البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مناظرة بين فيلسوفين فرنسيين حول تقنيات الحاضر ، الزمن الذاوي في سيئات الحداثة

الباحث :  أعدت الحوار هيئة تحرير مجلة (le Portique) الباريسية
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  15
السنة :  السنة الرابعة - شتاء 2019 م / 1440 هـ
تاريخ إضافة البحث :  May / 7 / 2019
عدد زيارات البحث :  633
تحميل  ( 350.797 KB )
جرت هذه المحاورة في ستراسبورغ، في 4 تشرين الأول 1998، بين الفيلسوف الفرنسي جان لوك نانسي ومواطنه أستاذ الفلسفة المعاصرة بينوا غوتز. تتناول المحاورة نطاقاً واسعاً من القضايا المتمحورة حول التقنية ومجالات تطبيقها. اشتملت المسائل التي تم التطرق إليها على التقنية والفنّ ومدى تأثير الطبيعة في مفهوميهما، كما طرح المحاوران عدة مواضيع من قبيل الفنّ والعمل والبطالة والعدميّة والطبيعة التي كشفت عن دور التقنية الفعّال في كلّ هذه المجالات ما أنتج إنساناً فنيًّا أو إنساناً كثمرةٍ للتقنيات.

وفي ما يلي الحوار الكامل الذي دار بين جان لوك نانسي وبينوا غوتز.

المحرّر                 

-----------------------------------------------
ـ جان-لوك نانسي (Jean-Luc Nancy): ما رأيكم لو بدأنا هذه المحاورة من مقطعٍ إشكاليّ يتعلّق بعلاقة التقنية بمفهوم الزمن، أقول التالي: “في الزمان لا يتجلّى تفريق الزمان. ولا يتجلّى الحيّز الوقتي للزمان. والحيّز الوقتي نفسه لا يفتح جوفه في الزمان والمكان. لذلك ينبغي توفّر تقنية تسمح في نهاية المطاف بِإعادة خلق الإبداع الذي لم يحدث”[1].

ـ بينوا غوتز (Benoît Goetz): هذا المقطع من كتاباتك هو نفسه الذي وضعناه على غلاف هذا العدد من مجلّة (le Portique)، إذ بدا لنا أنّه يحثّ على الذهاب إلى داخل ما يُمثّل مشكلًا في هذه الدراسة التي تحمل عنوان (التقنية والاستطيقا). وليس بمقدور المرء أن يتجاهل أنّ هذا المقطع -الذي أعيدَ إلى سياقه- مُختزَلٌ جدًا. هل يمكنك أن تُخبرَنا أكثر، اليوم، «حول ما كنت تُريد قوله»؟ كيف يمكنك تأكيد أنّ التقنية لم يتمّ التفكير فيها، بعد ماركس ولُرْوا-غوران وسيموندون، حتى لا نأتي مُباشرةً على ذكر هايدغر؟

جان ـ لوك نانسي: القول أنّه لم يُبحَث في التقنية فيه شيءٌ من الفظاظة أمام كلّ أولئك الذين أشرْتَ إليهم...

ـ لُرْوا غوران، بصورةٍ خاصّةٍ، يقول شيئًا قريبًا من ملاحظاتك حينما يُلمّح إلى أنّنا نُفكّر بصورةٍ خاطئةٍ تمامًا بالتقنية، عندما يُنظر إليها بوصفها شيئًا خارجاً عن الإنسان، طرأ عليه من الخارج واعترضه، في حين أنها امتدادٌ له، وتعبيرٌ عن هيكله وعضلاته وجهازه العصبي وخياله.

- أعتقد أنّه ينبغي أن نقول أنّها أكثر من «تعبير» و”امتداد”...، ينبغي أن نقول أنّ الإنسان نفسه حيوانٌ تقنيٌّ. فليس الإنسان سوى حيوانٍ تقنيٍّ، أي، ببساطةٍ، هو حيوانٌ غير طبيعيٍّ. والتعارض الكبير بين «التقنية» و«الطبيعة» مشروعٌ إذا كان يعكس تعارضًا بين ما له غايةٌ مُبرمجةٌ في ذاتها -كالطبيعة المُسلّم بها- وما ليس له غايةٌ بذاتها.

بهذا المعنى، يمكن القول أنّ الإنسان فنّيٌّ أو هو ثمرةُ التقنيات، وليس هذا فحسب، بل هو الحيوان التقني، لأنّه لا يتوفّر على غايةٍ بذاته. وهو حيوانٌ غير مُحدّدٍ، كما قال نيتشه. وهذا هو الأمر الذي من الصعب علينا التفكير فيه

بالتأكيد، سَبَقَ التفكير في مسألة التقنية، لكنّ الرأي غير الفنّي هو الذي يُهيمِن دائمًا، من دون أن يجري البحث في نتائج التقنية. لقد كان من الصعب على هايدغر أن يُعبّر عمّا سمّاه «مسألة التقنية»[2]، ذلك أنّ كل العالم يرى دائمًا إلى التقنيات بوصفها وسائل مُتعلّقة بأهداف. لقد أوضح هايدغر ذلك في «مسألة التقنية»، أو على الأقلّ، كان لديه هاجسٌ كبيرٌ يتعلّق بشيءٍ آخر غير الذي فهمناه منه بعامّة. ثمّة فهمٌ خاطئٌ بخصوص هايدغر حول ما يتعلّق بمسألة التقنية، وهو أمرٌ مُلفِتٌ. لقد رأينا هايدغر مرارًا يحتقر التقنية، كما كلّ العالم، في حين أنّه بحقٍّ من أوائل الذين حاولوا القول أنه ينبغي التفكير في ما كان موجودًا «destinal” في التقنية، التقنية بوصفها «إرسال الكينونة». ذلك يعني أن التقنية لا تكمن في الخارجيّة المُتعلّقة بِأداةٍ، وإنما هي مُكوّنٌ جوهريٌّ، ولحظةٌ جوهريّةٌ للبشريّة.

