مهم: «الصندوق الأسود الفارغ: البنّائية الاجتماعية وفلسفة التكنولوجيا»[4]. أما أنا، فقد قدّمتُ ردّاً مختلفاً عبر مراجعة النظرية النقدية بُغية استيعاب المبتكرات المنهجية لدراسات العلم التكنولوجي[5]. بدلاً من دعوة هذه الدراسات لتبنّي الروح النقدية، تبنّيتُ مناهضة كلٍّ من الحتمية والوضعية في دراسات العلم التكنولوجي من أجل دعم النظرية النقدية للتكنولوجيا.

اتّسعت دائرة اهتمام دراسات العلم التكنولوجي بالتزامن مع تسبُّب الجدالات المنتشرة حول العناية الطبية والشبكة العنكبوتية والبيئة بإدخال التكنولوجيا في العديد من الأبعاد المختلفة للحياة السياسية المعاصرة. وعليه، أصبحت دراسات العلم التكنولوجي سياسيةً ولكنّها تمتلك أحياناً مفهوماً غير مُقنعٍ عن السياسة[6]. أثّرت نظرية شبكة الفواعل وجهود شيلا جاسانوف (Sheila Jasanoff) وبراين واين (Brian Wayne) وكثيرون غيرهم بشكلٍ كبيرٍ على محاولات دراسات العلم والتكنولوجيا الرامية إلى فهم سياسة التكنولوجيا[7]. تتحدّى الدراساتُ عن المنتديات المختلطة والإنتاج المشترَك الفهم الضيّق للديمقراطية السائد في الفلسفة والنظرية السياسية[8]، وقد أدرك بعض الباحثين في مجال دراسات العلم والتكنولوجيا المقاربات المسيَّسة للغاية التي يُفضِّلها العالم النامي خصوصاً أمريكا اللاتينية[9]. ولكن كيف يُمكن للإنجازات السابقة لدراسات العلم والتكنولوجيا –التي تظهر في العديد من الدراسات الباهرة- أن تُحفظ في إطار التحقيقات المشحونة سياسياً حول القضايا الجدلية؟ يُثيرُ هذا الأمر إشكالاتٍ لأسبابٍ متجذِّرةٍ في دراسات العلم والتكنولوجيا، وسوف نطرح وسيلةً لحلّ تلك الإشكالات في هذه المقالة.

تستندُ النظرية النقدية للتكنولوجيا على دراسات العلم والتكنولوجيا في وضع القضايا ضمن إطار نقد مدرسة فرانكفورت للحداثة. أقدم الماركسيون الألمان في سنوات العشرينيات والثلاثينيات على تطوير النظرية النقدية، وكان أشهرهم ماكس هوركهايمر (Max Horkheimer)، ثيودور أدورنو (Theodor Adorno)، هربرت ماركوزي (Herbert Marcuse)، ووالتر بنجامين (Walter Benjamin). تأثّر هؤلاء بجورج لوكاكس (George Lukلcs) الذي يصفُ مفهومه عن «التشيُّؤ» اختزالَ العلاقات الاجتماعية المعقَّدة والديناميكية في تفاعلاتٍ بين الأشياء (الاجتماعية) هي محكومة ظاهرياً بالقانون[10]. يحتجّ لوكاكس بأنّ التشيُّؤ يُصوِّر أعضاء المجتمع كأفرادٍ معزولين، وهكذا لا يستطيعون تغيير قوانين الحياة الاجتماعية، بل استخدامها فقط كقاعدةٍ للتلاعبات التقنية. تقدّمت مدرسة فرانكفورت على هذا المسار النقدي، وأزالت الغموض عن المؤسسات التشيُّئيّة، وفتحت المجال أمام احتمالاتٍ نقديّةٍ يحول دونها اللجوء المغرض إلى القوانين الاجتماعية والاقتصادية. منذ الأربعينيات فصاعداً، تنامى تركيز أعضاء مدرسة فرانكفورت على انهيار كُلٍّ من الثقافة البرجوازية والحركة الشعبية في وجه الثقافة الجماهيرية (Mass Culture) والفاشية.

أدخلت الأيديولوجية الليبرالية السائدة التي صبغت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية الادّعاءات التكنوقراطية إلى واجهة الخطاب العام. وتمّ تبرير الترتيبات الاجتماعية بالاستناد إلى طابعها العقلائي بينما رُفضت المعارضة باعتبارها سخافةً عاطفيّةً. اكتسب ماركوزي شهرةً في الستينيات بعد أن نال هجومه على الليبرالية نجاحاً شعبياً، وقد أثّر كتابه الصادر عام 1964 «الإنسان ذو البعد الواحد» بشكلٍ كبيرٍ على اليسار الجديد. تطابق نقده للمجتمع الأميركي كمنظومةٍ مندمجةٍ للغاية يحكمها «المنطق التكنولوجي» مع اهتمامات الشباب في العالم الرأسمالي المتقدِّم. لم تُدرس التفاصيل التقنية لنظريّة ماركوزي حول التكنولوجيا بشكلٍ واسعٍ أو تُفهم آنذاك، ولكنّها تحظى اليوم بأهميّةٍ مفاجئةٍ. لم يقتصر ماركوزي على الادّعاء بأنّ القوى الاجتماعيّة الرأسماليّة هي التي صاغت التكنولوجيا وسيطرت على تشكيلها، بل احتجّ أيضاً على إمكانية وقوع التغيّر التكنولوجي التقدُّمي تحت تأثير القوى الاجتماعية الأكثر إنسانيةً.

   أدّى مفهوم ماركوزي عن «المنطق التكنولوجي» كأيديولوجيةٍ مانحةٍ للشرعيّة إلى تطوير المفاهيم الماركسية التي سبقتْ منطق السوق. تبدو الحياة الاجتماعية في زمننا الحالي بشكلٍ متنامٍ غير معتمِدةٍ على العلم والتكنولوجيا فقط، بل تعكسُ أيضاً العمليات العلمية والتقنية. يُقال بأنّ الفاعلية منطقيّةٌ وتستحق الاحترام في جميع ميادين الحياة الاجتماعية. وعليه، يؤدّي المنطق دور المبرِّر للكثير من أنواع التغيير الاجتماعي. يستمدّ «شعار الفاعلية» القوة من هذه الصلة على الرغم من أنّ لديه نتائج كارثيّة على بعض المتأثرين[11]. تُنتزع أسلحة هذا النقد حتّى قبل نهوضه إذ تُوجّه إليه التهمة الشاملة باللاعقلانيّة، فمن يجرؤ على التشكيك بشموليّة العلم وحياديّته ومساهمته المستمرة؟ وعليه، يَسهلُ عدم الاكتراث بـ«اللاعقلانيّين الرومنسيِّين» نظراً إلى النجاح الساحق للعلم والتكنولوجيا المعاصِرَيْن.

يُلخِّص نموذج ماركوزي عن النظرية النقدية المضمونَ الجوهري الوارد في مفهوم لوكاكس حول التشيُّؤ، أي المفهوم الذي يُفيدُ بأنّ الرأسمالية تفرضُ ثقافةً عقليّةً تمنحُ الامتياز للتلاعب التقنيّ على جميع الصلات الأخرى بالحقيقة. تحصرُ هذه الثقافة الفهمَ والحياة البشرية ليتطابقا مع لوازم المنظومة الاقتصاديّة وبالتالي تُحدِّد الرأسماليّة هيئة التفاعل والتجربة الاجتماعية. يدّعي ماركوزي أنّه «حينما يتّخذ العلم التطبيقي الشكل العام للإنتاج المادي فإنّه يُطوِّقُ ثقافةً برمّتها ويُقدِّم شموليةً تاريخيّةً، أي ’عالماً‘«[12].

اتّباعاً لهذه المقاربة، تُحدِّد النظرية النقدية للتكنولوجيا التحيُّز الضمنيّ الوارد في الحلول «الفعّالة» للمشاكل الاجتماعية والتقنية، ولكنّها تختلفُ بشكلٍ كبيرٍ عن المؤلّفات السابقة لماركوزي ولوكاكس. تتمثّلُ النقلة الكبرى للنظرية النقدية للتكنولوجيا في الاستناد إلى الافتراضات الأساسية لدراسات العلم والتكنولوجيا لدى الإسهاب حول الموضوعات التي تتناولها الأنماط السابقة.

كالمنظّرين حول الحداثة، اعترضت دراسات العلم والتكنولوجيا على الأيديولوجيا التكنوقراطيّة، ولكنّها لم تتبنّ النقد الفلسفي الشامل. تبنّى منهج دراسة الحالة الأدلة التجريبية لهدم الافتراضات الوضعيّة والحتميّة التي تُشكِّل أساس الاحتفاء الليبرالي بالمجتمع العقلائي. تتمثّلُ الافتراضات الرئيسيّة البديلة التي يُقدّمها الفكر الاجتماعي البنّائي بالفاعِلين، التحديد الناقص، المرونة التحليلية، والإتمام. على الرغم من أنّها طُرحت بُغية تفسير حالاتٍ محدّدةٍ إلا أنّ هذه الافتراضات تستطيعُ تقديمَ الدعم للنقد الموجّه إلى التعبئة الأيديولوجية لمفهوم العقلانية. تضمُّ النظريّة النقديّة للتكنولوجيا هذه الافتراضات بالإضافة إلى مفاهيم البرمجة والتفويض والإنتاج المشتَرك التي تُستخرج من نظرية شبكة الفواعل. مع ذلك، تستفهمُ النظرية النقدية للتكنولوجيا عن أكثر الاستنتاجات تطرُّفاً التي يُقدّمها المنظّرون في مجال دراسات العلم والتكنولوجيا كالتعامل المتناغم مع أصحاب النقاش في الجدليات التكنولوجية والتناغم بين البشر وغير البشر. سوف تُفصِّل الأقسام التالية: متى تعتمدُ النظرية النقدية للتكنولوجيا على نظريات دراسات العلم والتكنولوجيا ومناهجها ومتى تنفصلُ عنها؟

مساهمات البنّائية الاجتماعية ونظرية شبكة الفواعل

   تطبيقُ مناهج البنّائية الاجتماعية على تكنولوجياتٍ محدَّدةٍ هو أمرٌ مُثمرٌ ويمنع الرجوع الأيديولوجي إلى تبريراتٍ شبه عقلانيّةٍ، وذلك عبر إظهار تدخُّل العوامل الاجتماعية في القرارات التي تؤدّي إلى «الإتمام» أو النجاح في إنجاز تصميمٍ معيّنٍ. يحتجُّ هذا النمط من البنّائية الاجتماعية على أنّ فهم المشاكل التقنية يعتمدُ على تفسير المجموعات الاجتماعية أو «الفاعلين». غالباً ما تتضمّن المراحل الأولى من تطوُّر الأداة تعدُّديةً في الفاعلين مع تفسيراتٍ مختلفةٍ عن طبيعة المشكلة التي ينبغي حلُّها. قد تنسبُ مجموعاتٌ اجتماعيةٌ مختلفةٌ أهدافاً متباينةً إلى أدواتٍ متشابهةٍ أساساً من المنظور التقني، وتنشأ القرارات حول التصميم من هذه التعيينات.

