البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

التقنية والعزلة ، دراسة في الأنثروبولوجيا الفلسفية عند برديائيف

الباحث :  صابرين زغلول السيد
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  15
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2019 م / 1440 هـ
تاريخ إضافة البحث :  May / 7 / 2019
عدد زيارات البحث :  2002
تحميل  ( 408.973 KB )
تسعى هذه المقالة إلى الإضاءة على أطروحة "التقنية والعزلة" كما تظهر في أعمال الفيلسوف الروسي نيقولا برديائيف. فالمعروف عن هذا الفيلسوف الذي عاش جلّ حياته في أوروبا الغربيّة مذهبه النقدي للعلمانيّة الحادة لا سيما حيال موقفها من الدين. تركز الدراسة على نقطةٍ جوهريّةٍ عند برديائيف وهي مسعاه إلى تحويل روح الإبداع التقني إلى حقبةٍ روحيةٍ تُستخدم لتحقيق غاياتٍ بشريّةٍ بنّاءةٍ، بدلاً من كونها ظاهرةً تعمل على اغتراب الإنسان عن ذاته وعن مجتمعه. إلى ذلك تجيب الدراسة عن مجموعةٍ من التساؤلات المتمحورة خصوصاً حول التقنية وعلاقتها بالإنسان والطبيعة والله، والآثار المترتبة على هذه العلاقة لجهة تدمير  الشخصيّة الإنسانيّة في بعدها الروحي.

المحرر 

----------------------------------------
أصبحت التقنية في واقعنا المعاصر ليست بمنأى مستقلٍّ عن حياتنا اليومية، بل أصبح النظام التقني بأكمله يرتبط به كلّ إنسانٍ ولا يمكن اعتباره نظاماً مستقلًّا عن الحياة البشرية، ذلك أنّ وظيفته ووجوده يحددان العلاقة التي تربط الإنسان بالمجتمع. فقد اقتحمت التقنية جميع مجالات الحياة باعتبارها شبكةً معقدةً وقوةً مهيمنةً تفرض ذاتها وسيطرتها، ليس هذا فقط، بل إنّها اقتحمت كذلك البيئة الطبيعية، وأضافت إليها بيئةً ثانيةً مليئةً بالآلات والتقنيات، حتى صارت الحياة مثل الكائن الإصطناعي، نظراً لانتشارها في كلّ مكانٍ. علاوةً على أن التقنية (في جوهرها) وسيطٌ مزدوجٌ، فقد تكون وسيطًا إيجابيًا يعمل على رفاهية الإنسان وراحته وتقلّل من الوقت والجهد، إلا أنّها في الوقت نفسه قد تكون وسيطاً سلبياً يعمل على اغتراب الإنسان عن ذاته وعن مجتمعه، فيتحول الإنسان من سيدٍ لنفسه إلى عبدٍ للآلات والتقنيات، التي هو في الأساس من صنعها وطورها. ما يُفضي لأن يفقد الإنسان استقلاليته وسيادته لذاته وللطبيعة من حوله، ويساعد على عزلته ووحدته في عالمٍ صنعه هو بنفسه.

 لقد صنع الإنسان فناءه بيده، ولقد صارت التقنية عقلانيّةً مغلوطةً بتعبير ماركيوز، وأقامت لنفسها محكمةً تحاكم كلّ من تجاوز حدود التعامل معها.

ولا شك في أنّ الفلسفة تولي اهتمامًا خاصًا لمشكلة الوجود البشري في عالم التقنية والمعلومات، لا سيما بعد النمو المكثف للتكنولوجيا في القرن العشرين، وما صحبه من تطوُّرٍ حضاريٍّ سريعٍ يهدد السير الطبيعي للمجتمع البشري، بل يهدّد استمرار وجود البشريّة جمعاء.

 لقد وجه الفلاسفة اهتماماتهم إلى المشاكل والمفاهيم الرئيسية التي تربط التقنية بما يعانيه الإنسان من مشاكلَ، خاصةً بالتقنيات وتكنولوجيا المعلومات، التي هي نتيجة للنشاط الإبداعي البشري. ولما كان الإنسان يفكر فيها وينتجها، كان لزاماً عليه أن يفهم ظواهرها، لأن عملية الخلق التقني لا تغير العالم من حوله فحسب، بل أيضًا تغير الإنسان نفسه. وهذا هو السبب في ارتباط الفلسفة بشكلٍ وثيقٍ بالأنشطة البشريّة في التقنيات وتكنولوجيا المعلومات، ما يتيح للإنسان البحث عن إجاباتٍ لأصعب الأسئلة المتعلقة بوجوده، لا سيما تلك المتعلقة بمعقوليّة ومشروعيّة نشاطه التحويلي المتمثل في التقنيات المختلفة. ولهذا كان لا بد أن نقف عند بعض الأسئلة الهامة التي تربط الإنسان بالتقنية أهمها:

كيف تؤثر التقنية على الشخصية الإنسانية؟

لِمَ تحولت التقنية إلى قوةٍ مسيطرةٍ على الإنسان؟

 هل الإنسان محكومٌ عليه بالخضوع للإنعكاسات السلبية الناجمة عن التطور التقني، أم إنّه سيجد لنفسه ملاذاً للحفاظ على طبيعته الإنسانيّة في مجالاتٍ أخرى كمجال الإبداع الفني؟

هل تستطيع التقنية أن تقضي على اغتراب الإنسان عن ذاته وعن مجتمعه أم إنّها ستصنع له جدارًا من العزلة يحول بينه وبين ذاته ومجتمعه؟

كيف نستطيع التغلب على الأثار السلبية التي تجلبها التقنيات؟

 لقد شغلت هذه الأسئلة الكثير من الفلاسفة، فمنذ ما يقرب من 80 عاما، حذر الفيلسوف الروسي الوجودي نيقولاي بيرديائيف (1874 - 1948م) من أن المشاكل التكنولوجية الجديدة تحتاج إلى معالجةٍ أنثروبولوجيّةٍ فلسفيّةٍ جديدةٍ.

وكان ذلك نتيجةً لما طرأ من مشاكلَ وجوديّةٍ ظهرت مع عصر الحداثة، حيث ظهر في النصف الأول من القرن العشرين مجالٌ جديدٌ من المعرفة الفلسفيّة، يسمي «أنثروبولوجيا التقنية»، وهي علم الإنسان للتقنية الذي يعبر عن البيئة التقنية كوسيلةٍ للوجود البشري، ومهمته اكتشاف التقنية كسمةٍ ضروريّةٍ للحياة البشرية، إلا أنه غالبًا ما يحلّل التقنية من وجهة نظرٍ بيولوجيّةٍ، ليكتشف مصادر الإبداع التقني في النشاط البيولوجي للإنسان، حيث يعوض الإنسان إخفاقه البيولوجي مع التقنية.

ولهذا كانت دعوة بيرديائيف لمعالجة التقنية من خلال أنثربولوجيا فلسفيّةٍ جديدةٍ في نوعها، وهذا لا يعني أنه لم يتم تناول المسألة الانثروبولوجية من قبله، بل يوجد العديد من وجهات النظر هي بالأحرى تتبع التقاليد الأنثروبولوجية القديمة، والتي غالباً ما تعتمد على تأويلاتٍ قديمةٍ يلتبسها بعض التشويه لتأويل الحقيقة، حيث ترى أن آدم لم يكن لديه الكمال للعمل في حديقة عدن، ولذلك فقط نشأت التكنولوجيا نتيجة للخطيئة.

 ونتيجةً لهذا التشويه في تأويلات علاقة الإنسان بالتقنية نظر برديائيف والفلاسفة الوجوديون بوجهٍ عام إلى تأثير التقنية على الوجود والمستقبل البشري نظرةً مأساويّةً، حيث فسروا تطور العلم والتكنولوجيا كسببٍ للتوحد والاغتراب العام والشخصي. وعليه نظروا إلى التقنية على أنّها تحدٍّ لحرية الإنسان يساعد على تحول الطبيعة البشرية والإنسان إلى آلةٍ بلا روح، وهذا يؤدي إلى فقدان الروح البشرية والأخلاق والثقافة.