ما يُثير انتباهي عندئذ، هو أنّ التقنية ليست بالضبط «وسائل لا حدّ لها”، وهو ما يُشير إلى أحد عناوين أغامبيم (Agambem) بل بالأحرى نمطٌ من الانتقال الدائم للغايات. لنأخذ مثالًا بسيطًا وهو السرعة، التي تُصبح غايةً تقنيةً في لحظةٍ ما، على نحوٍ مُبكّرٍ بلا ريبٍ. التوصيل السريع للرسائل هو وسواسٌ منذ القدم.

-أظنّ أنّك تُلمّح إلى أنّ الذعر من التقنية يرتبط باصطدامنا عبر التقنية بِتناهينا الخاصّ.

-إنّ ما يصعب علينا التفكير فيه، ويُمثّل كل الصعوبة حيث إنّنا نُفكّر بزماننا، هو أنّ التقنية وكلّ عصرنا يعرِض لنا نمطاً من غياب الغاية والتحقّق والهدف والغائية وعلم الآخرة. بالنسبة إلينا، لِنهاية العالم معنًى واحدٌ: الكارثة. تنقصنا الأخبار والنهايات. وذلك، على ما أعتقد، هو ما يصعب علينا كثيرًا أن «نهضمه»، من أجل أنّ هناك حضارةً وراءنا وجّهت تفكيرَها نحو التحقّق والغاية. لكنّني لا أزعم أنّ بإمكاننا الاكتفاء، ونحن مسرورون بالتفكير في غياب الغاية والهدف. ينبغي بالأحرى أن نُحاول نقل خطاطة الفكر كاملةً.

-في حاشية كتابك (يكون مفردًا وجمعًا) تُورِد هذه الجملة التي قالها نيتشه: «الإنسان والأرض التي يعيش عليها لم يُكتشَفا بعدُ”[3]، أي من تعليق ملكة الغايات والمعنى المفروض، ثمّة مشهدٌ آخر يُكتشف ولم نبدأ النظر فيه بعدُ. إنّه بدايةٌ لا إنجاز يَعرِض لنا.

-ما يتمّ اكتشافه هو أنّ العالم لم يعد على حاله ولا الأرض على حالها. والطبيعة غير موجودة. بل علينا القول أنّها أحد الأشياء التي من الصعب جدًا تقديمها هنا أيضًا، في العقليات إن لم يكن ذلك في الفكر، بما أنّ الفكر يعلم ذلك منذ أمدٍ طويلٍ: كتبت ماري ماك كارثي هذه الرواية (عصافير أميركا Les Oiseaux d’Amérique) التي تنتهي بهذه الجملة التي قالها كانط وتوفّي في أحد المستشفيات الأميركية: “Die Natur ist tod, mein Kind”. وذلك معلومٌ، بوجهٍ ما، منذ أمدٍ طويلٍ. ولا أودّ القول كذلك أنّ الرأي يبقى جاهلًا. فالرأي هنا فئةٌ سيئةٌ. لكنّ فكرة اللا-مجانسة الجوهرية، ما زالت لم تتحدّث ولم تضع خطاطةً لثقافتنا.

- لهذا السبب من الصعب علينا أن نتخلّص من ورطة مفاهيم «الفنّ» و«التقنية»، بِما أنّها لا تعمل إلا بمعيّة مفهوم الطبيعة.

-بالضبط ولهذا السبب من المهمّ إيراد الإيضاح التالي: في وقتٍ أصبحت التقنية بالنسبة إلينا قضيةً مُقلقةً، أو على الأقلّ، مُزعِجةً جدًا. لا نعرف ماذا نصنع مع هذه الأداة التي يبدو لنا أنّها تتكاثر حتى تُلقي علينا عتمةً (وهذا بعد كلّ شيءٍ إدراكٌ صائبٌ للأمر، بِما أنّ الأداة ليست بحقّ أداةً)، ففي الوقت عينه بدأ ما يُسمّيه البعض ﺑ «التضخّم» في دور الفن. لقد بدأنا الحديث إذًا عن «وضع الفلسفة يدها على الفنّ». وشرع الفنّ باحتلال هذه المكانة التي لم يحتلّها من قبل. أصبح الفنّ مكانًا يضمّ تساؤلاتٍ هي في النهاية تلك التي تتمحور حول هذا النشاط الذي لا حدّ له. نشاطٌ لاطبيعيٌّ يُرافق الطبيعة ضمن علاقة «مُحاكاةٍ»، لكنّ كلّ الفنّانين الكبار وكلّ المُفكّرين الكبار عرفوا دائمًا أنّ هذه المحاكاة لم تكن نسخةً. ومع ذلك، الخطاطة الكبيرة للرأي كانت المحاكاة بمعنى إعادة الإنتاج، وبالتالي: لوم الأصلي «الطبيعي».

عندما يُهتمّ بتاريخ نظريّة الرسم –والرسم هو في صميم قضيّة مُماثلة ومُحاكاة الطبيعة- فإنّ ما يُثير الانتباه كثيرًا هو أن نقرأ في النصوص الكلاسيكية أنه لا يحقّ لنا بصورةٍ خاصّةٍ إعادة إنتاج الشخص كما هو، أو كما نراه. علينا أن نتفطّن إلى أنّ المُماثلة الحقيقيّة في الرسم هي مُماثلة إنسانٍ داخليٍّ، ليس حاضرًا هنا، ولا في الطبيعة، وغير مرئيٍّ.

