البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

نَقْدُ الغَربِ في فِكْرِ الطيِّب تِيْزيْني

الباحث :  نبيل علي صالح.
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  17
السنة :  السنة الرابعة -خريف 2019 م / 1441 هـ
تاريخ إضافة البحث :  December / 4 / 2019
عدد زيارات البحث :  751
تحميل  ( 337.768 KB )
يسعى هذا البحث إلى تسليط الضوء على نقد العمارة الفكرية للغرب الحديث في أعمال المفكر السوري الراحل الطيب تيزيني. يبين الكاتب المنطلقات النظرية التي أسست لنقد البنية الحضارية الغربية عند تيزيني فيرى أن من أهم استهدافاته الفكرية مناظرة الغرب من موقع بناء وتأطير هويةٍ عربيةٍ إسلاميةٍ معياريّةٍ قادرةٍ ومالكةٍ لزمام أمورها، وعياً ومسؤوليةً وقدراتٍ وبُنًى نظرية وعملية قابلة للاستثمار الحضاري في علاقاتٍ حيويةٍ وندّيّةٍ مع هذا الغرب.

المحرِّر


---------------------------------------
إنطلاقاً من المنظومة الفكرية التي أسَّس الطيب تيزيني عليها منهجيّتَه المعرفية، يمكنُ ضبطُ عملية النّقد الفكري الّذي وجّهَه للغرب والفلسفة الغربيّة (الحاكمة على السلوكيات السياسية الغربية والمحدِّدة لاتجاهاتها والموجِّهة لمساراتها)، وذلك ضمن محورين رئيسيين، هما: النقد المعرفي الفلسفي، والنقد السياسي الاقتصادي.

أولاً- النقد المعرفي - الفلسفي للغرب
يكشف الطيب تيزيني عن عنصرية الغرب وعقيدته المركزية الناظرة بفوقيةٍ حضاريةٍ واستعلائيةٍ فكريةٍ وعمليةٍ على ثقافات الآخرين وخلفياتهم الحضارية، وهي عقيدة لها امتدادتها في الاقتصاد والتنمية والعلم والبحوث العلمية الرصينة، ونقل العلوم وتأسيسها في التربة العربية الإسلامية. وقد ركَّز على ما قام به هذا الغرب من احتيالٍ فكريٍّ وتدليسٍ معرفيٍّ خطيرٍ، تجسّدَ عملياً في جملةِ الآراء ووجهاتِ النّظر اللَّاعلمية الغربيّة حول تاريخ الفكر الإنساني. كانت في طليعة هذه الآراء النظرية المعروفة التي باتت عقيدةً سياسيةً غربيةً بامتياز وهي نظرية «المركزية الأوروبية» التي احتلّت- بحسب تيزيني- مكاناً مرموقاً ودرجةً متقدمةً في عمق المعرفة الغربية والفكر السّياسي الغربي. أما ممثلو هذه النظرية فهم كُثرٌ، ولكنهم جميعاً يلتقونَ في بوتقةٍ واحدةٍ ونقطةٍ مركزيةٍ واحدةٍ ينهلون منها جميعاً، وهي أنهم يفهمونَ التّاريخَ الإنساني الفكري (والحضاري عموماً) على أنّه تاريخٌ للفكر «الأوروبي» فقط، بدءاً بالعهد اليوناني القديم، ومروراً بعصر النّهضة والتّنوير، ومنتهياً بالعصر الحديث والمعاصر. وهذه القناعة أو الاعتقاد أو الرؤية الأحادية الإقصائية لمسيرة الفكر الإنساني التاريخية (التي يختزلها الغرب الفلسفي بذاته وسيرورته التاريخية منذ زمن الإغريق)، يمكن تحديدها بكونها: 1 - عنصرية رجعية، و2 - لا علمية مناهضة للنتائج التاريخية العيانية التي تحقّقتْ في هذا الحقل[1].
هذا النقد الذي يوجّهه التيزيني (للفكر الغربي)، مثل الكثير من النّخب العربية والإٍسلامية، هو نقدٌ قائمٌ على رفض النزعة التأصيليّة للفلسفة الغربية، (الأصالة الحضارية الغربية)، وضرورة مواجهة فكرةِ «المركزيّة الأوروبية». لقد تطوّرَ وتعمّق أكثرَ فأكثر في نقده ومساءلته المعرفية لأساس فكرة العولمة (وهو أساسٌ فلسفيٌّ معرفيٌّ مركوزٌ في بنية الغرب التاريخية[2]) ولواقعها السّياسي والاقتصادي والثقافي العالمي، وهي التي جاءت -كما يضبطها التيزيني في تعريفٍ مكثّفٍ- كإفرازٍ من إفرازت فلسفة الغرب وثقافته الغازية والمهيمنة عالميًّا، وكنظامٍ اجتماعيٍّ وماليٍّ وعسكريٍّ، ابتلع الطبيعة والبشر، وأخرجهما سلعاً ومالاً، لتهبط قيمة الإنسان وترتفع قيمة الأشياء من حوله. حيثُ يوضحُ التيزيني أنَّ ما نراهُ في ظلِّ العولمة، هو أنْ يصبحَ كلُّ العالم قابلاً ومهيَّأً لأنْ يتحوّل إلى أشياءٍ وسلعٍ ومالٍ،.. داعيًا إلى مواجهة هذه الظاهرة (ظاهرة العولمة) من خلال مستويين:
الأوّل- نظري: يقوم على اكتشاف العلاقة بين الخصوصيّة والهويّة في سياق التعدديّة والأصالة والمعاصرة.
والثاني- تطبيقي: يرمي إلى الأخذ بمبدأ المواطنة والحريّة والديموقراطيّة والتعدديّة السياسيّة والتداول السّلمي للسلطة، وتعدّد المنابر الثقافيّة، وإعادة توزيع الثروة والتّضامن العربي، والتفكير الجديد الذي يتعامل بنظرةٍ نقديّةٍ مع القضايا الراهنة[3].
