البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

ما بعد الغرب

الباحث :  خضر إ. حيدر
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  17
السنة :  السنة الرابعة -خريف 2019 م / 1441 هـ
تاريخ إضافة البحث :  December / 4 / 2019
عدد زيارات البحث :  743
تحميل  ( 356.648 KB )
شهدت الثقافة الغربية على مدى قرون من أحقاب الحداثة، سيلاً هائلاً من المصطلحات والمفاهيم، عكست الحقول المختلفة من العلوم الإنسانية. ومن الواضح أنّ معظم المفاهيم، بل ربّما كلها، جرى إخضاعها للنقد والتجاوز بعدما تم اختبارها في التجربة التاريخية للحضارة الغربية الحديثة.
من هنا، نلاحظ نشوء مصطلحات ومفاهيم مستحدثة مسبوقة بكلمة "ما بعد" للدلالة على تجاوز هذا المفهوم أو ذاك.
ما يلي نقدِّم عرضاً تحليلياً لعدد من المفاهيم الأساسية ذات الصلة بمصطلح ما بعد الغرب.
وقد اخترنا لهذه الغاية المفاهيم والمصطلحات التالية: الغرب ـ وما بعد الغرب ـ ما بعد الحداثة ـ ما بعد الاستعمار ـ  ما بعد الليبرالية ـ ما بعد الأخلاق ـ ما بعد الانطباعية ـ ما بعد البنيوية ـ ما بعد الإيديولوجيا ـ ما بعد العلمانيّة.

المحرر

--------------------------------------
الغرب في معناه الاصطلاحي والحضاري
من أكثر المفاهيم التي لا تزال موضع نقاش واسع بين النخب الغربية هو مفهوم  الغرب
(The west) ومشكلة تحديد معناه: هل هو جهة جغرافية من جهات الأرض الأربع، أم أنه كيان حضاري له مزاياه وهويته الخاصة؟
بعض الباحثين في علم تشكُّل الحضارات يرون أن الغرب بناء أسطوري حديث بكل ما للكلمة من معنى. وكانت الاستعمالات الأقدم لهذا المصطلح أو نظائره في اللغات الأخرى تشير إلى اتّجاه أو منطقة على خارطة سياسيّة معيّنة، مثل تقسيم الإمبراطوريّة الرومانيّة إلى غرب - شرق في أواسط القرن الثالث، وانقسام الكنيسة المسيحيّة إلى غربيّة وشرقيّة بدءاً من القرن الحادي عشر (Williams, R., 1983: 333)، و«العالم الجديد» للأميركيّتين منظوراً إليهما من أوروبا، أو المحيطات التي تقع إلى الغرب البعيد عن «المملكة الوسطى» (في الصين). على أن التعبير الذي اكتسب طابعاً عالميّاً لم يطغَ في الاستعمال العام إلّا عبر القرنين المنصرمين بوصفه التكوين الرئيس في أوروبا الغربيّة التي صار يُنظر إليها باعتبارها كلّية الحضور في السيطرة الاستعماريّة على عموم أرجاء العالم. والمفترض أن «الغرب» يوحِّد جماعة من الناس يُدعَون «الغربيّين» من حيث جغرافيّة إقامتهم، وتقاليدهم، وأعراقهم، وأنسابهم، وحضارتهم المشتركة؛ ويبدو أنّه أصبح اسم علم، وصار يُكتب بالحرف الكبير، كما هو الحال في هذا الكتاب. على أن هذا المصطلح اشتهر بالمراوغة، ويبدو أن الوحدة التي يؤكّدها صارت تتعرّض للتحديّات باستمرار في العقود الأخيرة[1].
كمؤشّر جغرافي، لم يظهر «الغرب» تماسكاً كبيراً. فأكثريّة أبناء الشعوب الذين يعيشون في أوروبا الغربيّة يعتقدون أنّهم غربيّون، ولكن في الوقت نفسه يصرُّ كثير من الناس البيض في جنوب أفريقيا وأستراليا على أنّهم غربيّون أيضاً. وعلى خلاف هذا، فإن الناس الملونين في أميركا الشماليّة لا يعترفون بالضرورة بأنّهم غربيّون حتّى وإن زعم أكثر المقيمين في أميركا الشماليّة، لا سيّما منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية، بأنّهم أيضاً موجودن في الغرب. وهكذا، قد يبدو أن الغرب هو في الدرجة الأولى مؤشّر عرقي أكثر مما هو مؤشّر خرائطي؛ فهو يقترن اقتراناً وثيقاً بأخيلة البياض العرقيّة. لكن هذا التقدير يتناقض مع الواقعة التاريخيّة في أن أوروبا الشرقيّة قد تم استبعادها عموماً من الغرب، ليس فقط في أثناء الحرب الباردة، بل طوال القرن العشرين. فضلاً عن ذلك، فإن فكرة البياض العرقيّة مهلهلة بما يكفي للسماح بأن يتم استبعاد بعض الجماعات من البياض في بعض أرجاء العالم -مثل الشعوب في الشرق الأوسط- وأن يُعترَف بأنّها بيضاء في شرق آسيا أو شمال أميركا. وحين ينتقل الناس من مكان إلى آخر، فقد تتغيّر هويّتهم العرقيّة أيضاً. ومثل مفهوم العرق بشكل عام، فإن البياض كمقولة اجتماعيّة هو اعتباطي تاريخيّاً بحيث يصعب أن يكون مؤشّراً على هويّة ثابتة.

ما بعد الغرب
يُعتبر مصطلح ما بعد الغرب (Post Western World) من المصطلحات الحديثة العهد في الثقافة المعاصرة. وقد حظي باهتمام خاص في أدبيّات أبحاث المستقبل في المعاهد ومراكز البحث العلمي في أوروبا والولايات المتّحدة الأميركيّة.
هذا المفهوم يقع خلف حجاب من إبهامين كبيرين، هما: الإبهام الموجود في مفهوم الغرب، والإبهام الموجود في مفهوم غير الغرب:
- الإبهام الأول: يكمن في أن الافتراض العام لدى بعض العلماء عنه هو أنه ذاته ما يفهمونه من ظاهرة ما بعد أميركا. أما رؤيتهم النقديّة فتتلخص في جنوح الهيمنة الأميركيّة إلى الأفول في المستقبل. ومنهم من يعتقد بأن هذا الأفول سيعيد المحوريّة العالميّة إلى القارّة الأوروبيّة، فيما يذهب آخرون إلى أنه سيكون لمصلحة الصين أو البلدان الأخرى.
- الإبهام الثاني: يكمن في أن تحديد ثغور العالم غير الغربي هو أمر غامض. والدراسات العالميّة في هذا المجال تدور في الغالب حول محوريّة الغرب. من هنا، يميل البعض إلى الاعتقاد بأنّ علينا تعليم العالم كيف نقرأ ميكافيللي وهوبز وكانط وغيرهم بأسلوب لا يدور حول محور الغرب، وتعميم هذا الأسلوب في الدراسات العالميّة.
يمكن مقاربة وتحليل مسألة ما بعد الغرب من أبعاد ثلاثة: البعد السياسي/ الاجتماعي، والبعد الاقتصادي، والبعد العقائدي المتعلّق بآخر الزمان ونهاية التاريخ.

في ما يلي إشارة مختصرة إلى كل بُعد من هذه الأبعاد:
1 - البُعد السياسي / الاجتماعي:
ثمة سعي من المفكّرين الغربيّين إلى رسم نهاية حتميّة لمستقبل السلطة السياسيّة والاجتماعيّة للغرب، وفي المقابل أصدر المستقلون من المنظّرين، كتبًا ودراسات تدور حول التنبُّؤ بمستقبل الغرب الجانح نحو الأفول.

