البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

مفهوم الجندر.. دراسة في معناه، ودلالاته، وجذوره، وتياراته الفكريّة

الباحث :  خضر إ. حيدر
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  16
السنة :  السنة الرابعة - صيف 2019 م / 1440 هـ
تاريخ إضافة البحث :  July / 30 / 2019
عدد زيارات البحث :  5239
تحميل  ( 345.849 KB )
إذا كانت المفاهيم التي أنتجتها الحداثة على مدى خمسة قرونٍ قد استهلكت مساحةً واسعةً جداً من الجدل، فإن مفهوم "الجندر" قد تجاوز نظرائه في عالم المفاهيم من الاهتمام والدرس، وما ذاك إلا لتعدّد تعريفاته والغموض الذي يرافق تنظيراته الاصطلاحية من دون أن يتوصّل الباحثون إلى تقديم تعريفٍ جامعٍ له.
في هذا البحث الذي أعده الباحث خضر إ. حيدر، محاولة للإحاطة بأبرز العناصر المكونة لمفهوم "الجندر" سواءً لجهة نشأة المصطلح، وتعدّديّته، أو لجهة التيارات الفكرية التي تفرّعت عنه.

المحرر

--------------------------------------
احتلّ مصطلح “الجندر” أو “الجنوسة” مساحةً واسعةً في تاريخ الغرب الحديث والقديم. حتى إن عددًا من المؤرخين وعلماء الأنثروبولوجيا يردون ولادته إلى المراحل الأولى للحضارتين اليونانية والرومانية. إلا أن بروز هذا المصطلح في الأزمنة الحديثة ترافق مع ولادة الحداثة التي بدأت مسارها مع نهايات القرون الوسطى، ثم تطورت مع عصر النهضة والثورة الصناعية في أوروبا. أما في الحقبة المعاصرة فقد قطعت النقاشات حول قضية «الجندر” وحقوق المرأة أشواطًا متقدمةً. فإلى جانب المنظمات النسوية الحقوقية والبيئية نشأت تياراتٌ اجتماعيةٌ وسياسيةٌ في أوروبا لتنخرط في شبكات الضغط على الحكومات والمنظمات الدولية إلى درجةٍ تحولت فيها المسألة النسوية إلى قضية لها تأثيراتٌ جديةٌ على نطاقٍ عالميٍّ. غير أن هذه التأثيرات لم تتوقّف عند شعارات الدفاع عن حقوق المرأة، وإنما وصلت في كثيرٍ من الأحيان إلى إصدار تشريعاتٍ حكوميةٍ أسهمت في زعزعة أنظمة القيم الأخلاقية والاجتماعية والدينية كقوانين إباحة المثلية وسواها.
في هذا البحث من عالم المفاهيم نسلط الأضواء على معاني ودلالات المصطلح وتاريخ نشأته والتيارات التي ساهمت في ولادته في المجتمعات الغربية الحديثة.

مصطلح متنوع التعريفات
إذا كانت (الجنوسة/ Genre)، على مستوى الاشتقاق اللغوي، في اللغات اللاتينية، قد ارتبطت باللسانيات، والنحو، ونظرية الأجناس الأدبية والإثنولوجية والأنتروبولوجية، فإن الجندر (Gender) قد ارتبط بالعلوم الاجتماعية والإنسانية بصفةٍ خاصةٍ. ويعني هذا أن الجندر «مفهومٌ تمحورت حوله الدراسات النسائية في كافة المجالات: السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والبيولوجية الطبية، والنفسية، والعلوم الطبيعية، والقانونية، والدينية، والتعليمية، والأدبية، والفنية، وفضاءات العمل، والتوظيف، والاتصال، والإعلام، والتراجم، والسير الذاتية؛ ما جعله حقلاً علميًّا ثريًّا لبرامجَ ودراساتٍ تخصصيةٍ بدأت تنشط في الكليات والجامعات الغربية. ولعل المحرك الأساسي لمثل هذه الدراسات هو الدعوة التحررية التي تبنتها الحركات النسائية في تركيزها على مفهوم الجنوسة كعاملٍ تحليليٍّ يكشف الفرضيات المتحيزة المسبقة في فكر الثقافة عمومًا، والغربية خصوصًا.»[2]
بدأ مصطلح الجندر في مرحلته الحديثة في أميركا، لكن كلمة تنحدر من أصل لاتيني (Genus)، ومن لفظة (Gendre ) الفرنسية القديمة. أما معناها فيدل على النمط، والمقولة، والصنف، والجنس، والنوع، والفصل بين الذكورة والأنوثة. بيد أن المرادف الحقيقي لكلمة (Gender) هو النوع الاجتماعي، أو الدور الاجتماعي. ويعني هذا أن الجندر هو في مختلف اشتقاقاته اللغوية، على المدلول اللساني والنحوي في أثناء التصريف (المذكر والمؤنث/masculine et feminine)، أو يشير إلى الضمائر الثلاثة (هو/هي/ المحايد)، أو مجموعة من الضمائر التي تتجاوز الثلاثة إلى العشرين نوعا في لغاتٍ أخرى. ولكن مع بروز تيارات الحداثة انتقل مفهوم الجنس إلى مفهوم النوع، فاستخدم في حقل السوسيولوجيا لأول مرةٍ في السبعينيات من القرن الماضي. ويرى الباحثون في هذا الميدان أنه إذا كانت «الجنوسة اللغوية النحوية مجرد بناءٍ أو تركيبة عرفية تقتضيها خصائص اللغة، فإن التمييز النوعي الجنسي (البيولوجي) بين الذكر والأنثى هو تمييزٌ تركيبيٌّ مؤسساتيٌّ ثقافيٌّ، وليس خاصيّةً بيولوجيّةً طبيعيةً. ولهذا تصبح الجبرية البيولوجية مجرد إسقاطٍ ثقافيٍّ لا علةَ طبيعيةً لها في التكوين البشري نفسه. كما أن الجنوسة اللغوية النحوية ليست بنيةً ضديةً، بل تتسع إلى تشعباتٍ متساويةٍ لا تملي قيمًا هرميةً. من هذه الخصائص سعت الدراسات النسائية لدحض دعوى هرمية العلاقة بين الذكر والأنثى التي اصطنعتها وأرستها الثقافة لكي تعطي الرجل قيمةً لا تعتمد على غير تكوينه البيولوجي، أما المرأة، فتتدنى على السلم الهرمي لا لسببٍ سوى تكوينها الطبيعي»[3].