ويعتقد تيزيني أنه منذ تسعينيات القرن الماضي جرت بلورة أجواءٍ سوسيو ثقافية وسيكولوجية لاستعادة المنظومة الأيديولوجية لـــ«المركزية الأوروبية»، وذلك بصيغٍ وآفاقٍ تستجيب لواقع الحال العربي والعالمي (الراهن)، هذا الواقع الذي قد تتصدّره الصيغة الأميركية «للتفوق الحضاري الهائل» الاقتصادي والسّياسي والعلمي التقني للنظام الرأسمالي عالمياً، ولإسرائيل في الشرق الأوسط خصوصاً[4]. وبرأيه أن هذه الأجواء فقد أثّرت سلباً على وعي كثير من مثقفينا العرب (ممن ينتمون إلى الطبقة الوسطى الآخذة في التناثر والتّهشم الاقتصادي والسّياسي والسيكُولُوجي الأخلاقي)، ودفَعَتْهم لتقبّل نمطٍ معصرنٍ من «وعي لا تاريخي سادي» (وهما صفتان أطلقهما على الثّقافة المركزية الأوروبيّة باعتبارها النبع الفكري الذي استقى منه هؤلاء وعيهم المعرفي العملي). وبحسب تيزيني، يقوم هذا الوعي السَّلبي (الذي دفع إلى إحداثِ بعثرةٍ كبرى وعميقةٍ في البنية الفكرية النهضوية، وخلق للفكر العربي مشكلاتٍ زائفةٍ) على أنه ليس هنالكَ من «الضرورة» و«المعقولية» و«الموضوعية» و«الاستمرارية» ما يمنح «الأحداث البشرية» سياقاً «تاريخياً حقيقيًّا ومشخَّصًا»، خصوصاً على الصعيد العربي، في احتمالٍ أول؛ وليس هناك من «تقدّم تاريخي» يتجاوز النظام الرأسمالي ويجبّه، في احتمال آخر. حيث يبرز ههُنا فارسا الفكر الجديد «الأوروبي-الغربي» العتيدان ميشيل فوكو وفرانسيس فوكوياما، ليكرّس الأول منهما مفهوم «التفاضل التاريخي» - في كتابه «حفريات المعرفة»، وليعلن ثانيهما «نهاية التاريخ» - في كتابه المعنون بهذه العبارة- في مرحلته «الأخيرة» الراهنة «النظام الرأسمالي الأميركي».
يعتبر تيزيني هنا أن الثقافة والحضارة الغربية الرأسمالية لم تتنفسا الصعداء وتسيرا تصاعداً إلى الأمام إلا بعد تفكّك منافسهما الكبير ومصدر كوابيسهما المؤرّقة، فكان هذا دافعاً لبروز النزعة «المركزية الأوروبية» مجدّدًا محمّلةً هذه المرّة بصيغة -الآن- بشحنةٍ انتقاميةٍ ثأريةٍ أميركيةٍ[5]..
وبعد توغله قليلاً في ثنايا الحمولة المعرفية لما قدّمه فوكوياما في «نهاية التاريخ» معلناً انتصار الغرب والحضارة الرأسمالية- يبرز تيزيني أهمّ الخطوط الأولية العامة والنازعة للتّضخم في ما يخصّ الاعتقاد باستفراد الموقف العالمي التاريخي من قبل الحضارة الغربية (الرأسمالية) أولاً، وبالشروع في إعادة شباب العالم عبر هذه الحضارة ومن داخلها ثانيًا.. ويُؤكّد في نقده هنا لجذور هذه النظرة الفوقيّة الاستعلائيّة للغرب، أننا نقف هنا أمام اعتقادٍ أيديولوجيٍّسيكوباتيٍّ مَرَضِيٍّ، يتمثّل أمامنا في حالة «رجوع الشيخ إلى صباه». وبذلك وفي ضوء السياق المعني هنا، فإنّ فوكوياما لم يأتِ - كما يعبّرُ تيزيني- ليجبّ ميشيل فوكو ويجتثّه من أصوله الداعية إلى تَشْظِية التّاريخ وتجزئته إلى جزرٍ وبُنى متجاورةٍ ومستقلّةٍ، بقدر ما عمل على «إعادة الروح» إليه مضمّخةً بثقةٍ عميقةٍ تحدّد «عالمها وآفاقها»، التي «بدت» منذ حين وكأنّها من الانهيار قاب قوسين أو أدنى[6].
وفي هذا السياق النقدي يعتقد تيزيني بوجود ارتهان -أو بالحدّ الأدنى حالة لا وعي ثقافي- لدى كثيرٍ من نخبِ العرب ومثقفيهم في تناولهم ومعالجتهم لمسألة العلاقة مع الغرب، الباقي أصلاً على تصميمه المعرفي والفلسفي القديم في موقف (وموقع) العداء التاريخي (الضمني والذاتي) للثقافة الإسلامية والحضارة الإسلامية، وكأنه يعيش (أي هذا الغرب) من خلالها عقلية الثأر والانتقام الحضاري المتواصل منذ قرون وقرون.. ويبرز هذا الارتهان الثقافي أو تلك اللامبالاة الثقافية والمعرفية - في عدم تقدير كثير من أولئك المثقفين لهذا الموقف المعياري السلبي للغرب- من خلال موضوعٍ أساسيٍّ هو «الاستشراق»، على سبيل المثال.. حيث يلاحظ وجود حالة تماهٍ لدى كثير من مثقفينا مع رؤية الغرب لمعادلة الغرب والعرب، أو لمعادلة الغرب والشرق.. فكأنّما الأول (الغرب) معادل للعقل، والثاني (الشرق) معادل للقلب، بحسب رؤية الاستشراق نفسه، واقتناع هؤلاء المتثاقفين العرب بهذا المنطق الاستشراقي، وأخذه كمسلّمةٍ فكريةٍ وبديهيةٍ عقليةٍ دونما نقدٍ ومساءلةٍ معرفيةٍ رصينةٍ. ولعلّه يعني ما يجسّده هنا القلب بما قد يعنيه من اللاعقلانية، والغرب الذي يجسّده العقل الموازي للقلب والمختلف عنه معنى ومنهجاً[7]..فهي ثنائية العقل واللاعقل، الثنائية التي تحكم آلية الحياة وقواعدها ونتائجها.. تلك هي الفكرة المحدّدة بحدود الاستشراق الغربي، وقد ألّف عنها إدوارد سعيد كتابه «الاستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء»[8]. وتناولَ ذلك الكتاب مثقفون ومفكرون تناولاً نقديًّا، انطلاقًا من فكرته الرئيسية، والتي يدافعُ عنها المؤلف على نحوٍ يشي بالعلاقة التي يقوم عليها ذلك الاستشراق «الغربي»، أي علاقة الاستشراق بثنائية «الشرق والغرب» كعلاقةٍ حدّيّةٍ بين القلب والعقل، والتي يأخذ بها «الاستشراق»، فيما يساوي «العقل» هنا «الغرب»، أي حامل «العقل» ومنتجه. وهنا تتبلور ثنائية «العقل» و»القلب» من حيث هي - حسب إدوارد سعيد- ضبط لماهيّة كلّ منهما.