ينقسم النقاد المختّصون بأطروحة ما بعد الغرب إلى أربع مجموعات:
الأولى: تعمل على تحليل أفول الهيمنة الغربيّة بعيدًا عن مسقط رأسها الشرقي أو الغربي. وعلى الرغم من صدقها في بيان الآفات والمشاكل ومستقبل الغرب، إلا أن غايتها من وراء ذلك هي الدفاع عن الغرب وضمان قوّته وهيمنته. وعليه، فهي بهذا الموقف تلعب دور المنقذ الذي يدق جرس الإنذار للساسة الغربيّين. ويعتبر الصحافي الأميركي من أصول هنديّة فريد رفيق زكريا أحد محللي هذه المجموعة.
الثانية: تتألف من أولئك الذين ترعرعوا في مهد الغرب، ولكنّهم لا يعتبرون عالم ما بعد الغرب منتميًا إليه. وتعود قيمة وأهميّة تحليلات هذه المجموعة من المفكّرين إلى أنّهم شاهدوا الغرب من الداخل، وهاهم الآن يصرِّحون بأنه آيل إلى الانهيار، ومن بين هؤلاء عالم الاجتماع الأميركي أمانوئيل واليرشتاين.
الثالثة: تتشكّل من المحلّلين الذين ينتمون إلى مناشئ شرقيّة، ولكنّهم يعتبرون من الباحثين المرموقين والمعروفين في تحليلاتهم العميقة. هؤلاء وضعوا أدلّة متعدّدة تشير إلى انهيار الهيمنة السياسيّة للغرب المعاصر، ومن بينهم الفيلسوف الروسي الشهير ألكساندر دوغين.
الرابعة: يعبِّر عنها أولئك الذين أخرجوا ما بعد الغرب من يد سلطة الغرب، ويعملون على تفسيره بشكل آخر، وهؤلاء هم الساسة الذين يعملون في نزاعاتهم السياسيّة -بمعزل عن إثبات مدعياتهم بالأدلّة العلميّة- على إقامة جنازة الغرب الآيل إلى الاضمحلال والإفلاس، ومن بينهم وزراء الخارجيّة في كل من روسيا والصين وإيران.

2 - البُعد الاقتصادي:
من بين هواجس دراسات ما بعد الغرب ما يفصح عنه السؤال التالي: هل الاقتصاد في الولايات المتّحدة الأميركيّة والقارة الأوروبيّة سيكون اقتصادًا آخذًا في الازدهار أم سيؤول إلى الإفلاس والأفول؟
من الواضح أن الاقتصاد الرأسمالي هو الذي يدير النظام العالمي في الوقت الراهن، ونتائج دراسات ما بعد الغرب تعتبر أن الهيمنة الأميركيّة الاقتصاديّة تميل نحو الأفول. في المقابل، تتجه الصين وروسيا نحو التقدّم. من ناحية أخرى نجد بلدانًا مثل: إنكلترا وإسبانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، أو بكلمة واحدة أوروبا، تعاني من مستقبل غامض ومبهم. فالاتّحاد الأوروبي يشهد اضطرابًا من الناحية الاقتصاديّة، ليحلّ محله نظام نقدي آخر. وأفريقيا- ولا سيّما غرب القارة- سوف تظهر بوصفها منافسًا ندًا لأوروبا، وسوف يكون للصين في تنافسها مع روسيا مسار تصاعدي، أما في أميركا اللاتينيّة مثل البرازيل فسوف تفرض نفسها بوصفها قوّة اقتصاديّة. بجملة واحدة: إن شعوب العالم في مرحلة ما بعد الغرب وما بعد الولايات المتّحدة الأميركيّة سوف تأخذ دروسها من الصين والأقطاب الاقتصاديّة الأخرى.

3 - البُعد الاعتقادي وآخر الزمان:
يشهد الغرب المعاصر تنافسًا محمومًا بين الإيمان والإلحاد. وعلى الرغم من غلبة الإيمان في الوقت الراهن سواء على المستوى الكمي أم المستوى الكيفي، فإن هناك تيارات مرموقة تنظر إلى عالم ما بعد الغرب بوصفه عنصرًا يميل نحو ترجيح كفة الإلحاد. وهذا الادّعاء يفتقر إلى الأدلّة الكافية إلا أنّه يعتبر رأيًا جادًا بوصفه منافسًا خطيرًا للمسيحيّة.
مما لا ريب فيه أن أمواج الإسلام في البلدان الغربيّة من الكثرة بحيث بدأ العالم الغربي يستشعر الخطر، وينتهج شتّى الأساليب لمحاربتها. وهذه المحاربة أشد ضراوة من تلك التي ينتهجها في مواجهة الإلحاد وسائر التيارات الأخرى. إن أشخاصًا من أمثال صاموئيل هنتنغتون يرون مستقبل الغرب لمصلحة الإسلام؛ بحيث أنّه توصل في تحليلاته الإحصائيّة الخاصّة إلى التنبؤ بأن عام 2050م سيشهد غلبة الإسلام، وأن المسيحيّة في بلدان مثل إنكلترا سوف تتحوّل إلى أقليّة دينيّة.