ثمّة هنا التقاءٌ مزدوجٌ بين الفنّ والتقنية. فالأول يتعلّق بِاللاجنسانيّة وغياب الغاية. إنّ الالتقاء الأول يحدث بواسطة التوازي. لكن، في الوقت عينه، وهذا أكثر فضولًا وأكثر صعوبةً، ثمّة التقاءٌ بواسطة التراكب. كلّ شيءٍ يحدث كما لو أنّ الفنّ يجب أن يكون حقيقة التقنية: بما أنّ التقنية تُلغي الغايات «الإتيقيّة-اللاهوتيّة-السياسيّة»، أو على الأقلّ، تُخرّب ترتيب هذه الغايات، فإنّ الفنّ يحتلّ موقعًا لم يحتلّه في أيّ حضارةٍ، فيتمّ الحديث عن الحقيقة في الفنّ الذي يحتلّ الفنانُ فيه موقعًا أكثر أهميّةً، في حين هو لا يعرف بتاتاً ما الفنّ الذي يصنعه، بِما أنّه ليس هناك مدافعٌ أو قاعدةٌ أو نموذجٌ. لكن هناك حضورٌ دائمٌ للفنان...

-هذا أمرٌ رومانتيكيٌّ بمعنًى واحدٍ. الفنّ اليوم ليس رومانتيكيًا وإنما هذا الفكر يبقى رومانتيكيًا...

-نعم، ثمّة شيءٌ ما رومنتيكيٌّ. لقد سبق للرومانتيكيّة أن أدركت تركيز الأسئلة والمطالب على الفنّ، والتي لم يكن بإمكانها التغاضي عن النمط اللاهوتي لكن، من جهةٍ أخرى، لم تكن الرومانتيكية تُفكّر في مسألة التقنية، وفي ذلك هي وراء ظهورنا. فالرومنتيكيون لم يعتقدوا بوجود نموذجٍ أو فكرةٍ للفنّ الذي قد يجد المرءُ فيه بديلًا. غالبًا، يأخذ ذلك شكلًا لامُتناهيًا. في النزعة الرومنتيكية، هناك انتقالٌ، وليس هناك شكلٌ نهائيٌّ، بل هناك ضربٌ من «الغاية اللامُتناهية». وهناك الفنان لا العمل الفني. بيدَ أنّه يبقى هناك فكرٌ يتعلّق بنتيجةٍ، حتى لو كانت نتيجةً لامُتناهيةً، وحتى لو كانت هذه النتيجة ضمن الحياة لا ضمن العمل، إلخ.

إذاً، إنّ ما يفصلنا عن الرومانتيكية، هو أنّنا نعرف أنّ علينا التفكير بضربٍ من اللانتيجة الجذريّة، وأنّه بالتالي –وهذا هو الجانب الثالث من الالتقاء بين الفنّ والتقنية- بعد وقتٍ ما استطعنا فيه الاعتقاد بأنّ الفنّ هو الموضوع الذي تُعطي فيه الحضارة التقنية نفسها شكلاً أو هويّةً (هناك الكثير من ذلك في ضربٍ من الجماليّة، بين بداية القرن والأعوام القريبة منا) الآن أظنّ أنّ هناك شيئًا آخر يضع موضع إشكال فكرةً مُعيّنةً أو تمثيلًا مُعيّنًا للفنّ. ويصبح على الأرجح من الصعب تثبيت مفهوم الفنّ...

-لو عدنا إلى هذا المقطع الشهير الذي اقتبسناه من دراستك في «التقنية والاستطيقا»، فإنّك تكتب أنّ هناك اليوم تفكيراً فوق الحدّ حول الفنّ، وليس ثمّة اختراعٌ للفنّ...

-لقد قلْت «هذه -على الأقلّ- هي المظاهر». يُقال في العادة أنّ هناك فيضًا من الخطابات حول الفنّ، ولكن «ليس ثمّة فنّ». لكنّ ذلك، على الأقلّ، يعتبر حكماً مُبكِراً. إنني أشبِه الكثير من المُنظّرين المُجبَرين على الحديث عن الفنّ. وهذا، بذاته، ذو دلالةٍ إذ لم أعتقد منذ ثلاثين عامًا أنّني مُجبَرٌ على التحدّث عن الفنّ. وبالنسبة إليّ، لم يكن الأمر يُجاري الأسئلة الفلسفيّة. ولكنّنا عندما نكتب عن الفنّ ننساق سريعًا إلى السؤال المقابل، مثل ضربٍ من المرتدّة (boomerang)، وهو معرفة منزلة الخطاب الذي يتناول ما يقع خارج الخطاب، والذي يعاني بسبب سلوكين: إعطاء الفنّ معناه وحقيقته من الخارج، «مباركته” و تقديسه. ونُدرك على الفور خطر وبطلان هذا الرأي، أو على الضدّ من ذلك نُحاكي الفنّ. أشعر بأنّي أمتلك ميلاً قويّا لمحاكاة الفنّ. هناك على الأرجح انجذابٌ ضروريٌّ للفيلسوف نحو الشعر. هذا يعني أنّه في لحظةٍ ما، نشعر بأنّنا نستطيع إنشاء خطابٍ حول الفنّ، وليس هذا فحسب، بل يجب أن يحدث ذلك في الفنّ.

-لديّ سؤالٌ ذو طابعٍ «شخصي»: كيف تُلاقي الفنّ في فكرك؟ وأنا أُفكّر، بصورة خاصة، في هذا المُصنّف الذي ظهر توًا والذي يتناول الفنّان التصويري كاوارا (Kawara): “تقنية الحاضر”. هل تغيب علاقةٌ فرديّةٌ بينك وبين الفنّ المعاصر، علاقةٌ مُختلفةٌ عن تلك القائمة بين دولوز وباكون، أو بين ليوتار وبورين مثلًا؟ ألا يكون لنا الانطلاق، على وجه التحديد، من هذه العبارة «تقنية الحاضر»؟ أليست فكرتك نفسها، بمعنىً ما، هي  تقنية الحاضر؟ ألم تَختَرْ، في إطار فكرتك، شيئًا قريبًا جدًا من بعض الفنانين مثل الفنان التصويري أون كاوارا (On Kawara)؟ إذا كان «عملُك»، كما يُقال في ما يتعلّق بالفنانين المُعاصرين، هو أيضًا تقنيةٌ للحاضر، ذلك يعطيه الفرصة للقرب الفردي من بعض فنّاني اليوم. ما يشرح –بتعبيرٍ ساذجٍ- موقفك «المؤيّد ل” الفنّ المعاصر؟