ويُؤكّد تيزيني هنا على أنّ نظرةً أو تحليلاً أوّلياً لذلك المركّب من المصطلحات يشي بدلالاته التي لا تخرجُ عن نظرةٍ أخلاقيةٍ دونيةٍ، يبرز فيها «الشرقُ» من حيثُ هو هذا «الشرق» الجغرافي الذي يرتبطُ بنظرةٍ دونيةٍ في ذاته، كما بالنسبة إلى الآخر، وبعدئذٍ تأخذ التحديدات التاريخيّة والجغرافية والعقلية والنفسية والفردية والجماعية، لذلك «الشرق» سماتها الخاصة والفطرية.
وللأسف، ما زالت هذه «العُقدة» التي يسميها الطيب تيزيني بــ«العقدة الصَّدئة» قائمةً ومتحركةً في وعي الغرب للعرب والمسلمين؛ فهو يعتقد أنّه عالمٌ مالكٌ لوضع فوق التاريخ «الشرقي العربي»، كي يَتمثّلَ هذا الأخيرُ في فريقين، يأخذُ الثاني منهما «الشرق العربي خصوصاً» موضع التخلف والقصور الحضاري، في حين يتجسَّدُ أولّهما في الغرب المتقدّم على العالم كلّه، وكأنّه سيّد الأكوان، ومالك لحركة التاريخ العالمي الذي هو تاريخ الغرب وحده المتّسم بالعراقة التاريخية والإنجاز الإبداعي الفريد، أي الذي أنجزَه «العقلُ»، عقلُه إياه.
لكن تيزيني الرّافض لهذا المنطق التمييزي العنصري الغربي المنطلق من موروثاتٍ(وخلفياتٍ) صداميّةٍ غربيّةٍ مقيتةٍ، يواجه هذا النمط الاستعلائي بنقطتين، يتوافق من خلالهما مع الباحثة الألمانية «زيغريد هونكه (sigrid-hunke)»، الأولى هي أنّ الحضارات البشرية متراكمةُ الخبرات والتجارب، والحضارة العربية والإسلامية، والعالم العقلي (لا العاطفي) العربي والإسلامي، مشارك في امتلاك ذلك التراث اليوناني والروماني؛ فهذه لوحةٌ تاريخيةٌ عالميةٌ بديعةٌ تجسِّدُ تراث شعوبها هنا وهنالك. والنقطة الثانية هي أنّ العربَ لمْ يكونوا فقط «وسطاء»بينَ الغربِ والشرق، وإنما هم كذلك أثروا عبر منجزاتهم الحاسمة في منجزاتٍ ذاتِ حضورٍ أسهم في البناء الحضاري العالمي، حتى الآن، عبر منجزاتٍ ثقافيةٍ مرموقةٍ، «وإنْ تقهقروا بعدئذٍ»[9].
ثانياً- النقد»السّياسي- الاقتصادي» للغرب
يعتقد تيزيني أنّ التصورات الذهنية التاريخية للغرب (الثقافي والفلسفي) عن عوالم العرب والمسلمين المُستَشْرَقة، هي التي مهّدت الطريقَ للغرب السياسي في سعيه للتوسع والهيمنة، والقبض على موارد الشعوب العربية والإسلامية وثرواتها، مستغِلاًّ تفوّقه العلمي وعلوّ كعبه التقني. وعلى مستوانا نحن العرب يلاحظ تيزيني أنّ الغربَ لم يتمكن من الهيمنة والسيطرة إلا بعدما قام بتفكيك الهوية العربية، واشتغلَ على إجهاض أيّ احتمالاتٍ للنهضة العربية والإسلامية. وقد ساعده في هذا حكامٌ مُعيّنون برتبة موظفٍ لدى الدوائر الاستعمارية والأمبريالية، خضعوا للغرب وتماهوا مع سياساته واستراتيجياته وفلسفته السياسية القائمة على النهب والاحتكار وإثارة الحروب والنزاعات (بأشكالها وأنواعها)، بهدف السيطرة على الموارد والأسواق والطاقات، وتأمين المصالح الاقتصادية للمجتمعات الغربية النّهِمة للمادة والطاقة. ويتجلّى هذا البُعد «الفلسفي-السّياسي» العملي في أوضح تعابيره الحديثة من خلال المدخل «الفكري-السياسي» الذي طرحه صموئيل هنتنغتون في كتابه «صدام الحضارات» والذي يُعطينا فكرةً واضحةً عن عقلية الصراع والهيمنة وشنّ الحروب التي تحكم العقل السياسي الغربي الحديث وخصوصاً الغرب الأميركي، والذي اعتبره تيزيني مبدأً مركزياً واستراتيجياً في فلسفة الغرب وثقافته السياسية العملية. ووجهة النظر هذه تستند - كما يرى تيزيني [10]- إلى مبدأٍ مركزيٍّ ذي بُعدٍ استراتيجيٍّ في حقل الدراسات الاستراتيجية الأميركية، ويقوم على أنّ المحافظة على المصالح القوميّة الأميركية العليا تستدعي الحضور الدائم لعاملين اثنين تأسيسيين، أما الأول منهما فيتمثلُ في الحيلولة الكلية لبروز شرخٍ في التركيب الإثني السُّكَّاني القائم على تعدّديّةٍ في المصادر والمرجعيّات لسكان الولايات المتحدة الأميركية، وذلك عبر إنتاج هويّةٍ جديدةٍ تندرج تحتها كلّالمجموعات السكانية المتحرّرة من المصادر والمرجعيّات المذكورة. ويأتي العامل أو العنصر الثانيليُجسّد –بحسب التيزيني- رافعةً لذلك العامل الأول، ويتجلّى في هيمنة المصالح الاقتصادية، التي يُنظر إليها، والحال