لذلك اتجهت فلسفة برديائيف إلى مشاكل الإنسان التي وجد أنها «محوريّةٌ بلا منازع في عصرنا»[2]، ووجد أن دراسة هذه الإشكالية، يمكن أن تثري فهمنا للمناقشات، وذلك من خلال تسليط الضوء على تحويل النظرة الفلسفية إلى نظريّةٍ علميّةٍ واجتماعيّةٍ مختلطةٍ بكافة أشكال المعرفة لدينا.

لقد كان برديائيف ذا بصيرةٍ نافذةٍ، حيث تنبأ بالشرور والمساوئ التي ستجلبها التقنية والميكنة الحديثة، بأن شخص وصول التقنيات إلى شكلٍ من أشكال الشعور بالضيق الروحي الذي يعاني منه الإنسان.

 لهذا بدا له بالنظر في التحديات التي نواجهها في عالمنا «التكنولوجي» مدى التهديد الذي تشكله للإنسانية، ومدى الآثار الاجتماعية التي تجلبها التقنية. ومن ثم قام بتحليل عواقبها الاجتماعية، ووصف التقنية بأنها نقطة تحوّلٍ لمصير الإنسان.

 وصل برديائيف إلى يقينٍ بأن التحدي التكنولوجي يكمن في «النظرة المسيحية للإنسانية،لأنه لم يعد بوسعنا أن نرضى بالأنثروبولوجيا الدينية أو المدرسية أو الإنسانية، بل علينا أن نعالج الأمر ونتجه للأنثروبولوجيا الفلسفية التي تتمركز حول: علاقة الإنسان بالله، وعلاقة الإنسان بالكائن الحي، وعلاقة الإنسان بالكون» وهي ما يجب أن يُتعامل معه[3] ومن هنا أكد على «إقامة علاقة بين المعرفة كأداة للمجتمع وبين المعرفة كوسيلة لتحقيق الاتصال الروحي الوجودي»[4].

ولذلك أعطى عنايته الكبرى للشخصية الإنسانية واستقلالها الروحي من أجل الحفاظ والإبقاء على كرامة الإنسان. يرى برديائيف أن «الفلسفة معرفة أولاً وقبل كلّ شيءٍ، ولكنها معرفةٌ جامعةٌ تحيط بكلّ نواحي الوجود الإنساني، وهدفها الأساسي هو أن تكتشف وسائل تحقيق المعنى»[5]، ولهذا فإنّه «ينبغي أن يكون هدف أيّ فلسفةٍ عينيّةٍ هو العمل على تكامل الجوانب الاجتماعيّة والمعرفيّة وأن تضع الأسس لفلسفةٍ اجتماعيّةٍ»[6].

 لهذا كرس برديائيف فلسفته لتحليل الجوانب المختلفة لمفهوم الشخصيّة الإنسانيّة، وأشار إلى أن الإنسان يجب أن يدرك حقيقة أن جوهره يكمن في وجوده في العالم، وبالتالي حاول أن يعطي تفسيرًا جديدًا لجوهر الإنسان من خلال نظريّته عن طبيعة الشخصية، التي تعتبر ركيزة تصوره في علاقة الإنسان بالآلة والتقنية.

مفهوم الشخصية في فلسفة برديائيف

يحاول برديائيف أن يعطي تفسيرًا جديدًا لجوهر الإنسان من خلال نظريته عن الشخصية، حيث تؤكد فلسفته على حقيقة الإنسان باعتباره لغزاً في العالم يستوجب البحث عنه، ذلك أن «معظم الأفراد يلعبون دوراً في الحياة ليس لهم»[7]، ومع ذلك فلا ينبغي أن نبتعد وننعزل عن العالم، فإنّ الإنسان عليه إدراك أنّ حقيقته وجوهر وجوده يكمنان في العالم، ولن يستطيع أن يكتشف واقعه الفريد إلا من خلال العالم. وبمحاولته لمعرفة سر الكون سيجد أيضًا أن هناك مبدأً خفيًّا، وواقعاً أعلى، ينتمي إلى أمرٍ مختلفٍ لا بدّ من اكتشافه. وبالتالي تتعقد المشكلة أكثر، ليصبح الإنسان هو ذاته مشكلة، أكثر عمقًا وتعقيدًا. ومن هنا وجد برديائيف أن مشكلة الإنسان هي المشكلة الأكثر جوهريّةً في العالم. من أجل ذلك سلط الضوء عليها، وجعلها المحور لكلّ فلسفته.

 لقد نظر برديائيف لقيمة الإنسان على أنّها «تكمن في داخله من خلال شخصيته»[8]، وذلك بالطبيعة المزدوجة الكامنة فيه، وفرّق أيضاً بين الفرد والشخصيّة، فرأى أن الإنسان هو التقاءٌ بين عالمين: عالم الطبيعة أو العالم المادي، ومن خلاله ينتمي الفرد إلى الطبيعة البيولوجية والاجتماعية، وليس له أيّ وجودٍ مستقلٍّ يتجاوز العرق أو المجتمع، وعالم الروح أو عالم الإنسان الإلهي، والذي يكون فيه الإنسان ذا أبعادٍ دينيّةٍ وروحيّةٍ حيث لا يتدخل عامل الوراثة أو الوالدين في تكوين الشخصية؛ لأنها لا تأتي إلا من الله، ومن خلال الله يتلقى الشخص قوةً تجعله قادرًا على الانتصار على عبوديته وتمكنه من غزو البيئة الطبيعية وتحقيق استقلاليته، وتتكون من خلاله الشخصية التي يراها برديائيف بأنها «صورةٌ وشبهٌ لله وقطرةٌ في محيط ضرورات الطبيعة[9]. ولهذا كانت الشخصيّة أعلى من الفرد الطبيعي أو الاجتماعي.

 وفقاً لبرديائيف، ليس كلُّ فردٍ هو شخصيةً، حيث تتحدد صفات الفرد من خلال المجتمع والثقافة التي يعيشها وتميزه عن الأفراد الآخرين، ولذلك يتشكل الفرد وسط منظومةٍ عالميّةٍ، يخضع فيها للقوانين الطبيعية والاجتماعية، وبالتالي يصبح موضوعاً لعلومٍ معينةٍ مثل البيولوجيا وعلم النفس وعلم الاجتماع.

 في حين أن الشخصية هي جزءٌ من الواقع الروحي و«لا يوجد قانونٌ ينطبق عليها» [10]. فبالتالي لا تصبح هدفاً للتحقيق العلمي أو التجريبي، وهذه هي الفرضية الأساسية لفلسفة بيرديائيف الوجودية، والتي تتوازى مع فلسفة سورين كيركيغارد(1813 - 1855)، كارل ياسبرز(1883 - 1969)، ومارتن هايدغر(1889 - 1976 ) وجان بول سارتر(1905-1980).

 يوضح برديائيف بأنه من أجل أن يصبح الإنسان شخصيّةً، فإن عليه أن يكون واعيًا إلى الصوت الداخلي في نفسه، الذي يعلو على كلّ الأصوات الخارجية المحيطة به» فالشخصية تستمع فقط للصوت الداخلي وترفض الامتثال لكلّ ما يتعلق بالعالم المادي»[11]، ولذلك كانت الشخصيّة هي تجلي الروح في الطبيعة، وفي الوقت نفسه  هي التعبير المباشر عن تأثير الروح في الطبيعة الجسدية والعقلية للإنسان.

