البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الجندر بما هو تحيّزٌ ثقافيٌّ غربيٌّ

الباحث :  طلال عتريسي
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  16
السنة :  السنة الرابعة - صيف 2019 م / 1440 هـ
تاريخ إضافة البحث :  July / 30 / 2019
عدد زيارات البحث :  2087
تحميل  ( 383.793 KB )
اتخذت قضية الجندر منذ نشوء طلائعها الأولى في أوروبا امتداداتها الفكريّة والثقافيّة مع الزحف الكولونيالي على مجتمعات ما سمي بـ "العالم الثالث" ومنها على الأخص المجتمعات العربية والإسلامية. وهذا بديهيٌّ حين ترافقت هذه القضية مع تدفُّق نظريات الحداثة وما بعد الحداثة لتتوغل في مجمل العلوم الإنسانية فضلاً عن أنماط الحياة المختلفة.
كيف ظهرت تداعيات الجندرية في مجتمعاتنا، وإلى أيِّ حدٍّ استطاعت تيّاراتها التأثير على بيئاتٍ محليةٍ لم تقتصر على الاتجاهات العلمانية والمدنية، بل تمدَّدت أيضًا وأساساً إلى البيئات المحافظة والدينية بأشكالٍ وصورٍ لا حصر لها.
هذه الدراسة للباحث في علم الاجتماع البروفسور طلال عتريسي تسعى للإضاءة على أهم الإشكاليات في هذا الصدد.

المحرر

----------------------------------
هيمنت قضية المرأة منذ بضعةِ عقودٍ على خطاب وأدبيات الكثير من الجمعيات والأحزاب والحركات الاجتماعية والنسائية في لبنان وفي بلدانٍ عدةٍ عربيةٍ وإسلاميةٍ. لقد استند هذا الخطاب وتلك الأدبيات إلى مجموعةٍ من الركائز التي شكلت البنيان الأساس لهذه القضية.
الركيزة الأولى، هي: المرأة قضيةٌ عالميةٌ. تحولت المرأة بحسب هذه الرؤية إلى قضيةٍ مستقلةٍ لها أهمية قضايا مثل الفقر، والتلوث، والسلم، والتمييز العنصري، والديمقراطية...وسواها من قضايا يفترض أن يجتمع العالم حول أهميتها أو تهديداتها باعتبارها قضيةً مشتركةً بين الشعوب والمجتمعات كافةً.
ومن أجل التأكيد على هذه العالمية وتبريرها، تم دمج موضوعات المرأة، مثل الجندر، والمساواة، والتمكين... مع قضايا كبرى وذات اهتمامٍ عالميٍّ في برامج الأمم المتحدة ومؤتمراتها، مثل التنمية المستدامة، والسكان، وقمة الأرض...وتم في الوقت نفسه الربط بين تحقيق هذه القضايا الكبرى مع تحقيق المساواة وتمكين المرأة، وتغيير الأنماط الثقافية السائدة. ففي ما سمي ب«أجندة 2030» على سبيل المثال التي تبنت مفهوم التنمية ببعد مستدام ل 17 هدفاً (الأمم المتحدة 2015) كان الهدف الخامس (من أصل17) هو«تحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين جميع النساء والفتيات»، في حين توزعت الأهداف الباقية على القضاء على الفقر، وعلى الجوع، وضمان التعليم الجيد، والعيش بصحةٍ جيدةٍ، وتعزيز النمو الإقتصادي، والتصدي لتغير المناخ، والمحافظة على البحار والمحيطات والموارد البحرية، وتشجيع ظهور مجتمعاتٍ سلميةٍ... ما يعني أن هدف «تمكين جميع النساء والفتيات» (الهدف الخامس) له أهمية القضاء على الفقر نفسها على سبيل المثال، أو له مثل أهمية العيش بصحة جيدة، أو تعزيز النمو الإقتصادي، أوالتصدي للتلوث وتغيرالمناخ...[2].
الركيزة الثانية: هي الأمم المتحدة. فقد باتت مقررات ومواثيق المؤتمرات التي عقدتها الأمم المتحدة في قضية المرأة، مقرراتٍ ومواثيقَ عالميةٍ، بات على الدول الموقعة عليها أن تكون ملزمةً بتطبيق ما وقعت عليه أمام مؤسسات الأمم المتحدة المعنية.وأن تكون ملزمةً بتقديم تقاريرَ دوريةٍ عن مدى التقدم في تطبيقها أمام لجانٍ مختصةٍ، مثل المعاهدة الدولية للقضاء على كل أشكال العنف ضد المرأة «سيداو«التي اعتمدتها عام 1979 الجمعية العامة للأمم المتحدة.
هذا يعني بحسب هذه المواثيق أن قضية المرأة ومشكلاتها لم تعد قضيةً محليةً أو أسريةً، أو مجتمعيةً، ولم يعد حل هذه المشكلات وتلك القضايا يتم وفق خصوصيات هذا المجتمع الثقافية أو ذاك، بل بات ما صدر عن الأمم المتحدة من قراراتٍ هو الحل، وكذلك ما جاء في المواثيق التي أصدرتها المنظمة الدولية.» «إن تمكين المرأة هو تمكين للإنسانية جمعاء».
أما الركيزة الثالثة: فهي جمعيات ومنظمات المجتمع المدني. فقد أولت الأمم المتحدة التعاون مع المنظمات غير الحكومية (المجتمع المدني) أهميةً قصوى، بحيث تحوّلت هذه المنظمات إلى قوةٍ طليعيةٍ في الترويج لتلك المفاهيم، تحت حماية المنظمة الدولية التي قدمت لها الدعم المالي والمعنوي والقانوني. وقد جاء في مقدمة كتاب «إعلان ومنهج عمل بيجين» الذي صدر عن الأمم المتحدة: «أن الأمم المتحدة ستزيد من الروابط الوثيقة وعلاقات العمل التي تربطها بالفعل بمجتمع المنظمات غير الحكومية على الصعيدين العالمي والوطني.. كما أشادت تلك المقدمة بمؤسسات المجتمع المدني التي أدت دوراً مهماً في التحضير لمؤتمر بيجين 1995»[3].
الركيزة الرابعة: هي التبرير الإيديولوجي والثقافي: من خلال مصطلحَيْ «المرأة ضحيةٌ»، و«المجتمع متخلفٌ». وستقوم منظمات وجمعيات المجتمع المدني بتكرار هذه المفاهيم والتأكيد عليها، بحيث يبدو أن تلك الجمعيات ليس لها هدف إلا إنقاذ المرأة. هكذا يمكن أن نلاحظ على سبيل المثال، الحرص الدائم على تكرار الربط بين معاناة المرأة، وبين «المجتمع المتخلف»، و«الثقافة الذكورية»، و«العادات والتقاليد»، و«السلطة الأبوية»، و«قوانين الأحوال الشخصية»، و«الزواج المبكر»، و«الإغتصاب الزوجي»، و«التخويف من المثلية» (راجع منشورات منظمة كفى عنف واستغلال www.Kafa.org.lb) .
وفي هذه الركيزة (المرأةُ ضحيةٌ والمجتمعُ متخلفٌ) سيتم اعتبار ما أتت به الأمم المتحدة في قراراتها ومؤتمراتها ومواثيقها، هو من سينقذ هذه «الضحية» ويخلصها مما هي فيه، ولتصبح هذه المواثيق تحديداً (لا أيّ مرجعيةٍ أخرى دينيةٍ، أو أخلاقيةٍ، أو ثقافيةٍ)،هي المثال والنموذج الذي يفترض أن نقيس عليه مدى التقدم الذي أحرزته قضية المرأة في بلداننا العربية والإسلامية.
الركيزة الخامسة: هي الواقع السيّئ: لقد تمت عملية الدمج بين واقعٍ سيّئٍ حقيقيٍّ تعيشه بعض النساء يجب الاعتراف به، ولا بد من تغييره، وبين مشروع تغييرٍ ثقافيٍّ يريد أن يفرض نفسه بديلاً عن ثقافة شعوبٍ ومجتمعاتٍ متجذرةٍ منذ مئات السنين، مثل الربط الذي يحصل على سبيل المثال بين الظلم غير المبرر الذي قد تتعرض له بعض النساء في المحاكم الشرعية، وبين الدعوات إلى إلغاء أصل نظام الأحوال الشخصية، أو الربط بين عدم التمكين الإقتصادي، والسياسي، وبين النظام الذكوري المتخلف.. أو بين تسلط بعض الرجال على زوجاتهن، والإساءة اليهن وحتى تعنيفهن، وبين إلغاء النظام الأسري برمته وتغيير بنيته التقليدية التاريخية، وصولاً إلى تشريع نظام أسري مختلفٍ يقوم على أسرةٍ من جنسٍ واحدٍ (رجلين أو امرأتين)، وإلى قبول ممارسةٍ اجتماعيةٍ مغايرةٍ هي «المثلية الجنسية».
ومن المهم الإشارة إلى الربط الذي حصل بين التغيير المقترح من خلال هذه المفاهيم، وبين التقدم والتحرر والحداثة. بحيث بات الدفاع عن تلك الممارسات الجديدة التي تدعو إليها الجمعيات المحلية والمنظمات الدولية، مثل الجندر، والكوتا، والعنف الأسري، ورفض الزواج المبكر، والمجتمع الذكوري، وتمكين المرأة، والأسرة من جنس واحد... بمثابة تأكيدٍ على انتمائنا «إلى القرن الواحد والعشرين،عصر التقدم والتحرر والحداثة». وقد جاء في مقدمة كتاب إعلان بيجين الصادر عن الأمم المتحدة: «إن الحركة الداعية إلى المساواة بين الجنسين على اتساع العالم هي أحد التطورات الدالة على عصرنا»[4] . بحيث يبدو أن أيّ اعتراضٍ أو نقاشٍ أو حتى تردّدٍ في قبول تلك المفاهيم، كأنه نكوصٌ وتراجعٌ عن العصر، واتهامٌ بالعودة إلى عصور الإنحطاط والتخلف. «فإذا لم يستطع مجتمعٌ ما أو بلادٌ ما العبور من التقليد والسنن والوصول إلى الحداثة فسوف تصبح «أرضاً حيّةً وخصبةً إلى الأبد، لكنها ستكون خارج حركة التاريخ العالمي»[5].

