البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

حياة مُريبة ومُضلِّلة؛ القول إنّ الغرب كريمٌ هو مجرد محضُ وهم

الباحث :  كيشور محبوباني
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  23
السنة :  ربيع 2021م / 1442هـ
تاريخ إضافة البحث :  July / 6 / 2021
عدد زيارات البحث :  554
تحميل  ( 443.897 KB )
تتناول هذه المقالة بعدًا مهمًّا من أبعاد معنى الحياة في الحضارة العربيّة الحديثة، وهي تلك التي تتعلّق بالهبات والمساعدات التي تزعم الحكومات الغربيّة أنّها تقدّمها للشعوب المستعمرَة انطلاقًا من التزامها بحقوق الإنسان، غير أنّ الكاتب هنا يمضي إلى تفكيك هذه المزاعم ليقرّر بطلان ما تذهب إليه أجهزة الدعاية الغربيّة.

نشير إلى أنّ الكاتب كيشور محبوباني  (Kishore Mahbubani)؛ (24 أكتوبر 1948) هو بروفيسور سنغافوريّ وعميد كلّية لي كوان يو للسياسة العامّة التابعة لجامعة سنغافورة الوطنيّة. شغل منصب وزير خارجيّة سنغافورة، وشغل منصب ممثّل سنغافورة الدائم في الأمم المتّحدة ورئيس الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة، حصل على الدكتوراة الفخريّة من جامعة دالهاوسي الكنديّة. من أبرز مؤلّفاته: «هل يستطيع الآسيويّون التفكير؟ فهم الهوّة بين الشرق والغرب، 2001». «ما بعد عصر البراءة، إعادة بناء الثقة بين أمريكا والعالم، 2005». «نصف العالم الآسيويّ الجديد: التحوّل الحتميّ للقوّة العالميّة نحو الشرق، 2008».

المحرِّر

يرغبُ 88 بالمئة من سكّان العالم القاطنين خارج الغرب أن يتبنّوا معايير الحياة الغربيّة ويتنعّموا بالحياة الآمنة والمزدهرة التي يحظى بها أغلبُ المواطنين الغربيّين منذ عقود؛ لهذا السبب يطمحُ أذكى الشباب خارج الغرب أن ينخرطوا في الجامعات الغربيّة الرياديّة، وأن يعودوا إلى ديارهم مُتبنّين التطلُّعات والأعراف نفسها التي يتبنّاها نظراؤهم الغربيّون اليافعون في السنّ. لكن ألا ينبغي أن يتقبّل الغربيّون سائرَ سُكّان العالم كمواطنين مُتساوين معهم؟ ما زال يتّسمُ كثيرون في الغرب بتردُّدٍ نفسيٍ عميق حيال القبول بالطرح البسيط الذي يقول: «جميعُنا مُتساوون»، ينبعُ هذا التردُّد من فرضيّةٍ لا واعية ثابتة بعمق تُفيدُ أنّ الغرب ما زال يُمثِّلُ (بنحوٍ أو بآخر) حضارةً مُتفوِّقة أخلاقيًّا. تتحتّمُ مواجهة هذه الفرضيّة بشكلٍ مُباشر إذا أردنا إقناعَ الغرب بالترجُّل عن «حصانه العالي» والاعتراف بأنّه يسيرُ على الأرض الأخلاقيّة نفسها مثل باقي العالَم.

من المؤسف أنّ المفهوم الذي ينصُّ على أنّ الغرب قوةً مِعطاءة بطبيعتها على المسرح العالميّ هو وهمٌ مُترسِّخٌ بقوة، فالغرب ليس مِعطاءً بطبيعته ولا خبيثًا بطبيعته، في الواقع، لا يختلفُ أداء الغرب عن أداء أغلب دُول العالَم. بإيجاز، تتصرّفُ الدول الغربيّة بشكلٍ «طبيعيّ» وليس «بكرم» على الساحة العالميّة. أنا مُستعدٌ للاعتراف بأنّ الغرب قد حقّق كثيرًا من الخير للعالم، ولكنّ الغرب تسبّب بكثيرٍ من الأذى أيضًا، خلّف قرنان من الاستغلال الاستعماريّ جروحًا عميقة في جميع أنحاء العالم، وألحقت الهيمنةُ الغربيّة أضرارًا بالثقة النفسيّة للعديد من الحضارات، خصوصًا في آسيا وأفريقيا والعالم الإسلاميّ، وقد بدأت هذه المجتمعات للتوّ بالتعافي منها.