 إن هذا الوعي الذي ينادي به برديائيف يتغلغل فيه بلا شكٍّ وعيٌ صوفيٌّ يتشكل في علاقة الإنسان القوية بالله، وهو الذي يجعل الشخصية غير قابلةٍ للذوبان وسط الحشد والتموضع، لأنها وفق منظوره ليست فقط صورةً للإنسان، بل هي أيضاً صورةُ الله. وفي هذه الحقيقة تكمن كل ألغاز وأسرار الإنسان، بل يكمن سرّ الإنسانية الإلهية، وهذه  المفارقة كما يقول بردياىييف «لا يمكن التعبير عنها بعباراتٍ عقلانيّةٍ»[12]، من حيث إن الشخصية ليس لها مثيلٌ أو مقابلٌ، كما أنّها لا يمكن مقارنتها بأيّ شيءٍ في العالم المادي، حيث لا تتحدد سماتها من خلال علاقتها بهذا العالم الذي استعبد بالتشيّؤ والتقنية، بل تتحدد بعلاقتها بالله. لذا لا تتحدد سمات الشخصية من خلال الطبيعة، ولكن من خلال الروح، حيث يكون الإنسان بالطبيعة فرداً فقط [13].

 ويضيف برديائيف بأنه من خلال التحرير الروحي للإنسان يتم «تحقيق الشخصية الإنسانية التي تؤدي إلى تحقيق الكمال، ولكنها في ذات الوقت تؤدي إلى الصراع»[14]، المتمثّل في تكيّف الشخصية داخل الحشد الاجتماعي وداخل العالم المملوء بالمادة الذي يناقض طبيعتها الروحية.

 لذلك كانت تجربة الإنسان حتى يصبح شخصيّةً تجربةً مؤلمةً للغاية، بسبب دخوله في صراعٍ دائمٍ مع العالم الموضوعي الرازح تحت سيادة التقنية، فتبدّلت الأدوار ليصبح الإنسان هو نفسه آلةً تدور وسط العالم المادي المتصف بالتشيّؤ نتيجة مساوئ التقنية ذاتها.

 وعلى الرغم من ذلك يرى برديائيف أن للشخصيّة قدرةً على تحمّل الألم الذي هو متأصّلٌ فيها.

 ومن هنا نجد أن الشخصيات الخلاقة والعباقرة بصفةٍ خاصةٍ قد تعاني من صعوباتٍ جمةٍ من خلال تواصلها بالعالم اليومي العادي، ما قد يجعلها تعادي هذا العالم وتتمحور حول ذواتها، ولكنها في الوقت ذاته لا يظهر إبداعها وإدراكها للكون إلا من «خلال هذا العالم»[15]. ويظهر ذلك من خلال علاقة الذات بالآخر أو علاقة الأنا بالأنت، تلك العلاقة التي بُنيت عليها فلسفات الغيرية، والتي برزت عند الفيلسوف اليهودي مارتن بوبر (1878-1965- م)[16]، واستعارها منه برديائيف وبعض الفلاسفة المعاصرين.

 إن علاقة الأنا بالأنت أو بالآخر هي التي تُظهر عمق الشخصية وتفاعلها بشكلٍ إيجابيٍّ من خلال هذا العالم، لأن هذا الآخر قد يكون جاري وقد يكون الله ذاته، ذلك أن الشخصية هي الفعل الخلاق الذي يتحرك نحو أشخاصٍ آخرين وفي نهاية المطاف نحو الله. لذلك لا يتم تحقق الشخصية إلا من خلال «الله وهو أعلى منزلةً لها، كما أنه مصدر استقلالها وحريتها»[17]. وهنا يضيف برديائيف للشخصية صفةً محوريّةً في فلسفته من خلال الحرية، بحيث لم يبعد عن الإطار العام لنظرائه من الفلاسفة الوجوديين في الاهتمام بربط الحرية بجوهر الشخصية الحقيقية، حيث احتل مفهوم الحرية المكانة الرئيسيّة في فلسفته، لدرجة أن أطلق عليه معاصروه لقب «أسير الحرية».

إن ما يميز الشخصية عن الفرد في فلسفة برديائيف هو حريتها، حيث إنّ «الشخصية ليست مجرد حريّةٍ، بل هي الحريّة نفسها» [18]. كما يرى برديائيف أن الإنسان عبدٌ، لأنّ الحريّة صعبةٌ، في حين أن العبودية سهلةٌ، ولذلك يحبس الفرد ذاته داخل وعيه الخاص، ما يمنع عنه صفة التواصل بالآخرين التي هي جوهر الشخصية. ومن أجل أن تصبح الشخصيّة فعالةً وحقيقيّةً كما يقول برديائيف «فعليها أن تدرك أنّها متجذرةٌ في عالم الحرية، أي عالم الروح، ومن ذلك المصدر تستمد قوة الصراع والنشاط، وهذا هو المعنى ذاته لكونك شخصًا، ولكونك حرًا».[19] ولذلك كانت الشخصية لا يمكن أن تستمد كيانها إلا من خلال الحرية التي هي الأساس الذي لا أساس له من الوجود، لأنها أسبق من الوجود ذاته. إنها أعمق من كلّ شيءٍ، ولا يمكننا التسلل إلى قاعدة الحرية بأيّ تصوّرٍ عقلانيٍّ.

 إنّ الحرية بئرٌ عميقٌ لا يمكن الوصول إليه، حيث يوجد في داخله السرّ النهائي للوجود الإنساني.

ويعبر برديائيف عن ذلك بمصطلح (unground) للدلالة على عمق مفهوم الحرية، ذلك المصطلح الذي استخدمه المتصوف الألماني البروتستانتي يعقوب بوهمة JACOB BOEHME) (1575- 1624م[20] بمعنى «الهاوية المظلمة»[21] باعتبارها هي السر الذي يكمن وراءه حقيقة الشخصية، ويقول أن «ما وراء أي شيءٍ معيّنٍ يكمن في كونه لا يزال أعمق» ( [22]) أي لا يزال مجهولاً، ولذلك كانت الأولوية  للحرية على الوجود، وللروح على الطبيعة، وللذات على الموضوع، و لشخصيّة على العالم، و للإبداع على التطور، وللثنائيّة على الأحادية، وللحب على القانون»[23]. لذلك كانت الشخصية فريدةً من نوعها، وغير قابلةٍ للتكرار»[24].

ذلك أن معنى الحرية أكثر مدلولًا مما قد يذهب إليه الفرد، فلا يمكن اختزال مفهوم الحرية في الإرادة الحرّة، حيث إنّ الإرادة الحرة تختار بين الخير والشر، بينما الحرية هي في الأساس وسيلةٌ للتحرر من التموضع والتشيؤ الموجود في العالم. لذلك ينبه برديائيف بأنّه ينبغي «ألاّ تكون الحرية إعلاناً لحقوق الإنسان، بل يجب أن تكون إعلاناً عن التزامات الإنسان»[25].

ومن هنا كانت الشخصية في فلسفة برديائيف تعبر عن الإبداع الذي يخرج من الحرية، والإبداع ليس هو التطورالذي ينتج الشيء الجديد لأول مرةٍ، إنما هو الحراك والديناميّة المستمرة للروح التي تعمل على بُعد الإنسان عن الاغتراب وعن التموضع داخل العالم. وبالتالي «فحرية الشخصية تكسر سلسلة الضرورات التي يتقيد بداخلها الإنسان فتصيبه بالتشيّؤ والتموضع، ومن ثم تصيبه بالاغتراب، وحتى يتجنب الإنسان هذا الاغتراب فعليه أن يكون مؤثرًا غير متأثّرٍ بكلّ ما يحيط به، ولن يتسنى له هذا التأثير إلا من خلال الحب»[26]، وبالحب تتواصل الشخصية مع العالم وبالحب تظهر الشخصية، حيث إن «الحب الأصيل هو دائمًا نذيرٌ لمجيء ملكوت الله»[27]. الحب يخلق التواصل دون خوفٍ من الموت، لأنّ الحب أقوى من الموت.