وفي معظم الأحوال يعتبر الجندر، أو الجنوسة، (Gender) الآن أحد المصطلحات الأكثر تعقيداً، والأكثر شيوعاً في المجتمعات المتحدثة باللغة الإنكليزية. وهي كلمة تبرز على نحوٍ غيرِ متوقَّعٍ في كلِّ مكانٍ. ومع أن استعمالاتها تبدو متغيرةً دوماً، بل إنها دائمًا في حالة تقدم، وتنتج كميةً كبيرةً من الأوهام والمعاني، بل غالبًا ما تكون مدهشةً في البيئات الطلابية والشبابية وخصوصًا البيئات النسائية. يتحدث أغلب علماء الاجتماع في الغرب بشيءٍ من الريبة عندما يخوضون في تفصيل معنى هذا المصطلح ودوره. واللاَّفت أن هؤلاء وبسبب شكوكهم يتساءلون عما إذا كانت طروحاتهم عن أدوار الجنوسة (gender roles)، غير متحيزة جنوسياً [لأحد الجنسين] (gender-biased). هناك بالطبع معلوماتٌ إضافيةٌ عن هذه الموضوعات والموضوعات المتصلة بها في قسم دراسات الجنوسة (gender studies) سريع الاتساع/ في الجامعات والمعاهد الغربية. لكن هذه الوفرة اللغوية الغنية مشوشةٌ بما يكفي، مع أن كثيراً من هذه المصطلحات الجديدة تدل على اتجاهاتٍ متعارضةٍ بحدةٍ. فالدور الجنوسي، على سبيل المثال، يوحي بشيءٍ من الحصرية والتقييد.

تضارب الآراء حول المصطلح
يعتبر جون ستيوارت مل (J. S. mill) (1806 – 1883)، أحد أبرز منظري الفلسفة النسوية، وخلاصة رأيه في هذا المجال «أن الكائن البشري لم يعد في عصر الليبرالية يولد مقيدًا بأغلال موقعه الاجتماعي، بل يولد حُرًّا ويستخدم ملكاته والفرص المتاحة لتحقيق المصير الذي يفضله، ومن الممكن منطقيًّا أن يحاول أيّ شخصٍ الوصول إلى أيّ مركزٍ في المجتمع[4].
تجدر الإشارة إلى أن مصطلح (فيمينزم Feminism) الذي يترجم إلى (النسوية) أو (النسوانية) أو (الأنثوية)، وهي ترجمةٌ حرفيةٌ لا تفصح عن أيِّ مفهومٍ كامنٍ وراء المصطلح كما يقول المفكر المصري عبد الوهاب المسيري. يضيف أنه قد يكون من المفيد أن نحاول تحديد البعد الكلي والنهائي لهذا المصطلح حتى ندرك معناه المركب والحقيقي. ولإنجاز هذا لا بد أن نضع المصطلح في سياقٍ أوسعَ، ألا وهو ما نسميه (نظرية الحقوق الجديدة). فكثيرٌ من الحركات التحررية في الغرب في عصر ما بعد الحداثة (عصر سيادة الأشياء وإنكار المركز والمقدرة على التجاوز وسقوط كل الثوابت والكليات في قبضة الصيرورة) تختلف تماماً عن الحركات التحررية القديمة التي تصدر عن الرؤية الإنسانية (الهيومانية) المتمركزة حول الإنسان[5].
تبين الأمثلة المقتضبة، أن مفهوم الجندر هو موضع خلافٍ كبيرٍ ولا يمكن الاستغناء عنه في الوقت نفسه. إلا أنه مصدرُ عدمِ استقرارٍ أكثرَ مما هو موضعُ اتفاقٍ. فحين استخدم الجندر لتحديد الاختلافات بين الرجال والنساء، فإن كلمات مثل ازدواج الجنوسة أو امتزاج الجنوسة (gender-blending) تشكك في تلك الخلافات والاختلافات. هذا المعنى للخلاف يستدعي – برأي عددٍ من علماء الاجتماع الأوروبيين - الحذر من الاستيلاء بأسرع مما ينبغي من ناحية إصدار تعريفٍ موجزٍ للمصطلح[6].
وعلى العموم تعتبر الجندرية أن التمايزات الموجودة بين الرجل والمرأة ليست سوى فوارقَ بيولوجية عضوية. وأن المساواة مطلقة في الثقافة والاجتماع والدور. ولذلك فإن كل تمايزٍ هو أمرٌ مصطنعٌ، يعود إلى عواملَ دينيةٍ، وسياسيةٍ، واجتماعيةٍ، واقتصاديةٍ، وذهنيةٍ.
البعض يظن أن مصطلح (فيمينزم) هو مجرد تنويعٍ على مصطلح (Women’s Liberation movement) الذي يترجم عادةً إلى (حركة تحرير المرأة والدفاع عن حقوقها). وعليه فقد أخذ المصطلح الجديد تدريجيًّا محل المصطلح القديم، وكأنّهما مترادفان أو متقاربان في المعنى، أو أن المصطلح الجديد لا يختلف عن القديم إلا في كونه أكثر شمولاً أو أكثر جذريةً.[7]
ونظرًا لتنوع التعريفات الاصطلاحية على أمد أجيالٍ متعاقبةٍ فقد أدى ذلك إلى حدوث اضطرابٍ وفوضًى في تعريف المصطلح. لا أحد يعرف بالضبط متى وأين اُستعمل مصطلح (gender) للإشارة إلى الجوانب الاجتماعية والثقافية للاختلاف الجنسي، لكن من الواضح أن المصطلح كان دارجًا من قبل في علم الجنس في أوائل الستينات. على سبيل المثال، لا يظهر مصطلح (gender) في عرض أليكس كومفورت (Alex Comfort) بعد الحرب لكتاب السلوك الجنسي في المجتمع (Sexual Behaviour in Society (1950) إلى أن تم تنقيح الكتاب لأجل النشر بعد ذلك بثلاثة عشر عاماً (تحت العنوان الجديد، الجنس في المجتمع (Sex in Societ))، عندما أضاف المؤلف مناقشةً مختصرةً «للأدوار الجنوسية». ما له أهميته، أن هذه المناقشة قد وُضعت في فصلٍ حول «الخلفية البيولوجية» للجنسانية البشرية، أكد فيه كومفورت على الصعوبة في معرفة إلى أيِّ مدًى كان سلوكنا الجنسي غريزياً، نظراً ل«أهمية الوظائف العقلية العليا لدى الإنسان الأكبر منها بكثيرٍ لدى الأنواع الأخرى» (Comfort 1963:34).