   أحد أكثر الأمثلة المذكورة في هذه المقاربة هو المثال الذي يُقدِّمه تريفور بينش ووايبي بيجكر عن التاريخ المبكِّر للدراجة الهوائية. يُقدِّم الباحثان نوعين متنافسَيْن من الدراجات الهوائية في الأيام الأولى لتصميم الدراجات: الدراجة السريعة ذات العجلة الأمامية الكبيرة والعجلة الخلفية الصغيرة، والدراجة الأقل سُرعةً مع عجلتين بالحجم نفسه. في يومنا الحالي، تبدو الدراجات من النوع الأول أسلافاً بدائيّةً بالنسبة للدراجات التي نركبها حالياً، ولكن هذا التصميم كان يُناسب في وقته مجموعةً محدّدةً من المستخدِمين. يقترحُ بينش وبيجكر معالجةً «متناغمةً» للتصميمَيْن الرئيسيَّيْن تأخذ بعين الاعتبار معناهما الاجتماعي المعاصر بدلاً من النظر إليهما على ضوء ترتيبٍ زمنيٍ متخيَّلٍ.

   طُرح «مبدأ التناغم» بشكلٍ أوليٍّ لتوجيه دراسة الجدل العلمي إلى معالجةٍ عادلةٍ لكلٍّ من الرابحين والخاسرين. وعليه، اقتضى الأمر رفض الإسناد المعهود للمنطق الأعلى إلى الرابح وبدلاً من ذلك تقييم الغايات المختلطة والافتراضات المريبة الواردة في جميع جهات الجدلية. اقتضى «مبدأ التناغم» البنّائي في تطبيقه على التكنولوجيا نظرةً متوازنةً تجاه التصميمات المتنوّعة المتنافسة منذ البداية والتي لم يكن أيٌّ منها أفضل في نظر المعاصرين.

لقيت تصميماتُ الدراجات الهوائية التي درسها بينش وبيجكر استحسانَ فاعلين مُختلفين، فالدراجات ذات العجلات الأمامية العالية نالت إعجاب الشباب الذين يحبّون التسابق، بينما فضّل العوام الذين يستخدمون الدراجات كوسيلةٍ للتنقُّل التصميم العادي. كانت معظم  قطع الدراجتين متشابهة وبدا التصميمان كدراجةٍ هوائيّة ولكنّهما كانا في الواقع تكنولوجيتين مختلفتين فُهمتا بطريقةٍ متفاوتةٍ من قِبل الفئات الاجتماعيّة المختلفة. في النهاية، ومن خلال التجديد، ساد النموذج الآمن. لم يكن نجاحه عائداً إلى أفضليّةٍ تقنيةٍ مُطلقةٍ بل إلى تطوُّراتٍ تاريخيّةٍ طارئةٍ. حُدّدت النتيجة عبر اعتباراتٍ تقنيةٍ محضةٍ ولا يُمكن فهمها إلا بالالتفات إلى جهود الفاعلين للتحكُّم بعملية التصميم. يفتحُ التحديد التقني للأشياء مجالاً للاختيار الاجتماعي بين تصاميم مختلفةٍ تملكُ وظائف متداخلة، ولكنّها تخدم إحدى الاهتمامات الاجتماعيّة بشكلٍ أفضل. تختصُّ هذه «المرونة التحليليّة» للأشياء ببُعدٍ تفسيريٍ تمّ التغاضي عنه في التفاسير الآليّة المعهودة. وعليه، فإنّ «المجتمع العقلاني» ليس «الطريق الفضلى الوحيدة» بل يتوقّف على القيم والمصالح.

على حدِّ تعبير بينش وبيجكر، فإنّ «التحليلات المختلفة للفئات الاجتماعية حول جوهر الأشياء تؤدّي –عبر سلسلاتٍ متباينةٍ من الإشكالات والحلول- إلى المزيد من التطوّرات المختلفة...»[13]. تدورُ نقطتهم الرئيسية حول تأثير البعد الاجتماعي على «جوهر الشيء» بحدّ ذاته لا فقط على العوامل الخارجية كسرعة التنمية أو التوضيب أو الاستعمال. هذا يعني أنّ الإطار ليس أمراً خارجياً عن التكنولوجيا فحسب بل يخترقُ منطقها بالفعل ويُدخِل المقتضيات الاجتماعية في آلية الأداة.

يُمكن لهذه الحجة أن تدعم الرواية الماركسية حول تطوّر التكنولوجيا الرأسمالية في مقابل الحجج الحتمية لتكنوقراطية ما بعد الحرب. في الواقع، يُمكن ملاحظة شبهٍ مع مقاربة بينش وبيجكر وذلك في مؤّلفات مؤرّخي التكنولوجيا الماركسيين من أمثال هاري برايفرمان (Harry Braverman) وديفيد نوبل(David Noble). أكّدت مدرسة فرانكفورت على الطبيعة الرأسمالية للتكنولوجيا على أساس المصادر الواردة نفسها في مؤلفات ماركس التي أثّرت على هؤلاء الباحثين. على سبيل المثال، يكتبُ أدورنو:

«التكنولوجيا ليست كارثيةً ولكنّ تشابكها مع الظروف الاجتماعية التي تُكبِّلها هو الكارثي...الاهتمام بفوائد الأرباح والهيمنة قد حرّكا مسار التطوُّر التقني فأصبح الآن متطابقاً بشكلٍ فتّاكٍ مع مُستلزمات التحكُّم. لم يُصبح ابتكار وسائل الدمار بالصدفة نموذجاً للنوعية الجديدة من التكنولوجيا. في المقابل، ذبلت إمكانياتها التي تحيدُ عن الهيمنة والمركزية والعنف ضدّ الطبيعة والتي تُتيح إصلاح معظم الخراب الذي تسبّبت التكنولوجيا به فعلياً ومجازياً.»[14]

تُوفِّرُ هذه الحجج جسراً محتملاً بين الماركسيّة والبنّائية. كالبنّائيين، ينسبُ أدورنو تصميم التكنولوجيا إلى الفاعلين الذين يُسيطرون على عملية التصميم. أمّا غيره من الباحثين -كأولئك المذكورين في أعمال برونو لاتور- فإنّهم يُعارضون هذه المقاربة لأنّها تُضفي الإطلاق على المجتمع في الوقت نفسه الذي تجعل فيه التكنولوجيا نسبية. تسعى نظرية شبكة الفواعل وفق صياغة لاتور إلى فصْل البنّائية عمّا يعتبره تأكيداً مفرطاً على النية البشرية. ومن أجل تسليط الضوء على الطبقات الماديّة في الشبكة، تبسطُ نظرية شبكة الفواعل الحجّة البنّائية لتشمل الأشياء المدرَجة في الشبكات التقنية وتحتجُّ لصالح «تناغمٍ» مفهوميٍّ ووظيفيٍّ «بين البشر وغير البشر» يختلفُ عن النموذج الاجتماعي البنّائي للتناغم. يتحقّقُ التناغم في نظرية شبكة الفواعل من خلال طمس الاختلاف بين الأفعال التفسيريّة والمتعمّدة للبشر من جهةٍ والقوى السببيّة للأشياء من جهةٍ أخرى، فيُمنح الاثنان المصطلح الحيادي المتمثِّل بـ«الفاعلية». يرتبطُ الناس والأشخاص معاً في الشبكات ويُمارسون التأثير على الشبكات التي ينتمون إليها. يُؤدِّي مفهومُ «البرنامج» في نظرية شبكة الفواعل دور المفهوم البنّائي حول التفسير ولكن بشرط امتلاك الأشياء للبرامج أيضاً بمعنى أن تلعب دوراً في حياة الشبكة.

تقومُ هذه المقاربة بتفادي الذاتية والنسبية اللَّتين تُنسبان أحياناً إلى البنّائية الاجتماعية، ولكنّها تفعل ذلك بطريقةٍ غريبةٍ حيث لا تُعيد تقديم الخصائص الموضوعيّة للأشياء المحدَّدة بالبحث العلمي، بل تصفُ أدوارها في الشبكات التي تنتمي إليها. يُجرِّدُ الاختزال الشبيه بهذا البشرَ من جوهرهم ومبادرتهم. ينبغي أن يُفهم البشر والأشياء كفاعلين أساساً في الشبكات لا كموضوع ومحمول. إذاً، يُفسَّر الفصل بين الموضوع والمحمول والمعنى والسببية كعمليّةٍ إبستمولوجيّةٍ محظورةٍ تختصُّ بالحداثة ويُسمّيها لاتور «التطهير»[15]. هذه العملية المتأخرة تحجبُ الأهمية التأسيسيّة للحقائق الاجتماعيّة-التقنية الهجينة للشبكات.