هل المرأة «قضيةٌ عالميةٌ»؟
عندما نقدِّم المرأة قضيةً إنسانيةً عالميةً تعّبر عن جميع نساء العالم وتلتزم قضاياهن من دون استثناءٍ، كما فعلت الأمم المتحدة في مؤتمراتها، فهذا يعني أن قضية المرأة هي قضيةٌ مشتركةٌ ومتشابهةٌ بين نساء العالم كافةً من دون أي اعتبارٍ للمؤثرات أو للخصوصيات الجغرافية والاجتماعية والثقافية. هذه النظرة تتعامل مع قضية المرأة وكأنها تتجاوز خصوصية الزمان والمكان (المجتمع).
فإذا كان الأمر كذلك فعلاً، فهذا يعني أن النظريات التي تقول بتأثير البيئة والمناخ، والثقافة والدين والعادات، والتقاليد على السلوك وعلى القيم، وعلى الممارسات الاجتماعية، هي نظرياتٌ خاطئةٌ، وتحتاج إلى إعادة النظر في علميتها...
ولو كان الأمر صحيحاً وكانت قضية المرأة واحدةً على مستوى العالم، لكان من المتوقع أن تكون قضية المرأة في الصومال، وقضية المرأة في الولايات المتحدة أو في أوروبا، قضيةً واحدةً، (مثل النضال من أجل المساواة في الأجر، أو التحرر الجسدي، أو تطبيقات الجندر، والتصدي للهيمنة الذكورية، وتغيير عقلية المجتمع وثقافته المتخلفة...). وهذا طبعًا ليس هو واقع الحال. ولو كانت هذه القضية واحدة عند كل النساء، لكان من المفترض أن تكون للمرأة في اليمن، أو في البحرين، أو في العراق، أو في باكستان، القضية نفسها مع المرأة في الولايات المتحدة الأميركية، أو في فرنسا، أو في بريطانيا... فهل يمكن القول بمثل هذا التشابه بين قضايا النساء في هذه البلدان ؟
لذا إن الدعوة إلى جعل النساء قضيةً واحدةً على مستوى العالم، هي دعوةٌ تنافي الواقع، ولا يمكن الدفاع عنها استناداً إلى أي أسسٍ علميةٍ، و لا حتى اجتماعيةٍ، أو ثقافيةٍ، على الرغم من كلّ ما يمكن أن يقال خلاف ذلك، حتى لو صدر عن الأمم المتحدة، وعن مواثيقها المفترضة.
إن المرأة مثل أيّ إنسانٍ آخرَ تعيش في مجتمعٍ يختلف في عاداته وثقافته وتقاليده وأنظمته وقوانينه عن المجتمعات الأخرى. وهي قد تتعرض للظلم والإضطهاد والتضييق على حريتها مثل الرجل، كما يحصل على سبيل المثال في المجتمعات الديكتاتورية أو الإستبدادية التي لا تميز «جندرياً» بين الرجل والمرأة. لا بل يمكن أن يكون الرجل أكثرعرضةً للإضطهاد وحتى إلى التضييق والإعتقال في مثل هذه المجتمعات. هذا يؤكد أن قضية المرأة ليست واحدةً، وستختلف من مجتمعٍ إلى آخرَ، كما ستختلف حتى في داخل المجتمع الواحد. فقد تكون قضية المرأة على سبيل المثال، في بلدٍ ما، هي عدم توفر فرص حصولها على التعليم، أوعلى الرعاية الصحية، أو على الماء الصالح للشرب، لأسباب قد يكون لها علاقة بالفقر، أو بسوء السياسات التنموية، أوبالعدالة الاجتماعية، أكثر مما لها علاقة بالتمييز «الجندري». وقد تكون قضية النساء في مجتمع آخر هي المساواة في الأجر والوظيفة، أو في حرية ارتداء الحجاب (كما هو الحال في بعض البلدان الأوروبية) أو في البطالة، أو في التمييز العنصري، وغير ذلك الكثير...
إن اعتبار قضية المرأة قضيةً واحدةً يعني مثلاً أن على رئيسة وزراء بريطانيا السابقة تيريزا ماي، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وكوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، والمرشحة الرئاسية في الولايات المتحدة هيلاري كلينتون، وتسيبي ليفني وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة، أن يسرن معاً في تظاهرات مشتركة مع نساء اليمن والعراق والصومال وموريتانيا... للمطالبة بحقوق النساء.! فهل يمكن حتى أن نتخيل حصول مثل هذه المسيرة المشتركة؟ وهل تصح أصلاً مثل هذه المقارنة بعيداً من طموحات وأولويات هؤلاء النساء في بلدانهن، ومن الظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية في المجتمعات التي تعيش فيها كل واحدة من هذه النماذج من النساء؟
إن مثل هذه الإسئلة يمكن أن تطرح أيضًا حتى على الفروقات بين النساء في البلدان العربية والإسلامية نفسها، فوضع المرأة في إيران على سبيل المثال، يختلف كثيراً عن وضعها في السعودية من حيث المشاركة والحضور في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. كذلك الأمر بالنسبة إلى وضع المرأة في تونس، أو في لبنان، مقارنة مع وضعها في بلدان عربية أخرى. ولا تقتصر هذه الفروقات على النساء وحدهن، فهي كذلك بين الرجال أيضًا.
لذا إن قضية النساء ليست واحدة. هذه نقطة انطلاقٍ مبدئيةٌ وأساسيةٌ في التعامل مع قضية المرأة وفي النظر إليها. وهي نقطة انطلاقٍ خاطئةٌ ومضللةٌ في الأدبيات النسوية.

احترام «التنوّع الثقافي»
التنوع الثقافي الذي تعيشه الشعوب وتتمايز به المجتمعات هو أيضًا من مبرِّرات هذا التأكيد على اختلاف قضية المرأة وتنوعها من مجتمع إلى آخر. ومن المعلوم أن الأمم المتحدة تدعو في مواثيقها الدولية، وفي شرعتها العامة، إلى احترام التنوع الثقافي وحرية الاعتقاد الديني، وتعتبر أن هذا حقٌّ من حقوق الإنسان.

فما هو التنوّع الثقافي، وماذا يعني؟
التنوّع يعني أنّ هناك أكثر من نموذجٍ ثقافيٍّ على مستوى العالم، وأن هذه النماذج تختلف من ثقافة إلى أخرى، وأن الشعوب لديها ثقافاتٌ متعددةٌ وليست واحدةً، وهي كذلك بالنسبة إلى الأديان. والثقافة هي خلاصة ما تعتقده الشعوب على المستوى الديني، وما تمارسة من عادات، وما تحمله ويعّبر عنها من قيمٍ اجتماعيةٍ وأخلاقيةٍ وأسريةٍ. والتنوع يعني أن هذا الكل الديني والقيمي والسلوكي الذي يشكل الثقافة يختلف من شعب إلى آخر، وأن الأمم المتحدة، كما تقر بذلك، تحترم هذا التنوع وتعتبره حقاً من حقوق الإنسان، ولا يجوز بالتالي استناداً إلى هذا الحق، الإستخفاف بأي ثقافةٍ ولا محاولة إلغائها، أو اللجوء إلى أي وسيلةٍ من وسائل الضغط أو الإكراه لتغييرها أو القضاء عليها.

