البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

الخطبة الجندريّة في معاثرها الفلسفيّة

الباحث :  سارة دبوسي
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  16
السنة :  السنة الرابعة - صيف 2019 م / 1440 هـ
تاريخ إضافة البحث :  July / 30 / 2019
عدد زيارات البحث :  1110
تحميل  ( 390.685 KB )
تتناول هذه الدراسة البُعدَ الفلسفي للنظرية الجندرية من خلال تنظيرات الفيلسوفة الأميركية نانسي فريزر. تركز الباحثة على ما يتعلّق بأفكار فريزر المحورية، والتي أخذت ولا تزال تأخذ اليوم جدلاً واسعاً في الأوساط الثقافية الغربية ولا سيما الوسط النسائي. صحيح أن قضية الجندر حظيت باهتمام العديد من المفكرات الغربيات، إلا أنها بدت ذات خصوصيّةٍ عند نانسي فريزرحيث نالت جزءًا هامًّا من تفكيرها ضمن مسارها الفلسفي المفتوح، ما الذي ترمي إليه فريزر من أطروحاتها الجندرية.. وكيف تعاملت معه؟ وما هي الخلفيات الفكرية والمعرفية التي أفضت إلى ظهوره على الصعيد الاجتماعي والثقافي العالمي؟
تتوقف الباحثة أمام أطروحات فريزر الجندرية، كما تعالج بالنقد أبرز هذه الأطروحات.

المحرر

----------------------------------
نحاول ضمن هذا البحث استحضار فكرٍ فلسفيٍّ نسويٍّ معاصرٍ يطرح قضيّة النسويّة المتصلة بالفلسفة السياسية المعاصرة، حيث نلتقي بالفيلسوفة ورائدة الحركة النسوية الغربية المعاصرة نانسي فريزر[*][2]، ونتعرف على أهم توجهاتها الفكرية، فكيف تناولت فريزر قضية النسوية المعاصرة؟ وماهي أهم النقاط الإشكالية التى أتت عليها في فلسفتها. والحال أن حجم معاناة النسوية في تزايدٍ خاصةً أمام توسّع النظام الرأسمالي في طوره الليبرالي؟ وماهي أهم الخلفيات الفكرية الناجمة عن تناولها لهذا الإشكال على المستوى العالمي؟
قبل إمعان النظر في كيفية تناول ابنة الجيل الثالث لمدرسة فرانكفورت لقضية النسوية، والكشف عن الفضائل الكامنة خلف تناول هذه المسألة، وتبيان ضروب الإضافة القيّمة التي أثْرَت بها دراسات الجندر على وجه الخصوص والفلسفة السياسية المعاصرة بصفةٍ عامةٍ، توجب علينا أن نولي أنظارنا جهة التذكير بأهم الموضوعات الفلسفية السياسية التي شغلت تفكيرها شأن موضوع العدالة والفضاء العمومي، والنظرية النسوية التي تمثل مدار بحثنا على وجه الخصوص. فكيف تمكنت فريزر من الإلمام بمثل هذا الإشكال العويص؟
عديدة هي الإشكالات التي يعرفها المجتمع الأميركي كالعنصرية والاستغلال والازدراء والنسوية، لذلك يتعذر الإلمام بها دون فهم ومعاينة الحركات الاحتجاجية التي تجوب الشوارع الأميركية وتطالب بحقوقها المغتصبة علنًا من أجل معانقة التحرر الذي يُعدّ مطلبًا مشروعًا لكلّ من تعرض للظلم بشتّى ضروبه المختلفة والمتعدّدة. فلم يعد خافيًا على أحدٍ ما حظيت به قضية النسوية من اهتمامٍ واسعٍ في الفلسفة السياسية المعاصرة، ما جعلها ترتقي إلى مرتبة القضايا الكونية بامتيازٍ، إذ لم تعد تنحصر في مجرد الأحاسيس السيكولوجية الذاتية وانتهت تلك الدراما التي تجبر النساء على القبول بالتبعية والضعف أمام الرجل إلى الانخراط في النضالات الاجتماعية من أجل الاحتجاج على واقعهن.
يندرج اهتمام فريزر بالنظرية النسوية في إطار اهتماماتها الكبرى بالفلسفة السياسية، وقد ساهمت عدةُ عواملَ شخصيةٍ تكمن خلف ميولاتها السياسية والفكرية باعتبارها مناضلةً يساريةً ومفكرة، وعواملُ ظرفيةٌ متعلقةٌ بالمناخ الاجتماعي والسياسي للولايات المتحدة الأميركية في تغذية هذا الاهتمام. لذلك احتلت هذه المسألة مكانةً هامةً في تفكيرها الفلسفي، فاجتهدت لتشخيص الواقع الراهن للنساء داخل فضاء المجتمعات الغربية المعاصرة من أجل إيجاد صيغ عملية تنقل النساء نحو أفق أفضل.
هذا وقد تنامى الحديث عن حراك النساء في المرحلة الراهنة للإنساية المعاصرة، لذلك توجّب علينا تناول المسألة من زاوية الممارسة الملموسة وذلك من خلال قراءة فريزر لهذا الإشكال. حيث نجد فريزر تعمل جاهدةً على إرساء نظريةٍ نسويةٍ معياريةٍ، لذلك تعلن منذ السطور الأولى لكتابها ثروات النسوية: من رأسمالية الدولة إلى الأزمة النيوليبرالية على أن هدفها الأساسي يكمن خلف البحث عن العدالة بين الجنسين وإرساء الديمقراطية الجنسية، «هدفنا هنا هو التحقق من أي تفاهماتٍ في الفكر والروح والهيمنة الذكورية، وهي التفسيرات المتصلة بالعدالة بين الجنسين والديمقراطية الجنسية، التي من المرجح أن تكون المفاهيم المتصلة بالمساواة والاختلاف هي الأكثر نجاعةً للارتباطات المستقبلية»[3] .
وقبل الخوض في غمار هذه النظرية النسوية المعيارية التي تسعى فريزر إلى تجسيدها على أرض الواقع الفعلي للمجتمع الأميركي بصفة خاصة والغربي في عموميته، تبسط لنا رائدة الحركة النسوية من خلال كتابها الهام «ثروات النسوية» تاريخ الحركة النسائية الأميركية منذ ستينات القرن الماضي في ثلاثة أطوارٍ كبرى. حيث جاء الطور الأول في شكل قوة تمردٍ تسعى إلى القضاء على الظلم بين الجنسين؛ أي البحث عن المساواة الاجتماعية. وبحث الطور الثاني في إشكال الهوية الاجتماعية. وأما الطور الثالث فقد تمحور حول الظلم الاقتصادي الذي جسدته المركزية الذكورية المتأصلة في النظام الرأسمالي الليبرالي الذي زاد من معاناة النسوية.

أ - المساواة الاجتماعية بين الجنسين
ولئن كان الميز العنصري بين الجنسين هو الدافع الأساسي الذي حفّز النساء على الحراك الاجتماعي من أجل المطالبة بالمساواة الاجتماعية بينهما، فإن فريزر تدعو إلى التعرف على هذا الإشكال من جهة أنه يشتمل على بعدين أساسين: تمثل الأول في الجانب السياسي الاقتصادي الذي لخصته في إعادة التوزيع، وتمثل البعد الثاني في الجانب الثقافي المتحور أساسًا حول بحث النساء على الاعتراف بهن. وبذلك تدعونا فريزر من خلال كتابها المذكور آنفا إلى البحث في ما تسميه بحاجة الحركة النسوية إلى خطابات تعبّر من خلالها عن احتياجاتها.
ولكي نقف على مناحي التطور الفكري لرائدة الحركة النسوية علينا أن ننطلق من موضوعٍ نسويٍّ هامٍّ أخذته فريزر على عاتقها وجعلت منه منطلقها الأول ضمن قراءتها للأسس الكامنة حول نشأة الموجة الأولى للحراك النسوي، والذي تمحور أساسًا حول التقسيم الجنسي للعمل الذي يُقصي المرأة من فضاء العمل ويجعلها مجرد تابعةٍ للرجل. وبالتالي يميز بين المجال الخاص(المنزل) والمجال العام (العمل) وما يترتب عن ذلك من هيمنةٍ ذكوريةٍ ترى في الأنثى القصور والعجز عن القيام بأعمالٍ خارج نطاق المنزل، وهو ما يولد الحقد والضغينة لدى العديد من النساء، ولا أدلَّ على ذلك من نشأة هذه الحركات النسوية المتمردة على النواميس التي وضعها المجتمع الذكوري. وحول مفهوم الميز الجنسي تقرّ فريزر بأنه يمثل «فئة ثنائية الأبعاد، تشتمل على جانبٍ سياسيٍّ اقتصاديٍّ يجذبها نحو إعادة التوزيع وجانبٍ ثقافيٍّ يجذبها نحو الاعتراف بها»[4] . فكيف استطاعت فريزر أن تجسد لنا هذا التحدي الجديد الذي راهنت عليه النساء داخل مجتمعٍ يريدها تابعةً للرجل لا فاعلةً مثله؟
هذا وتشير فريزر إلى أن الحركة التمردية التي اتخذتها النساء منذ ستينات القرن الماضي في شكل حراكٍ نضاليٍّ ضدّ خضوع الأنثى للذكر، قد جاءت كردّ فعلٍ عن شعورها بالظلم الذي يفرضه عليها المجتمع الذكوري في مرحلة الرأسمالية الكلاسيكية، وقد انصب اهتمامها بالعائلة الذكورية الحديثة والمقيدة أي العائلة التي يقوم فيها الرجل بدور العائل ويختصر دور المرأة فيها على القيام بالأعمال المنزلية وتربية الأطفال.
إنّ مسعى فريزر يكمن خلف الكشف عن الظلم الجنسي الذي وضعه المجتمع الذكوري على شاكلة قوانينَ اجتماعيةٍ معمّمةٍ على المجتمعات الغربية، وترك الأنثى تتخبّط في المعاناة النفسية جراء الظلم والحيف المسلط على كيانها. ومن أجل تخطي هذه المظالم تذهب فريزر إلى البحث عن حلولٍ عمليةٍ تستوفي شروط الحياة الإنسانية العادلة بين الجنسين.
وعن تبعية النساء تُقرّ فريزر بأن الفصل البنيوي الذي ساد المجتمع الرأسمالي، والذي ميز بين العمل العام أي المأجور والعمل الخاص مثل أعمال الرعاية وهو تقسيمٌ جنسانيٌّ قد عمّق من معاناة النساء من جهة ومن جهة أخرى قد أثر سلبًا على المشاركة الفعالة للجنسين في الحياة الاجتماعية وزاد من تفقير بنية المجتمع.
ومن أجل إيضاح هذا الظلم الجنسي تعود فريزر إلى النظرية النقدية مع ممثل جيلها الثاني هابرماس بصفة خاصة، والذي يبدو في نظرها قد تجاهل إشكال النساء ضمن حديثه عن التحول البنيوي للفضاء العمومي، ولم يبدِ أي اهتمام لهذا الموضوع عاى الرغم من أنه اهتم بمقولة الفضاء العمومي وما اكتنفه من إحراجاتٍ متعددةِ المدى ضمن مجمل اهتماماته المبكرة بالفلسفة السياسية.
ومن أجل الكشف عن تصور هابرماس الفلسفي حيال إشكال عدم المساواة بين الجنسين بدول الرفاه، تقرّ فريزر بأنه لم يكن يولي أي اهتمامٍ لقضايا النسوية، بل إنه سكت عنها وحصرها في النوع الاجتماعي والحماية الاجتماعية، وبالتالي تظلّ المرأة مجرد خاضعةٍ للرجل لا فاعلة مثله في تصور هابرماس، ولتبرهن على ذلك نجدها تكتب في القسم الأول من كتاب ثروات النسوية ما يلي: «وعلاوة على ذلك، فإن قراءة هذه الروابط الدالة على الفوارق بين الجنسين لها بعض الآثار النظرية الهامة، باعتبارها تكشف أن هيمنة الذكور جزء لا يتجزأ من الرأسمالية الكلاسيكية، داخل الهيكل المؤسسي لهذه التركيبة الاجتماعية، التي يتم تفعيلها عن طريق أدوار الجندر. يلي ذلك هيمنةٌ تبدو غير مدركةٍ بصيغةٍ سليمةٍ تمثل الحالة المتبقية من عدم المساواة ما قبل المرحلة، بل هي في الواقع حديثة بالمعني الحقيقي لدى هابرماس، باعتبارها تقوم على فصل العمل المأجور ووضع الأنثى المقتصر على تربية الأطفال والأعمال المنزلية»[5].
وعلى الرغم من التلمذة الفلسفية بينهما إلا أن ذلك لم يثنِ فريزر على انتقاد أستاذها هابرماس، من خلال إقرارها بأنه لم يُعرْ أيّ اهتمامٍ لقضايا النسوية في دول الرفاه، بل إنّه صمت عنها وتناولها تناولاً ذكوريًّا برجوازيًّا غير منصفٍ حصرها في النوع الاجتماعي والحماية الاجتماعية، لذلك انتقدته في عدة مناسباتٍ وأقرت علنا بصمته عن تناول هذه القضية الحارقة.
وفي محاولتها لدراسة موضوع الميز الجنسي الذي يضع الأنثي في خانة الأعمال المنزلية وتربية الأطفال ويجعل من الذكر العائل الوحيد للأسرة، تذهب فريزر إلى البحث في أهم البدائل التي طالبت بها التحركات النسوية ضمن نضالاتها معتبرةً أنه يجب تحقيق العدالة بين الجنسين، وذلك لا يكون ممكنا إلا من خلال تمكين المرأة من ولوج عالم العمل وجعلها تتوافق مع المعايير الذكورية في هذا العالم. هذا بالإضافة إلى ضرورة تشريك الرجال بصورةٍ عادلةٍ في أعمال الرعاية ما يساهم في تجاوز النظرة الدونية للمرأة التي تجعلها حبيسة البيت وأعماله وتثنيها من النشاط الإنتاجي الاقتصادي الموكول للرجل، وترى بأن ذلك سيفضي حتمًا إلى اختفاء الميز الاقتصادي والرمزي بين الجنسين .
صحيحٌ أنّ فكرة الهيمنة الذكورية تبدو متجذرةً داخل هذه المجتمعات الرأسمالية الكلاسيكية، والتي تتجلى خاصة من خلال تقسيم الأعمال التي يرسمها التفكير الذكوري للحياة من خلال الصورة التي أرادها الرجل لنفسه والمتجسدة في بحثه عن عملٍ خارج نطاق البيت بمقابلٍ ماديٍّ لكي يعيل به أسرته، وتقابله في الخانة المعاكسة الصورة التي أرادها للأنثى والتي حصرها في أعمال المنزل كأعمال الرعاية مثلًا دون الحصول على مقابلٍ ماديٍّ. ويبدو هذا التقسيم للأدوار في نظر فريزر غيرَ توافقيٍّ بين الجنسين باعتباره ساهم في تفقير عدة نساءٍ، لذلك تدعو إلى ضرورة إرساء خطابٍ يعبر عن الاحتياجات الاجتماعية داخل فضاء المجتمع الغربي المعاصر الذي يقوده التوجه الذكوري إلى الظلم المبني على الفوارق الجنسية. كما ترى أن الحديث عن الحاجة صار بمثابة السمة الثقافية والسياسية المميزة لدول الرفاه.
في هذا السياق، ترى فريزر أن الميز الجنسي لم يتوقف عند تقسيم الأعمال بين المجال العام والخاص، بل تعداه إلى ما هو أعوص بكثير من ذلك وهو ما تجلى من خلال بروز عدة أشكالٍ سلطويةٍ كبلت حرية النساء ومنعت فكرة تجسيد المساواة بينهما، لعل أهمها ما تجلى في ظاهرة العنف، شأن العنف الزوجي كواقعة الاغتصاب الزوجي التي تساهم في تعميق معاناة المرأة وتجعلها تعاني العنف والقهر جراء الميز الجنسي الذي وضعه المجتمع الذكوري.