ما بعد الحداثة Postmodernism
تعبر كلمة ما بعد الحداثة عن مرحلة جديدة في تاريخ الحضارة الغربية تتميز بالشعور بالإحباط من الحداثة، ومحاولة نقد هذه المرحلة والبحث عن خيارات جديدة، وكان لهذه المرحلة أثر في العديد من المجالات:
ما بعـد الحداثــة تعني حرفيا «بعـد الحداثــة». فـي حيـن أن «الحديـث» في حـد ذاتــه يشيــر إلى شـيءٍ مـا «متصـلٍ بالحاضـر»، فإن حركــات الحداثــة وما بعـد الحداثــة تُفهَــمُ على أنهـا مشاريعُ ثقافيــة أو على شكل مجموعــةٍ مـن وجهات النظر. وهي تُستخــدمُ في النظريــة النقدية لتشير الى نقطــة انطلاق أعمال الأدب  والدراما والعمارة والسينما والصحافة والتصميم، وكذلك في مجال التسويق والأعمال التجارية، وفي تفسير التاريخ والقانون والثقافة والدين في وقتٍ متأخرٍ من أواخر القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين.
في واحدٍ من الأعمال الأصيلةِ في هذا الموضوع، وصف الفيلسوف والناقد الأدبي  فريدريك جيمسون  ما بعد الحداثة بأنها «المنطق الثقافي المهيمن للرأسمالية المتأخرة»، التي هي، الممارسات الثقافية المترابطة ترابطا عضويا مع العنصر الاقتصادي والتاريخي لما بعد الحداثة («الرأسمالية المتأخرة»، وهي الفترة التي تسمى أحيانا الرأسمالية المالية، أو ما بعد الثورة الصناعية، أو الرأسمالية الاستهلاكية، أو العولمة، وغيرها). في هذا الفهم إذن، يمكن أن ننظر إلى هيمنة فترةِ ما بعد الحداثة على أنها بدأت في وقتٍ مبكرٍ من الحرب الباردة (أو، لإعادة الصياغة، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية) واستمرت حتى الوقت الحاضر.
يمكن فهم ما بعد الحداثة أيضا على أنها ردُ فعلٍ على الحداثة. في أعقاب الدمار الذي لحق بالفاشية، والحرب العالمية الثانية، والمحرقة، أصبح العديد من المثقفين والفنانين في أوروبا لا يثقون  بالحداثة السياسية والاقتصادية والمشروع الجمالي برمته.  في حين أن الحداثة كانت ترتبط في كثيرٍ من الأحيان بالهوية والوحدة والسلطة واليقين، وما إلى ذلك.
صاغ مصطلح ما بعد الحديث (post-modern) لأول مرة الرسام الإنكليزي جون وتكنز تشابمان زهاء عام 1870 لوصف ما سمَّاه بـ «الرسم ما بعد الحديث»؛ وهو أسلوب الرسم الذي كان يُفترَض أنه أكثر طليعية من الانطباعية الفرنسية (Best and Kellner, 1991). ثم استعمِل المصطلح لوصف «رجال ما بعد الحداثة» (1917)، «ما بعد الحداثة» (في الثلاثينيات، (Hassan, 1987)، «البيت ما بعد الحديث» (1949)، «العصر ما بعد الحديث» (1946)، «عالم ما بعد الحداثة» (Best and Kellner, 1991)، «حقبة ما بعد الحداثة» (1959)، «العقل ما بعد الحديث» (1961)؛ (Best and Kellner, 1991)، «أدب ما بعد الحداثة» (1965)، و«ما بعد الحداثيين» (1966)[2].
توحي طرق الفهم المختلفة لـ»ما بعد الحداثة» بأشياء مختلفة اعتماداً على السياق والخطاب. كما أن المصطلح يدل دلالات مختلفة استناداً إلى ما يُستعمَل للإشارة إليه وهل هو نصوص ثقافية أم حقبة تاريخية أم نمط نظرية ثقافية. لذلك، ربما تتوفر أفضل طريقة لفهم معاني المصطلح المغايرة في التمييز بين المصطلحات المتداخلة التي تجسدها ما بعد الحداثية: ما بعد الحداثة (postmodernity)، وثقافة ما بعد الحداثة، ونظرية ما بعد الحداثة.
وغالباً ما تستخدم «ما بعد الحداثة» كمصطلح تاريخي للدلالة على الحقبة التي أعقبت الحداثة، التي بدأت في عصر التنوير وانتهت في الستينيات (Jameson, 1984)، أو السبعينيات (Harvey, 1990). وما تشترك به هذه التفسيرات هو إصرارها على أن التغيرات الثقافية والاجتماعية التي أنتجت ما بعد الحداثة ترتبط ارتباطاً لا ينفصم بالتغيرات في الرأسمالية: من التركيز الأساسي على الإنتاج إلى الاستهلاك (Bell, 1976)؛ وتغير تاريخي في الغرب من مجتمعات قائمة على إنتاج الأشياء إلى مجتمع قائم على إنتاج المعلومات و«المظاهر» (Baudrillard, 2000)؛ من رأسمالية «منظمة» حديثة إلى رأسمالية «مفككة» ما بعد حديثة (Lash and Urry, 1987)؛ من القومي إلى العالمي، الذي حقق منعطف «الضغط الزماني المكاني»، الذي تولد عن التسارع في كل من السفر والاتصالات البعيدة.
يمكن تحديد تاريخ الرواج الأكاديمي للمصطلح بنشر كتاب جان فرانسوا ليوتار "الوضع ما بعد الحديث" (Lyotard, 1984). في هذه النبذة المؤثرة، يُقدَّم الوضع ما بعد الحديث بوصفه أزمة في منزلة المعرفة في المجتمعات الغربية. ويجد هذا التعبير عنه «بوصفه تشكيكاً بالحكايات والسرود الشارحة» (p. xxiv)، وينتج في المقابل «زوال الجهاز السردي الشارح للمشروعية»، أي الانهيار المفترض المعاصر أو الرفض الواسع لجميع الأطر المهيمنة والتشميلية («الحكايات الشارحة»)، التي تريد أن تروي القصص الكلية عن العالم الذي نعيش فيه.
نّ الكثير من الاضطراب المحيق باستعمال كلمة مابعد الحداثة يعود إلى دمج المفهوم الثقافي لما بعد الحداثيّة (وعلاقتها الملازمة بالحداثويّة). وقد عرِّفت ما بعد الحداثة بأشكال مختلفة بتعابير العلاقة بين الخطاب الفكري وخطاب الدولة، على أنّها شرط تحدِّده سخرية متشائمة شاملة مُسْهَبة، وحسٌّ خائف من الواقعيّة المتطرّفة والصورة الزائفة. وإن التناقضات المتجلّية بين بعض تسميات ما بعد الحداثة هذه لا تفاجئ من يستمتع بالتعميمات عن العصر الحاضر. ومع ذلك، هناك كثيرون يرون أن ما بعد الحداثة تشتمل على نقدٍ للمذهب الإنساني (Humanism)، والمذهب الوضعي (Positivism)، وعلى فحص لعلاقتهما بأفكارنا عن الذاتيّة[3].
لقد وُظِّف تعبير ما بعد الحداثة في الدوائر الفلسفيّة لتحديد المواقف النظريّة الواضح تنوّعها، مثل تحديّات ديريدا لميتافيزياء الحاضر الغربيّة، وتحريّات فوكو الخاصّة بتورّطات الخطاب، والمعرفة، والسلطة، و«الفكر الضعيف» القوي المقنع المتناقض لفاتيمو، وتساؤل ليوتار حول صحّة الميتاسرديّات (Metanarratives) العائدة إلى المشروعيّة والانعتاق. وهذه كلّها تشترك، وبالمعنى الأوسع للكلمات، بنظرة إلى الخطاب اللغوي في حسبانه كموضوع إشكالي، والأنظمة المنظِّمة موضع شك. ويبدو أن الجدل حول ما بعد الحداثة - والخلط بينها وبين ما بعد الحداثيّة- قد ابتدأ بتبادل الرأي التراشقي حول موضوع الحداثة بين يورغن هابرماس (Jurgen Habermas) وجان فرانسوا ليوتار. الفيلسوفان وافقا على أن الحداثة لا يمكن فصلها عن أفكار الوحدة والعالميّة، أو ما سمَّاه ليوتار بالميتاسرديّة (Metanarratives). وقد اهتمّ هابرماس بأن يبرهن على أن مشروع الحداثة، المتجذّر في سياق عقليّة عصر التنوير (Enlightenment)، لم يكتمل بعد وهو يتطلّب إكمالاً، فردّ ليوتار بوجهة نظر مؤدّاها أن الحداثة قضى عليها التاريخ، وهو التاريخ الذي كان نموذجه المأسوي معسكر الاعتقال النازي، والذي تمثّلت قوّته المعارضة للمشروعيّة، والنهائيّة في «العلم التقني» الرأسمالي الذي غيّر، وإلى الأبد، تصوّراتنا عن المعرفة. لذلك، كانت ما بعد الحداثة، بالنسبة إلى ليوتار متميّزة بخلوِّها من القصص الكلية العظمى، وباحتوائها على القصص الصغيرة والمتعدِّدة التي لا تبغي استقراراً أو مشروعيّة عالميين.
خضع تحدّي ليوتار لتعريف هابرماس لما بعد الحداثيّ لفحص جدّي أيضاً. ففي ملاحظاته التمهيديّة للترجمة الإنكليزيّة لكتاب حالة ما بعد الحداثة (La Condition Postmoderne)، يحاول جايمسون أن ينقذ فكرة الميتاسرديّة (Metanarratives) من هجوم ليوتار على هابرماس، والسبب هو أن فكرته الخاصّة عن ما بعد الحداثة هي من نوع الميتاسرديّات، بصورة جزئيّة، وهي قائمة على تحديد الفترات الزمنيّة الثقافيّة لماندل (Mandel). وبالتعبير الأكثر تبسيطاً نقول: إن رأسماليّة السوق ولَّدت المذهب الواقعي، والمذهب الرأسمالي الاحتكاري ولَّد ما بعد الحداثيّة. إن الانزلاق من ما بعد الحداثة إلى مابعد الحداثيّة ثابتٌ ومتعمَّدٌ في كتاب جايمسون: فبالنسبة إليه، الميتاسرديّات هي «المنطق الثقافي للرأسماليّة المتأخّرة»، فهي تكرّر، وتعزِّز وتزيد من شدّة الآثار الاقتصاديّة-الاجتماعيّة «المستهجَنة والمشجوبة» (85) لما بعد الحداثة. وقد يكون الأمر كذلك. غير أني أريد أن أبرهن أنها تنتقد تلك الآثار أيضاً من غير التظاهر بأنّها قادرة على العمل خارجها.

