البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

معضلة التقدم العلمي ، حداثة الغرب في متاهات التقنية

الباحث :  فاطمة إسماعيل
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  15
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2019 م / 1440 هـ
تاريخ إضافة البحث :  May / 7 / 2019
عدد زيارات البحث :  1566
تحميل  ( 431.345 KB )
يُعدّ الجانب المنهجي أهمّ مقوّم من مقومات التقدم العلمي، والأداة الرئيسة في تحوّل المعرفة، لذلك كانت الميثودولوجيا موضوع فلسفة العلم المعاصرة.
مسعى هذا البحث الذي تقدّمه أستاذة فلسفة العلوم في جامعة عين شمس-مصر الدكتورة فاطمة إسماعيل، مقاربة ميثودولوجيا تقاليد البحث عند كلٍّ من لودان وكون ولاكاتوش، التي تضيء بشكلٍ مباشرٍ على سيرورة التقدم العلمي التاريخيّة. كما يتطرّق بصورةٍ أساسيّةٍ إلى النقود الموجّهة لنظريّة النماذج العلميّة، ونظريّة برامج البحث، والفكرة النسبويّة عن التغيّر العلمي.

المحرّر  

-------------------------------------
 في ظل التحولات العميقة والواسعة النطاق التي أحدثتها تكنولوجيات المعلومات والاتصالات، تشق الفلسفة طريقاً جديداً يتماشى مع الانفجار المعلوماتي وأثره على واقعنا الإنساني، وهو ما يجعلنا أمام حاجةٍ ماسةٍ إلى فلسفةٍ جديدةٍ لاستيعاب طبيعة المعلومات ذاتها على نحوٍ أفضل ومعالجة القصور المفاهيمي الكبير، والأثر الأخلاقي لتكنولوجيات المعلومات والاتصالات علينا وعلى بيئتنا- كما يقول لوتشيانو فلوديدي صاحب كتاب الثورة الرابعة، كيف يعيد الغلاف المعلوماتي تشكيل الواقع الإنساني؟- نحن في حاجةٍ إلى الفلسفة لتحسين الديناميات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمعلومات. نحن في حاجةٍ إلى فلسفةٍ لبناء الإطار الفكري المناسب الذي يمكن أن يساعدنا على إدراك الدلالات (semanticize) (إعطاء معنًى وإيجاد منطقٍ) لمأزقنا الجديد. باختصارٍ، نحن في حاجةٍ إلى فلسفة المعلومات بوصفها فلسفةً تخص عصرنا، من أجل عصرنا.

 لذلك جاءت هذه الدراسة حول مشكلة التقدم العلمي، التي تعدّ من المشكلات التي فرضها عصر العلم والتقدم العلمي على فلسفة العلم المعاصرة. فكان الحديث عن مناهج العلم والمشاكل التي تعرضت لها نقطةً مركزيّةً لبناء فلسفةٍ تستوعب الانفجار المعلوماتي، وأثره على واقع الإنسان المعاصر.

  إنّ الحديث عن مشكلة التقدم العلمي يعني الحديث عن فلسفة التقدم العلمي، وكما يقول د. نجيب الحصادي: «لو لم تكن هناك إشكالياتٌ يعجز نهج العلم الطبيعي عن حسمها، وعلى تعلقها باقتدار نهجه على التبليغ إلى ما يستهدف من غايات، لما كانت هناك حاجةٌ لفلسفةٍ تُعنى بهذا الضرب من الأنشطة البشرية، ما يعني أن قيامها رهنٌ بعجزه. ولو لم تكن هناك فلسفةٌ للعلم الطبيعي تُعنى بتقويم قدرات نهج العلم الطبيعي المعرفي، لما أفاد القائمون عليه من الرؤى الفلسفية التي أسهمت في تحديد معالمه، وتسويغ أصوله، ما يعني أن شرعيّته رهنٌ بقيامها»([2]).

ميثودولوجيا تقاليد البحث

إنّ لودان، مثله مثل كون، ولاكاتوش، لا يتعامل مع نظرياتٍ مفردةٍ، بل يتعامل مع مركّبٍ من نظرياتٍ يطلق عليه «تقليد البحث».

يوضح لنا لودان، ما هو تقليد البحث؟ وما هي مكوناته، ووظيفته، وما يحدث له من تعديلاتٍ إذا تطلب الأمر، وكيف نُميِّز بين تعديلٍ يحدث في تقليد البحث وبين استبداله بآخر؛ فيقول:«إن تقليد البحث هو مجموعة افتراضاتٍ عن أنواعٍ أساسيةٍ لكياناتٍ موجودةٍ في العالم، وهي افتراضاتٌ تبين كيف تتفاعل هذه الكائنات، كما أنّها افتراضاتٌ عن المناهج المناسبة المستخدمة لتكوين نظرياتٍ عن تلك الكيانات وطرق اختبارها. وخلال مسيرة تطورها، تواجه تقاليد البحث والنظريات الراعيّة لها عدداً من المشكلات، ويتمّ اكتشاف حالات شذوذٍ، كما تظهر مشكلاتٌ تصوريةٌ أساسيةٌ، وفي بعض الحالات، عندما يقوم المؤيدون لتقليد البحث بتعديل نظرياتٍ معينةٍ ضمن التقليد، فيجدوا أنفسهم عاجزين عن استبعاد تلك المشكلات الشاذة والتصورية. وفي مثل هذه الظروف، من الشائع بالنسبة لأتباع تقليد البحث أن يكتشفوا ما هي أنواع التغيرات (الحدّ الأدنى) التي يمكن أن يتمّ عملها في المستوى العميق لميثودولوجيا ذلك التقليد أو للأنطولوجيا الخاصة به لاستبعاد حالات الشذوذ والمشكلات التصورية التي تواجه نظرياته الأساسية المكوّنة له. وأحياناً، يجد العلماء أنّ أيّ تحسينٍ لافتراضٍ أو لآخر في تقليد البحث لا يؤدي إلى استبعاد حالاته الشاذة أو مشكلاته التصورية، ما يشكّل أسساً قويّةً للتخلي عن تقليد البحث (بشرط توفر البديل). لكن، ربما يجد العلماء غالباً أنه بتقديم تعديل أو تعديلين في الافتراضات الجوهرية التي تمثل صلب تقليد البحث، يمكنهم حلّ كلّ من حالات الشذوذ البارزة والمشكلات التصورية وكذلك يمكنهم الاحتفاظ ببراعة بمعظم افتراضات تقليد البحث»[3].

من الواضح جداً تأثير كل من كون ولاكاتوش معاً على لاري لودان، لكن ذلك لا يمنع اختلافه عنهما. إنه - خلافاً لـ لاكاتوش- يسمح بتعديل تقليد البحث على المستوى العميق، أي يمكن أن يتم التعديل في صلب تقليد البحث، وهو أمرٌ لا يسمح به لاكاتوش، غير أنّه يتفق معه في أن وجود تقاليد البحث (أو إن شئت برامج البحث) هو القاعدة لا الاستثناء – وذلك خلافاً لـ كون-، كما أنّه يتفق مع لاكاتوش في أنّ التقدم في العلم يتم بالنمو التدريجي لا بالثورة الانقلابية-خلافاً لـ كون. كما أتت هناك بعض الاختلافات سنشير إليها تباعا.

التقدم والعقلانية العلمية

إنّ أحد أكثر المسائل الشائكة في فلسفة القرن العشرين هو ما يتعلق بطبيعة العقلانيّة، حيث يقترح بعض الفلاسفة تفسيراتٍ مختلفةً للعقلانية، جميعها لا يخلو من الصعوبات الفلسفيّة والمنطقيّة. ويرى لودان أنّه من السهل نسبيًّا أن نوضح أنّ تاريخ العلم يشتمل على حالاتٍ هائلةٍ -حالات يكاد يتفق فيها كلٌّ منّا حدسيًّا على تحليلها العقلاني- ومع ذلك فهي مضادة لكل نماذج العقلانية المعروفة([4]).

يرى لودان أنّ نظريّة تقاليد البحث والتقدم التي يقدمها تُشكّل تطوراً جوهريًّا في نظريات العقلانيّة الآن باللغة المشتركة بين الفلاسفة (إن كان ما يُقصد بالتطور تقديم تفسير أكثر دقة للعوامل المعرفية الموجودة في الحالات الفعلية لاتخاذ القرار العلمي)([5]).