عددٌ من المفكّرين الغربيّين المعاصرين يغضُّون الطرف عن الاستغلال الاستعماريّ، ويعتبرونه خطأً حصل في الماضي وولّى، ولكنّ هؤلاء المفكّرين أنفسهم يتجاهلون بأنّ أميركا وبريطانيا قد شنّتا حربًا غير مشروعة على العراق، وأنّ قوات حلف شمال الأطلسيّ تقتلُ السكّان الأبرياء في أفغانستان وباكستان بضرباتٍ جويّة من طائراتٍ دون طيّار، وأنّ المدافع الأكبر عن الديمقراطيّة وحقوق الإنسان –الولايات المتّحدة الأمريكيّة- قد أعاد ممارسة التعذيب في القرن الواحد والعشرين. لقد حصل كلُّ هذا في آخر عقدٍ تقريبًا؛ لهذا السبب، يعتقدُ قليلون فقط خارجَ الغرب أنّ الغرب هو كريمٌ بطبيعته.
لماذا ما زال هذا الوهم قائمًا؟ أحد أهم منابع الوهم بأنّ الغرب كريمٌ بذاته هو المساعدات الخارجيّة التي يُقدّمها للعالم، ولكنّ أغلب خبراء التنمية الاقتصاديّة يعلمون أنّ الولايات المتّحدة مثلًا هي من أبخل الدول الغربيّة من حيث كمّيّة المساعدات الخارجيّة التي تُقدّمها، حيث تأتي أميركا في المرتبة التاسعة عشر من 23 دولة ضمن دول منظّمة التعاون الاقتصاديّ والتنمية، فهي تُقدِّمُ فقط 0.21% من المساعدات الخارجيّة رغم أنّ دول هذه المنظّمة قد عاهدت أن تصبّ 0.7% من دخلها القوميّ الاجتماعيّ في المساعدات الخارجيّة، وعلى الرغم من أنّ هذا الرقم الأميركيّ المتدنّي معروفٌ، إلّا أنّ الشعب الأميركيّ ما زال يعتقدُ أنّ أميركا كريمةٌ للغاية وتُوزِّعُ كمّيّاتٍ هائلة من المساعدات الخارجيّة. أظهر استطلاعٌ للرأي في العام 2010 أنّ الأمريكيّين يعتقدون أنّ المساعدات الخارجيّة تُشكِّلُ 25-27% من الموازنة الفيدراليّة. ومن غير المفاجئ أن يعتقد الشعب الأميركيّ أنّ أميركا هي دولةٌ كريمة من حيث المساعدات الخارجيّة، فهم يقرأون ذلك على الدوام في مؤلّفات القادة الأمريكيّين ويسمعونه في خطاباتهم. ونظرًا إلى الاعتقاد الراسخ والمنتشر في أميركا وغيرها من الدول الغربيّة بأنّ الغرب يُظهِرُ كرمه المتأصِّل عبر برامج المساعدات الخارجيّة السخيّة، فسوف نتناولُ حقيقة برامج المساعدات الخارجيّة وتأثيرها.

صدرتْ كميةٌ كبيرة من المؤلّفات حول المساعدات الغربيّة الخارجيّة، ويُوثِّقُ كثيرٌ منها حالات الفشل الكبرى. يذكرُ ويليام إيسترلي في كتابه «عبء الرجل الأبيض: لماذا تسبّبت جهودُ الغرب لمساعدة الآخرين بكثيرٍ من الشرّ وقليلٍ من الخير؟» أنّه منذ تأسيس وكالات الغوث العالميّة العملاقة (مثل برنامج الأمم المتّحدة الإنمائيّ، والبنك الدوليّ، وبرنامج الأغذية العالميّ)، فإنّ مساعدات التنمية لم تُفلح، ويعودُ ذلك جزئيًّا إلى الطموح الزائد لوكالات الغوث التي غالبًا ما اقترحت حلولًا تهمّ المانحين وليس المستفيدين، إضافةً إلى ذلك، فإنّ غياب محاسبة المستفيدين وانعدام آليّات البيانات الاسترجاعيّة قد فاقمتْ اللافاعليّة في مساعدات التنمية. وفقًا للكاتب، فإنّ المساعدات الخارجيّة هي «المأساة الأخرى لفقراء العالم... أنفق الغرب 2.3 ترليون دولار على المساعدات الخارجيّة خلال العقود الخمسة الماضية ولم يتمكّن من إيصال الأدوية التي يبلغُ سعرها 12 سنتًا إلى الأطفال للحيلولة دون نصف وفيّات الملارايا. أنفق الغرب 2.3 ترليون دولار ولم يتمكّن من إيصال ثلاثة دولارت إلى كلّ أمٍّ جديدة بهدف تجنّب وفاة خمسة ملايين طفل...إنّها مأساة أن لا تُحقِّق كلّ هذه الرأفة النابعة عن نيّةٍ سليمة هذه النتائج للمحتاجين»[2].