وفي إطار هذا الحق في التنوع ناشدت السيدة إيرينا بوكوفا المديرة العامة لليونسكو بمناسبة اليوم العالمي للتنوع الثقافي من أجل الحوار والتنمية الأعضاء في اليونسكوة لإدراج الثقافة والتنوع الثقافي في برنامج التنمية المستدامة لمرحلة ما بعد عام 2015.
وقالت السيدة إيرينا: «يمثل تنوعنا الثقافي تراثاً مشتركاً للبشرية. فهو مصدر لتجدد الأفكار والمجتمعات، ويتيح للمرء أن ينفتح على الآخرين وأن يبتكر أفكاراً جديدة. ويتيح هذا التنوع فرصة ثمينة لتحقيق السلام والتنمية المستدامة»[6].
لكن سوف نلاحظ أن هذه المواثيق تتجاهل هذا التنوع عندما يتعلق الأمر بالمرأة، لا بل ستذهب إلى طلب، وحتى إلى فرض، توحيد الرؤية الثقافية حول العادات والأفكار، بغض النظر عن هوية المجتمعات الثقافية. بحيث يصبح لزاماً على هذه المجتمعات أن تتخلى عن خصوصياتها وتنوعها الثقافي، وأن تغيّر عاداتها وممارساتها الاجتماعية، لكي تنسجم مع ما خرجت به الأمم المتحدة من قراراتٍ حول المرأة.
هذا التجاوز لخصوصية المجتمعات وتنوعها الثقافي، والدعوة إلى رؤية عالمية واحدة لقضية المرأة، يعني أننا نجعل هذه القضية تتعإلى على الزمان والمكان والثقافات. ويعني أن الأمم المتحدة لا تلتفت إلى التنوع الثقافي الذي اعتبرته حقاً إنسانياً لا ينازع. هكذا تصير الثقافةُ متخلفةً، والمجتمع متأخرًا، والأدوار بين الرجل والمرأة تقليديةً، إذا لم ينسجم ذلك كله مع ما أقرته مواثيق الأمم المتحدة عن المرأة ودورها ووظيفتها، وعن الأسرة وقيمها وشكلها ومرجعيتها...

«المرأة الضحية»
المرأة الضحية هي الأطروحة التي تستند اليها أدبيات الأمم المتحدة والحركات النسوية لتبرير عالمية قضية المرأة. وقد باتت هذه الصورة حاضرةً، ومهيمنةً، في أيّ مؤتمرٍ تعقده المنظمات الدولية، أو الجمعيات وكثيرٌ من الحركات النسائية في بلداننا. فالمرأة تتعرض «للتعنيف»و«للظلم الذكوري»، و«لعدم المساواة في الأجر»، و«للاستبعاد من المشاركة السياسية» و«للتزويج المبكر»...وسوى ذلك مما يتم استحضاره لتأكيد واقع «الضحية». ولكن هل هذه الصورة هي فعلًا صورةٌ عالميةٌ؟ وهل هي صورةٌ وحيدةٌ وحقيقيةٌ عن المرأة ؟

لا بد لنا من تسجيل الملاحظتين التاليتين:
إذا كانت سمة «الضحية» ملازمةً للمرأة في كلِّ زمانٍ ومكانٍ في عالمنا المعاصر، فهذا يفترض أنها كذلك في بلدان العالم ومجتمعاته كافةً، وأنها ستكون «ضحيةً» أنّى توجهنا وكيفما تطلعنا. وإذا افترضنا صحة ذلك، فهذا يعني أيضًا أن الأسباب التي جعلت المرأة «ضحيةً» هي أسبابٌ متشابهةٌ طالما أوصلت إلى النتيجة نفسها في تلك البلدان والمجتمعات. ويجب علينا بالتالي معالجتها بخطةٍ واحدةٍ وبتوصياتٍ مشتركةٍ وموحدةٍ، وهذا ما ذهبت إليه عملياً الأمم المتحدة في المواثيق التي خرجت بها في مؤتمراتها الدولية منذ ثلاثة عقودٍ إلى اليوم، عندما تبنت وجهة نظر اتجاهاتٍ فكريةٍ ونسويةٍ تقول بأن المرأة ضحيةٌ بسبب الذهنية الأبوية وممارسات المجتمع الذكوري.
لكن الواقع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي الذي يختلف، كما هو معلومٌ، بين بلدان العالم ومجتمعاته كافةً، يؤكد بشكلٍ طبيعيٍّ وبديهيٍّ، أن واقع المرأة ليس واحداً كما تقدمه الأمم المتحدة. وأن «الضحية» ليست كذلك في أيّ مجتمعٍ وأيّ ثقافةٍ، استناداً إلى ما سبق وذكرناه من الأمثلة السابقة عن الفروقات بين قضايا النساء في البلدان المختلفة. كما أن واقع المرأة في الغرب على سبيل المثال، لا تنطبق عليه مواصفات الضحية التي وردت في المواثيق والقرارات الدولية، (مثل التسلط الذكوري، وعدم المساواة في الأجر، وحرية الجسد، والتزويج المبكر، والاستبعاد من المشاركة السياسية والاقتصادية، وسواها...). ما يعني أن المقصود فعلياً بهذا الوصف «للضحية» التي يجب إنقاذها هي المرأة في البلدان غير الغربية، وتحديداً في البلدان والمجتمعات العربية والإسلامية.
 ثم كيف يمكن على مستوًى آخرَ، القبول علمياً بنظريةٍ تُقدم لنا المرأة، ك«كائنٍ محايدٍ» و«سلبيٍّ»، و«ضحيةٍ»، يتعرض إلى العنف، والتمييز، والإكراه، والتعدّي.. من دون أن يكون لهذا «الكائن» أي دورٍ، أو أي ردِّ فعلٍ، أو أيّ تأثيرٍ في ما يجري من حوله. فما هو مؤكّدٌ أنّ وضع المرأة الثقافي، أو الاجتماعي، أوالأخلاقي، يؤثر سلباً أو إيجاباً على نظرتها إلى نفسها، وعلى دورها، وعلى علاقاتها الاجتماعية والأسرية. ما يعني أن المرأة على سبيل المثال، قد تكون في ظروفٍ معينةٍ، مثل الرجل، شريكة في حصول العنف داخل الأسرة، أو غير جديرةٍ بتربية أبنائها، وقد تكون مسؤولةً عن ظلم الأبناء والإساءة إليهم، وقد تكون في بعض الحالات مسؤولةً عن ظلم الرجل، وقد تكون عدوانيةً... أي أنّ وضع المرأة ليس شأناً أنثوياً خاصاً مستقلاً ومعزولاً، بل هو نتاج عمليةٍ من التفاعل في العلاقات بينها وبين ذاتها، ومع أسرتها، ومع المجتمع، ومع الثقافة والأنظمة والتشريعات الدينية والقانونية. ولا يمكن أن ننتزع المرأة من هذا الكلِّ المركب والمتداخل من حيث التأثير، وأن نكتفي بالقول بأنها ضحيةٌ فقط لأنها أنثى، وأنها قضيةٌ مستقلةٌ.
لم تقتصر مواثيق الأمم المتحدة على تشخيص واقع «الضحية» فقط، بل تحول هذا التشخيص إلى مشاريع لتغيير الأنظمة والقوانين والتصورات الثقافية والأدوار المجتمعية تجاه كل من الرجل والمرأة والأسرة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، التي اُعتبرت مسؤولةً عن واقع هذه «الضحية». وقد أعلنت هذه المشاريع صراحة أنها تريد تغيير الثقافات المتعلقة بهذه الأدوار التي تشكلت عبر مئات السنين، خلافاً للحق الإنساني في التنوع الثقافي، وفي حقّ ممارسة ما يعَبر عن هوية هذه المجتمعات من قيمٍ وتقاليدَ وسلوكياتٍ وأنماطِ حياةٍ راكمتها الشعوب عبر خبراتها وتجاربها الثقافية. ولا يعني ذلك بالنسبة إلينا رفض أيّ تغييرٍ يمكن أن يجعل حياة الناس أفضل، أو أن ينقل الشعوب إلى وعيٍ وممارساتٍ أفضل. بل الإعتراض هو على أمرين: الأول هو على الطريقة التي يراد من خلالها فرض هذا التغيير على مجتمعاتنا وتقوم به هيئاتٌ خارجيةٌ. والثاني أن التغيير المطلوب لا يؤكد أننا سننتقل إلى الأفضل. لا بل إن كلّ ما تدعو إليه الأمم المتحدة والمنظمات والجمعيات المكلفة بتنفيذ مقرّراتها، لا يبشر بالخير، ولا يستطيع أن يؤكد أننا نسير نحو الأفضل، فلا الأسرة من جنسٍ واحدٍ هي الأفضل، ولا المثلية هي الأفضل، ولا تغيير الأدوار بين الجنسين يؤكد أن المجتمعات، أو حتى الأسر، ستكون أكثر استقراراً...فكيف يمكن في مثل هذا الواقع من الشك، واللايقين، أن نركن إلى مثل هذا التغيير الذي تريده الأمم المتحدة ومنظمات المجتمع المدني التي تعتمد عليها هذه الهيئة الدولية؟ وكيف يمكن أن نطمئنّ على المستويات الثقافية والاجتماعية إلى ما تقوم به مثل هذه الجمعيات والمنظمات ل«تشكيل وعيٍ جديدٍ وثقافةٍ جديدةٍ»؟
إن السؤال الذي يُطرح هنا لا يقتصر فقط على اختلاف قضية المرأة بين مجتمع وآخر، على الرغم من أهمية ملاحظة هذا الاختلاف وضروراته العلمية، بل يتعدى ذلك إلى مشروع التغيير الذي تريده الأمم المتحدة وتعمل من أجله مئات المنظمات والجمعيات في بلداننا. فما هي مرجعية هذا التغيير الثقافي والاجتماعي الذي تقترحه مواثيق الأمم المتحدة، للانتقال بواقع المرأة، من «الضحية» إلى «التمكين» (السياسي والاقتصادي والاجتماعي)؟ وما هو هذا النموذج الذي يجب على شعوب العالم ومجتمعاته أن تقبل من أجل الالتحاق به، التخلي عن ثقافةٍ تراكمت عبر مئات السنين، وباتت أساس هوية هذه الشعوب والمجتمعات، ومرجعية عاداتها وقيمها وسلوكيات أفرادها.
ما هو هذا النموذج المرجعي (الثقافي، أو الأخلاقي، أو القانوني، أو الديني) الذي يجب أن نعقد المقارنة معه، عندما نقرر أنّ وضعَ المرأة سيّئٌ في مجتمعاتنا، أو أنها «ضحيةٌ»، أوعندما نقرّر أن ننتقل بهذا الوضع إلى ما هو أفضل؟ أي ما هو السيِّئ وما هو الأفضل؟ كيف نحدد معاييرَ هذا السيِّئ وهذا الأفضل؟
لقد اعتمدت الجمعيات النسائية الناشطة من أجل الجندر والمساواة في لبنان وفي بلدان عربية أخرى، مرجعية الأمم المتحدة وقراراتها مثل إتفاقية سيداو(1979)، ووثائق مؤتمر بكين (بيجين 1995)، في اعتبارها الأمومة على سبيل المثال، دوراً »نمطيًّا»، أنتجته ثقافة المجتمع، وليس له علاقةٌ بأنوثة المرأة وطبيعتها الفيزيولوجية والعاطفية والسايكولوجية. وأن المساواة المطلوبة بين الرجل والمرأة تفترض تغيير هذا الدور النمطي، من خلال تغيير الثقافة المجتمعية التي أنتجته. وأن الزواج المبكر من أكثر الممارسات ضرراً، وهو عائقٌ أمام تمكين الفتيات[7]...
هكذا سيتم الربط بين واقع المرأة «الضحية» وبين تغيير ثقافة وقوانين وعادات وتشريعات ما اعتبرته تلك الجمعيات «المجتمع المتخلف».
وسيلخص مصطلح الجندر الذي ستستخدمه الجمعيات والحركات النسوية والذي سيتكرر في أدبيات الأمم المتحدة تلك الدعوات كافة إلى التمكين، والمساواة، والحق في المثلية، وتنوع أشكال الأسرة، لإنقاذ المرأة»الضحية».

