البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

رِفعة المُثنَّى.. تهافتُ الجندر

الباحث :  محمود حيدر
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  16
السنة :  السنة الرابعة - صيف 2019 م / 1440 هـ
تاريخ إضافة البحث :  July / 30 / 2019
عدد زيارات البحث :  702
تحميل  ( 247.438 KB )
ربّما لن يمتدَّ الوقتُ كثيراً حتّى تظهر في الغرب عبارة «ما بعد الجندر». لا نقول هذا حصراً لأنّ المزاج الغربي بات أسيرَ غوايةِ الانقلاب على مفاهيمه ومصطلحاته؛ وإنّما لكون الموجة النسويّة في الغرب لم تعثر على هويّتها بعد، ولم تستوِ على قرارٍ يختم اضطرابها ومنازعاتها. ما يعني أنّ المفهوم النسَوي لم يُنجز بعد، ولو أنّ أهله سلكوا دروب التحيُّز والسَخَط منذ إرهاصاته الأولى. ربّما لهذين السببين ولسببٍ جوهريٍّ يعود إلى المعاثر التكوينيّة التي تعتريه، جاز حملُهُ على محمل «المابعد». وأرجّح القول إنّ الموجة النسويّة التي طاولت قرناً كاملاً من أزمنة الحداثة لن تنجو ـ ولو بعد حين ـ من غواية المراجعة والتجاوز.

***
ليس ما نذهب إليه مجرّد توقُّعٍ عارضٍ منشؤُه حكم القيمة السلبي على «الجندريّة»، الأمر الذي يطيب لكثرة أن يحتجُّوا به، ممن لا يزالون على سيرتهم الأولى في تلقي المفاهيم كيقينيّاتٍ لا ترتضي المساءلة. ولإن كانت مسألةً ـ كالتي نحن بصددها ـ تبتغي محلاً استثنائيًّا من التدبّر، كان مسعانا على وجه الضبط، تعيين أصل النزاع بمنأى من الاستغراق في تفصيلاتٍ لا طائل منها. ذلك بأنّنا هنا تلقاء مشكلةٍ سوسيو-ثقافيّةٍ حوَّلتها مساجلات الحداثة إلى ضربٍ من معضلةٍ وجوديّةٍ مفتعلةٍ. سوى أنّ المشكلة حاصلةٌ ولا مناصّ من مراجعتها وفهم تداعياتها وأبعادها. ما يضاعف من وجوب الاعتناء بها، أنها تسلَّلت إلى بيئاتٍ وازنةٍ في العالمين العربي والإسلامي، وصار لها أثرٌ بيِّنٌ في أوساطها. فالتركيز المكثّف على «الجندر» بدلاً من العناية بقضايا المرأة وحقوقها البديهيّة لم يكن شيئاً محمولاً على البراءة المعرفيّة. لقد بدا هذا التركيز أدنى إلى رحلةٍ مضنيةٍ تروم صناعةً ظاهرةً، وإن جاءت أضرارها فادحةً حتّى على المرأة نفسها. المفارقة في التنظير الجندري أنّه جاء في الغالب الأعم في سياق رؤيةٍ مضطربةٍ دفعت مشكلات المرأة نحو مسارٍ لا مستقرّ له. رؤيةٌ تبدأ من الفوارق البيولوجيّة والتكوينيّة ولا تنتهي بالفوارق الثقافيّة والتاريخيّة أو الاستلاب الطبقي والمعنوي. لكأن العقل اللّاواعي للفكرة الجندريّة يجري على نحوٍ لا يُراد فيه لهذه الفكرة أن تنضبطَ داخل حدود المفهوم، بل أنْ تبقى ساريةً في حقلٍ لا متناهٍ من الجاذبيّة المفتوحة. في المقابل حرص الوعي الجندري على نقل هواجسه إلى ميدان التجربة وهنا تكمن المفارقة التي تصل حدّ التناقض بين أفعاله وتنظيراته. الأمر الذي حال دون التوصّل إلى تعيينٍ صريحٍ لهويّته الملتبسة.