دلالة المصطلح النسوي
النسويّة هي «نصرة حقوق النسوة» كما يعبر عن ذلك الباحث الإنكليزي. وفي حين ظهر المصطلح في تسعينيات القرن التاسع عشر في سياق حركة نساءٍ نشيطةٍ، صار يُستخدم الآن لوصف الأفكار والأفعال المؤيّدة للنساء منذ الأزمنة القديمة حتّى الوقت الحاضر (Evans, 2001)[8].
وغالباً ما تُرَدّ أصول النسويّة الغربيّة الحديثة إلى حركة التنوير في القرنين السابع عشر والثامن عشر، بميولها في المساواة والوقاحة، وعلاقاتها الاجتماعيّة الأكثر ميوعةً، وبالذات تقويمها للمعرفة والتعليم. وكان من أوائل المطالب النسوية الدعوة إلى تيسير أكبر للتعليم. وسرعان ما ظهرت فكرةٌ أوسعُ عن حقوق النساء، بلغت أوجها في كتاب ماري ولستونكرافت (Wollstonecraft, 1975 1792) إثبات حقوق النساء (A Vindication of the Rights of women)، وهو يعدّ الآن عملاً أساسيّاً في ظهور الأفكار النسويّة. ودافعت ليبرالية القرن التاسع عشر، لا سيّما في كتاب جون ستيوارت مِل “إخضاع النساء” (The Subjection of Women) (Mill, 1988 -1869)، دفاعاً قويًّا عن حريّة النساء ومساواتهن في الفرص. وكان عمل مِل قد ظهر نتيجة تطوّر الحملات المطالبة بحقوق النساء – القانونيّة والسياسيّة والاجتماعيّة – وأسهم فيها، في أوروبا، وأميركا الشماليّة، وأماكن أخرى. كما دافع الاشتراكيّون كثيراً عن مساواة النساء، ونظروا إلى إخضاع المرأة بوصفه نتاج الإقطاعيّة، ثمّ الرأسماليّة. ومُنِحَ حق الاقتراع، وهو الحق الذي كان واحداً من المطالب النسويّة الأساسيّة لهن على المستوى الدولي في نيوزلندا أوّلًا، ثمّ أستراليا، وانتشر بالتدريج في أماكنَ أخرى. ومع نهاية الحرب العالميّة الثانية، نجحت النسويّة في البلدان الغربيّة بإزالة كثير من المعوقات القانونيّة والسياسيّة التي كانت تقف في طريق النساء، على الرغم من أن الصورة حادّةٌ، اجتماعيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا، في التمييز بين الرجال والنساء إلا أنها بقيت موجودة. وقد لفتَ عمل سيمون دو بوفوار عام (1949) الجنس الثاني (The Second Sex) (De Beauvoir, 1973) الانتباه الدولي لاستمرار امتهان النساء في عموم أرجاء العالم.
يستعمل مصطلح «الجنوسة» هنا للدلالة على التنوع الواسع في أساليب السلوك بين المجتمعات، لكنه يوحي أيضًا أن درجة الاختيار بداخلها تكون محدودةً تمامًا. بجعل قرائه مدركين لهذه الاختلافات الثقافية. كان كومفورت يأمل في إزالة الغموض عن الجنسانية البشرية من أجل أن يساعد حسب رأيه في تحريرهم، فهو يعتقد أنها تابوهاتٌ جنسيةٌ غيرُ ضروريةٍ وغيرُ عقلانيةٍ. ومع ذلك، في الوقت نفسه، يبدو أن تشديده الأكثر حذرًا على لا عكوسية الأدوار الجنوسية يشي بنقيض الوعد بأي طريق متاح بسهولة إلى التحرر الجنسي. بالنسبة لإنسانويين تحرريين مثل كومفورت فقد كان من الصعب غالباً فهم السبب في أن التنوير الجندري يبدو متخلفاً على هذا النحو عن الأنماط الأخرى من التقدم الاجتماعي والتكنولوجي.
ربما كانت المحاولة الأكثر شمولاً لتنظير الفارق بين الجنس والجنوسة في هذه الفترة توجد في كتابات المحلل النفساني وعالم الإناسة روبرت ج. ستولر (Robert J.Stoller)، الذي ظهر كتابه الذي يحمل عنوان الجنس والجنوسة: حول تطور الذكورة والأنوثة (Sex and Gender. On the Development of Masculinity and Feminity) في عام 1968. فقد حدد ستولر نقطة الانطلاق لأجل عمله في ورقة فرويد حول «التكوين النفسي لحالةٍ جنسانيةٍ مثليةٍ لدى امرأةٍ» (1920) التي جادلت بأن الصفات الجنسية الجسدية للشخص، ومواقفه العقلية وموضوعات رغبته يمكن أن تتغير بشكلٍ مستقلٍّ عن بعضها البعض، بحيث إن «رجلاً ذا خواصٍّ ذَكَريّةٍ سائدةٍ يكون مذكرًا في حياته الإيروتيكية يظل من الممكن تحويله بالنسبة لموضوعه، يحب الرجال فقط بدلاً من النساء» (Freud 1979:9.398-9). بنغمةٍ مشابهةٍ، استعمل ستولر مصطلح (gender) للإشارة إلى تعقيدات تلك «المناطق الهائلة من السلوك، والمشاعر، والأفكار والاستهامات التي تكون مرتبطةً بالجنسين ومع ذلك لا تمتلك الدلالات البيولوجية أساساً» (Staller 1968. ix). مع ذلك، فإننا لا نميل فقط إلى خلط الجنس والجنوسة، بل نفترض بسهولةٍ أيضًا أن مختلف مكونات الجنوسة هي متبادلة الدعم، في حين أنها في الحقيقة قد تشد في اتجاهاتٍ مختلفةٍ.