يُوثِّقُ كتاب «المساعدات الميتة»، الذي نال مبيعاتٍ عالية من تأليف دامبيسا مويو، كيف أعاقتْ المساعدات الغربيّة تطوُّر أفريقيا من خلال سحب حوافز التنمية الذاتيّة، فأصبحتْ الدول الأفريقيّة مُدمنة على المساعدات ومرتبطة بسلسلة إعادة دفع الفوائد على ديونها. وعوضًا عن حلّ مشاكل أفريقيا، ساهمت المساعدات في تفاقمها. أودُّ أن أُضيف نقدًا جديدًا على برامج المساعدات الغربيّة، فأنا أتحدّى الفرضيّة الواسعة الانتشار بأنّ النيّة وراء المساعدات الغربيّة هي إيصال الخير إلى المانحين. إنّني أعتقدُ أنّه لو أُجريت دراسةٌ موضوعيّة واسعة النّطاق حول المساعدات الغربيّة، فإنّها سوف تُظهِرُ أنّ النيّة الأساسيّة هي تعزيز المصالح الوطنيّة للمناحين، وليس خدمة مصلحة المستفيدين. من المحزن أكثر أنّ عددًا قليلًا فقط من دافعي الضرائب الغربيّين يعلمون أنّ بعض الشركات قد هيمنتْ على المساعدات الماليّة التي تهدفُ لتعزيز مصالحهم الوطنيّة. أخبرتني كلير لوكهارت: «تعودُ منظومة الغوث الآن بالنفع على مجموعةٍ ضيِّقة جدًّا من الشركات التجاريّة التي تعملُ كاتّحادٍ احتكاريّ، وقد استولتْ على أموال دافعي الضرائب... وهي تحصل على المكاسب الماليّة الفجائيّة وتُقدّم أداءً سيّئًا».

أين يكمنُ الدليل على أنّ النيّة وراء العون ليست مُساعدة المنتفعين؟ ثمّة كمّيّة هائلة من الأدلّة، وسوف أستعرضُ عدّة أمثلة كالآتي: فشل منظّمة التعاون الاقتصاديّ والتنمية، الفساد في المساعدات الأميركيّة لأفغانستان، ارتباط مساعدات صندوق النقد الدوليّ بأنماط تصويت أعضاء مجلس الأمن التابع للأمم المتّحدة، المساعدات الغذائيّة البطيئة والباهظة والأنانيّة وغير الفعّالة في كثيرٍ من الأحيان، وازدياد كمّيّة المساعدات المرسَلة إلى البلدان الفاسدة.

فشل منظّمة التعاون الاقتصاديّ والتنمية
وزّعت الدول الغربيّة كميةً كبيرة من المساعدات الخارجيّة (وفقًا لأرقامها الرسميّة)، وتدّعي منظّمة التعاون الاقتصاديّ والتنمية على سبيل المثال أنّ المدفوعات الغربيّة السنويّة قد ارتفعت من 53 مليار دولار في العام 2000 إلى 133 مليار دولارًا في العام 2011. ولكن ثمّة شكٌ بأنّ المساعدات لم تنفع أغلب المستفيدين المقصودين. ينبغي أن تدعونا الفجوة بين كمّيّة المساعدات الموزَّعة والنتائج الحسنة القليلة إلى البحث عن خللٍ منهجيٍ في تصميم المساعدات الغربيّة. الخلل واضح: صُمِّمت أغلب المساعدات لتعزيز مصالح المانحين، حيث يعلمُ كثيرٌ من الأفراد المطّلعين في الغرب بضآلة النتائج الحسنة الناشئة عن المساعدات الخارجيّة، إلا أنّ هذا الأداء الرديء لا يُزعجهم، إنّهم يقولون في سرّهم: «نحن في الغرب كرماء وقد حاولنا المساعدة، ولكنّ هؤلاء الأفارقة والآسيويّون كانوا عاجزين وأهدروا مُساعداتنا! ماذا نصنع؟ لا يُمكننا أن نُحوّلهم إلى أشخاصٍ مؤهّلين مثل الغرب!». حينما تفشل المساعدات، يُلقى باللوم على المستفيدين وليس على المانحين قطّ.