-في النهاية نعم... أنا “مع”، لكن بنبرتين. إنني «مع» بقدر ما أنا «ضدّ» الآراء التي تُهاجم الفنّ المعاصر والتي وجدتها حقًّا سخيفةً. فأصحاب تلك الآراء يفترضون أنّهم يفهمون جيدًا ماهيّة الفنّ وهذا شيءٌ لا يُقدّم. ثانيًا أنا في العادة مستاءٌ أو مُضطربٌ –أو أحيانًا ثائرٌ- بسبب ما يفعله بعض الفنّانين المُعاصرين، وأرى في هذا مشكلًا. يطرح ذلك عليّ مشكلاتٍ رهيبةً، فأنا أعرف أنّني أبدو أحيانًا كمن يُطلِق إشارة ترحيبٍ بأيّ شيءٍ –بينما في الواقع، في «حساسيتي»، وحكمي، وأيضا في حكمي السياسي، لستُ سعيدًا البتّة بشيءٍ معيّنٍ أجده قبيحًا. لا يمكنني القول مثلًا أنّني أوافق على استخدام الأشياء الرديئة في الجداول. لكن عندما يكون من واجبي أن أشرح السبب فإنّني أرتبك. لأنّني أفهم أنّنا ننتهي إلى هنا، لكن في الوقت عينه أجد هنا شيئًا ما مُزيّفًا تائهًا... لكني لا أعلم جيدًا إلى متى يمكنني قول ذلك. وأعترف أنني أفتقر هنا إلى «مفهومٍ ناظِمٍ”...

-لكن، بغية العودة إلى الفنّان التصويري أون كاوارا (On Kawara)، يحدث ذلك من جهة الطهارة المُتطرّفة.

-بلا ريب... لكن عندما تقول “تقنية الحاضر” في ما يتعلّق بعملي...

-نعم، فكرتك تبدو لي مُوجّهةً إلى شيءٍ يقوم على إتيقا أولى، لا فنّ العيش (art de vivre) بل فنّ الوجود (art de l’existence)، أو فن الحياة... لا غرابة إذًا في أن نلاقي فنانين مُعاصرين مشروعهم هو إعداد آلياتٍ لِطرح السؤال حول معرفة الكينونة-هناك.

-هنا أنا موافقٌ، لكن بإمكانك قول ذلك على نحوٍ أفضل مني. ذلك يجعلني أفكّر في شيء كنت أفهمه لدى فوكو، في حين أنّ فوكو شخصٌ لا أمتلك معه الكثير من نقاط التجاذب. إنّها فكرة «العناية بالذات» و«تحويل الحياة إلى عملٍ فنّيٍّ». لكن ما كنتُ أتساءل بشأنه، عندما باشر فوكو بتناول هذا الدافِع، هو أنّ ذلك لم يبقَ خاضعًا لهيمنة التشكيل، و«نحت الذات»...

-ذلك ينطلق لديك من فكرة التفريق (espacement) التي لا تتعلّق بفرض شكل على المادّة، ولا تتعلّق بلا شكٍّ بأفق التنفيذ...

-ثمّة شيءٌ بالغ الأهمّية يحدث هنا، على مستوى السؤال عن العمل. إلى أيّ درجةٍ ثمّة ضرورة للعمل، وإلى أي حدّ ثمّة ضرورةٌ للبطالة؟ من وجهة النظر هذه، أعتقد أنه ليس بإمكاننا رفض أنّ مع «البطالة»، اكتشف بلانشو (Blanchot) شيئًا أساسيًّا.

-أذكر لك: «فنانون، حرفيّون، صانعو الأسهم النارية: هؤلاء يفتحون كلّ مرّةٍ المكان-الزمان، ومن داخل الطبيعة يستبعدون الطبيعة وفنيّي الحضور»...

-«فنيّو الحضور»، عبارةٌ تعني أيضًا، لو تذكّرنا لرْوَا-غوران (Leroi-Gourhan)، أنّ الإنسان حيوانٌ يتّخذ أماكن للعيش والسكن –كهف، كوخ، وكل ما تريده- حيث تضمّ وظائف أخرى منها الحماية والتجهيز. توجد رسومٌ داخل المغاور علمًا أنّ الرسوم لا توجَد في كلّ المغاور... لكن ذلك لا يُنافي أنّه قبل العصر الحجري المصقول كان البشر يخزنون كمياتٍ من الصّباغ والمنتجات الخاصّة بتصنيع الصّباغ. لقد اكتشفنا أنّ هناك منتجاتٍ لصناعة الصباغ جرى نقلها بكمياتٍ كبيرةٍ وعلى مسافاتٍ طويلةٍ ( لم يكن هناك عجلةٌ في ذلك الوقت!). ولا تؤدّي الصبغة دور الحماية، ويُخصّص للأجسام والثياب والجدران، ذلك يعني بالتالي أنّ هناك هذا الإفراط التقني.