لقد وضع ستولر الفارق بين الجنس والجنوسة، بقدر ما يمكن لأي شخص منفرد أن يفعل، على الخارطة لأجل الكتّاب والباحثين في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية. لكن إذا كانت أفكاره الأساسية قد أصبحت شائعةً بسرعةٍ، فإنها أيضًا سرعان ما استعملت بطرق لم يكن قد تنبأ بها. فمع الإحياء الهائل للسياسة النسوية في أميركا الشمالية وأوروبا الغربية في أواخر الستينات جاءت المحاولات المتجددة لفهم ومناقشة الظروف الاجتماعية السيئة التي مرت بها النساء وحشر فصل ستولر الجنس عن الجنوسة في الخدمة بوصفه الحدَّ القاطع من نقد الهيمنة الذكورية. لذلك، عندما بدأت كيت ميليت (Kate Millett) برسم الخطوط العامة لنظريتها حول البطريركية في كتاب السياسة الجنسية (1970 - 1977)، الذي كان أحد النصوص المؤسسة لنسوية الموجة الثانية، اعتمدت على عمل ستولر لإثبات حجتها أن “الذكر والأنثى هما في الواقع ثقافتان” نظراً لأن أدلته بدا أنها تلقي الشك على “مشروعية واستمرار الهوية النفسية الجنسية” كحقيقة من حقائق الحياة. مع ذلك، بالمراهنة على هذا الزعم، كانت ميليت تتحرك بشكل فعلي في الاتجاه المعاكس تماماً للتنظير التحليلي النفسي العالي الفردانية لستولر؛ لأنه، عندما أعادت صياغة تفريقه لتقرأ: «الجنس بيولوجي، الجنوسة سيكولوجية» وبالتالي فهي ثقافية، لم تكن تبعد سوى خطوةٍ واحدةٍ عن إرجاع التضادّ بين الجنس والجنوسة إلى ذاك الفارق بين الطبيعة والثقافة. (Millett 1977:29 -31).

تاريخية المصطلح
عندما يتتبع المؤرخون «نشوء» الأفكار الحديثة للجنوسة، ينظرون إلى القرن الثامن عشر عادة على أنّه الزمن الذي بدأت تتسارع فيه التغيّرات. فمن المؤكّد منذ عقوده الأخيرة فصاعداً أن الأنوثة أصبحت مقولةً تنجز، قدرًا كبيرًا من «العمل الأيديولوجي» في الثقافة الغربيّة. إنّ الأنوثة، التي تستخدم في كثيرٍ من الأحيان كمؤشّرٍ وسببٍ للتطوّر المتفاوت والحراكيّة المنذرة للمجتمعات برمّتها، هي دوماً ذات وجه يانوسي (Janus Faced)، تقرؤها الثقافة السائدة وتقرؤها النسويّة التي تسعى إلى الدفاع عنها وتغييرها بوصفها في الوقت نفسه عرضاً (symptom) متبقيّاً من أعراض تفاوتات أو فضائل ثقافات الماضي وكإشارةٍ، جيّدةٍ أو سيّئةٍ، على الأشياء القادمة، ففي الدفاع عن حقوق المرأة (1792) (A vindication of the Rights of women) تستعمل الجمهوريّة والنسويّة ماري وولستونكرافت (Mary Wollstonecraft) هاتين الصيغتين للماضي والمستقبل لغايةٍ استراتيجيّةٍ. إنّها تستحضر القوطي (Gothic) والإقطاعي (Feudal) لوصف الأنوثة المعرضة للخطر، مصوّرة النساء البرجوازيّات اللواتي تكتب لأجلهن بوصفهن سجيناتِ سلطةٍ مهدّدةٍ وتعسفيّةٍ، حرفيًّا ومجازيًّا «مسجوناتٍ في عائلاتهن، يتلمسن طريقهن في الظلام» (Wollestone Craft 1988: 5)[9].
هذه المشاكل كانت تتّخذ شكلاً واعيًا لذاته بالنسبة للكتّاب النسويين في تسعينات القرن الثامن عشر. إنّها تطفو على السطح مرّةً أخرى بشكلٍ مختلفٍ في بريطانيا أوائل العهد الفكتوري، عندما يتمّ مرّةً أخرى تحدّي الجنوسة بالتوازي مع أشكال الاختلاف والمراتبيّة الأخرى في زمن الاضطراب الاجتماعي والسياسي. كانت أربعينات القرن التاسع عشر (1840)، مثل تسعينات القرن الثامن عشر (1790)، عصرًا مضطربًا بشكلٍ خاصٍّ في المجتمعات البريطانيّة والأوروبيّة مع ركودٍ اقتصاديٍّ فاقم الصراع الطبقي في بريطانيا. إن تهديد الانتفاض الثوري في الداخل بالإضافة إلى واقعه على القارة [الأوروبيّة] قد ساهم بلا شكٍّ في [الوصول] إلى الحافّة القلقة التي يجدها المرء في كتابات النساء والرجال حول الجنوسة والجنسانيّة، فمعظم روايات أربعينات وخمسينات القرن التاسع عشر التي تضع الحركة الشارتيّة (Chartist) للطبقة العاملة من أجل الحقوق السياسيّة صراحةً أو خفيةً في مركز حبكاتها.