***
 إذا كان ملفوظ الجندر، ينطوي بالأصل على دوافعَ غريزيةٍ بيولوجيّةٍ، فإنّ هذا الملفوظ سيتمدّد بالفعل ليعبِّر عن نفسه بظهور تيّاراتٍ نسويّةٍ اتّخذت خطاباً أنطولوجيًّا وسوسيولوجيًّا وحضاريًّا في آن. وعلى الرغم من التنظيرات التي زعمت أن التمييز بين الجنسين لا يتحدّد وفق المقترب البيولوجي، بل على أساس الأدوار والوظائف الاجتماعيّة، فإنّها لم تستطع أن تطوي سجل الحديث عن النزعة البيولوجيّة من أجل تظهير هويّتها التمثيليّة. ذلك ما سنلاحظه في الخطبة الجندريّة التي بدت حريصةً على تظهير النوع الأنثوي ككينونةٍ منفردةٍ ومستقلّةٍ في عالم الوجود. فضلاً عن ذلك، فقد تبيَّن أنّ التيارات النسويّة التي انخرطت في الصراع السياسي الاجتماعي، لم تُسقِط الوجه البيولوجي من خطابها، ولو أنّ هذا الوجه استتر غالباً تحت عناوين محض حقوقيّة. ما يدلّ على هذا أنّ القضيّة النسويّة في الغرب استحالت مع التنظير الجندري من مشكلة استلابٍ لحقوقٍ طبقيّةٍ ومعنويّةٍ يمكن تسويتها في إطار «عقد اجتماعي»، إلى معضلةٍ أنطولوجيّةٍ غُلِّقت أبوابها أمام التسويات. فلئن كانت مشكلة المرأة وحقوقها تتعيّن في أبعادها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والمعنويّة، وهي مشكلةٌ مرتبطةٌ بظروف كلِّ محيطٍ حضاريٍّ ومستوى تطوّره، فإنّ خصوصيّات المعضلة تكمن في اندفاعها إلى الحدود القصوى. أي نحو أفق «مابعد طبيعي» يحيل المرأة إلى نوعٍ جوهرانيٍّ لا تتحقق جوهريّته إلّا بالانفصال عن منشئه الأصلي الذي هو الإنسان.

***
لقد أنشأت «الجندريّة» بمسلكها الانفصالي ضرباً من غيريّةٍ متحيّزةٍ ذات سمةٍ إيذائيّةٍ للأصل الإنساني. لم تجرِ الأطروحة النسويّة التأسيسيّة على نحوٍ تنظر فيه إلى الأنثى كمخلوقٍ مؤسِّسٍ للنوع الإنساني. الأمر الذي يحجب عنها حقّ الإقرار ببعدها التكويني ككائنٍ متميّزٍ عن سائر الكائنات. لقد انبرى منظِّروها إلى نسيان الحقيقة الوجوديّة التي تقرّر أنّ الرجل والمرأة زوجٌ ينتمي طرفاه إلى نفسٍ واحدةٍ. وهذا مرجعه إلى التشظيّات التي أحدثتها الحضارة التقنيّة في البنية النفسيّة والثقافيّة للإنسان الحديث. فما اقترفته هذه الحضارة من جناياتٍ سوف تودي بالوحدة الطبيعيّة بين الرجل والمرأة إلى الاستغراق التامّ في قيم الماديّة ومعاييرها. ولمّا كان للقيم تأثيرٌ حاسمٌ على سلوك الإنسان، فإنّ مدى تركيز الأفراد على المساعي والغايات الماديّة سيكون له تأثيره الحاسم على الطريقة التي يتعاملون فيها مع بعضهم البعض. ففي هذه الوضعيّة يصبح الناس الآخرون -كما يُبيِّن الفيلسوف الألماني مارتن بوبر- مختزلين إلى كائناتٍ أو إلى أشياءٍ لا تختلف إلا قليلاً عن المنتجات التي يمكن أن تُشرى وتستخدم ويُستغنى عن ضرورتها.
لا تنأى تعليقة بوبر عمّا انصرفت إليه الجندريّة لجهة صوغ فكرتها على آخَريّةٍ ذات طبيعةٍ إقصائيّةٍ. بل يجوز القول إنّها إقصائيّةٌ مستمدّةٌ من «عنصريّةٍ بيولوجيّةٍ» غايتها تقويض المركزيّة الذكوريّة وإنشاء مركزيّةٍ أنثويّةٍ تُعيد صياغة معادلة (ذكر-أنثى، وامرأة-رجل) على نصاب الندِّية والاختصام...