بناءً على ذلك، تفترضُ نظرية شبكة الفواعل وجود الهجائن قبل أجزائها. ويُنبّه مفهومها حول «البناء المشتَرك» أو «الإنتاج المشتَرك» إلى الاعتماد المتبادل بين الفاعلين الإنسانيين والعالَم التقني الذي يُحيطُ بهم. لا يتشكّل الفواعل فقط عبر الروابط الاجتماعية المحضة، ولكنّهم يتكتّلون حول التكنولوجيات التي تدعم التفاعل بين الأعضاء. لا ينبغي منح الأفضليّة للفاعليّة البشريّة على الفاعليّة الشيئيّة. هذه الجدلية -كتلك التي تُقدّمها البنّائية الاجتماعية- تُخرّب الثقة البسيطة بالطابع «المنطقي» المحض للعالم التقنيّ، والذي يظهر الآن على أنّه مسرحٌ ينشط فيه العديد من أصناف الفاعلين على ضوء تشكيلةٍ من «البرامج» المختلفة.

   تستندُ النظرية النقدية للتكنولوجيا على البنّائية الاجتماعية لتقديم بديلٍ عن الحتميّة التكنولوجية، وعلى نظرية شبكة الفواعل لفهم شبكات الأفراد والأشياء. تُؤكِّدُ المقاربة البنّائية على دور التفسير في تطوير التكنولوجيات، وتستكشفُ نظرية شبكة الفواعل انعكاسات الشبكات التقنية على الهويّات والعوالم. تنسجمُ هذه المفاهيم مع النقد المبكِّر لمدرسة فرانكفورت الموجَّه ضدّ العقلانية الخالية من الإطار، والذي يُقدِّم خلفيّةً لمفهوم تحيُّز التكنولوجيا في النظرية النقدية للتكنولوجيا[16]. وعليه، تُجسِّد النظرية النقدية للتكنولوجيا مقاربة مدرسة فرانكفورت عبر تطبيق مناهج دراسات العلم والتكنولوجيا.

حدود التناغم

أثمرت مناهج البحث البنّائية في دراسات العلم والتكنولوجيا، فقد طرحت أفكاراً جديدةً حول التصميم التكنولوجي وعلاقة الشعوب بالوساطات التقنية التي تربط أعضاءها معاً. هذا تقدّمٌ مهمٌ على النظريات الاجتماعيّة والسياسيّة المعهودة المتجرّدة عن البعد التكنولوجي كلياً أو التي تُبالغُ في تقديره بشكلٍ حتميٍّ. مع ذلك، فإنّ الخطوات الأخرى -غير النقد والمنهجية- الرامية إلى تأسيس إبستمولوجيا نسبيّةٍ وشبكةٍ أنطولوجيّةٍ جديدةٍ هي أقلّ إقناعاً. تبرزُ الإشكاليات في المحاولات الرامية إلى تعميم دراسات العلم والتكنولوجيا كنظريةٍ سياسيةٍ تامةٍ. كما شهدنا، فإنّ مبدأيّ التناغم يستلزمان اتّباع المناهج والشروط نفسها لدى معالجة أطراف النزاع ومسألة البشر وغير البشر. يملكُ هذان المبدآن دلالاتٍ سياسيّةٍ متعارضةٍ، فمن ناحيةٍ، يُضعّفان سلطة التكنوقراطية وينحتان مكاناً للمبادرات الديمقراطية في الميدان التقنيّ، ومن ناحيةٍ أخرى، فإنّهما يُصعِّبان فهم طبيعة الصراع الاجتماعي في بيئةٍ غير متجانسةٍ كالمجتمع الرأسمالي الحديث.

يُثبت المبدأ البنّائي حول التناغم فاعليته في منح القيمة لمساهمات الأفراد العاديِّين في إعادة تصميم التكنولوجيات الفاسدة أو التي تكونُ محدودةً بشكلٍ غير ضروريٍّ. أحياناً، يتغاضى الخبراء المرتبطون بالمصالح والتقاليد عن الإشكاليات والاحتمالات التي تظهر حينما تنتشر منتوجاتهم بشكلٍ واسعٍ[17]. تنبني قضيّة حماية البيئة بشكلٍ كبيرٍ على حساسيّة المستخدمين والمتأثرين تجاه مستويات التلوُّث التي تُعَدُّ مقبولةً بادئ الأمر من قِبل القطاع التجاري والكوادر المتخصّصة فيه. من خلال الشبكة العنكبوتية، قدّم المستخدمون مساهمةً غير قابلةٍ للإنكار في سبيل تطوير منظومةٍ تكنولوجيةٍ كبرى.

تتضمّنُ بعض هذه التدخلات من القطاع العام تضارباتٍ مهمةٍ مع المؤسّسات القائمة. بالطبع، كان الصراع في المجتمع موضع اهتمامٍ رئيسيٍ للماركسيين من أمثال لوكاكس وماركوزي. أسندت البنّائية الاجتماعية المبكِّرة نقاشها حول التكنولوجيا على نوعٍ آخر من الصراع: الجدلية العلمية. يُشكِّلُ هذا الأمر معضلةً في ما يتعلّق بتعميم مناهج دراسات العلم والتكنولوجيا لتنطبق على المجتمع بشكلٍ عام. انفصلت العديد من المحاولات اللاحقة في دراسات العلم والتكنولوجيا لفهم الصراع الاجتماعي عن هذا النموذج الأولي، ولكنّ التناغم البنّائي ما زال مفهوماً مهمًّا يُرجع إليه غالباً. بالنسبة لي، يبدو هذا تناقضاً ذاتياً.

عادةً ما يسيرُ العلماء بصدقٍ ويستندون لإثبات مبتغاهم إلى الأدلة حتّى وإن اختلفوا في تفسيرها، وقد طُرح المبدأ البنّائي المتمثِّل بالتناغم تسليماً بهذا الأمر، وكان الغرض من تطبيقه في مجال العلوم الاجتماعيّة التأكُّد من انطباق المناهج نفسها على جميع الجهات المتنازِعة مع تفادي معالجةٍ أحاديةِ الجانب للجدليات العلمية. كما ذُكر آنفاً، فإنّ النسبيّة المنهجيّة التي فرضتها المعالجة المتناغمة تُعطِّل الميل إلى تمجيد الرابح والتقليل من قيمة ذكاء الخاسر وعقلانيّته (أو العكس، تشويه سمعة الرابح والمغالاة في حقوق الخاسر وعدالته).

على سبيل المثال، لا يُمكن أن يُنسب رفض بريستلي (Priestly) لاكتشاف لافوزيير (Lavoisier) لآلية الاحتراق إلى مجرد التصلُّب بالرأي أو المصلحة الشخصية أو العناد، فينبغي إذاً النظر إلى رأيه على أنّه محاولةٌ عقلانيةٌ للفهم وإن كانت مُخفقةً[18].  للأسف، فإنّ العديد من الجدليات التقنية تختلفُ تماماً عن هذا النموذج حيث يتحيّز غالباً أحد الجانبين أو كلاهما بسبب المصالح الاقتصادية، أو الادّعاءات الكاذبة، أو الهلع غير العقلاني، أو التحيُّز العرقي أو الجنسي، أو فساد الفاعلين في المجال العلمي أو العام. يُمكن لمبدأ التناغم أن يكون مُضلِّلاً في هذا السياق إن تمّ تطبيقه بشكلٍ غير حكيمٍ. يحملُ تطبيقه في حالاتٍ محدّدةٍ خطر تقديم الأعذار لمكائد الفاعلين عديمي الضمير أو للتمييز المنهجي. لا يكون المنهج النسبي موضع فائدةٍ حينما يسودُ الكذب أو التحيُّز[19]. مبدأ التناغم غير متناسبٍ مع صراعات الجدليّة التكنولوجيّة وهو أيضاً معرَّضٌ لخطر حذف الإسنادات العاديّة للمسؤوليّة التي نعتمدُ عليها في الحياة العامة. قد تتحوّل معالجة القرارات السيئة بطريقةٍ عادلةٍ إلى تبريرٍ لأولئك المسؤولين عن اتّخاذ هذه القرارات.

   فلننظر إلى حادثة [20]Challenger كما يُفسّرها تريفور بينش وهاري كولينز[21]. ألقى الرأي العام حول الحادثة اللوم على نفاد صبر المدراء في وكالة [22]NASA. هذا التفسير غير المتناغم يتطابق مع أفكارنا العامة حول المسؤولية، ولكن هل هو صحيح؟ لم يُختبر مدى خطورة إطلاق المكوك في الطقس البارد على الرغم من وجود مصدرٍ للقلق حيث أبدى المهندس الموكل بالتحقيق في المشكلة ملاحظاتٍ عن درايةٍ. يذكرُ بينش وكولينز أنّ ملاحظاته لقيت التجاهل لا لأنّ الإدارة رفضت الحذر المنطقي، بل لأنّ ملاحظاته لم تُلبِّ «المعايير التقنية السائدة»[23]. نجح مبدأ التناغم ولكن هُزمت المسؤولية. يبقى السؤال حول سبب تفضيل «المعايير التقنية» في هذه الحالة، ولِمَ تمّ تجاهل الملاحظات الخبيرة لمصلحة دليلٍ أدقّ لم يكن متوفّراً؟ هل يُمكن أن ينكسر التناغم على المستوى المعرفي؟ في كثيرٍ من الأحيان، تغلبُ النزعة العلميّة جميع الأدلّة الأخرى حينما تخدمُ مصالح الفاعلين الاجتماعيّين المهيمنين ولكن فقط في تلك الحالة. هذا مثالٌ جيّدٌ عن مفهوم ماركوزي حول «الفكر الأُحادي الأبعاد» الذي يُفضِّل الدقّة الكميّة على المعرفة المستمدَّة من التجربة[24].