كذلك بوصفهاالناظم الحاسم وربما الوحيد لتلك المجموعات السكانية، مع الإشارة إلى إغفال دورٍ مرموقٍ للحوافز القيميّة والسياسيّة والثقافيّة في المجتمع الأميركي. وعلى هذا، فالأيديولوجيا المهيمنة هناك (في الغرب، خاصة الأميركي) مشتقة بشكل آلي من المصالح الاقتصادية، دون أن تكونَ قادرةً على إنتاج شبكةٍ من مثل تلك الحوافز المذكورة. وهذا ما تُعبّرُ عنه «الفلسفة الذرائعية»، الأميركية حقاً، التي تتحدّد في المبدأ الشهير: «الحقيقة هي كل ما ينفع الولايات المتحدة». ويلاحظ تيزيني - وهي ملاحظة ذات مصداقيةٍ معرفيةٍ- في نقده لفلسفة الغرب السياسية (ممثلةً بأعلى مراحلها الإمبريالية الأميركية) أن هذه الولايات المتحدة الأميركية منذ نشأتها وحتى الآن لم تستمد حوافز بقائها واستمرار قوّتها من بنيتها الداخلية (وهي بنية سوسيوثقافية تتقوَّم بهويةٍ تعدّديةٍ ديموغرافيةٍ وإثنيةٍ وثقافيةٍ ولغويةٍ مميزةٍ)، وإنّما من وضعيةٍ عملتْ دائماً على حضورها؛ تلك هي النظرة إلى «الآخر» بوصفه خصماً أو عدواً يشترط بقاؤها بأمن (أي الولايات المتحدة) إعلان الحرب ضده، فما يُؤسسُ لحالةٍ من التوازن والاستمرار متوازيةً ومتداخلةً مع حالةٍ من الجاهزية الدائمة العسكرية خصوصاً، لمواجهة «الأعداء»[11]. ويشير تيزيني - تأكيداً على تحليله السياسي والفكري النقدي- إلى أنه من الطريف المدوّي أن نذكر أنّ عددَ حروب الولايات المتحدة مع هؤلاء (الغير=الأعداء) ومنذ نشأتها وصلَ إلى (277) حرباً؛ في حين وصل عدد حروبها منذ عام 1990م حتى عام 2002م، إلى (62) حرباً؛ وهذا بدوره يضعنا أمام الحالة التي تمثلها إسرائيل في هذه المنطقة التي تعتبر من أهم مناطق العالم بالنسبة إلى الغرب وخصوصاً أميركا، حيث الموقع والثروات الفريدة والموارد الضخمة والهائلة والخصائص التاريخية والاستراتيجية. وقد حرصَ الغربُ على تأمين دعمٍ مطلقٍ لهذه الحالة الإسرائيلية (الدولة الكيان المصطنع) لتكونَ الأقوى والأعلى كعباً من كلّ النواحي على كافة مجتمعات المنطقة ودولها وبلدانها، لاسيما من الناحية العسكرية والأمنية، ومع تعاظم هيمنة عقلية العسكرة والحروب على فلسفة الغرب السياسي الراهن (الأميركي منه بالتحديد)، لتأمين الموارد والثروات (نهبها واحتكارها) وحراسة خطوط الطاقة، والتحكم بسياسات دول المنطقة على وجه العموم.
وهذه العسكرة برزت – بحسب تيزيني- كاتّجاهٍ قويٍّ في ثقافة الغرب السياسية في سياق تحويل العالم إلى سوقٍ كونيةٍ سلعيةٍ تجتاحها المصالحُ النفعية، والتكالب على ثروات الشعوب المستضعفة (وفي مقدمتها شعوب العرب والمسلمين)، ومنع تقدّمها وتطوّرها الحضاري، والإصرار على اتّهامها في دينها وثقافتها وتاريخها كشكلٍ من أشكال زعزعة ثقتها بتاريخها وهويّتها، ومحاولة إسقاطها معنويًّا ورمزيًّا قبل إسقاطها ماديًّا.. وتبرز هنا ثنائيةٌ أيديولوجيةٌ في صميم الفكر الغربي النظري الاستراتيجي والإعلامي، تقوم على حدثين اثنين لا لقاء بينهما إلا عبر الحرب والصراع، هما «الحضارة والإرهاب»؛ مع الإشارة إلى أنّ المصطلحَ الأوّل (الحضارة) يُحمَّلُ شحنةً إيجابيةً تقود إلى القول: إنّ لفظة حضارة إنما هي (حكم قيمة)، بالقدر الذي تحمله اللفظة الثانية من الإدانة والقدح والذّم. فكلّ من يقف في معسكر الغرب السياسي ويستجيب لطلباته ويُحقّق مصالحه هو من النوع الأول (حضاري)، وكلّ من لا يُؤيّد سياساته ويقف بقوة في مواجهة مصالحه واستراتيجيّاته الخاصّة بمنطقتنا هو من النوع الثاني (إرهابي).. والإسلام كدينٍ وحضارةٍ وثقلٍ عالميٍّ كبيرٍ، هو أحد الخصوم التقليديين للغرب منذ العصور الوسطى، وقد استمرت الصّورةُ النّمطية السّلبية المعروفة عنه إلى يومنا هذا، حيث تمّ وضعه وتثبيته من جديد في ذهنية الغرب الشعبي والثقافي والسياسي في موقع الخصم والعدوّ اللّدود والكبير المهدِّد للحضارة الغربيّة من خلال تركيز الغرب على مفردة «الإرهاب» و»مكافحة الإرهاب» وبالتحديد الإرهاب الدّيني الإسلامي والأصوليات الإسلاميّة، ليس فقط لتشويه وتمويه صورة الإسلام، بل لتحقيق أجنداتٍ اقتصاديّةٍ ومصالحَ عسكريةٍ وجيواستراتيجيةٍ تخصّ منطقتنا، منطقة الثروات والموارد والطاقات البشرية والطبيعية والاستثمارات الضخمة. وهذا ما يؤكده تيزيني الذي يعتبر هنا أنه من الضروري الإشارة إلى أنّ رصيداً هائلاً من التراكم على صعيد «الدراسات» الإسلامية، يمكثُ في كلِّ مكتبات العالم عبر ما قدّمه «الاستشراق» في نمطٍ معيّنٍ له، وما قدّمه باحثون من بلدانٍ إسلاميةٍ. ولعلّنا نشير ههُنا إلى أنّ وقوع الاختيار على الإسلام لم يأتِ تعسّفاً ومن دون أسسٍ ضابطةٍ. فــ»الإسلام» المعني هنا هو ذلك الذي يهيمنُ في بلدانٍ إسلاميةٍ تعجُّ بالبشر والثروات الطبيعية الضخمة، وقد تكوِّن - من ثمّ- قوةً هائلةً في أيدي أصحابها ضمن رؤيةٍ استراتيجيةٍ مستقبليةٍ ما قادمة. طبعاً هذا كلّه جاء على خلفية إرثٍ حضاريٍّ غربيٍّ طويلٍ من التّعاطي السّلبي مع الإسلام، ومن الصراع بينه وبين دعاة «الحروب الصليبية» ونظائرهم[12]. وطوال الفترة التي تعاقبت - بعد تلك الحروب التاريخية- استكشف الغرب السّياسي عالم الشرق الإسلامي بأدواتٍ معرفيةٍ نظريةٍ أفضت بمجملها إلى تعميق الكراهية والحقد وخطوط الفصل الحضارية بين ما يعتبره حضارته المتقدمة الغنية وبين الحضارة العربية الإسلامية المتخلفة؛ حيث تمَّ -على هذا الأساس- تكريس تقسيم سكان مجتمعات المنطقة العربية، وفصل ثروتهم عنهم، وزرع الفتن والاختلافات والعداء في ما بينهم تحتَ ذرائعَ إثنيّةٍ وطائفيّةٍ لتظلَّ مسكونةً بهواجس المصير والمستقبل بعيدةً عن تطلّعاتها النهضويّة ومنشغلةً أبداً بانقساماتها ونزاعاتها الداخلية والإقليمية وحتى الدولية.
على هذا الطريق، وبهدف تأمين أسس السيطرة الغربية السياسية والاقتصادية على المنطقة، لفترات زمنية طويلة وربما دائمة، جرى تأمين الحضور الغربي الفاعل والنشط فيها، من خلال زرع أنظمةٍ مواليةٍ (عميلة) له، وتأبيدها رغماً عن أنف الشعوب، واستمرار هيمنتها على ثروات بلدانها ومواردها الطبيعية والبشرية الكبرى، ومنع حدوث أيّإصلاحٍ، حتى لو كان بسيطاً فيها.. ومواجهة أيّ دعوةٍ تغييريةٍ (تخصُّ شؤون المجتمعات وحاجات الناس السياسية، على صعيد النهضة والبناء والتنمية والحقوق والعدالة الاجتماعية وإقامة دول القانون والمؤسسات والعدالة) بقوة العنف العاري اللَّا محدود واللَّا مقيّد، وهذا ما جرى في كثير من بلداننا العربية والإسلامية لإبقاء الاستقرار(استقرار الأعماق=استقرار القبور) وفقاً لرؤية هذا الغرب، وتخميد روح التضامن والقيم الوطنية وروح المواطنة بين السكان..
نعم، لقد نحتْ مجمل السياسات والاستراتيجيات والخطط الدولية الغربية (التي مارستها وتمارسها العديد من الإدارات السياسية الغربية في ما يخصّ طبيعة العلاقات بينها وبين دول وشعوب المنطقة العربية والإسلامية التي يتحرّك فيها الإسلام كقوةٍ محرّكةٍ أساسيةٍ فكرياً وروحياً، وكحالةٍ حضاريةٍ في الفكر والإحساس والممارسة) أقول: نحتْ تلك العلاقات منحًى فكريًّا تاريخيًّا، باتَ يُمثّل ناظماً ومعيارًا قيميًّا فكريًّا وفلسفيًّا في عمق البنية المفاهيمية الغربية ويُحرّك مسارات (واستراتيجيات وبرامج عمل) تلكَ الإدارات السّياسِيّة، ومختلف سُبلها، وأقنيتها، ويوجّهُها على تعدّدها واختلافاتِها وتنوّع مواقعها وأدوارها وتشابكِ مصالحها.
ويظهرُ لنا أكثرَ أنّ هناكَ مجموعةَ دوافعٍ وبواعث (ومحرّضات) (غير سياسيةٍ واقتصاديةٍ على أهميتها) حضاريةٍ ودينيةٍ تبرز أمامنا كمحدّدٍ لطبيعة العلاقة القائمة بين الغرب والإسلام من جهة أنّ الغرب السياسي (الوضعي والعلماني التنويري) يجعل- في أحايين كثيرة- الدين والهويّة والثقافة معاييرَ جوهريّةً(مخفيّةً في لا شعوره وحاضرةً بقوّةٍ في سلوكه وعمله) في نسج تلك العلاقة مع الدول العربية والإسلامية، وبنائها وتنظيمها، وكأنّني أستنتج أنّ السياسة لدى الغرب حاليًّا باتت- وهي التي كانت تقوم على المصالح والمنافع المتبادلة بين الأمم والشعوب بصرف النظر عن المعتقد والهوية- عاملاً ثانوياً في تنظيم العلاقة بينه وبين العالم العربي والإسلامي، ولم تعدْ معيارًا أو عاملاً محدِّداً في بناءِ وتقعيد العلاقات بين الدول والشعوب المختلفة.