وضمن مجمل حديثها عن الاحتياجات الاجتماعية التي يعاني منها العديد من أفراد المجتمعات الغربية وخاصةً النساء أقرت فريزر بأن «مناقشة الحاجات لم تكن دائماً بارزةً في الثقافة السياسية الغربية؛ فقد اعتُبرت في كثير من الأحيان مناقضة للسياسة ووضعت على هامش الحياة السياسية»[6]. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، من الذي سينصف أولئك الذين يعانون من المظالم شأن الحركات النسوية التي تتكبد معاناة واسعة النطاق جراء الفصل بين الجنسين وما ترتب عنه من انتهاكاتٍ اجتماعيّةٍ عميقةٍ أفضت بها إلى الألم الجسدي والنفسي المرير شأن واقعة التحرش الجنسي، والاغتصاب الزوجي، والاغتصاب في الموعد الغرامي، والاغتصاب عند التعارف، والفصل بين الجنسين في سوق الشغل؟
من هنا تخلص فريزر إلى القول بضرورة إرساء خطاباتٍ تعبر بها هذه الفئة عن احتياجاتها باعتبار أن حاجة المرأة لمثل هذه الخطابات أصبح ضرورةً قصوى لا غناء عنها، كما أنه يمثل من الواجهة الأخرى شكلاً من أشكال المقاومة التي تدافع بها النسوية عن وضعها المزري الذي أحالها عليه المجتمع الذكوري ونظر إليها من زاوية الميز الجنسي وجعلها تتخبط في المعاناة واللا معنى.
وما لا شك فيه، أن هذه المعاناة لم تُقلّلْ من عزائم وإرادات الحركة النسوية، بل دفعتها إلى النضال ضدّ الظلم الجنسي المسلّط ضدّها، وهذا ما رصدته فريزر من خلال نجاح النساء -ضحايا العنف- في مرحلة السبعينات، وكيف جعلن من العنف المنزلي سؤالاً له شرعيته السياسية «في خطبهن، لم تكن النساء -ضحايا العنف- مهتمات كضحايا فرديين ولكن كناشطات نسويات محتملات ينتمين إلى مجموعة مؤلفة سياسيًّا».
وضمن مجمل بحوثها عن الواقع الراهن للنسوية، تذهب فريزر إلى البحث في خطابات الاحتياجات والعوائق المعرفية والأخلاقية المتصلة به من أجل العثور عن حلولٍ تنصف هؤلاء الذين يعانون التهميش والميز العنصري داخل فضاء المجتمعات الرأسمالية المتأخرة، متخذةً من الولايات المتحدة مثالاً في عدم الإيفاء بتحقيق احتياجات مواطنيها، وترى ضرورة تأسيس خطاباتٍ تكون بمستطاعها التكفل بمعالجة واقع الاحتياجات المعبرة عن النقص الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والمحلي.
ومن أجل التصدي لواقع النقص والحرمان، تذهب فريزر إلى ضرورة الاعتماد على خطابات الاحتياجات من أجل تجسيد واقع المطالبات بالحقوق على أرض الواقع باعتبار أن «الخطاب حول الاحتياجات لا يبرز دائما في الثقافة السياسية الغربية(...)على الرغم من أن المجتمعات الرأسمالية المتأخرة/ لدولة الرفاه، تمأسس خطاب الاحتياجات كمثل رائد للخطابات السياسية»[7]. وذلك من أجل إيضاح واقع التغيرات الاجتماعية الديمقراطية بصورةٍ عادلةٍ عبر تجسيد خطابٍ تحرريٍّ للخطاب حول الاحتياجات.
وما تجدر ملاحظته هو أن فكرة الميز الجنسي لم تتوقف عند حدود تقسيم الأعمال بين الجنسين، بل تعدته حتى إلى المجال الثقافي، وزرعت فيه عدة إخلالاتٍ مرضيةٍ زادت من تعميق معاناة النساء، لذلك راهنت فريزر على ضرورة ولوج هذا المجال محاولة مراجعته نقديًّا من خلال النظر في حدوده من جهة وفي إمكانية إصلاحه من جهةٍ ثانيةٍ.
على هذا الأساس، فإن مقاربة فريزر لظاهرة الميز الجنسي داخل البلدان الغربية تُعمّق من اهتمامها بحقوق النساء المغتصبة، وبالعدالة كمطلبٍ معياريٍّ وهذا ما يدفعها أيضًا إلى فهم وضعية النساء المظلومات لا فقط من جهة ما يحتجن أو ما يعانين من ظلمٍ، بل على جهة ما يستطعن بلوغه لتجاوز واقعهنّ المزري.

ب- تفقير الهوية النسوية
وفي محاولتها لدراسة موضوع النساء، وحقوقهن، وما اكتنفه من سيطرةٍ عمياءَ عليهن في مختلف المجالات وخاصةً الثقافية منها، ترى فريزر ضرورة تناول إشكال الهوية النسوية، وتُقرّ بأنه بات من الضروري الاعتراف بهوية المرأة. ولكن كيف جاز لها ولوج هذا المجال والحال أن الهويات الاجتماعية تبدو في نظرها معقدةً ومركبةً جذريًّا؟ بحيث لم يعد الإشكال مرتبطًا بالنضال ضدّ الميز العنصري بين الجنسين، الذي وضع الأنثي في دائرة الأعمال المنزلية، وأوكل للرجل دور الإعال، بل تجاوزه إلى البحث عن هويةٍ جندريةٍ حرةٍ، وبذلك لم يعد الأمر يتعلق بالبحث في المظالم الجنسية التي لحقت النساء بقدر ما تعلق بالبحث العميق عن سبل فهم تحول الهويات الاجتماعية التي تبدو في نظرها معقدة ومتغيرة ومبنية بشكلٍ تبادليٍّ.
تبدو الهوية الجندرية في نظر فريزر معقدةً ومتغيرةً، وترى ضرورة الاعتراف بهوية النساء في مجتمعٍ ذكوريٍّ يُقصي المرأة انطلاقا من الميز الجنسي بينهما، وهو حاصل ثقافاتٍ ومراحل تاريخية متعددةٍ كرست هذا الميز العنصري بينهما في المجال الثقافي أيضًا. وهذا ما دفعها إلى القول بحاجة النسوية إلى نظرية خطابٍ.
 إنّ ما يسترعي الانتباه في المنحى الفكري الذي نهجته فريزر ضمن حديثها عن خطابات الاحتياج هو نقدها المتواصل لإشكال الميز الجنسي الذي مهد الأفق لظهور عدة احراجاتٍ اجتماعيةٍ أمام النساء، وجعلهن في معاناة واسعة النطاق، لذلك تقترح إبدال النموذج التوزيعي بنموذج التواصل الإيجابي ما بين الجنسين، وهو نموذجٌ يبدو في نظرها جيدًا باعتبار أنه يراعي الفوارق بين الجنسين. ولتبرهن عن كلامها هذا تتخذ من النساء ضحايا العنف المنزلي مثالا على النموذج التوزيعي للأعمال الذي جسده المجتمع الذكوري بين المجال الخاص (المنزل) والمجال العام (العمل). لذلك تدعو في الفصل الخامس من كتابها "ثروات النسوية" إلى حاجة الحركة النسوية إلى إنشاء نظرية خطابٍ، وذلك من أجل دمج مفاهيم الخطاب كما هو الحال لدى فوكو، بورديو، بختتين، غرامشي ولاكان. ولكن فيم ستخدم نظرية الخطاب الحركة النسوية؟
 ضمن حديثها عن حاجة النسوية لنظرية الخطاب، ترى فريزر بأن هذه النظرية ستساعدنا في فهم عدة نقاطٍ هامّةٍ متصلةٍ بالمجال الثقافي، حيث شملت النقطة الأولى موضوع الهويات الاجتماعية وكيف تتحول وتتغير مع الزمن. ومن أجل فهم هذه النقطة تؤكد على أهمية الحوار لتجاوز معانيها المعقدة. لذلك تقول» لكي تكون لديك هويةٌ اجتماعيةٌ، لتكون إمرأةً أو رجلًا، على سبيل المثال، فقط هو العيش والعمل تحت مجموعة من الأوصاف»[8].
ومن ثمة تقر فريزر بأن الأجساد غير كافية للكشف عن الأوصاف، حيث لا يكفي الإلمام بالبيولوجيا أو بعلم النفس لفهم كيف تتشكل الهوية، بل يتوجّب على المرء دراسة الممارسات الاجتماعية المحددة تاريخيا والتي من خلالها يتم إنتاج السمات الثقافية المميزة للنوع.