***
لم تكن الحركة الجندريّة خارج احتدامات الحداثة وتحولاتها الفكريّة والاجتماعيّة. أفادت كثيراً من نزعات التحديث الفلسفي والتقني من أجل أن تصوغ نظريّة المعرفة الخاصّة بها. لقد تأثّرت على وجه الخصوص بالنزعة العدميّة حتّى بلغت في أحوالٍ محدّدةٍ مراتبَ الذروة. لهذا السبب حقَّ توصيف النسويّة (Feminism) بأنّها إحدى أبرز الاستظهارات الصادمة لحقبة مابعد الحداثة. فمثلما وقعت هذه الأخيرة في زحمة الاضطراب المفاهيمي منذ ولادتها إلى يومنا الحالي كذلك كان حال الجندريّة. على سبيل المثال، لا يوجد، ما يومئ إلى إجماعٍ ثقافيٍّ واضحٍ في التفكير النسوي حول ماهية الجندر ووظيفته وإطاره التمثيلي. وهذا منطقيٌّ ما دام الإعراب عن ماهية أيِّ حركةٍ أو فكرةٍ يستلزم توفّر هندسة تعريفيّة جلية لهويّتها ودورها وغاياتها. وهذا ما نلاحظه في النزعة التبريريّة التي شهدها تاريخ الفكر النسوي لجهة سعيه إلى مجابهة التمثيل المشوَّه للنساء، والسعي إلى استعادة التمثيل السليم والعمل على ابتكار الأشكال المناسبة له. 
وممّا يشهد على عمق المأزق التمثيلي استشراء ظاهرة التسليع النسوي عبر إدخال المرأة في حِمى المنافسات الاقتصاديّة للرأسماليّة النيوليبراليّة. وهو ما أشارت إليه الباحثة الكنديّة «ليندا هنتشيون» بما اعتبرته اقتصادًا جنسيًّا يُفضي إلى تحويل الجسد الأنثوي إلى إشكاليّةٍ. وهذا هو أحد المواقع المفصلية الذي تتلاقى فيه الحداثة النيوليبراليّة والحركات النسويّة لكونهما يركّزان معاً على تمثيل الجسد باعتباره تحديًّا أنثويًّا لأسس النظام الأبوي والذكوري.
من هذا النحو وجب النظر إلى أزمة الجندر كامتدادٍ لأزمة الإنسان الحديث وكثمرةٍ غير ناضجةٍ لمعاثر مابعد الحداثة بأبعادها الفلسفيّة والمعرفيّة وأنماط سلوكها. ومن البيِّن في هذا الصدد أن الميتافيزيقا التي تعاملت مع الإنسان الحديث كمركزٍ للكون ما لبثت أن جعلته خاضعاً لأوثان التقنيّة. ولقد نالت الأطروحة النسويّة نصيبها الوفير من مآلٍ كهذا. فقد شكّلت التقنيّة ليست فقط تهديدًا للمصير الإنساني، وإنّما أيضًا وأساسًا، تبديدًا لأسس الميتافيزيقا التي انبنى عليها عصر التنوير. فأزمة الأنسية -كما يقرّر الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر- عائدةٌ إلى التقنيّة التي كشفت عن مسارٍ عامٍّ يسير نحو نزع الإنسانيّة (Disumanizzazione)، ويترجم انحطاط قِيَمَها وتهافت معاييرها.

***

رجوعٌ على بَدءٍ..
ليس غايتنا من هذه الفسحة نقض الأطروحة الجندريّة في مقصدها المجتمعي والحقوقي، وإنّما لبيان المغالطة الأصليّة التي تحيل المرأة إلى نوعٍ أنطولوجيٍّ مكتفٍ بذاته. مع ما يترتّب على هذا الاكتفاء من إعراضٍ عن فهم حقيقته الوجوديّة. مثل هذه المغالطة لا مناصّ من مسعى لتصحيحها في إطار مقترحٍ يقوم على تكامل النوع البشري بدلاً من فصله وتجزئته. وهذا التكامل يفترض النظر إلى الرجل والمرأة كزوجٍ وجوديٍّ لا يقبل الانفصال. فالإنسان ليس جوهراً مفرداً بمعنى إما أن يكون ذكرًا أو أنثى، وإنّما هو كينونةٌ جوهريّةٌ تستوي في مقام المثنى. فالإنسان مشكّلٌ من زوجيّة الذكر والأنثى. أنسٌ مع أنسٍ يساوي الإنسان. وبهذا التأويل الذي ينفرد به لسان العرب تصبح كلمة إنسان مفردة بصيغة المثنى؛ فإذا انشقَّ إلى نصفين يُبطِلْ أحدهما الآخر، فلا يعود الإنسان إنساناً، وتنتفي الذكورة والأنوثة معاً، وهذا محال كما تُقرّر حكمة الخلق.

