البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

النسويّة الأدبيّة.. رؤية نقديّة في المعطى والمنهج

الباحث :  عبد المجيد زراقط
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  16
السنة :  السنة الرابعة - صيف 2019 م / 1440 هـ
تاريخ إضافة البحث :  July / 30 / 2019
عدد زيارات البحث :  5282
تحميل  ( 431.831 KB )
تهدف هذه الدِّراسة للباحث اللبناني البروفسور عبد المجيد زراقط إلى تقديم تعريفٍ لماهيّة الحركة النسويّة في فضائها الأدبي والإبداعي. كما يعرض إلى تيّاراتها والنظريات التي قدّمتها في سياق التجربة الأدبية ومناهجها النَّقديَّة المتعدِّدة والمتنوِّعة. وفي سياق متاخماته النقدية للقضية النسوية يعقدُ الباحثُ جملةَ مقارناتٍ مع النظريات الحديثة ليُبيِّن أوجهَ الاختلاف في الرؤية والمنهج، وكذلك إلى الآثار الناشئة عن حضور الثقافة النسوية الغربية على الحركة الأدبية النسوية في العالم العربي.

 المحرر

--------------------------------------
تطورَّت النِّسوية من حركةٍ سياسيّةٍ تنادي بالمساواة بين المرأة والرَّجل، في الحقوق... إلى فلسفة لها رؤيتها إلى الوجود والمعرفة والقيم والمجتمع، وهذا ما جعل روجيه غارودي يرى أنَّها «ليست حكراً على النساء وحدهن، بل هي فلسفة للجنسين معاً، أي لكلِّ من يؤمن بمبادىء هذه الفلسفة، ويناضل من أجلها فكراً وقولاً وعملاً»[1].
ولعلَّنا لا نبعد عن الصّواب عندما نرى أنَّ النِّسوية، بدأت حركةً سياسيَّةً اجتماعيَّةً ترى أنَّ النّظام المجتمعي السائد نظامٌ أبويٌّ - ذكوريٌّ، يتخذ الرَّجل فيه دور المركز - الذات والمرأة الدَّور الثانوي - الآخر المساعد، دعت إلى مساواة الجنسين سياسيّاً واقتصادياً واجتماعياً ونيل المرأة الحقوق التي يتمتع بها الرَّجل. ثم تطوَّرت هذه الحركة السِّياسيَّة إلى حركةٍ عقديَّةٍ لها رؤاها إلى الوجود وقضاياه؛ وهي رؤى تنطلق من التّجربة النِّسوية الخاصًّة البيولوجيَّة والمجتمعيًّة: الأمومة على سبيل المثال، وهي بوصفها هذا حركةٌ عقديَّةٌ للرِّجال والنِّساء معاً.

في نقد الحركة النِّسوية
في سياق نقد هذه الحركة، يرفض بعض الباحثين مصطلح «النِّسوية» لأنه، كما يرى، مصطلحٌ يتضَّمن مفاهيمَ وأهدافاً سياسيةً، ويميِّز بين مصطلح «أنثوي» لأنه يحدِّد الجنس البيولوجي و«نسوي»، بوصفه مصطلحاً دالاَّ على مفاهيمَ ثقافيّةٍ للنَّوع الاجتماعي[2]. ويرى أنَّ للمرأة، بوصفيها: الأنثوي والنِّسوي خصوصية من دون شك، لكنَّها خصوصيَّةٌ عامَّةٌ، إذ إن لكلِّ امرأةٍ تجربتها الخاصّة، ما يعني أن التجارب النِّسوية تتعدَّد بتعدُّد النِّساء؛ الأمر الذي يتيح القول:
من الصَّعب تحديد هوية «المرأة - الأنموذج الكلِّي» وخصوصيَّتها، فالنِّساء لسن كمّاً واحداً، وإنَّما هنَّ كائناتٌ متعدِّدةٌ ومتنوِّعةٌ، وكذلك هي تجاربهن المنتمية إلى «ما لا يمكن تحديده». لهذا، فإنَّ الكتابة التي تتمثّل هذه التجربة وتمثِّلها لغةً أدبيّةً هي كتابةٌ لا يمكن أن نحيط بها، وإن كان من إصرار على التَّحديد، فإنَّ ذلك ممكن إن تم وضع كلٍّ من الرَّجل والمرأة في تكوينه البيولوجي، وهذا أمر غير صحيح، فالكتابة لا تمثِّل هذا التكوين فحسب، وإنما تمثِّل التجربة الإنسانيّة الكيانية المجتمعية لكل منهما، ليس بوصفه كائناً بيولوجياً مستقلاًّ، وإنما بوصفه كائناً مجتمعياً ينتظم في بنيةٍ مجتمعيةٍ يتخذ فيها موقعاً يؤدِّي منه دوراً، أو مواقع يؤدِّي منها أدواراً.
وإن كان من تمييزٍ حقيقيٍّ، فإنََّه تمييزٌ يعتمد معيار السُّلطة/ الخطاب الأبوي. وهذا المعيار ليس معياراً بيولوجياً، وإنَّما هو معيارٌ سلطويٌّ، فإن كان الصّوت السّلطوي ذكريَّاً، فإن كثيراً من النِّساء ينطقن بهذا الصَّوت.
تصف «ماري إلمان» كتابة «سيمون دي بوفوار» بالذّكورية، بسبب نبرتها السُّلطوية الواضحة، فهي ترى أنّ الصَّوت الذكوري ليس محصوراً في جنس الرجال، كما هي الحال مع الصوت الأنثوي، فهو ليس محصوراً في جنس النِّساء.
لكن، وما دامت الكتابة النِّسوية تسعى إلى هدم هذا الخطاب الأبوي المسيطر، منذ آلاف السِّنين، وطالما أنه ارتبط بالرَّجل، فمن الطّبيعي أن ترتبط الكتابة النِّسويَّة بالمرأة بالدَّرجة الأولى، ولكن ليس بأيِّ امرأةٍ، وإنما بالمرأة التي يصدر خطابها من منظور نسويٍّ حدَّدناه في ما سبق من قولٍ، وقد يشاركها رجالٌ في الصدور عن هذا المنظور.

شيءٌ من تاريخ الحركة النِّسوية
الحركة النِّسوية الأولى طالبت، في القرن التِّاسع عشر، بالمساواة الاجتماعية والقانونيّة بين الرَّجل والمرأة، ولم تكن تُسمَّى، آنذاك، بالحركة النِّسوية وإنَّما كانت حركةً مطلبيَّةً. الحركة النِّسوية الثانية استمدَّت أفكارها من كتابين: أوَّلهما كتاب «كيت ميليت» عن السِّياسات الجنسيَّة، وثانيهما كتاب «فردريك أنغلز»: «أصل العائلة والملكية الخاصّة»، وجاء فيه أن النِّظام الأبوي (البطريركي) قام على سيطرة الرَّجل على الأسرة واضطهاده للمرأة، وأنًّ هذا النِّظام ليس النِّظام الوحيد الذي عرفه التاريخ الإنساني، فقد سبقه النِّظام الأمومي الذي كانت فيه الملكيّة جماعيّةً والنّسب يعود إلى الأم، ثم حدث التطوُّر الخطير، فتمَّ الانتقال إلى النِّظام الأبوي؛ حيث الملكيَّة خاصَّةٌ والنَّسب يعود إلى الأب، وفيه تمَّت الهزيمة التاريخيَّة للنّساء، إذ ظهر شكل العائلة الأبويّة، حيث الزِّواج الآحادي، وهو آحاديٌّ للمرأة فحسب.
في هذه العائلة، صار دور المرأة زوجةً تنجب الأبناء، وتعمل في المنزل في المدينة، أو في المنزل والحقل في الرِّيف. وفُرضت عليها العفّة كي يضمن الرّجل أنَّ من تلدهم هم أولاده الذين يرثونه. حدث هذا نتيجة تغيُّر موقع كلٍّ من الرَّجل والمرأة في البنية المجتمعية ودوره في هذه البنية، فالرَّجل هو الأقوى، فسيطر، وغدت سيطرته سياسة حكمت جميع المجتمعات البشريَّة.
رأت الحركة النِّسويّة أنَ هذا النِّظام الذي تشكّل نتيجة تطوُّرٍ مجتمعيٍّ يمكن أن يتغيَّر نتيجة تطوُّرٍ مجتمعيٍّ آخرَ، وهي تعمل من أجل حصول هذا التطوُّر الذي يغيِّر النظام الأبوي إلى نظام آخر يتمُّ فيه إلغاء الأسرة الأبوية التي تقوم على ركيزةٍ مادِّيةٍ هي عدم المساواة بين الزَّوج والزَّوجة، فالزَّوج يقوم بالعمل المنتج والزوجة تقوم بالأعمال المنزلية المجانية.
كان كتاب أنغلز هذا، إضافةً إلى كتابات ماركس ومنظِّري الماركسيَّة، أساس الحركة النِّسوية الماركسيَّة التي ترى أن الرأسمالية والملكية الخاصَّة هما ما أدَّى إلى هزيمة النِّساء وهيمنة الرجال، أما الحركة النِّسوية الليبرالية فطالبت بأن يوفِّر النِّظام الرأسمالي الفرص والحقوق نفسها للنساء والرِّجال، من طريق سنِّ القوانين القاضية بذلك، وتشكيل القوى الضّاغطة من أجل نيل المرأة حقوقها.
في مسار هذه الحركة، دعت «فرجينيا وولف» (1882 - 1941)، منذ سنة 1919، النِّساء إلى العمل من أجل تأسيس هويِّة خاصَّة بهنّ، وتحرير قدراتهن الإبداعيَّة والتعبير عن تجاربهنّ الشخصيَّة الخاصَّة. ثمَّ عرفت الحركات النِّسويّة تعدُّداً وتنوُّعاً، فمن حركاتها ما يسمَّى بالحركة النسوية الجديدة، وهي ترى أن العالم يعرف «مقهوراتٍ هنَّ المرأة والطَّبيعة وشعوب العالم الثَّالث»، ومن يقهرهن هو الرَّجل الأبيض، ولهذا لا بدّ من السَّعي للتخلّص من سلطة هذا الرجل المركزيَّة، وتحصيل الحقوق المهدورة لهذا الثلاثي وصونها، وقد تفرّع من هذه الحركة ما سمِّي بالنسوية البيئية، وأوّل من وضع هذا المصطلح «فرانسواز دوبون» في كتابها: «النِّسوية أو الموت» - 1974، وتطوَّرت رؤى هذه الحركة، فغدت تدعو إلى مناهضة كلِّ تمييزٍ واضطهادٍ، على أيِّ أساسٍ: عرقيٍّ أو طبقيٍّ أو جنسيٍّ أو بيئيٍّ[3].