مابعد الاستعمار
يدلُّ مصطلح ما بعد الاستعمار على مرحلة التحرر الوطني التي شهدها القرن العشرون الماضي. بعض الباحثين الغربيين يقولون إن لهذا المصطلح بعدين: يتعلّق الأوّل بكون «ما بعد الاستعماريّة»، مفهومة بمعناها الجيو- سياسي الأكثر اعتياديّة، إمّا أن تشير إلى فترة تأتي بعد الاستعماريّة، أو إلى فترة ما زالت تسمها بعمق تقاليد الاستعماريّة. ويتّصل الثاني بالعلاقات بين ما بعد الاستعماريّة وأنواع «البعد» الأخرى - على سبيل المثال: ما بعد الحداثة وما بعد البنيويّة- التي غالباً ما تُستخدم لوصف الفكر والمجتمع المعاصرين. وكثيراً ما تندمج هذه المصطلحات في الدراسة الأكاديميّة الغربيّة، حيث غالباً ما كان يُنظَر إلى النظريّة ما بعد الاستعماريّة والدراسات ما بعد الاستعماريّة باعتبارهما بنيويتين بالضرورة، ويفسَّر الوضع ما بعد الاستعماري كمكوِّن مهم للوضع الأعم لما بعد الحداثة[4]. وهكذا فإن مصطلح «ما بعد الاستعماريّة» يذكرنا بأن الاستعماريّة قد أعادت صنع العالم، وما زالت تفعل هذا، عن طريق تشكيل الاستجابات ضدّها. فلا «أوروبا» ولا «العالم الثالث»، ولا «المستعمِرون» ولا «المستعمَرون» كان يمكن أن يوجدوا من دون تاريخ الاستعماريّة. وقد امتدّت آثارها امتداداً واسعاً وتموهت -فكانت شاملة وخفيّة في آن- لأن الطرق التي تنكشف فيها المقولات الثقافيّة للعالم الحديث قد أُعيد تشكيلها من خلال المواجهات الاستعماريّة. فالاهتمامات بالقوميّة، والإثنية، وآثار الهجرة الكونيّة، والمضامين الانفجاريّة للتباينات النسقيّة في الثروة والصحّة والاستقرار السياسي بين الشمال والجنوب، هي كلّها جزء من الوضع ما بعد الاستعماري. والنقاشات حول المدارس غير المختلطة، والممارسات العائليّة والجنسيّة، والحجاب وضوابط دينيّة أخرى، سواء أفي أوروبا وأميركا الشماليّة أم في البلدان المستعمَرة سابقاً، تستشير كلّها التراثات التاريخيّة عن الاستعماريّة (Stoler, 1995).
ورغم النصر النهائي لنزع الاستعمار، بوجه ما كان معارضة أمبرياليّة توسعيّة، فمن الواضح أن الاستعماريّة لم تختفِ (Mamdani, 1996). وظلّت تلازم الحاضر لأن الهويّات والأدوار التي أُوجدت للاحتفاظ بها ما زالت حيّة فقط - بل اكتسبت حياة وقوّة جديدتين، لأسباب لا تخلو من صلة بالسلطة الأوروبيّة المتواصلة- بل لأن انتهاء «الحرب الباردة» قد أفضى إلى إيجاد فرص توسعيّة جديدة، وهواجس جديدة، ومخاطر جديدة. وليس صدام الحضارات المزعوم الذي تعتمد عليه الأمبراطوريّة الأميركيّة الجديدة في مطامحها السياسيّة والاقتصاديّة وتبريرها الثقافي سوى صورة أخرى من صور الاستعماريّة. وفي هذا الوقت بالتحديد، أصبحت الرهانات أعلى، ممّا جعل الدراسات ما بعد الاستعماريّة أولويّة عاجلة أهم ممّا سبق.
يُنظَر إلى الدراسات ما بعد الاستعماريّة في العادة بوصفها قد تكوّنت مع الانتقاد الذي افتتحه إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق (Orientalism)، (Said, 1978). وقد صارت المعتقدات العامّة في حجّته معروفة جيّداً الآن: فالتواريخ الاستعماريّة -أي العلاقات الهيمنة التاريخيّة بين «الشرق» و«الغرب»- أنتجت، وكانت هي بدورها من نتاج عدد من الخطابات تمّ فيها إضفاء الصفة الجوهريّة المطلقة على «آخر» الاستعماري، ووصفه بالدونية والتأنيث، ومن ثمّ تطبيعه باعتباره جاهزاً دائماً لأن يُستعمَر. فشُكِّل «الشرق» بصفته شيئاً تنبغي معرفته، والحقيقة لا يُعرف إلّا من خلال، المجازات اللغويّة التي أعادت إنتاج علاقات الهيمنة، بل صار يُنظر إلى الهيمنة باستمرار باعتبارها الشرط الطبيعي للعالم وليست نتيجة قوى جيو-سياسيّة بذاتها. وهكذا كشف دارسو الاستعماريّة عن تعقيد الأشكال الأدبيّة، والفيلولوجيّة، والخرائطيّة، والتاريخيّة، والأنثروبولوجيّة في التمثيل في مشروع الحكم الاستعماري. وقد قامت الطرق التي تمّ بها تشكيل مقولات المعرفة من خلال سياق العلاقات الاستعماريّة وفيها بالكثير من عمل الهيمنة الاستعماريّة.