ما هو الجندر؟
الجندر هو كلمةٌ أجنبيةٌ (Gender). وقد اصطلح على ترجمتها إلى العربية بكلمتين «النوع الاجتماعي». فما هو المقصود بالنوع الاجتماعي؟ وكيف تفسر هذه الترجمة أهداف الجندر؟
طرح الجندر المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، وطالب من أجل ذلك بتمكين المرأة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وطرح «الكوتا» النسائية (تشريع حصة للنساء) في كل الهيئات السياسية والنقابية والوزارية، تمهيداً للمساواة الكاملة بين الرجال والنساء في هذه الهيئات. كما أكد التمكين المطلوب على الجانب الإقتصادي من حيث المساواة في الأجر، أو من حيث الإشارة إلى «عمل المرأة المنزلي غير المدفوع الأجر»، بحيث ستتكرر هذه الفكرة في كلِّ مرةٍ تتم فيها الإشارة إلى البعد الإقتصادي لعمل المرأة، أو لمساهمتها في التنمية الإقتصادية.
والجندر هو نتاج سنواتٍ من نشاط الحركات النسوية، ومن المراحل التي مرت بها على المستويات الفكرية والاجتماعية، دفاعاً عن قضية المرأة. وقد توصلت في نهاية المطاف إلى مصطلح «الجندر» الذي تبنته الأمم المتحدة وروجت له في مؤتمر بكين (بيجين) الشهير عام 1995 والذي سيتحول إلى برامجَ تعليميةٍ وتدريبيةٍ، من أجل تغيير ثقافة «المجتمع المتخلف»، ومواجهة «السلطة الأبوية»، و«السلطة الذكورية»...
والمقصود من الجندر إلغاء التمييز الثقافي والاجتماعي بين الجنسين، بحيث يفترض أن يؤدي تداول هذا المفهوم وتبنيه إلى تشكيل ثقافةٍ جديدةٍ في المجتمع تعتبر الذكورة والأنوثة فروقاتٍ بيولوجيةً لا يترتب عليها أيّ فروقاتٍ ثقافيةٍ، أو اجتماعيةٍ، أو مهنيةٍ. كما اعتبر الجندر الأمومة والأبوة دورين اجتماعيين بعد أن فصلهما عن بعدهما البيولوجي، وأن الأنوثة والذكورة هما نتاج التربية والثقافة والعادات الاجتماعية، فإذا تغيّرت هذه الثقافة تغير معها مفهوما الذكورة والأنوثة.
ظهر مفهوم الجندر في ثمانينيات القرن العشرين في قاموس الحركات النسائية في الغرب (في الولايات المتحدة ثم في أوروبا) قبل أن ينتقل تداوله إلى الدول العربية والإسلامية. وتطورت فكرة الجندر من المطالبة بحقوق المرأة في المساواة بالأجر مع الرجل إلى المطالبة بالمساواة الكاملة في جوانب الحياة كافةً، الاجتماعية والسياسية والثقافية. بحيث أصبح الجندر (النوع الاجتماعي) تعبيرًا» عن اختلافٍ بيولوجيٍّ بين الجنسين لا يجب أن يؤدي إلى تحديدٍ مسبقٍ ونمطيٍّ للأدوار الاجتماعية والثقافية والإنتاجية ...
 وبحسب تعريف صندوق الأمم المتحدة الإنمائي للمرأة (UNIFEM): هذه الأدوار المحدّدة اجتماعيًّا لكلٍّ من الذكر والأنثى، تتغيّر بمرور الزمن وتتباين تبايناً شاسعاً داخل الثقافة الواحدة ومن ثقافةٍ إلى أخرى، أي أنها أدوارٌ غيرُ ثابتةٍ، ولا يجب أن تكون كذلك.

وبحسب منظمة الصحة العالمية:
«الجندر هو التعبير عن الخصائص التي يحملها الرجل والمرأة كصفات مركبّة اجتماعيًّا»، ولا علاقة لها بالاختلافات البيولوجية»[8].
إن مثل هذه التعريفات للجندر من هيئات دولية مثل صندوق الأمم المتحدة الإنمائي للمرأة، ومنظمة الصحة العالمية، تسوغ للكثيرين مشروعية الجندر الدولية.
لعب مؤتمر بكين عام 1995 دوراً مهمًّا في الترويج لمفهوم الجندر. فقد كان المؤتمر الدولي الأول الذي تطرح فيه تفاصيلُ واسعةٍ حول حقوق المرأة بغض النظر عن المجتمعات التي تعيش فيها. ويمكن أن نعتبر كل الأفكار والدعوات التي نسمعها اليوم وتنادي بها جمعياتٌ نسائيةٌ حول تمكين المرأة، والمساواة، وحول الكوتا السياسية، ورفض الأدوار التقليدية بين الرجل والمرأة، إنما تعود بمعظمها إلى ما جاء في مؤتمر بكين من توصيات. (ذكر الجندر في وثيقة المؤتمر الختامية 233 مرة).
جاء في نص الوثيقة الختامية لمتابعة مؤتمر بكين الذي عقد في العاصمة الصينية بين 14و15سبتمبر/ أيلول1995 والذي نظم تحت شعار«المساواة، والتنمية، والسلم» ما يلي:
- نحن الحكومات المشتركة في المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة.
- وقد اجتمعنا هنا في بكين في سبتمبر/أيلول 1995م، عام الذكرى الخمسين لإنشاء الأمم المتحدة.
- وقد عقدنا العزم على التقدّم في تحقيق أهداف المساواة والتنمية والسِّلْم.