ضمن هذا المستوى، تقف فريزر موقفًا نقديًّا حيال موضوع الهويات الاجتماعية التي تبدو في نظرها جدّ معقدةٍ، حيث ترى أنه لا توجد إمرأةٌ بالمعايير نفسها كأن نقول على سبيل المثال: إمرأةٌ بيضاءُ يهوديةٌ من الطبقة المتوسطة، أو مثليةٌ، أو اشتراكيةٌ، أو أمٌّ، باعتبار أن كلّ الناس يتحركون في سياقاتٍ اجتماعيةٍ مختلفةٍ. ومن ذلك تقر بأن الهوية الاجتماعية لكل فرد تتشكل وفق السياق الذي يتحرك فيه. وهذا ما دفعها إلى الإقرار بأن الهويات الاجتماعية للأفراد متغيرةٌ بتغير الزمن وليست ثابتةً، وهذا ما سيتيح لنا فهم كيفية تشكل المجموعات الإنسانية وتفككها ضمن واقع اللا مساواة.
تُقرّ فريزر أن لنظرية الخطاب دوراً فعّالاً باعتباره يساهم في فهم الهيمنة الثقافية على النساء، وترى فيه المساهمة الفعالة في فتح المجال نحو التغير الاجتماعي التحرّري ضدّ الممارسة السياسية للظلم. ومن ذلك فإن إصرارها خلف إرساء هذه النظرية يكمن من إيمانها العميق بضرورة تغيير واقع النساء في ظل تنوع الهويات الاجتماعية المميزة للنساء، خاصةً وأنّ المرأة أصبحت نوعاً اجتماعيًّا مميزاً بهويته الاجتماعية الخاصة. لذلك تؤكد أن مفهوم الخطاب سيسمح بفحص الهويات والجماعات وسيفضي إلى التطور الثقافي للنساء.
 إذا أولينا أنظارنا كرّةً أخرى جهة الإلمام بالرهانات العملية لدراسة فريزر للنظرية النسوية، وذلك من خلال العودة لكتابها الهام «ثروات النسوية»، فسوف يتضح لنا طموحها الفكري الكامن خلف حديثها عن حاجة الحركة النسوية لنظرية الخطاب، من خلال معاينتها لمختلف التحولات التي عصفت بالمجال الثقافي خاصةً في مرحلة الثمانينات من القرن العشرين، حيث انخرطت عدة مناضلاتٍ سياسياتٍ في تحركاتٍ اجتماعيةٍ مطالبةٍ بالاعتراف بهوية المرأة، كما هو الشأن في الاعتراف بهوية الرجل.
بلغةٍ فيها الكثير من الحسرة، تُقرّ فريزر أن الإشكالات المتعلقة بالهويات النسوية وما اتصل بها من احراجاتٍ كبرى كالإقصاء والتهميش والازدراء الموجه ضدّ النساء داخل المجتمع الأميركي لم تتقلص بعد، وتعلن كذلك بأن الحراك الثقافي الاحتجاجي داخل شوارع هذا البلد لم يدرك بعد مطلبه الأساسي. ومن أجل تجاوز هذه الإشكالات تراهن فريزر على ضرورة المطالبة بالاعتراف بالهوية الجندرية.
يكشف لنا اهتمام فريزر بالمجال الثقافي للنساء عن إيمانها الكبير بضرورة تجاوز معاناة النساء إذا ما تم الاعتراف بهن كجزءٍ فاعلٍ في المجتمع، وذلك لأن حضور عنصر الاعتراف في الممارسات الاجتماعية سيساهم في إزالة الفروق النوعية التي وضعها المجتمع الذكوري من أجل السيطرة على النساء وجعلهن تابعاتٍ لا فاعلاتٍ. ومن ذلك تُقرّ بضرورة الاهتمام بهذا المجال اهتمامًا واسعًا خاصةً وأن الدراسات الثقافية والاجتماعية التي تُجسّدها وسائل الإعلام تبدو في تقديرها غيرَ كافيةٍ لمجابهة الواقع الاجتماعي المعاصر الذي تجتاحه التوترات الاجتماعية باستمرار.

ج: الظلم الاقتصادي حيال النساء
ومن أجل فضح وتعرية الغطرسة الرأسمالية في مرحلتها النيوليبرالية، تذهب فريزر إلى البحث في أشكال النضالات التي تخوضها الحركة النسوية من أجل المطالبة بالاعتراف، وترى بأن هذا التحول من المطالبة بإعادة التوزيع إلى المطالبة بالاعتراف جاء على خلفية الظلم الذي جسدته الرأسمالية العدوانية بقيادة الولايات المتحدة في شكل لا مساواةٍ اقتصاديةٍ بين الجنسين. وحتى تتمكن النساء من تجاوز هذه المظالم الاقتصادية تقترح فريزر ضرورة التفكير مجددًا في مسألة الاعتراف.
 هكذا تصل فريزر إلى أن المطالبة بالاعتراف في المرحلة الراهنة للمجتمع الأميركي صارت ضرورةً قصوى خاصةً أمام تزايد الظلم الاجتماعي، لذلك تبحث عن العدالة الاجتماعية عبر تجسيد الاعتراف وترى بأنه:«في عالم اليوم، تبدو المطالبات من أجل العدالة الاجتماعية في تزايدٍ وهي نوعان: أولًا، والأكثر درايةً، هي المطالبة بإعادة التوزيع،(... )، ومع ذلك، فإننا نواجه اليوم بشكلٍ متزايدٍ النوع الثاني للمطالبة بالعدالة الاجتماعية في «سياسة الاعتراف». هنا يبرز الهدف، في شكله الأكثر قبولاً، هو عالم تختلف فيه الكلمات الصديقة، من حيث الاستيعاب إلى الأغلبية أو المعايير الثقافية السائدة فلم يعد ثمن الاحترام على قدر المساواة. ومن الأمثلة على ذلك نذكر المطالبات بالاعتراف في وجهات النظر الميزة العرقية، «التمييز العنصري»، والأقليات الجنسية، فضلاً عن الاختلاف بين الجنسين. هذا النوع من المطالبة قد جذب مؤخرًا مصلحة الفلاسفة السياسية، علاوًةً على ذلك، فإن بعضهم يسعى لتطوير نموذجٍ جديدٍ من العدالة ويضع الاعتراف في داخلها»[9]
وبالعودة إلى كتابها العمدة «ثروات النسوية»، تسلط فريزر الضوء على واقع الحركات النسوية في العقد الثامن من القرن العشرين متجهةً نحو البحث في الحراك المُطالب بالاعتراف بهوية المرأة. وفي خضم هذا المسعى الكبير الذي دفع بفريزر نحو تطوير النظرية النسوية وجعلها قابلة لإستيعاب نظرية الاعتراف، ستعمل رائدة الحركة النسوية على معاينة أهداف النساء انطلاقًا من المطالبة بإلغاء الفوارق بين الجنسين والتركيز على العمل والعنف وكذلك على الصراعات بين الجنسين بشكلٍ متزايدٍ وما ترتب عن ذلك من إخضاع الصراعات الاجتماعية للنضالات الثقافية، وسياسات إعادة التوزيع لسياسات الاعتراف. هذا وترى فريزر بأن «النظرية الحديثة للنوع الاجتماعي تعكس تحوّلًا أوسعَ في قواعد عملية صنع المطالبات السياسية»[10] بحيث أصبحت المطالبة بالاعتراف مطلباً أساسيًّا وتعددت المطالبات بضرورة الإقرار بالتعددية الثقافية وحقوق الإنسان والاستقلال الوطني.
 إن ما يسترعي الانتباه في مطالبة فريزر بضرورة تجسيد سياسة الاعتراف الضامنة للاحترام والتقدير الضروري للنساء، وبالتالي إبعاد جل الممارسات التي تخدش من كرامتهن وتحط من قدرتهن على الفعل الإيجابي في المجتمع، باعتبار أن النساء حين يتعرضن إلى الظلم والإساءة قد يتعرضن إلى الرفض من المشاركة المنصفة في الفعل الاجتماعي، ما يجعل من حصولهن على الاحترام والتقدير الضروريين في غاية من الصعوبة داخل هذا الاصطفاف العمودي الذي وضعه المجتمع الذكوري ولم يشارك النساء أصلًا في بنائه، إن ما يسترعي الانتباه هو دفعها المتواصل نحو تجسيد مبدأ الاعتراف الذي بمستطاعه أن يلزم الرجل أخلاقيًّا على ممارسة شروط التفاعل المنصف بين الجنسين.