ولما كانت الشخصية تظهر الحب الذي هو تعبيرٌ للشخصيّة الأبدية، لذا كانت «الشخصية هي قبل كلّ شيءٍ الطاقة الروحية للأصالة، والنشاط الروحي الذي هو صميم القوة الخلاقة »[28]. وحتى تتحقق هذه القوة للشخصية الروحانية لا بد من إزالة العديد من العوائق التي تقف عقبة في سبيل تحققها، وتجعلها في عزلةٍ بعيدًا عن المجتمع وبعيدًا عن أن تكون قوةً إبداعيّةً وخلاقةً، من أجل ذلك يطرح برديائيف مفهوم التقنية كأحد أهم الأسباب التي تتسبب في تشيؤ الإنسان وعزلته.

التقنية والتشيؤ

بعد أن قدم برديائيف مفهوم الشخصية وارتباطها بما هو روحيٌّ، وجد أن هناك عوائق تمنع هذا الارتباط. وفي مقدمة هذه العوائق وصول التقنيات في الفترة الحديثة إلى أفاقٍ عاليةٍ بشكلٍ يفتح فصلًا جديدًا تمامًا في العلاقة الإنسانيّة بالكون، فمع التقنيات «تشاركت الروح مع الواقع وتشابكت الذات بالموضوعات»[29]، حتى أصبحت روح الإبداع الإنسانية ترتبط بالطبيعة المادية لارتباط الآلات والتكنولوجيا بها. وبالتالي، فعلى الرغم من أن وصول التقنيات يُعدّ مرحلةً في التنمية الروحيّة للبشرية، إلا أنّه في الوقت نفسه يؤدي إلى استعباد الكائنات البشرية في العالم، وهذا صحيحٌ، فبقدر ما تتخلى البشرية عن أهدافها من القيم الروحية، تسعى في الوقت ذاته إلى معجزات العلوم التطبيقيّة لتوفير رفاهيّة الحياة وتحقيق المعنى النهائي للسعادة في ما يعتقدونه([30]). ولهذا دخل التاريخ البشري إلى واقعٍ جديدٍ، وأصبحت التقنيات تشكل تحديًا للوجود البشري. ذلك الوجود الذي انفصل فيه الإنسان عن الله والقيم الروحية، فتحول إلى بناءٍ وتنظيمٍ داخل عالم المادة محاولًا العثورعلى معنى السعادة والأمن.

 وبالضبط كانت التقنيات هي الوسيلة التي تسعي بها البشرية الحديثة وبواسطة أجهزتها الخاصة إلى تحقيق الغايات المفيدة المرجوة لنفسها. ومع السعي لتحقيق هذه الغايات وقع الإنسان فريسة التشيؤ المادي، ففقد روحه الحقيقية التي تسعى دائما للتوحد مع الروح الإلهيّة، ما ساعد على اغترابه وتموضعه.

وقد نظر برديائيف إلى مسألة تشيؤ الإنسان بواسطة التقنية والآلة بأنّها أهم المشكلات البارزة التي يجب على الفلسفة الاهتمام بها، حيث أعلن عن قلقه بأن الحياة بلغت مبلغ السرعة الجنونيّة إلى الحدّ الذي يجعل الإنسان يجد صعوبةً في الاستجابة لها، ولهذا تلجأ هذه الشخصيات إلى الاتصال الاجتماعي المتغيّر، والذي تمثل فيه التكنولوجيا والآلة أهم جوانبه، ويرى برديائيف أن التكنولوجيا سلاحٌ ذو حدين، حيث إنّها تساعد على تحسين الاتصال بين الناس من ناحيةٍ، إلا أنّها من ناحيةٍ أخرى تساعد على توسيع الفجوة بينهم فبدلاً «من أن تقلّل من التباعد الأساسي بينهم فإنّها تعمل على اِتساع رقعته»[31]. كذلك تمثل التكنولوجيا أهم أشكال التطرف لماديّة الوجود الإنساني حيث إنّها لا تعطي اهتمامًا للاتصال الروحي الذي هو أساس بناء الشخصية. وعلى الرغم من مساهمة الاختراعات -مثل الطائرة والسيارة والسينما واللاسلكي- مساهمةً كاملةً في سهولة التواصل والاتصال بين الناس، ما أتاح للإنسان التحرّر من بيئته المحلية إلى بيئةٍ عالميّةٍ أكثر اتساعًا، إلا أنها من ناحيةٍ أخرى وفي الوقت نفسه بفضل هذه الوسائل أدت إلى «القضاء على الصلة الحميمة والألفة الأساسية للاتصال الروحي، بل إنّ أثرها يعزل الإنسان عزلاً مطلق[32]. ويحلل برديائيف ذلك من خلال الأنثروبولوجيا الفلسفية، بأنّ كلّ شيءٍ في العالم له مظهران: أحدهما سلبيٌّ والآخر إيجابيٌّ. حيث كان الأفراد في المجتمع الأبوي أو النوعي على حدٍّ سواء يتصل بعضهم ببعضٍ بطريقةٍ لا شخصيةٍ، ومع التطور اتخذ التواصل بين الأفراد شكله الشخصي وكان على الشخص أن يعاني العزلة وهنا «تنفصل الأنا من روابطها العضوية»[33]. و يُرجع برديائيف ذلك إلى التكنولوجيا التي أسهمت في هذا السبيل مساهمةً وفيرةً، فعملت «الآلات بدرجةٍ كبيرةٍ على استغلال الإنسان والحيوان. وقد كان هذا الاستغلال عقبةً في سبيل الاتصال الروحي»[34]. ويضفي برديائيف طابع السحر أيضاً على التكنولوجيا، فكما كان البدائييون لهم سحرهم الخاص بهم، فإن هذا العصر له سحره من خلال التكنولوجيا التي وصل إليها الإنسان بعد المرور بعددٍ من المراحل التي تشكلت فيها الذات الواعية من خلال علاقتها بالطبيعة والمجتمع، حيث يحدث في العالم سيرورةٌ لا إنسانيةٌ، تطغى على كل شيءٍ. وعليه تظهر فترةٌ تاريخيةٌ حرجةٌ خلال تطور التقنية والتكنولوجيا، تبدأ مع تطور البداية المبدعة في الإنسان الذي ارتبط «في البداية بالطبيعة وهذا الارتباط كان نباتياً وحيوانياً. لكن بعد ذلك بدأ ارتباطٌ جديدٌ للإنسان مع الطبيعة الجديدة، ارتباط تقنيٌّ-آليٌّ… وهنا تكمن كل المشاكل المضنية»[35].

ومن خلال ارتباط المجتمع بالتقنية يعرض برديائيف أربع مراحل أساسيّةٍ لعلاقة الإنسان مع الكون والمجتمع:

1 - انغماس الإنسان في الحياة الكونية. 

2 - التحرر من سيطرة القوى الكونية.

3 - الإحالة الآلية للطبيعة والامتلاك العلمي- التقني للطبيعة، وتحرير العمل واستعباده باستغلال أدوات الإنتاج، وضرورة بيع العمل للحصول على المعاش.

4 - انحلال النظام الكوني وتشكل تنظيماتٍ جديدةٍ… والابتعاد عن العضوية، ونماء قوى الإنسان بتشكلٍ مخيفٍ فوق الطبيعة، وعبودية الإنسان من قبل اكتشافاته الذاتية[36] لا سيما بعد اكتشافه للعديد من التقنيات والآلات التي ساعدت على استعباده، وجعلت منه سجينًا داخل كهفٍ من العزلة والتموضع.

