العدد 22

العدد 22

فهرس المحتويات

المبتدأ

■ التجربة الدينيّة ومنطق العقل الأدنى

 محمود حيدر

الملف

■ التجربة الدينيّة الإسلامية؛ دحض المفهوم الغربي لخصخصة الدين

محمد لكنهاوزن

■ الوحي ليس تجربةً دينيّة

علي رضا قائمي نيا

■ تجربة الله

علي شيرواني

■ الشخصانيّة واختبار المعرفة الإلهيّة

أحمد عبد الحليم عطيّة

■ مصداقيّات التجارب الدينيّة

جابر موسوي راد

بحوث تأصيلية

■ أصالة المنهج في التراث العربي الإسلامي النصّ القرآني مسدّداً

محمد بنعمر

■ أسلمة حقوق الإنسان مبدأ الاستخلاف والتكريم كبديل من التشيّؤ والاستلاب

محمد طي

العالم الإسلامي والغرب

■ البروتستانتيّة والإمبراطوريّة المختارة أميركا بوصفها تجربةّ لاهوتيّة

محمود حيدر

■ الإيمان الصاعد والإلحاد المتهافت قراءة في تجربة وليام كريغ في دحض النزعات الإلحاديّة

صابرين زغلول السيد

■ اللاّهوت الإقصائيّ نقد تجربة هيغل الدينيّة حيال الإسلام

محمود كيشانه

■ التسامح وأبعاده الحضارية في الفلسفة الغربيّة قراءة نقديّة لإشكاليّة العلاقة بين النظريّة والممارسة

عبد الله محمد علي الفلاحي

ترجمة ملخصات المحتوى (بالانكليزية والفرنسية)

 

المبتدأ

التجربة الدينيّة ومنطق العقل الأدنى

قد يكون علينا أن نكون على حذرٍ مقيم، ونحن نتاخم حقلاً معرفياً إشكالياً كالتجربة الدينية. نقول هذا لأربعة دواعٍ نبسطها بالمجمل على التالي: أولها، ما يفترضه المنشأ الجيو- حضاري الغربي الذي ولدت فيه.. ثانيها: نظرية المعرفة التي اعتُمدت من أجل مقاربة الدين كموضوع للبحث،.. وثالثها، الإلتباسات الكثيفة التي ظلَّلت المفهوم، وما ترتب على ذلك من سوء استعماله في الفضاء العربي والإسلامي.. أما رابعها، - وهو الذي يضاعف من الحذر والاحتراز - فمؤدّاه أن التجربة الدينية غالباً ما أُخِذت في مجتمعاتنا العلمية والثقافية كمقولة معيارية محايدة، تماماً كما يحصل في العادة من إسقاطات مفاهيمية في معرض الإنشغال بفلسفة الدين كحقلٍ مستحدثٍ ومثيرٍ للإشكال في ميتافيزيقا الحداثة.

لا تنأى التجربة الدينية إذاً، عن حزمة المفاهيم التي اكتظَّ بها تاريخ الحداثة سحابة ستة قرون متصلة. فلاسفة الغرب الذي اشتغلوا على هذه المقولة لم يفارقوا فضاء النظر إلى الدين بوصفه ظاهرة "أرضانية" منحكِمةً الى ظروف المكان ومقتضيات الأوان. عند هؤلاء،  لا شيء يعوَّل عليه إلا ما ينالُه المنطق الوضعي والعلوم التجريبية بالإحاطة والفهم. من هذا النحو سنرى كيف انبسطت التجربة الدينية كحقل إستقرائي على هَدْيِ حاسوب تفكيري يكتفي بمعاينتها وتنظيرها بما هي ظاهرة سوسيو- تاريخية وحسب.