في الثمانينات من القرن العشرين (1980)، عندما كانت فورة السنوات الأولى للنسويّة آخذةً في الانحسار، كان هذا الكم الأوّلي من العمل على كتابات نساء القرن التاسع عشر عرضةً للمراجعة ضمن النسويّة (ما يعكس خلافات أوسع في كل من النشاط الحركي والنشاط الفكري بسبب إخفاقه في أن يأخذ في الحسبان التحيّزات الطبقيّة والفرضيّات العنصريّة والإمبراطوريّة المحشوّة في الروايات والمؤلّفين الذين كان يناصرهم. تسأل غاياتري تشاكرافورتي سبيفاك (Gayatri Chakravorti spivak) في مقالةٍ مزلزلةٍ عام (1985) بعنوان «نصوص ثلاث نساءٍ ونقد للإمبرياليّة»، النسويّة أن تفكّر مرّة أخرى في سياسة رواية جين آير (Jane Eyer) التي، كما تجادل، أصبحت «النص المعبود» لفردانيّةٍ نسويّةٍ ليست تأمّليّةً ولا انتقاديّةً في المضامين الأقل تقدميّةً لاستثماراتها السياسيّة (Spivak 1985: 263). ثمّة مقالةٌ لاحقةٌ بقلم سوزان ماير (Susan Meyer) بعنوان «حبر الهند»: الكولونياليّة والاستراتيجيّة المجازيّة لجين آير»، تقتفي التمثيلات والتماهيّات العرقيّة المعقّدة التي تنضوي تحت إبداع جين كبطلةٍ أخلاقيّةٍ وناجيةٍ، مبينةً كيف تتلاعب برونتي بالمجازات العرقيّة لتدعم هويّة جين المقاومة ونشوءها النهائي كزوجةٍ وأمِّ بيضاء (Meyer 1996). في دراسةٍ آسرةٍ ومؤثّرةٍ بعنوان الرغبة والتخييل المنزلي: تاريخٌ سياسيٌّ للرواية (1987) (Desire and Domestic Fiction: A political History of the Novel) تستعمل نانسي أرمسترونغ (Nancy Armstrong) أعمال ميشيل فوكو لتطوّر وتوسّع جوهر أطروحة وليامز كجزءٍ من سجالٍ داخل النسويّة. إذ ترى الرواية نفسها، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، على أنّها «تحتوي تاريخ الجنسانيّة بداخلها»، وتعني بذلك تاريخ الجنوسة أيضًا (Armstrong 1987: 204). لقد كان تطويرها الأكثر إبداعاً هو ابتكارُ عالمٍ نفسيٍّ جُوّانيٍّ تصوّره أرمسترونغ أنثويًّا. إن كلًّا من الأنوثة التي تصفها، والرواية نفسها، يُصوّران بوصفهما شهوانيين واكتسابيين؛ في الواقع. إن الشكل «القارت» (omnivoro) للرواية يعني أنّ «ثمّةَ مادّةً ثقافيّةً قليلةً جدًّا لا يمكن تضمينها بداخل الحقل الأنثوي» (204). إن كتابة الأخوات برونتي هي مفتاحيّةٌ لتحليل أرمسترونغ. فالعمل الإيديولوجي الذي تنسبه إلى «التخييل المنزلي» عمومًا. التخييل المكتوب من قبل النساء في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الذي يركّز على المجال الخصوصي، الذاتي من الحياة، [هذا العمل] إنّما كان لتحويل «المعلومات السياسيّة»، الذكوريّة المجنوسة ضمناً، إلى «معلوماتٍ سيكولوجيّةٍ» تصبح من ثم مجالاً لنوعٍ جديدٍ من الأنوثة. حتّى حيثما تكون أهداف نقد شارلوت برونتي اجتماعيّةً على نحوٍ واضحٍ، كالنفاقات وإساءة المعاملة التي يمارسها ناظرو مدرسة لوود لليتيمات التي تداوم فيها جين آير، تجادل آرمسترونغ بأن برونتي تُبدل مظالمَ المرأة بالإجحافات الأوسع للطبقة: «إنّها تسحب الصراع الطبقي على العلاقة الجنسيّة» (200).

تيارات جندرية
في أجواء الحراك الطويل والمديد على أمد أجيالٍ متعاقبةٍ، تشكلت تياراتٌ نسائيةٌ في أوروبا وأميركا لم تكن كلّها على خطٍّ واحدٍ. ويمكن في ما يلي تقديم صورةٍ مجملةٍ عن أبرزها:
أولاً: النزعة الأنثوية المتطرفة (Feminism) التي تبلورت في ستينيات القرن العشرين، فإنها أثرٌ من آثار (ما بعد الحداثة) الغربية، تحمل كل معالم تطرفها الذي بلغ بها حد الفوضوية والعدمية واللا أدريّة والعبثية والتفكيك لكلّ الأنساق الفكرية الحداثية التي حاولت تحقيق قدرٍ من اليقين الذي يعوض الإنسان عن طمأنينة الإيمان الديني، التي هدمتها الحداثة بالعلمانية والمادية والوضعية منذ عصر التنوير الغربي العلماني، في القرن الثامن عشر[10].
ثانياً: الداعون إلى نظرية حركة التمركز حول الأنثى يتأرجحون وبعنفٍ بين رؤية مَواطن الاختلاف بين الرجل والمرأة باعتبارها هوةً سحيقةً لا يمكن عبورها من جهةٍ، وبين إنكار وجود أيّ اختلافٍ من جهةٍ أخرى.. ولذا فهم يرفضون فكرة توزيع الأدوار وتقسيم العمل ويؤكدون استحالة اللقاء بين الرجل والمرأة، ولا يكترثون بفكرة العدل ويحاولون إما توسيع الهوة بين الرجال والإناث أو تسويتهم بعضهم بالبعض، فيطالبون بأن يصبح الذكور آباءً وأمهاتٍ في الوقت نفسه، وأن تصبح الإناث بدورهن أمهاتٍ وآباءً[11]. أما فيلسوفة هذه النزعة الأنثوية –الكاتبة الوجودية «سيمون دي بوفوار» (1908 – 1986م) فلقد اعتبرت (الزواج: السجن الأبدي للمرأة، يقطع آمالها وأحلامها!) واعتبرت (مؤسسة الزواج مؤسسة لقهر المرأة، يجب هدمها وإلغاؤها!)، وأنكرت أيّ تميزٍ طبيعيٍّ للمرأة عن الرجل (فلا يولد المرء امرأةً، بل يصير كذلك.. وسلوك المرأة لا تفرضه عليها هرموناتها ولا تكوين دماغها، بل نتيجة لوضعها..)![12].