إن ظهور الآلة يؤدي إلى الإحالة الآلية للحياة، والتي بدورها تؤدي إلى الإحالة الموضوعية القصوى للوجود الإنساني، حيث يصبح الإنسان غريباً في عالمه، هذا العالم البارد غير الإنساني الذي صنع فيه الإنسان تشيؤه واغترابه، والذي تنصهر فيه الأنا، وبدون وعيٍ منها داخل هذا العالم المادي لتصبح مغتربةً ومتموضعةً مثلها مثل أي آلةٍ قامت بصنعها. وفي هذا يشير برديائيف إلى أن التكنولوجيا يتكون من خلالها واقعٌ جديدٌ وحقيقةٌ جديدةٌ، من حيث إنّها «تعيد إنتاج علاقة المبدع بخلائقه مرةً ثانيةً، ولكن من وجهة نظرٍ مغايرةٍ: حيث يبدع المبدع بوعيٍ وعقلانيّةٍ، ولا يؤثر هذا الإبداع على حقيقة وجود مبدعه، حيث تنتفض الخلائق ضدّ الخالق ولا تذعن له في ما بعد. وهنا يكمن سرّ الخطيئة الأولى ضدّ الخالق. وتتكرّر الخطيئة في كلّ تاريخ الإنسانية… حيث تُبدل التقنية بالعضوية، ويُبدل اللاعقلي بـ المنظم- العقلي، فتولّد التقنية آثاراً لاعقلية في الحياة الاجتماعية»[37]. ولاتكتفي التقنية بالتموضع في العالم كما يذهب برديائيف، بل تحاول أن تملك جذورًا ميتافيزيقيّةً، وبذلك تتكشف إمكانيّةٌ جديدةٌ لوجود التموضع يبرز في أن ما ينتج من سيرورة التموضع، يمكن أن يملك وجوداً مستقلاً، خارج الروح اللاعقلية. لذا كانت إحالة الحياة تقنيًا وإحالة التقنية لحياةٍ إنسانيّةٍ تعني التموضع والاغتراب الأقصى، حيث تُحوّل التقنية جسم الإنسان إلى واسطةٍ وأداةٍ، أي إلى وظيفةٍ تقنيةٍ.

ولهذا فقد حاول برديائيف تقديم نظريّةٍ من شأنها القضاء على حالة التشيؤ والاغتراب التي بمقتضاها يفقد الإنسان جوهره الروحي ويتحول إلى شيءٍ بلا روح وبلا إنسانيّة. لذلك قام بتحليل العديد من الأشكال التي تجعل الإنسان يشعر بتشيؤه واغترابه ومن أهمها: المجتمع، الحضارة، المعرفة، الآلة، الأخلاق، الدين، الفن، الكنيسة، العلم، التاريخ، الزواج والأسرة، النظام العالمي، الظلم الاجتماعي، الباطل …إلخ، وسأقتصر هنا الحديث على التشيوء الناتج عن الحضارة، المعرفة، الحياة الاجتماعية والاقتصادية، الآلة، على آساس الارتباط الوثيق للتقنية بهذه الموضوعات.

يعتقد برديائيف أن كل ما يصدر عن المجتمع ينزع إلى الاستعباد، ما يجعل الفرد يتموضع داخل نفسه، حيث يجعل الفرد المجتمع مثلاً أعلى ويسبغ عليه العظمة والجلال، ويؤلّه الدولة ويخلق منهما أساطير، وبذلك يستعبد نفسه، ما يؤدي إلى ثقل كاهله بتعقيدات الوجود وتعدد الأشياء وتنوعها حتى يصبح متعثرًا في شباك تعوقه عن التعبير عن حاجاته التلقائية.

إن أبشع أنواع العبودية هو استعباد الإنسان لنفسه، فقد يتنازل الإنسان في كثيرٍ من الأحيان عن حريّته بمحض إرادته، وهذا يظهرأكثر كما يرى برديائيف في «الدول الآخذة بالنظام الشمولي حيث يصبح الناس عبيدًا، ويتقبل أغلبيتهم التنازل عن حريتهم في سرورٍ وارتياحٍ»[38]، ولذلك كانت الفرديّة هي الأنانيّة من حيث إنّها تحصر كلّ شيءٍ في نطاق الذات التي هي مصدرٌ رئيسيٌّ من مصادر الاستعباد، ويحذر برديائيف بأنه يجب على الإنسان البعد عن الأنانية، ذلك أن الشخصية بمفهوم برديائيف بعيدةٌ عن الأنانيّة التي هي مصدرٌ رئيسيٌّ من مصادر الاستعباد والعزلة بين الناس، إذ يتقوقع الإنسان داخل وعيه الخاص ما يتسبب بتموضعه الذي ينتج عنه حجب شخصيته وحجب علاقته بالآخرين، هذا بالإضافة إلى طمس دوافع الحب والإبداع الكامنة داخله، ومن هنا شيئاً فشيئاً  تتموضع روحه وتتشيّأ، ويساعد على ذلك وبشكلٍ سريعٍ تطور التقنية والآلات التي تصاحب التطور الحضاري والصناعي، فيساعدان إلى حدٍّ كبيرٍ في استعباد الإنسان، وسقوطه داخل العالم المتشيّئ، فيشعر الإنسان بالاغتراب بينه وبين ذاته وبينه وبين الأخرين وبينه وبين الخالق. ولما كان المجتمع يرى الشخصية بأنها لاعقليّة وذلك بسبب حياتها الباطنية ومصيرها الفريد، لذا لجأ لقهرها حتى يجعل مصيرها معقولًا. ولهذا السبب يرد برديائيف تأسيس الجمعيات السرية» -كجماعة الماسونيين الأحرار مثلًا أو غيرها من الجمعيات الروحية- ويوجّه النقد لهذه الجمعيات السرية، لأنّها لا تمهد الطريق للاتحاد الروحي بسبب طابعها الاجتماعي، ولهذا فقد نجد الشخصية نفسها مرةً أخرى في استعبادٍ أشدّ مما كانت تعانيه، وذلك لارتباط المجتمع بسرعة التطور الحضاري الذي يساعد هو الآخر على الخروج من الوجود الشخصاني، و فقدان للكلية من خلال دخول الشخصية في الحضارة، حيث تستعبد الحضارة الإنسان من خلال فكرة «الإنسان السعيد المتوحش»([39]). ويضيف برديائيف أنّ نشاة الإنسان خلال الحضارة والتقنيات المتعددة، ساعد على تموضع روحه داخلها بإحالتها للانغماس داخل المجتمع، ومن هنا كانت الحضارة عاملاً أساسيًّا في قتل فعل الإنسان الإبداعي وخضوعه للقوانين، وهذا ما أثار قلق برديائيف وجعله يعاني من تقدم الحضارة فيقول: «في الحضارة يتموضع فعل الإنسان الإبداعي، حيث تسقط الحرية في مشروع الضرورة، وتقبل صيغة المواضيع المائتة والمغتربة عن حياة الروح»[40]، ما يؤدي إلى قتل الروح الإنسانية واستعبادها، حيث يحيل الروح إلى منطق الضرورة ويبعدها عن الحرية، فتسقط الحرية والشخصية في عالم الموضوعات بواسطة الإبداع، والتطور المستمر للتقنيات.

ويرى برديائيف بأنه كما أن الحضارة تسهم إسهامًا كبيرًا في عزلة الإنسان وتموضعه، كذلك الصناعة، ذلك أن عصر الصناعة متجهٌ أبدًا إلى المستقبل وقيمة اللحظة عنده في أنّها وسيلةٌ للحظات التالية، وحينما يكون الأفراد مسوقين ومدفوعين بتيار الزمن على هذا النمط فإنهم لا يحظون بالراحة ولا تتاح لهم الفرصة ليظهروا قدراتهم بأن يكونوا قوى حرة لخلق المستقبل.

 إن ممارسة التفكير الهادئ والاستغراق في التأمل من الأمور اللازمة للشخصية الخلاقة، ولكن السرعة التي يفرضها عصر الآلة تكاد تجعل التأمل متعذراً، ونتيجةً لهذه الحياة التي يحياها الإنسان في غمرات السرعة تتحلل النفس الإنسانيّة وتنقسم إلى حالاتٍ عقليّةٍ متتابعة الحلقات، والتي من شأنها أن تؤثر على قدرات الإنسان المعرفية، حيث ترتبط المعرفة كما يراها برديائيف «بالوعي المتطور الذي هو قدر الروح ومصيرها بهذا العالم، لذلك كان العبور عبر التموضع هو قدر الروح بهذا العالم»[41].