 نؤكِّد مجدَّدًا التزامنا بما يلي:
- تساوي النساء والرجال في الحقوق والكرامة والإنسانية المتأصلة وسائر المقاصد والمبادئ المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وغير ذلك من الصكوك الدولية لحقوق الإنسان ولا سيما اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة...
- الانطلاق مما تحقّق من توافق آراءٍ ومن تقدمٍ في ما سبق من مؤتمرات الأمم المتحدة واجتماعات القمة المعنية بالمرأة في نيروبي عام 1985م، والطفل في نيويورك عام 1990م، والبيئة والتنمية في ريو دي جانيرو عام 1992م، وحقوق الإنسان في فيينا عام 1993م، والسكان والتنمية في القاهرة عام 1994م، والتنمية الاجتماعية في كوبنهاغن عام 1995م، وذلك بهدف تحقيق المساواة والتنمية والسلم.
- أن المساواة في الحقوق والفرص والوصول إلى الموارد وتقاسم الرجل والمرأة المسؤوليات عن الأسرة بالتساوي والشراكة المنسجمة بينهما، أمورٌ حاسمةٌ لرفاهيتهما ورفاهية أسرتهما، وكذلك لتدعيم الديمقراطية.
- أن السلم المحلي والوطني والإقليمي والعالمي يمكن تحقيقه ويرتبط ارتباطًا لا انفصام له بالنهوض بالمرأة التي تمثل قوةً أساسيةً في مجالات القيادة وحل الأزمات وتعزيز السلم الدائم على جميع المستويات (وثيقة منهاج مؤتمر بكين، 1/9/1995)[9]
ساهمت الحركة النسوية (Feminism) والتحولات التي مرت بها، والمفاهيم التي تبنتها ودعت إليها في الغرب حول حقوق المرأة والمساواة في جعل مضمون «الجندر» أطروحةٌ دوليةٌ ورسميةٌ على مستوى الأمم المتحدة.
لكن هذه الحركة لم تكن واحدةً وموحدةً تجاه مطالب النساء ومستقبلهن. فقد اختلفت الرؤية إلى دور المرأة، وإلى تغيير واقعها بحسب الخلفية الإيديولوجية والسياسية لهذه الحركات من جهة، وللباحثين والمفكرين الذين قدموا بدورهم رؤيتهم حول هذا الواقع وأسبابه الاجتماعية والسياسية والثقافية من جهةٍ ثانيةٍ. فكتب ماركس وإنغلز وحتى لينين مبكراً عن تحرير المرأة. وكتبت سيمون دي بوفوار، وجان بول سارتر في الخمسينيات عن الموضوع نفسه من فرنسا، كما كتب بعض العلماء والمفكرين من العرب والمسلمين في مطلع القرن العشرين عن تحرر المرأة مثل قاسم أمين وفرح أنطون، ورفاعة الطهطاوي الذين حمّل بعضهم الدين مسؤولية تردي واقع المرأة في حين رأى البعض الآخر أن التخلف عن اللحاق بركب الغرب هو المسؤول عن هذا التردي. وقد التقط بعض المفكرين والمثقفين من الرجال والنساء في الدول العربية (نوال السعداوي، وفاطمة المرنيسي)، وفي تركيا (ياسمين أرات، وفريدة أكار، ونيلو فرغول)، وفي إيران (مجلة زنان أسستها شهلا شركت عام 1992) هذه الأفكار والاتجاهات الغربية في تناول قضية المرأة، ومعها قضايا الأسرة والحريات الفردية... وأصدروا المجلات والمؤلفات التي تنتقد العادات والتفسير الديني في قضية المرأة، وتدعو إلى المساواة التامة بين الجنسين[10]
هكذا كانت منطلقات ما سيطلق عليه لاحقاً النسوية مختلفة ومتعارضة من حيث مرجعيتها الفكرية والثقافية والاجتماعية. لكن الأمم المتحدة التي تبنت قضية المرأة وعقدت من أجلها المؤتمرات الدولية ستوحد هذه المنطلقات المتعارضة، وستحولها إلى قضية واحدة هي «قضية المرأة»، التي سنشهد تماثلاً في مفرداتها وأدبياتها المنشورة، وفي مقررات دوراتها التدريبية، لدى الجمعيات النسائية المحلية، في مختلف أنحاء العالم، وفي الهيئات الدولية، تحت عنوان «الجندر»(النوع الاجتماعي) بغض النظر عن اختلاف الثقافات والمجتمعات والدين والتقاليد والعادات.

لِمَ النوع الاجتماعي، لا الذكر والأنثى؟
يعتبر أصحاب نظرية الجندر، كما سبق وأشرنا، أن الذكورة والأنوثة ليستا من المكونات البيولوجية والوراثية، بل هما نتاج ثقافةٍ اجتماعيةٍ. هذه الثقافة هي التي فرضت اختلاف الأدوار بينهما. (الرجل نوعٌ اجتماعيُّ، والمرأة نوعٌ اجتماعيُّ) فإذا قمنا بتغيير هذه الثقافة، عبر تغيير مناهج التعليم، والبرامج الإعلامية والإعلانية، ومن خلال الورش التدريبية، فإن الأدوار التقليدية للرجل والمرأة المتعارف عليها ستتغير أيضًا. فلن نجد بعد ذلك صورة نمطية عن المرأة «الأم» أو عن الرجل العامل، ولا عن صورة المرأة والرجل وأدوارهما التقليدية في البيت، ولا عن صورة الزوجين (رجل وإمرأة)، بل ستقدم تلك الورش والكراسات التدريبية صوراً جديدة «غير نمطية»عن علاقات زوجية، أو عن علاقاتٍ جنسيةٍ بين شخصين من الجنس نفسه (المثلية)، أو عن أسرةٍ من جنسٍ واحدٍ (رجلين أو إمرأتين) .
إذاً لن يقتصر الأمر بالنسة للجندر على استهداف تغيير صورة المرأة النمطية (الأم، أو ربّة الأسرة) ولا على تقديمها في صورةٍ جديدةٍ هي صورة شريك الرجل والمساوية له في المجالات كافةً (التمكين)، بل سيؤدي المنطق الذي يستند إليه الجندر، إلى ما هو أهم وأخطر على مستوى التغيير الجذري ثقافياً وأخلاقياً؛ لأن فرضية عدم وجود فروقاتٍ بيولوجيةٍ تحدد الأدوار الاجتماعية التي يمارسها كل من الرجل والمرأة، ستنطبق على الميول والرغبات الجنسية أيضًا، بحيث لا يمكن القول بالنسبة إلى الجندر، بأصالة وجود رغباتٍ أنثويةٍ تجاه الذكر، أو ذكورية تجاه الأنثى. بل يمكن أن تكون هذه الرغبات في الإتجاه نفسه، أي أنثوية-أنثوية، وذكورية-ذكورية. وبحسب منطق الجندر فإن الميول المتغايرة (بين الجنسين) هي نتاج ثقافةٍ اجتماعيةٍ نمطيةٍ، وبما أن هذه الثقافة متخلفةٌ، وذكوريةٌ، فلا بد من تغييرها حتى تنسجم مع رؤية الجندر للتمكين وللمساواة. ولهذا السبب سوف نلاحظ أن المؤتمرات التي تعقد للدفاع عن المرأة من أجل الكوتا النسائية، أو لرفض العنف، أو من أجل المساواة، تضع على جدول أعمالها أيضًا الدفاع عن المثلية الجنسية، بحيث تتساوى هذه المثلية في الوعي الذي يتم تشكيله من خلال هذه المؤتمرات، مع رفض العنف، ومع تأييد الكوتا، والمساواة والتنمية.
وهذا يفسر لماذا بدأنا نشهد ظاهرةً جديدةً في استخدام مصطلح «النوع الاجتماعي» عند تعبئة البيانات الشخصية (استمارة، أو طلب تسجيل...) لتحديد الهوية الجنسية، بحيث توضع كلمة النوع الاجتماعي: ذكر.. أنثى، بدلاً مما كان يكتب سابقاً الجنس: ذكر..أنثى!
كانت «اتفاقية سيداو» للقضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ المرأة الأساس الذي ستستند إليه أطروحات الجندر ومشاريع تغيير الأفكار والعادات الثقافية والمجتمعية.