-أقترح عليك إذًا أن تلجأ إلى مفهوم «البقايا»[4] الذي اخترتَه للحديث عن الفنّ المعاصر، أو ما يكشفه الفنّ المعاصر في كل فنّ. فهو مفهومٌ حسّاسٌ يجعلنا نُفكّر خطأً بإستطيقا الأنقاض، ويأتي أيضًا من اللاهوت، لكنّك تُغيّره بالكامل. بالنسبة إليك البقايا هي أثر العبور، وهنا نهتدي إلى تأويلك عن الفنّ الجداري (parietal): فعل الإنسان ذلك كي يُشير إلى عبوره هو، ولكي يُلاحظ نفسه. يبدو لي أنّه يجب تذكّر أنّ (vestigio) هي مرادف  ل(illico) التي تعني (in eo loco) –كما يقال «illico» «على الحقل»، أي «في هذا المكان بالذات»، «على الفور»... هنا، إذًا، يتقاطع المكان والزمان. إنّ بقاياك لا علاقة لها بالخراب ولا بشيءٍ من اللاهوتي. هي تسمح لك بِأن تُبيّن أنّه في الفنّ -منذ لاسكو وفي كلّ فنّ- وُجِدَ هذا الأثر للعيش. حتى عندما كان الفنّ خاضعًا للتمثيل الحسّي للفكرة، كان هناك هذا الأثر للفنّان الذي كان هنا...

-عندما تقول “انتزاع الفنّ من سياقه اللاهوتي»، فذلك لا يتمّ من حيث إنّ ما دفعني هو الاختلاف، الذي استخرجه علماء اللاهوت، بين البقايا والصورة. فالبقايا هي أثرٌ، بلا صورةٍ، كما الدخان الذي لا يُشبه النار. أعتقد أنّ من المهمّ فهْم أنّ في كلّ فنٍّ، بما فيه «التصويري»، هناك دائمًا الصورة والبقايا.

-إذًا، يكشف الفنّ المعاصر عن حقيقة الفنّ، وما كان يُمثله الفنّ دائمًا...

-إنّه ذلك الأمر... بوجه ما، يُشير اختفاءُ الصورة والتمثيل، علانية، إلى البقايا. لذا، يُزعزع ذلك إلى حدٍّ كبيرٍ كلّ رؤيتنا للفنّ، لكوننا نجد صعوبات جمّة في التفكير بالبقايا وحدها.

-دائمًا في النصّ نفسه عن الفنان التصويري أون كاوارا (On Kawara)، وجدتُ مقطعًا غير مألوفٍ يُعدّ أساسيًا في مسألة «الفنّ/التقنية». نقابل في العادة بين دهّان المنازل والفنّان الدهّان، وذلك تمييزًا بين نشاطين يتمّ وضعهما في خانة المهنة نفسها، ويتعلّق أحدهما بمهمّة الفنّان النبيل، والآخر بالوظيفة البسيطة للحِرَفيّ الفنّي. لكنّك تكتب: «لِمَ تقوم بطلاء جدران الغرف؟ لا من أجل «التجميل»، بل لأنّه، من دون الطلاء، تختفي الجدران وتنهار في قعر بلا قعرٍ، ومعها المنزل. لكن ينبغي أن يكون هناك منزلٌ: إقامةٌ، مكوثٌ، استبقاءٌ، عطلةٌ، احتجاٌز، تأخّرٌ. الحاضر المحجوز في مقابل وقوع الزمن، والحاضر المحجوب عن الزمن، المُبعَد.» يمكن تأكيد أنّ دهّان المنازل والفنّان -على الأقلّ الفنّان المعاصر- و”فنّيّ الحاضر” ينضمّان.

-نعم! ذلك يمكن أن يبدو مُثيرًا للسخرية، لكنّه شيءٌ يحظى بالنظر من جانبي. لقد كان الغموض سبب حيرتي لفترةٍ طويلةٍ، وهو غموضٌ يمكن أن يتطوّر إلى مفارقةٍ، بين دهّان المنازل والفنّان الرسّام. ذلك مَدعاة للضحك. لو قِيلَ «هو دهّان منازل»، فالشخص الذي أُعلِنَ عنه يتدحرج من علياء الاعتزاز الفنّي. لكن، في الواقع، لو اعتقد المرء أنّه قبل الرسم على الحامِل كان الرسم الجداري يُغطّي الجدران كافة في بومبي (Pompéi: مدينة رومانية)، أو في الكنائس، في البلقان بخاصّة... لذا، من المشروع طرح السؤال: لِمَ نطلي؟ يمكن ببساطة الاعتراض على الجملة التي ذكرتها –”الجدران بلا طلاء تختفي”- بأنّ للجدران دائمًا لونًا مُعيّنًا، ويمكننا أن نسأل لماذا لا نرتضي هذا اللون. وهذا أمر يحدث أحيانًا. توجد منازلُ عصريةٌ تُترَك فيها الجدران بلا طلاءٍ. لكنّ ذلك يعني أنّنا نرى هذه الخَلفية بوصفها مساحةً (لقد أخطأتُ بالحديث فقط عن الأصباغ)، وذلك يعني أنّه للسكن يُحتاج دومًا إلى تحديد مساحة السكن كمساحةٍ. ذلك يعني أيضًا أنّ الإنسان لا يجعل نفسه في مأمنٍ، أو لا يسكن عندئذٍ، بل يقوم بالاحتماء، والأمر ليس نفسه. عندما يهطل المطر أبحث عن سقيفةٍ أحتمي تحتها، أما لو كنت أسكن في مكانٍ ما، فسيكون تصرّفٌ آخرُ. وهذا التصرّف لا يتعلّق بزخرفةٍ أو زينةٍ ما. إنّه أمرٌ مُختلفٌ...

-نعم. ليس ذلك من أجل “التجميل”، بل يتعلّق بتقنية الحضور أو تقنية العيش. هنا ينكشف أنّ الإنسان كائنٌ تقنيٌّ. وهذا يُفضي إلى فكرة هايدغر التي ترى أنّ الإنسان هو ساكن (habitant).

-وأنا مُستعدٌّ لأقول ذلك فبالنسبة إليّ، وكما تُلاحظ، هو مَطليّ بالأبيض، تقريبًا غير مَطليّ...

-إلى جانب هذا اللوح الكبير الأبيض أحاديّ اللون: أبيض على أبيض على أبيض...