ما بعد الليبرالية أو الليبرالية الجديدة Neo Liberalism
شاع مصلح ما بعد الليبرالية بصيغة النيوليبرالية أو الليبرالية الجديدة في خلال تسعينيات القرن العشرين الماضي، أي مع ظهور ما يسمَّى بـ العولمة بعد سقوط النظام الاشتراكي وانفراد النظام الرأسمالي بقيادة العالم.
يشير مصطلح «النيوليبرالية/الليبرالية الجديدة» إلى عدة أشياء مختلفة، ولكن ربما يكون مفهومًا على أفضل وجه في سياق أنه حركة فكرية وسياسية تسعى إلى إعادة اختراع الليبرالية في السياق الرأسمالي في القرن العشرين ومن النظرة الأولى، فسنجد بأن هذه حالة بسيطة من حالات التثليث الخطابي: فالحزب المعروف بأنه أقل الأحزاب حُبًا للمهاجرين والهجرة، يستطيع الآن أن يتكلم بنبرة ليبرالية، ويعطي مظهرًا شاعريًا للسياسات المناهضة للمهاجرين. ولكن الأولوية المتعلقة بـ»نظام النقاط» تشير إلى أن هناك شيئًا أكثر أهمية هنا، حيث يرتكز الخطاب الليبرالي لحزب والتباين بين هذه الليبرالية «الجديدة» وسَلَفيها الليبرالية السياسية والاقتصادية يمكن تبسيطه إلى ثلاثة اختلافات[5]:
أولًا، لم تسعَ الليبرالية الجديدة إلى بناء دولة ضعيفة؛ بل هي فلسفة سياسية كانت تنظر إلى الدولة كطريقة لإعادة تشكيل المجتمع حول المثل العليا. بذل ميشيل فوكو الكثير من الجهد ليؤكد على أنها ليست شكلًا آخر من أشكال اقتصاد عدم التدخل، بل تمنح الدولة دورًا رئيسيًا في تشكيل تعريف الحرية الاقتصادية وتثبيتهِ.
ثانيًا، تتخلى الليبرالية الجديدة عن الخوف الليبرالي من الفصل بين الحياة السياسية والاقتصادية. في نهاية المطاف، كل شيء يمكن معالجته من الناحية الاقتصادية، بما في ذلك الدولة والقانون والديمقراطية والقيادة والمجتمع المدني. وتعامل المثل والقيم السياسية على أنها خطرة ويمكن أن تؤدي إلى الاستبداد. من وجهةٍ نظرٍ ليبرالية جديدة، يكون الوضع أكثر أمنًا إذا ما تم النظر إلى جميع مجالات السلوك الإنساني باعتبارها اقتصادية وإعادة تشكيل الأماكن السياسية أو الثقافية حول نموذج السوق.
ثالثا، تعامل الليبرالية الجديدة التنافس باعتباره أهم قيم الرأسمالية. وهناك سبب بسيط لذلك: من خلال عمليات المنافسة، يصبح بإمكاننا معرفة من هو وما هو الشيء القيّم. وكما قال فريدريش هايك: المنافسة «عملية اكتشاف». في غياب المنافسة المنظمة، ستكون هناك وجهة نظر واحدة ومحسورة ومفروضة من قبل المثقفين والمخططين (مشكلة الاشتراكية). أو سيكون هناك مُرّشحون يتبادلون الصراخ وكلهم يسعون إلى إغراق وقتل بعضهم البعض (مشكلة الديمقراطية). ولكن هذا يثير الضرورة الملحة للمنافسات التي يجري تخطيطها وإداراتها جيدًا، وبالتالي تظهر هنا أهمية المدققين والتصنيفات والمدربين والتقنيات تحفيزية والاستعارات الرياضية في الثقافة المعاصرة[6].
النيوليبرالية بتعبير أكثر شمولاً هي فكر آيديولوجي مبني على الليبرالية الاقتصادية التي هي المكوّن الاقتصادي لليبرالية الكلاسيكية والذي يمثل تأييد الرأسمالية المطلقة وعدم تدخل الدولة في الاقتصاد.
يشير تعبير «النيوليبرالية» إلى تبني سياسة اقتصادية تقلل من دور الدولة وتزيد من دور القطاع الخاص قدر المستطاع، والسعى  لتحويل السيطرة على الاقتصاد من الحكومة إلى القطاع الخاص بدعوى أن ذلك يزيد من كفاءة الحكومة ويحسن الحالة الاقتصادية للبلد.
يرمز هذا التعبير عادة إلى السياسات الرأسمالية المطلقة، وتأييد اقتصاد عدم التدخل وتقليص القطاع العام إلى أدنى حد، والسماح بأقصى حرية في السوق، ويستخدمه بعض اليساريين كتعبير ازدرائي لما قد يعتبره بعضهم خطة لنشر الرأسمالية الأميركية في العالم. أما بعض المحافظين والليبرتاريين  فيعتبرونه خاصا باليساريين يستخدمونه لتشويه فكرة السوق الحرة.
وللفظ «النيوليبرالية» مدلول قديم انقرض استعماله حاليا، وهو الذي أطلقه الاقتصادي الألماني ألكسندر روستوف على الليبرالية الاشتراكية وكان أول من اقترح الشكل الألماني لهذا التوجه الاقتصادي.

ما بعد الأخلاق Meta-ethics
هذا المصطلح هو فرع من علم الأخلاق ethics يدرس البناء المنطقي للغة الأخلاقية، ولدلالة المصطلحات والأحكام الأخلاقية. وهو علم يعلو على الأخلاق المعيارية ويسبقها، فلا يهتم بوضع معايير أخلاقية كما هي الحال - على سبيل المثال - عند كانْط وجون ستيورات مِلْ، بل يسعى إلى نقد وتحليل المعايير والمفاهيم الأخلاقية التي وضعها الفلاسفة فعلياً في نظرياتهم، وبذلك تكون علاقة علم ما بعد الأخلاق بالنظريات الأخلاقية كعلاقة «فلسفة العلم» بالنظريات العلمية. وقد أدخل الوضعيون المناطقة هذا المصطلح في علم الأخلاق، تشبيهاً بعلم ما بعد الطبيعة، ولتمييز الأخلاق الفلسفية الخالصة من الأخلاق المعيارية.
ويعد مور مؤسس علم ما بعد الأخلاق ومدارس التحليل اللغوي المنطقي في الأخلاق، فقد انحرف بالأخلاق عن موضوعها الأصل وهو السلوك الإنساني إلى الاهتمام باللغة الأخلاقية، وهذا التغيير الذي طرأ على موضوع الأخلاق كان نتيجة طبيعية لتأثير مور بالأخلاق الإنكليزية. وقد وصف هذا التحول بأنه انتقال من «الأخلاق» إلى «ما بعد الأخلاق»، كمحاولة لتعريف أو وصف الأسلوب الذي يستخدم بها الأحكام الخلقية فعلياً، وذلك عن طريق وصف وظيفة المحمولات الأخلاقية.
يتألف ما بعد الأخلاق كما ترى ليليان آيكن من العبارات التي تهتم بالمعنى، أو بوظيفة حدود مثل (الصواب، الخير)، فهو لايتضمن عبارات خلقية إنما عبارات من قبيل «أن الخير يعني الرغبة»، أو أن الصواب «يشير إلى كيفية غير طبيعية»، أو أن «الينبغية تتضمن القدرة والاستطاعة»، ومن ثم فهو لا يشمل أي نتيجة خلقية، ولن يوجد حكم خلقي يستلزم ارتباطاً به. وقد رأى بعضهم أنه تم الاستعاضة عن المنطق بالأخلاق، وحلّ البحث في المكانة المنطقية للقضايا والحدود الأخلاقية مكان البحث  العقلي في «ماذا تكون الأشياء الخيرة»، واستُبعدت الأخلاق بمعنى دراسة القيم «ما بعد الأخلاق» والمعايير، وتم ردها إلى كونها فرعاً من «اللغويات»[7].

ما بعد الإنطباعية  Post-Impressionism
حركة فنية بدأت في نهاية القرن التاسع عشر وتعتبر امتداداً للانطباعية وتشترك معها بالألوان المشرقة الواضحة، وبضربات الفرشاة الثقيلة الظاهرة، واختيار موضوعات الرسم من الحياة الواقعية، لكنها تحيد عنها بميلها لإظهار الاشكال الهندسية للأشياء بوضوح (مثلث - مربع)، واستخدام ألوان غير طبيعية أو اعتباطية لها، وابتعدت عن التقييد المتوارث في الانطباعية. وقد كانت واضعة الأساس لمدارس لاحقة وهي المدرسة التكعيبية والمدرسة الوحشية.
 أطلق عليها هذا الاسم الرسام البريطاني (روجي فيديرير) في بداية القرن العشرين بعد وفاة معظم رسامي هذه الحركة لوصف التطور الحاصل في الفن بعد الرسام والمهندس بيان الباشا (مؤسس الانطباعية) في أسلوب عدد من الرسامين الفرنسيين مثل بول سيزان، بول غوغان، والرسام الهولندي فان جوخ وآخرين. وقد أطلق عليه هذا الاسم في المعرض الذي أقامه في لندن لمجموعة من الرسامين الشباب قال فيه «في سبيل الإقناع كان من الضروري إطلاق مسمى على هؤلاء الرسامين، وقد اخترت أن يكون الاسم مبهما غير واضح لذا سأطلق عليهم «ما بعد الانطباعية»، فقط لتحديد موقعهم الزمني بالنسبة إلى الحركة الانطباعية «أو البيانيّة».