   تملكُ نظرية شبكة الفواعل مشاكلَ أخرى مع السياسة. أدّت المقاربة الشبكيّة إلى المفهوم المتبنَّى على نحوٍ واسعٍ والمتمثِّل بالإنتاج المشترك للمجتمع والتكنولوجيا، ويتناسبُ هذا المفهوم بشكلٍ جيّدٍ مع فهم الجدليات السياسيّة حول التكنولوجيا، وينطوي على إمكانيّة إحداث انقلابٍ في النظرية السياسية من خلال تركيز الاهتام على الوساطة التقنية للتنظيم الاجتماعي. ولكنّ برنامج لاتور النظري الطَموح لا يتمتّع بدرجة النجاح نفسها التي تحظى بها المدوّنات المفصّلة للحالات حيث يتمّ تطبيق مفهوم الإنتاج المشترك. كان المقصد من مبدأ تناغم البشر وغير البشر هو توجيه البحث نحو هيكل الشبكات التي تجمعهما. قيل بأنّ هذه الشبكات تُفسِّرُ جميع الكيانات الكبيرة مثل «الدولة»، «الأيديولوجيا»، «الطبقة»، «الثقافة»، «الطبيعة»، و«المصلحة الاقتصادية». ولكنّ النقّاد اتّهموا لاتور بالتحيُّز لصالح المنتصرين في الصراع الدائر حول تعريف الطبيعة لأنّه احتجّ -تماشياً مع التطبيق الجيّد لدراسات العلم والتكنولوجيا- بأنّ الشبكة تُنشئ الطبيعة بمعناها الصحيح. ولكن ماذا إن كانت الطبيعة بهذا المعنى تفريقيةً؟ إلاَمَ يُمكن للخاسرين في الصراعات حول العرق أو الجنس أن يرجعوا إن لم يكن إلى مساواةٍ «طبيعيةٍ» مبنيّةٍ على تعريفٍ مختلفٍ للطبيعة؟[25] توصّل لاتور في نهاية الأمر إلى الاعتراف بأنّه قد استرسل في تأكيدٍ ماكيافليٍّ على النجاح.[26]

   قدّم لاتور ردوداً على نقّاده في كتاباته حول البيئة، واحتجّ بأنّ الفاعلين يُمكنهم تقديم أدواتٍ جديدةٍ في العالم المأخوذ بعين الاعتبار من قبيل النفايات السامة والضباب الدخاني. إنّ حرية المناقشة لدى إنشاء «المشترك» تضمنُ عدم وقوع الهيمنة الاقتصادية أو التكنوقراطية، وهذه ليست بدايةً سيئةً في سبيل فهم المشاكل البيئية مثل التغيُّر المناخي ولكنّها لا تعودُ بالنفع الكثير كروايةٍ للصراع الواقعي بين المؤكِّدين والمنكرين والفجوات الواقعة في الإدراك الوطني للتوصيات في مجال السياسة العامة حول التغيُّر المناخي التي قدّمتها لجنة الأمم المتّحدة. يُؤدِّي رفض لاتور لـ«النقد» والمفاهيم الكبرى في النظرية الاجتماعية إلى تجريده من الوسائل التي يتمُّ من خلالها تناول الاهتمامات والأيديولوجيات في المواقف التقريرية حول القضايا. ولكن من دون الوصول إلى هذه المقولات، لا يُمكن للبحث أن يتناول النظرة الرئيسية لمدرسة فرانكفورت، أي دور الرأسمالية في التعميم الثقافي للعقلانية. بالفعل، من الواضح أنّ المفاهيم الماركسية القديمة المتمثِّلة بالمصلحة والأيديولوجيا تلعبُ دورها حينما يقومُ الزعماء في مجال الطاقة من أمثال الأخوة كوتش (Koch) بتعبئة مليار دولار أو أكثر لدعم إنكار التغيُّر المناخي ومساندة المرشّحين السياسيين من ذوي السياسات التي تحمي محفظاتهم المالية[27].

   في أحد مؤلّفاته المبكرة، طرح لاتور مصطلح « البرنامج المضاد» للدلالة على البعد المتضارب لشبكاته[28]. تُقدِّمُ النظرية النقدية للتكنولوجيا مبدأً جديداً للتناغم يستندُ إلى هذا المفهوم. لقد طرحتُ ما أسمّيه «تناغم البرنامج والبرنامج المضاد» لتفادي أي تحيُّزٍ لصالح الفاعل المهيمن في الشبكة[29]. تصوغُ البرامجُ المتطابقةُ مع نيّات الفاعلين مجموعاتٍ جزئيةً من العناصر المترابطة التي تجتمعُ في الشبكة. حينما يتصارعُ الفاعلون، قد تُظهر البرامج المختلفة عناصرَ متباينةً، وعلى سبيل المثال، المصنع ذاته الذي يبدو لمدرائه وحدةً اقتصاديةً قد يراه جيرانه على أنّه مصدرٌ للتلوُّث. ينتمي المدراء والجيران إلى شبكة المصنع نفسه ولكن تتجلّى علاقاتهما المختلفة بالمصنع في برامج مختلفةٍ، مثلاً: في خطةٍ تجاريّةٍ أو دعوًى قضائيةٍ.

تحتجُّ النظريّة النقديّة للتكنولوجيا لصالح تطبيقٍ تمييزيٍّ لمبدأي التناغم المتمثِّلَيْن بالبنّائية الاجتماعية ونظرية شبكة الفواعل، وترفضُ المذهب التجريبي والفردانيّة المنهجية. هذا لا يستلزمُ عودةً إلى مذهبيِ الواقعية والإنسانية ما قبل البنّائية ولكنّه يفتحُ جسراً لاسترداد الأفكار الرئيسيّة للفكر الاجتماعي، وهي أفكارٌ تُساعدُ في فهم التوتّرات بين الأفراد والمجتمع الذي تمّ إضفاء العقلانيّة عليه.

مع تقدُّم دراسات العلم والتكنولوجيا عبر السنين، تعاملت هذه الدراسات بشكلٍ متنامٍ مع قضايا حساسةٍ من الناحية السياسية. نادراً ما يتمّ التصدّي لمشاكل التناغم بشكلٍ مباشر. مع ذلك، تُترك المقتضيات الصارمة للنزاعات المنهجية المبكرة ويتمّ تطبيق المناهج والأفكار النافعة، بالإضافة إلى الأفكار المستقاة من العديد من الميادين. النتيجة واعدةٌ، وتستطيعُ دراسات العلم والتكنولوجيا تقديمَ الكثير من المساهمات في فهم السياسة المعاصرة. وعليه، فإنّ النظرية النقدية للتكنولوجيا هي محاولةٌ لطرح إطارٍ نظريٍ محتملٍ لهذه التشكيلة المنهجية.

المواطنية التقنية

تتّفقُ النظرية النقديّة مع نظريّة شبكة الفواعل في الاعتقاد باستحالة النظر إلى الفردانيّة بشكلٍ مستقلٍّ عن الأشخاص والأشياء الأخرى. وعليه، لا فائدة من الحديث عن الوعي المحض من دون مساندةٍ ماديةٍ. ينبثق الفرد من «الشبكة» المؤلّفة من العائلة وبيئتها المادية والثقافية ومن ثمّ يُصبح مرتَهناً على الدوام بأدوارها في الشبكات التي تنتمي العائلة إليها. ولكن حينما يتشكّل الفرد فإنّه يُحافظ على هويته مع انتقاله من شبكةٍ إلى أخرى ولا يُمكن أن يذوب في أدوارها. يُشكِّل الثبات النسبي للفردانية قاعدة المؤهلات التأمُّلية التي تُمكّن الفرد من إبعاد نفسه عن الشبكات التي يُشارك فيها وانتقادها.

تهتمّ النظرية النقدية للتكنولوجيا بالتهديد الذي تُشكِّله مزاعم التكنوقراطية على القدرة النقدية للفرد، فادّعاءات العقلانية التقنية تُجرِّد العقلانية التأمُّلية من سلاحها. وفقاً لمدرسة فرانكفورت، تُعدُّ الفردانية إنجازاً تاريخياً. عمّمت الثقافة البرجوازية القدرة على الفكر المستقل إلى درجةٍ غير مسبوقةٍ. هذه هي قاعدة الفاعلية الشخصية والسياسية، والقوة على تحديد الهوية الفردية وتنمية المصالح الذاتية. بالمبدأ، رمت الثورة الاشتراكية إلى توسعة هذه القدرة لتشمل كلّ إنسانٍ، ولكن تبيّن في القرن العشرين أنّ الفردانية تنتمي إلى مرحلةٍ وجيزةٍ للغاية بين المجتمعات، حيث يُغمر الفكر المستقل إما عبر التقاليد أو الامتثال الديني أو إضفاء الشرعية التكنوقراطية على المجتمع ككلّ.

أسّس مفهوم الفردانية التابع لمدرسة فرانكفورت نقداً للعقلانية المتجسِّدة التي يتنامى تنظيمها للحياة الاجتماعية في المجتمعات المتقدِّمة. يشهدُ تدمير الفردانية على بروز السيطرة التكنولوجية حيث حُكم على عامة الشعب بالامتثال المستسلِم، بينما حافظت أقليةٌ فقط على استقلالها الذهني عبر النقد النظري والفني[30]. وتأخذُ النظرية النقدية للتكنولوجيا هذا المنظور النقدي في حقبةٍ تاريخيةٍ مختلفةٍ، حيث ظهرت مقاومة التسلُّط التكنولوجي بأشكالٍ جديدةٍ.