تيارات الحركة النَّسوية
يمكن تصنيف تيارات الحركة النِّسوية كما يأتي:
1 - النِّسوية الليبراليَّة: يعتمد هذا التيّار، إضافةً إلى ما قلناه قبل قليلٍ، الفكر «اللِّيبرالي»، ومحوره فكرة المساواة، بين الرّجل والمرأة وكلِّ البشر، في توفير فرص العمل وتحقيق التكافؤ والتقدير، من دون التمييز على أساس اللون أو النَّوع أو العرق..
2 - النِّسوية الرَّاديكاليّة: يعتمد هذا التيّار ثنائيَّة الذَّكر/ الأنثى، فإن كان الذكوريون يرون أن الجسد الأنثوي علامةٌ تدلُّ على ضعف المرأة العقلي والثقافي والعلمي والاجتماعي...، فإن التيار الأنثوي هذا يرى أن الجسد الأنثوي علامة تدلّ على تفوُّق المرأة على الرَّجل، فهي «الأم» المنجبة بيولوجياً، و«الأمُّ» المنجبة اجتماعيَّاً وثقافياً قيماً خاصَّةً بالمرأة.
3 - النَّسويَّة الماركسيّة: سبق أن تحدَّثنا عن هذا الاتجاه، ونضيف، هنا، أنَّ هذا التيار يركِّزعلى العامل الاقتصادي، فيرى أنَّ الاختلاف النَّوعي بين الرَّجل والمرأة، يُستخدم في استغلال المرأة في سوق العمل، وفي البيت، حيث يقتصر دورها على الإنجاب والخدمة المنزلية، ويدعو إلى المساواة والمشاركة.
4 - النِّسوية ما بعد البنيويًّة: يقرّ هذا التيّار بقبول الاختلاف، ويدعو إلى الاعتراف بكل صفات الشخصيّة وتقديرها جميعها من دون تمييز، ويرى أنَّ هذا الأمر يبشِّر بحياةٍ أفضل للفرد ذكراً كان أم أنثى، وأنَّ التمييز النّوعي هو نسقٌ ذهنيٌّ لا علاقة له بالاختلاف البيولوجي.
5 - النَّسوية الملوَّنة: يقرُ هذا التيّار بالاختلاف كما أقرَّ به الاتجاه ما بعد البنيوي، لكنّه يقرِّر أنَّ تجارب النِّساء الملوَّنات تختلف عن تجارب النِّساء الغربيّات، فقهرهنَّ كان قهراً مزدوجاً، من مجتمعاتهن ومن الاستعمار الغربي معاً، وهو استعمارٌ نفَّذه كلٌّ من الرجل الغربي والمرأة الغربيَّة. ويؤكِّد الخصوصيَّة التي تنتج رؤًى خاصَّةً.
يرى «ديفيد كارتر» أنَّ «ما يوحِّد مختلف أنواع النَّظريَّة الأدبيَّة النِّسويَّة ليس تقنيَّةً نقديَّةً محدَّدةً، وإنَّما الهدف المشترك، المتمثِّل في رفع مستوى وعي المرأة لأدوارها...، والكشف عن مدى الهيمنة الذكوريَّة...». ويضيف، فيتحدَّث عن اتِّفاقٍ عامٍّ، بين معظم الكتَّاب مفاده أنه يمكن تقسيم النَّظريَّة النِّسوية إلى مرحلتين برزت في أولاهما «فرجينيا وولف» و«سيمون دي بوفوار» (1908 - 1986)، وبرزت، في ثانيتهما «كيت ميليت» (1934)، و«ساندرا جيلبرت» (1936) و«سوزان جوبر» (1944)، و«ألين شووالتر» (1941)، و«جوليا كريستيفا» (1941)، و«هيلن سيسو«(1937)، و«لوس أيريغاري» (1932)، و«روث روبينز»[4].

النِّسوية العربيَّة الإسلاميَّة
يمكن القول: إن الكلام على نسويةٍ إسلاميَّةٍ يعود إلى الزَّمن الذي صدر فيه كتاب «نوليفر غول»: «الحداثة الممنوعة» سنة 1991[5]. لكنّ حركات المطالبة بحقوق المرأة في العالمين: العربي والإسلامي تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
يمكن تصنيف النِّسوية العربيَّة - الإسلاميَّة، كما هي عليه حركات المطالبة، في الأقطار العربية والإسلاميَّة، بحقوق المرأة، في هذه الأيَّام، في ثلاثة تيَّارات هي:
1 - نسويّةٌ مستغربةٌ، وهي حركةٌ نسويَّةٌ تتَّبع الحركات النِّسويََّة الغربيَّة، وترتبط بمبادئها ورؤاها، وقد وُصفت هذه الحركة بالتبعيَّة لهذا التيَّار أو ذاك من تيَّارات النِّسوية الغربيَّة. تقول «زهراء علي»، في هذا الشَّأن: إنّ النِّسوية الغربيِّة، «ككل الحقائق السِّياسيَّة، عندما تُفهم بطريقةٍ جازمةٍ، أو دوغمائيةٍ، تملك النَّزعة لتصبح أداةً ايديولوجيةً. عرفناها هكذا خلال الفترة الاستعماريَّة عندما كانت النِّسوية تستخدم لتساعد الهدف الاستعماري والسيطرة الغربيَّة على الأراضي الإسلامية». ويرى الإسلاميون أن هذا الاتِّجاه «ليس مجرَّد أفكارٍ عن حقوق المرأة الاجتماعيَّة بقدر ما هو أفكار عن الهوية الإسلاميَّة نفسها»[6].
2 - نسويَّةٌ توفيقيةٌ، وهي حركةٌ نسويةٌ تحاول التّوفيق بين مبادىء النِّسوية الغربيِّة والمبادىء الإسلاميَّة؛ وهي تفعل ذلك، كما يبدو، نظراً إلى أنَ أيّ حركةِ مطالبةٍ بحقوق المرأة، في مجتمعٍ إسلامي، لا تسوِّغ مطالبها بمبادئ ورؤى إسلاميّة تحكم على نفسها بالإخفاق. وهذه الحركة انتقائيَّةٌ تنتقي من مبادىء النِّسويات الغربيَّة، ومن المبادىء الإسلاميَّة ما تراه مناسباً لها، وتحاول التَّوفيق بين ما تنتقيه، ما شكَّل اتجاهاً تصفه دلال البزري بقولها: «ورثت النِّسوية الإسلاميَّة كلّ مفاعيل اندفاعة النّسوية الغربيّة، لكنّها تنكّرت لها، وقالت: إنه الإسلام»[7].
3 - النَّسوية الإسلاميَّة، وهي حركةٌ تعمل على «متابعة قضيَّة حقوق المرأة، عبر تطبيق الشَّرع الإسلامي بشكلٍ كاملٍ وشاملٍ لكافة قضايا المجتمع، بما فيها قضية المرأة... والناشطات في التيارات الإسلامية يتبَّنين رأياً يؤكِّد تكامل الأدوار بين الرَّجل والمرأة»[8]. تحاول هذه الحركة أن تعيد النَّظر في «القراءة الأبويّة - الذكوريَّة» للإسلام التي سمحت باضطهاد النِّساء لا في الشِّرع الإسلامي. تقول زينب أنور، المديرة التنفيذية لجماعة «أخوات في الإسلام»، وهي منظمة ماليزية تعمل من أجل حقوق المرأة في إطار العمل الإسلامي: «في مجتمعاتنا، الرِّجال يمتلكون السلطة، وهم يقرِّرون ما ينبغي أن يعنيه الإسلام، وكيف يمكننا أن نطيع هذا المفهوم المعيَّن في الإسلام...، لا أستطيع أن أعيش مع إلاهٍ ظالمٍ القانون الإسلامي نفسه تقدّمي، لكن أولئك الرِّجال الذين يسيطرون عليه ليسوا كذلك»[9].
المشكلة تتمثَّل، في رأي هذه الحركة، في سيطرة «السُّلطة الذكورية» على فهم النُّصوص الدِّينيَّة وتطبيقها في الواقع، وليس في هذه النُّصوص نفسها. لهذا لا بدَّ من إعادة قراءة هذه النُّصوص
يقرُّ هذا التيَّار بالاختلاف بين الرَّجل والمرأة؛ ذلك أنَّه جاء في القرآن الكريم: Nوَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰM آل عمران:36، ولم يحل هذا الاختلاف دون تكريمهما معاً. وتقدير كلٍّ منهما يعود إلى عمله، كما تقول الآية الكريمة: Nأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْM [10]. وإن كان للرجل درجةٌ وقوامةٌ، فذلك يعود إلى «القدرة» على الإنفاق، أي إلى الموقع الذي يتَّخذه في البنية المجتمعيَّة، ويؤدِّي منه دوراً اقتصادياً واجتماعياً، كما يُفهم من الآيتين الكريمتين: Nوَلَهُنَّ مِثلُ الَّذِي عَلَيهِنَّ بِالمَعرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌM [11]؛
Nالرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْM [12]، ولكن السُّؤال الذي يُطرح، هنا، هو: ماذا لو لم يمتلك الرِّجال هذه القدرة، وفقدوا الموقع والدَّور اللذين يتيحان لهم امتلاكها.
يرى النَّاشطون، في هذا التّيار، أنَّ نصوص الدِّين الإسلامي توفَّر الحياة الطَّيبة لكلِّ من الذكر والأنثى، من دون أيّ تمييزٍ بينهما، وهذه الحياة حقٌّ لمن يعمل صالحاً منهما، وهو مؤمن، فالعمل الصالح، الصَّادر عن المؤمن، هو المعيار في الحصول على أحسن الجزاء، فقد جاء في القرآن الكريم: «من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن فَلْنُحيينَّه حياةً طيبةً. ولنجزيَّّنهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون» [13]. وفي الأساس ليس من تفضيل، فالنَّاس جميعهم خلقهم ربُّهم من نفسٍ واحدة، وعليهم أن يتَّقوه، كما تقول الآية الكريمة: Nيا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً...M [14].
وفي التأريخ للحركة النِّسوية العربيَّة، تفيد الوقائع التاريخيَّة أن البدايات تعود إلى عام 1909، عندما نشرت ملك حفني ناصيف مجموعةَ مقالاتٍ عدَّها كثيرون علاماتٍ فارقةً في تاريخ المرأة. نُشرت هذه المقالات تحت عنوان «نسائيات، على صفحات الجريدة التَّابعة لحزب الأمَّة الوطني». وفي عام 1923، استُخدم مصطلح النَّسوية من طريق الحزب النِّسائي المصري. ومن يعد إلى الكتابات التي أرَّخت لهذه الحركة يتبيَّن جهود روَّادٍ منهم قاسم أمين، ورائدات منهن هدى شعراوي، وما كتب في هذا الشَّأن معروفٌ ومتداولٌ، كما أنَّ هذا المسار من الحراك النِّسوي لم يتوقّف منذ ذلك الوقت، وفي الكتب المختصَّة تفصيلٌ لذلك لسنا بحاجةٍ لإعاده كتابته هنا.