ثالثاً: الجندرية الليبرالية: تدعو إلى توفير نوعٍ من المساواة في العمل والتعليم والمؤسسات الليبرالية، بمعنى أن « هذا الاتجاه يعزو التفاوت بين الجنسين إلى التوجهات والمواقف الاجتماعية والثقافية. وخلافًا للمنحى الراديكالي، فإن أنصار ونصيرات النسوية الليبرالية لا ينظرون إلى إخضاع المرأة باعتباره من نسقٍ أو بنيةٍ اجتماعيةٍ ضخمةٍ. وبدلا من ذلك، فإنهم يلفتون الانتباه إلى عددٍ كبيرٍ من العوامل المنفصلة التي تسهم في إيجاد التفاوت بين الرجال والنساء. إنهم، على سبيل المثال، يركزون جهودهم على إيجاد وحماية الفرص المتكافئة للنساء عبر التشريعات والوسائل الديمقراطية الأخرى. يؤيدون إصدار مثل هذه التشريعات مثل قوانين المساواة في الأجر والقوانين المناهضة للتمييز ضد النساء والقوانين الأخرى التي تجعل للنساء والرجال حقوقا متساوية أمام القانون. كما يطالب التيار الجندري الليبرالي الحكومات والمنظمات والمؤسسات الحاكمة بتطبيق سياسيةٍ جندريةٍ نوعيةٍ ديمقراطيةٍ قائمةٍ على المساواة والتماثل والتكامل، والإنصاف في ما هو ماديٌّ ونوعيٌّ بين الجنسين معا، دون السعي إلى إسقاط النظام الليبرالي بكامله، كما تذهب إلى ذلك النسوية الجذرية ذات الطابع الراديكالي، أو النسوية الماركسية الصراعية[13].
رابعاً: الجندرية (النسوية) الراديكالية: وهذا التيار يدعو إلى إلغاء الأسرة (النواتية) الأم والأبناء. أي التي يمارس عليها القمع والاستغلال والسطوة والعنف. ويعني هذا كله أن هذا الاتجاه يثور على ظلم الرجل البطريركي الذي يستعبد المرأة ويحولها إلى مجرد ظاهرةٍ جسديةٍ. ومن ثم، يستلبها ويستغلها ويهيمن عليها ظلمًا. وعليه، «تنطلق النسوية الراديكالية المتطرفة من الاعتقاد بأن الرجال هم المسؤولون عن استغلال النساء وهم المنتفعون في الوقت نفسه من هذا الوضع. كما تركز هذه المدرسة على العائلة باعتبارها المنبع الأول لقمع المرأة في المجتمع. وفوق هذا لا تؤمن المدرسة الراديكالية بأن المرأة ستتحرر من القمع الجنسي عن طريق الإصلاح أو التغيير التدريجي، إذ لا بد من الإطاحة بالنسق البطريركي الأبوي لتحقيق المساواة بين الجنسين. وقد غدا مفهوم البطريركية كثير التداول في أوساط من يناصرون النظرية النسوية، كما أن الأطروحات والدعوات التي عرضتها المدرسة الراديكالية من خلال ممثليها من الرجال والنساء على السواء قد أثارت الاهتمام على المستويين الوطني والعالمي بمجموعة من القضايا البالغة الأهمية مثل العنف ضد النساء، وابتذال وامتهان مكانة المرأة الإنسانية عن طريق وسائل الإعلام والإعلان والترويج»[14].
خامساً: النسوية السوداء: (Black feminism/féminisme noir)، وهي بيئةٌ نسويةٌ حفّزتها المناخات العنصرية ضدّ الزنوجة في أوروبا والولايات المتحدة. ولذا فهي تتميز بكونها حركةً نضاليةً وحقوقيةً[15]، وقد ظهرت هذه الحركة في أميركا في ستينيات القرن العشرين وغايتها المطالبة بالمساواة مع النسوية البيضاء في الحقوق والواجبات، وعدم الفصل بينهما في أثناء رسم السياسات العمومية، أو الفصل بينهما في القطاعين العام والخاص. والنسوية السوداء ترفض التمييز العنصري من جهةٍ، والتمييز اللوني من جهةٍ أخرى. كما يرى أنصار النسوية السوداء «أنه ينبغي استقصاء عواملَ جوهريةٍ أخرى غير الجندرية مثل الوضع الطبقي والأصول الإثنية لفهم القمع الذي تعانيه النساء غير البيضوات.[16]»
ولقد اتخذت النسوية السوداء الكتابة الأدبية والفكرية سلاحا لمواجهة السياسية العرقية البيضاء بالتحليل، والنقد، والتقويض؛ حيث «وسعت كاتبات مثل: باربرا سميث وبيل هوكس أساس الدراسات العرقية من خلال زيادة الوعي لحالة الكاتبات النساء السودوات بشكلٍ عامٍّ والكاتبات السودوات السحاقيات على وجه الخصوص. وقد كتبت جون جوردان وبولا غن آلن وأخريات على نطاقٍ واسعٍ عن التجربة الأدبية للكاتبات الهنديات الأميركيات وكذلك الأميركيات السودوات بشكلٍ عامٍّ».

تعدّد النظريات النسوية
اتفق معظم الدارسين لقضية الجندر على التعامل معها كمفهوم تحليل في ميدان واسع من الدراسات تتناول مفاهيمَ مترابطةً مثل الرجال والنساء، والذكور والإناث، والتذكير والتأنيث، والجنس والجنسيّة. وهي تدلّ في العادة على التمييزات الاجتماعيّة، والثقافيّة، والتاريخيّة، بين الرجال والنساء، وأحياناً توصف بأنّها دراسة التذكير والتأنيث.