كان الروائيّ النيجيريّ الأسطوريّ تشينوا آشيبي أحد الأشخاص الذي شهدوا بشكلٍ مباشر تكبُّر مسؤولي المساعدات الغربيّين تجاه المستفيدين حينما دُعي لحضور اجتماعٍ لمنظّمة التعاون الاقتصاديّ والتنمية في وقتٍ مُبكِّر من العام 1989. لم يكن آشيبي متأكدًا من السبب وراء دعوة روائيٍّ نيجيريٍّ للحديث أمام مصرفيّين وخبراء اقتصاد أوروبيّين وأمريكيّين وكنديّين وأستراليّين، فدخل الاجتماع وهو وَجِلٌ بعضَ الشيء، يقولُ آشيبي: «حينما كنتُ أستمعُ إليهم... من خلال الثقة التي أظهروها، لم يبقَ مجالٌ للشكّ بأنّ هؤلاء هم أسياد العالم الذين يستلذّون بعوائد نجاحهم». سُرعان ما أدرك آشيبي أنّه جزءٌ من «ورشةٍ خياليّة»، حيث يضع المصرفيّون الغربيّون نظريّاتٍ تهدفُ ظاهريًّا لمساعدة العالم النامي، فقال: «ها أنتم هنا، تنسجون نظريّاتكم الفاخرة لكي تطبّقوها في مُختبراتكم الوهميّة. أنتم تُطوّرون أدويةً جديدة وتُطعمونها لمجموعةٍ من الفئرات الغينيّة في المختبر وتأملون الأفضل، ولكن لديّ معلومات لكم! أفريقيا ليستْ خيالًا، أفريقيا (تحوي) أناسًا حقيقيّين...هل فكّرتم حقًا بأنّ أفريقيا (تحوي) بشرًا؟»[3].

يعودُ سبب اعتقاد كثيرٍ من المطّلعين بأنّ حالات الفشل في التنمية تنبع من المستفيدين وليس المانحين هو أنّ مؤسّسات التنمية الدوليّة العملاقة والموثوقة (كمنظّمة التعاون الاقتصاديّ والتنمية، وصندوق النقد الدوليّ) تتولّى الرقابة على تدفّقات المساعدات الغربيّة، وبما أنّ منظّمة التعاون الاقتصاديّ والتنمية وصندوق النقد الدوليّ يُراقبان تدفّقات المساعدة ويُقدّمان التقارير حولها، ألا يُمكن أن يؤكِّدا موضوعيًّا بأنّ الغرب قد بذل قصارى جهده؟ ولكنّ الحقيقة هي أنّ الدول المانحة الغربيّة تتحكّم بشدّة بهاتين المؤسّستين – إلى الحدّ الذي لا يُمكن أن تكونا موضوعيّتَين ومُستقلَّتين في تقويماتهما.

نظريًّا، مهمّة منظّمة التعاون الاقتصاديّ والتنمية (وفقًا لاسمها) هي تعزيز التعاون والتنمية الاقتصاديّة، ولكن هذه المنظّمة في الواقع هي نادٍ للأثرياء، وأنا أتذكرُ أنّ المنظّمة كانت تفتخرُ بهذا اللقب. بالطبع، لن يعترف أيٌ من المسؤولين في المنظّمة بأنّ وظيفته هي حماية الأثرياء ولكن خلال عقودٍ ثلاثة من التفاعل مع مُمثّلي منظّمة التعاون الاقتصاديّ والتنمية، استشعرتُ على الدوام أنّهم ينظرون بفوقيّة إلى جميع الآراء التي يطرحها مُمثِّلو العالم الثالث. كانوا واثقين من أنّهم الحماة الحقيقيّون لسرّ التنمية الاقتصاديّة. يُمكن فهم هذا التكبّر والفوقيّة لو كانت منظّمة التعاون الاقتصاديّ والتنمية قد طوّرت سجّلًا مميّزًا من تعزيز التعاون الاقتصاديّ أو التنمية، ولكنّ المنظّمة لم تُحقّق قطّ المهمّة التي يُشيرُ إليها اسمُها وليس لديها قصّة نجاحٍ ترويها.