الأدب النِّسوي
السُّؤال الذي يُطرح، بدايةً، هو: هل تكتب المرأة الأدب بطريقةٍ تختلف عن الطَّريقة التي يكتبه بها الرَّجل، فيكتسب أدبها خصوصيّةً تميِّزه من أدب الرّجل؟ ثمَّ، إن كان الجواب بالإيجاب، هل يعود هذا الاختلاف في خصوصيَّة الكتابة إلى الاختلاف البيولوجي، أو إلى الاختلاف المجتمعي، أو إليهما معاً؟
السُّؤال الأخير يعود إلى أنه ينبغي التمييز بين مفهوم الجنس - Sex ومفهوم الهويَّة الاجتماعيَّة الثَّقافية، أو «الجندر» - gender، فمفهوم الجنس يتحدَّد بيولوجياً، أمَّا مفهوم «الجندر» فيتحدَّد مجتمعيّاً، فهو مفهومٌ اجتماعيٌّ ثقافيٌّ مكتسبٌ غيرُ خاصٍّ بالمرأة، فلا يهمّ ما إذا كان الكاتب رجلاً أو امرأة بيولوجيّاً، وإنّما المهمّ هو الهوية النِّسوية المتمثِّلة في النَّص، والمقصود بها نقد المجتمع الأبوي والعمل على تغييره.
ثم هل توجد امرأةٌ أديبةٌ واحدةٌ ورجلٌ أديبٌ واحدٌ؟ وبتعبيرٍ آخرَ: هل توجد تجربةٌ حياتيَّةٌ أدبيّةٌ لامرأةٍ واحدةٍ وتجربةٌ حياتيّةٌ أدبيَّةٌ لرجلٍ واحدٍ؟ وهل من تجربةٍ مشتركةٍ بين جميع الرِّجال، وتجربةٍ مشتركةٍ بين جميع النساء؟ ألا توجد فروقات أخرى، بين النِّساء الرِّجال، وبين النِّساء أنفسهن والرِّجال أنفسهم، طبقيَّة وعرقيَّة ومجتمعيَّة: ثقافيَّة واجتماعيّة وسياسيَّة، وشخصيَّة؟ ألا توجد رؤى مشتركة بين نساء ورجال، منها كشف الهيمنة «الأبويَّة» الواعية وغير الواعية؟ والهيمنة الأبويَّة لا تقتصر على هيمنة الرجل على المرأة فحسب، وإنّما تشمل أي هيمنة ذكوريَّة: الاستعمار بمختلف أشكاله، هيمنة الغربيِّ الأبيض، هيمنة الرأسمال، هيمنة أي سلطة مستبدَّة...
في الإجابة عن هذه الأسئلة، يمكن القول: إنَّ الأدب الذي تكتبه المرأة هو «أدب المرأة»، وليس «الأدب النِّسوي»، وهو موازٍ للأدب الذي يكتبه الرَّجل، وليس هذا الأدب «أدباً غير نسويٍّ»، وهذا التمييز يعود إلى أن الأدب الذي يُكتب من منظورٍ «عقديٍّ» نسويٌّ ينطق برؤيةٍ كاشفةٍ للهيمنة الأبوية، أياً يكن نوعها، سواءً أكتبته امرأةٌ أم رجلٌ، هو أدبٌ نسويٌّ يمثِّل التجربة النِّسوية ورؤاها إلى العالم وقضاياه.
في هذا الشِّأن، ترى شيرين أبو النّجا أن النَّص الأدبي النِّسوي هو النَّص الأدبي الذي يمثِّل «الرؤية المعرفيَّة الأنطولوجية للمرأة، والمهموم بالأنثوي المسكوت عنه، الأنثوي الذي يشكِّل وجوده خلخلةً للثَّقافة المهيمنة، وهو الأنثوي الكامن في فجوات هذه الثقافة، وأخيراً هو الأنثوي الذي يشغل الهامش»[15].
فالأدب النِّسوي، من هذا المنظور، هو الأدب الذي يتمثَّل تجربة المرأة الخاصَّة الحياتية، ويمثِّلها نصَّاً أدبيَّاً، فما يميِّزه ليس اختلاف كاتبه الجنسي، بل خصائصه البنيويَّة. من منظور آخر، ترى النظريَّة الأدبيَّة النِّسويَّة أن هويَّة الأدب النِّسوي ينبغي أن تكون هويةً أنثويةً خاصَّةً، تعبِّر عن تجربة المرأة الخاصَّة، وتمثِّل واقع حياتها بشكلٍ تفصيليٍّ، ذلك أن المرأة قد قُدِّمت، ولأزمنةٍ طويلة، بأنماط بعيدة عن الحقيقة والواقع، بوساطة نماذجَ أدبيَّةٍ مضلِّلةً. لذلك لا بدَّ من أن يتطابق الأدب النِّسوي وتجربة المرأة، سعياً وراء فهمٍ ملحِّ للتجربة الأنثويةّ، وهو الفهم الذي سيسهم في زيادة وعي المرأة[16].
ترى «أيلين شووالتر» أن الحياة التي تعيشها المرأة، وما يُفرض عليها من واجباتٍ تنتج مضموناً أدبياً يختلف عمَّا ينتجه الكاتب (الرجل)؛ الأمر الذي يجعل هذا الأدب يمتلك خصائص مشتركةً تكفي لكي تشكِّل تقاليدَ أدبيةً نسائيةً واضحةً، وتقول: «عندما ننظر نظرةً جامعةً إلى الكاتبات نستطيع أن نلمس ملمحاً متِّصلاً على مستوى الخيال، وأن نلحظ تكوُّن أنماطٍ وموضوعاتٍ ومشاكلَ وصورٍ معيَّنةٍ تظهر من جيلٍ إلى جيلٍ»[17].
وتدعو هيلين سيكسو المرأة إلى أن تكتب نفسَها، فتقول: «اكتبي نفسَك. يجب أن تسمعي صوت جسدك، فذلك وحده هو الذي يفجِّر المصادر الهائلة للاَّشعور»[18]. وتقول في موضعٍ آخرَ: «إذ تكتب المرأة نفسَها، بوساطة خطاب النساء، فإنها تعود إلى الجسد، وتصبح اللغة وثيقة الارتباط بالنَّوع الجنسي»[19].
وإذ يتم التحدُّث عن خصائص الأدب النِّسوي، يرى جورج طرابيشي أنَّ العالم هو المركز في رواية الرَّجل، والذات هي المركز في رواية المرأة، وترى نوال السعداوي أنَّ الإجرام يحتاج إلى ذكورةٍ لا إلى أنوثة، وأنَّ أدب المرأة يتميَّز بأن مخيلته أكثر حيويَّةً وخصوبةً وحركيةً مما هو عليه أدب الرجل، ويقول عفيف فراج: تتحرك المرأة في عالم الرَّجل، إذ تتمرَّد ضدَّه ثم تعود إليه، وينتقد المرأة التي ترغب في الحرية الجنسيَّة لبطلتها من دون حسبان الواقع الاجتماعي.
وقد تكون رواية «أنا أحيا» لليلى بعلبكي التي تعدُّ، من منظور بعض النَّقاد من بواكير الأدب النِّسوي، خير مثالٍ على ما يذهب إليه فرَّاج، فشخصيَّتها الرئيسيَّة تثور ضدَّ الرَّجل، لكنَّها تعود إليه، وتجد أنَّ الإنجاب هو ما يحقِّق ذاتها، ويعطي حياتها الجدوى، وهذه التجربة، كما هو واضح، تجربةٌ نسويةٌ حياتيةٌ خاصَّةٌ وصادقةٌ، وليست تجربةً مفتعلةً.
ومن التّسميات الطّريفة التي تشير إلى خصائص هذا الأدب نذكر ما يأتي: ظهرت، في السويد تسمية له هي «أدب الملائكة والسَّكاكين»، وسمَّاه «أنيس منصور»«أدب الأظافر الطَّويلة»، وسمّاه «إحسان عبد القدُّوس»«أدب الرُّوج والمانكير»؛ إذ رأى فيه أدباً صوتيّاً وشكليَّا[20]...وهذه التَّسميات تختزل المرأة في بعض صفاتٍ شكليَّةٍ خاصَّةٍ بها، ولا ترى إلى جوهر تجربتها الخاصَّة.
ويمكن للباحث أن يثير السُّؤالين المركزيَّين، في هذا الشأن، ويتبيَّن الإجابة عنهما كما يأتي:
هل يختلف أدب المرأة عن أدب الرَّجل؟
هل من خصوصيّةٍ لأدب المرأة تميِّزه من أدب الرَّجل؟
جرى، ويجري، نقاشٌ طويلٌ في هذا الشأن. ويمكن تصنيف الإجابات في رأيين يرى أوَّلهما أن أدب المرأة يختلف عن أدب الرجل، وأنَّه يتميَّز بخصوصيةٍ تميِّزه منه، وذلك يعود، في المقام الأوَّل، إلى الاختلاف البيولوجي، المفضي إلى اختلاف اجتماعيٍّ نفسيٍّ ثقافيٍّ سياسيٍّ يتمثَّل في الموقع الذي تتخذه المرأة في البنية المجتمعية والأدوار التي تؤدِّيها من هذا الموقع، الأمر الذي يؤدِّي إلى اختلاف التجربة الحياتية، وتالياً الأدبيَّة التي تتمثَّل نصّاً أدبيّاً.
ممَّن يرى هذا الرأي محمد برادة، فهو يقول: «... هناك كلامٌ يرتبط تلفُّظه بالذَّات المتلفِّظة...، فأنا من هذه الزَّاوية لا أستطيع أن أكتب بدل المرأة، لا أستطيع أن أكتب عن أشياء لا أعيشها»[21]، ومحمد نور الدين أفاية، فهو يرى أن المرأة تصوغ كتابتها بشكلٍ مختلفٍ تماماً عن أشكال كتابة الرَّجل، سواءً أتعلَّق الأمر بالكتابة المخطوطة أم بأشكال الكتابات التي لا تتوقَّف المرأة عن ممارستها في علاقاتها بجسدها؛ فالمرأة، باعتبارها كائناً مختلفاً في تكوينه وجسده عن الرجل، باعتبار تواجدها في مجتمع ذكوري، تعمل على الدَّوام على إظهار جسدها بشكل مغاير»[22]. ورشيدة بنمسعود، فهي ترى أنََّ المرأة، في كثيرٍ من النّصوص السَّردية التي تكتبها، تؤدِّي دورين هما: الرَّاوي والشخصيَّة الرئيسيَّة، فتعبِّر عن ذاتها، وهي تروي ما يجعل نصَّها السَّردي أقرب إلى السِّيرة الذَّاتيّة التي تهيمن فيها الوظيفة التَّعبيرية، أو الانفعاليَّة، من بين وظائف جاكوبسون السِّت، فيتميَّز هذا النَّص بخصائص لا يتاح لأيِّ نصٍّ يكتبه الرَّجل أن يتَّصف بها، لأنَّ هذا النَّص وليد تجربة تعيشها المرأة ولا يعيشها الرَّجل، ومن هذه الخصا ئص كتابة الجسد: تفصيلاته، وظائفه، إيحاءاته...، كتابة الأدوار المجتمعية (الجندر)، ومنها معاناة الهيمنة الذكورية الأبوية، كتابة الرؤية النِّسوية الخاصَّة إلى العالم[23].
ويرفض ثانيهما التمييز بين أدبٍ نسائيٍّ وأدبٍ رجاليٍّ، فتقول «لطيفة الزَّيات»: «لقد رفضت، دائماً، التَّمييز بين الكتابات النِّسائية وكتابات الرِّجال؛ وذلك على الرَّغم من أنَّ النساء والرِّجال يكتبون بشكلٍ مختلفٍ»، وترفض «خالدة سعيد» مصطلح «الإبداع الذُّكوري[24]. وتقرّ «يمنى العيد» «برفض التَّصوُّر النقدي الذي يميِّز بين الأدب مفهوماً عامَّاً، والأدب النِّسائي مفهوماً خاصّاً، لتقرَّ بوجود نتاجٍ ثوريٍّ يلغي مقولة التمييز بين الأدب النسائي والأدب»[25]. وترفض «سهام بيومي» و«خناثة بنونة» مصطلح «الأدب النسائي»[26] وتقول «أحلام مستغانمي»: «أنا لا أؤمن بالأدب النسائي»[27]. وتقول غادة السمَّان: «من حيث المبدأ، ليس هناك تصنيفٌ لأدبين: نسائيٍّ ورجاليٍّ»[28].
يبدو لي أن ليس من خصوصيَّةٍ تميِّز جميع ما تكتبه النِّساء، وذلك يعود إلى أنْ ليس من تجربةٍ عامَّةٍ واحدةٍ في كتابة الأدب، فالتجربة الأدبيَّة شخصيَّةٌ، وهذه التجربة فرديّةٌ وفريدةٌ، والأدب الذي يمثلها شخصيٌّ وفرديٌّ وفريدٌ، وإن كان من مشتركٍ فهو كائنٌ بين الكتَّاب والكاتبات الذين يعيشون تجربةً حياتيةً تكوِّنها عوامل مشتركة، فيتصف النَّصُّ الممثِّل لهذه التجربة بخصوصيَّتين: فريدة ومشتركةٍ في الوقت نفسه، إضافة إلى أنَّ الأديب الموهوب يمكن أن يكتب التجربة، وإن لم يعشها، فالنَّص الأدبي متخيَّلٌ ذو مرجعٍ، وليس شرطاً ضرورياً أن يكون المرجع وقائعياً معيشاً يعيشه الأديب فعلاً، وإنَّما يمكن أن يكون نتاجَ معرفةٍ وخبرةٍ، وفي أيِّ حال، فإن تمثيله لغةً أدبيَّةً هو عملٌ متخيَّلٌ، وليس نقلاً أو انعكاساً للمرجع، والتخيّل شخصي وليس عامَّاً.
من منظورٍ آخرَ، يرى عبد الله الغذَّامي أن اللُّغة التي يكتب بها كلٌّ من الرَّجل والمرأة هي اللُّغة نفسها، وهي «لغة ذكوريَّةٌ منحازةٌ ومؤدلجةٌ»، ولأنَّها كذلك، «لا يمكن للمرأة أن تنتج بها نصًّا ذا خصوصيًّةٍ نسويًّةٍ».
والسُّؤال الذي يُطرح هنا هو: هل يمكن للمرأة أن تكتب نصَّها بلغة ليست من صنعها؟ والحلُّ، كما يضيف الغذامي، هو أنَّ المرأة، «بعد إدراكها لهذا المعضل الإبداعي، راحت تحتال لكسر الطَّوق الذكوري المضروب على اللغة، وراحت تسعى إلى تأنيث الذَاكرة، لأنَّه ما لم تتأنَّث الذَّاكرة، فإن اللغة ستظلُّ رجلاً...»[29].
يثير قول الغذَّامي السُّؤال: هل يعني بـ«اللُّغة الذُّكورية» اللُّغة أو الكلام، أو الكلام الأدبي؟ فإن كان يعني الكلام الأدبيّ، فهو لغةٌ خاصًّةٌ فرديَّةٌ وفريدةٌ، لا يكتبها رجلٌ أو امرأةٌ بوصفه، أو بوصفها، أنموذجاً كلِّيَّاً، وإنَّما يكتبها رجلٌ معيَّنٌ وامرأةٌ معيَّنةٌ، ولكلٍّ منهما تجربته الأدبيَّة الخاصَّة الفردية والفريدة التي تملي اللُّغة الأدبيَّة الخاصَّة... التي تمثِّلها وتنطق بها، وهذا يعني أنَّ هذه التجربة هي التي تصنع اللُّغة الأدبيَّة لا الرجلَ، أو المرأةَ، بوصف كلٍّ منهما، كائناً عامّاً.
في ضوء هذا الفهم، يمكن القول: ليس من أدبٍ للمرأة مختلفٍ، ذي خصوصيَّةٍ، كما أنه ليس من أدبٍ للرجل مختلفٍ ذي خصوصيَّةٍ، وإنَّما يوجد أدبٌ شخصيٌّ فرديٌّ وفريدٌ، ذو خصوصيَّةٍ. ويمكن، إن كان من تجاربَ تشترك في مكوِّناتٍ معينةٍ، أن يوجد أدبٌ ذو خصوصيَّةٍ عامةٍ وشخصيةٍ في آنٍ، ومن هذا الأدب الأدب الذي يمثِّل التَّجربة النِّسويَّة الخاصَّة بمكوِّناتها الجسدية والمجتمعية والرؤيوية. هذا الأدب هو ما تصحُّ تسميته بالأدب النِّسوي المتميِّز ببنيةٍ لغويةٍ تمثل التجربة النِّسوية الخاصَّة، وتنطق برؤيتها.
وليس بعيداً عن الصَّواب القول: إنَّ الأدب الذي تكتبه المرأة يُنسب إليها، بوصفها منتجته، وهو ليس «كمًّا»، متجانسًا، وكذلك هو الأدب الذي يكتبه الرَّجل. في الإجابة عن السؤال: هل من خصوصيَّة للأدب الذي تكتبه المرأة، نتبيَّن رأيين؟ يرى أوَّلهما أن أدب المرأة يختلف عن أدب الرَّجل بسبب الاختلاف البيولوجي المجتمعي بينهما، ويرى ثانيهما أنّ التجاربَ الأدبيَّة شخصيًّةٌ فرديَّةٌ وفريدةٌ، وتمثُّلها الأدبي كذلك، ما يعني أن الاختلاف كائنٌ بين هذا الأدب وذاك سواءً كان كاتبه امرأة أو رجلاً. إضافة إلى هذا الرَّأي نجد من يرى أنَّ اللغة «ذكوريّة منحازة ومؤدلجة»، ما يجعل المرأة غير قادرة على إنتاج أدبٍ مختلفٍ عن أدب الرجل. ويفوت هذا الرَّأي أنَّ اللُّغة الأدبيّة «كلام أدبي» يصنعه الأديب أو الأديبة، وهو شخصيٌّ فرديٌّ وفريدٌ، وليس هو كلامَ جنسٍ أو فئةٍ. وما يمكن تقريره هو أن النَّص الأدبي لغة خاصّة يصنعها الفرد لتمثِّل تجربته الخاصًّة. ويمكن، إن كان من تجارب تشترك في مكوِّناتٍ مشتركةٍ، أن تنتج أدباً ذا خصوصيَّةٍ عامَّةٍ وشخصيّةٍ في آنٍ، ومن هذا الأدب الأدب الذي يمثل التجربة النِّسوية العامَّة، والتجربة الشخصيّة الخاصّة في آنٍ. وهذا هو الأدب النِّسوي.
تأسيسًا على هذا، تكون مهمَّة النًّقد الأدبي النِّسوي دراسة النُّصوص الأدبيَّة، وتمييزها وتبيُّن التجربة النِّسوية وخصائص النصوص الأدبية التي تمثِّلها والرُّؤى التي تنطق بها، وإذ يتمُّ ذلك في نصوصٍ تمثِّل ظاهرةً، يتم تجميع النتائج وتركيزها وبلورة خصائص نوع أدبيٍّ في آونةٍ معيَّنةٍ من الزَّمن، وإذ تتكرَّر هذه الدِّراسة التزامنية، تتمُّ المقارنة بين نتائج هذه الدراسات في دراسةٍ تطوريَّةٍ، وتتمّ معرفة مسار تطوُّر هذا النَّوع من الأدب.