 يوضح أنّ هناك حالاتٍ تاريخيةً مهمّةً حيث:
(1) استشهد العلماء بما أسموه مشكلاتٍ شاذةً «غيرَ مفنّدةٍ» على أنها اعتراضاتٌ خطيرةٌ على النظريات.
(2) اهتم العلماء بتوضيح المفاهيم وتقليص أنواعٍ أخرى من المشكلات التصوريّة. 
(3) قام العلماء بمتابعة نظرياتٍ واعدةٍ (أي عالية التقدم) و دراستها، حتى وإن كانت هذه النظريات أقل كفاءة من النظريات المنافسة لها.
(4) انتفع العلماء بحججٍ ميتافيزيقيةٍ وميثودولوجيةٍ مُعارضةٍ للنظريات العلمية ولتقاليد البحث، كما انتفعوا أيضا بتلك التي تدعمها.
(5) وافق العلماء على نظريات واجهتها العديد من حالات الشذوذ.
(6) لقد أظهرت أهمية مشكلة ما، وحتى وضعها كمشكلةٍ، تقلباتٍ جامحةً.
(7) وافق العلماء على نظريات  لم تحلّ  كل المشكلات الإمبيريقية التي حلتها النظريات التي سبقتها.

 يزعم لودان أنه على الرغم من أنّ الحالات المعروضة من (1) إلى (7) لم يتم تأسيسها بشكلٍ جيدٍ عقليًّا ومعرفيًّا، إلا أنّ النموذج الذي طوّره يسمح بتحديد الظروف التي يمكن فيها تبريرها عقلانيًّا. كما يعتقد أن أيّ نموذجٍ آخر موجود عن النمو العلمي والتقدم لا يمكنه تقديم زعمٍ مماثلٍ لهذا الذي يقدمه([6]).

لقد حاول لودان –من خلال كتابه التقدم ومشكلاته- إثبات أن أعم الأهداف المعرفية في العلم هو حلّ مشكلة ما، كما زعم أن حلّ أقصى حدّ من المشكلات الإمبيريقية، وكذلك إحداث أدنى حدّ من المشكلات الشاذة والتصوريّة التي يمكن أن نوّلدها في عمليّة الحلّ يمثل المبرر لاعتبار العلم نشاطاً معرفيًّا، كما زعم أنّ أيَّ تقليدِ بحثٍ يستطيع أن يُمثّل هذه العملية عبر الزمن يكون تقليد بحث تقدميًّا، وينتج عن هذا أن الطريقة الأساسية المثلى ليكون التقليد معقولاً أومنطقيًّا من الناحية العلميّة هو أن يقوم بكلّ ما يمكن أن يقوم به لتعظيم قيمة تقدم البحث العلمي. و يزعم أنّ العقلانيّة تكمن في قبول أفضل تقاليد البحث المتاحة. كما يؤكد النموذج أنّ أيَّ تقييمِ عقلانيّةِ قبولٍ، أيّ نظريّةٍ أو تقليدِ بحثٍ معيّنٍ هو تقييمٌ ثلاثيُّ العلاقة: فهو متصلٌ بالنظريات وتقاليد البحث المنافسة والمعاصرة له، ومتصلٌ بالمباديء السائدة  لتقييم النظرية، وبالنظريات السابقة في إطار تقليد البحث ذاته([7]).

وكما يرفض لودان أن يكون الصدق هدفاً أسمى للعلم، يرفض أيضاً أن يتمّ النظر إلى التقدم على أنه البلوغ التدريجي للصدق عبر عمليّة الاقتراب من الصدق والتصحيح الذاتي. بل يقلب الرأي المعتاد رأساً على عقبٍ حيث يجعل العقلانيّة متطفلةً على التقدم. الأمر الذي جعل د. يمنى طريف الخولي تعتبر أن موقف لاري لودان هذا يعدُّ خطوةً ثوريّةً انقلابيّةً، حين جعل العقلانيّة متعلقةً بإمكان التقدم، بل متطفلة عليها، والاختيار العقلاني هو الاختيار التقدمي([8]). وبناءً على هذا الرأي، كما يقول  لودان:»عندما نتخذ خياراتٍ عقلانيّةً يعني أننا نتخذ خياراتٍ تقدميّةً (أي، خياراتٍ تزيد فاعليّة حلّ المشكلات التي تواجه النظريات التي نقبلها). وبهذه العلاقة بين العقلانية والتقدميّة، أقترح أنه من الممكن أن يكون لدينا نظريةٌ عن العقلانية  دون أن نفترض أيّ شيءٍ بشأن صدق النظريات أو احتمال صدقها كي نحكم عليها بأنّها عقلانيّةٌ أو لا عقلانية»([9]).

لكن لودان يتوقع أن  يرى البعض أن الثمن الذي يجب دفعه مقابل هذا المنظور مرتفعٌ للغاية، لأنّه يستلزم أن نجد أنفسنا نؤيد نظرياتٍ بوصفها تقدّميّةً أو عقلانيّةً، ويتضح في النهاية أنّها كاذبةٌ، (مع التسليم بأنّنا بالطبع لم نتمكن يقيناً من إثبات أيٍّ من هذه النظريات كانت كاذبة). لكن لودان يرى أنه ليس ثمة داع للقلق من هذه النتيجة، لأن معظم نظريات العلم السابقة كان يشتبه بالفعل في أنها كاذبةٌ. بل من المفترض أن نتوقع أن النظريات العلميّة الحاليّة سوف تعاني من مصيرٍ مماثلٍ. لكن مع ذلك فإنّ افتراض كذب النظريات العلميّة وتقاليد البحث لا يجعل العلم لاعقلانيًّا أو غير تقدميٍّ.([10])

كيف يبدو العلم مشروعاً جديراً ومهماً من الناحية العقلية، حتى مع التسليم بأنّ كلّ نظريّةٍ للعلم قد تكون كاذبةً؟

مع لودان لقد أصبح الاحتفاظ بالعلاقات الكلاسيكية بين التقدم والعقلانية والصدق مرفوضاً بالضرورة رفضاً قاطعاً، لأنّه أصبح يرى أنه في موقفٍ يجعله قادراً على اتخاذ قرارٍ عمّا إذا كان العلم يُعدّ عقلانيًّا وتقدميًّا أم لا([11]).

   كيف يمكن اتخاذ هذا القرار بدقةٍ؟

إنه يتضمن حتماً، كما يقول: تقييم الحالات النوعيّة المستمدة من تاريخ العلم، وعما إذا كان العلم ككلٍّ يُعدّ عقلانيًّا و تقدميًّا فذلك يعتمد بالطبع على ما إذا كانت مجموعة الاختيارات الخاصة بالنظريات وتقاليد البحث قد أظهرت التقدم والعقلانية أم لا. لذا، قد نتساءل، عما إذا كان ردّ فعل المجتمع العلمي على بحث آينشتاين عن الظاهرة الكهروضوئيّة قد أدى إلى تعديلٍ تقدميٍّ في النظريات الفيزيائية أم لا؟ وعند مستوًى آخرَ، قد نتساءل عما إذا كان الانتصار العام الذي حققه تقليد بحث نيوتن على تقاليد البحث الديكارتيّة وعلى تقاليد بحث ليبنتز في القرن الثامن عشر، قد  نتساءل عمّا إذا كان تقدميًّا أم لا؟

للإجابة عن مثل هذه الأسئلة، يؤكد لودان على ضرورة أن نصغي بعنايةٍ شديدةٍ لمعايير (براميترات:parameters) النقاش والجدال العلمي للعصر الذي نتحدث عنه، حيث يمكن للمؤرخ أن يكتشف فيه تحديداً ما هي المشكلات الإمبيريقية والتصوريّة التي كان معترفاً بها. عندئذ يمكنه الوصول إلى معنىً معقولٍ وواضحٍ عن ثِقل أو أهميّة هذه المشكلات. وعن طريق التحليل الدقيق للحالة الفعليّة (لا عن طريق ما يُطلق عليه إعادة بنائها العقلاني، في إشارةٍ منه إلى لاكاتوش) يمكن للمؤرخ- أو العالِم المعاصر- كما يقول لودان أن يُحدّد عادة الدرجة التي على أساسها كانت تقاليد البحث المتنافسة، أو النظريات المتنافسة في إطار تقليد البحث ذاته، تقدميّةً في تُعديلاتها([12]).

 والشيء المهم الذي يؤكد عليه لودان هنا هو أنّه يجب أن نوسِّع من شبكات التقييم بدرجةٍ كافيةٍ لتشمل كلّ العوامل ذات الصلة معرفيًّا والتي كانت موجودةً بالفعل في الموقف التاريخي. ولا يجب أن نفترض مسبقاً، كما فعل بعض مؤرخي العلم، أنّ المعايير (البراميترات) المهمة فقط  كانت تجريبيّةً أو بشكلٍ أوضح كانت «علمية». ولأنه ينبغي دمج النظريات وتقاليد البحث في إطار شبكةٍ أوسع من الاعتقادات والتصورات المسبقة، كان على أيّ تقييمٍ دقيقٍ لحدثٍ تاريخيٍّ ما أن يهتمّ بعنايةٍ بالتيارات الفلسفيّة، واللاهوتيّة، والتيارات الفكرية الأخرى التي تؤثر على الحالة قيد البحث([13]).