فما هي سيداو؟
عملت الأمم المتحدة من خلال الشرعة الدولية لحقوق الإنسان على تأكيد مبدأ المساواة وحق كلّ إنسانٍ في التمتع بالحقوق والحريات دون تمييزٍ بما في ذلك التمييز على أساس الجنس، كما عملت على ترجمة هذا المبدأ من خلال عددٍ من الإتفاقيات الخاصة بقضايا النساء ومنها:
الإتفاقية الخاصة بالحقوق السياسية للمرأة عام 1952
الإتفاقية الدولية بشأن جنسية المرأة المتزوجة عام 1957 .
إتفاقية الرضا بالزواج والحد الأدنى لسن الزواج عام 1962.
تم التوصل إلى صياغة الإعلان العالمي للقضاء على التمييز ضد المرأة عام 1967، ولكنه بقي إعلانًا غيرَ ملزمٍ ولم يضع الدول أمام التزاماتٍ واجبةِ التنفيذ، كونه لم يتخذ شكل الإتفاقية فكانت «سيداو «أو اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة المعروفة بـ «اتفاقية كوبنهاغن» أو «شرعة حقوق المرأة» التي تبنتها الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 18 كانون أول/ديسمبر 1979 وقد دخلت حيّز التنفيذ في 3\9\1981 وصارت جزءًا من القانون الدولي لحقوق الإنسان .
استندت «إتفاقية سيداو» إلى مبدأ المساواة الكاملة في الحقوق والواجبات. لكن خصوصية هذه الاتفاقية التي أثارت اعتراض الكثير من الدول التي لم توقع عليها أنها «ستكون ملزمةً للدول الأطراف»، التي يجب عليها أن تقدم تقاريرَ دوريةً إلى لجنةٍ تعيّنها الأمم المتحدة تبين فيها مدى التقدم في تطبيق هذه الاتفاقية.(الجزء الخامس من الاتفاقية). لكن هذه التحفظات لم تكن موضع تفهم، أوقبول، من الهيئات المعنية في الأمم المتحدة، كما يفترض»التنوع الثقافي»، بل اعتبرت تلك التحفظات أنها تتناقض وموضوع الاتفاقية والغرض منها، وهو القضاء على التمييز ضد المرأة، «فهي كلٌّ لا يتجزأ، ولا يمكن تحقيق المساواة الحقيقية لناحية التعليم والعمل والمشاركة في الحياة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، والمرأة تخضع لولاية الرجل في العائلة وتعتبر ناقصة الأهلية في العلاقات الأسرية»[11].
حتى عام 2016، كانت السودان والصومال هما الدولتان العربيتان الوحيدتان اللتان لم توقعا، ولم تنضما إلى اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة.ورفضت الولايات المتحدة الأمريكية الانضمام للاتفاقية لإنها اعتبرتها تتدخل في شؤون الدولة الداخلية خاصة في ما يتعلق بقضايا تحديد النسل. كذلك لم تنضم إيران والفاتيكان وتونغا للاتفاقية.
وقد استهدفت مجمل تحفّظات الدول العربية تنظيم تشريعات الأسرة كالحضانة والوصاية والولاية والقوامة والإرث وجنسية الأطفال وزواج الأطفال وتعدد الزوجات والحق في الطلاق والنفقة وزواج المسلمة من غير المسلم وتمثلها المواد 2، 9، 15، 16، 29 في الاتفاقية[12].
لا تترك الإتفاقية الدول الموقعة تعمل كما تشاء، بل تتعامل الإتفاقية مع نفسها باعتبارها قانوناً دولياً يستوجب الإخلال به اللجوء إلى المحكمة الدولية (المادة/ 29، حول التحكيم بين الدول والرجوع إلى محكمة العدل الدولية.) كما طلبت المادة 18 من الدول الأطراف «أن تقدم إلى الأمين العام للأمم المتحدة للنظر من قبل اللجنة تقريراً عاماً عما اتخذته من تدابيرَ تشريعيةٍ وقضائيةٍ وإداريةٍ وغيرها من أجل إنفاذ أحكام هذه الاتفاقية وعن التقدم المحرز في هذا الصدد»..
ودعت (المادة 2) من اتفاقية «سيداو» جميع الحكومات إلى إدماج مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في دساتيرها الوطنية أو تشريعاتها المناسبة الأخرى، وكفالة التحقيق العملي لهذا المبدأ من خلال التشريع وغيره من الوسائل المناسبة، منها، تغيير أو إبطال القائم من القوانين والأنظمة والأعراف والممارسات التي تشكل تمييزاً ضدّ المرأة.
 كما حدّدت «سيداو» في المادة (5) مختلف المجالات التي يجدر بالدول العمل عليها للقضاء على التمييز، وهي تشمل الأدوار الجندرية والتنميط والأعراف.(أي التغييرالثقافي).
لذا على الدول الأطراف، بالنسبة إلى سيداو، أن تتخذ جميع التدابير المناسبة لتحقيق ما يلي:
تغييرالأنماط الاجتماعية والثقافية لسلوك الرجل والمرأة، بهدف تحقيق القضاء على التحيزات والعادات العرفية وكل الممارسات الأخرى القائمة على الاعتقاد بكون أي من الجنسين أدنى أو أعلى من الآخر، أو على أدوار نمطية للرجل والمرأة... وجاء في المادة 10من الاتفاقية نفسها:
 القضاء على أي مفهومٍ نمطيٍّ عن دور الرجل ودور المرأة في جميع مراحل التعليم بجميع أشكاله، عن طريق تشجيع التعليم المختلط، وغيره من أنواع التعليم التي تساعد في تحقيق هذا الهدف، ولا سيما عن طريق تنقيح كتب الدراسة والبرامج المدرسية وتكييف أساليب التعليم[13]...
إذا ً تريد هذه الإتفاقيات الدولية تغيير الأنماط الاجتماعية والثقافية، والقضاء على التحيزات وعلى العادات العرفية، وعلى الأدوار النمطية للرجل والمرأة.. من أجل تطبيق ما صدر من مواثيق عن الأمم المتحدة ومؤتمراتها حول المرأة.