إشكاليّة الأدب النِّسوي العربي
السُّؤال الذي يُطرح، هنا، هو: هل من أدبٍ نسويٍّ عربيٍّ؟
لا يمكن أن نجيب عن هذا السُّؤال بنعم أو لا، فالأدب الذي تكتبه المرأة يكاد يساوي الأدب الذي يكتبه الرَّجل، لكن: هل هذا الأدب أدبٌ نسويٌّ أو نسائيٌّ؟ وأيُّ نماذجَ منه نسويَّةٌ، وفاقاً للمفهوم الذي حدَّدناه قبل قليل؟ تقتضي الإجابة عن هذين السؤالين: أن ينهض النَّقد الأدبي النَّصِّي بدراستين: تزامنيَّةٍ وتطوُّريًّةٍ للأدب العربي، في مختلف مراحله للإجابة عن هذين السُّؤالين إجاباتٍ ملموسةً. وهذا، على حدِّ معلوماتي، لم يحدث كما ينبغي. وإن كان من دراساتٍ تبحث في «أدب المرأة»، فإنَّها لم تفصِّل في الإجابة عن هذين السؤالين وما يتفرَّع عنهما من أسئلةٍ، ما يعني أن لدى النَّقد الأدبي النِّسوي إشكاليّة ينبغي أن يبحث فيها، وهذه مهمَّة ينبغي أن تنهض بها كلِّيات الآداب في الأقطار العربيَّة، من طريق ممارسة نقَّادها المنهجيِّين للنقد الأدبي النِّسوي. والسؤال الذي يطرح، هنا، هو: ما هو النَّقد الأدبي النِّسوي؟ وما هي مناهجه؟