أكثر ما فعله الظواهريون الغربيون في هذا المضمار، انهم رأوا إلى الدين بما هو الصورة العليا من صور الوعي بالذات، وانه لا يوجد خارج الوعي الإنساني، ولا ينمو ويحيا إلاَّ داخل هذا الوعي. بل ان هؤلاء سيمضون ما هو أبعد ليقولوا أن الإيمان الديني، إنْ هو إلا وعيٌ نائم تلقاء فلسفة التنوير بوصفها وعياً مستيقظاً. وأما النتيجة التي غالباً ما انتهوا إليها بعد لَأيٍ طويل، فهي أن فكرة الإنسان عن الله ليست إلا مرآة تعكس فكرة الإنسان عن نفسه".

 قولٌ كذاك، سوف يختزل ميراث الحداثة كله. وسنرى أن وقائعه الأولى سَرَتْ في تاريخ الحداثة منذ اللحظة التي انقلب فيها "التنوير" على مسيحية القرون الوسطى. وقتذاك طفق التنوير يؤسس لمنقلبٍ آخر لن يكون النظر فيه إلى الإيمان الديني غير تهيؤات نفسانية لأفراد متفرقين. وهكذا جرى راح التعامل مع الدين واختباراته تبعاً لمعايير (الأنسنة المطلقة). لقد كان هذا هو الدافع الذي سيجعل  مؤرخي التنوير الأوروبي يُخضِعون كل شيء لمنهج مادي تاريخاني، لا يرى إلى الإنسان إلا باعتباره محور الدين وجوهره، ولا ينظر إلى الدين إلا بما هو المرآة التي تتراءى فيها صفات النوع البشري...

*     *     *

حاصل التنظير المؤسَّس على "وثنية العقل الأدنى" سيفضي إلى معاملة الحداثة للدين والتجربة الدينية بوصفهما قضية فينومينولوجية خالصة. ربما لهذا السبب ستنشئ أجهزة الحداثة فرعاً مستحدثاً في العلوم الإنسانية يتاخم الدين واختباراته متاخمة فلسفية. وسيتبيَّن لنا كيف ستؤول مقولة التجربة الدينية كمصطلح ومفهوم الى الحقل المعرفي الأكثر تناغماً عنينا به فلسفة الدين. فلقد ألقى هذا الحقل بظله الثقيل على التجربة الدينية ليُسقِطَ عليها قِيَمَه ومعاييره الكبرى، وعلى الأخص منها تاريخانية الدين وفينومينولوجيته، وما نجم عن هذين المعيارين من نظريات معرفة لا تفسر الدين إلا بوصفه منجزاً بشرياً محضاً.

تلك كانت الإرهاصات الممهِّدة التي تشكلت على أسسها معضلة التفكير الميتافيزيقي الحداثي حيال الدين. وهي في كل حال، معضلة قديمة العهد، ذاك انها تضرب جذورها عميقاً في أرض الإغريق من قبل ان تتمدَّد إلى أرض الحداثات المتعاقبة.

لعل أول ما يطالعنا في تداعيات هذه المعضلة أن التنظيرات التي دارت في رحاب ما سمي بـ(فلسفة الدين)، لم تفلح في فهم الدين، وتعذر عليها إدراك جوهره المتعالي. ولمَّا استشعرت عجزها عن استكشاف ما تنطوي عليه المعارف الوحيانية، كان ثمة إصرار على متاخمتها كقضية فينومينولوجية. وعلى سبيل التبيين والإيضاح نشير إلى ان الفينومينولوجيا ليست محايدة ولا تدل على أنها علم مخصوص وإنما تومئ الى منهج. وعلى الدوام جاءت النتائج الحاصلة عن اشتغالات المنهج الفينومينولوجي متحيِّزة، بل وخادمة للوضعانية بأشكالها ومذاهبها كافة. لذا لا ينبغي أن نقارن كلمة فينومينولوجيا (علم الظواهر) بكلمة ثيولوجيا(علم اللاهوت). الفينومينولوجيا – كما يبيِّن المعجميون – هي قراءة الظواهر،؛لكن هذه القراءة لا تبتغي بناءً لمعنى أو إعادة بنائه من منطلق ذات مفكرة تجعل من ذاتها مركز كل دلالة. فينومينولوجيا عند اليونان تعني: (apophainesthai ta phainomena)، أي ما يَظْهَر، وتركُه يُرى كما يظهر من تلقاء ذاته. أما المعنى البَدئي لكلمة ظاهرة Phainomenon فإنها مشتقة من فعل Phainesthai الذي يعني «ظهر». والظاهرة هي ما يظهر من تلقاء ذاته، وما يبدو للعيان. وإذن فانطلاقاً من هذا المعنى الأول يجب فهم باقي المعاني التي اشتُقَّت في ما بعد من هذه الكلمة؛ فالظاهرة بما هي ما يظهر من تلقائه، هي أساس الظاهرة بما هي مظهر وبما هي تمظهر...