في السنوات الأخيرة، رأينا كيف اتّسعت رقعة هذا الجدال والنشاط العام لتشمل القضايا التكنولوجية التي كانت تُعدُّ سابقاً خارج حدود المناقشة. ومع اتساع المجال العام، ظهرت أشكالٌ جديدةٌ من الفاعليّة التقنية، وقد أنتج هذا ما أسماه ديفيد هيس (David Hess) «صراعات الأدوات»، وهي الصراعات الدائرة حول كيفية تشكيل التكنولوجيات لخدمة مصالحَ ومفاهيمَ مختلفةٍ حول الحياة الطيبة[31]. تكمنُ طبيعة هذه النزاعات في قلب هذا القسم، ويطرحُ انتشارها أسئلةً جديدةً حول التكنولوجيا والديمقراطية. هل أصبحنا مواطنين تكنولوجيين؟ وبشكلٍ أدق، هل يوجد شيءٌ يُمكن أن نسمّيه الفاعلية السياسية في الميدان التقني؟ وإن وُجد، فما هي علاقته بالخبرة التقنية والفاعلية السياسية التقليدية؟[32]

الفاعلية بالمعنى الذي أستخدمه ليست خاضعةً للتفضيلات الاعتباطيّة، بل هي متجذِّرةٌ في التجربة التي تُتيحها أوضاعٌ اجتماعيّةٌ محدّدةٌ. تُثيرُ المنظومات التقنية ما أسمّيه مصالح المشاركين حيث تضمّ هذه المنظومات الأفرادَ في شبكاتٍ تربطهم بأدوارٍ متنوعةٍ مثل مستخدمي التكنولوجيا أو مُشيِّديها أو حتّى ضحايا آثارها الجانبية غير المتوقَّعة، وعليه فإنّ المصالح تتدفّقُ من هذه الأدوار حيث يستطيعُ الأفراد إدراكها.

يكتشفُ سائقو السيارات أنّهم أصبحوا يهتمون بسلوك الطرقات الأفضل، وأنّهم لم يكونوا يكترثون بذلك قبل الانضمام إلى شبكة سائقي السيارات. كذلك، يكتشف ضحايا التلوُّث أنّهم يريدون الهواء النقيّ وأنّ الفكرة لم تكن لتخطر في أذهانهم لو أنّهم لم يعانوا مع أولادهم من المشاكل التنفُّسية التي يتسبّب بها أولئك السائقون. يشترك السائقون والمتضرّرون والسيارات في تشكيل شبكةٍ ينتمي إليها الجميع وهذا الأمر بحدّ ذاته يُبرز بعض المصالح التي كانت لتبقى لولا ذلك خاملةً أو غير متحقِّقةٍ على الإطلاق.

حينما ينخرطُ الأفراد في إحدى الشبكات، لا يكتسبون مصالح جديدةً فحسب، بل يُحرزون في بعض الحالات معرفةً بالشبكة ونفوذاً محتملاً على نموّها. تختلفُ هذه المعرفة والقوة الداخلية عمّا يمتلكه الأفراد الذين لا تربطهم صلةٌ بالشبكة. حتّى من دون المعرفة الخبيرة، يستطيعُ الأفرادُ الداخليون تحديدَ المشاكل ونقاط الضعف ويمتلكون القاعدة لتغيير رموز التصميم التي تصيغ الأشياء المضمومة إلى الشبكة. هذا هو الإنتاج المشترك الواعي: التفاعل المتبادل بين عناصر الشبكة والرموز التي تُحدِّد الأدوار والتصاميم.

في النظرية النقدية للتكنولوجيا، تُسمّى أفعال المواطنين المتورطين في نزاعاتٍ حول التكنولوجيا بـ»التدخُّلات الديمقراطية». معظم هذه التدخلات هي «لاحقة» (a posteriori) أي إنّها تتحقّق لاحقاً وبعد إدخال التكنولوجيات في القطاع العام. هناك العديد من الأمثلة المعاصرة كالجدل حول التلوُّث أو العلاجات الطبية ما يؤدّي إلى جلسات استماعٍ ودعاوى قضائيّةٍ ومقاطعات، وغالباً ما تؤدّي هذه الخلافات إلى تغيّر القواعد والممارسات. أما النمط الثاني من التدخُّل وهو الإدخال الإبداعي للتكنولوجيا فإنّه يتضمّن تقطيع أو إعادة إختراع الأدوات من قِبل مستخدميها من أجل تلبية المتطلبات غير المتوقَّعة، وقد لعب هذا النمط دوراً مهماً في تقدُّم الإنترنت[33]. أما النمط الثالث من التدخُّل، فيمكن تسميته «بالسابق على التجربة» (a priori) لأنّه يتضمن العمل قبل إدخال التكنولوجيات. يأخذُ هذا النمط شكلين رئيسيين: المشاركة العامة في «هيئة المحلَّفين المؤلفة من المواطنين» أو «المنتديات المختلطة» من أجل تقييم المبتكرات المقترحة والتعاون في عملية التصميم. في هذه الحالات، تحثُّ السلطات الأفرادَ على المشاركة بدلاً من الدخول في حوارٍ لاحقٍ مثيرٍ للنزاع[34].

التمييز والنقل

يطرحُ مفهوم المواطنيّة التقنية أسئلةً حول دور الخبرة. يتدخّلُ الأفراد العاديون في القرارات التقنية على قاعدة التجربة اليومية بدلاً من إتقان أحد الحقول المعرفية التقنية. أما الخبراء، فإنّهم يملكون المهارة وهم مؤهّلون لتطبيق القرارات التقنية على نحوٍ لا يستطيعه أغلب العوام. ينبغي التوفيق بطريقةٍ ما بين ادّعاءات كلٍّ من التجربة والحقول المعرفية التقنية في عملية التصميم، علماً بأنّ المعضلة تبدو غير قابلةٍ للحل من المنظور الضيّق المتصلِّب. في العالم الواقعي للتكنولوجيا، يُعدّ الحوار غير المعترف به بشكلٍ كبيرٍ بين العامي والخبير ميزةً طبيعيةً لعملية اتّخاذ القرار التقني وتحتاج للمزيد من التطوير[35].

ولكن إذا امتلكنا انطباعاً مختلفاً وخشينا من الخبرة المتعجرفة والتجربة غير العقلانية، فإنّ هذا ناشئٌ عن وضعٍ تاريخيٍ فريدٍ نشأ خلال القرن التاسع عشر. قبل ذلك الزمن، كانت المفاوضات بين الحرفيِّين والمجتمعات الواقعة تحت سيطرة السلطات القضائية تُساهم في تنظيم المظاهر الخارجية المؤذية للإنتاج. جسّد قانون السوابق القضائية الحكمة المتراكمة للتجربة حال تطبيقها على النشاط التقني[36]. تمهّدت الطريق في القرن التاسع عشر للتقدُّم التقني السريع على حساب العاملين والمجتمعات ومُستخدمي التكنولوجيا، وحلّت أجهزة القيادة الإدارية المركزية المدعومة من قبل السلطة الخبيرة مكان القيود القضائية التقليدية التي تحدُّ التكنولوجيا، وقد ترافق هذا التغيّر مع تمييزٍ أشدّ للمجتمع تحت وطأة الرأسمالية الصناعية.

يُعدُّ الفصل بين العمل التقني والحياة اليومية بُعداً مهماً في عملية التمييز المتمثِّلة بالعصرنة. على سبيل المثال، كانت نقابات الحرفيين في القرون الوُسطى منظماتٍ اجتماعيّةً ومهنيّةً أيضاً. بالإضافة إلى تنظيم الأسعار والتدريب والجودة، أدّت هذه النقابات العديد من الوظائف الأخرى ولم تكن الحِرف معتمدةً على حقولٍ معرفيةٍ تقنيةٍ متخصَّصةٍ بالمعنى المعاصر، بل على المعرفة التقليدية بالأدوات والممارسات وأحكام التجربة بالإضافة إلى ما يُسمّيه الفرنسيون [37]“tours de main”. كان يتحتّم الحفاظ على «أسرارهم» لأنّها كانت قابلةً للانتقال إلى الخبراء من المستهلِكين. في الواقع، كثيراً ما كانت المرحلة الأخيرة من الإنتاج تقتضي أن يقوم المستهلكون بإنهاء الأداة في عمليةٍ تُسمّى «الاقتحام».

يعتمدُ العمل التقني المعاصر على المعرفة العلمية المتخصِّصة. يستطيعُ المبتدئون والمتدرِّبون فقط فهم لغة الحقول المعرفية التقنية، ويتمّ انتزاع الاهتمامات الاجتماعية والدينية للنقابات بالإضافة إلى استقلالية العامل التقني. في يومنا الحالي، يجري معظم العمل التقني في المشاريع التجارية ما يُحدث تغيّراتٍ كبيرةً في طابعه وأهدافه.

تتأثّر منظومة الملكية التي تستندُ إليها التجارة بعملية التمييز أيضاً. تضمّنت الملكية في المجتمعات السابقة الرأسمالية على مسؤولياتٍ كبيرةٍ، وكان مالكو الأراضي يتولّون وظائفَ سياسيّةً وقضائيّةً ودينيّةً. أمّا الرأسمالية فإنّها تنزع جميع هذه الواجبات والقوى وتوجِّه تركيزَ المالك على جنيْ الأرباح، بينما يتمّ تدريجياً إغفال الأهداف الأخرى مثل تأمين الوظائف وحماية المجتمع[38]. يُوضِّحُ هذا النوع الجديد من الملكية المنطقَ المدمِّر للثورة الصناعية، وقد ساهم عدم الاكتراث بالطبيعة والبشر في تشكيل التكنولوجيا المعاصرة. خلال عملية التنمية، طُبِّقتْ المعرفة العلمية والتقنية بُغية كسب الأرباح من دون الاهتمام بالإطار الاجتماعي والطبيعي للمشروع، وقد تناسبت التخصيصات والأهداف الاقتصادية الضيقة مع بعضها البعض. لقد ساهمت التبسيطات الناجمة بتعجيل العملية التقنية ولكنّها تسبّبت بمشاكل بدأنا للتوّ بتناولها.

على أمد أجيالٍ، كان ضحايا التقدُّم ضعفاء للغاية أو جاهلين أو مهمّشين ما حال دون احتجاجهم بشكلٍ فعّالٍ، ولكنّ الظروف تغيّرت تدريجياً خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية، إذ ظهرت الآثار الجانبية للتكنولوجيات الأقوى وأثارت رداً عاماً فنالت الاتحادات والحركات الاجتماعية النفوذ وطالبت بتنظيم الصناعة. كنتيجةٍ لذلك، دخلت مرحلةٌ جديدةٌ من «العصرنة الانعكاسية» في عمليةٍ إصلاحيةٍ بطيئةٍ ما زالت قائمةً إلى يومنا الحالي[39].