النَّقد الأدبي النِّسوي
ينبغي التَّمييز، بدايةً، بين النقد الأدبي الذي تكتبه المرأة وبين النَّقد الأدبي النِّسوي، فليس كلّ ما تكتبه المرأة من نقدٍ أدبيٍّ هو نقدٌ نسويٌّ، وإنَّما هو نقدٌ يُنسب إلى المرأة، بوصفها ناقدة أدبيَّة تمارس النقد الأدبي كما يمارسه الرجل، فالنقَّد الأدبي النّسوي هو الذي يصدر من منظور نسوي كما تبينََّاه آنفاً، إلى الأدب، ما يعني أنَّه مجالٌ من مجالات النَّقد الأدبي، وهو، كما يرى غير باحثٍ، من أشدّ مجالات النقد الأدبي تعقيداً[30].
ترى «ماري انغلتون»، في كتابها: «النَّظرية الأدبية النِّسوية»، خطأ القول: إنَّ النَّقد الذي تمارسه المرأة نقدُ نسويٌّ، وإن النقد الذي يمارسه الرجل نقدُ رجاليٌّ، وترى أن العمل الأدبي النسائي هو ذلك العمل غير المقيَّد بالمفاهيم التقليديَّة، والذي لا يلقي بالاً لمعايير الرجل، وهو بالضرورة يعكس واقع حياة المرأة بشكلٍ صادقٍ، بقصد زيادة وعيها، ولا بدَّ من أن يحمل ولاءً لحركة تحرير المرأة، بحيث تشكل تجربة السعي إلى هذا التحرير عنصراً أساسياً في الإبداع النِّسوي.
وهذا يعني أنَّ النقد الأدبي النِّسوي ليس النَّقد الأدبي الذي تكتبه المرأة، وإنَّما هو النقد الأدبي الذي يبحث في النَّص، أيِّ نصّ، عن الرُّؤية النِّسوية إلى العالم وخصائص اللغة الأدبيَّة التي تنطق بها، وأنَّ النقد الأدبي النِّسوي هو النَّقد الأدبي الذي يدرس النَّص الأدبي، بغية أن يتبيَّن فيه صورة كلٍّ من الرَّجل والمرأة ورؤيته، والمنظور القيمي الذي ينطق به، ومعرفة ما إذا كان ذكورياً أو أنثوياً، ما يتيح معرفة الرُّؤى - القيم والخصائص البنيوية اللغوية الجماليَّة النِّسويِّة.
ومن مهامِّ هذا النَّقد، أيضًا، دراسة أدب المرأة بعيداً عن النَّظريات النقدية التي وضعها الرِّجال، ما يقضي بإنتاج خطابٍ نسويٍّ حرٍّ غير مقيَّدٍ بالإرث النّقدي، ينظر إلى التجربة الإنثويّة الخاصَّة التي تكون المرأة الأكثر قدرة على تمثُّلها وتمثيلها، من منظورٍ مختلفٍ تشكِّله هويتها وتجربتها.
يرى النَّقد الأدبي النِّسوي إلى النَّص من منظور النَّظرية النِّسويًّة؛ إذ إنَّه يعتمد مبادىء هذه النَّظرية لدى دراسته النَّص، وبغية التركيز على النِّسويَّة اقترحت «سوزان لانسر» تغيير الاسم من النقد الأدبي النِّسوي إلى النَّقد النِّسوي الأدبي.
وترى جوليا كرستيفا أنَّ «النَّقد النِّسوي يفكِّك النظام الترميزي، ويعيد صياغته على أسس جديدة يتم فيها تعريف الآخر، والتعامل معه بوصفه عنصراً مماثلاً»[31].
يعدّ كتاب «بيتي فريدان»: «الأسطورة النِّسويّة» البداية التي أسَّست للنَّقد الأدبي النِّسوي، وفتحت أمامه آفاقاً رحبةً للتطوُّر والتَّنوُّع اللذين عرفهما تحت تأثير المناهج النقديَّة المتعدِّدة؛ وذلك يعود إلى أنه يسعى إلى أن يكون غير مقيَّدٍ بمنهجٍ نقديٍّ معيَّنٍ، وإنَّما يستخدم أيَّ مناهج تمكِّنه من الإجابة عن الأسئلة التي يثيرها.
من هذه الأسئلة، كما يبدو لنا: ما الكتابة الأدبيَّة النِّسوية؟ ما خصائصها؟ ما موضوعاتها؟ ما رؤاها؟ هل من خبرةٍ نسويةٍ خاصَّةٍ في الكتابة الأدبيَّة؟ هل لجنس الكاتبة دورٌ في رسم صورة المرأة والرَّجل في النَّص؟ أيُّ دور تؤدِّيه المرأة في النَّص؟ هل تتخذ المرأة، في النُّصوص، صورةً نمطيّةً، أو صورًا خاصّةً؟ ما المنظور الذي ينطق به النَّص إلى المرأة والرجل؟ ما المواقف؟ هل للمرأة لغةٌ خاصًّةٌ مختلفةٌ؟ ما خصائصها؟ هل من خيالٍ خاصٍّ بالمرأة؟
في كتاب «أيلين شووالتر»«نحو بلاغةٍ نسويَّةٍ» - 1979، بحث في طرق تصوير المرأة في النُّصوص التي يكتبها الرَّجل، واستخدمت في بحثها مصطلح «النَّقد النِّسوي»feminist critique. ومن أشهر الكتب التي ظهرت، في سياق تطوُّر النَّقد النِّسوي كتاب «ماري ألمان»«التفكير بالمرأة» - 1968، وكتاب «فيلس شيلو««النِّساء والجنون»، وكتاب «كاتي ميلليت»«السِّياسة الجنسيَّة» - 1977، وكتاب «ألين شووالتر»: «أدب خاص بهن» - 1977، وكتاب «ساندرا جيلبرت» و«سوزان كوبار»: «المرأة المجنونة في العلِّية» - 1977. والمشترك، بين هذه الكتب، هو تأكيد الكاتبات أنهن يكتبن عن الإبداع النِّسوي ليعدنه إلى المتن، بعد أن جعله «الصَّمت الذكوري» في الهامش، وليبدلن القراءة الأبوية بقراءةٍ أخرى أكثر صواباً، تصدر من منظورٍ نسويٍّ.
ويرى فوكو «أنَّ ما هو صوابٌ، في رأي المجتمع، يعتمد على من يهيمن على الخطاب في هذا المجتمع، وكأن سيادة لغة الرجل تقوم بدور أساسي في قمع المرأة، والعكس صحيحٌ، وهو ما يوحيه كتاب Dal-Spender (لغةٌ من صنع الرِّجال) بما تراه المؤلّفة، من أنّ المحاولات التي تقوم بها المرأة، للسيطرة على الخطاب، ما هي إلاَّ ردَّة فعل تواجه بها المرأة نمطاً أيديولوجياً بطريركياً حريصاً على إنتاج قوالبَ مكرَّرةٍ عن رجالٍ أقوياءَ ونساءٍ ضعيفاتٍ»[32].
تتعدَّد المناهج التي يستخدمها النقد الأدبي النِّسوي. تقول النَّاقدة ك.ك. روتفن: «هناك النِّسويون الاجتماعيون الذين حفَّز اهتمامهم بالأدوار المخصَّصة للنِّساء في مجتمعنا على دراسة الطُّرق التي يجيء بها تصوير النِّساء في النُّصوص الأدبيَّة. وهناك النِّسويون السيميوطيقيون الذين ينطلقون من السيميوطيقا، ويدرسون النُّظم الدَّلاليَّة التي تشعر بوساطتها الإناث، ويصنَّفن نساء، لكي تُحدّد لهنَّ أدوارهنَّ الاجتماعيَّة. وهناك النّسويون النَّفسيون الذين ينقِّبون عن فرويد ولاكان بحثاً عن نظرية للنَّاحية الجنسيَّة الأنثويَّة، غير مقيَّدة بالمعايير والفئات الذكريَّة، والذين يفحصون النُّصوص الأدبيَّة بحثاً عن التعبيرات اللاواعية عن الرَّغبة الأنثوية، أو عن آثار لكبتها. وهناك النِّسويون الماركسيون الذين يهتمُّون بالقهر أكثر من اهتمامهم بالكبت، والذين يحلِّلون النُّصوص الأدبيَّة بأسلوبٍ ماركسيٍّ واضحٍ...، وهناك النِّسويون الاجتماعيون - السيميوطيقيون - النَّفسيون - الماركسيون... الذين يقتبسون من كلِّ شيءٍ شذرة، حسبما تتيح الفرصة. وهناك النِّسويون الشّواذ الذين يدعون إلى نظريةٍ جسديَّةٍ في الكتابة، ويستكشفون العلاقة بين الناحية الجنسيّة والنصِّيّة... وهناك النسويون السُّود الذين يشعرون بأنَّهم مقهورون بصورةٍ مزدوجةٍ، إن لم تكن ثلاثية، بوصفهم سوداً في مجتمع يعلو فيه البيض، وبوصفهم نساء في مجتمعٍ أبويٍّ، وبوصفهم عاملاتٍ في ظلِّ الرأسماليَّة، وهنَّ يدنَّ النسوية المتأخِّرة لتركيزها التَّام، تقريباً، على مشاكل النِّساء البيضاوات من الطَّبقة الوسطى في المجتمعات المتقدِّمة تكنولوجياً...»، وهناك «نسويو ما بعد البنيويَّة» المعادين للنِّسوية، والذين يقاومون التسويات مع الأبوية وإفساح المجال لها[33].
ويضيف «فنست ب.ليتش» إلى هذه القائمة «النَّقاد النِّسويين الذين يمارسون النقد الوجودي والتفكيكي، ونقد استجابة القارئ، ونقد فعل الكلام، بجانب نقد الأسطورة المتأثِّر بيونغ، ونقد العالم الثالث المعادي للاستعمار»؛ الأمر الذي يجعله يرى «أن حركة النَّقد النِّسوي فضفاضة، وليست مدرسةً محبوكةً الأطراف»[34].
يمكن القول: إن النّقد الأدبي النِّسوي يستخدم مناهجَ كثيرةً، منها: النفسي الماركسي، التاريخي التفكيكي، التَّلقي، السيميائي، الأسطوري، الاجتماعي، الثقافي، العالم ثالتي المعادي للاستعمار، الوجودي، والأهم، من هذه المناهج، أربعة هي:
1 - النقد النِّسوي النفسي، وهو اتجاهان: أولهما يعتمد نظرية سيغموند فرويد وثانيهما يجعل نظرية جاك لاكان أساساً له؛ وتعدُّ الناقدات الفرنسيات الأكثر تمثيلاً لهذا المنهج، ومنهن أيلين سيكسو وسوزان جوبار وساندرا جلبرت.
2 - النقد النِّسوي الماركسي، يعتمد هذا المنهج التراث الفكري الماركسي، فيركِّز على الدور الذي تؤديه التربية الاجتماعية في تكوين الذات النسوية وموقعها الاجتماعي؛ الأمر الذي يتمثل في النص الذي تكتبه، وتعد الناقدات البريطانيات الأكثر تمثيلاً لهذا المنهج.
3 - النقد النِّسوي الاجتماعي، يبحث هذا المنهج في الفوارق الجنسيَّة التي تكرِّسها الثقافة السَّائدة، ويتم على أساسها تحديد أدوار كل جنس من الجنسين في المجتمع، إضافة إلى البحث في القيم الثقافية والاجتماعية وما تولِّده من تصوُّرات عنها، وتعدّ الناقدات الأميركيات الأكثر تمثيلاً لهذا المنهج.
4 - النقد النِّسوي ما بعد البنيوي، وهو نقدٌ متنوِّعٌ: ثقافيٌّ، تفكيكيٌّ، نقد النِّسوي العالم ثالثي...
ترى شيرين أبو النَّجا، في ضوء هذا الواقع، أن النقد الأدبي النِّسوي منهجٌ نقديٌّ انتقائيٌّ، يستفيد من جميع النَّظريات السَّابقة والمعاصرة له، بغية تبيُّن «النِّسوي» في النَّص، وفي الأماكن المعتمة التي لا تسلِّط عليها البنية «الأبوية» الأضواء[35].
«على الرُّغم من نزعة التعدُّد هذه إلاَّ أن هناك مفاهيمَ معيَّنةً تجمع هذا الشُّتات، أهمها: عامل الاختلاف الجنسي في إنتاج الأعمال الأدبيّة وشكلها ومحتواها وتحليلها وتقييمها، وعلى هذا تترتب عدةُ خصائصَ تميِّز هذا النقد هي:
1 - إن الثقافة الغربيَّة هي ثقافة الذَّكر (الأب)... 2 - بينما تحدِّد العوامل الطبيعيّة النَّوع البشري (ذكر أو أنثى)، فإنَّ هذا النَّوع ومفهومه (الجنس النَّوعي) هو بنيةٌ ثقافيةٌ أنتجتها التحيُّزات الذكورية السَّائدة في الثقافة الغربيَّة حتى يتَّصف الذَّكر بالإيجابيَّة والمغامرة والعقلانية والإبداع، بينما تتصف الأنثى بالسلبيّة والرضوخ والارتباك والتردُّد والعاطفية واتباع العرف والتقليد. 3 - الإيديولوجيا الذكورية اجتاحت كافة كتابات الثقافة الغربيَّة...»، ما أدى إلى أمرين: إما أن تتغرَّب الأنثى القارئة أو أن تتبنَّى منظور الرَّجل فيجنِّدها، من حيث لا تدري ضدَّ نفسها...
توجَّه كثير من أتباع هذا النّقد إلى ما أسمته «أيلين شووالتر» بالنقد «الجينثوي (gynocriticism)، أي النقد الذي يُعنى، على وجه التحديد بإنتاج النساء كافةً من كافة الوجوه...، وأهم صفات هذا النقد: 1 - تحديد مادّة كتابة المرأة وصفاتها: عالم المرأة الداخلي... تجاربها: الحمل، الوضع، الرِّضاعة... 2 - كشف تاريخٍ أدبيٍّ للكتابة النِّسوية...، 3 - بلورة صيغة التجربة النِّسوية المتمِّيزة في التفكير والتقييم وإدراك الذات والعالم الخارجي، 4 - تحديد خصائص اللغة النِّسوية، أو الأسلوب اللغوي النسوي المتميِّز[36].
يلتقي النَّقد النِّسوي الانتقائي والنقد التفكيكي في النَّظرة إلى الإرث النَّظري النَّقدي، فكل منهما لا يعتمد نظريَّة واحدة من نظريات هذا الإرث، فانطلاقاً من ثنائية المعنى المتحقِّق والمعنى المرجأ التي تعدُّ مبدأً من مبادىء النَّقد التفكيكي، يعمد النقد النسوي هذا إلى إعادة قراءة النُّصوص الأدبيَّة، بغية الكشف عمّا فيها من اتِّفاقٍ أو اختلافٍ مع الخطاب الأبوي، وعمَّا هو متحقِّقٌ ومرجأٌ في النَّص، ما يقضي بتعدُّد القراءات والعمل دائماً على كشف المخبّأ.
اتجاهٌ آخرُ يذهب إلى معرفة الإرث النَّظري والإفادة منه، ثم العمل على إنتاج خطابٍ معرفيٍّ/ نقديٍّ خاصٍّ بالمرأة، ويذهب اتجاهٌ ثالثٌ إلى استثمار الإرث النَّظري في خدمة النظرية الأدبية النِّسوية والنقد النسوي، وتمثل هذا الاتجاه الكاتبة «توريل موي».
في ضوء ما سبق، يمكن القول: إنًّ النقد الأدبي النِّسوي هو النقد الأدبي الذي تكتبه المرأة أو الرَّجل من منظورٍ نسويٍّ، كما تبيَّنَّا هذا المنظور آنفاً، إلى الأدب، فينهض هذا النقد بمهمَّة تمييز النَّص وتبيُّن الرُّؤية النِّسوية فيه وخصائصه اللغويَّة ورؤاه إلى المجتمع الأبوي، وخصوصاً الرؤية النِّسوية إلى العالم وخصائص اللغة الأدبيّة التي تنطق بها. لهذا النَّقد أسئلته التي يعمل على الإجابة عنها، ومنها: ما الكتابة الأدبيَّة النِّسوية؟ ما خصائصها؟ ما موضوعاتها؟ ما رؤاها؟...تتعدَّد المناهج التي يستخدمها هذا النَّقد، ومنها: الاجتماعي والسِّيميائي، والنَّفسي والتفكيكي والثقافي... والانتقائي...، ما يجعل حركة النقد الأدبي النِّسويَّة فضفاضةً.