المرأة والتنمية والسلام العالمي:
ربطت «اتفاقية سيداو» أيضًا بشكلٍ غريبٍ ولافتٍ، المساواة بين الرجل والمرأة، بالسلام الدولي وبرفاهية العالم... ويبدو أن المقصود من هذا الربط مع السلام الدولي إضفاء أهميةٍ عالميةٍ على الإتفاقية، التي تقول:
«وإيمانًا منها بأنّ التنمية التامة والكاملة لأيِّ بلدٍ، ورفاهية العالم، وقضية السلم، تتطلّب جميعًا مشاركة المرأة، على قدم المساواة مع الرجل، أقصى مشاركةٍ ممكنةٍ في جميع الميادين...»[14]
فما هو المقصود برفاهية العالم؟ وكيف يمكن أن تحقِّق مشاركة المرأة على قدم المساواة مع الرجل التنمية الكاملة لأيِّ بلد؟ وأي دور لهذه المشاركة في تحقيق السلم العالمي؟ وإلى أي أدبياتٍ نظريةٍ في العلوم السياسية والاقتصادية والتنموية استندت هذه الإتفاقية لتؤكد على هذا الربط بين مشاركة المرأة وبين السلم والتنمية الكاملة؟ وإلى تجارب أي من شعوب العالم استندت لتؤكد هذه الفرضية التي تدعو شعوب العالم إلى الإقتداء بها؟
ولِمَ تواجه البلدان التي حقّقت تقدّماً واضحاً في مساواة المرأة وفي مشاركتها في المجالات والمواقع كافة مثل الولايات المتحدة، أو مثل البلدان الأوروبية، أزمات اقتصادية وتراجعاً في النمو؟ ولِمَ يزداد الفقراء فيها فقراً ؟
ما الذي يمكن أن تفعله المرأة لتحقيق رفاهية العالم والتنمية المستدامة، إذا كانت الشركات الكبرى تنهب الاقتصاد العالمي والفقراء يزدادون فقراً ويزدادون عدداً؟
وكيف يمكن للمساواة من جهةٍ ثانيةٍ أن تحقّق السلم العالمي، إذا كانت مشاركة المرأة السياسية ليست سوى انعكاسٍ أو تطبيقٍ لسياسة بلادها تجاه هذه القضية أو تلك.. كما تؤكد التجربة أن مشاركة المرأة لم تغير شيئاً في الوقع السياسي العالمي ولم تجلب السلام المنشود.
 ففي التجربة الغربية حيث المساواة واضحةٌ في المشاركة بين الرجل والمرأة، لم تجلب هذه المشاركة للنساء في سياسات بلادهن (وزيرة خارجية، أو وزيرة دفاع، أو رئيسة حكومة...) السلام العالمي. وحتى مشاركة النساء على قدم المساواة مع الرجل لم توقف الحروب، ولم تجعل النساء سياسات بلادهن أكثر رحمةً أو أكثر عدلاً» أو حناناً، بل قامت المرأة بالتحريض على الحرب والقتل مثلما يفعل الرجل تماماً»، ما ينفي أي علاقةٍ بين مشاركة المرأة على قدم المساواة مع الرجل وبين السلم العالمي. ف «كوندوليزا رايس» وزيرة الخارجية الأميركية في عهد الرئيس جورج بوش الإبن، كانت تريد من إسرائيل استمرار العدوان على لبنان عام 2006 انسجاماً مع سياسات بلادها، علماً بأن هذا العدوان لم يوفِّر النساء ولا الأطفال، ولا حتى البنى التحتية، أو الجسور والطرقات...كانت هذه المرأة تريد أن تستمر آلة القتل من دون توقّف. فما الذي أضيف إلى السلم العالمي عندما أصبحت إمرأةٌ وزيرةً للخارجية في الولايات المتحدة الأميركية؟
إن السلم العالمي المفترض لا علاقة له البتة بوصول إمرأة إلى المواقع التي وصل إليها الرجل. نحن هنا أمام عملية تضليلٍ لتبرير أهمية الجندر (المساواة، ورفض الأدوار النمطية) لأن السلم العالمي يخضع من حيث شروط تحققه لسياسات الدول لا للاختلاف في الأدوار بين الرجل والمرأة.
ينطبق الأمر على «تسيبي ليفني» عندما كانت وزيرةً للخارجية الإسرائيلية. ماذا فعلت هذه المرأة لا للسلم العالمي، بل للسلم في فلسطين التي ترزح تحت احتلال تنتمي إليه هذه المرأة؟ كيف يستطيع الجندر (مشاركة المرأة على قدم المساواة مع الرجل) أن يجرؤ على الادعاء أن هذه المشاركة ستحقق السلم العالمي؟ من سيصدق هذه التفاهات التي تكذبها ممارسات النساء عندما لا يفعلن سوى التقيد بما تمليه عليهن سياسات رؤسائهن من الرجال أو حتى من النساء؟ لم تغير هذه المشاركة شيئاً على الإطلاق، لأن الحرب أو السلم أصلاً لا علاقة لهما بمشاركة المرأة على قدم المساواة مع الرجل، أو بعدم حصول هذه المشاركة. سياسات الحرب والسلم لها علاقةٌ حصراً بمصالح الدول وبأهدافها في التوسع والعدوان، أو بالتعاون وتحقيق السلام. وهل يستطيع دعاة هذه الفرضية (ربط المساواة بالسلم العالمي) أن يقدموا لنا نموذجاً عن أين ومتى وكيف تحقق هذا الأمر؟
فهل حصلت الحرب العالمية الأولى ثم الثانية التي أعقبتها؛ لأن المرأة لم تكن شريكةً على قدم المساواة مع الرجل في المواقع والأدوار؟ وهل توقفت الحرب لاحقاً وتم توقيع اتفاقيات سلامٍ لأن المرأة باتت شريكاً مع الرجل؟ وهل عاش العالم الحرب الباردة طوال خمسين عاماً بين الإتحاد السوفياتي والولايات المتحدة وتم تهديد السلم العالمي بنشوب الحرب مرات عدةً، لأن المرأة لم تكن شريكةً على قدم المساواة مع الرجل؟ وهل ذهبت الولايات المتحدة إلى الحرب في فيتنام، وشنتها على العراق، وعلى أفغانستان، لأن المساواة كانت غائبة بين الرجل والمرأة ؟ إن هذا ما لا تقبله حتى أدبيات العلوم السياسية التي تدرس في الجامعات الغربية نفسها.
تبدو حجة الجندر واتفاقية سيداو ضعيفةً ومخادعةً وهي تتلاعب بالوعي، عندما تريد أن تضفي أهميةً إنسانيةً عالميةً على دور المساواة بين الرجل والمرأة في تحقيق السلم العالمي.
لقد سبق وأشرنا إلى أن الثقافة المستهدفة بالتغيير(العادات العرفية، الأدوار النمطية...) هي ثقافة البلدان والمجتمعات غير الغربية. لا بل إن مرجعية التغيير التي تستند إليها الأمم المتحدة، والجمعيات النسوية التي تعمل معها، في رفض الدور الأمومي، أو تهميشه، وفي قبول المثلية، ك«حقٍّ في الاختلاف»، وفي الدعوة إلى نموذج الأسرة من الجنس نفسه (رجلين أو امرأتين) وتجاوز شكل الأسرة «التقليدي» الذي عرفته البشرية منذ ملايين السنين، هي مرجعية النموذج الثقافي والمجتمعي الغربي الذي يعيش اليوم فعلياً تجربة الأسرة من جنسٍ واحدٍ، وقد بدأ تغيير التشريعات القانونية، ومناهج التعليم في المدارس الإبتدائية والثانوية في كثير من البلدان الغربية، لتصبح أكثر تقبلاً للصورة غير النمطية عن العلاقات بين الجنسين، ولتقبل صورة الزوجين من جنسٍ واحدٍ.
ففي كندا على سبيل المثال بدأ اعتماد مناهج التربية الجنسية في بعض المدارس في «كيبك» (Quebec) في مرحلة الروضات للعام 2016-2017، حيث يتعلم الأطفال كيفية التلقيح التي تؤدي إلى الولادة، وصولاً إلى التعرّف على مختلف أشكال العائلة: النواتية، الفردية (شخص واحد) والعائلة من جنسٍ واحدٍ، والعائلة بالتبني. وتشير الإحصاءات في كندا في هذا الإطار إلى أن نسبة الزواج من الجنس نفسه بلغت ثلاثة من كل عشر زيجاتٍ عام 2011، وهي ضعف النسبة التي كانت عام 2006 [15]. وفي فرنسا وبلدان الاتحاد الأوروبي، يجري النقاش لتحديد السن المسموح بها للعلاقات الجنسية، تحت عنوان ما يسمى النضج الجنسي (Maturite’ Sexuelle). والمقصود بذلك السن التي لا يعاقب عليها القانون إذا حصلت العلاقة الجنسية.
وتختلف التقديرات بين بلدٍ أوروبيٍّ وآخرَ لتحديد هذه السن.. فهي تتراوح بين 12 و16 سنة. أي يمكن ممارسة العلاقة الجنسية في سن 12 سنة من دون اعتبار الأمر اعتداءً (علاقة مع قاصر) على المستوى القانوني. وقد سبق لإسبانيا أن اقرت عام 2015 هذه السن ب 12 سنة، مثلما هو الحال في الولايات المتحدة. أما في بلجيكا والنمسا وإيطاليا وألمانيا فهي 14 سنة، وفي الدانمارك 15، وفي بريطانيا وسويسرا 16 سنة.. ولا يزال النقاش والأخذ والرد بين الدوائر القانونية وجمعيات حماية الأطفال مستمراً حول التمييز بين الرضا بهذه العلاقة وبين فعل الاغتصاب والاعتداء[16].
أما الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون من جهته، فقد اقترح سن 15 للقبول القانوني بالعلاقة الجنسية[17].
 إن الترويج لمثل هذا النموذج الغربي، ومحاولات فرضه في المجتمعات العربية والإسلامية عبر أطروحاتٍ مثل المساواة، والأسرة من جنسٍ واحدٍ، والتمكين الجنسي والاقتصادي، والسياسي للنساء والفتيات، وتغيير وظائف الأنوثة والذكورة، هو تعدٍّ مباشرٍ على ثقافة شعوب هذه المجتمعات، وهو استخفاف برؤيتها الخاصة للأسرة، والمرأة، والأمومة التي تختلف بل تتناقض جوهرياً مع رؤية الجندر. فمثل هذه الثقافة تلتزم، من منظورٍ دينيٍّ وأخلاقيٍّ، الشكل الوحيد والتقليدي للأسرة، وتعظّم من شأنها، وتؤكد أولويتها في المجتمع، وترفض المثلية، وتقدس الدور الأمومي، وتعتبره طريقاً إلى الجنة التي يسعى المؤمن إلى الفوز بها.
إنّ التغيير الذي يريد الجندر أن يفرضه من خلال مواثيق الأمم المتحدة ليس سوى عودةٍ غير مباشرةٍ إلى رسالة الغرب الحضارية المزعومة في «تمدين» الشعوب «المتخلفة» التي برّر بها حملاته العسكرية لاحتلال بلدان العالم في القرن التاسع عشر. إنها عملياً عودةٌ إلى الماضي وليست دعوة إلى المستقبل.
إنّ التجربة الغربية التي فككت الأسرة، وشجعت المساكنة والمثلية وعدم الإنجاب، والعلاقات في سن مبكرة بين الجنسين[18]، ونقلت العلاقات الحميمة من الحيزالأسري الخاص إلى الحيز العام، وشرعت تدخل الشرطة في الحياة الأسرية، وفي تربية الأطفال، وأتاحت قوانينها للأبناء مغادرة ذويهم وانقطاع صلة البنوة والأبوة والأمومة بينهم عند بلوغهم الثامنة عشرة وجعلت المجتمعات الغربية مجتمعات هرمةً تحتاج إلى استيراد الأيدي العاملة... هذه التجربة، ليست نموذجاً يحتذى.
 ما يؤكد هذا التحيز الثقافي لدعاة الجندر أنهم لا يتوجهون بأيِّ نقدٍ إلى ما تعتبره الثقافة الشرقية والدينية انحرافاً مثل المثلية، أو الأسرة من جنسٍ واحدٍ، أو تشريع العلاقات الجنسية في وقتٍ مبكرٍ.
إن الفرق كبير جداً على المستويات المعنوية والأخلاقية والإنسانية، بين أن نختصر أدوار المرأة وأفراد الأسرة بالبعد الاقتصادي على سبيل المثال (عمل المرأة غير مدفوع الأجر)، وبين نظرة إنسانية وأخلاقية لهذه الأدوار تعتبر الجنة تحت أقدام الأمهات، وتعتبر النظر إلى وجه الوالدين عبادة، وتكريم الأم وتعظيمها أولوية في واجبات الأبناء تجاه والديهم أمد الحياة، وهي النظرة التي تؤكد على المودة والرحمة في علاقات الزوجين في ما بينهما ومع أولادهما.
ولذا نلاحظ أن مؤتمرات الأمم المتحدة التي ربطت بين المساواة والتمكين في قضية المرأة، وبين أهداف التنمية، لم تلتفت إلى مستقبل الأسرة في هذا الربط. فلم تقدم لنا أيّ تصورٍ مستقبليٍّ عن الأسرة إذا حصلت المساواة، أو إذا طبق الجندر، أو إذا تخلصت المرأة من السلطة الذكورية، ومن الضوابط والقيود على جسدها... بحيث يمكن القول أن مرجعية هذه النظرة الجندرية هي مرجعية المرأة قبل الأسرة، أو أهم من الأسرة، والمرأة قبل المجتمع، أو فوق المجتمع. وهي مرجعية الرغبة والحرية الفردية وحاكميتهما على مرجعية القيم والأخلاق. وهي مرجعية الثقافة الغربية لا أيّ مرجعيةٍ ثقافيةٍ أخرى.
لقد جعلت الأمم المتحدة أطروحة الجندر أطروحةً إلزاميةً، يجب استخدامها في مناهج التعليم، وفي المقرّرات الدراسية وفي وسائل الإعلام، وفي المؤتمرات والندوات والدورات التدريبية. لكن هذا لا يعني على الإطلاق أن علينا أن نأخذ بهذه الأطروحة لمجرد تكرارها 233 مرة في مؤتمر بكين، أو لأن الأمم المتحدة أرادت ذلك.
ولنفترض أن الجندر يستند إلى نظرية علمية تعتبر أن الميول الأنثوية والميول الذكورية هي نتاجٌ ثقافيٌّ لا نتاجٌ تكوينيٌّ وبيولوجيٌّ. فما الذي يدفعنا إلى القبول بهذه النظرية والإعتقاد بصحتها طالما أنها لا تزال مجرد فرضيةٍ علميةٍ؟ ولِمَ علينا في الإطار العلمي نفسه أن نتخلى عن النظريات الأخرى التي كانت ولا تزال تقول بأن الميول والفروقات بين الذكور والإناث هي فروقاتٌ بيولوجيةٌ وطبيعيةٌ؟
لقد عرفت العلوم الإنسانية والاجتماعية الكثير من النظريات التي حاولت فهم السلوك الإنساني منذ قرون، وقد تبين بعد زمن أن تلك النظريات لم تكن واقعيةً، فتراجع بريقها، وبهت الاهتمام بها، مثل محاولات السلوكية في تفسير السلوك التي أهملت البعد الداخلي، فتجاوزتها نظرياتٌ أخرى، في الوقت الذي كان بافلوف صاحب تلك النظرية يعتقد أنه حقق انجازاً عظيماً في هذا المجال.
وكيف لنا أن نقبل النظرية الجندرية باعتبارها النظرية الصحيحة والوحيدة في فهم وتفسير الميول والأدوار الذكورية والأنثوية، إذا كانت العلوم الاجتماعية كافةً، لا تزال مجموعةٌ من النظريات المختلفة، لا يمكن الجزم بصحة أيٍّ منها؟ وما الذي يمنعنا في مثل هذه الحالة من التمسك بالنظرية التي تنسجم مع ما عرفته البشرية منذ ملايين السنين (خلافاً للجندر) والتي تقول باختلاف الأدوار بين الرجل والمرأة انسجاماً مع الاختلاف في طبيعتهما وتكوينهما؟
إن ما يقترحه الجندر من تفسيرٍ ثقافيٍّ اجتماعيٍّ للفروقات في الأدوار والميول بين الجنسين، ليس سوى فرضيةٍ لا يمكن الركون إلى علميتها، ولا حتى إبدالها بالنظريات المغايرة السابقة عليها التي تفسر السلوك والأدوار بالميول الفطرية والبيولوجية.
إن التحولات التي حصلت في الغرب تجاه قضية المرأة وأدت إلى أفكار سيداو والجندر كانت نتيجة تغيرات عميقة في بنية المجتع الأوروبي، وفي توجهاته الفكرية والفلسفية، وفي تطلعاته الاجتماعية والسلوكية. لقد كانت تلك التحولات كافة نتيجة مباشرة لتلك القطيعة التي حصلت مع الدين (الكنيسة) في القرن الثامن عشر، والتي باتت معها الحرية الفردية مقدسة لا تخضع لأي ضوابطَ دينيةٍ أو أخلاقيةٍ»، وعلى مستوى البعد الداخلي صارت تلك الرغبة والحاجة إلى بديل عن الدين هي الوجه الأبرز في المقاربات المعرفية والعلمية في غياب الدين.. ومن هذه التحولات ظهرت بعض المجالات الدراسية مثل الدراسات الثقافية والدراسات ما بعد الاستعمارية، والدراسات النسوية ...»[19].
لقد تكيف النموذج الغربي خلال قرنٍ من الزمان مع هذه التحولات التي حصلت في تجربته الفكرية والإنسانية والمجتمعية، وها هو يقبل بكل أشكال الأسرة (أسرة من جنسٍ واحدٍ)، ويشكو من مجتمعٍ هرمٍ بلا أطفالٍ... فلِمَ يراد للشعوب الأخرى أن تذهب إلى التجربة نفسها؟ ما هو المسوغ إذا كانت تلك التجربة نفسها تعيش حالة من التناقضات والمراجعات ؟
فإذا كانت المرجعيةُ أخلاقيةً، أو دينيةً، فستتقدم أولوية المحافظة على الأسرة قبل المرأة في برامج التوعيه الاجتماعية والثقافية والتعليمية، وفي المشاريع الإقتصادية والتنموية، لأن وظيفة الأسرة ودورها في بناء المجتمع واستقراره، وفي حفظ مستقبله هي بحسب هذه المرجعية، أهم من أيّ فردٍ من أفرادها، سواءً أكانت المرأة أم الرجل. وهي أهم من فرضيات الجندر ومن مواثيق الأمم المتحدة ومن نموذجها الغربي، الذي تريد أن تفرضه باسم التمدن والحداثة.