-وهذا اللوح الآخر الخاصّ ﺑ سوزانا فريتشر: مربّعٌ زجاجيٌّ عليه يتلفّ اللون من أعلى إلى أسفلَ. إنّه بالكاد مرئيٌّ.

-أيضًا لديّ سؤالٌ لو سمحت. بالنسبة إليك، الفنّ والفلسفة ليسا ميّتين، لكن هناك شيءٌ جرى تفحّصه. إنّك لم تقل، على غرار آلان باديو (Alain Badiou) أنّه يمكن استئناف العمل بِآراء أفلاطون وفلسفته بين ليلةٍ وضحاها. وهذا الحدّ الذي نُظِرَ فيه، بمعنى ما، هو نفسه بالنسبة إلى الفنّ والفلسفة. وفي كل الحالات، فإنّ الحدود التي ينظر الفنّ والفلسفة فيها تلتقي اليوم. إننا أمام ضربٍ من نفاد الفكرة، أو على الأقلّ ما أسمّيه المعنى المفروض. لكنّك لا تقول بالعدميّة (nihilism)، وفي مُداخلتك على شاشة التلفاز مساءً، بخصوص موريس بلانشو، شدّدت على القول أنّ بلانشو، بخلاف بعض المظاهر التي تفرض نفسها سريعًا، لا يقول بالعدميّة. إذًا هذا النفاد الذي ليس تعبًا يقوم على عدم إنكار أنّ –كما يُقال منذ هيغل[5]- شيئًا مُتعلّقًا بالفلسفة قد اكتمل. إنّك لا تعتقد على غرار دولوز (Deleuze) وباديو أنّ الفلسفة خالدةٌ ومُبدِعةٌ. ثمّة غايةٌ جرى النظر فيها وهذا خبرٌ جيّدٌ. عند هذا المستوى أنت لا تقول بالعدمية. يبقى العالم، أي المعنى الصريح الذي يُنتظر اكتشافه (انظر عبارة نيتشه التي ذكرناها في موضعٍ سابقٍ).

-لكن، لا أفهم الفلسفة كما فهمها باديو ودولوز، ولا أختلف معهما. أظنّ أنّها أكثر من مجرّد كلمةٍ. لأنّه عندما نتحدّث عن «غاية الفلسفة»، مع هايدغر، لا يتعلّق الأمر بشيءٍ آخرَ غيرِ غاية الميتافيزيقا أو اللاهوت الوجودي، أي غاية «المعنى المفروض»، لكنّ قول ذلك بهذه الطريقة قد لا يُعدّ كافيًا. هذه هي غاية الفكرة التي توصِل إلى نتيجة. عندئذ، مع هيغل، جرى النظر في أحد الحدود وتحقّق إنجازٍ ما. وليس من باب الصدفة أنّ كل الذين يحتقرون «غاية الفلسفة»، بالمعنى الذي قصده هايدغر، لا يُفكّرون لدقيقتين في ما جرى بعد هيغل وعصره: ماركس ونيتشه وفرويد... وبعدهم الإحياء الفلسفي في علم الظواهر الهوسرلي.

فقط، بالضبط، وللاقتصار على هوسرل... ثمّة جانبان لديه. هناك الجانب الذي بفضله يُقيم هوسرل صرحًا كبيرًا (هل يمكننا تسميته بالضبط وجودي-لاهوتي؟) له معنىً عقلانيٌّ، لكنّ أفق هذا المعنى، لدى هوسرل نفسه، يبقى بعيدًا جدًا. ومن جهةٍ أخرى، يُفيد معنى المحاولة الظاهراتيّة الانطلاق بعد توقّف، لكنّه يُفيد أيضًا ضربًا من الانفتاح غير المحدود. لديّ انطباعٌ بأنّ الفلسفة لا يمكنها الاكتمال، حتى لو كان هناك أفق «الإنسانية الغربية الأوروبية». لدى هوسرل، يوجد عملٌ آخر يبدأ وسيُسمّيه هايدغر «التفكيك»، الذي تجدّد نشاطه على يد دريدا(Derrida)، وآبُّو«Abbau” لكلّ نظام المعنى الغربي... إذاً، في هذه اللحظة، «الفلسفة محدودة»، لكن يمكن أيضًا أن نقول أنّها تبدأ من جديدٍ باستمرارٍ. وفي هذه الرؤية دولوز على حقٍّ...

-لكنّ دولوز وباديو يتّبعان المنهج البنيوي ويضعان النظريات بطريقةٍ إثباتيّةٍ. بمعنى ما، هما فيلسوفان-فنّانان. إنّك في جانب “الترحيب بما هو قائم”، بالرغم من أنّ هذه العبارة ليست من تأليفك، وفي جانب ضرب من «الانفعالية»...

-إنّها مسألة التقليد بلا شكّ. أنا أنتسب إلى التقليد الألماني أكثر منهما، وفي هذا التقليد لا يمكن تفادي السلبي أو على الأقلّ يُضطرّ المرء إلى طرح السؤال حول ذلك. وربّما بهذه الطريقة نصل قسرًا إلى العدمية (nihilism) بالمعنى الذي ينكشف فيه بلا ريب عدميٌّ ما أو شيءٌ ما في جهةٍ ما. لكن، كما يقول نيتشه، هناك عدميّةٌ ارتكاسيّةٌ وعدميّةٌ فعّالةٌ. والسؤال يتعلّق بمعرفة ماهيّة أو ما يعنيه هذا «الشيء الذي من شأن المعنى»، وهذا البطلان لكلّ الأفكار وكلّ المعاني التي تُنشئ العدمية.