كما يُؤكد النموذج أنه عندما يتبنى العلماء في أيّ ثقافةٍ تقليدَ بحثٍ أو نظريّةٍ ما تكون أقلّ كفاءة في حلّ المشكلات مقارنةً بغيرها المتاح في الثقافة نفسها، فذلك يُعدّ سلوكاً لاعقلانيًّا. وبهذه الجوانب المهمة، يرى لودان أنّ النموذج الذي يقدّمه يثبت أنّ هناك بعض الخصائص العامة لأيّ نظريّةٍ عن العقلانية، خصائص تتجاوز ما هو زمانيٌّ، و ما هو ثقافيٌّ، ويمكن تطبيقها على فكر ما قبل سقراط، أو على تطور الأفكار في العصور الوسطى، و كذلك على تاريخ العلم الأكثر حداثةً. ومن ناحيةٍ أخرى، يُؤكد أيضاً على أن ما يُعدّ عقلانيًّا بصفةٍ خاصةٍ في الماضي يكون إلى حدٍّ ما دالةً على الزمان والمكان والسياق، كما أن أنواع الأشياء التي يتمّ اعتبارها مشكلاتٍ إمبيريقية، وأنماط الاعتراضات التي يتمّ الاعتراف بأنّها مشكلاتٌ تصوريةٌ، إلى جانب معايير الوضوح، ومقاييس التحكم التجريبي، والأهمية أو الوزن المُحَدِّد للمشكلات، جميعها تمثل دالةً على الاعتقادات المنهجيّة المعياريّة لمجتمع المفكرين على وجه التحديد.([14])

وإذا كان التقدم يتمحور حول نوع العلاقة بين السابق واللاحق بالنسبة للنظريات العلمية، فإنّ التقدّم -في نظر لودان- يمكن أن يحدث فقط إذا كان تعاقب النظريات العلمية في أيّ مجالٍ يوضح درجة تزايد فعاليّة حلّ مشكلةٍ ما، وهنا يمركز لودان فكرة التقدم على مواقف معيّنةٍ أكثر من امتداداتها الزمنيّة، ما يجعله يربط التقدم بتغيير نظريّةٍ ما أو تعديلها أو حتى إحلال نظريّةٍ جديدةٍ محلّها.

 لكن متى يكون التغيير أو التعديل تقدّمًا؟

كي نعتبر التغيير أو التعديل تقدُّماً، فذلك يعتمد على كفاءة النظريّة وفعاليّتها في حلّ مشكلةٍ ما مقارنةً بسابقتها، أو منافستها، يقول:» يمكن أن نقول في أيّ وقتٍ أنّنا نُعدِّل نظريّةً ما أو نستبدل بها أخرى، ويُعدّ ذلك التغيير تقدميًّا فحسب إذا كانت النسخة الأخيرة أكثر كفاءةً وفعاليّةً في حلّ المشكلة من سابقتها([15]).

لكن هل يقتصر التقدم على ذلك فحسب؟ أعني، هل هناك طرقٌ أخرى للتقدم؟

توجد طرقٌ عديدةٌ يمكن أن يتحقق بها التقدم. يمكن تحقيقه ببساطةٍ عن طريق توسيع مجال المشكلات الإمبيريقيّة المحلّولة في ظلّ ثبات كافة موّجِهات التقييم الأخرى. وفي مثل تلك الحالة، يمثل إحلال T2 محلّ T1 (التي تحلّ مزيداً من المشكلات الإمبيريقية) عملاً تقدميًّا بوضوح. ويمكن أن يتحقق التقدم كذلك نتيجةً لتعديل النظريّة التي تستبعد بعض حالات الشذوذ الصعبة أو التي تحلّ بعض المشكلات التصوريّة. وبالطبع، غالباً ما يحدث التقدم كنتيجةٍ لكافة المتغيرات المتحولة بإحكامٍ والمتصلة بالموضوع[16].

وفي موضعٍ آخرَ يوضح ما أثبتته الدراسات التاريخيّة من ملامح التغيّر العلمي والعقلانية في عملية التقدم في العلم فيقول:[17]

لقد أوضحت دراسات التطور التاريخي للعلم أنّ أيّ نموذجٍ معياريٍّ للعقلانيّة العلميّة لا بدّ أن يشتمل على مصادر تبين أن العلم كان مشروعاً عقلانيًّا واسع النطاق يصل إلى مصطلحاتٍ ذات ملامحَ دائمةٍ معينةٍ للتغير العلمي. ويستنتج لودان من الأدلة التاريخية ما يلي:

(1) تحولات النظرية ليست تراكميّةً بصفةٍ عامةٍ، أي لا يمكن الاحتفاظ تماماً بالمحتوى المنطقي أو الإمبيريقي (أو حتى «النتائج المؤيدة») للنظريات السابقة وذلك عندما تقوم نظرياتٌ أحدث بإزاحة تلك النظريات السابقة لتحلّ محلّها.

(2) لا يتم بصفةٍ عامةٍ رفض النظريات ببساطةٍ لأنّها تنطوي على حالاتٍ شاذّةٍ، كما لا يتم بصفةٍ عامةٍ قبولها ببساطةٍ لأنّها مؤيّدةٌ إمبيريقيّاً.

(3) التغيرات في النظريات العلمية والمناقشات التي تصاحبها غالباً ما تدور بشأن المسائل التصورية (المتعلقة بالمفاهيم)، أكثر مما تدور بشأن مسائل الدعم الإمبيريقي.

(4) مبادئ العقلانية العلمية النوعيّة و«المحلّية» التي ينتفع بها العلماء في تقييم النظريات ليست ثابتةً بشكلٍ دائمٍ، وإنما قد تتغير بشكلٍ كبيرٍ عبر مسيرة العلم.

(5) هناك نطاقٌ واسعٌ من المواقف العقليّة المعرفيّة التي يتبناها العلماء تجاه النظريات يشتمل على القبول، والرفض، والمتابعة، والترحيب. وأيّ نظريّةٍ للعقلانيّة تناقش فقط القبول والرفض لن تستطيع هي ذاتها أن تواجه الغالبية العظمي من المواقف التي تتحدى العلماء.

(6) يوجد نطاقٌ لمستويات عموميّة النظريات العلمية، وهو نطاقٌ يمتدّ من القوانين في أحد الأطراف حتى يصل إلى الأُطر المفاهيميّة الواسعة في الطرف الآخر. كما يبدو أن مبادئ اختبار النظريات ومقارنتها وتقييمها تتفاوت بشكلٍ مختلف الدلالة من مستوًى لآخرَ.

(7) من المعلوم أن الصعوبات الشهيرة المتعلقة بأفكار «الصدق التقريبي» –في كلٍّ من المستويات الدلالية  والمعرفية– تجعلنا لا نصدق أن السمات المميزة للتقدم العلمي تنظر للتطور على أنه يتجه إلى مثال الصدق الأعظم بوصفه هدفا مركزيا للعلم، ما يسمح لنا أن نتمثل العلم على أنّه نشاطٌ عقلانيٌّ.

(8)إنّ التواجد المشترك للنظريات المنافسة إنما هو القاعدة أكثر منه الاستثناء، ولذلك فإن تقييم النظرية هو في المقام الأول مسألةُ مقارنةٍ.

 إنّ التحدي الذي يظهره لودان هنا إنّما يعبر عمّا إذا كان يمكن أن توجد فلسفة علمٍ يمكنها أن تجد مكاناً لمعظم ملامح العلم التي ذكرها، أو لكلّها، أم لا.

غير أن لودان الذي  ينظر إلى نظرية كون (Kuhn) عن «النماذج» العلمية، ونظرية لاكاتوش عن «برامج البحث»، باعتبارهما من أفضل الجهود المعروفة التي تصدت لمشكلة التطور العلمي،  وتناولتا طبيعة تلك النظريات الأكثر عموميّةً (more general). لكن ذلك لم يمنعه من نقدهما كما يلي:

نقد لودان لنظرية «النماذج» العلمية عند كون :

على الرغم من أن لودان يتفق مع كون ولاكاتوش في القول بالنظريات الكبرى الأكثر عموميّة (البرادايم، برنامج البحث)، ويقول بـ «تقليد البحث»، إلا أنه يختلف معهما في كثيرٍ من النقاط، وفي المعالجة نفسها، وذلك يرجع إلى اختلاف  منطلقات كلٍّ منهم، أو بالأحرى اختلاف طبيعة الميثودولوجيا لدى كلٍّ منهم.