وفي قراءتها للحراك النسوي الراهن، تذهب فريزر إلى القول بأنّ «التحول إلى الاعتراف هو امتداد للنضال الجندري وفهمًا جديدًا للعدالة الجندرية»[11] وهنا تصل إلى فكرةٍ محوريّةٍ مفادها أنّ النضال النسوي تجاوز المطالبة بالعدالة الجنسية والقول بإعادة التوزيع ليتجه نحو المراهنة على الاعتراف بالهوية والفروق الجندرية وربما التوصل إلى نموذجٍ أوسع، وأكثر ثراءً يشتمل على إعادة التوزيع والاعتراف معًا.
ومع تصاعد وتيرة النضالات النسوية داخل المجتمعات الغربية المعاصرة، تتجه فريزر إلى تقويض إمكانية تواجد مقولة الاعتراف بمفردها لتضيف إليها مقولة إعادة التوزيع، وتراهن في الآن ذاته على ضرورة تواجد الضربين معًا: أي إنّه لا اعتراف بدون إعادة توزيعٍ. معتقدةً أن إرساءهما معًا بإمكانه أن يساعد على إرساء منظومة العدالة الاجتماعية ما بين الفئات المختلفة للمجتمع الواحد.
ولكي لا تنحرف المطالبات النسوية عن مقاصدها، تُشدّد فريزر على أن الواقع النسوي يحتاج إلى مقاربةٍ بديلةٍ لمفاهيمَ الجنس والعدالة خاصة وأن النساء يعانين من سوء توزيعٍ جنسيٍّ، ومن ذلك تراهن على ضرورة المطالبة العلنيّة بإعادة تعريف هويتهم الجماعية حتى يتمكن من اكتساب احترام وتقدير المجتمع وذلك من خلال المطالبة بسياسة الاعتراف وإقامة علاقةٍ ايجابيةٍ بالنفس، وتُقرّ بأن ما يتطلب الاعتراف ليس الهوية الأنثوية ولكن وضع المرأة كشريك كامل في التفاعل الاجتماعي.
 تقف فريزر عند قضيةٍ في غايةٍ من الأهمية تتعلق بوضع المرأة الثقافي داخل المجتمعات الغربية المعاصرة في عموميتها والمجتمع الأميركي على وجه الخصوص وما تتعرض له من ظلمٍ جنسيٍّ مجحفٍ عمّق من معاناتها من جهة، ودفعها للاحتجاج من جهةٍ أخرى، ومن ذلك تؤكد أن ما يتطلب الاعتراف به ليس الهوية النسوية وإنما الاعتراف بالمرأة باعتبارها تمثل شريكًا في عملية التفاعل الاجتماعي.
كما تُقرّ فريزر أن عدم الاعتراف الجنسي كأن تُعتبر المرأة أقل شأنًا من الرجل وتستبعد عن أفق الفعل الاجتماعي انطلاقًا من الظلم الجنسي الموجه ضدّها، شأن ما تطبقه بعض القوانين الجنائية التي تتجاهل الاغتصاب الزوجي وبرامج الرعاية الاجتماعية التي تصمُ الأمهات غير المتزوجات بعدم المسؤولية الجنسية وأيضًا سياسات اللجوء التي تعتبر تشويه الأعضاء التناسلية ممارسةً ثقافيةً كبقية الممارسات الأخرى، فإن ذلك سيفضي بها إلى الشعور بالظلم والتبعية. وترى بأن هذه الممارسات ستعمق من حرمان النساء من تحقيق المساواة في المشاركة الفعلية مع الرجل، لذلك تراهن على ضرورة المطالبة بالاعتراف للخروج من وضع التبعية.
 وضمن حديثها عن التبعية الجنسية وما ترتب عنها من إكراهاتٍ أرغمت عليها النساء قصرًا، فإن اهتمامها بهذا الإشكال لم يتوقف عند حدود دول الرفاه، بل نجدها تجادل أيضًا إشكال الحجاب والعلاقات بين الجنسين بشكلٍ عامٍّ في المجتمعات الإسلامية التي تمنح الرجال التفوق والتسلط على النساء وتلغي بالتالي إمكانية التكافؤ بين الجنسين. كما ترى من الزاوية المعاكسة أن ما يسمونه ختان الإناث لا يعني البتة مطالبة بالاعتراف لأنه لا يمثل في الواقع سوى تشويه للأعضاء التناسلية لذلك، تراهن على ضرورة المطالبة بالاعتراف ضمن محاور تشاركية فعلية شأن المساواة في الأجور مثلا.
ترمي فريزر إلى بلوغ أفق الاعتراف باعتباره يمثل براديغمًا هامًّا لترسيخ معايير الاحترام والتقدير والثقة بالنفس، أي باعتباره يساعد على إرساء عدالةٍ تقوم على المناصفة التشاركية بين الجنسين، وهذه المناصفة تشكل عندها الأساس النظري لإشكالية عدالة الاعتراف التي تساعد على القطع مع التبعية الجنسية وبالتالي بلوغ أفقٍ إنسانيٍّ مناصفٍ لكلا الجنسين ما يجعل من العيش فيه ممكنا دون معاناةٍ.
وتماشيًا مع ذلك، تذهب فريزر إلى المطالبة بضرورة القطع مع هذا الظلم الاقتصادي والازدراء الاجتماعي الذي صنعه المجتمع الذكوري الذي يُقلل من قدرة الأنثى على الفعل الإيجابي في المجتمع ما يعمق من معاناتها، وتراهن ضمن مبحثها الهام ما هي العدالة الاجتماعية: اعترافٌ أم إعادة توزيعٍ على ضرورة المطالبة بالتغيير الثقافي والاقتصادي وضمن هذا المستوى كتبت: «تختلط المطالبات بالتغيير الثقافي مع المطالبات بالتغيير الاقتصادي وأيضًا مع مجموع الحركات الاجتماعية وفي داخل كلٍّ منها»[12].
وفي مجمل حديثها عن الظلم الاجتماعي والثقافي المبنيّ على الميز العنصري بين الجنسين داخل فضاء المجتمع الأميركي، تعمل فريزر على ضرورة التصدي لهذه المعاناة عبر بحثها الجادّ عن العدالة الاجتماعية التي تكون كفيلة باحتواء هذه المظالم الاجتماعية، إذ تقر بأنه «يمكننا حقًّا إرساء عدالة للجميع»[13].
هذا وتسعى إلى إعادة صياغة نظرية العدالة بشكل يتواءم والقضايا الراهنة للفرد المعاصر بصفة عامةٍ والنساء بصفةٍ خاصةٍ، داخل فضاء المجتمعات المعاصرة وربما يكمن ذلك خلف إيمانها العميق بضرورة إصلاح الإشكالات المتصلة بالعدالة الاجتماعية، لذلك جمعت بين مفهومي الاعتراف وإعادة التوزيع سعيًا منها إلى البحث عن نظامٍ عادلٍ قوامه المساوة والتكافؤ بين الجنسين في جل المجالات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. وذلك من أجل التأسيس لمجتمعٍ قوامه التفاعل والتشارك بين الجنسين، خاصةً مع تزايد وتيرة الخطابات النسوية في مرحلة الثمانينات.
ومن أجل الإرتقاء بالنضالات النسوية إلى ماهو أفضل تذهب فريزر إلى الإقرار بضرورة الجمع بين سياسات إعادة التوزيع وسياسة الاعتراف، معتبرةً أن النضالات المطالبة بإعادة التوزيع لا تستطيع أن تنجح ما لم تتحد مع النضال الثقافي، أي المطالبة بالاعتراف الذي يؤثر على التوزيع ويلغي النظرة العنصرية الموجهة ضد النساء.