هناك جملةٌ قالها نيتشه أحبّها كثيرًا وهي: «إدخال معنىً. هذه المهمّة ما زالت لم تُنجَز تمامًا، ولا تتضمّن أيّ معنىً.”[6] أظنّ أنّ هذه هي حقيقة العدمية. ولهذا أشعر بدهشةٍ كبيرةٍ عندما يُقال أن بلانشو يقول بلا ريب بالعدمية. لقد أمضى بلانشو وقته وهو يحاول أن يتعمّق في هذا «اللاشيء» أو هذا «الخواء المعنوي” الذي لاحظه، بوجه ما، بوصفه «الثمرة» وفي الوقت عينه بنيّة الكتابة. غير أنّ المعنى ليس مُنفردًا (يقول أدورنو: إنّ الكتابة هي ما يبقى عندما لا يكون هناك معنى) بالنسبة إلينا أظنّ أنّ ذلك يشتمل على جانبين: من جهة، نقول: «لا يوجد شيء، إنّه الخواء» وليس هناك كلمات أخرى سوى الكلمات السلبية لتسمية ذلك. ولكن، من جهةٍ أخرى، نتوقّع أيضًا –يمكننا أن نفهمَ- أنّ هذه الكلمات خاطئةٌ، أو أنّ هذا الخواء ليس سوى خواء الدلالة كما نعرفها...

-بذلك تنقلب العدمية...

-عندئذ، أعلم أنّه يمكن القول إنّها جدليّةٌ...

-هذا مُطابق لذوق العصر... يكثر أولئك الذين يُكرّرون الحديث عن الجدلية...

-إذا كان مطابقًا لذوق العصر فنعم الحدث! لكنني أقول أنّه ينبغي التفكير في جدليّةٍ لامُتناهية لا تُفضي إلى نهاية التاريخ، في معنى أنّنا ظننّا أنّنا نستطيع الاعتقاد أنّ هيغل فكّر في تلك الجدلية. يجب ألّا ننسى أنّه في نهاية فينومينولوجيا الروح، يذكر هيغل أبيات شعرٍ قالها شيلر (Schiller) وقد عدّل فيها بعض الشيء: «في ما يتعلّق بالذهن المُطلق وكأس مملكة الفكر، وحدها الروح التي تكشف زبد اللاتناهي». ذلك شيءٌ لافِتٌ للنظر، نعني أنّ نهاية «فينومينولوجيا الروح» ليست بنهايةٍ، لكنها تنفتح على هذا «الفيض اللامُتناهي». الذات هي التي تختصّ بذاتها، التي لا تضع حدًا لذلك. وبوجهٍ ما، هي لا تختصّ أبدًا بذاتها.

-أولا تظنّ أنّه، أحيانًا، لا تَميل إلى «تحسين» هيغل؟

-لا. أنا لا “أحسّنه”. فهيغل شخصٌ يسمح بالتفكير أبعد منك. ولتمحيص موضوعنا، الأمر المُفيد هو أنّ نهاية «فينومينولوجيا الروح» تتضمّن الاستشهاد بشاعر. وفي حين تنتهي الموسوعة (Encyclopédie) باستشهادٍ منقولٍ من أرسطو، ينتهي «فينومينولوجيا الروح» الذي هو أكثر «فعالية» وأكثر حركةً لأنّه أكثر «مأسويّة»، ينتهي بأبياتٍ لِأحد الشعراء. وهذا ليس من باب الصدفة.

-أظنّ أنّه يمكننا أن ننقل عن الشاعر هولدرلين (Hِlderlin) قوله: «لا بأس! إذا لزم الأمر سنُحطّم قياثيرنا التعيسة ونصنع ما لم يصنعه الفنّانون، أي الحلم»[7]

-في جملةٍ كهذه لم يُفكّر هولدرلين في الثورة... وبالنسبة إلينا، ثمّة هنا شيءٌ بالغ الأهمّية إذ كما تعلمون لا وجود للثورة... ولهذا السبب يضع الفنّ نفسه في موقع الثورة، حيث إنّه لم يتوقّف عن ذلك منذ دادا (Dada). ليست فقط ثورة داخل الفنّ وعالم الأشكال، بل هي مُرتبطةٌ بالثورة الاجتماعية والسياسية. إلى الآن يرى الفنّ أنّه مُجبرٌ على أن يكون ثوريًا، ربما آن الأوان عندئذ للثورة كي تُفكّر في نفسها من ناحيةٍ فنيّةٍ...

- بالمعنى الذي قصده أتباع حركة ضدّ راهنيّة (حركة طالبية ضد الواقع) (situationniste)؟

-في الحقيقة، إنّ هؤلاء الأتباع أدركوا ذلك. لكنّ ما يُثقل كاهلَ خطابهم هو أنّ الميتافيزيقا ما تزال مطروحةً. يمكننا أن نلوم هذا الخطاب على اعتقاده ﺑ الفنّ الكبير (Grand Art)، وبأنّه يحتلّ موقعًا مُنيفًا، يمكن انطلاقًا منه القول «كل ذلك ليس سوى مشهدٍ وتمثيلٍ، لكن هناك الأصالة والحياة الحقيقية». على الضدّ من ذلك، يجب علينا فهم ما يعنيه العيش في عالمٍ غير أصيلٍ في حال حرصنا على الإبقاء على هذه الكلمة. سترى كيف يُفضي ذلك إلى مسألة الفنّ والتقنية. يقضي المرء وقته في القول أنّ التقنية ليست أصيلةً لأنّها غير فطريّةٍ، بينما الزراعة البيولوجيّة يجب أن تكون أصيلةً وفطريّةً...

-هناك أيضًا الموقف المُعاكِس، كموقف فرانسوا داغونييه (François Dagognet)، الذي -في مقالةٍ متأخّرةٍ- يمدح التقنية التي تَقينا من خشونة الطبيعة. أولئك الذين يؤيّدون التقنية مُنساقون إلى الإساءة إلى الطبيعة.