وفي ما يلي نلخص نقاط الضعف التي أخذها لودان على نموذج كون:

يبدأ لودان بنقد فكرة البراديم (أو النموذج الإرشادي) التي تشكل الدعامة الأساسية لنموذج التقدم العلمي عند كون، ويصفها بأنها مبهمةٌ، بل يصعب وصفها على نحوٍ دقيقٍ، وعلى الرغم  من أنها «طرقٌ للنظر إلى العالم»، إلا أنّها في رأي لودان تبصراتٌ شبهُ ميتافيزيقيّةٍ واسعةٌ، أو حدوسٌ عن كيفية تفسير ظاهرةٍ ما في مجالٍ معيّنٍ. وكلّ باراديم مؤسسٌ جيّداً يضمّ عدداً من النظريات الخاصة، كلٌّ منها يفترض مسبقاً عنصراً أو أكثر من عناصر الباراديم. غير أن أحد مزاعم كون بالغة التطرف -في نظر لودان- أنه في أيّ علمٍ «ناضج»، يقبل العلماء الباراديم  ذاته معظم الوقت، ويسود ما يعرف بـ «العلم السوي»، وفي هذه الفترة يعتبر العلماء الباراديم السائد غير قابلٍ للتغيّر (unalterable) ومستثنًى من النقد. لكن بالنسبة للنظريات الفردية الخاصة، التي تمثل جهوداً «للتعبير عن الباراديم»... من الممكن نقدها، وتكذيبها والتخلي عنها، لكن الباراديم نفسه لا يتم اختباره. إنّه يظل كذلك إلى أن تتراكم «حالات الشذوذ» بدرجةٍ كافيةٍ، ويأخذ لودان على كون أنّه «لم يوضح  إطلاقاً كيفيّة تحديد هذه الدرجة... لقد أطلق «كون» على هذه الفترة اسم فترة «الأزمة». وأثناء الأزمة، يبدأ العلماء ولأول مرةٍ في البحث الجاد عن نماذج بديلةٍ. فإذا أثبت أحد هذه النماذج البديلة أنه يشكل نجاحاً إمبيريقيًّا أكثر من الباراديم السابق، تقوم الثورة العلمية، ويُتوَّج باراديمٌ جديدُ، ومن ثم تبدأ فترةٌ أخرى لعلمٍ سويٍّ جديدٍ.([18])

بالطبع يؤكد لودان أنّ وجهة نظر كون تحتوي على أمورٍ كثيرةٍ ذات قيمةٍ عاليةٍ. فقد اعترف بفضله في القول بأنّ النظريات الكبيرة (maxi-theories) تحمل وظائف معرفيّة مختلفة موجهة ومساعدةً على الكشف (heuristic) مقارنةً بالنظريات الصغيرة (mini-theories). و قد يكون كون (Kuhn) أول مفكر يشدّد على تماسك وصلابة جودة النظريات الشاملة (global) حتى عند مواجهة حالات الشذوذ الخطيرة. كما أنه رفض خاصية التراكم في العلم المُسلّم بصحتها على نحو واسعٍ. لكن مع أن نموذج «كون» عن التقدم يضم الكثير من جوانب القوة، إلا أنه يعاني من بعض الصعوبات التصورية والإمبيريقية الحادة -من وجهة نظر  لودان- الذي يشير أيضا إلى النقد الشامل الذي قام به شابير (Shapere) لتفسير «كون» للبراديمات (للنماذج) ومساراتها، كما يشير إلى نقد فيرآبند وغيره ممن شدّدوا على الخطأ التاريخي في اشتراط «كون» بأن «العلم السوي» يمثل شأناً نموذجياً أو سوياً([19]).

لذا فمن أوجه الاختلاف بين لودان وكون؛ أن لودان يرى «أنّ كلّ حقبةٍ رئيسيّةٍ من تاريخ العلم تتميز بوجود أمرين: أولهما: الوجود المشترك (co-existence) للعديد من النماذج المتنافسة، دون أن يمارس أحدهما سيطرة على مجال التخصص، وثانيهما، وجود نمطٍ متواصلٍ ومستمرٍّ على أساسه تتمّ مناقشة الافتراضات الأساسيّة لكلّ باراديم داخل المجتمع العلمي. كما يتفق لودان مع العديد من النقاد الذين لاحظوا تعسفيّة نظريّة الأزمة عند كون، فكما يقول كون: إذا لم تسبب القليل من حالات الشذوذ أزمةً فإن «الكثير» منها هو الذي يحدث الأزمة، فيتساءل لودان: كيف يمكن لعالم أن يحدّد «درجة الأزمة»؟ [20]

 ويستمر لودان في ذكر ما يراه عيوبًا خطيرةً في نظرية كون وأكثرها أهمية ما يلي:

1- لقد أخفق كون في إدراك الدور المهم الذي تقوم به المشكلات التصورية في النقاش العلمي وفي تقييم الباراديم، على الرغم من أن كون يُسلِّم بوجود معايير عقلانيّةٍ لاختيار الباراديم أو لتقييم «تقدميته»؛ إلا أن هذه المعايير-في رأي لودان- تُعدّ وضعيةً تقليديةً مثل: هل تفسر النظرية وقائع أكثر من سابقتها؟ هل يمكنها حلّ بعض حالات الشذوذ الإمبيريقي التي عرضته النظرية السابقة؟ كما لم يجد لودان تمثيلاً جاداً في تحليل كون يبين أهمية الفكرة الكلية للمشكلات التصورية وعلاقتها بالتقدم.

2- من وجهة نظر لودان كون (Kuhn) لم يقدم حلًّا على الإطلاق للسؤال شديد الأهمية عن العلاقة بين الباراديم ونظرياته المقوِّمة له. فلم يوضح: هل يستلزم الباراديم نظرياته المقوّمة له، أم إنّه يُحدِّثها فحسب؟ وهل تلك النظريات تُبرر الباراديم  فور تطورها، أم إن الباراديم يُبرِّرها؟  لم يتضح حتى في دعوى «كون» ما إذا كان الباراديم يسبق نظرياته أو يظهر بعد تكّونها رغمًا عنها.

3- كما يرى لودان أنّ نماذج كون ذاتُ صرامةٍ في البنية ما يحول دون تطوُّرها عبر مسار الزمن، لتتجاوب مع حالات الضعف والحالات الشاذة التي تحدثها. علاوة على ذلك، لأن كون جعل الافتراضات الأساسية للبارادايم مستثناةً من النقد، فلا يمكن أن توجد علاقةٌ تصحيحيةٌ بين الباراديم والمعطيات. وبناءً على ذلك، من الصعب جداً أن تتفق صلابة النماذج عند كون مع الحقيقة التاريخية القائلة بأن كثيراً من النظريات الكبرى قد تطورت عبر الزمن.

4- تُعدّ نماذج كون أو «المنظومات البحثية» (disciplinary matrices) دائماً مُضمرةً أو مفهومةً ضمنيًّا، فلم تظهر أبداً بوضوحٍ تامٍّ. وكنتيجة لذلك، فمن الصعب أن نفهم كيف يستطيع أن يُفسِّر الكثير من الخلافات النظرية التي حدثت في تطور العلم، طالما أن العلماء يسلمون فحسب بمناقشة الافتراضات التي صيغت صريحةً على نحوٍ معقول.

5- وبما أن النماذج تُعدّ مضمرةً إلى حدٍّ بعيدٍ ويمكن تعريفها فحسب بالإشارة إلى «أمثلتها»، فينتج عن ذلك أنه كلما انتفع عالمان بهذه الأمثلة ذاتها، فإنهما -طبقًا لوجهة نظر «كون»- ملتزمان بالباراديم ذاته بطبيعة الحال. مثل هذا المنظور-في رأي لودان- يتجاهل الواقعة المستمرة والقائلة بأن العلماء المختلفين غالباً ما ينتفعون بالقوانين أو بالأمثلة ذاتها، ومع هذا يقبلون بآراءٍ مختلفةٍ جذرياً عن معظم المسائل الأساسية الخاصة بالأنطولوجيا والميثودولوجيا العلمية([21]).

6- كما يرفض لودان القول بأن الثورة العلمية (مع «تغير الباراديم» المصاحب لها) هي المقولة الأساسية لمناقشة تطور العلم.  ويرى أنه على الرغم من أن الثورات العلمية تمثل ظواهرَ تاريخيّةً مهمةً بلا شكٍّ، لكنها لا تملك الأهمية ولا السمة المعرفية التي ترتبط بها غالبا. لقد احتلت الثورات العلمية هذه المكانة المميزة حيث أسيء وصف تركيبها بطرقٍ تجعلها تبدو على خلافٍ جذريٍّ مع العلم في حالته المعتادة. وأدت المبالغة في التمييز بين «العلم الثوري» و«العلم السائد» ببعض الكُتَّاب إلى التأكيد بشدة على «فترات النشاط الثوري» بأكثرَ مما تستحقه([22]).

7- يؤكد لودان على نقطةٍ مهمةٍ -يختلف فيها أيضا مع كون- وهي أن وجود اثنين (أو أكثر) من تقاليد البحث في كلِّ مجالٍ من هذه المجالات يمثل القاعدة لا الاستثناء. بل من الصعب بالفعل أن نجد أيَّ فترةٍ زمنيةٍ (حتى بنظام العقد) يسود فيها تقليد بحث أو باراديمٌ واحدٌ فقط في أيِّ فرعٍ من فروع العلم([23]). ويختار لودان بعض الأمثلة التي استشهد بها «كون» نفسه، ليوضح مدى إخفاق تحليله([24])، وليثبت من خلالها أن التواجد المستمر لتقاليد البحث المتعارضة، هو الذي جعل التركيز على الحقب الثورية مضلّلاً للغاية. حيث تتطور هذه التقاليد باستمرار، وقد يتغير ثراؤها النسبي عبر الزمن، وفي الغالب قد تحل التقاليد الحديثة محل القديمة، لكن ليس من المفيد عامة تركيز الانتباه على بعض مراحل هذه العملية باعتبارها ثوريةً وعلى بعضها الآخر بوصفه تطوريا([25]).