غالباً ما يُعزى مفهوم الجنوسة إلى الموجة الثانية من النسويّة. ولقد كانت تنطوي على معنًى أقدمَ لـ «نوع» أو «صنف» أو «فئة»، ويتكرّر استخدامها كثيراً في مناقشات النحو. في الستينات، تغيّر معناها حين استخدمت في علم الجنس والتحليل النفسي لوصف الأدوار الاجتماعيّة الذكريّة والأنثويّة، كما هو الحال حين كتب أليكس كومفورت (Comfort, 1964) عن أدوار الجنوسة، التي تُعلَّم في مرحلةٍ مبكرةٍ من العمر. بعد أربع سنواتٍ، رأى روبرت ستولر (Stoller, 1968) أنّه في حين يتحدّد الجنس بيولوجيًّا، فإن هويّة الجنوسة هي نتاج تأثيراتٍ نفسيّةٍ واجتماعيّةٍ؛ والحقيقة أن هويّة الجنوسة والجنس البيولوجي يمكن أن يصطرعا، كما في حالة المتحوّلين جنسيًّا. وإذا تابعنا ستولر، فقد اعتُبر الجنس أساساً بيولوجيًّا للفروق بين الذكر والأنثى، في حين أن الجنوسة كانت بناءً اجتماعيًّا وثقافيًّا. وهذا الفصل بين البيولوجيا والثقافة يتعارض مع المعتقدات الشائعة في وقتها، التي كانت تفترض أن الفروق الاجتماعيّة والثقافيّة بين الرجال والنساء كان لها أساسها البيولوجي المؤكّد والضروري[17].
خلال الثمانينات، حوَّلت تطوّراتٌ متعدّدةٌ من طرق فهم الجنس والجنوسة. واحدةٌ منها كانت سقوط الشكوك النسويّة الأولى بنظريّة التحليل النفسي باعتبارها ذكوريّةً في جوهرها، وتطوير متنٍ خاصٍّ من نظريّةِ تحليلٍ نفسيٍّ نسويّةٍ. وشاعت المقاربات المستمدّة من سيغموند فرويد والراحل جاك لاكان، فوفّرت أدواتٍ للتنظير في الاختلاف الذكري – الأنثوي بوصفه ظاهرةً فرديّةً وثقافيّةً في وقتٍ واحدٍ. وتمثل تطوّر آخر في الاهتمام المتزايد بالعرق والإثنيّة. فصارت دراسة الجنوسة تتعرض باستمرارٍ لتحديّات نساءٍ يصفنها بأنّها تصدر عن جماعاتٍ عرقيّةٍ وإثنيّةٍ «خارجيّةٍ». وصار التأكيد على العرق والإثنيّة باستمرار يضع أهميّة الجنوسة موضع المساءلة، وهو فحصٌ تمت تأديته باسم الطبقة قبل عقدٍ من الزمن. فضلاً عن ذلك، لم يكن كافياً إضافة الآثار الاجتماعيّة والثقافيّة معاً للعرق والجنوسة، بل كانت المهمّة تتطلب رؤية الكيفيّة التي يشكّل بها كلٌّ منهما الآخر.
كان المصدر الآخر للتغيّر يتمثّل في تأثير نظريّة ما بعد البنيويّة، المستمدّة بوجهٍ خاصٍّ من منظّرين فرنسيين من طراز ميشال فوكو، وجاك دريدا، وجوليا كريستيفا، وجاك لاكان، ولوس أريغاي، وقد أُعيد تشغيلها في العالم الأنجلوفوني. يؤكّد ما بعد البنيوي على أن الأبنية الاستطراديّة والخطابيّة للجسد كانت تعني نهاية، أو في الأقل إضعافاً، للتمييز بين الجنس والجنوسة. يرى المنظّرون الما بعد بنيويون أننا ليس من اللازم أن نفكّر بالجسد الذكري والأنثوي ككيانين منفصلين ومتناقضين؛ فهذه الثنائيّة مبنيّةُ خطابيًّا واستطراديًّا. وهذا يعني أننا نستطيع أن نتعرّف على الفروق البيولوجيّة دون النظر إليها في نمطٍ ثنائيٍّ متقابلٍ. ولكن إذا كانت ما بعد البنيويّة قد هدّدت التمييز بين الجنس والجنوسة، فإنّها أيضًا، من خلال عمل جوديث بتلر (Butler, 1990)، قد أعادت إحياء مفهوم الجنُوسة. ترى بتلر أن الجنُوسة ليست اسماً بل هي «فعلٌ أدائيٌّ»، هي «دائماً فعلٌ، وإن لم يكن فعلاً تؤديه ذاتٌ يمكن أن توصف بأنّها تسبق الفعل وجوداً» (ص: 24-25). يتمّ إنتاج الذاتيّة الجنَّسة (gendered) في سلسلةٍ من الخطابات المتنافسة، وليس من خلال إيديولوجيا أبويةٍ مفردةٍ، وعلاقات الجنُوسة هي عمليّةٌ تنطوي على استراتيجيّاتٍ واستراتيجيّاتٍ مضادّةٍ للسلطة. وقد أفضى عمل بتلر إلى نمطٍ متزايدٍ من الحديث عن التجنيس والتوليد والعمليّات الاجتماعيّة المولَّدة.
بعد فترةٍ من اندلاع حركة تحرير النساء في أواخر الستينيات في الولايات المتّحدة وأماكن أخرى، أطلق اسم نسويّة الموجة الأولى على حركة النساء المبكرة، وأُعلِنَ عن بدء نسويّة الموجة الثانية. ويمكن عزو هذه الصورة الجديدة، الأكثر جذريّة، إلى عددٍ من التطوّرات: انضمام النساء إلى قوّة العمل، ومع التغيّرات السكانيّة تضاؤل الحاجة إلى شغلهنّ في البيت؛ والنمو المتسارع في تعليم النساء؛ والمقابلة الصارخة بين توقعات النساء المتنامية والفرص الاقتصاديّة والسياسيّة التي بقيت محدودة أمامهن.