في هذا الإطار، تتّخذُ التجربة اليومية أهميةً جديدةً. في السابق، كان النجاح الإدراكي يتطلّب عدم اعتماد المعرفة التقنية على التجربة اليومية، أما التجربة في الوقت الحالي فإنّها تقيسُ نتائج المعرفة التقنية والتصاميم[40]. لا ينبغي التغافل عن هذه النتائج بعد الآن، ويتحتّم تعقّبها إلى أصلها في البقع المخفيّة للحقول المعرفيّة التقنية وتقييدات المنظور التجاري. يقومُ المستخدمون والضحايا بالدفاع عن أنفسهم في وجه التكنولوجيا التي يتمُّ تصوّرها بشكلٍ ضيّقٍ استناداً إلى فهمهم لتجربتهم[41]. هذه التدخلات الديمقراطية تُشكِّل الخلفية الاجتماعية للنجاح الواسع للمبادرات الجديدة في ميدان الحقول المتداخلة، كدراسات العلم والتكنولوجيا التي تُحاول فهم الأشكال المنبثقة من المواطنية التقنية.

تُشكِّل تيارات ما بعد الحرب هيئاتٍ أصليةً تُزيلُ التمييز، وهي تقدُّميةٌ في طبيعتها لا تراجعيّة. من ناحيةٍ، تجمعُ العلوم التقنية العلم والتكنولوجيا معاً في تركيباتٍ قويةٍ تتجاوزُ الحدود الراسخة بين ما هو حقيقيٌّ وبين ما هو نافعٌ. أما من ناحيةٍ أخرى، وبشكلٍ متناسبٍ مع ظهور العلم التقني وآثاره الجانبية المتنامية الخطورة، يتجاوز التنظيم الحكومي الخط بين الدولة والاقتصاد ما يُجبر المشروع الرأسمالي على العمل تحت نطاقٍ من التقييدات آخذٍ بالتوسُّع. يتحتّمُ على العلاقة الجديدة تطويرَ مؤسّساتها الخاصة لترجمة المعرفة الاجتماعية حول الآثار الضارة للتكنولوجيا أو احتمالاتها المغفول عنها إلى تحديداتٍ تقنيةٍ من أجل تصاميم أفضل. سوف تغدو عمليات النقل هذه أمراً روتينياً على الأمد الطويل مع ازدياد الانخراط الشعبي، وسوف تُغلَق الدائرة حيث تقومُ التكنولوجيا بتغيير المجتمع وتخضع نفسها للتغيير.

مراجعة العقلانية

   خاطبت مدرسة فرانكفورت في أولى مراحلها بيئةً ثقافيةً تتّسم باعتقادٍ غير مسبوقٍ بالمنطق التقني، وقد نسبت هذه المدرسة تدهور الفاعلية إلى الثقافة العقلانية المتمثِّلة بالعصرنة، وهذا الأمر ليس مجرد ميْلٍ ذاتيٍّ، بل ينعكسُ في ازدياد البروقراطيات والتكنولوجيات التي تُنظِّم بفاعليةٍ وتتحكّم في أغلب أبعاد الحياة الاجتماعية اعتماداً على الحقول المعرفية التقنية. يتمّ بشكلٍ متنامٍ تخفيض قيمة المعرفة التي يحملها الناس العاديون، واختزال الفاعلية البشرية في التلاعب التقني بالمنظومات العقلانية.

ما زال الوضعُ قائماً حيث تقوم التدخلات الديمقراطية بتوجيه التحدّي إلى التكنوقراطية في يومنا الحالي، ولكنّ الصياغات الأصلية العامة التي طرحتها مدرسة فرانكفورت لم تترك مجالاً لعودة الفاعلية. من أجل تفسير النزاعات الدائرة حول التكنولوجيا، تقومُ النظرية النقدية للتكنولوجيا بإعادة صياغة النقد الموجَّه للعقلانية على هيئةٍ أكثر ميلاً نحو التجريبية.

بينما اقترحت مدرسة فرانكفورت نقداً عاماً للغاية لـ«العقلانية المتجسِّدة» أو «الآلية»، اعتنت النظرية النقدية للتكنولوجيا بنقدٍ أكثر واقعيّةً لانحياز التكنولوجيات والمؤسسات الاجتماعية. يتمُّ تصوير الثقافة العقلانية على أنّها تعتمد على تقليد المناهج والمفاهيم المصوغة على أساس الرياضيات والعلم الطبيعي والمعمَّمة كإطارٍ للفكر والعمل في كلِّ الميادين. على سبيل المثال، تعتمدُ علاقاتُ السوق على القياس الذي يظهر في هيئة الأسعار. كذلك، تُصنِّف البيروقراطية حالاتٍ معيّنةً تحت قواعد مصوغةٍ بدقّةٍ تُشبه أحكام الطبيعة في هيئتها وادّعائها للشمولية. تتورّط التكنولوجيا في التطوُّر العلمي، وتحديد الانحيازات في هذه الميادين يُوظِّف مناهج تمّ استكشافها في دراسات العلم والتكنولوجيا ويُنتج أيضاً نقداً ثقافياً وسياسياً للمؤسسات الحديثة.

يُشكّل الإسهاب في هذا النقد تحدياً، لأنّنا نقوم عادةً بتحديد وقوع الانحياز حينما تؤثِّر الأحكام المسبقة والمشاعر والمعلومات المزيفة على الأحكام التي ينبغي أن تنبني على المعايير الموضوعية. أسمّي هذا الأمر «الانحياز الواقعي» لأنّه يستندُ إلى مضمون الاعتقاد، مثل فكرة امتلاك بعض الأعراق لذكاءٍ متدنٍّ. علّمنا عصر التنوير كيف ننقد هذا النوع من الانحياز، وقد التجأ فلاسفة ذلك العصر إلى الأسس والمعلومات والنظريات العقلانية غير المتحيّزة من جرّاء أحكامٍ مسبقةٍ، وعلى هذا الأساس رفضوا إضفاء الشرعيّة على المؤسّسات الإقطاعيّة والدينية. لا شكّ بأنّ النقد الذي نشأ خلال عصر التنوير ما زال يلعبُ دوراً مهماً في السياسة التحرّرية، ولكنّه ينطوي على قصورٍ مهمٍّ لأنّه يدّعي حياديّة وشموليّة المؤسّسات التي تزعمُ امتلاك قاعدةٍ عقلانيةٍ. هذا هو الحال على سبيل المثال مع السوق حيث لا يتمّ تفسيره بالأساطير والقصص والمراجعات العاطفية بل بالمنطق الجاف الذي يُساوي المال بالبضائع.

لم تسلم العقلانية بهذا الشكل الاجتماعي من التحدّي، فقد نسب النقد الرومانتيكي بشكلٍ لا يُصدَّق الانحياز الواقعي إلى المنظومات المنطقية، وبالتالي نفى العقلانية عن العقلانية. يُفترض أنّ اختيار العقل على العاطفة ينحاز لتفضيل نمط الحياة البرجوازية أو الأيديولوجية الذكورية وفقاً لبعض الصياغات الحديثة، ويُنسب هذا الموقف إلى الثقافات الفرعية الفنية والسياسية، ولكن تأثيره قليلٌ على تنظيم المجتمعات المعاصرة[42]. يتطلّبُ النقد الفعّال للمنظومة المنطقية كالأسواق والتكنولوجيا أو العملية الإدارية مقاربةً مختلفةً، وينبغي أن يقوم التحليل الأدق بتحديد الإجحاف الواقع في التحقّق الملموس للهيئة المنطقية. استحدث ماركس هذا النوع الجديد من النقد خلال تحليله للإجحاف الواقع في السوق. تُظهر دراسات العلم والتكنولوجيا في يومنا الحالي بأنّ التصميم المنطقي تقنياً لا يُحدَّد عبر الاعتبارات التقنية المحضة، وبالتالي يكون مُنحازاً تحت تأثير المعايير الاجتماعية[43]. من ناحيتي، أُسمّي تجسُّد المصالح والأيديولوجيات في الحقول المعرفية التقنية بـ"التحيُّز الرسمي".

يملك التحيُّز الرسمي دلالاتٍ سياسية. يستفيدُ البعض أكثر من الآخرين من التكنولوجيات المحيطة بنا، ومن الأمثلة على ذلك الممرات المنحدرة على الأرصفة[44]. تُناسبُ حافة الرصيف العالية المشاة، ولكنّها تمنع المرور الحرّ لكراسي المعوّقين، فتمّ ابتكار الممرات المنحدرة تلبيةً لحاجاتهم. إذاً، أُدخلت مصلحةٌ ضمنيةٌ إلى المنظومة ولم تكن النتيجة تكنولوجيا غير متحيِّزةٍ، بل بشكلٍ أدقّ تكنولوجيا تُترجِمُ نطاقاً أوسع من المصالح.

لا مكان في هذا السياق للتناقض المعروف بين المجتمع غير المنطقي والتكنولوجيا المنطقية التي تستندُ إليها الأيديولوجية التكنوقراطية. التصميم المتحيِّز الذي يسود في النهاية لدى تطوير كلّ تكنولوجيا هو الإطار الذي تكون فيه تلك التكنولوجيا منطقيةً وفعّالةً. الفاعلية ليست معياراً مُطلقاً لأنّه لا يُمكن قياسها بطريقةٍ مجرّدةٍ، بل هي متّصلةٌ فقط بمتطلّباتٍ طارئةٍ تُؤثِّر في التصميم. التكنولوجيا مشحونةٌ بالقيم تماماً كغيرها من الحقائق الاجتماعية الأخرى التي تُؤطِّر تجربتنا اليومية، ولكن حينما تترسّخ التكنولوجيات جيداً يبدو هذا التحيُّز واضحاً وحتمياً ونكفّ عن النظر إليه كتحيُّزٍ بل نفترض أنّ التكنولوجيا ينبغي أن تكون كما وجدناها. الكشفُ عن التحيُّز الضمنيّ يُشكِّلُ «النقدَ المنطقي للعقلانية» الذي وعدت به مدرسة فرانكفورت[45].