ويوجه برديائيف النظر إلى أن أزمه الإنسان والإنسانية «ناجمةٌ عن التطور السريع للتقنية[42] حيث اعتبر التقنية عاملاً يحدد نشاط الحياة البشرية، ولهذا يشير إلى أن المصير الإنساني يتم التعبير عنه في العالم الموضوعي بحيث يصبح عبداً للزمان الرياضي المنقسم، والحياة الروحية وحدها هي التي يمكن أن تتحرر حقاً من الزمان العددي، «فثنائية الزمان يمكن الكشف عنها في اللحظة الحاضرة»[43].

 ولهذه اللحظة دلالةٌ إذا نظرنا إليها بطريقين متباينين تمامًا:

أولا: إن اللحظة جزءٌ دقيقٌ من الزمن، فهي صغيرةٌ من الناحية الرياضية ولكنها منقسمةٌ بدورها، ومندرجةٌ في تيار الزمان بين الماضي والمستقبل.

ثانياً: هناك أيضاً اللحظة الحاضرة للزمان فوق ـ العددي غير المتقسم، اللحظة التي لا يمكن أن تنحل إلى الماضي والمستقبل، لحظة الحاضر الأبدي، التي لا تنقسم، وهي جزءٌ متكاملٌ مع الأبدية، وهذه هي اللحظة التي عبر عنها كيركغارد في فلسفته، ولهذا يؤكد برديائيف أن النظر إلى مشكلة الزمان -و على الأخص في عصر التكنولوجيا والسرعة- أصبحت مشكلةً حادةً. فقد خضع الزمان لسرعةٍ جنونيّةٍ ينبغي على إيقاع الزمان الإنساني أن يتجاوب معها، فلم تعد لأيّ لحظةٍ قيمةٌ داخليةٌ أو أي امتلاءٍ، بل إنها تفسح المجال للحظة اللاحقة، وكلّ لحظةٍ هي وسيلةٌ للحظة التي تتبعها، وكل لحظةٍ يمكن أن تنقسم انقساماً لا نهائياً ومن ثم تصبح بغير أساسٍ من الصحة.

وهذه الظاهرة كما يقول برديائيف هي علامةٌ على عصرٍ جديدٍ، عصر يحكمه نوعٌ من السرعة الأليّة التي تجعلنا داخل حياةٍ تكمن داخل ألةٍ تتحرك بلاوعي وبلا إرادة ومن ثم أصبحت للسرعة «القائمة على الآلية المتزايدة للحياة أثر قاتل على الأنا الإنسانية، فقد اجتثت جذور وحدتها وتماسكها»[44]، ما ترتب عليه أن فقدت الأنا الإنسانية وحدتها وتحولت إلى أشلاءٍ نتيجة لتلك السرعة الفائقة.

 إن ما يحدّد وحدة الأنا وتكاملها وارتباطها «بوحدة الحاضر غير المنقسم وتكامله، وباللحظة الراهنة في امتلائها… اللحظة التي هي أكثر من وسيلةٍ للحظة اللاحقة، باللحظة التي هي أيضاً اتصالٌ بالأبدية»[45].

ولهذا يحذر برديائيف بأن عصر التكنولوجيا موجّهٌ بأكمله نحو المستقبل، المستقبل يحدّده سير الزمن، ولا يسمح للأنا بأيّ فراغٍ وقد اجتاحها تيّار الزمن، ولذلك فعلى الشخصية الإنسانية «أن تؤكد نفسها بوصفها الخالقة الحرة للمستقبل»[46]، وذلك عن طريق الوعي التام بعلاقة الإنسان بالتقنية بحيث يستطيع أن يخرج من سيطرة التقنية عليه، فبدلاً من أن تسيطر الآلة على الإنسان، يسيطر هو عليها.

 وهنا تظهر نظرةٌ تفاؤليّةٌ لبردياىييف، فعلى الرغم من أن التموضع الناتج عن الآلة عنصراً سلبياً لسجن الإنسان واستعباده إلا أنه في الوقت نفسه يملك معنى إيجابياً في العالم الساقط، وذلك بوصول الشخصية إلى ذروة الوعي في تلامسها مع ما فوق الوعي، حيث تعمل التقنية على تحرير الروح الإنسانيّة وهنا «قد تصبح المعرفة اشتراكاً ومشاركةً روحيّةً»[47]، ولذلك يشدّد برديائيف على أن التموضع هو فقط طريقةٌ للتعبير عن الذات الوجودية الأصلية، لذلك كانت كلّ المعارف الأصليّة بكلّ جوانبها تتعلق بالذات الوجوديّة نفسها: «الخطيئة، الخلل، السقوط. البحث عنها ليس في المعرفة بل في الوجود ذاته… والمعرفة بالرغم من تموضعها هي معرفةٌ وفيها شيءٌ ما أصليٌّ ينكشف ويظهر»[48]. لذلك كانت المعارف في فلسفة برديائيف هي مخططٌ للتعالي وفي الوقت نفسه هي مرتبطةٌ بالوجود. ولذلك كانت المعرفة كوجودٍ وتموضعٍ إنما هي جوهرٌ لكلّ محاولات التعالي، وفي هذه المحاولات لا ينتصر الإنسان على الطبيعة فقط بل ينتصر على ذاته هو شخصياً.

نقد برديائيف للتقنية في الدول الشمولية وألمانيا النازية

يرى برديائيف أنه بعد التطور الاقتصادي الكبير أصبحت الدول الشمولية لا تفكر إلا بالكليات ورموز الأرقام، وأصبح الفرد في الآلة الضخمة رقماً من الأرقام، وقد كانت هذه الظاهرة من سمات المجتمعات الرأسمالية، فمع تقدم التكنولوجيا سعى الإنسان إلى استخدام قدراته الصناعية والفنية، واقترنت المصالح الذاتية البشرية والأهداف القومية بالتقنيات، والتي لعبت دوراً هاماً في إنتاج الشرور الجماعية، ولا سيما في القرن العشرين، ولذلك يرى برديائيف أن التقنيات هي شكلٌ رئيسيٌّ من أشكال الوثنية الحديثة التي يسعى البشر من خلالها إلى تأسيس علاقةٍ زائفةٍ بالكون من أجل الحصول على نتائج كافيةٍ للحياة والسعادة. ويوضح أن الاستخدام الشرير للتكنولوجيا ينشأ من التطور المتزامن للتقنية والهمينة في الفترة الحديثة. وفي كتابه «مصير الإنسان في العالم الحديث» (1935)، يقول: «إن الاستخدام الخبيث للتقنيات في ألمانيا نشأ من الحاجة المشوهة لعقليةٍ وثنيةٍ لتنفيذ الأهداف العنصرية، وخاصةً ضد اليهود»[49].  فكانت دوافع ألمانيا العنصرية وراءها جماهير أحبطت بالفعل نتيجة الحرب والأيديولوجيات الجماعية التي كانت سائدةً في المجتمع حينئذٍ، ولهذا شعرت الجماهير في ألمانيا «بقوة التقنيات» الموجودة بالفعل، والتي تهيمن على حياتهم، وتوقعوا من النواحي النفسيّة ومن خلال خيالٍ مشوّهٍ سيطرتهم على الدول الأخرى نتيجة التفوق العرقي. ولهذا يرى برديائيف أن أهدافهم العنصرية ترجمت إلى سياسةٍ قوميّةٍ تم تنفيذها عن طريق التقنيات. وهكذا تطورت الهيمنة الوثنية حول الأهداف الشمولية على حساب الشخصية الفردية والحرية[50] ما ساعد على زيادة الفردية والعزلة لسائر الجماهير.

ولهذا فإن النازية قد خلقت كردّ فعلٍ جزئيٍّ على وصول التقنية إلى المجتمع الحديث، وعلى الرغم من استخدامها في تنفيذ الفظائع النازية، إلا أن برديائيف لا يجد أيّ تناقضٍ في تحليله لهذا الدور المزدوج للألمان على حد السواء باستخدام ورفض التقنيات، لأن التناقض الحقيقي يكمن في العلاقة الخبيثة الغادرة للعالم تجاه الكائنات، والتي فيها اثنان من أشكال التناقض على ما يبدو، فأحدهما يستغل التكنولوجيا لغايات الشر، والأخر يرفضها وبضيقٍ شديدٍ لأسبابٍ رومانسيّةٍ.