نقد لودان لنظرية برامج البحث عند لاكاتوش

في نقد لودان لميثودولوجيا لاكاتوش، نجده يطبق أفكاره عن العلاقة بين النموذج القديم والنموذج الجديد، من حيث إن الجديد يعد تطويراً للقديم، ويحلّ بعض المشكلات التي عجز النموذج السابق عن حلّها، ومع ذلك فقد يتسبب في مشكلاتٍ جديدةٍ، كما أنه في الوقت نفسه ينفي فكرة التقدم الثوري، أي تنتفي القطيعة بين السابق واللاحق؟  لكن هل يعني ذلك أن يكون التغيير تقدميًّا؟؛ ويكون التقدم تراكميًّا؟، ويتأكد المعنى القائل بأن المعرفة لا تبدأ من الصفر بل تبدأ من النقد، نقد السابقين، والمعاصرين؟

يقارن لودان بين كون ولاكاتوش، موضحاً أوجه التشابه وأوجه الاختلاف بينهما، وكيف كانت نظرية لاكاتوش استجابةً كبيرةً لهجوم توماس كون على بعض الافتراضات التي حرصت عليها فلسفة العلم التقليديّة، وكيف كانت تطويراً لها في الوقت نفسه، كما يبين أيضا بعض عيوب نظرية لاكاتوش، ثم يبدأ من حيث انتهى كلٌّ منهما، على الرغم من أنه يقول بتطوير فكرته في تقليد البحث من نقطة البداية تقريبا، مع اعترافه بالفضل الكبير، والدين العظيم الذي يدين به لكل من كون ولاكاتوش؟. وسنرى إلى أي حدّ يتفق معهما وإلى أيِّ حدٍّ يختلف، وهل هو أقربُ لأستاذه كون أم أقربُ لـ «لاكاتوش»؟

نعرض ما لخّصه لودان عن نظرية لاكاتوش([26]) :

يقول لودان: «أعلن إمري لاكاتوش (Imre Lakatos) عن نظريّةٍ بديلةٍ تهتم بدور تلك «النظريات الفائقة (السوبر) (super-theorie) في تطور العلم. أطلق لاكاتوش على هذه النظريات العامة «برامج بحث”، ويرى أنها تحتوي على عناصرَ ثلاثةٍ هي:

1- مركزٌ صلبٌ (أو «مساعد على الكشف سلبي») للافتراضات الأساسية التي لا يمكن التخلي عنها أو تعديلها دون التنصل من برنامج البحث.

2- «مساعدٌ على الكشف إيجابي» يحتوي على «مجموعة مقترحاتٍ مترابطةٍ جزئياً أو إشاراتٍ عن كيفية تغيير... أو تُعدّيل، أو صقل» نظرياتنا النوعيّة متى رغبنا في تحسينها.

3- «سلسلة من نظريات T1، T2، T3... إلخ «حيث كلُّ نظريةٍ لاحقةٍ «تنتج من إضافة بنود مساعدةٍ (auxiliary clauses)  إلى... النظرية السالفة». وتلك النظريات هي التجسيدات المحدِّدة لبرنامج البحث العام. ويمكن لبرامج البحث أن تكون تقدميّة أو متردية متدهورة (regressive) بعدة طرقٍ: غير أن التقدم- بالنسبة لـ لاكاتوش حتى أكثر من «كون»- هو دالة النمو الإمبيريقي للتقليد حصريًّا. إنه حيازةُ «محتوًى إمبيريقيٍّ» أكبر أو «درجةِ تعزيزٍ إمبيريقيٍّ «أعلى تجعل النظرية أكثر تفوقاً على نظريةٍ أخرى، وأكثر تقدميةً مقارنةً بها.

يُعدّ نموذج لاكاتوش، من عدة جهاتٍ، تطويرا لنموذج كون. وبخلاف كون، فإن لاكاتوش يأخذ بعين الاعتبار، بل يشدد على الأهمية التاريخية لتواجد العديد من برامج البحث البديلة في الوقت نفسه، وفي المجال ذاته. خلافاً لكون (Kuhn) الذي كثيراً ما يأخذ بالرأي القائل بأن النماذج غير قابلة للقياس (incommensurable) وبالتالي فهي لا تخضع لمقارنةٍ عقليةٍ، في حين يؤكد لاكاتوش أننا نستطيع أن نقارن على نحوٍ موضوعيٍّ التقدم النسبي لتقاليد البحث المتنافسة. وأكثر من كون، يحاول لاكاتوش أن يتصدى للمسألة الشائكة الخاصة بعلاقة النظرية الفائقة بالنظريات الصغرى المكونة لها.

 لكن في مقابل ذلك، يشترك نموذج لاكاتوش لبرامج البحث في الكثير من عيوب نماذج كون، بل ويثير عيوباً أخرى جديدة أيضاً:

1- كما هو الحال مع كون، يُعدّ مفهوم التقدم عند لاكاتوش إمبيريقياً بشكلٍ حصريٍّ، والتُعديلات التقدميّة الوحيدة في نظرية ما، هي تلك التي يزيد نطاقُ مطالبها الإمبيريقية.

2- إن أنواع التغيرات التي يسمح بها لاكاتوش ضمن النظريات الصغيرة التي تشكل برنامجه البحثي هي محدودة للغاية. في الأساس، كل ما يتعلق بالعلاقة بين أيّ نظرية والنظرية اللاحقة لها في برنامج البحث، يسمح لاكاتوش فقط  بإضافة افتراضٍ جديدٍ أو إعادة تفسير سيمانطيقي لمصطلحات النظرية السابقة. وطبقاً لهذه الرؤية المهمة للأشياء، يمكن لنظريتين فقط أن تكونا معا ًفي برنامج البحث نفسه، وذلك لو أن واحدةً منهما استلزمت الأخرى. وفي الغالبية العظمى من الحالات، فإن تتابع نظرياتٍ معينةٍ في إطار نظريّةٍ كبيرةٍ يتضمن استبعاد افتراضات معينةٍ وكذلك إضافة افتراضاتٍ أخرى، ونادراً ما توجد نظرياتٌ متعاقبةٌ تستلزم النظريات التي تسبقها.

3- إن العيب الجسيم في فكرة برامج البحث عند لاكاتوش هو أنها تعتمد على أفكار تارسكي- بوبر المتعلقة بـ «المحتوى الإمبيريقي والمنطقي».إن كافة مقاييس التقدم عند لاكاتوش تتطلب مقارنة المحتوى الإمبيريقي لكل عضو في سلسلة النظريات التي تُشكِّل أي برنامج بحث. وكما أوضح غرونباوم (Grunbaum) وآخرون بشكلٍ مقنعٍ، فإن محاولة تحديد مقاييس محتوى بالنسبة للنظريات العلمية تُعدّ إشكالية للغاية، إن لم تكن مستحيلة فعليا. ولما كانت مقارنات المحتوى مستحيلة بصفة عامة، فلم يستطع لاكاتوش ولا أتباعه تحديد أيّ حالة تاريخية يمكن أن ينطبق عليها بدقةٍ تعريف لاكاتوش للتقدم.

4- ولأن وجهة نظر لاكاتوش ذات طابعٍ خاصٍّ، إذ ترى أن قبول النظريات نادراً ما يكون عقلانيًّا في أيّ وقت، فإنه لم يستطع أن يترجم تقييمه للتقدم إلى توصياتٍ عن الفعل المعرفي (بافتراض أنه استطاع تقييم التقدم!). على الرغم من أن أحد برامج البحث قد يكون أكثر تقدماً من برنامج بحث آخر، إلا أننا، طبقاً لوصف لاكاتوش، لا نستطيع أن نستنتج من ذلك شيئًا يبيّن أي برنامج بحث يجب أن يكون مُفضلاً أو مقبولاً. ونتيجةً لذلك، لا يوجد أبداً ارتباطٌ بين نظرية التقدم ونظرية إمكانيّة القبول العقلاني (أو بلغة لاكاتوش، بين «التقييم» المنهجي و«النصيحة»).

5- إن زعم لاكاتوش بأن تراكم الحالات الشاذة ليس له أي تأثير على تقييم برنامج البحث تعرض للتفنيد على نطاقٍ واسعٍ من قبل تاريخ العلم.

6- تُعدّ برامج البحث عند لاكاتوش، مثلها مثل نماذج كون، ذات صلابةٍ من حيث بنيتها المركزيّة الصارمة التي لا تسمح بتغيراتٍ جوهريةٍ.