الطبقات والرموز

      يُبرز ظهور المواطنية التقنية الإمكانَ والتعقيد الكامنَيْن في الأدوات التقنية التي تسترها التوضيحات التقنية. في هذا السياق، أقترح مفهوم الطرس[46] كقياسٍ فعّالٍ. يملكُ الطرس طبقاتٍ أو أبعاداً متنوّعةً تظهرُ تحت السطح، والتصميم التكنولوجي يُشبه الطرس حيث يمتلك طبقاتٍ متعدّدة من التأثير تنبع من أماكن مختلفةٍ للغاية من المجتمع، وتستجيبُ لوحدات المنطق المتباينة وحتّى المتعارضة التي تنصبُّ على أداةٍ واحدةٍ. وعليه، فإنّ النظرية النقدية للتكنولوجيا هي بمثابة «علم الأطراس».

   لطالما تعامل التاريخ الاجتماعي مع الأدوات كأطراسٍ. في سياق ملاحظاته على تاريخ المال، رسم ماركس القاعدة المنطقية لهذه المقاربة وكتب بأنّ «الملموس هو ملموسٌ لأنّه مجموعةٌ من الأدوات المتعدّدة ذات الأغراض المختلفة، أي إنّه اتحادٌ للعناصر المتنوّعة. في فكرنا يبدو كعملية تركيبٍ، كنتيجةٍ، لا كنقطة انطلاقٍ على الرغم من أنّه نقطة الانطلاق الحقيقية، وبالتالي يكون أيضاً نقطة انطلاق الملاحظة والفهم»[47]. يرفضُ ماركس المفهوم الأرسطي حول الشيئيّة، حيث يبقى الجوهر صامداً على الرغم من التغيّرات الطارئة، ويعتبر أنّ التحليل ينغي أن يُحدِّد الاختلافات الأنطولوجية على مستوى بناء الأدوات ومعناها في كلّ مرحلةٍ من تطوّرها. تتعاملُ هذه المقاربة المفكِّكة مع «الأشياء» الاجتماعية –مثل المصنوعات والمؤسّسات والقوانين- كمجموعةٍ من العناصر الوظيفية المتماسكة من خلال أدوراها الاجتماعية، وهذه العناصر تنقسم وتتركب مجدداً مع تغيُّر المجتمع.

   في ما يتعلّق بالتكنولوجيا والمنظومات التقنية، تعكسُ هذه الإنشاءات القوة النسبية للفاعلين المنخرطين في عملية التصميم، وتتمثّلُ نتيجة جهودهم وتعاونهم بـ«القاعدة التقنية» التي تُحدّد المعنى الاجتماعي الأوسع للخيارات التقنية المندرجة في التقاطع المستقرّ للخيار الاجتماعي والتحديد التقني. تُترجَم القواعد التقنية إلى بعضها البعض عبر ما تُسمّيه شبكة الفواعل بـ«التوكيل». وعليه، فإنّ الحاجة الاجتماعية للمزيد من الأرصفة التي تُتيح حرية التنقُّل تُصبح عاملاً محدِّداً لمشاريع البناء. تُترجم حقوق المعوَّق بمنحدرٍ معيَّن، وحينما نأخذ هذا المنحدر بمعزلٍ عن غيره، فإنّه يبدو أمراً تقنياً محضاً، ولكنّه يملك في إطاره أهميةً سياسيةً موجودةً في القاعدة[48]. لا تُدرَج هذه الرموز فقط في التصاميم بل تخرق الحقول المعرفية التقنية أيضاً.

   تُميِّزُ النظرية النقدية بين نوعين من القواعد التقنية: قواعد المصنوعات المحدَّدة وقواعد الميادين التقنية التامة. يُظهر مثال الأرصفة قاعدة المصنوعات، بينما تدخلُ القواعد المتّصلة بالميادين التقنية في تعريف التقدُّم. اقتضت القاعدة الميدانية التي وقع في ظلّها التقدُّم الصناعي خلال القرن التاسع عشر، إبدال العمل الماهر بالآلات. ما زالت هذه القاعدة نافذةً إلى يومنا الحالي، وحيثما تُواجَه بالاعتراض نجد الدور المستمر للنشاط الشعبي في تحديد المستقبل التقني[49]. أمّا القواعد الميدانية في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة فإنّها تُترجم إلى معانٍ أعلى مثل الأيدولويجيات والنظرات الكونية. على سبيل المثال، يُترجِمُ المفهوم التكنوقراطي للفاعلية المصالح الخاصة إلى ترتيباتٍ تقنيةٍ تؤدّي إلى تطبيق السلطة الإدارية[50]. قد يُعدُّ إضفاء الطابعُ المادي القاعدةَ الميدانية القصوى للرأسمالية، واصفاً المبادئ الأساسية التي تتقيّد بها جميع المجالات الأدنى.

   تُعبِّر النظرية النقدية للتكنولوجيا عن هذه التعقيدات عبر تحليل التصميم على ضوء الطبقات الوظيفية[51]. التصميم هو حقلٌ تقومُ فيه المجموعات الاجتماعية بتعزيز مصالحها، ويتقدّم عبر جمع الطبقات الوظيفية المتطابقة مع المعاني المختلفة التي ينسبها الفاعلون إلى الشيء المصنوع. يتحتّمُ على دراسة التكنولوجيا تحديد الطبقات وتوضيح علاقاتها، وهذا يُنتج روايةً «ملموسةً» وفقاً لماركس، ويكشفُ الإنتاج المشتَرَك للمجموعات الاجتماعية التي تشكّلت حول التكنولوجيا بالإضافة إلى التصميم التكنولوجي الذي يُشكّلها.

   يوازي إضافة الطبقات القبول بالمزيد من المساهمات الاجتماعية، ويأخذ هذا الأمر أشكالاً مختلفةً، وغالباً ما يتمُّ التوفيق بين المصالح المتعارضة ظاهرياً إلى درجةٍ ما في التصميم النهائي. مثال الطرس موضِّحٌ في هذه الحالات، لأنّ كلَّ مجموعةٍ اجتماعيةٍ تُساهم في تقديم طبقةٍ إلى التصميم النهائي. المصنوعات ليست أفراداً مترابطةً بقدر ما هي سلسلاتٌ وتجمّعاتٌ من الأقسام المندمجة تقريباً. تماماً كالطرس، تُجسِّد أقسامها مستوياتٍ من القيمة تعكسُ تنوُّعاً في التأثيرات الاجتماعية والتقنية.

قد تتضمّن النتيجة تبادلاتٍ وتسوياتٍ ينجمُ عنها تصميمٌ غير مثاليٍّ بالنسبة لجميع الجهات. من الأكثر إثارةً للاهتمام هي تلك الحالات التي تُتيحُ فيها الإبداعات اللطيفة تلبية الرغبات المختلفة من دون وقوع نقصٍ في الفاعلية. يُطلق خيلبير سيموندون (Gilbert Simondon) على هذه الإبداعات تسمية «تجسيدات»[52] ولكنّ هذا المصطلح خادعٌ، لأنّ سيموندون لا يقصد المقابلة بين المتجسِّد والمجرَّد مفهومياً. إنّ مصطلحه -مثل ماركس- هو هيغليٌّ تقريباً، ويقومُ بتعريف التجسيد كدمجٍ لوظائف متعدِّدةٍ في بُنيةٍ واحدةٍ. يُمكن ملاحظة هذا الأمر في مثال الدرّاجة الهوائية الذي يُقدِّمه بينش وبيجكر حيث لبّت العجلات القابلة للنفخ كُلّاً من رغبة المتسابقين بالسرعة وحاجات عموم المستخدمين للنقل.

أحدث هذا الإبداع المتجسِّد التوافق بين جميع الفاعلين في تصميمٍ واحدٍ مثاليٍّ. تُنشئُ التجسيدات تحالفاتٍ بين الفاعلين الذين تتجسّد مطالبهم المختلفة في شيءٍ واحدٍ. يتجاوز هذا الشيء الحدود بين المجموعات الاجتماعية المتباينة، وتُفسِّره كلّ مجموعةٍ وفقاً لنظرتها إلى حاجاتها وتقومُ بإدخاله إلى عالمها الخاص. يتنامى طلب هذه «الأشياء الحدودية» المتجسِّدة في الصراع بين أنصار البيئة وممثّلي الصناعة[53]. تُتيحُ التجسيدات للصناعة العثور على مسارٍ تنمويٍّ جديدٍ يُلبّي دائرةً من الاحتياجات كانت مُهملةً في السابق. ينقضُ التقدُّم في مجال التجسيد المعارضة المفترضة بين المعلومات والقيم، وبين الإنجازات العقلية والمعارضة الأيديولوجية التي تُبرِّر مقاومة التكنوقراطية للتغيير. إنّ تحديد هذه الأمثلة من التقدُّمية يُضفي الصلاحية على السياسة الديمقراطية للتكنولوجيا.