النقد الأدبي النِّسوي العربي
النَّقد الأدبي الذي تكتبه المرأة يملأ المكتبات، وقد يزيد على ما يكتبه الرَّجل، وخصوصاً في الآونة الأخيرة التي تكاد صفوف كلِّيات الآداب في الجامعات العربية تقتصر على الطَّالبات، لكن هذا شيء وتشكيل النقد الأدب النِّسوي العربي ظاهرةً نقديةً مستقلةً شيءٌ آخرُ. صحيح أنَّ الحياة النَّقدية العربيَّة تعرف ناقداتٍ متميزاتٍ، يبحثن في النقد النِّسوي منهن: زهرة الجلاصي ونازك الأعرجي وشيرين أبو النجا، ورشيده بنمسعود ونعيمة المدغيري وجليلة الطريطر وزينب العسَّال وزهور كرام ووفيقة دودين...، لكني أميل إلى القول:
ليس من نقدٍ أدبيٍّ نسويٍّ عربيٍّ يمثل ظاهرةً نقديةً مستقلَّةً ذاتَ مفاهيمَ وإجراءاتٍ خاصَّةٍ بها، حاضرةً وفاعلةً في الحياة الأدبيَّة العربيَّة. والنِّسوية نفسها، في الوطن العربي، لم تنتج ما يمثِّل ظاهرة فكريّة ذات خصوصيَّة.
وإن كان لنا أن نقدِّم معرفةً بهذه الحركة، فإنَّنا نعود إلى ما سُمِّي بعصر النهضة، فنرى أنَّها بدأت بكتاباتٍ تدعو إلى تحرير المرأة من القيود الاجتماعية وإعطائها حقوقها المدنيَّة، ويبدو أنَّ الرِّجال هم أوَّل من كتب في هذا الشأن، مثل رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين وأحمد فارس الشدياق، وغيرهم، ثم بادرت النِّساء إلى تبنِّي قضية تحرُّر المرأة كتابةً ونشاطاً سياسيّاً واجتماعياً، مثل ملك حفني ناصف وهدى الشَّعراوي، ومنيرة ثابت ودريَّة شفيق وزينب فواز. وإليها تُنسب كتابة أوَّل روايةٍ عربيَّةٍ هي «غادة الزاَّهرة أو حسن العواقب»، كُتبت سنة 1895، وصدرت سنة 1899، في رأي غيرِ ناقدةٍ وناقدٍ..، وغيرهن.
وإذ غدت النِّسويَّة، في أوروبا والولايات المتّحدة الأميركية، علماً من العلوم الإنسانيّة ونظرية ًذاتَ مبادئَ ومسارٍ تاريخيٍّ ومؤسَّساتٍ، وإذ ظهر النقد الأدبي النِّسوي في أواخر سبعينيات القرن العشرين، نتيجة كتابات «جوليا كريستيفا» و«شووالتر»، بدأت تظهر في الوطن العربي كتاباتٌ فكريةٌ وأدبيّةٌ ونقديَّةٌ نسويةٌ، لكاتبات منهن: كوليت خوري ونوال السعداوي وغادة السمَّان وليلى العثمان وفاطمة المرنيسي وغيرهن، وجميعهن متأثرات بالحركة النِّسوية الغربيَّة.
وتذهب «سعاد المانع»، في دراستها: «النقد الأدبي النسوي في الغرب وانعكاساته في النقد الأدبي المعاصر»، إلى «وجود مستويَيْن في الدِّراسات النَّقدية النسوية الموظّفة للمقولات النقديّة النسوية الغربيَّة، أوَّلها معتدلٌ في التفاعل مع هذه المقولات والتحمُّس لها، وثانيها يسعى إلى تقديم شواهد من التراث واللغة لإثبات صدق مقولة من المقولات».