و هذه العلاقة الخاطئة بالكون هي سبب محنة الإنسان الحديث البعيد عن الله والطبيعة، والتي أنتجت للأسف طغيان الدولة النازية، حيث تركزت هذه الدولة على المفاهيم العنصرية والرومانسية للدم والتراب، والتوقع الخيالي لمملكةٍ ألفيّةٍ «أنتجت بدلاً من ذلك اثنا عشر عاماً من الجحيم»[51] كما يذهب برديائيف.

ويلاحظ برديائيف بأنّه على الرغم من حقيقة بلوغ الثقافة الألمانية قمتها مع كانط، غوته، هيغل، شيلر، وفيشتة، والعديد من الآخرين، إلا أن هذه الثقافة العظيمة المزهرة لم تمنع ألمانيا من الحقبة النازية. وهذا هو السقوط من المرتفعات الثقافية العظيمة إلى الحضارة النازية المنحلة، والتي يجب أن يُنظر إليها من الناحية الروحية على أنها فقدانٌ للطاقات والقيم السامية، والتي ساعدت ألمانيا على الاستعباد الذاتي للفرد.

يُعرب برديائيف عن دهشته أن أحدًا لم يطور فلسفةً شاملةً لنقد التقنيات، ويخص الطائفة المسيحيّة على معالجة هذه المسألة باهتمامٍ عاجلٍ، فيقول: «إن المفكرين المسيحيين المسؤولين إذا لم يدينوا ببساطة التقنيات والتطبيقات العلمية، ستتخذ هذه الجهات منظوراً معيناً يتجاوز الحياد أو اللامبالاة أو الرفض الرجعي والرومانسي لجميع الإنجازات التقنية»[52]. ولذلك يجب على المرء ألَّا يبقى متغافلًا عن مسألة التقنيات، ذلك أن التقنيات تهدد بتدمير الصورة البشرية وحتى العالم المادي في القرن العشرين.

 ينبهنا برديائيف إلى خطورة عصر الحداثة الذي سعى للسيطرة حصريًا على الحياة، وفي مقدمتها التقنيات، ولهذا علينا أن ندرك أن هناك تطورًا خبيثًا في الحداثة حيث تتطلع القوى الجماعية (الجماهير) بواسطة الاقتصاد والتقنيات لتزويد البشر بالسعادة التامة والرفاهية، وكانت النتيجة عكسيةً من حيث وقوع الإنسان في شباك التشيؤ والعزلة داخل مجتمعه. ولهذا يعد برديائيف التقنيات المشكلة الأكثر أهميّةً في الحداثة التي ستسود البشرية ما لم يعالج البشر تطورها الخبيث ويكثفوا علاقتهم الروحية بالكون.

ولذلك كان أحد التشخيصات النهائية لنقد برديائيف للتقنيات ينطوي على أن ثقة البشرية الحديثة في غير محلها، لأن الولاء للعلم والتكنوقراطية والتي أصبحت تمثل «طبقة حاكمة جديدة*»[53]. ليس هذا فحسب، بل إن التقنيات تأتي لتحلّ محلّ المعجزات، حيث أرادت الإنسانية دائمًا أن تكون في تحدٍّ دائمٍ لله، ولهذا رد برديائيف حادثة المحرقة ومساوئ التقنية لعدم وجود القيم الروحية، لا سيما القيم الشخصية المسيحية، حيث لم يكن لدى أوروبا الحديثة -قبل وأثناء المحرقة- أساسٌ للقيم المناسبة التي يمكن بها أن تتنافس بنجاحٍ على هجمة النازية والدول الشمولية، فلم يكن لديها إلا الأيديولوجيات العلمانية المعادية للكرامة الإنسانية»[54] في الوقت الذي لا يسمح به الإيمان المسيحي الأصيل لمثل هذا التمجيد الوثني للعرق والتراب والدولة.

ولهذا أكد برديائيف -متأثراً بالفيلسوف الوجودي بول تيليش- أن المسيحية في الأساس على خلافٍ مع الخصوصيّة من العنصرية والقومية، حيث يرى أن المسيحية «تتبنى المساواة والتوسع العالمي الأخلاقي من خلال تعبيرها الأصيل عن الحب واحترام العدالة والحرية»[55]، وعلى الرغم من ذلك -كما يعترف برديائيف- حدث في الواقع وبكلّ سهولةٍ «تشويهٌ» تاريخيٌّ للمسيحيّة في الحضارة الغربية، وهذا التشويه هو الذي ساهم في نجاح النازية»[56]، لذا يحذر بأن وصول التقنيات يعرض البشرية لتحدياتٍ غير مسبوقةٍ، وفرصةٍ لصحوةٍ روحيّةٍ من أجل تكثيف العلاقة الإيجابية الكاملة بين البشر والطبيعة، لتتم المصالحة بين الله والكون، وبالتالي فإن المغزى النهائي للعصر التقني هو انفتاحه على الحساب الروحي الجديد مع الواقع نفسه، خاصةً بالنظر إلى إخفاق الأيديولوجيات السابقة في دعم البشرية [57].

وحتى تتمكن البشرية من استعادة السيطرة على مستقبلها، فعليها استعادة الأولويات الروحية، لذلك نبه برديائيف إلى ضرورة خروج الشخصية من السقوط داخل متاهات الحداثة والتطور التقني. ومن أجل أن تصبح الحياة الإنسانية هدفًا ذا دلالةٍ دينيةٍ، فإن على الإنسان ضرورة الاتصال الروحي، والذي بدوره كما يراه برديائيف يقتضي المشاركة المتبادلة، والاندماج المتبادل بين الأنا والأنت، ولن يتم الاندماج والمشاركة بين الأنا والأنت إلا من خلال الله الذي يكون من خلاله الاتصال الروحي «داعمًا على رفع التقابل بين الواحد والمتعدد، بين الجزئي والكلي»[58].

 إن أيّ حلٍّ خارج النطاق الروحي –في ما يرى برديائيف- سينتهي بالإخفاق، لذلك يعترض برديائيف على المفكر الروسي الكبير تولستوي، الذي رأى أن معالجة ذلك الخلل يكون من خلال الرجوع لحقبة ما قبل الحداثة، للرومانسية، في محاولةٍ لمواجهة مسيرة العلم والتقنيات المتقدمة. ويحلل برديائيف ذلك بأن الرومانسية «كانت تدبيًرا مؤقتًاعقيمًا للعودة بشكلٍ غير واقعيٍّ إلى الماضي المفقود، وبالتالي فهي محاولةٌ غير كافيةٍ لمعالجة مشكلة التقنيات»[59]. وعلى غرار ديستوفسكي، الذي قدم العديد من الرؤى الثاقبة والتي كان لها أكبر الأثر على برديائيف، يعتقد برديائيف أن سعي البشرية لهمينة التقنيات والاقتصاد من أجل الرفاهية التامة سيؤدي فقط إلى الاستعباد الذاتي للإنسان. ولهذا يذكر القول المأثور لدوستوفسكي في هذا الأمر أنه «عندما يتخلى البشر عن الله، فإنهم  يتخلون عن ذواتهم و يخونون أنفسهم»[60]. كذلك يتفق برديائيف مع ديستوفسكي بأن النزعة الإنسانية المضللة كانت من المحتم أن تؤدي إلى استعباد البشرية ذاتياً، ولن يصحح هذا الوضع إلا من خلال الصورة المستعادة لله في الإنسانية، فهي فقط تستطيع تصحيح هذا الوضع، فالله هو الذي يعطي الحرية والكرامة للوجود الإنساني.

لذلك أكد برديائيف على أن «تكثيف الروحانية» هو الوحيد الذي يُخضع بشكلٍ كافٍ أهداف التكنولوجيا لغايات الروح والإنسانية؛ لذا يجب تقدير العلم، وفي الوقت نفسه علينا رفض العلمانية الوثنية.