تحاول فريزر بلوغ الخلاص من خلال جمعها بين الاعتراف وإعادة التوزيع معتقدةً أن هذا الجمع يشكل واجهةً لمقاومة الظلم الجنسي، وبالتالي تحقيق عدالةٍ اجتماعيةٍ منصفةٍ للنساء لأن تحقيق العدالة يتطلب الجمع بينهما من أجل إرساء مجتمع العدل. وعلى الرغم من أنها قد أقرت في عدة مناسبات بضرورة الفصل بين الضربين، إلا أنها تعود للقول بضرورة الجمع بينهما، وذلك من أجل القضاء على الظلم الجنسي والرقي بالواقع الحياتي للنساء.
وعن تطرقها لإشكال العدالة أو التكافؤ في المشاركة تقر فريزر بأنها عملت على إعادة بناء قواعد اللغة أي لغة المطالبات من الناحية النظرية وترى بأنه لا توجد عدالةٌ حقيقةً حتى ولو كانت هناك مساواةٌ. إذاً، تبدو قراءة فريزر لإشكال العدالة من خلال مطالبتها بالاعتراف الثقافي للنساء، قراءةً تحليليةً لنسق الاعتراف وجوانبه النظرية والعملية، وما يسترعي انتبهنا هنا هو بحثها الجاد عن إعادة بناء عدالةٍ متشبعةٍ بقيمٍ إنسانيةٍ، لذلك عملت على دمج مفهومي الاعتراف مع إعادة التوزيع متجاوزةً بذلك القراءات التاريخية للعدالة، ومعلنةً عن ضربٍ جديدٍ وهو العدالة الجنسية.
وضمن تفحصها للمشروع السياسي الذي تبنته الحركة النسوية المعاصرة أو ما سمته فريزر بالموجة الثانية، تُقرّ بأنّ نضالات هذه الحركة قد اتجهت نحو نقد نظام المجتمع الرأسمالي وخاصةً ضدّ الاستغلال الاقتصادي للنساء والتسلسل الهرمي للمكانة والإخضاع السياسي. لذلك قام الصراع ضدّ المظالم الجندرية وما اتصل بها من عنصريةٍ من أجل المطالبة بتغيير البنية العميقة للمجتمع الرأسمالي الجائر على حقوق النساء الاقتصادية خاصةً، كعدم المساواة في الأجور وفي فرص العمل بين الجنسين التي تجعل من النساء في معاناةٍ متعددة المشارب.
 هذا وتُقرّ فريزر بأن التطورات التي عرفتها الحركات النسوية مؤخّرًا جعلتها تتحلل من قبضة الهيمنة الذكورية وما أفرزته من ظلمٍ جنسيٍّ جعلها تتخبط في المعاناة على أمدٍ طويلٍ، وترى بأنه لم يعد بمستطاعها الصمت وإخفاء مطالبها الحارقة، ولهذا فإن الحركات النسوية باتت في المرحلة الراهنة مطالبة أكثر من أي وقتٍ مضى بالدخول في تحركاتٍ اجتماعيةٍ مطالبةٍ بالصراع من أجل الاعتراف والصراع من أجل إعادة التوزيع الاقتصادي معا لكي تتمكن من إرجاع حقوقها المفتكة منها علنا.
 مع إدراكها الواعي لجل المظالم التي تواجهها النساء داخل البلدان الغربية بصفة عامة والأميركية على وجه الخصوص، تراهن فريزر على ضرورة التوجه نحو المطالبة بالعدالة الاجتماعية من أجل تجاوز إشكال عدم التكافؤ بين الجنسين في فرص الشغل وفي تقسيم الأدوار ضمن السوق الاقتصادي الرأسمالي. وتدعو في الآن ذاته الحركة النسوية إلى ضرورة أن لا تتخلى عن نضالها ضد السلطة الذكورية من جهةٍ، ومن جهةٍ ثانيةٍ تراهن على ضرورة مضاعفة هذا النقد ضدّ النظام الاقتصادي الرأسمالي. ولكن إلى أيّ مدى يمكن أن تكون هذه الدراسة وفيةً لقضية النساء في العالم؟ وهل يمكن لها أن تتطابق مع سائر نساء العالم أم إنها محدودةُ الرهان؟

نقد نظرية فريزر
وبالإستناد إلى القضايا الاجتماعية والثقافية التي طرحتها فريزر ضمن دراستها لفلسفة الجندر، تبدو هذه الدراسة خروجًا عن النمط المعتاد في العديد من المجتمعات، خاصةً وأنّها نادت بالمساواة بين الجنسين، متحديةً للأدوار الثقافية والاجتماعية التقليدية الموكولة لكلا الجنسين، معلنةً بذلك تجاوزها لثنائية المرأة والرجل إلى المطالبة العلنية بالمساواة المطلقة بينهما ضمن برنامجها البحثي الموسوم بالفلسفة النسوية. ف«حقيقة أن المرأة تابعةٌ للرجل»[14] فسرته فريزر على أنه ضربٌ من الإخفاق والاستعمار العائلي الذي حتمته هيمنة الرجال على النساء في حين أنه حقيقةٌ طبيعيةٌ ملازمةٌ للجنس البشري.
وعلى أساس بحثها عن العدالة بين الجنسين وسعيها وراء إرساء الديمقراطية الجنسية، تبدو دعوتها هذه ضربًا من الشعبوية النسوية التي تقوم على سياسة انقسام واستقطابٍ جنسيٍّ واضحةِ المعالم تضع النساء في مواجهة الرجال بتعلة الظلم الجنسي. إلا أن هذه الدعوة تتناقض مع ما بلغته الإنسانية المعاصرة من تقدمٍ ورقيٍّ فكريٍّ وحضاريٍّ، حيث إن الدعوة تبدو بنظرنا ضربًا من الشعبوية الجنسية العنصرية التي تضع المرأة في صراعٍ مستمرٍّ مع الرجل.
زد على ذلك فإنّ استمرار فريزر بتأييد الحركات النسوية المتمردة عن الواقع الراهن يعتبر في رأينا قضيةً خاسرةً، فالمساواة الجنسية التي تدعو إليها تبعث على خلق أفقٍ اجتماعيٍّ متوترٍ يرتب المواقع والأدوار جنسيًّا، والحال أن الشرع يُقرّ خلاف ذلك. ألا يُعتبر هذا ضربًا من تقديس الخصوصية والاختلاف بدلاً من التركيز على مبدأ الكرامة الإنسانية الذي أقره الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟
كما أن مطالبة فريزر بالمساواة بين الجنسين ضمن فضاء العمل تبدو متناقضةً بين الموجود والمنشود، حينما تُقرّ بأن النساء والرجال متماثلون ولا داعي للتمييز بينهما انطلاقًا من الجنس، فإنه يتوجبُ على المرأة أن تكون قادرةً على تمثيل الرجل في الأعمال الموكولة إليه حينما أقرت بضرورة حضور المرأة «كشريكٍ كاملٍ في الحياة الاجتماعية، باعتبارها قادرةً على التفاعل مع الرجل كندٍّ»[15]. وهذا ما دفعنا إلى التساؤل مجدّدًا، فإذا كان بإمكان كلاهما تبادل الأدوار ضمن مجال العمل فما الداعي إذاً لمثل هذه المطالبة؟
وعلى الرغم من مراهنة فريزر على ضرورة تبادل الأدوار بين الجنسين سواءً في أعمال الرعاية أو في مجال العمل، إلا أن هذا الرهان ظلّ مبتورًا خاصةً وأنّها وجهت اهتمامها الواسع إلى وجود المرأة في عالم الرجل وأهملت وجود الرجل في عالم المرأة، وهذا ما يبرهن على نظرتها الضيقة التي أوكلت اهتمامها الكبير للأعمال التي ينجزها الرجل وأحطت من شأن الأعمال التي تؤديها المرأة ضمن الفضاء الإنساني الذي تتحرك ضمنه.
 فما يعاب عليها أيضًا هو تركيزها العميق على الجانب الاقتصادي في حياة المرأة أكثر من الجانب الأخلاقي الذي كان من المفترض أن توليه اهتمامًا واسعًا، خاصة وأن قضية النسوية تقتضي هذا الاهتمام الخاص بمجال الأخلاق باعتبار أن ما طالبت به يستهدف الأخلاق بدرجةٍ أولى.