اعتبرت نسويّةُ الموجةِ الثانيةِ النساءَ جميعًا يضطهِدُنّ الرجال جميعاً. وفي حين لوحظت فروق الطبقة والعرق، فإن هذه الفروق لم تعتبر في البداية كافية لنفي أو تعقيد الاضطهاد العام للنساء الذي يتّضح في الأجور المنخفضة التي تتقاضاها النسوة، والمكانة في قوّة العمل، والمنزلة الاجتماعيّة المتدنيّة، وتجربة الجوانب الأكثر وحشيّة في الهيمنة الذكوريّة من خلال العنف المنزلي والاعتداء الجنسي.
وكان واحدٌ من الاهتمامات الأساسيّة للحركة الجديدة يتمثّل في الحقوق الجنسيّة والمتعة عند النساء، كما يتّضح عند النساء في عناوين نصوص نسويّة أساسيّة مثل كتاب كيت ميليت: السياسة الجنسيّة (Millett, 1970) وكتاب جرمين غريه الخص الأنثوي (Greer, 1970). وفي حين كانت «النسويّة» تدعو إلى مراعاة «المثقفة» المتطّهرة، المحتشمة الملبس، فقد صارت النساء بدءاً من السبعينيّات كثيراً ما تُصوَّرن أنّهن مهتمات بالجنس، وغالباً سحاقيّات، لا يبالين إلّا قليلاً بالكياسة والتهذيب.
كثيراً ما أُلصقت الحركة النسويّة بمختلف الحركات السياسيّة الأخرى. والتصنيف الشائع لها أن تقسَّم إلى الأجنحة الليبراليّة، والجذريّة، والاشتراكيّة. ركّزت النسويّة الليبراليّة على إزاحة الحواجز عن تحقيق المساواة بالرجال، وعملت في الساحات القانونيّة والسياسيّة، وأحرزت نجاحًا ملحوظًا. وأكّدت النسويّة الجذريّة على الخاصيّة التأسيسيّة لفروق الجنُوسة، وكانت أكثر اهتمامًا بالتغيّر الثقافي طويل الأمد ما يفضي إلى مزيدٍ من الاحترام والاستقلال للنساء. وركّزت النسويّة الاشتراكيّة على الطرق التي تقتضي فيها الرأسماليّة إخضاع النساء وتؤبده.
اخترقت النسويّة في كثيرٍ من أرجاء العالم جوانب متعدّدة من الحياة العامّة والخاصّة، محوِّلة تحويلاً جوهريّاً العلاقات بين الرجال والنساء. وكان من أهم أسباب نجاح النسويّة تأكيدها المزدوج على الذات الفرديّة والسلطة الجمعيّة، اللذين غالبًا ما كان يُنظر إليهما في الخطاب السياسي كموقعين بديلين للمسؤوليّة الإنسانيّة. بإظهارها أن «الأختية قوّةٌ»، دعت النسويّة النساء إلى التعصيب معًا والتجمّع لتغيير بنى السلطة. وحين كانت النسويّة تقول: «الشخصي السياسي»، كانت تقترح أن التغيّر الفردي والتغيّر الاجتماعي هما جزءٌ من العمليّة نفسها. وبناءً على ذلك أصبحت سياسة ناجحةً في الأمور الشخصيّة بحيث غدا كلّ مظهرٍ من مظاهر الحياة الخاصّة – الصحة، والملبس، والجنس، والصداقات، والمهنة، والنماذج الثقافيّة والكماليّة، والفلسفة – جزءاً من مشروعٍ سياسيٍّ للتغيير. وبالإضافة إلى هذا التأكيد على الشخصي، كانت هناك أيضًا سياسةٌ أكثرُ تقليديّةً في الاحتجاج والتجمّع والأحاديث العامّة والحملات والتنظيم. وحظيت الصور المعتدلة من النسويّة بدعمٍ عالميٍّ من الأمم المتّحدة، من خلال عقدِ أربعةِ مؤتمراتٍ عالميّةٍ ضخمةٍ: في مكسيكو سيتي عام 1975 (أفضى إلى إعلان الأمم المتّحدة عقد النساء [1976-1985])، وفي كوبنهاغن عام 1980، وفي نايروبي عام 1986، وفي بكين عام 1995 (Pettmsn, 1996).


---------------------------------------
[1]*ـ كاتب وباحثٌ في الإعلام المعاصر – لبنان.
[2] – سعد البازعي وميجان الرويلي: دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، سنة 2000م، ص:149.
[3] - سعد البازعي وميجان الرويلي: دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، سنة 2000م. ص 151.
[4] - د. عطيات أبو السعود –نيتشه والنزعة الإنسانية – مجلة فصول– العدد 65 عام 2002م – صـ37.
[5] - عبد الوهاب المسيري – قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الأنثى – دار نهضة مصر – القاهرة – 2010 – ص 14.
[6] - ديفيد غلوفر – كورا كابلان – الجنوسة (الجندر) ترجمة: عدنان حسن – دار الحوار – دمشق – 2018- ص 17.
[7]- د. عبد الوهاب المسيري – المصدر نفسه.
[8]- آن كورثيوس – ضمن كتاب: مفاتيح اصطلاحيّة جديدة – ترجمة: سعيد الغانمي – المنظّمة العربيّة للترجمة – بيروت – 2010 – ص: 683
[9] - ديفيد غلوفر – كورا كابلان – مصدر سابق – ص 62.
[10]- د. محمد عمارة – الغرب والإسلام أين الخطأ؟ وأين الصواب؟ - ص 236.
[11]-د. عبد الوهاب المسيري – قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الأنثى – ص31.
[12]- المصدر نفسه.
[13] - أنتوني غدنز- علم الاجتماع – ترجمة: فايز الصباغ – المنظمة العربية للترجمة – بيروت – لبنان – 2005 – ص 196.
[14] - أنتوني غدنر – المصدر نفسه – ص 197-200.
[15] Elsa Dorlin, Introduction Black feminism Revolution ! La Révolution du féminisme Noir ! (L’Harmattan, 2007).
[16] - أنتوني غدنز: نفسه، ص:222.
[17]- آن كورثيوس – مفهوم الجنوسة – راجع كتاب: مفاتيح اصطلاحيّة جديدة – إعداد: طوني بنيت وميغان موريس – المنظمة العربيّة للترجمة – ترجمة: سعيد الغانمي – بيروت 2010.