ما بعد البنيوية Post- structuralism
بدأت البنيوية بالانهيار في أوائل السبعينيات من القرن العشرين، وظهر مكانها في فرنسة ما اصطلح على تسميته ما بعد البنيوية. وكان رولان بارت وجاك ديريدا أهم فلاسفتها. وكان بارت قد تحول عن البنيوية إلى ما بعد البنيوية، وانتقل في دراسته من أهمية الكاتب في تركيب النص الأدبي باعتماد معايير وبنى جاهزة الصنع إلى دور قارئ النص في توليد معانٍ جديدة لا نهاية لها. وجاء هذا في مقالته «موت كاتب» (1968) التي أعلن فيها استقلالية النص وحصانته ضد أي تقييد له بمعايير أو بحدود مضمونة أو بحدود ما قصده الكاتب منه، فيصبح القارئ بهذا هو المنتج للنص ولمعان متجددة فيه. يؤكد بارت في كتابه «متعة النص» (1975) أنه في غياب الكاتب تصبح عملية إيجاد تأويلات للنص عملية عبثية لا نهاية لها، لكنها ممتعة، وتأتي المتعة من امتلاك النص لإمكانات «اللعب»  بالمعاني. ولكن هذا لا يعني تخلياً فوضوياً عن كل القيود، وإنما تفكيكاً وهدماً منظمين لإنتاج معان أخرى، وكأن القارئ يعيد كتابة النص، فيصبح منتجاً له وليس مستهلكاً، وهذا أساس المذهب التفكيكي الذي طوره ديريدا، وهو أساس «ما بعد البنيوية».

ما بعد البنيوية
منشأ "ما بعد البنيوية" هو البيئة الفرنسية الأكاديمية، وقد جرى تداوله على نطاق أوروبا وأميركا الشمالية في النصف الثاني من القرن العشرين. أما الهدف من إطلاقه في الساحة الثقافية الغربية فهو للدلالة على أعمال غير متجانسة لمفكرين فرنسيين في مجال الفن وعلم الإجتماع والأدب. تنفي حركة ما بعد البنيوية إمكانية إجراء دراسة حقيقية للإنسان أو الطبيعة البشرية، لكن يمكن تحليلها من خلال سرد التطور التاريخي أي أن (التطور التدريجي من الخرافة إلى السببية كان ضرورياً للوجود الإنساني).
شكلت ما بعد البنيوية امتداداً وتجاوزاً للبنيوية التي ظهرت في أوائل النصف الثاني من القرن العشرين والتي رأت بأن الثقافة الإنسانية يمكن فهمها عن طريق الوسائل البنيوية على غرار اللغة (بنيوية اللغة) والتي يمكن أن تميز بين تنظيم الواقع وتنظيم الأفكار والخيال. وتختلف طرق نقد البنيوية بين أتباع ما بعد البنيوية على الرغم من الأسس المشتركة في ما بينهم على رفض البنى الذاتية التي تفرضها البنيوية، ومعارضة تشكُّل تلك البنى. ومن أهم مفكري ما بعد البنيوية نذكر: ميشيل فوكو وجاك ديريدا وجيل دولوز وجوديث بوتلر وجوليا كريستيفا.
ونلفت تعتبر هذه الحركة قريبة الى حركة ما بعد الحداثة بل هي أحد أبرز مكوناتها الفكرية.

ما بعد الأيديولوجيا
نشأ مصطلح ما بعد الأيديولوجيا في زحمة السجال الذي ساد المجتمعات الغربية بعد سقوط الشيوعية وصعود النيوليبرالية في نهاية القرن العشرين. الموجة الأولى التي قادت الحملة على الأيديولوجيا جاءت في كتابات عدد من المفكرين والأكاديميين الليبراليين في أميركا، وكانت أطروحة نهاية التاريخ التي قدمها فرنسيس فوكوياما والتي ذاع صيتها في بداية تسعينيات القرن الماضي. من أبرز مظاهر هذه الموجة أنها ركزت على موت الأيديولوجيا معتبرةً ان الليبرالية هي البديل الذي سيحكم القيم العالمية في المستقبل. السؤال الأساسي الذي صار يطرح في ما بعد هو التالي: أين تقف الأيديولوجيات في بداية القرن الحادي والعشرين، وأين يقف البحث فيها؟ وما معنى أن لا يكون هذا العصر عصر ما بعد الأيديولوجيا؟ ولماذا يمكننا برهنة استحالة عصور ما بعد الأيديولوجيا بالضبط كما نبرهن استحالة وجود عصور ما بعد السياسة؟ وكيف يمكننا أن نوضح أن الأيديولوجيات ليست تصورات لعوالم بديلة، مغرية أو مرعبة، بل هي تفسيرا خيالي للعوالم السياسية التي نعايشها حتى عندما نكون من نقّاد هذه العوالم؟ وكيف يمكننا أن نؤكّد بدرجة كافية أن للإنسان الحاس والعاقل دائماً تفسيراً خيالياً للعالم السياسي على كل مستوى من مستويات تطوّره؟ ببساطة نقول: للأسف، إن الشخص اللَّا أيديولوجي، لم يعد موجوداً.
يجدر القول أن التيارات الغربية التي تتداول مصطلح عصر ما بعد الأيديولوجيا تطرح نظريتين متنافستين جانباً.
النظريةالأولى، أن الأيديولوجيات ـ للمرة الثانية، وعلى نحو غريب، خلال خمسين عاماً ـ لم تعد موجودة. والثانية، أن أيديولوجية واحدة، هي الليبرالية، تغلّبت على غيرها من الأيديولوجيات. الأول، الرؤية الألفية millenarian تعاني ضعفاً في صياغة هذا المفهوم التي تجعل كل الأيديولوجيات محجوبة، باستثناء ما هو نظري وشديد التماسك. هذا بالطبع يساعد على نحو مفيد إلهامات معظم الأيديولوجيات على بلوغ منزلة «طبيعية». ويجب على أنصارها  الملتزمين أن يرحّبوا بانتهاء هذه الأسطورةـ فهذا يجعل عملهم أسهل بكثير من خلال إنعاش، وهمٍ يمكن في ظلّه أن يكملوا التبشير بعقيدتهم.
النظرية الثانية تعاني وجهة نظر غائية، ومن إيمان بدول مثالية معروضة بشكل نموذجي في اليوتوبيات، لا الأيديولوجيات. فإذا كانت الليبرالية منتصرة فعلاً، وإذا كانت هي بطل العالم بلا منازع، إذاً فهي أندر الأشياء على الإطلاق لأنها يوتوبيا متحقّقة. إذ هناك منهجان يمكن الزعم من خلالهما أن اليوتوبيات ممكنة التحقّق. يمكن إيجاد واحد منهما فعلاً في فصيلة الليبراليات، وتحديداً في أنه ميدان الليبرالية الفلسفية. حيث يؤمن الفلاسفة الليبراليون تماماً بالتقاء لأعضاء المجتمع على نقطة أخلاقية متّفق عليها، وهي التي يعتبرونها عادة متاخمة لليبرالية تسيطر فيها الحرية والعدالة والإنصاف. هذا الالتقاء هو نتيجة لدراسة الاحتكام العقلي للحدوسات غير المرهونة. حيث تُثبت القواعد الأساسية لواحد منها وتجري إزالة الباقي من الأجندة السياسية[8].
إن عالم الأيديولوجيات هو سلسلة مستمرة من التحدّيات لقصور فصائلها الكبرى القائمة، على عكس، المحاولة الصناعية لكبح عملية التغير القاسي غير المنظم التي تخضع لها الأفكار. وعندما تكون الحدود حاضرة بقوة في البرنامج السياسي مرة ثانية مثل: الحدود ضد الهجرات الجماعية إلى أوروبا، والحدود ضد انتشار الإرهاب ورعاته السياسيين، والحدود ضد عدم الاستقرار الاقتصادي الذي يسبّبه نجاح الدولة العادلة نفسه مع مصاحبتها لمناخ التوقّعات العليا للمواطنين ـ الأنظمة الأيديولوجية ترتدّ إلى إفراط في التبسيط مثل «صراع الحضارات» أو «الطريق الثالث» وتتراجع إلى حدودها الخاصّة مهما كانت عابرة.