وهذا المحدّد تفاقمَ وتعزّزَ أكثرَ فأكثر مع قدوم أطروحة صدام الحضارات لهنتينغتون - التي تساوقتْ وتزامنت مع تعاظم العولمة بوصفها «أمركة العالم»- لتكون دعوةً لحربٍ صريحةٍ ومكشوفةٍ تقودها «الحضارة الأميركية» (كممثل لحضارة الغرب المعاصر بأعلى تجلّياته الأمبريالية) ضدّ الحضارات الأخرى، التي يُطلق عليها هذا المصطلح تجوّزًا، في سبيل الهيمنة المطلقة للغرب على العالم برمّته كما يرى تيزيني الذي يُوضح ويُوسّع المدى الفكري في نقْدِه لقضية العولمة كأمرٍ واقعٍ أميركيٍّ يستهدفُ الثّروات العربيّة بالخصوص، حيثُ يؤكّدُ أن مانراه في ظلّ العولمة هو أن يُصبح كلّ العالم مجهّزاً ومهَيّأً لأنْ يتحول إلى أشياءٍ وسلعٍ ومالٍ، وخصوصاً منها ما تراه العولمة عائقاً في وجه هيمنتها الكونية مثل مفاهيم المواطنة والقانون والهوية الإنسانية والوطنية و و.. إلخ[13]. 
إذاً، لقد قام تيزيني، في إطار مراجعاته المعرفية الفلسفية والسياسية العملية للغرب ومفاهيمه وطروحاته الناظرة للآخر العربي والإسلامي بالذات، قام بموضَعَةِ هذا الغرب في سياقه وعنوانه الأوّليّ الحقيقيّ، من حيث أنّه غربٌ يُمارس عدوانيّةً فكريّةً وسياسيةً واقتصاديةً ضدّ آخر يُشكّل كتلةً حضاريةً وسكانيةً بشريةً هائلةً، ناظراً إليه من فوق كمجرد مواقع لاستخراج الطاقات وضمان وصوله إليه، وساحات لتصفية الحسابات..
وقد لاحظنا أنّ الطيب التيزيني ركّز (ويركِّز) مفهومه النقدي للغرب من خلال أمرين، الأول الوعي النظري بطبيعة الجذور الفكرية والفلسفية للغرب، والثاني الآثار والنتائج التي تمخضت عنها تجربة احتكاك العرب والمسلمين معه.. حيث تشكلت في عالمنا العربي والإسلامي، جملةَ عناصر واعتبارات فكرية وعملية وتاريخية خلقت، وكوَّنت لدى نخبنا ولدى الرأي العام العربي - بشكل عام- مفاهيم وأسساً واضحة لطبيعة هذا الغرب ولثقافته وأصول تعامله، يمكن إبرازها في الآتي:
أولاً- عدم مقبولية الثقافة الغربية إلى يومنا هذا، كما هي، في البيئة العربية والإسلامية، على الرغم من الاحتواء والتدجين والفرض والقسر الفكري والسياسي الذي اُستخدم على أوسع النطاقات. فهناك حالة عداءٍ واضحةٍ مركوزةٍ في اللاوعي لدى الغالبية العظمى من الشعوب العربية والمسلمة، من حيث اعتبارهم تلكَ الثقافة دنيويةً ماديةً مستهلِكةً للرّوح والجسد، تقوم على الجشع والنفعية والتسليع البشري، وأنّ البديل الحضاري الجاهز هو «الثقافة الإسلامية» التي توازن بين الروح والمادة، وتهدفُ إلى تحقيق العدالة في الأرض، ونشر قيم الخير والتسامح للإنسانية جمعاء.. وقد تكرّست عملية رفض الفكر الغربي والثقافة الغربية لاحقاً نتيجة كلّ تلك التراكمات التاريخية التي سيطرت على الذهن العام الشعبي العربي المسلم تجاه الغرب من حروبٍ صليبيةٍ واستعمارٍ قديمٍ وحديثٍ.. وحالياً تتم تغذية هذا التصوّر المسبق عبر ما تقوم به بعض المواقع الغربية من حملاتٍ عدائيةٍ استفزازيةٍ سافرةٍ ضدّ الإسلام، والرّبط بينه وبين الإرهاب، مع أنّ الإسلام يدعو - في بنيته العقيدية والفكرية-.
ثانياً- عدم التمييز بين السياسة والثقافة، بين السّياسي والثقافي، وطغيان العامل السياسي والاقتصادي الآني المتغيّر على العامل الثقافي الثابت والأساسي في ضبط وتحديد طبيعة ومسار العلاقة مع الغرب. وفي قناعتي أنّ الغرب يتحمّل جزءاً كبيراً ومهمًّا من مسؤولية عدم بناء تلك العلاقة وضبطها ضبطاً عقلانيًّا وموضوعيًّا، فهو ما زال يستقي سلوكياته وعلاقاته مع عالم الإسلام والمسلمين من منطلق رؤيته الفلسفية القارّة القائمة على تمجيد ذاته، وقيمومة معارفه، ومركزية ثقافته التاريخية والراهنة. وهذه الرؤية كانت مقدمةً لتفجير مكنونات الهيمنة والاستعمار والنهب التاريخي الذي جرى (وما زال يجري) لمنطقتنا العربية والإسلامية، كما ذكرنا سابقاً.