ما ظهرت مقولة التجربة الدينية في تفكير الحداثات المتتالية إلا كثمرة تأويلية لمعنى الظاهرة. فهي في هذا التفكير إما انها وُلٍدَت من تلقاء نفسها وبذلك تكون فاقدة لبعدها الوحياني، وإما ان يُرى إليها كظهور تاريخي بادٍ للعيان مثل كل ظاهرة. وفي هذه الحال تبقى النتيجة هي هي في تعاملات العقل الحديث. فلو كان لنا أن نستحضر على وجه الإجمال السياقات التي قوربت فيها التجربة الدينية في هذا المجال، لوجدنا انها احتلت مكانة مخصوصة في أعمال فلاسفة الدين وعلماء الاجتماع من أهل المذهب الظواهري في أوروبا. غير ان القسط الأعظم من هذه الأعمال، وعلى الرغم من إيلاء التجارب والاختبارات الدينية مكانة استثنائية من البحث العلمي، فقد ظلت أسيرة الأحكام الكلية للعقل الوضعاني. وعند هذا الموضع، نحيل ولو نحو مقتضب الى المفارقة التالية: لقد حظيت المسألة الدينية بوجهيها الأنطولوجي والتاريخي بشغف مخصوص فلاسفة وسوسيولوجيين اختصموا مع الإيمان الديني، وسلكوا سبيل اللاأدرية والوضعانية وصولاً إلى الإلحاد. وهذا ان دلَّ على أمر، دلّْ على المشقة الكبرى التي ستواجههم حيال ظاهرة استعصت على الفهم، لا كسواها من الظواهر الداخلة في أنشطة العلوم الإنسانية الأخرى.

*     *     *

من أظهر السمات التي نجمت عن دراسات التجربة الدينية في الغرب، ان هذه الأخيرة اتخذت سياقات متناقضة. فقد توسعت دائرة الاشتغال عليها إلى دوائر الهرمنيوطيقا واللاَّهوت. إذ على الرغم مما فعله التكيُّف المديد الذي أجرته الكاثوليكية لصالح العلمنة، وإلى ذلك ما فعله الإصلاح البروتستانتي من قبل، لجهة ما سمي بـ "الدين المدني"، كان ثمة مطارحات جادة تنقض المقاربات العَلمانية للدين. ولقد بدت الصورة على الوجه التالي: تلقاء الرؤية الوضعانية التي ملأت الحقل المعرفي لفلسفة الدين بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، سنجد من يمضي الى المجاوزة ليرى أن للتجربة الدينية وجهين متلازمين: وجهٌ متصلٌ بسوسيولوجيا الحياة وتحيُّزاتها الثقافية والحضارية، ووجهٌ منوطٌ بالتطلع الى فهم المتعالي والقدير والمعتني بالإنسان والكون. فالتجربة بما هي تجربة تحتمل الصواب والخطأ أنَّى كان الحقل الذي تقع فيه.

من البيِّن ان فلاسفة الدين الذين اتخذوا لأعمالهم نسقاً مغايراً للظواهرية، خاضوا سجالاً لم ينتهِ بعد، ضد الذين يزعمون أن "الحق" غير معروف، ويبتنون على هذا الزعم بأن الحق غير موجود. ولنا ان نستعيد بعضاً من خلاصات السجال المشار إليه: الله لا يوجد أعظم منه يمكن أن يكون مقنعاً"، وثمة من يمضي في السياق إياه ليرى، أن لله صفتين أساسيتين: الأولى أنه أساس الخبرة الدينية ومحورها. والثانية، أنه سبب التحول الديني من مركزية الذات الى مركزية الحقيقة. أما المراد من ذلك كله فهو الإمساك برؤيتين متعارضتين في الوقت عينه: من ناحية يرى هؤلاء أن "الحق" وراء مجال الفكر والخبرة الإنسانية، بينما يستخدم في الوقت عينه العديد من المفاهيم الانسانية مثل الأساس، والحق، والواحد.