كتاب «النَّقد النِّسائي...» لزينب العسَّال
بغية تحصيل معرفةٍ ملموسةٍ بهذا النَّقد نستقيها من كتابٍ مختصٍّ لناقدةٍ متابعةٍ لهذا النَّقد، نعود إلى كتابٍٍ يبحث فيه، ونعرف ما يتوصَّل إليه من نتائج، وهذا الكتاب هو كتاب «النَّقد النِّسائي للأدب القصصي في مصر» لزينب العسَّال.
تثيرُ العسَّال، في مقدِّمة الكتاب[37]، أسئلة منها: ما النَّقد النِّسائي؟ هل يوجد لدينا نقدٌ نسائيٌّ؟ إلى أيِّ اتجاهٍ ينتمي؟ ما اتجاهاته؟ إلى أيِّ مدى استطاع أن يصوغ رؤى متجاوزة لما هو كائن بالفعل؟ وهل هو النَّقد النِّسوي أو يختلف عنه؟ وبم يختلف؟
تفيدُ هذه الأسئلة أن الإشكاليَّة، موضوع البحثِ، تتمثَّل في تحديدِ نوعِ النَّقد النِّسائي الموجود لدينا وتبيُّن فاعليته، لا في وجوده؛ إذ إنَّ غير سؤالٍ من الأسئلة يقرُّ بهذا الوجود، كما أنَّ الباحثة تقول في ما بعد: «والحقيقة أنَّ الكتابات النِّسائية، بشقَّيها الأدبي والنَّقدي، شقَّت لنفسِها مساراً لا يزال يعمل يوماً بعد يوم»، ولكن ما يحتاج إلى نقاشٍ هو: هل تنتمي هذه الكتابات النسائية إلى النِّساء/ الجنس أو إلى النِّساء/ الجندر، أي هل تنتمي هذه الكتابات إلى المرأة بوصفها البيولوجي، أو إليها بوصفها المجتمعي الثقافي وتجربتها النِّسويّة الخاصة؟
في إشارةٍ أولى لمقاربة هذه الإشكالية، ترى الباحثة أنَّ النَّقد النِّسائي لم يُذكر ضمن تلك التَّصنيفات التي أقرَّ بها كبارُ الباحثين، كما أنَّ النَّاقدات النِّسويات كنَّ ينظرن إليه نظرةً تفيد أنَّه من أعمال المقاومة ضدَّ النَّظريات، وأنَّ العلاقة بينه وبين النَّظريات النَّقدية علاقةٌ ندِّيَّةٌ، وليست علاقةَ تابعٍ بمتبوعٍ.
وفي إشارةٍ ثانيةٍ، ترى الباحثة «أنَّ النَّقد النِّسائي ارتبط بكتابة المرأة»، ما يثير سؤالاً، عن طبيعة الارتباط، مفاده: هل المقصود بالنَّقد النِّسائي النَّقد الذي تكتبه المرأة، أو النَّقد الذي يكتب عن الأدب الذي تكتبه المرأة؟ أو الأدب الذي يكتب من منظورٍ عقديٍّ نسويٍّ، أي من منظور النظرية النسوية؟
أيَّاً تكن الإجابة، فإن مفهوم النَّقد النِّسائي، كما يبدو، في هذه الإشارة، هو النَّقد الذي تكتبه المرأة، أو الذي يُكتب عنها، لكن هذا النَّوع من النَّقد لا يُعدُّ من أعمال المقاومة ضدَّ النَّظريات، كما أن العلاقة بينه وبين النَّظريات ليست علاقةً ندَّيةً، وإنَّما هي علاقةُ انتماءٍ إلى نظريَّةٍ، أو نظريَّاتٍ، معيَّنةٍ منها.
في صدد انتماء النَّقد النِّسائي إلى نظريَّةٍ نقديَّةٍ، تعرض الباحثة رأياً يتحدَّث عن موقفين، يرفض أوَّلهما، وهو المتشدِّد، انضواء النَّقد النِّسائي تحت أيِّ نظريةٍ نقديةٍ، ويرى ثانيهما أنَّ مصلحة النَّقد النِّسائي تتمثَّل في أن تكون له نظريةٌ، أو على الأقل أن ينفتح على النَّظريات، أو التَّيارات، النَّقدية الموجودة.
يمكن، في ضوء ما سبق، تصنيف الرُّؤى إلى النَّقد النِّسائي، كما يقدِّمها الكتاب، كما يأتي:
1 - النَّقد المرتبط بكتابة المرأة، أي النَّقد الذي يدرس النُّصوص الأدبية التي تكتبها المرأة وهذا النَّقد لا يتَّصف بخصوصيَّة تميِّزه من النَّقد المرتبط بكتابة الرَّجل إلاَّ بالمنهج وكفاءة النّاقدة، أو النَّاقد، في استخدامه.
2 - النَّقد الذي يعدّ ندًّا للنَّظريات النَّقدية «الذكوريَّة»، وعملاً من أعمال المقاومة ضدَّها، بوصفه نقداً نسويَّاً، وهذا النَّقد إما أنَّه يمتلك نظريةً نقديةً نسويةً، أو يفتقر إلى أي نظرية، أو ينفتح على النظريات النقدية، ما يجعل نظريته انتقائية.
يثير هذا التَّصنيف أسئلةً كثيرةً منها: هل يعدُّ النَّقد المرتبط بكتابَة المرأة نوعاً من أنواع النَّقد متميّزاً؟ وبم يتميَّز؟ وهل تعدُّ دراسة النُّصوص التي تكتبها المرأة أمراً مميِّزاً لاتجاهٍ نقديٍّ؟ وهل يمكن أن تعدُّ النَّظريات النَّقدية التي يستخدمها هذا النَّقد، وهي إرث نظريٌّ يستخدمه أي ناقد نظرياتٍ نسائيةً؟ وهل توجد نظرية نقدية نسائية؟ وما هي؟ ثمَّ هل يمكن لنقدٍ أدبي يفتقر إلى أي نظريةٍ أن يكون نوعاً نقدياً متميِّزاً وذا فاعليَّة؟
يمكن القول، في الإجابة عن هذه الأسئلة: إنَّ النَّقد الذي تكتبه المرأة، ليقارب كتابات نسائية أو رجاليةً، معتمداً النَّظريات النَّقدية المتداولة، لا يتميَّز بخصوصيَّةٍ تتيح تصنيفه نوعاً نقديًّا ندًّا مقاوماً لأنواع النَّقد الأخرى، كما أنَّ النَّقد الذي يفتقر إلى أيّ نظريةٍ لا يمكن أن نعدَّه نوعاً نقدياً متميِّزاً وفاعلاً، فقد يكون نقداً انطباعياً لا يختلف عن أي نقدٍ انطباعيٍّ آخرَ.
يبقى النٌّقد الممتلك نظريةً/ رؤيةً إلى العالم وقضاياه وأشيائه، ويرى إلى النُّصوص من منظور هذه النَّظرية/الرؤية، فيحصِّل معرفةً بهذه النُّصوص، ويقدِّم هذه المعرفة للمتلقِّي منهجيَّاً، فهذا النَّقد يمكن أن يكون نوعاً نقديَّاً متميِّزاً من السَّائد وندًّا مقاوماً له، أو نظيراً له، أو متكاملًا معه.

والأسئلة التي تُطرح، هنا، هي:
هل توجد هذه النَّظرية/الرؤية؟ وما هي؟ وهل هي التي تميِّز النَّقد النسوي، وتكسبه خصوصيَّته/ هويته؟ ومن ثمَّ ما هو النَّقد النِّسائي؟ وما يميِّزه من النَّقد النِّسوي؟
ثم هل يوجد نقدٌ عربيٌّ نسويٌّ يدرس النُّصوص من منظورِ نظريةٍ نقديةٍ نسويةٍ؟
تحاول الباحثة، استناداً إلى مراجعَ مختصَّةٍ، الإجابة عن السُّؤال المتعلِّق بتحديد مفهوم النَّقد النِّسائي، فتجد صعوبةً في هذا التَّحديد مردُّها إلى كلمة «النِّسائي» التي تثير سؤالاً مفاده: ما المقصود بها؟
في الإجابة عن هذا السؤال تتحدَّث الباحثة عن ثلاثة مذاهب: أوَّلها «مذهب الانتصار للمرأة»، وثانيها «مذهب تحرير المرأة»، وثالثها «مذهب تحرُّر المرأة».
إن يكن المذهب الأوَّل يعني السَّعي إلى نيل المرأة حقوقها الاجتماعيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة، والثَّالث يرتكز على «حقِّ المرأة في حياةٍ جنسيَّةٍ مستقلَّةٍ»، قد تعني هنا، حرَّة. فإنَّ المذهب الثَّاني يفيد تحرير المرأة من القيود المجتمعيَّة التي تحول دون سعيها إلى تحقيق ذاتها.
تبشِّر هذه المذاهب، وإن كانت توجد بين أوَّلها والاثنين الآخرين، فروقاتٌ جوهريّةُ، بتعديل أوضاع المرأة في المجتمع، وتقوم على أساسٍ فلسفي قوامه «التحيُّزات أو الانحرافات التي تتيح للمرأة نيل الحقوق نفسها التي للرِّجال، واحتلال مكانة الرجل والابتعاد عن مكانة التَّابع».
تمثِّل هذه المذاهب جميعها حركةً نسائيَّةً تسعى إلى أن تحصل المرأة على الحقوق نفسها التي يتمتَّع بها الرَّجل، وإلى العبور من موقع «التَّابع» إلى موقعٍ آخر.
هنا يبدأ الخلاف، فأيُّ موقع تريد المرأة الوصول إليه لتؤدِّي منه دوراً في المجتمع؟ هل هو موقع الرَّجل، أو موقع تؤهِّله لها خصوصيتها، فتكون لها حقوقه نفسها، وتكون في الوقت نفسه متميِّزةً بهذه الخصوصيِّة؟
إن يكن الأمر هكذا، فهو يعني وجود حركةٍ مطلبيَّةٍ تسعى إلى تحقيق أهدافٍ معيَّنةٍ. ما يعنينا، هنا، من هذه الحركة، هو تلك «الخصوصيَّة» المتمثِّلة رؤية/ نظريَّة تتيح إجراء «قراءةٍ جديدةٍ» لا لكتابة جديدة فحسب، كما تقول شيرين أبو النَّجا، وإنَّما لأيِّ كتابةٍ قديمةٍ أو جديدةٍ، نسائيَّةٍ أو رجاليَّةٍ. فما هي هذه الخصوصيَّة المتمثِّلة رؤيةً/ نظريَّةً نقديَّةً؟
تواصل الباحثة المحاولة، فتتحدَّث عن مصطلح «الجندر»، بوصفه «التَّعبير الثَّقافي عن الاختلاف الجنسي». وإن يكن الاختلاف الجنسي، غير المقتصر على المستوى البيولوجي، وإنما الشَّامل المستويات جميعها: الجسدي والنّّفسي والاجتماعي والثَّقافي...، يؤتي تعبيراً مختلفاً، فإن أساس الخصوصيَّة النسوية، ومن ثمَّ نظرية/ رؤية النَّقد النُّسوي، تنطلق من هذا الاختلاف، أي من اختلاف التَّجربة وخصوصيَّتها.
هنا ينبغي أن نلحظ وجود تجربةٍ عامَّةٍ مشتركةٍ، وتجربةٍ فرديَّةٍ في آنٍ، وإن كانت الأولى تكوِّن الخصوصيَّة النِّسوية، فإنَّ الثَّانية تغنيها وتنوِّعها. وتكون مهمّة النَّقد النِّسوي أن يتبيَّن هذه الخصوصيَّة، كما تتمثَّل بنيةً لغوية تنطق برؤية إلى العالم، بما في ذلك الخصوصيَّة النِّسوية العامَّة، كما تمثِّلها فرادة التجربة النِّسوية الخاصَّة، والسُّؤال الذي يطرح هنا هو: هل يوجد هذا النقَّد؟ ومن مارسه؟ ليس في الكتاب إجابة عن هذين السؤالين. لكنَّ الكتاب يقدِّم إجابة عن سؤال آخر هو: ما منهج هذا النقد؟ فيستشهد بما تراه سوسن ناجي في هذا الشأن، فهي تقول: إنَّ منهج النَّقد الأدبي «النِّسوي»، بوصفه أحد المناهج النَّقديَّة الحديثة، يؤكِّد أهمية التَّجربة الشَّخصيَّة في الأدب، ويفيد من المناهج النَّقدية المعاصرة، ما يمدُّه بالثَّراء الإجرائي، ويخوِّله الكشف عن مناطق مجهولة أغفلها النٌّقد الذكوري.
وهكذا يكون النَّقد الصَّادر عن هذا الوعي بالعالم، الرَّائي إليه بهذه الرُّؤية، المقارب للنُّصوص بنظريةٍ مستقاةٍ من هذا الوعي/ الرؤية، خطابًا مغايرًا للتقليدي والسَّائد، قادرًا على النَّفاذ إلى حقائق الثَّقافة المهيمنة وخلخلتها، ومعول هدم لكل ما هو ثابت، واستراتيجية ثقافيَّة تكشف عن البني المضمرة واللاواعية، وتفكِّك الأنساق الثَّقافية...
بهذا، يغدو النَّقد النسوي نظريةً لا علاقة لها بالجنس ذكراً أو أنثى، ما يعني أوَّلاً أنْ ليس كلُّ نصٍّ صادرٍ عن امرأةٍ هو بالضرورة نصٌّ نسويٌّ، وثانياً أنَّ الرَّجل يمكن أن يكتب نصّّا نسويًّا.
هذا ما تراه حركة التحرُّر النِّسوية، بوصفها منهجًا يُعتمد في الدِّراسة في معظم حقول العلوم الإنسانيَّة، ويتفرَّع إلى اتجاهاتٍ عديدةٍ كالنسوية الليبراليَّة، والماركسيِّة، والاشتراكيَّة، والنَّفسيَّة، والوجوديَّة، وما بعد الحداثة...
يتيح لنا ما سبق الكلام على نوعين من النَّقد: أوَّلهما النَّقد النِّسائي، وهو النَّقد المرتبط بكتابة المرأة، من دون أن يصدر عن رؤيةٍ/ نظريَّةٍ نسويَّةٍ، وثانيهما النَّقد النِّسوي، وهو النَّقد الممتلك نظرية متميِّزة، تصدر عن خصوصيَّة التَّجربة النّسويَّة، والمستفيد من إجراءات مختلف النَّظريات النَّقديَّة.
إن رأينا، في ضوءِ هذا التَّقسيم، إلى مادَّة هذا الكتاب النَّقديَّة، تبيَّن لنا أنَّ هذه المادَّة تنتنمي إلى النَّقد النِّسائي، بمعنى النَّقد المكتوب بأقلام النِّساء، استناداً إلى غير منهجٍ نقديٍّ، لا إلى النَّقد النِّسوي المستند إلى نظريةٍ نسويةٍ.
لكنَّ ما ينبغي ذكره هو أنَّ هذا النَّقد النِّسائي لا يخلو من نقدٍ نسويٍّ، تقتضي معرفته البحث عنه في ثنايا الإرث النَّقدي، ومن نماذجه، أو من علاماته، كما تبيَّنت الباحثة، بنظرةٍ نافذةٍ، مساواة الأديبة النَّاقدة ميّ زياده بين النّسوي والأمومي. وهذه نظرة تفكِّك النَّصَّ، وتبحث فيه عن قيمٍ دلاليَّةٍ جماليَّةٍ مختلفةٍ عمَّا هو سائدٌ.
وهذا أمرٌ مدهشٌ، كما تقول الباحثة، إذ إنَّ «أمثال مي زياده، وقبلها لبيبة هاشم وباحثة البادية، أدركن مفهوم النسويَّة، وتتبَّعن الخطاب النِّسوي الغربي، بل وتفوَّقن في تبنِّيهن لمفهوم النسويَّة، بحيث اعتمد على وضع المرأة العربيَّة، فجاء مسايراً للسِّياق الثَّقافي الذي تعيش فيه المرأة، فكان دفاعهن صادقاً عن جهود الرِّائدات النسويات».
ما هو جديرٌ بالتوقُّف عنده، في هذا الصَّدد، ما توصَّل إليه الباحث النَّفسي، لويس ترمان من نتائج، عندما أجرى بحثاً تبيَّن فيه صفات سبعمائة طفلٍ من الموهوبين، أو ذوي الذَّكاء الخارق، النَّفسيَّة والعقليَّة والبدنيّّة، ومن النَّتائج التي توصَّل إليها هو أنَّ الفتيات الموهوبات، وكان عددهن ثلاثمئة، بدت عليهن مظاهر الذكورة، عندما قورنت جوانبُ من شخصياتهن بنظيرتها من الفتيات العاديات[38].
يفيد ما سبق أن الإرث النَّقديًّ العربي لا يخلو من نقدٍ نسويٍّ، غير أنّه نقدٌ تتضمَّنه كتب هذا الإرث النَّقدي، وليس أبحاث نقدٍ خاصّةً به يصرِّح معدّوها بأنَّهم يمارسون النَّقد من منظور نظريةٍ نقديّة نسويَّة معيَّنة، ما يعني أنّه ينبغي البحث عن هذا النَّقد وتبيُّن نظرياته ومناهجه ومفاهيم هذه المناهج وإجراءاتها والنَّتائج التي توصَّل إليها في دراساته لخصوصيَّة التجربة النِّسوية العامَّة وفرادتها وخصوصيات التّجارب النِّسوية الخاصَّة، وفرادة كلٍّ منها، من نحوٍ أوَّل، كما تنبغي ممارسته، وفاقاً لهذا المفهوم، من نحوٍ ثانٍ.