--------------------------------------
[1]*ـ  فيلسوفٌ وباحثٌ أميركي ومديرُ مختبر التواصل والتكنولوجيا التطبيقية، وصاحب الكرسي البحثي لفلسفة التكنولوجيا في جامعة سايمون فرايزر في كندا. حاز على شهادة الدكتوراه في الفلسفة عام 1973 من جامعة كاليفورنيا وقد درّس في العديد من الجامعات المرموقة. يتبوأ حالياً منصب مدير البرامج في الكلية الدولية للفلسفة في باريس. تُرجمت مؤلفاته إلى العديد من اللغات منها التركية، الإيطالية، اليابانية، والبرتغالية.
ـ العنوان الأصلي:A Critical Theory of Technology
ـ المصدر: Handbook of Science and Technology Studies. Ulrike Felt, Rayvon Fouché, Clark A. Miller, Laurel Smith -Doerr, eds., MIT Press, 2017, pp. 635- 663.
ـ ترجمة: هبة ناصر
[2]- Chilvers, Jason and Matthew Kearnes. 2016. Remaking Participation: Science, Environment and Emergent Publics. London and New York: Routledge.
[3]- Bijker, Wiebe. 1995. Of Bicycles, Bakelites, and Bulbs: Toward a Theory of Socio-technical Change. Cambridge, Mass.: MIT Press.
[4]- Winner, Langdon.1993. “Upon opening the black box and finding it empty: Social constructivism and the philosophy of technology”. Science, Technology, & Human Values 18 (3): 365–368.
[5]- Feenberg, Andrew. 1991. Critical Theory of Technology. Oxford: University Press.
[6]- Brown, Mark. 2015. “Politicizing Science: Conceptions of Politics in Science and Technology Studies.” Social Studies of Science 45 (1): 3-30  and Soneryd, Linda. 2016. “Technologies of Participation and the Making of Technologized Futures. “In Remaking Participation: Science, Environment and Emergent Publics, 144-161. London and New York: Routledge.
[7]- -Latour, Bruno and Peter Weibel. 2005. Making Things Public: Atmospheres of Democracy. Cambridge, MA: MIT Press.
-Jasanoff, Sheila. 2004. “The Idiom of Co-Production.” In States of Knowledge: The Co-Production of Science and Social Order, 1-12. London: Routledge.
-Wynne, Brian. 2011. Rationality and Ritual: Participation and Exclusion in Nuclear Decision-Making. London and Washington D.C.: Earthscan.
[8]- Chilvers and Kearnes, 2016.
-Callon, Michel, Pierre Lascoumes, and Yannick Barthe. 2011. Acting in an Uncertain World. Translated by Graham Burchell. Cambridge: MIT Press.
-Jasanoff, 2004.
[9]--Dagnino, Renato. 2008. Neutralidade da Ciência e Determinismo Tecnolَgico. Campinas: Editora Unicamp.
-Kreimer, Pablo, Hernلn Thomas, Patricia Rossini, and Alberto Lalouf, eds. 2004. Producciَn y uso social e conocimientos. Estudios Sociales de la ciencia y la tecnologيa en América Latina. Quilmès: UNQ, Bernal.
-Rajمo, Raoni, Ricardo B. Duque and Rahul De’ (eds). 2014. “Voices from within and Outside the South—Defying STS Epistemologies. Boundaries, and Theories”. Special issue of Science, Technology, & Human Values.
[10]- Lukلcs, Georg. 1971. History and Class Consciousness. Translated by Rodney Livingstone. Cambridge, Mass.: MIT Press.
[11]- Alexander, Jennifer. 2008. The Mantra of Efficiency: From Waterwheel to Social Control. Baltimore: Johns Hopkins.
[12]- Marcuse, Herbert. 1964. One-Dimensional Man. Boston: Beacon Press.
[13]- Pinch and Bijker, 1987, 42.
[14]- Adorno, Theodor. 2000. Introduction to Sociology. Translated by Edmund Jephcott. Cambridge: Polity Press.
[15]- Latour, Bruno. 1993. We Have Never Been Modern. Trans. C. Porter. Cambridge, MA: Harvard University Press.
[16]- -Horkheimer, Max. 1995. “On the Problem of Truth,” in Between Philosophy and Social Science: Selected Early Writings. Translated by G. F. Hunter, M. S. Kramer, and J. Torpey, 177-215. Cambridge, MA: MIT Press.
-Feenberg, Andrew. 2014. The Philosophy of Praxis. London: Verso.
[17]- Oudshoorn, Nelly and Trevor Pinch (eds.) 2003. How users matter: The co-construction of users and technology. Cambridge MA: MIT Press.
[18]- من أجل حيازة صورةٍ موجزةٍ وواضحةٍ عن مبدأ التناغم في هذه الحالة، يُرجى مراجعة( Mauskopf (2006 الصفحة 76.
[19]- كان أنصار حقوق المرأة المنضوون في دراسات العلم والتكنولوجيا أول من لاحظ وجود مشكلةٍ في التناغم. راجع:
 Wajcman (2004) صفحة 126 وأيضاً Micheals (2008) وOreakes and Conway (2010).
[20]- اسم مكوكٍ فضائيٍّ أميركيٍّ تحطّم بعد لحظاتٍ من إقلاعه بتاريخ 28 كانون الثاني 1986.
[21]- Collins and Pinch, 1998.
[22]- الوكالة الأميركية الوطنية للفضاء والطيران.
[23]- Ibid., 55.
[24]- دخلتُ في جدالٍ حول هذا الادّعاء مع (Kochan (2006)، Feenberg (2006)، وCollins and Pinch (2007).
[25]- Radder, Hans. 1996. In and About the World: Philosophical Studies of Science and Technology. Albany: SUNY Press. 111--112.
[26]- Latour, Bruno. 2013. An Inquiry into the Modes of Existence. Trans. C. Porter. Cambridge MA: Harvard University Press. 64.
[27]- Rich, Frank. “The Billionaires Bankrolling the Tea Party.” The New York Times 28 Aug. 2010. Web.
[28]- Latour, Bruno. 1992. “Where Are the Missing Masses? The Sociology of a Few Mundane Artifacts.” In Shaping Technology/Building Society: Studies in Sociotechnical Change, edited by Wiebe Bijker, and John Law. Cambridge, Mass: MIT Press. 251--252.
[29]- Feenberg, Andrew. 1999. Questioning Technology. New York: Routledge. 116--119.
[30]- Marcuse, Herbert. 2001. “The Individual in the Great Society.” In: Towards a Critical Theory of Society, edited by Douglas Kellner. New York: Routledge., 69--74.
[31]- Hess, David. 2007. Alternative Pathways in Science and Industry: Activism, Innovation and the Environment in an Era of Globalization. Cambridge: MIT Press.
[32]- بما أنّه تمّ تطبيق الفاعلية على أمورٍ واقعةٍ تحت نفوذ نظرية شبكة الفواعل، يلزم إجراء توضيحٍ أوليٍّ للمصطلح الذي أستخدمه. لا أعني من خلال «الفاعلية» أيّ نشاط-سواء ًأكان صادراً عن الأشخاص أم الأشياء- ولديه تأثيرٌ على شبكةٍ ما. سوف ألتزم بالمعنى المعهود للفاعلية السياسية الذي يُفيد القدرة على تنفيذ أفعالٍ مقصودةٍ لديها أثرٌ عام.
[33]- Abbate, Janet. 1999. Inventing the Internet. Cambridge, MIT Press.
[34]- Callon, Michel, Pierre Lascoumes, and Yannick Barthe. 2011. Acting in an Uncertain World. Translated by Graham Burchell. Cambridge: MIT Press; Chilvers and Kearnes 2016; Feenberg 1999.
[35]- Collins, Harry M. and Robert Evans. 2002. “The Third Wave of Science Studies: Studies of Expertise and Experience.” Social Studies of Science 32 (2): 235--296.
[36]- Fressoz, Jean-Baptiste. 2012. L’Apocalypse Joyeuse: Une Histoire du Risque Technologique. Paris: Le Seuil.
[37]- حِيَل اليدين.
[38]- Simmel, Georg. 1978. The Philosophy of Money. Trans.T. Bottomore and D. Frisby. Boston and London: Routledge & Kegan, Paul. 331--354.
[39]- Beck, Ulrich. 1992. Risk Society. Translated by Mark Ritter. London: Sage.
[40]- Wynne, Brian. 2011. Rationality and Ritual: Participation and Exclusion in Nuclear Decision-Making. London and Washington D.C.: Earthscan.
[41]- هذا الانخراط العام ليس نعمةً خالصة. يرتكبُ العوام الأخطاء أيضاً كما في حالة رفض التلقيح ضدّ أمراض الطفولة ولكنّ كلّ تقدم ديمقراطي يمنح قوىً جديدة لـ«غير المؤهَّلين». بعد أن يُحرز الأفراد المواطنة، يُصبحون في موضعٍ يُخوِّلهم الانخراط في العملية التعليمية التي تؤهّلهم تطبيقها.
[42]- Lِwy, Michael and Robert Sayre. 2001. Romanticism against the Tide of Modernity. Durham: Duke University Press.
[43]- Pinch and Bijker, 1987.
[44]- Winner, Langdon. 1989. The Whale and the Reactor: A Search for Limits in an Age of High Technology. Chicago: University of Chicago Press.
[45]- Adorno, Theodor. 1973. Negative Dialectics. Translated by E.B. Ashton. New York: Seabury.
[46]- الصحيفة التي تُمحى ثمّ يُكتب عليها.
[47]- Marx, Karl. (1857) 1904. A Contribution to the Critique of Political Economy. Translated by N. I. Stone. Chicago: Charles H. Kerr.
[48]- لقد طوّرتُ ما أسمّيه «نظرية الأداتية» لشرح «الأبعاد المزدوجة» للتكنولوجيا. راجع (Grimes and Feenberg (2013) للاطّلاع على سرد وأمثلة قليلة.
[49]- للاطّلاع على مثالٍ معاصر مستخرج من ميدان التعليم، راجع( Hamilton and Feenberg (2012.
[50]- Alexander, 2008.
[51]- تردُ أمثلةٌ عن هذا المنهج في دراستين، وهما (Feenberg 2010) الفصل العاشر و(Cressman (2016
[52]- Simondon, Gilbert. 1958. Du Mode d’Existence des Objets Techniques. Paris: Aubier.
[53]- Star, Susan and James Griesemer. 1989. “Institutional Ecology, ‘Translations’ and Boundary Objects: Amateurs and Professionals in Berkeley’s Museum of Vertebrate Zoology, 1907 -39”. Social Studies of Science 19 (3): 387–420.
-Dusyk, Nicole. 2013. The Transformative Potential of Participatory Politics: Energy Planning and Emergent Sustainability in British Columbia, Canada. University of British Columbia, Doctoral Dissertation.