لذلك يؤكد لودان على أن عملية فحص المبادئ الأساسية، واستكشاف الأطر البديلة، وإحلال منظوراتٍ أخرى أحدث وأكثر تقدميّةً محلّ المنظورات القديمة هي عمليةٌ تحدث باستمرارٍ في العلم -مثلما تحدث في كلّ النظم الفكريّة الأخرى- وهذا لا يعني بالطبع أنّ كلّ عالِم (كما يرى بوبر) ينتقد باستمرار الإطار أو التقليد الذي يعمل خلاله، فالعديد من العلماء في أيّ زمنٍ معيّنٍ يتعاملون مع التقليد على أنه «مُسلّم بصحته» ويحرصون بشكلٍ إيجابيٍّ على تطبيقه على نطاقٍ أوسع لحلّ المشكلات الإمبيريقية غير المحلولة (وهو ما يطلق عليه كون»حلّ المعضلات»). لكن أن نتخيّل أن جميع العلماء يفعلون ذلك طول الوقت – في ما عدا الفترات النادرة للأزمة – هو ما يعني أننا نُحرِّف بشكلٍ لافتٍ للنظر حقيقة التطور الفعلي للعلوم[27].

 إن ما أراد لودان أن يوضحه -من هذا الاستعراض المختصر جداً لاثنين من النظريات الرائدة في التغير العلمي- هو وجود عددٍ من الصعوبات التحليلية والتاريخية التي تواجه النظريات الكبيرة ودورها. وبالطبع يضع لودان هذه الصعوبات في الاعتبار حين يقدم نموذجاً بديلاً للتقدم العلمي، يقوم على ميثودولوجيا ما أسماه «تقاليد البحث»، ويرى أن الاختبار الحاسم لهذا النموذج  الذي يقدمه سيدل على مدى قدرته على تجنب بعض المشكلات التي أعاقت النماذج التي سبقته. كما أنه يعترف  بوجود الكثير جداً من العناصر المشتركة بين النموذج الذي يقدمه ونموذجي كون ولاكاتوش (ويعترف عن طيب نفسٍ بديْنٍ كبير لعملهما الرائد)، لكنه يؤكد أنه يوجد قدرٌ كبيرٌ وكافٍ من الفروق بينهم، ويقوم لودان بتطوير فكرة «تقليد البحث»، (التي تماثل البرادايم، وبرنامج البحث)، تقريبا من نقطة البداية.[28]

ولما كان لودان يقوم بتطوير فكرة تقليد البحث من جديد، باعتبارها تمثل جوهر نظرية الميثودولوجيا عنده، وجوهر نظرية التقدم العلمي، فإنه يسهب في إعطاء أمثلة لتقاليد البحث، تكاد تجمع كل فروع المعرفة، العلمية وغير العلمية. كما يقوم بإيضاح طبيعة تقاليد البحث ودورها المساعد على الكشف، ودورها التبريري، وقابلية انفصال النظريات عنها، وكيفية تطورها، وكيفية تقييمها، والعلاقة بينها وبين وجهات النظر عن العلم. يحاول لودان أن يتجنب معظم عيوب النماذج السابقة، فإذا كان كون (Kuhn) لم يقدم حلاًّ على الإطلاق للسؤال شديد الأهمية عن العلاقة بين الباراديم ونظرياته المقوِّمة له؛ فإن لودان يقدم إجابةً عن هذا السؤال وغيره عندما يتحدث عن تقاليد البحث[29].

مشكلة التغير العلمي.

معارضة الفكرة النسبوية عن التغيّر العلمي:

يشير لودان إلى الخلاف الأساسي بين العلماء الذين فكروا في عملية التغير العلمي، حيث يوجد خلافٌ بين أولئك الذين استوقفتهم الانتفاضات الثورية المتتالية للفكر العلمي، و بين هؤلاء الذين تأثّروا جدًّا بالتتابعات غير المنقطعة أو بالاستمرارية اللافتة للنظر التي يعرضها العلم على مرّ تاريخه([30]).

فيرى أن المدرسة «الثورية» تؤكد على وجود أنواعٍ مختلفةٍ تماماً من ميتافيزيقا الطبيعة المفهومة ضمناً في الفترات العلمية المتعاقبة. لذا، اعتقد أرسطو باستحالة وجود فراغٍ، وهو ما رفضه علماء المذهب الذري في القرن السابع عشر. اعتقد الكيميائيون في القرن الثامن عشر بأن الهواء مكوَّنٌ من مواد كيميائيةٍ عالية التفاعل، وأن النار ليست عنصراً. والجيولوجيون في القرنين السابع عشر والثامن عشر نظروا إلى تاريخ الأرض من منطلق عمليات التغير والتحول التي تختلف تماماً عن كل ما يحدث حالياً على سطح الأرض. ومن جهةٍ أخرى تأثر بعض الجيولوجيين في القرن التاسع عشر بالصفة الانتظاميّة المطردة لتاريخ الأرض([31]).

  وعلى العكس، يؤكد «القائلون بالتغير التدريجي» (gradualists) أن  درجة نجاح العلم تكمن في الحفاظ على معظم ما تمّ اكتشافه. وبالنسبة لكل ما يبدو «ثورات» في البصريات منذ بداية القرن السابع عشر، يشير التدريجيون إلى أننا مازلنا نتبنى بطريقةٍ أساسيةٍ قانون جيب زاوية الانكسار نفسه الذي وضعه ديكارت. وعلى الرغم من نظريات آينشتين فقد أشاروا إلى أن الميكانيكا المعاصرة مازالت تنتفع تماماً بمعظم التقنيات أو بالتقديرات التقريبية المعقولة التي قدمها العلماء النيوتنيون. كما يرى التدريجيون عملية اكتساب المعرفة بوصفها تدريجيةً بطيئةً و تراكميةً، مصحوبةً بحقائق جديدةٍ، أو تقريبات أفضل تضيف باستمرار إلى مخزون القوانين التي تراكمت منذ العصور القديمة عن الطبيعة. كما أشاروا أيضاً إلى أن العديد من الابتكارات التصورية التي تبدو جذريةً لا تتجاوز غالباً سوى القليل من التجاور البارع أو إعادة تنظيم لعناصر تقليدية.([32])

يقف لودان عند العديد من فلاسفة العلم المعاصرين الذين تناولوا مشكلة التغير العلمي، خاصة أولئك الذين ينتمون للمعسكر «الثوري» الذين استوقفتهم اللامقايسة الجذرية(radical incommensurability) بين تقاليد البحث المتعاقبة، هؤلاء، في نظره، عندما وصلوا بالموقف «الثوري» إلى أقصاه، ذهبوا إلى أن نظريات ما قبل الثورة تختلف جذرياً عن نظريات ما بعد الثورة بحيث لا يمكن لنا أن نتحدث حديثاً ذا معنى عن أيّ تشابهٍ بينها. مؤكدين أن مؤيدي كوبرنيكوس وبطليموس، أو أصحاب مذهب لامارك والدارونيين، أو النيوتونيين والفيلسوف النسبي جميعهم ينظرون للعالم بطرقٍ مختلفةٍ (ربما حتى «ينظرون إلى» عوالم مختلفةٍ)[33].

يقف لودان عند هذا الرأي باعتباره طريقةً غريبةً لطرح المسألة، ويرى أن هؤلاء (مثل هانسن (Hanson)، وكواين(Quine)، وكون (Kuhn) وفيرآبند (Feyerabend) قد استنتجوا بعض النتائج المتشائمة جداً في ما يتعلق بإمكان وجود عقلانيةٍ في العلم، وفي كثير من الحالات، وصلوا إلى قرارٍ بأنه من المحال، من حيث المبدأ، إثبات أن هناك أي تقليد بحث ينتصر عقلانياً على تقليد آخر، ويقودهم منطق حججهم (الذي يفحصه لودان باختصار) إلى استنتاج أن تاريخ العلم ما هو إلا  تعاقب لوجهات نظرٍ مختلفةٍ عن العالم، ولا يمكن اتخاذ الاختيار العقلاني من بين هذه الأنظمة المختلفة عن الكون، ونظراً لأن كلّ نظامٍ له أساسه المنطقي الداخلي وكماله (integrity)، فلا معنى للرأي بأن أحد الأنظمة أكثر (أو أقل) عقلانية من الآخر[34].

ما الحل الذي يقدمه لودان إذاً؟

يرى لودان أن  حجتهم (حجة اللامقايسة) هي حجةٌ مهمّةٌ، فإن كانت صادقةً، فهذا يعني أن العلم لا يطالبنا بالإخلاص المعرفي، وإذا لم يكن هناك أسس معقولة للاختيار العقلاني بين تقاليد البحث المتنافسة، عندئذٍ يصبح العلم مسألة هوى ونزوةٍ، يفوز فيها أحد التقاليد حين يجذب معظم الأتباع المؤثرين ووكلاء الدعاية الأقوياء. ربما يكون هذا هو حال العلم، لكن قبل أن نقبل هذه النتيجة المُحبِطة بأن العلم ينبغي أن يكون كذلك بالضرورة، من الجدير أن نفحص بعنايةٍ الحجج التي يقدمها هؤلاء عن الفكرة النسبويّة للتغير العلمي[35].