كما تبدو الحلول التي قدمتها فريزر ضمن قراءتها لقضية النسوية قصيرةَ الأمد وجوفاءً من العمق، وذلك لأنها ترى في الميز الجنسي ضربًا من الاضطهاد المجتمعي لا وضعًا طبيعيًّا أقرّه الخالق الذي خلق الكون مبنيًّا على الاختلاف والتباين بين الجنسين ليكون سببًا للتكامل مع بعضهما البعض. فمن سنة الله عزّ جلّ أنه لم يخلق موجودًا مستغنيًا عن الآخر المختلف عنه، بل وضع في ذلك الاختلاف نظامًا شاملاً متكاملاً، حيث إن هذا التمييز الذي أفرزته الطبيعة لا يفضي إلى القول بوجود طائفيةٍ أو تراتبيةٍ بين الجنسين بقدر ما يفضي إلى التكامل والانسجام. وهذا ما أقره القرآن الكريم ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً  ﴾[16].
إن الإقرار بوجود فوارقَ واختلافاتٍ بيولوجيةٍ وفيزيولوجيةٍ بين الجنسين لا يعني البتة القول بأفضلية جنسٍ على آخرَ، ولكن ذلك يفضي إلى القول بالتكامل بينهما، ما يعني أنهما يتمايزان ولاينفكّ أحدهما عن الآخر، لأن كلّ فردٍ منهما يُكمل الآخر ويُتمّمه في وحدةٍ طبيعيةٍ تعتبر أساس تكون واستمرار المجتمع الإنساني. وتتفاوت الأدوار الموكولة إلى كلا الجنسين وتختلف من بيئةٍ اجتماعيةٍ وثقافيةٍ إلى أخرى، ومن ذلك تكون هذه الأدوار نتيجةً لظروف المجتمع ونظامه السياسي القائم، وإنه من الخطأ أن تفسر هذه الظاهرة انطلاقًا من الدين عينه والعوامل الاقتصادية.
لقد سعت فريزر من خلال دراستها لقضية النسوية إلى إرساء تماثلٍ تامٍّ بين الجنسين، ورفضت القول بوجود فوارقَ بينهما حتى تلك التي تنبع من صميم الفطرة والخلق، ولم تكتفِ بالاهتمام بهذا الإشكال ضمن الفضاء الأنغلوسكسوني فحسب، بل إنها وسّعت اهتمامها به حينما أثارت إشكال الحجاب لدى الأقلية المسلمة بفرنسا من خلال دفاعها عنه بقولها: «يجب أن تُعامل الدولة الحجاب كرمزٍ لهويّة المسلمة(...) في مجتمعٍ متعددِ الثقافات»[17]. ما يعنى أنها رأت فيه رمزًا للمرأة المسلمة وهذا يحتسب لها لا عليها.
إلا أن حديثها عن العلاقات بين الجنسين بشكلٍ عامٍّ في المجتمعات الإسلامية قد كان خلافًا لذلك حينما أقرت بأن هذه العلاقات تمنح للرجال التفوق الاجتماعي على النساء وتلغي إمكانية التكافؤ بينهما، بقولها عن «العلاقات بين الجنسين بالمجتمعات المسلمة بشكلٍ عامٍّ تُفسّرُ بصيغةٍ أحاديةِ الجانب تمنح الرجال سلطة التفوق الوحيدة لتفسير الإسلام»[18] . ولعلّ هذا الاهتمام يُضمر في طياته محاولة نشر هذا التوجه الفكري بهذه المجتمعات الإسلامية التي تعترف بوجود فوارقَ بين الجنسين نابعة من الفطرة التي جُبِلَا عليها، فالشريعة الإسلامية ترى أنهما يختلفان جذريًّا ولا يتماثلان، وهذا ما تكفله الضوابط الأخلاقية والشرعية بالمجتمعات الإسلامية من خلال ما جاء في القرآن الكريم. Nيَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا M [19].
ونظرا لطبيعة هذا الخطاب النسوي وأدواته فإنه يبدو عبارةً عن أداةٍ للهيمنة الغربية على التاريخ الإسلامي الذي يُقرّ بوجود المرأة والرجل كجنسين مختلفين سواءً في المكانة أو في الأدوار، خاصةً وأنّ دورَ المرأة الاجتماعي والثقافي وفق التصور الإسلامي لا يشكّل مجالاً للتهميش والقهر والعزلة، وإنما يرمز إلى الفعل البنّاء من خلال توسيع أنشطتها في المجتمع عبر ما تشغله المرأة من وظائفَ فعالةٍ به.
لقد تركز الجدل الغربي ضمن دراسته لواقع النساء بالمجتمعات الإسلامية حول المرأة على القرآن والحديث والشريعة، حين تم النظر إلى المرأة المسلمة على نحوٍ سطحيٍّ، واعتبرها ضحيةً لثقافتها ولدينها. ولعلّ حديث فريزر عن العلاقات بين الجنسين بالمجتمعات الإسلامية خيرُ شاهدٍ على ذلك، فقد تغاضت هي الأخرى عن التحولات التي بلغتها النساء في العالم الإسلامي كالعديد من الحقوق التي نالتها المرأة هناك. فالوعي النسوي المرتبط بحقوق النساء بالعالم الإسلامي في الدين والمجتمع والثقافة ليس حديث النشأة، إذ تعود إرهاصاته التاريخية إلى أواخر القرن التاسع عشر، فمثلًا في تونس ولبنان ومصر ومنذ عقودٍ من الزمن أصبح بإمكان المرأة ممارسة حقّها الانتخابي بينما في بعض المناطق الأميركية مازالت بعض النساء لا تتمتعن بهذا الحق.
يبدو أن هذه الدعوة الصريحة المطالبة بتجسيد الهوية الجنسية ومكافحة التمييز الجنسي لها عدة انعكاساتٍ سلبيةٍ إيديولوجيةٍ من شأنها التأثير على الدول الغربية المتقدمة، ومن ذلك فإن هذه الدعوة تبدو دعوةً صريحةً إلى إثارة خطاباتٍ إيديولوجيةٍ تحمل في طياتها التحفيز على إثارة الصراع بين المرأة والرجل.
ولا يخفى على المتأمّل في دراسة فريزر لمسألة تغير الهويات الثقافية والذي ربطته بتغير الزمن إلا أن يُقرّ بمحدودية رؤيتها حيث إنّها تناست القول بالبيولوجيا وبعلم النفس وكذلك الانتماء الحضاري والاجتماعي في فهمها لتشكل الهوية الخاصة بالنوع حينما أقرت بأنها تتغير وتتبدل وفق السياق الاجتماعي الذي تتحرك ضمنه المجموعات الإنسانية، وبيدو أن لهذا الطرح مضاعفاتٍ كبيرةً على العلاقات الاجتماعية وكذلك على تشكيل الأسرة.
ومن منظورٍ مقارنٍ بين العالم الإسلامي والعالم الغربي فإنّ دعوة فريزر إلى تحقيق عدالةٍ جنسيةٍ تبدو جوفاء من العمق: أولاً، لأنها ركزت اهتمامها الكبير على عالم الرجل، وأهملت عالم المرأة من حيث وجود الجنس الآخر، وثانيًا تبدو هذه الدعوة من منظور الفكر الإسلامي متعارضةً والشريعة الإسلامية التي تُقرّ بالفصل بين الجنسين قصد التكامل والتوافق لا التنافر والصراع كما برهنت هي الأخرى على ذلك. كما أن موقفها هذا يحمل في ثناياه الكثير من التنظير الأجوف خاصة وأن هذه الأفكار التي نادت بها تعاني من عدم التجانس بين النظري والعملي.
كما أن موقفها من الاقتصاد وسوق العمل يبدو أنه حاملٌ لبعدٍ إيديولوجيٍّ عميقٍ من شأنه أن يدمر هذه الدول، ويحرض على الصراعات الإيديولوجية بين من يساند هذه الفلسفة ومن يعارضها فضلًا عن تكريسها لضغينة الكره بين الجنسين وزرع روح العداء بينهما وكأنهما متناقضان ومتنافران.
كما أن هذا الخطاب النسوي الذي تنادي به فريزر ما زال يعاني من القصور الذاتي، خاصةً وأنّ مدلوله ارتبط بالنخبة النسوية الراقية والمتعلمة والبارزة في المجتمع على حساب المرأة الفقيرة والمقصية والمهمّشة من دائرة الفعل الإيجابي في الوجود.