في الختام
قدّمنا، في هذه الدِّراسة، معرفةً بالنِّسوية وأدبها ونقدها الأدبي، فميَّزنا بين أنثويٍّ ونسائيٍّ ونسويٍّ، وحدَّدنا مفهوم النِّسوية، بوصفها نظريّةً وحركةً سياسيّةً، تطوَّرت إلى نظريةٍ عقديّةٍ لها رؤيتها إلى العالم وقضاياه، وعرضنا الآراء التي تنقد هذه الحركة، وقدّمنا شيئاً من تاريخها، وعرَّفنا بتياراتها: الليبرالي الرَّاديكالي، الماركسي، ما بعد البنيوي، الملوّن، الإسلامي. ثمّ بحثنا في الأدب النِّسوي، فرأينا أنَّه الأدب الذي يمثل التجربة النسويَّة وأن ما يميِّزه ليس اختلاف كاتبه الجنسي، بل خصائصه البنيوية: رؤيةً ولغةً، وتحدَّثنا عن الأدب النِّسوي العربي، ورأينا أنَّ من مهمات النقد الأدبي النِّسوي أن يجيب عن السُّؤال: هل من أدبٍ نسويٍّ عربيٍّ؟ ما مهَّد للبحث في النقد الأدبي النِّسوي، فرأينا أنه النقد الأدبي الذي يدرس النَّص الأدبي، ويميِّزه، ويتبين تجربة المرأة الخاصة فيه وخصائصه اللغويّة والرؤى التي تنطق بها، وهو نقدٌ تتعدّد مناهجه، وتحدّثنا عن النَّقد الأدبي النِّسوي العربي، فرأينا أنَّه لا يمثِّل ظاهرةً مستقلَّةً ذاتَ مناهجَ وإجراءاتٍ خاصَّةٍ بها، وقدّمنا قراءةً في كتابٍ يبحث في هذا النَّقد هو كتاب: «النقد النِّسائي» لزينب العسال.

-----------------------------------
[1]* ـ باحث وأستاذ محاضر ومشرف على الدكتواره في الجامعة اللبنانية ـ لبنان.
- روجيه غارودي، من أجل ارتقاء المرأة، ترجمة جلال مطرجي، بيروت: دار الآداب، طـ2، 1988، ص96.
[2]- بام موريس، الأدب والنِّسوية، ترجمة سهام عبد السلام، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، طـ1، 2002، ص30.
[3]- انظر: سارة جامبل، النَّسوية وما بعد النِّسوية، ترجمة أحمد الشامي، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، طـ1، 2002، ص323. مصطلحات نسوية، الايكولوجيا النسائية ( المرأة أرض... الأرض المرأة)، شبكة النبأ المعلوماتية www.annabaa.org
[4]-انظر: ديفيد كارتر، النَّظريَّة الأدبيَّة، ترجمة باسل المسالمة، دمشق: دار التكوين، طـ 2، ص89 - 96.
[5]-راجع: دلال البزري، النِّسوية الإسلاميّة، موقع «مركز دراسات الظَّاهرة الإسلاميّة».
www.islamismscope.org
[6]-مجلة الثرى، العدد 241، تاريخ 10/7/2010، السنة السادسة. «الإسلام النِّسوي (تطبيق في الحاضر)، حوار مع زهراء علي.
[7]-راجع: أحمد عمرو، النِّسوية من الراديكالية حتى الإسلامية، قراءة في المنطلقات الفكرية، التقرير الاستراتيجي الثامن، ص152.
[8]-راجع: المرجع نفسه، ص151.
[9]-www.alarabiyanet/articles/2006/11/20/29233.htm
[10]- الحجرات:13.
[11]- البقرة:228.
[12]- النساء: 34.
[13]- النحل: 97.
[14]- النِّساء:1.
[15]- شيرين أبو النَّجا، نسائي أم نسوي، القاهرة: مكتبة الأسرة، الهيئة العامَّة للكتاب، طـ1، 1998، ص51.
[16]- Eaglton Mary, feminist literary blackwel, Cambridge, uk, p.151.
[17]- سارة كامبل، النِّسوية وما بعد النِّسوية، ترجمة أحمد الشَّامي، القاهرة: المجلس الأعلى لثقافة، طـ1، 2002، ص198.
[18]-بام موريس، الأدب والنِّسويَّة، ترجمة سهام عبد السلام، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، طـ1، 2002، ص258.
[19]-العنود محمد الشَّارح، الغضب النَّاعم: الرواية النّسوية بين العربية والإنجليزية، ترجمة سامي خشبة، القاهرة: المجلس القومي للترجمة، طـ1، 2007، ص18.
[20]- أنظر: أشرف توفيق، اعترافات نساء أديبات، القاهرة: دار الأمين، طـ 1، 1998، ص 10 و11.
[21]- محمد برادة، هل هناك لغة نسائية؟ مجلَّة آفاق، المغرب، العدد 12، اكتوبر 1983، ص135.
[22]- محمد نور الدين أفاية، الهويَّة والاختلاف...، الدّار البيضاء: أفريقيا الشرق، د. طـ، د. ت.، ص41.
[23]-رشيدة بنمسعود، المرأة والكتابة، الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، طـ 2، 2002، ص75.
[24]- حسن نجمي، شعرية الفضاء السَّردي المتخيَّل والهوية في الرِّواية العربيَّة، بيروت: المركز الثقافي العربي، ط1، ص173.
[25]- بوشوشة جمعة، الرِّواية النّسائية المغربيَّة، تونس: المغاربيَّة للطباعة، ط1، 2003، ص 17.
[26]- المرجع نفسه ص 22 وزهور كرام، السرد النسائي العربي...، الدار البيضاء: شركة النشر,,,، ط1، 2004، 94.
[27]- القدس العربي، العدد 1076، السنة الرّابعة.
[28]- حسام الخطيب؛ حول الرواية النسوية في سورية مجلة المعرفة، العدد 166، ص81.
[29]- عبد الله الغذامي، المرأة واللُّغة، بيروت: المركز الثقافي العربي، طـ 3، 2006، ص208.
[30]- محمد عناني، المصطلحات الأدبيَّة الحديثة، م.س.، ص180.
[31]- صبري حافظ، أفق الخطاب النقدي، القاهرة: دار الشرقيات، طـ 1، د. ت.، ص15.
[32]- رامان سلدن، النظرية الأدبية المعاصرة، ترجمة جابر عصفور، القاهرة: دار الفكر، طـ1، ص218 - 222.
[33]-إبراهيم أحمد ملحم، تحليل النَّص الأدبي، ثلاثة مداخل نقدية، إربد: عالم الكتب الحديثة، طـ1، 2016، ص107 و108، وانظر: فنست ب. ليتش، النقد الأدبي الأمريكي من الثلاثينيات إلى الثمانينيات، ترجمة محمد يحيى، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة ط-1، 2000، ص320.
[34]- المرجع نفسه.
[35]- شيرين أبو النجا، نسائي أم نسوي، م.س.، ص58.
[36]- انظر: ميجان الرويلي وسعد البازعي، م.س.، ص329 - 332.
[37]- د. زينب العسَّال، النَّقد النِّسائي للأدب القصصي في مصر، القاهرة: الهيئة المصرية العامَّة للكتاب، طـ.1، 2008.
[38]- انظر: مصطفى سويف، العبقرية في الفن، القاهرة: مطبوعات الجديد، العدد 17، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص. 33 و34.