-لا أقول أنّه ينبغي «الإساءة إلى الطبيعة»، لكن هناك شيءٌ ننساه في كلّ اللازِمات ضدّ التقنية، وهو الصعوبة الرهيبة المُتعلّقة بشروط حياة الإنسان في «الطبيعة». السؤال الذي يجب أن يُطرَح هو لِمَ تُوجد ثقافةٌ وحضارةٌ؟ أقصد حضارتنا الغربيّة التي اخترعت فكرة الطبيعة. لأنّه أساسًا، لا أملك الوسائل لقول ذلك بيقينٍ، لكن لديّ انطباعٌ بِأنّه ليس ثمّة حضارةٌ أخرى غير الحضارة الغربية لديها هذه الفكرة عن الطبيعة. في الحضارات الأخرى، كالصينيّة مثلًا، ثمّة طريقةٌ للنظر مليًا في الطبيعة أو المشهد، الذي يضعها على الفور ضمن الفنّ. لذا فإنّ إشكاليّة المحاكاة (mimesis) تختفي تمامًا. وليس ثمّة طبيعةٌ إلا حين يكون هناك تفريقٌ تامٌّ ينتمي إلى الإنسان، مثل نظام اللوغوس (Logos) والمدينة (Cité)... أي عندما يكون هناك انهيارٌ لكلّ التغطية الأسطورية المُقدّسة. في هذه اللحظة هناك شيءٌ يُشبه الطبيعة. عندئذ سيثور مشكل لأنّ هذه الطبيعة تُعطى كنسقٍ من التحقّق الذاتي، وما هو غير مكتملٍ، أو ما يكتمِل بعيدًا عن الاكتمال الفطري، أو يصبح إشكاليّةً. على ذلك ننسى أنّ أول من عرّف التقنية (technè) وهو أرسطو، عرّفها بوصفها ما يُحقّق غاياتٍ لا تُحقّقها الطبيعة. وبالنسبة إلى أرسطو ليس هناك ما يُنذِر بالكوارث. أشعر بالفضول لمعرفة متى بدأنا فعلًا الافتراء على التقنية...

- هناك نقد التقنيات السيئة عند أفلاطون...

-نعم، لكن هناك الجيّد منها والسيئ، وليست (technè) بوصفها كذلك هي ما نُناقشه... علمْتُ للتوّ أنّ الكنيسة دانت، في البداية، القذّافة لأنّها بالغة القوة وكانت ميزاتها تُمكّنها من تخطّي الدروع. إنّه أمرٌ يُحرّك خيالي. ولم نكفّ عن إدانة الأسلحة الفتّاكة... وتُمثّل القذّافة قفزةً تقنيةً، لكن في هذا النوع من الإدانة –ولا أقول أنّه لا ينبغي إيجاد حلٍّ لاستخدام الأسلحة!- شيءٌ بلا قيمةٍ. وبدا الأمر كما لو أنّ هناك ضربًا من السلاح والقتال طبيعيًّا. وطالما أنّ القوة الجسدية تُستخدَم في استعمال السيف أو القوس، فهذا يبقى مقبولًا، في حين أنّه عندما تكون لدينا هذه القوة الإضافيّة التي أوجدها معلاق القِدر، يصبح ذلك مُدانًا...

-ليس من الصدفة أنّك كتبْتَ عن التقنية (technè) في مقالةٍ حول الحرب[8]. هنا يُطرَح المشكل بحدّةٍ أكثر.

-بالتأكيد. لكنّ التقنية تَكشِف -في كلّ مكانٍ لا فقط في الحرب- القدرة المُدمّرة التي تُوازي القدرة البنّاءة. قِيل لنا أنّ الشاشات من شأنها أن تتسبّب في تلف العين، وربما يكون هذا صحيحًا. وأفكّر في الأمر بسبب البريد الإلكتروني. ففيه يطرأ على الشكل الخطّي -أي الرسالة كموضوع- ضربٌ من التدمير والتوافق. وأنا حسّاسٌ تجاه ذلك، بيدَ أنّ الأمرَ لا يمنع أنّه في الرسائل التي أتلقّاها يبقى هناك دائمًا -بالرغم من كل شيء- شيءٌ خاصٌّ بمؤلّفي تلك الرسائل. أَهِيَ آثار أم بقايا؟ لا سبيل إلى تدمير هذا.

-------------------------------------
[1]- جان لوك نانسي: فيلسوف وأستاذ فخري في جامعة العلوم الإنسانيّة في سراسبورغ.
 بينوا غوتز: أستاذ الفلسفة في جامعة بول فيرلين في ميتز، و رئيس تحرير مجلة الفلسفة والعلوم الإنسانية "لو بورتيك"، وعضو في مختبر لورين للعلوم الاجتماعية والشبكة الدولية (PhilAU).
- العنوان الأصلي: Techniques du présent.
- المصدر: 3/1999 ,Revue "Le Portique", "Techniques et esthétique
- ترجمة: عماد أيوب.
[2]- Martin HEIDEGGER, « La question de la technique », in Essais et conférences, Tel/ Gallimard.
[3]- Ainsi parlait Zarathoustra, Première partie, « De la vertu qui donne», 2, traduction
Henri Albert, révisée par Jean Lacoste, OEuvres, II, Paris, Robert Laffont, 1993, p. 342
[4]- Jean-Luc NANCY, « Le vestige de l’art » in Les Muses, Galilée, 1994. Cf. également « Peinture dans la grotte» (Ibid.).
[5]- Signalons le très éclairant Hegel, l’inquiétude du négatif, de Jean-Luc NANCY, Hachette, 1997
[6]- Frédéric NIETZSCHE, Fragments posthumes automne 1887 – mars 1988, trad. Pierre Klossowski, OEuvres philosophiques complètes, Paris, Gallimard, 1976, p. 34
[7]- HOLDERLIN, Lettre à C. L. Neuffer, 1794.
[8]- « Guerre, Droit, souveraineté – Technè», in Etre singulier pluriel, Galilée, 1996.