خاتمة:
تخلص فريزر إلى الإقرار بأن الظلم الجنسي له ثلاثة أبعاد شملت المجال الاقتصادي والثقافي والسياسي، وتُقرّ أنه بإمكان الحركات النسوية اليوم أن تحارب من أجل المطالبة بنظامٍ سياسيٍّ جديدٍ متعدّدِ الوجوه أي نظامٍ ديمقراطيٍّ على جميع المستويات الحياتية، ومكرَّسٍ للتغلب على الظلم في شتّى أبعاده. وتشدد على ضرورة أن تفكر الحركات النسوية المعاصرة في بلوغ هذا النظام خاصة على إثر ما شهدته من مظالمَ عدةٍ شأن الممارسات العنصرية التي جسدها النظام الاقتصادي الرأسمالي في طوره النيوليبرالي..
وبالمحصلة فقد قامت أطروحة فريزر على نظرةٍ نقديةٍ استقرائيةٍ للزوج المفهومي المضاد (هيمنةٌ ذكوريةٌ/ إرادةُ تحرّرٍ أنثويةٍ)، من خلال ما عاينته ضمن دراستها للحركات النسوية داخل المجتمعات الغربية المعاصرة والأميركية على وجه الخصوص. فقد انطلقت من معالجة أشكال الهيمنة الذكورية وما احتملته من ميزٍ جنسيٍّ وما ترتب عنه من تبعية الأنثي للذكر وما لحقها أيضًا من معاناة، لذلك رأت بأن هذه الهيمنة متجذرةٌ في فكر المجتمع الذكوري، وتصنف هذه الهيمنة إلى ثلاثة مستوياتٍ كبرى أتت كما هو معلوم على مجالات الفعل الإنساني المتمثلة في الاقتصاد والثقافة والسياسة.
وترى فريزر أيضًا بأن الحديث عن التحرّر يحمل في طياته طموحاً نقديًّا قويًّا، باعتبار أن البحث عن التحرر يعني إرادة التغلب على الهيمنة وهذا ما عاينته في النضالات النسوية عبر التاريخ شأن نضالات المثليين ومطالبتهم بالتغيير الجنسي، ما يعني أن الحديث عن التحرّر يحمل في ثناياه بعدين أساسين هامين، يتمثل الأول في الوعي بالظلم والجور، ويتمثل الثاني -وهو الأساس- في المطالبة بالتغير، وبالتالي التمرد على ما هو كائنٌ قصد بلوغ الأفضل.
إن دافع فريزر لتناول إشكال الجندر في المجتمعات الغربية في عموميتها والأميركية على وجه الخصوص هو إبراز أهمية النقد وما مثّله من سلطةٍ نابعةٍ من أعماق المجتمع، هذا علاوة على انتمائها للحراك النسوي الأميركي ودعمها المتواصل لقضايا النساء عبر العالم. لذلك فهي لا تنفك تنتقد جل المظالم التي تعانيها النساء في العالم وتعمل في الآن ذاته على إيجاد مخارجَ شرعيةٍ لهذه القضية الحارقة.
وفي الحقيقة تتمثل مساهمة فريزر في تناول هذا الموضوع، مساهمةً بناءةً باعتبارها عملت على إيجاد مخرجٍ ينير درب النساء من مظالم المجتمع الذكوري الذي عرفته بدول الرفاه، وذلك من خلال بحثها الجادّ عن تجسيد عدالةٍ جنسيةٍ تقتضي التناصف في المشاركة الفعلية بين الجنسين وبالتالي الرقي بالنساء من الظلم والازدراء إلى الاحترام والتقدير الاجتماعي.
إذا كان تفكير فريزر في القضية النسوية قد انصب بالدرجة الأولى في البحث عن الدوافع الأساسية الكامنة خلف المطالبات النسوية بحقوقهن المهدورة في صلب المجتمع، فإن ذلك لم يكن من باب الصدفة أو التلاعب بالكلمات وإنما مرده إلى معالجة واقع الظلم الجنسي المسلط على النساء والحال أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أقر المساواة بين الجنسين ولكن ما يطبق على أرض الواقع مخالفٌ لذلك.
كما أن هذه الدعوة التي أقرتها فريزر ضمن التيار النسوي الليبرالي تبدو محفوفةً بالعديد من النقائص والحيفيات كباقي الدعوات التي أقرتها عدةُ أقلامٍ نسويةٍ أخرى ضمن هذا التيار شأن معالجتها لهذا الطرح من زاوية وجود المرأة في عالم الرجل لا العكس. كما أنها أهملت مجال الأخلاق واهتمت بالمجال الاقتصادي أكثر خاصةً وأنّ هذه الدعوة المطالبة بالمساواة الجنسية لها عدة خلفياتٍ أخلاقيةٍ مشروعةٍ. زد على ذلك فإنّ دعوتها هذه تبدو متضاربةً من حيث الموجود والمنشود، بالإضافة إلى أنّ هذا الخطاب ما زال يعاني من المحدودية والنقص باعتباره شمل فئة النخبة المثقفة من النساء ولم يشمل بعد المرأة المهمشة وغير المتمدرسة.

--------------------------------------------
[1]*ـ باحثة في الفلسفة السياسية المعاصرة ـ جامعة تونس المنار.تونس.
*ـ فيلسوفة أميركية معاصرة (1947)، تعمل في المدرسة الجديدة للأبحاث الاجتماعية ولها عدة مقالات في الفضاء العمومي.
[3] -Fraser Nancy, Fortunes of feminism: From State- Managed Capitalism to Neoliberal Crisis, New York, Verso, 2013, p.2.
[4] -Fraser Nancy, Fortunes of feminism: From State- Managed Capitalism to Neoliberal Crisis, New York, Verso, 2013, p.222.
[5] -Fraser Nancy, Fortunes of feminism: From State- Managed Capitalism to Neoliberal Crisis, New York, Verso, 2013, p.38.
[6]-Fraser Nancy, LA LUTTE POUR L’INTERPRETATION DES BESOINS EBAUCHE D’UNE THEORIE CRITIQUE FEMINISTE ET SOCIALISTE DE LA CULTURE POLITIQUE DU CAPITALISME TARDIF, dans QU’EST-CE QUE LUTTER POUR LA RECONNAISSANCE ? sous la direction de Estelle Ferrarese, le bord de l’eau, Paris, 2013, p.42.
[7] - Fraser Nancy, LA LUTTE POUR L’INTERPRETATION DES BESOINS EBAUCHE D’UNE THEORIE CRITIQUE FEMINISTE ET SOCIALISTE DE LA CULTURE POLITIQUE DU CAPITALISME TARDIF, dans QU’EST-CEQUE LUTTER POUR LA RECONNAISSANCE ? sous la direction de Estelle Ferrarese, le bord de l’eau, Paris, 2013, p.42.
[8] -Fraser Nancy, Fortunes of feminism: From State- Managed Capitalism to Neoliberal Crisis, New York, Verso, 2013, p.140.
[9]- Fraser Nancy and Honneth Axel , Redistribution or Recognition?, translated by Hoel Golb, James Ingram and Christiane Wilke, London. New York, Verso, 2004, p.7.
[10] -Fraser Nancy, Fortunes of feminism: From State- Managed Capitalism to Neoliberal Crisis, New York, Verso, 2013, p.160.
[11] -Fraser Nancy, Fortunes of feminism: From State- Managed Capitalism to Neoliberal Crisis, New York, Verso, 2013, p.160.
[12] - Fraser Nancy, Qu’est ce que la justice sociale ?, reconnaissance et redistribution, Trad. Estelle Ferrarese, Paris, La Découverte, 2005, p.16.
[13] -Ibid., p.42.
[14] -Fraser Nancy, Fortunes of feminism: From State- Managed Capitalism to Neoliberal Crisis, New York, Verso, 2013, p.28.
[15] -Fraser Nancy, Fortunes of feminism: From State- Managed Capitalism to Neoliberal Crisis, New York, Verso, 2013, p.169.
[16]ـ سورة الروم: 21.
[17]-Fraser Nancy, Fortunes of feminism: From State- Managed Capitalism to Neoliberal Crisis, New York, Verso, 2013, p.170.
[18]-Fraser Nancy, Fortunes of feminism: From State- Managed Capitalism to Neoliberal Crisis, New York, Verso, 2013, p.170.
[19]- النساء: 1.