ما بعد العلمانيّة
تشير عبارة «ما بعد العلمانية» إلى مصطلح حديث الولادة في المجتمع الثقافي الغربي. من خلال المطارحات التي جرت حوله في خلال العقد الأول من القرن الجاري، بدا أن هذا المصطلح لا يزال في طوره الابتدائي. بل يجوز القول، أن جلَّ ما حفلت بها حلقات التفكير حول خصائص وسمات منظومة ما بعد الحداثة، كانت شهدت غياباً لافتاً لهذه العبارة. ربما لهذا السبب ـ وأسباب أخرى سنأتي إليها في سياق هذه الدراسة - لم تتحول «ما بعد العلمانية» إلى مفهومٍ تامِّ القوام[9].
وعلى الرغم من أن النقاش حولها لا يزال يقتصر على حلقات ضيّقة من المفكّرين وعلماء الاجتماع في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية إلا أن شأنها شأن سواها من المفاهيم التي أدخلتها الحداثة الفائضة في سجل «المابعديات»، فقد وقعت ما بعد العلمانية في مأزقٍ دلاليٍّ مصحوبٍ بارتباكٍ اصطلاحيٍّ شديدٍ. لقد جرى حملُها كنظائرها السابقات على غير محملٍ وشرحٍ وقصدٍ. تارةً على مستوى دلالة اللفظ، وطوراً على مستوى دلالاة المعنى والمحتوى. ولكن في أغلب الأحيان شاع حملُها على محمل النهايات؛ أيْ نهاية ظاهرةٍ ثقافيةٍ وولادة أخرى على أنقاضها. وهذا ليس بمستغربٍ ما دام الحديث عن أفول وقيامة المفاهيم هو أدنى إلى تقليدٍ راسخٍ في حياة الغرب وثقافته. وتلك حالةٌ لم يتوقف سَيْلُها منذ أول نقدٍ لعصر الأنوار جرت وقائعه مع المنعطف الميتافيزيقي، الذي قاده إيمانويل كانط قبل نحو قرنين كاملين. غير أن شغف العقل الحداثي بختم المفاهيم لم يكن لرغبةٍ جموحةٍ ببدءٍ جديدٍ، بقدر ما افترضته تطورات الحضارة الغربية الحديثة وتحولاتها. هذا يعني أن ما بعد العلمانية -كمثل ما بعد الحداثة من قبلها- تومئ نحو انعطافٍ جديدٍ في مشاغل الفكر. ولأنّ التاريخ امتدادٌ جوهريٌّ من الماضي إلى الحاضر المستمر، فكلّ إعلانٍ عن نهاية حقبةٍ ما، هو في الواقع إنباءٌ عن بَدءٍ لأحقابٍ تاليةٍ ليس بالضرورة أن يُحكم عما سبقها بالبطلان. ربما لذلك جاء تنظير هايدغر حول نهاية الميتافيزيقا لا ليطيح بها، وإنما ليؤكد ضرورتها ووجوبها. فالانسحاب والحضور- كما يقول- هما فعلٌ واحدٌ وليسا فعلين متناقضين يميتُ أحدهما الآخر. ذلك بأن المسرى الامتدادي بين الماقبل والمابعد لا ينشط على سياقٍ آليٍّ من النقطة ألف إلى النقطة ياء، بل هو فعاليّةٌ ساريةٌ في جوهر الحركة التاريخية التي تتأبى الانقطاع وترفض الفراغ.
تبين المعطيات الحديثة أن المراجع التأسيسية لمصطلح «ما بعد العلمانية» تنحصر في أعمالٍ بحثيةٍ صدرت بعد العام 2010. وهذه الأعمال هي حصيلة مؤتمراتٍ خُصِّصت لتظهير هذه القضية. في مقدم الأفكار والنظريات التي استندت إليها تلك الأعمال هي ما اشتغل عليه عددٌ وازنٌ من المفكرين وعلماء الاجتماع في مقدمهم: الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، والكندي تشارلز تايلور، وعالم الاجتماع الأميركي بيتر بيرغر، وعالم الانثروبولوجيا من أصل إسباني خوسيه كازانوفا.. إلى هؤلاء جمعٌ آخر من الباحثين في الفلسفة وعلم الاجتماع السياسي ممن أسهموا بصورةٍ مباشرةٍ وغير مباشرةٍ في تسييل الكلام على فكرة «ما بعد العلمانية». كان للألماني هابرماس ورفيقه الكندي تايلور على وجه الخصوص مجهودٌ مميّزٌ في التأسيس لنقاشٍ جدّيٍّ بصددها. ومن الأفكار التي شكلت إحدى أبرز خطوط الجاذبية في هذا النقاش، حديثهما عن عالم ما بعد علماني أخذت معالمه تظهر في المجتمعات الحديثة. وهو الأمر الذي ولَّد احتداماً فكريّاً غير مألوفٍ مؤدَّاه: أن العصر العلماني قد بلغ منتهاه، وأن العالم الأوروبي المعاصر دخل في واقعٍ جديدٍ لم يعد فيه الكلام على العلمانية بمعناها الكلاسيكي أمراً جائزاً.
أبرز التعاريف المتداولة حول «ما بعد العلمانية» ذاك الذي يعني وصول العلمانية إلى نهايتها أو اقترابها من حتفها على أقل تقدير. وهذا المدعى يثير مشكلة القطع بمدى قربه من الصواب. مع ذلك فإن السؤال الذي يعنينا الجواب عليه في هذا الفصل هو التعرّف على ما تدل عليه عبارة ما بعد العلمانية في ظاهرها اللفظي ومضمونها المعنوي؟.
يستفاد من قراءة أولية لبعض تنظيرات عدد من علماء الاجتماع المعاصرين في أوروبا والولايات المتحدة المَيْل إلى ترجيح معنى التواصل بين طورين تاريخيين للعلمانية: طورٌ بلغ ذروته وخُتِم، وطورٌ يتهيَّأ للبدء. فالختم هنا يدلّ على نهاية حقبةٍ أدت العلمنة في خلالها مجمل إجراءاتها، وصار عليها أن تتكيّف مع ما يناسب شروط الزمن الذي حلّت فيه. وأما البدء فيدل على حركةٍ نشطةٍ من المراجعات والنقد التي سادت الوسط الفكري العلماني، ودعت إلى رؤيةٍ جديدةٍ تتجاوز التناقض الحاد بين الشأنين الديني والدنيوي. والنتيجة التي تنتهي إليها مثل هذه القراءة هي أنّ التوصل إلى تعريفٍ دقيقٍ لعبارة «بعد العلماني» تفترض إلغاء صور التتالي (قبل – بعد) أو (تغيير النظام السائد وإنشاء نظامٍ بديلٍ للحياة). غير أن عالم الاجتماع الأميركي بيتر بيرغر (Peter Berger) ذهب إلى تعريف المصطلح بوصفه حالة وعيٍ معاصرٍ تتعايش فيه الرؤى الكونيّة للدين مع الرؤى العلمانيّة للكون. ورأى أنّ تعايش الرؤى الكونيّة الدينيّة والعلمانيّة، والتطلعات الدينيّة والعلمانية في المجتمع والسياسة، وصِيَغ فهم الديني والعلماني لحياة الفرد يولد توتراتٍ ناجمةٍ من اجتماع النقائض. وحاصل ما توصل إليه بيرغر أن السمة المميزة لفكرة ما بعد العلمانية هي أنّها تعبيرٌ عن حالةٍ من التوتر المستمر[10].
استناداً إلى هذا التعريف الأولي لا تعود ما بعد العلمانية نفياً للعلمانية، وإنما توسيعاً لآفاقها بوسائط وشرائط وأنساقٍ مختلفةٍ. فمن البديهي وفقاً لهذا الفهم، أن تكون الحالة «ما بعد علمانية» حالة استئنافٍ واستمرارٍ أكثر مما تعبر عن قطيعةٍ وانفصالٍ بين شكلين لنظام الحياة في الغرب الحديث. مثل هذه الرؤية يؤيدها الاعتقاد الشائع أن التاريخ الإنساني متكامل الأطوار ولا ينسلخ ما قبله عما يليه انسلاخاً قطعياً. لأن الماقبل امتدادٌ للما بعد وتأسيسٌ له. وعليه فلن تكتسب حقبة ما بعد العلمانية واقعيتها التاريخيّة ما لم تقرّ بنَسَبِها الشرعي للأصل الذي أخرجها إلى الملأ. فلو لم تكن العلمانيّة حاضرةً في التاريخ الحي لحداثة الغرب، ما كان بالإمكان الكلام على ما بعدها. وهذا يدلّ على أنّ ثمة ضرباً من جدليّة الحمل والولادة؛ وأنّ «ما بعد العلمانية» ليست سوى حاصل هذه الجدلية. غير أنّ ما تجدر إليه الملاحظة، أنّ النقاش على فكرة ما بعد العلمانية ما كان لينطلق على النحو الذي تشهده منتديات التفكير لولا أن بلغت العلمنة مشكلات بنيويّة في منظومتها التكوينية[11]. لذا سيكون من البديهي القول أن من سمات ما بعد العلمانية مجاوزة ما قبلها من خلال استحداث قيمٍ جديدةٍ تقتضيها ضرورات الزمان والمكان. ومن صفات المجاوزة وأفعالها أن القائلين بهذه الفكرة يؤسسون رؤاهم على مبدأ الوصل والفصل بين «الما قبل» و«المابعد». تقدم الباحثة النمساوية في علم اجتماع الدين كريستينا شتوكل[12] تعريفاً لمصطلح «بعد العلماني» عبر مدخلين اثنين لفهمه:
الأول أن «بعد العلماني» يعني إزالة العلمانية (de-secularization)، أو أنه ما يلي العلمنة أو ينقلب عليها. وبمعنى أبعد أن تغيّراً في النظام يعيد المجتمع إلى الدين.
أما الثاني فيقوم على أن «بعد العلماني» هو شرطٌ للعصرنة والتعايش بين العلماني والديني، ولأجل بلورة صيغةٍ مكتملةٍ للمفهوم تذهب شتوكل إلى التمييز بين كلمتي «بعد العلمانية» و«إزالة العلمانية» في مسعىً منها إلى توضيح التباين في معنى الكلمتين سعياً منها لفهم مصطلح «ما بعد العلماني» تقول في هذا الصدد: إنّ السابقة «بعد» (post) تدل على هندسةٍ مختلفةٍ كلياً عن كلمة «إزالة»، وبهذا المعنى تدل كلمة «بعد» على المحور الأفقي والعامودي معاً. فالدين في مجتمع «بعد علماني» ليس هو ذاته في مجتمع قبل علماني. وعودة الدين ليست رجوعاً إلى شيءٍ كان من قبل. من هنا، نستنتج التمييز الحاصل بين كلمة «إزالة» وكلمة «بعد»: فالأولى تفهم الدين والحداثة كنقيضين، والثانية تفهمهما كفضاءين منسجمين. من أجل ذلك تقرر شتوكل أنّ نجاح مصطلح «ما بعد العلماني» في الخطاب العام كما في الخطاب الأكاديمي يبدو مرتبطاً في هذا التمييز نفسه.