  وبإيجازٍ، تبدو حجتهم الأساسية كما يلي: تحدد النظريات العلمية بشكلٍ مضمرٍ المصطلحات التي تستخدمها. ومن ثم، إذا كان هناك نظريتان مختلفتان، فإن كل المصطلحات الموجودة لدى كلٍّ منهما لا بد أن تحمل معانيَ مختلفةً، (لذا، عندما يشير فيزيائي آينشتاينيٌّ إلى «كتلة» الجُسيم، فإنه يقصد شيئًا مختلفاً عما يقصده الفيزيائيُّ النيوتونيُّ عندما يشير الأخير إلى «كتلة» الجُسيم). فضلا عن أن الحجة تستمر، حتى إذا كان ما يُسمى بالتقارير الملاحظاتية التي يقدمها العلماء الذين يعملون على نظرياتٍ مختلفةٍ تجعلها لا قياسية، ذلك لأن مصطلحاتهم التي تقوم على الملاحظة تكون محملة بالنظرية (laden- theory)، أعني، أنها تكتسب معناها بفضل إحدى النظريات أو بأخرى. على الرغم من أن العلماء الذين يعملون في تقاليدِ بحثٍ مختلفةٍ قد يستخدمون أحياناً التعبيرات اللفظية نفسها، فلا يعني هذا أن نفترض أنهم يؤكدون الشيء نفسه. ومن وجهة النظر هذه، كي نقبل نظريةً ما ذلك يعني أن نقبل لغةً شبه خاصة لا يمكن أن يفهمها أو يُدركها أي شخصٍ لا يقبل هذه النظرية. ونتيجة لذلك، لا يمكن للعلماء الذين يعملون في تقاليد بحثٍ مختلفةٍ أن يتواصلوا مع زملائهم من العلماء في تقاليد البحث الأخرى أو يفهموا عباراتهم. وبافتراض حالة عدم الفهم هذه، وظهور العلم كصورةٍ جديدةٍ لحصن بابل، لا يمكن مقارنة النظريات بعضها ببعض ولا يمكن تقييمها عقلانياً لأنه على ما يبدو أن تلك المقارنة تتطلب لغةً مشتركةً كي نتحدث حديثاً مفهوماً عن العالم([36]).

ويرى لودان أن هذه الحجة معيبةٌ من عدةِ جوانبَ، إنها ترتكز على نظريةٍ خاصةٍ جداً (idiosyncratic) عن كيفية اكتساب الكلمات لمعانيها (أي، نظرية التعريف المُضمر). و هي تثير عدداً من الأسئلة عن استخدام المترادفات والترجمة من لغةٍ إلى أخرى. إلا أن نقطة ضعفها المركزية، تكمن في افتراضها المسبق بأن الاختيار العقلاني يمكن أن يتمّ فحسب بين النظريات التي يمكن فقط ترجمتها إلى لغةٍ أخرى نظيرة أو إلى لغةٍ ثالثٍة، لغة «نظرية محايدة» (-neutra theory). وكما يشير كون (Kuhn) إلى هذه النقطة بقوله:«تتطلب الـمقارنة بين اثنين من النظريات المتعاقبة لغة يمكن بها على الأقل ترجمة النتائج الإمبيريقية للنظريتين دون نُقصانٍ أو تغيير». غير أن لودان يثبت، عكس ذلك، فيقول:»إذ لو قبلنا حتى الرأي القائل أن كل الملاحظات تكون محملة بالنظرية  لدرجة تجعل محتواها لا ينفصل عن النظرية التي تُعبر عنها، فمازال من الممكن وضع آلية لعمل مقارنات موضوعيةٍ عقليةٍ بين النظريات العلمية وتقاليد البحث المتنافسة»[37].

 ويستند لودان على حجتين لتبرير هذه النتيجة التي تؤكد إمكان عمل مقارناتٍ موضوعيةٍ عقليةٍ بين النظريات العلمية و تقاليد البحث المتنافسة.

الحجة الأولى مستمدةٌ من حلّ المشكلات

يعود بنا لودان إلى موقف الوضعية المنطقية الذي أدى ببعض فلاسفة العلم المعاصرين إلى القول باللامقايسة ورفض الموضوعية، فيقول:«إن الوضعية المنطقية في أوجها، كانت ترى عادةً أن تقييم النظريات المتنافسة يتمّ عن طريق مقارنة نتائجها «القائمة على الملاحظة»، ومع سيادة الاستعارة اللغوية في ذاك الوقت، فُهمت هذه العملية عادة على أنّها ترجمة توقعات النظريات المتنافسة إلى لغة ملاحظةٍ خالصةٍ (عبر ما يُطلق عليه قواعد التناظر)، ونظرا للاعتقاد بأن لغة الملاحظة خاليةٌ من أي تحيزاتٍ نظريةٍ تأمليةٍ، كان يعتقد أنها تقدم أسساً موضوعيةً للتقييم الامبيريقي للنظريات المتنافسة، ومع زيادة الشكوك حول وجود قواعد تناظر بين النظريات وحول وجود لغات ملاحظة خالية من النظرية (free-theory)، بدأ بعض الفلاسفة مثل كون(Kuhn) وهانسن(Hanson) وفيرآبند (Feyerabend) في قطع الأمل في إمكانية وجود معيارٍ موضوعيٍّ لمقارنة النظريات المختلفة، واقترحوا أن النظريات غير قابلة للقياس، وبالتالي فإنّها لا تقبل المقارنة الموضوعية»[38].

يرى لودان أن ما يتجاهله هذا المنظور هو أنه لا قواعد التناظر ولا لغة الملاحظة الخالية من النظرية تُعدّ ضرورية بالنسبة لمقارنة النتائج الإمبيريقية للنظريات المتنافسة. لأننا حتى بدون قواعد تناظر، وبدون وجود لغة ملاحظة خالصة، يمكن أن نتحدث حديثاً له معنى عن نظريات مختلفة تتعلق بالمشكلة ذاتها، حتى عندما يعتمد الوصف النوعي لتلك المشكلة بشكلٍ أساسيٍّ على العديد من الافتراضات النظرية[39]. ويستمر لودان موضحاً كيف أن النظريات المختلفة تواجه المشكلة ذاتها؛ مدافعاً عن وجهة نظر ترى أنه في أي مجال من مجالات العلم توجد بعض المشكلات المشتركة، موضحاً ذلك بالوقائع التاريخية فيذكر على سبيل المثال، أنه خلال نهاية القرن السابع عشر، تناولت العديد من نظريات الضوء المتعارضة مشكلة الانعكاس (بما فيها نظريات ديكارت (Descartes) وهوبز(Hobbes) وهوك (Hooke) وبارو(Barrow) ونيوتن (Newton) وهويجنز (Huygens)). وأصبحت كل النظريات البصريّة المتنوعة معنيّة بحلّ مشكلة الانعكاس، لأنه قد أمكن وصف هذه المشكلة بطريقةٍ مستقلةٍ عن أيّ نظريةٍ من النظريات التي سعت لحلّها[40]...وعندما اختلف الجيولوجيون الأوئل في القرن التاسع عشر حول تفسير تَكَوُّن أو ترسّب طبقات الصخور أو الرواسب في القشرة الأرضية (stratification)، جميعهم -سواءً أكانوا من مؤيدي انتظام وتماثل العوامل الجيولوجية (uniformitarians) أم ممن قالوا بالاتجاه الكارثي (catastrophists)[41]، أم ممن كانوا نبتونيين ([42]Neptunists) أم كانوا براكانيين (Vulcanists [43])، سواءً أكانوا أتباع هوتن(Huttonian) أم فرنر (Wernerian)، أو من كان يتقي الله أم ممن ينكر وجوده، سواءً أكانوا فرنسيين، أم إنجليزاً، أم ألمانًا– اتفقوا على أن المشكلة الأساسية لأيّ نظريةٍ جيولوجيةٍ كانت هي تفسير كيف تكونت هذه الطبقات المنتظمة والمتميزة[44]. 

  وهكذا يرفض لودان بشدة رأي النسبويين في التغير العلمي، واللامقايسة، بل ذهب إلى أن «»كون» قد خُدع باكتشافه أن بعض المشكلات الإمبيريقية ليست مشتركةً بين التقاليد المختلفة أو النماذج (paradigms) المختلفة، ذلك لاعتقاده بعدم وجود مشكلاتٍ متطابقةٍ (وهذا صحيح بالتأكيد). غير أن تعميم دعوى عدم قابلية قياس المشكلات تُعدّ دعوًى منحرفةً تماماً كما أن الدعوى المحدودة القائلة بعدم التداخل الجزئي هي دعوٌى مبهمةٌ»[45].

الحجة الثانية مستمدةٌ من التقدم.