ثالثاً- عدم إيجاد حلّ دائم وعادل لأمّ القضايا السياسية الإشكالية القائمة حالياً وهي قضية الصراع العربي الإسرائيلي (التي يمكن اعتبارها بحقٍّ أهمّ قنوات ومنافذ التوتّر والعنف في منطقتنا بالذات)؛ حيث لم تعمد مختلف الإدارات الغربية (المسؤولة تاريخيًّا وعمليًّا عن اغتصاب فلسطين) إلى إلزام «إسرائيل» بإرجاع الأراضي العربية المحتلة. وقد ثبّتَ هذا التعاطي السلبي في داخل ذهنيّة العرب والمسلمين عموماً الحالة العدائية ضدّ الغرب عموماً، وكرّس صورته كعدوٍّ مساندٍ لإسرائيل ضدّ مصالح العرب.
رابعاً- وجود اتجاهٍ سياسيٍّ وثقافيٍّ غربيٍّ عميق ومؤثر ما زال يعتبر أنه لا يمكن التعايش بين الإسلام والغرب، وأنهما كخطين متوازيين لا يمكن حدوث أي لقاء وتفاعل حقيقي بينهما،وسيظلان في حالة صدامٍ حضاريٍّ دائمٍ (أيما يُسمّى بـ: صدام الحضارات التي يتّجه إليها العديد من المفكرين والمؤرخين الغربيين، وتحظى بتأييدٍ كبيرٍ من نخبٍ وتياراتٍ عربيةٍ وإسلاميةٍ).. وأن لا سبيل للحوار والتلاقي بين حضارتين مختلفتين ومتمايزتين، تبحران في اتجاهين مختلفين، إحداهما ثقافة العقل والتجربة والحسّ والعمل، وثانيتهما، حضارة القول والنص والروح والفكر المجرّد، وقد أشرنا لهذه المسألة في سياق النص.
وهذا الخلل الكبير وهو خللٌ صميميٌّ، هو خللٌ فكريٌّ وثقافيٌّ، مهّد لخللٍ أكبر في السياسة والعلاقات السياسية والاقتصادية بين الغرب وبقية العوالم البشرية وبالأخص منها عالمنا العربي والإسلامي. وما لم تُعالج جذور المرض القائمة في الثقافة والمعرفة، وفي أصول التعاملات، والارتهان للمصالح الخاصة في أصل عقلية الشره الغربية، لن نسير على الطريق الصحيح المتوازن في العلاقة بين الغرب والإسلام.. حيث أنّنا نريد لهذه العلاقة أن تعود مجدّدًا إلى الحقل القيمي والمجال المفاهيمي الثقافي القائم والمبني في العمق على المشتركات الإنسانية العامة، مع ضرورة توسيع نطاقات العمل الإنساني المدني المشترك، والتركيز على نقاط الالتقاء، من دون نسيان نقاط الاختلاف، والعمل على فصم عراها المعقّدة بالحوار والتعاون والمكاشفة..
في قراءةٍ غير مسبوقةٍ، وبالغة العمق والمعرفة، لألفي عام من تاريخ العالم، نشر «بيتر فرانكوبان»[14] كتابًا فريدًا تحت عنوان «طرق الحرير»؛ يُقدّم فيه شروحات لطرق الحرير القديمة، ويُبرز صورةً أخرى لطبيعة العلاقات الوثيقة التي ربطت دوائر الحضارات الإنسانية الممتدّة، بلا انقطاع، من الصين إلى الأطلسي مرورًا بالحضارة العربية الإسلامية.. حيث انتقلت - على طول هذا الفضاء الفسيح وعرضه، وعبر مركزه المتوسِّطي، على وجه الخصوص- قوافل التجّار، والبضائع، والجنود، والدعاة، والأفكار، والقيم.. وفي أغلب هذا التاريخ الطويل، ثمّة توازن ولد بين قوى هذا الفضاء الحضاري. ولكن، ومنذ القرن التاسع عشر، حسمت أوروبا الغربية توازن القوى لصالحها. بيد أن الصعود الأوروبي، الذي تحوّل إلى صعودٍ لقوى جانبي الأطلسي، لا يعني أن حركة انتقال البضائع والبشر والأفكار والقيم قد توقّفت.. والحقيقة، أنّ التبادل أصبح أكثر سرعةً وكثافةً وتأثيراً على الحياة اليومية للبشر.. وتلك «الطرق-الشرايين» لم تكن مكرّسةً فقط للانتقال والتجارة فحسب، ولكن أيضًا، وأساسًا، للتواصل والتفاعل الخلّاق، «على طريقة الشبكات اليوم»، بين مناطق ذات ثقافاتٍ مختلفةٍ. ويشرح أنّ ذلك كان في الاتجاهين لا في اتجاهٍ واحدٍ. وما يعني أنّه من الصعب التركيز على الفعل الغربي فقط، وتجاهل العربي والإسلامي بالمقابل. والحديث في هذا السياق عن تحرّك «الإسكندر» المقدوني شرقًا، وسلالة «الهانس» الصينية غربًا، كحركة في اتجاهين[15].. وكلّ ما تقدّم جعل الكاتب يُؤكّد على أنّه ليس ثمة قطيعة ممكنة بين أوروبا والمشرق «العربي-الإسلامي». ومن العبث أنْ يتصوّرَ أحدٌ في باريس أو بروكسل أو برلين، أنّ أوروبّا، ومهما بلغت أسوارها من علوٍّ، يمكن أن تتمتّع بالسّلم والرفاه والاستقرار، بينما تعصف رياح الحرب والموت وفقدان المعاش بجوارها المشرقي.
والعَالَمُ العربيّ ليسَ مُعفى من المسؤولية في هذا المجال، حيث أثبتت تلك التجربة التاريخية العربية مع الغرب - دولاً ومجتمعات وأفكار وثقافات- أنّ الرهان على الدول الغربية منها، هو رهانٌ على حصانٍ خاسرٍ إلى حدٍّ كبيرٍ من دون وجود مبادراتٍ عربيةٍ داخليةٍ فاعلةٍ، يمكن أنْ تشكّلَ أساسًا لكي يُساعدنا الآخرون (وهذا من حقّ هذا الغرب)، بما يعني أنّ الاعتماد كليًّا على الخارج لا معنى له، لأنّه سيجعل من بُلداننا رهينةً لزمن هذا الآخر، وسيُبقيها في ثلّاجة الانتظار وحالة التخلّف المغطّاة بقشرةٍ حداثويةٍ شكليةٍ لا تُغني ولا تُسمن من جوعٍ..