*     *     *

لو قاربنا التجربة الدينية في مسرى التاريخ فسنرى حقلاً أكثر سعة ورحابة قياساً بتجربة الإيمان الفردية. والتجربة ها هنا هي تلك التي تعكسها تجارب شعوب وحضارات متباعدة في عقائدها الدينية إلا أنها تلتقي في فضاء روحي ومعنوي وأخلاقي مشترك. مثل هذا الفضاء سيكون مدار أبحاث معمَّقة في الأنثروبولوجيا وفلسفة الدين ولدى عدد من كبار اللاّهوتيين الغربيين.

وفقاً لهؤلاء، دلّت الاختبارات الروحية على أن فهم الأمر القدسي وإدراك أسراره يمكث في المنطقة العليا من الإيمان. وهي الدرجة التي يصل اليها المؤمنون من خلال إيمانهم بالغيب الى معرفة أنفسهم، ومعرفة الموجودات وصولاً الى معرفة الله. والذين يصلون الى هذه الدرجة المتعالية، هم الذين يطلق على كل فرد منهم صفة العارف أو الإنسان السالك نحو الكمال. وإذن فهو في حالة انسجام ووئام في عيشه لإيمانه ولو ظن الآخرون خلاف ذلك. وعليه، فإن إيمان المؤمن بما يؤمن لا يمكن وصفه وتحديده إلا في إطار ما هو مشترك مع الجماعة المؤمنة. فالإيمان ليس مجرد ظاهرة تماثل الظاهرات الطبيعية الأخرى، وإنما هو الظاهرة المركزية في حياة الإنسان الشخصية الجلية والخفية في الوقت نفسه. فالإيمان هو إمكانية جوهرية للإنسان، ولذلك فوجوده ضروري وكلي، وهو ممكن وضروري أيضاً في كل زمان ومكان. ولأن للإيمان نبوت فطري لماهية الكائن الآدمي، فلا يمكن إذّاك أن يثلمه العلم الحديث أو أي نوع من الفلسفة. ولعل المفارقة التي تفترضها واقعية الإيمان أن الذين يرفضونها إنما يعبِّرون  عن إيمان ما، ولو كان هذا الإيمان بقضايا تنسمي إلى دنيا المحسوسات وعالم الأفكار.

جمعٌ من علماء اللاَّهوت في الغرب ممن جاوزوا الرؤية التاريخانية الوضعية للدين، لاحظوا هذه الجدلية العميقة بين الإيمان والعقل، إلا أنهم سيوضحون مسألة مهمة غالباً ما تخللَّها اللبس والغموض. فعلى الرغم من يقينهم بملازمة الإيمان للعقل في جميع أطواره إلا أن ثمة أطواراً تمتنع فيها التجارب على التفسير العقلي. والسبب يعود إلى وقوعها فوق حقل المفاهيم التي تنتمي الى منحوتات العقل الأدنى. ولعل سبب عجز الفهم البشري عن إدراك اختبارات الأمر القدسي هو أن القوانين المنطقية الحاكمة على مجال الفهم الإنساني لا استخدام لها في نطاق هذه الاختبارات.

*     *     *

في الملف الذي يحمله هذا العدد من الاستغراب، حول التجربة الدينية، سنقرأ مقاربات نقدية شارك فيها عدد من الباحثين والمفكرين المتخصصين، في الفلسفة وعلم الاجتماع وفلسفة الدين. أما في الملفات الموازية وخصوصاً في باب دراسات تأصيلية ونقد الغرب فسنقرأ أيضاً مجموعة من الأبحاث ذات الصلة والمخصصة لهذه الغاية.