***
يظهر الأساس الأنطولوجي للمثنى بوصف كونه تمثيلاً حيًًا للزوجيّة المؤسِّسة للنوع البشري. وهو فضلاً عن ذلك يحوي «النشأة الأصليّة لهذه الزوجيّة التي تؤلّف بين جناحين ينتسبان لأصلٍ واحدٍ. ففي زوجية المثنى لا انفصال عن الأصل ولكن تمييزٍ بين كلّ من طرفي الزوجية في الصفة والوظيفة والدور. هما نظيران متعادلان في أصل النشأة، لكنّهما يتمايزان ويختلفان بحكم ما يفترضه تجدّد الخلق وتطوّر الحياة. فالكون مثلاً يدار بسلسلةٍ من الأنظمة والقوانين الذاتية الثابتة التي لا تتغير. وهذه القوانين والأنظمة هي نظائرٌ متعادلةٌ في أصل ظهورها في الوجود رغم الاختلافات والتفاوتات بين شخوصها وأفرادها.. ولذا يقوم العدل في نظام النشأة الكونية على وجود مراتبَ مختلفةٍ ودرجاتٍ متفاوتةٍ للوجود. وهذا هو منشأ ظهور الاختلاف والنقص والعدم. ولأنّ التفاوت والاختلاف والنقص في المخلوقات أمورٌ لا تتعلق بأصل الخلق، بل هي من لوازم ومقتضيات تلك المخلوقات، فمن الخطأ الظنّ بأنّ الخالق قد رجّح بعض مخلوقاته على بعض. أما الترجيح فهو الذي يؤدي إلى نقض العدالة والحكمة وهو من فعل الفاعل البشري[1].
ولئن كان المثنى هو في حيثيةٍ ما حاصل لقاء الغيرية في الموجودات، فذلك يعني أنّ حاضريّته في الوجود هي نتيجةٌ فعليةٌ لاستبدال مفهوم التناقض الوضعي بمفهوم التكامل والوحدة. ولذا لا يقوم المثنى على قانون نفي النفي كما تُقرّر المادية الديالكتيكية؛ ولا على قانون التناقض السلبي كما وجدت الهيغلية، وإنما على ما نسميه بـ«زوجية التناغم الخلَّاق في عالم المثنّى»... ففي هذا العالم بالذات يولد المثنى كمبدأٍ إلهيٍّ للتناظر الخلاَّق بين الكثرات الوجوديّة بحيث لا يعود النظير نقيضًا لنظيره وإنّما هو سيرية امتدادٍ جوهريٍّ للنظائر المتآلفة في ما بينها. في مثل هذه الوضعيّة يصير كلُّ نظيرٍ محفوظًا في محراب المثنى. الذات باقيةٌ تحتفظ بفرديّتها واستقلالها، وكذلك ذات النظير بالمثل. وإذ يجري كلٌّ منهما مجرى المودّة يُفتح لهما باب الكمال لينالا مقام الكرامة الإنسانيّة المؤسَّسة على العدل.
تبعاً لمبدأ الامتداد يغدو كلّ طرفٍ من طرفَي المثنى متضمناً في نفس الآخر فلن ينفصلا أبداً، فيما تتولّى الرحمانيّة بعنايتها تثبيت المثنّى وتسديده. ولذا يدخل كلُّ موجودٍ بحسبه في سُنَّة التدافع، بما هي سُنّةٌ عمرانيةٌ تمنع الفساد في الأرض، وتُؤسّس لإعمارِ دنيا الإنسان وتُيسِّر سبيله إلى السعادة القصوى.
بهذا يستطيع كل من طرفي المثنى أن يتمثّل حال سواه ويكوّنه، بشرط أن يعقد النيّة على الخروج من كهف الثنائيّة واحترابها. ففي هذا الكهف تحتدم الموجودات مع كلّ ما يغايرها هويتها. وحالئذٍ يغدو كل منهما نقيضين متنافرين لا يلتقيان على كلمةٍ سواء. بل قد يسعى كلٌّ منهما إلى تدمير نظيره، أو -في أحسن حال- ليقيم معه توازن هلع لا يلبث بعد هنيهةٍ أن ينفجر لتصيب شظاياه الإثنين معاً. وإذن لا يولد المثنى الكامل إلاّ في مكانٍ نظيفٍ خارج الكثرة المشحونة بالتحاسد. وسيكون له ذلك حين تبلغ أحوال العالم درجة الاختناق. فعند هذه الدرجة لا يعود ثمة انبثاق للحقيقة السامية إلاّ حين يُفارق النوع الإنساني جاهليته ليصبح معادلاً للصفاء الكوني.