فالغربُ سبق له أن أقام وجوده وعمّم مركزيته الثقافية والحضارية (كما قلنا سابقاً)، ورسّخ وركّزَ حضوره النوعي المؤثّر من خلال تلك الثورات العلمية المذهلة والاكتشافات والاختراعات العظيمة المفيدة الفائقة على مستوى العالم، وعلى حساب باقي ثقافات هذا العالم بالطبع، وخصوصًا ثقافتنا وذاتنا الحضارية العربية والإسلامية.. وهذه من أهم التحديات، وهي تأتي على رأس قائمة الأولويات المصيرية التي تُحيط بمجتمعاتنا وحضارتنا العربية والإسلامية التي تُوقف إنتاجها العلمي والبحثي عن التوليد الذاتي منذ قرونٍ طويلةٍ لتُصبح تابعةً ومستلبةً وخاضعةً ومتوسِّلةً، منفعلةً غير فاعلةٍ، في ظلِّ تنامي وتصاعد الحركيّة العلميّة للغرب الحديث على كلّ المستويات والأصعدة حتى باتت الاختراعات تُقاس بالشهور وربّما بالأسابيع لا بالعقود الطويلة.
إنّنا نأملُ لهذا الغرب -المتسلّح بالعلم الأداتي- أن يعودَ عن شعوره بالتفوق والعظمة المركزية، ليعيَ أهميّة المعنى والغاية، وحيويّة التواصل والبناء على المشترك معنا، ومع كلّ الحضارات الأخرى التي ما زال يعتبرها طرفيةً متلقيةً منفعلةً. والمشترك بين الغرب والإسلام، أي بين الحضارة الغربية والحضارة العربية الإسلامية، هو مجال الإنسانيّة الرّحب، وهو رهانٌ مستقبليٌّ لإدارة مواقع الخلاف بالحوار والوعي والعقلانية، وبناء أسسٍ إنسانيةٍ واعيةٍ للعلاقات البشرية في تنوّعها الديني والعقدي والقومي من منطلق الأخوّة الإنسانية الفاعلة، بعيدًا عن روح التشفّي وعقلية الانتقام وثقافة المركزية.

----------------------------------------
[1]-تيزيني، الطيب- «مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط»، (طبعة خامسة، دار دمشق للطباعة والنشر، سوريا/دمشق، العام 1981م)، ص405.
[2]- يعتبر الطيب تيزيني أنّ العولمةَ ظاهرةٌ قديمةٌ، انطلقتْ أساساً مع نشوءِ النظام الاستعماري مطلع القرن التاسع عشر. وهي ازدهرت مع بدايات الطموح العالمي للسيطرة على السوق، محدّداً زمنها بالمرحلة الليبراليّة التي قامت على مبدأ «إفعل كما تشاء»؛ لتفصح عن نفسها في مرحلة لاحقاً تحت اسم الأمبرياليّة. (راجع حواره مع صحيفة الحياة اللندنية، تاريخ: 12 /10/ 1998م، الرابط:
http://www.alhayat.com/article/1890734).
[3]- من حوار له مع صحيفة الحياة اللندنية، تاريخ النشر: 12/10/1998م. مصدر سابق.
[4]- الطيّب تيزيني، «من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغربي.. بحث في القراءة الجابرية للفكر العربي وفي آفاقها التاريخية»، دار الذاكرة، حمص/ دار المجد، دمشق، الطبعة الأولى 1996م، ص15-16. 
[5]-المصدر نفسه، ص16.
[6]- المصدر نفسه، ص17.
[7]-تيزيني، الطيب- معادلة الشرق والغرب، صحيفة الاتحاد الظبيانية، صفحة وجهات نظر، العدد: 15636، تاريخ النشر: 3 /4/ 2018م
الرابط الإلكتروني:   https://www.alittihad.ae/wejhatarticle/98271
[8]- إدوارد سعيد، «الاستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء»، مؤسسة الأبحاث العربية، طبعة عام 1981م.
[9]- الطيّب تيزيني، «المعادلة الاستشراقية قلباً وقالباً»، صحيفة الاتحاد الظبيانية، العدد: 15642، تاريخ النشر: 9/4/ 2018م.
الرابط:https://www.alittihad.ae/wejhatarticle/98343
[10]- الطيّب تيزيني، صراع الحضارات بين الغرب «الأميركي» والإسلام، مقالة مطولة في كتاب: كيف نواصل مشروع حوار الحضارات، (منشورات المستشارية الثقافية الإيرانية بدمشق، سوريا/دمشق، طبعة أولى لعام 2002م)، ج2، ص97.
[11]- المصدر السابق نفسه، ص98.
[12]- المصدر السابق نفسه، ص104-105.
[13]- الطيب تيزيني، «الإنسان الوحش.. العودة إلى ما قبل التاريخ»، حوار مع مجلة الجديد، العدد: 7، تاريخ النشر: شهر آب 2015م. الرابط:  https://aljadeedmagazine.com
[14]- هو أستاذ التاريخ في جامعة أوكسفورد البريطانية. وهو يقوم بمهمة إدارة مركز الدراسات حول بيزنطة القديمة في الجامعة نفسها. يُولي اهتمامه لدراسة العلاقات التاريخية بين الشرق والغرب. من مؤلفاته» «الحروب الصليبية الأولى».
[15]- راجع صحيفة الخليج الإماراتية، مراجعة لكتاب: “طرق الحرير.. تاريخ آخر للعالم” الصادر في 672 صفحة عن دار فينتاج لعام 2017م. تاريخ نشر المراجعة: 16 /6/ 2018م. الرابط:
http://www.alkhaleej.ae/alkhaleej/page/123aa50b-d0c6-4ed9-8a96-4ef1a396373d