مع أن لودان يتوقع أن بعض الفلاسفة سينكرون وجود نظريات تتعامل مع المشكلات نفسها، لكنه يُصِّر أنه مازال يوجد مجالٌ لتقييمٍ موضوعيٍّ لنظريات وتقاليدِ بحثٍ لاقياسيةٍ والمقارنة بينها، لذا يعود إلى رؤيته بأن العقلانية تتوقف على قبول تقاليد البحث التي تتمتع بأعلى فاعليةٍ في حلّ المشكلات، فيؤكد على أن البداية تكون من التحديد التقريبي لفاعليّة أيّ تقليدِ بحثٍ، أي نبدأ من داخل تقليد البحث نفسه؛ فنسأل ببساطة عما إذا كان تقليد البحث قد حلّ المشكلات التي حددها لنفسه أم لا؛ ونسأل عما إذا كان قد نتج عن عملية الحل  شذوذٌ إمبيريقيٌّ أو مشكلاتٌ تصوريةٌ أم لا، ونسأل عما إذا كان، بمرور الوقت، قد نجح في توسيع نطاق مشكلاته التي فسَّرها، ونجح في تقليل عدد ما تبقى من المشكلات التصوريّة وحالات الشذوذ وتحديد مدى أهميتها أم لا. وبهذه الطريقة يمكن الوصول إلى توصيف تقدميّة تقليد البحث (أو تدهوره). إذا فعلنا هذا مع كل تقاليد البحث الرئيسية في العلم، عندها نستطيع عمل ما يشبه تصنيفاً أو ترتيباً تقدميًّا لكل تقاليد البحث في وقتٍ معينٍ؛ لذا من الممكن، على الأقل من حيث المبدأ وربما بالممارسة مع الوقت، أن نكون قادرين على عمل مقارنة لتقدميّة تقاليد البحث المختلفة، حتى وإن كانت تقاليد البحث هذه لا قياسيةً تماماً من منطلق المزاعم الجوهرية التي تقدمها عن العالم[46]

وهكذا يُصِّر لودان على رفض اللامقايسة، وإمكان عمل مقارنةٍ بين نظرياتٍ أو تقاليدِ بحثٍ مختلفةٍ، فيقول:«حتى لو لم نتمكن أبدا من إيجاد طريقة لترجمة ميكانيكا نيوتن إلى الميكانيكا النسبية، حتى لو لم نجد أبدا طريقة للمقارنة بين المزاعم الأساسية لفيزياء الجُسيمات في القرن العشرين والمذهب الذري في القرن التاسع عشر، وبشكل أعم حتى لو لم نتمكن على الإطلاق من القول بأن نظريتين قد تعاملتا مع بعض المشكلات نفسها»[47]؛ أي حتى لو لم نُسلِّم بحجته الأولى، فإنه يرى أنه مازال من الممكن- من حيث المبدأ- أن نقوم بعمل تقييم للمزايا النسبية لتقاليد البحث هذه (أو غيرها)، على أسسٍ عقليةٍ، هذه الميزة يمكن تعميمها بسهولة حين نلاحظ وجود العديد من المعايير لمقارنة النظريات المتنافسة والتي لا تتطلب أيّ درجةٍ من درجات قابلية القياس على مستوى الملاحظة. قد نقارن النظريات-مثلا- من منطلق اتساقها الداخلي أو من حيث تماسكها. و بالمثل، ربما نتساءل عن نظريتين (أو أكثر)، أيهما أبسط؟ أو أيهما قد تمّ تفنيدها؟ أو أيهما قد توصل لتوقعات أكثرَ دقةً؟ و نظرا لأن مثل هذه الخواص يمكن تحديدها بالتأكيد (بما في ذلك التقدميّة)، يمكن أن نقول بأن اللامقايسة المحتملة (possible incommensurability) بين النظريات وتقاليد البحث (طالما تمّ الاهتمام بمزاعمها الجوهرية عن العالم) لا تمنع وجود تقييماتِ مقارنةٍ لتحديد مقبوليتها[48].

خاتمة

وجود برامج البحث (أو تقاليد البحث) هو القاعدة لا الاستثناء عند كلٍّ من لاكاتوش ولودان، على عكس كون.

عند كون، يكون التقدم تراكميًّا في المرحلة المستقرة للعلم السائد، في ظلّ البرادايم القائم المتفق عليه من النخبة العلمية، أو المجتمع العلمي، وعندما يعجز  البرادايم عن الوفاء بمتطلباته أو تحقيق أهدافه يتم التخلي عنه بالثورة عليه لصالح برادايمٍ جديدٍ تماماً في كلّ مكوناته. تحدث الثورة في العلم مقترنةً بالتغيّر الكلّي والجوهري للبرادايم: مفاهيمه مناهجه أدواته، قيمه، أساليب حلّ الألغاز أو المعضلات، ويرفض كون أن تكون عملية الانتقال من برادايمٍ إلى آخرَ عمليةً تراكميّةً تتم عن طريق تعديلٍ في عناصرها، أو تحسينٍ أو توسيعٍ لمجاله.

إن الفلسفة لا يمكن أن تعمل بمعزلٍ عن العلم، بل هذا قدرها، وعليها أن تنتظر دومًا حتى يقع الحدث العلمي، أو حتى يقول العلم كلمته، وكذلك العلم لا يعمل بمعزل عن مشورة الفلسفة. على الفلسفة أن تنتظر مزيداً من التقدم في العلم حتى تستطيع أن تمارس عملها، والعلم لا يتوقف عن العمل، سواءً أكان يقودنا إلى مرحلةٍ أكثر اكتمالًا أم إنّه يحلّ مشكلاتٍ ويتسبب في أخرى. ومهما كان التقدم نعمةً ملتبّسةً بالنقمة فإنّه لا مفرّ منه، ولا من فلسفته.

--------------------------------------------
[1]*ـ  ـ أستاذة فلسفة العلوم -جامعة عين شمس ـ مصر.
[2]- إشكالياتٌ فلسفيةٌ في العلم الطبيعي، تحرير ددلي شابير، ترجمة : نجيب الحصادي، تحرير ترجمة: محمد عمران أبو ميس، الجماهيرية الليبية،من تقديم المترجم ص 7.
[3]- Laudan, Larry (1977), Progress and Its Problems, pp 97- 98.
[4]- Ibid,pp.121- 122.
[5]- Ibid,122.
[6]- Ibid, pp.122- 123.
[7]- Ibid.,, p.124.
[8]- د. يمنى طريف الخولي، فلسفة العلم في القرن العشرين،عالم المعرفة، ص 400.
[9]- Progress and Its Problems, p.125.
[10]- Ibid. p.126.
[11]- Ibid. p.127.
[12]- Ibid.,, pp.127- 128.
[13]- Loc. Cit.
[14]- Ibid., pp130- 131.
[15]- Ibid.,, p. 68.
[16]- Loc. Cit.
[17]- Laudan, Larry (1996): Beyond Positivism and Relativism: method, theory and evidence, published in U.S.A. by Westview Press, pp. 77- 78.، وقد قمت أنا بترجمة هذا الكتاب، المركز القومي للترجمة، تحت الطبع.
[18]-  Progress and Its Problems,p. 73. 
[19]- Ibid.p.74.
[20]-  Ibid.,p.74.
[21]- Ibid. pp. 74- 75.
[22]- Ibid, p133.
[23]- Ibid, pp133- 134.
[24]- See: Ibid, pp.135- 136.
[25]- Ibid, p. 136.
[26]- Ibid.,,pp.76- 78.
[27]- Progress and Its Problems, p.136.
[28]- Ibid.,pp.76 -78.
[29]- Ibid.,,pp.73- 78.
[30]- Ibid, p. 139.
[31]- Ibid, p.139.
[32]- Ibid, pp.139- 140.
[33]- Ibid, pp.140- 141.
[34]- Ibid, p.141.
[35]- Ibid.
[36]-. Ibid.,pp141- 142.
[37]- Ibid.,, p.142.
[38]- Ibid., p. 143.
[39]- Ibid., p. 143.
[40]- Ibid., p. 144.
[41]- الاتجاه الكارثي مذهب في الجيولوجيا يرى أن التغيرات الكبيرة في قشرة الأرض هي نتيجة الكوارث، لا نتيجة لعمليات التطور.
[42]- النبتونيون: ذهبوا إلى أن القسمات المميزة لشكل الأرض حدثت بفعل المياه عندما ألقى البحر رواسبه على اليابسة ثم انحسرت المياه وتكونت الظواهر الجيولوجية.
[43]- البركانيون، قالوا بأن الحرارة هي القوة الدافعة.
[44]- Progress and Its Problems, p.145.، يُلاحظ هنا أن لودان يؤكد على أن العلم مشترك إنساني عام لا دخل فية للجنس أو اللون أو القوميات أو الانتماءات الجغرافية و الوطنية، أو الإيمان أو الإلحاد..إلخ.
[45]- Ibid, p.145.
[46]- Ibid.,, p.145 -146.
[47]- Ibid., p.146.
[48]- Ibid.