إن المتتبع لفلسفة برديائيف يجد أنّ هناك نظرةً تشاؤميّةً متغلغلةً في معظم فلسفته بسبب مساوئ التقنية، ما قد يصيب القارئ باليأس في ما يتعلق بالنتيجة النهائية للحضارة الغربية، ومع ذلك نجد أن برديائيف لا يزال قادرًا على الحفاظ على الأمل في المستقبل، وهذا الأمل لا يستتبع شيئا أقل «من الروحانية الكاملة للحياة»[61]، حيث توقع برديائيف تحويل روح الإبداع التقني إلى حقبةٍ روحيةٍ تستخدم العلم فقط لتحقيق غاياتٍ بشريّةٍ بنّاءةٍ.

ولذلك فإن القراء المطلعين على كتابات برديائيف سيعرفون أنه شخصٌ يمتلك الأمل الدائم المرتكز على قناعةٍ لاهوتيّةٍ بانتصار الخير على الشر. وبالتالي، لا يصل برديائيف إلى تقييمٍ سلبيٍّ تمامًا للإنسانيّة الحديثة واستخدامها للتقنيات، حيث يقدم الأمل، في تحقيق نتيجةٍ إيجابيةٍ للإنسانيةٍ الغربية التي تعتمد على العمل الإنساني المدروس والمسؤول واتخاذ القرارات، وتحديداً في إخضاع المصالح الفنيّة للغايات الروحية والقيم.

------------------------------------------
[1]*ـ  أستاذة فلسفة الدين- جامعة عين شمس- جمهورية مصر العربية.
[2]2-Nicolas Berdyaev , “Man and Machine.” In Philosophy and Technology: Readings in the Philosophical Problems of Technology. Edited by Carl Mitcham and Robert Mackey. New York: The Free Press, 1972, p–13.
[3] - Ibid: p13
[4] نيقولاي برديائيف: العزلة والمجتمع، ترجمة فؤاد كامل، دار النهضة المصرية، سلسلة الألف كتاب، العدد 289 (بدون تاريخ ) ص100.
[5] المرجع السابق: ص10.
[6] المرجع السابق: ص106 .
[7] Nicolas Berdyaev, Slavery and Freedom, trans. R. M. French (New York:
Charles Scribner’s Sons, 1944), p25.
[8]8- Ibid, p27
[9]9- Nicolas Berdyaev/ The Meaning Of The Creative Act. (London: Victor Gollancz Ltd., 1955) p. 60
[10] Nicolas Berdyaev, Slavery and Freedom, p21
[11] - Ibid ,p49
[12] - Ibid , 44
[13]- Ibid, p21
[14](- Berdyaev, “The Problem of Man,” http://www.berdyaev.com/ berdiaev/berd_lib/1936_408.html (16 July 2014).
[15]- برديائيف: العزلة والمجتمع، ص233
[16] ثنائية الأنا والأنت عند بوبر هي المعبرة عن مختلف أشكال الوعي والتفاعل والوجود التي يتعامل الفرد من خلالهاا مع الآخرين، سواء كانوا بشرًا أو شيئاً آخر. فمن خلال هذا الثنائي الفلسفي (أي « أنا–أنت»)، يتطرق بوبر إلى المنظور المعقد لوجود الإنسان أي لوجوديته». فالشخص،كما يعبر عنه بوبر، يتفاعل دومًا، وبطرق شتى، مع العالم المحيط؛ لذا فإن « أنا–أنت» هي تلك العلاقة التي تؤكد ما هومتبادلٌ وكلانيٌّ.
[17]- Berdyaev, “The Problem of Man,” http://www.berdyaev.com/ berdiaev/berd_lib/1936_408.html (16 July 2014).
[18] - Ibid .
[19]- Berdyaev, Slavery and Freedom, p, 139
[20]21 – يعقوب بوهمة وأحياناً بالإنجليزية بوهم، فيلسوف ومتصوف ألماني كان له أكبر الأثر على هيغل الذي كان متصوفاً في شبابه تستهوية فكرة الفناء في الله
[21] - هو صراع النور والظلام من أجل الحرية، ويرى بوهمة أن داخل الله نفسه يوجد مبدأ للظلام،هذا الظلام ليس هو الشر ولكن المعارضة مثلما يعارض الابن أبيه مع وجود المحبة بينهما، ولذلك فالنور الإلهي لا يمكن أن ينكشف إلا من خلال معارضة الآخر، وقد تأثر هيجل تأثرًا كبيراً بفلسفة بوهمة وحاول أن يقدم فلسفة إنسانية جوهرها أنه وسط الظلام يجب أن يوقظ النور وهذا هو نفسه ما أخذه بيرديائيف عن بوهمة
[22] - Nicolas Berdyaev, Slavery and Freedom,p 66
[23] - Ibid , p. 10.
[24] - Ibid, p. 25
[25] - Ibid, p ,48
[26] ويشرح بيردياييف الحب كما جاء في المصطلحات اليونانية من خلال الحب (agape) و الحب (Erose).
فإذا كان الحب إيروس هو الحب العاطفي وحب الجمال والفن، فإن الحب "أغاب" هو التضحية، تضحية الروح التي تغرق في عالم المعاناة، في العالم الذي تعذب فيه وإذا كان الإيروس يسعى إلى القيم المثالية في الفن والفلسفة فإن الأغاب يسعى نحو الجار الذي يعاني وبحاجة إلى مساعدته، ولذلك كان.
[27]_  Berdyaev: The Fate of Man in the Modern World. Ann Arbor, Michigan: The University of Michigan Press,p 102.
[28]-Nicolas Berdyaev, Freedom and the Spirit, trans. Oliver Fielding Clarke , London: Nicolas Berdyaev, Geoffrey Bles, 1935, p. 101.
[29] - Spirit and Reality. Translated by George Reavy. London: Geoffrey Bles: The Centenary Press,.1939,p,43
[30]  - bid , p, 71.
[31] - برديائيف: العزلة والمجتمع، ص233.
[32] - المرجع السابق: ص 233.
[33] - المرجع السابق: ص233.
[34] - المرجع السابق: ص 234.
[35] - Berdyaev: The Fate of Man in the Modern World. Ann Arbor, Michigan: The University of Michigan Press, 1961, p. 83.
[36]- Ibid, p, 169.
[37] - Ibid, p, 169
[38] برديائف: العزلة والمجتمع، ص ن.
[39] المرجع السابق: ص ن.
[40]- Berdyaev: The Fate of Man in the Modern World.p162.
[41]- Berdyaev, The human being and the machine. Questions Philos. 1989, p, 162.
[42]- Ibid , 162.
[43]- بردييائف: العزلة والمجتمع.
[44]- - برديائيف: العزلة والمجتمع، ص182.
[45] - المرجع السابق: ص، 182
[46] العزلة والمجتمع ص181.
[47] -Berdyaev: The Fate of Man in the Modern World.,p108.
[48]- Ibid, p, 108.
[49] - Berdyaev: The Fate of Man in the Modern World ,p 83.
[50]- Ibid , p 94.
[51]-Ibid,p, 102.
[52]- Ibid, p. 49.
[53]* هذا ما ذهب إليه جاك أيلول في كتابه "خدعة التكنولوجيا" متأثرا بما ذهب إليه برديائف.
 - جاك إيلول: خدعة التكنولوجيا، ترجمة فاطمة نصر، دار سطور، ضمن سلسلة القراءة للجميع، الهيئة المصرية العامة للكتاب،، 2004،ص، 32.
[54]- Berdyaev: The Fate of Man in the Modern world ,p 182.
[55]- Ibid ,p. 102.
[56] -Ibid, p. 122.
[57]- Berdyaev , the Realm of Spirit and the Realm of Caesar. London: Victor Gollancz, 1952. P, 56.
[58] برديائف: العزلة والمجتمع، ص 234.
[59] - Ibid , p. 49.
[60]-Ibid , p. 49.
[61]- Berdyaev , Realm of Spirit, p. 56.