***
كان نيتشه يتساءل ـ وهو ينقد ثنائية الخير والشر في عقل الحداثة ـ عن الكيفية التي يمكن لشيءٍ ما أن يولد عن ضدّه: الحقيقة عن الضلال، إرادة الحقيقة عن إرادة الخداع. الفعل الغيري عن المصلحة الذاتية. ونظر الحكيم النيّر الخالص عن الشهوة... وكان يقول: إنّ تولُّدًا من هذا النوع ممتنعٌ.. إذ يجب أن يكون للأشياء ذات القيمة الأسمى منبع آخر وخاص. وهذه القيمة لا يمكن أن تُشتّق من هذه الدنيا الفانية الغاوية المخادعة الوضيعة، أو من هذا الهرج والمرج من الأوهام والأهواء. إن منبع هذه القيمة الأسمى يجب أن يكون هنالك في حضن الكون، في اللاّفاني في الإله المخفي، في الشيء في ذاته، هناك، وليس في محلٍّ آخر[2].

***
على هذا النصاب من التكامل الخلّاق، سيُكتبُ للزوجيّة أن تجتاز التناقض المرير لتجد سبيلها إلى الانسجام في وحدة المثنّى. لقد صار الأمر بينّاً لمن رأى نقيضه قائماً في ذاته. في هذه الحال لا يعود لأحدٍ من حاجةٍ لأحد إلى البحث عن صاحبه في غير ذاته، لأن كلّاً من الزوجين قائمٌ في ذات الآخر، وكلّ منّهما يحسّ بزوجه. ولنا في هذا مثال: فلو علمتَ أنّ الحركة في كلّ من الزوجين النظيرين تنتهي وتبدأ في الزوج الآخر في وقتٍ واحدٍ، لَوَجَدْتَ أن السبب في ذلك إنما هو من أجل أن تظلّ مستمرّةً دائماً وأبداً. فالشيء المتحرّك الذي تنتهي حركته في أحد الزوجين وتبدأ في الزوج الآخر في وقتٍ واحدٍ، إنما هي حركةٌ مستمرةُ لا تتوقف. أما ما يحكم التفاعل في المثنّى الذي يحتضن الآخر والذات معاً، فإنّما هو مبدأ التحوّل والتكامل. ذاك أنّ طرفي المثنّى هما في تحوّلٍ مستمّرٍ بحكم أنّ نهاية الطرف الأول هي بداية الطرف الثاني.

***
ومن بعد.. حين يكون «الجندر» انشقاقاً أو انزياحاً عن الأصل، فإنّه يفقد أصلاً من وجوده ومكانته، وحين يفتقد نظيره في التكوين لا يقدر على بلوغ رِفعة المثنى، ثم يتيه في ضلالات التفكيك والانشطار...

بالمثنى إذاً، يُحفظ حقَّ المرأة في الأصل والفرع، وبالجندر يضيع المبتدأ والخبر...

***
يعتني هذا العدد من "الاستغراب" بمفهوم الجندر في نشأته التاريخية وتداعياته الفكرية والثقافية والسوسيولوجية، سواءً في المجتمعات الغربية حيث نما وتطوّر، أو في تداعياته على المجتمعات العربية والإسلامية. وقد تناولت الأبحاث والدراسات التي شارك فيها مفكرون وباحثون عرب وغربيون نقداً لأبرز المباني المعرفية للنظريات النسوية.

------------------------------------
[1]- مرتضى مطّهري -العدل الإلهي- ص: 82.
[2]- نيتشه - ما وراء الخير والشر – ترجمة: جيزيللا فالور حجار، إشراف: موسى وهبة - دار الجديد- بيروت 1995، ص 18.