-----------------------------------
[1]- ناوكي ساكاي وميغان موريس – ضمن كتاب مفاتيح اصطلاحيّة جديدة – ترجمة: سعيد الغانمي –  مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت – 2010 - ص: 523.
[2]- جون ستوري – ضمن كتاب مفاتيح اصطلاحية –  معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع –  إعداد: طوني بينيت –  لورانس غروسيرغ –  وميغان موؤيس – ترجمة: سعيد الغانمي –  المنظمة العربية للترجمة – بيروت – 2010 – ص 577.
[3]-  ليندا هتشيون –  سياسة مابعد الحداثة –  ترجمة: حيدر حاج اسماعيل - المنظمة العربيّة للترجمة – بيروت 2009 ـ ص59.
[4]- نيقولاس ديركس – مفاتيح اصطلاحيّة جديدة – معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع – ترجمة: سعيد الغانمي – المنظمة العربيّة للترجمة – الطبعة الأولى – بيروت 2010 – ص: 573.
[5] - عبد السلام فاروق- ما بعد الليبرالية - عودة الى العصور المظلمة - جريدة الأهرام المسائية – القاهرة - العدد 3961 – تاريخ 10-7-2017.
[6]- أنس سمحان- النيوليبرالية تتنكر للأخلاقيات التقليدية لليبرالية - أنظر: الموقع الألكتروني الخاص للكاتب.
[7] - راجع: الموسوعة الفلسفية.
[8]- راجع: مايكل فريدن Michael Freeden- عصر ما بعد الأيديولوجيا- مجلة «الاستغراب»- العدد السادس.
[9]ـ راجع: محمود حيدر ـ ما بعد العلمانيّة ـ مقاربة تحليليّة نقديّة، لمنشأ المفهوم ومآلاته، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، بيروت ـ النجف الأشرف، ص:9، 2019.
[10]- Peter L. Berger. The Desecularization of the World: Resurgent Religion and World Politics (Washington D. C.Grand Rapids, Mich.: Ethics and Public Policy Center؛ W. B. Eerdmans Pub. Co (1999).
[11]- محمود حيدر ـ ما بعد العلمانية، المصدر نفسه، ص18.
[12] - كريستينا شتوكل – محاولة تعريف بعد العلمانية- من محاضرة لها في أكاديمية العلوم الروسية بموسكو – شباط (فبراير) 2011- راجع «فصلية الاستغراب» العدد الثامن – ربيع 2017.