------------------------------------
[1]*ـ باحثٌ وأستاذٌ في علم الاجتماع ورئيس معهد الدكتوراه في الجامعة اللبنانية سابقاً.
[2]- أهداف التنمية المستدامة، 17 هدفاً لتحويل عالمنا، المساواة بين الجنسين في لبنان واقع، تحديات وآفاق (2000-2018).قراءة من منظور الهدف الخامس للتنمية المستدامة 2030 .صدر التقرير عن كل من معهد العلوم الاجتماعية، ومركز الأبحاث في معهد العلوم الاجتماعية، وصندوق الأمم المتحدة للسكان.(2018).
[3]- إعلان ومنهج عمل بيجين، منشورات الأمم المتحدة، نيويورك 2002 ص 10-11) .
[4]- إعلان بيجين، المرجع السابق ص 8.
[5]- حسين كتشويان نيان، معرفة الحداثة والإستغراب، حقائق متضادة، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي،بيروت 2016 ص152.
[6]- أخبار الأمم المتحدة 21/5/2014.
[7]- أهداف التنمية المستدامة، 17 هدفاً لتحويل عالمنا، المساواة بين الجنسين في لبنان واقع، تحديات وآفاق (2000-2018). مرجع سابق ص27.
[8]- مفهوم النوع الاجتماعي، الوحدة الأولى، صندوق الأمم المتحدة الإنمائي للمرأة، المكتب الإقليمي للدول العربية، 2001، ص4).
[9]- موقع الأمم المتحدة: http://www.un.org/womenwatch/daw/beijing/pdf/BDPfA%20A.pdf
[10]- فهمي جدعان «خارج السرب: بحث في النسوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحرية» الشبكة العربية للابحاث والنشر، بيروت، 2010 ص27.
[11]- موقع المجلس النسائي اللبناني.
[12]- اتفاقية سيداو، موقع الأمم المتحدة https://www.un.org/ar/.
[13]- موقع المجلس النسائي الديمقراطي اللبناني.
[14]- مقدمة إتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة ص2.
[15]- (Recensement de la population de 2011,:Familles,menages,etat matrimonial.type de construction residentielle,logements collectifs”,Le Quotidien,le mercredi 19 Septembre 2012’recensement de 2011,Portrait des Familles et situations des particulers dans les menages au Canada.
[16]- Le Figaro 3/8/2018 وكذلك France 24 14/11/2017 وكذلك Cidj.com infojeunesse 19/3/2019.
[17]- Franceinfo 27/11/2017.
[18]- مرجع سابق infojeunesse 19/3/2019.
[19]- حسين كتشويان نيان، معرفة الحداثة والإستغراب، حقائق متضادة، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي،بيروت 2016 ص176-177 .