المأساةُ هنا هي أنّه كان بإمكان منظّمة التعاون الاقتصاديّ والتنمية أن تلعب دورًا قيّمًا على الصعيد العالميّ، حيث ترسلُ دول المنظّمة كلّ عامٍ مليارات من الدولارات من المساعدات، ولو أُنفقت هذه المليارات بطريقةٍ جيّدة، لأُنقذ ملياراتٌ من البشر من الفقر، ولكن أُهدرت أغلب مساعدات التنمية الرسميّة، وبالكاد ظهرت آثارُ المساعدات على بُلدانٍ مثل تانزانيا وزامبيا (التي حصلت على مساعداتٍ للفرد الواحد أكثر من أغلب الدول). ما الذي حصل؟ لماذا فشلت مليارات الدولارات في تنمية التعاون والتنمية الاقتصاديّة؟ مؤسّساتيًّا لم يكن ثمّة منظّمة عالميّة أفضل من منظّمة التعاون الاقتصاديّ والتنمية لحلّ هذا اللغز ولكنّها فشلت.
يشرحُ كليفتون ودياز-فوينتس العوامل المؤسّساتيّة التي منعت منظّمة التعاون الاقتصاديّ والتنمية من توفير التقويم المستقلّ والموضوعيّ: فتمويلها من الدول المانحة وموظّفوها هم من الدول المانحة أيضًا (أمّنت ثلاث دول -فرنسا، أمريكا، وبريطانيا- أغلب الموظّفين لمدّةٍ طويلة من الزمن). لا تعضّ أيّ منظّمة اليد التي تُطعمها، وعليه فإنّه عوضًا عن تنفيذ مراجعةٍ موضوعيّة لفشل الدول المانحة، اعتقد مسؤولو منظّمة التعاون الاقتصاديّ والتنمية أنّ جميع العيوب ناشئة عن المستفيدين. بإيجاز، وبغضّ النظر عن اسمها ومهمّتها الظاهريّة، فإنّ دور المنظّمة لم يكن خدمة البلدان المتلقية للمساعدات، ولهذا السبب فإنّها أحاطت مُشاوراتها بأقصى السرّيّة: «أثارت طبيعتها الغامضة الشكوك والانتقادات من المراقبين الذين ادّعوا أنّ أماكن عقد الاجتماعات كانت بمثابة مُلتقى تُكوِّن فيه أثرى الدول الأعضاء مواقف مُشتركة مع حلفائها قبل أن تأخذ أجندتها إلى منظّمات عالمية أخرى أو تُعيدها إلى الديار»[4].

الحقيقة البسيطة والقاسية هي أنّ منظّمة التعاون الاقتصاديّ والتنمية قد تحوّلت إلى نادٍ ضيِّق وأنانيّ خسر مهمّته وهدفه ولا يخدم مصالح مجتمعاته ولا المجتمعات التي يقول إنّه ينوي العود عليها بالنفع. تبرزُ كثيرٌ من الأمثلة على أنّ المساعدات الغربيّة لم تُصمَّم لمساعدة المستفيدين بشكلٍ رئيسيّ، بل جاءت مصلحة المانحين أوّلًا في مثالٍ بعد آخر. حينما كان ريتشارد هولبروك - وهو من أشدّ المسؤولين الأمريكيّين الذين قابلتهم صلابة، توفي في العام 2010- مُساعدًا لوزير الخارجيّة لشؤون آسيا والبحر الهادئ، أخبرني أنّ إحدى مسؤوليّاته الرئيسة هي تعليم مسؤولي الوكالة الأميركيّة للتنمية الدوليّة (USAID) وتذكيرهم بأنّ الهدف الأساسيّ من المساعدات الأميركيّة هو تعزيز المصالح الوطنيّة الأميركيّة وليس الإحسان إلى العالم.

لا شكّ أنّ بعض المساعدات الغربيّة كانت نافعة ولم تذهب جميعها هدرًا، ولكن رُغم العدد الكبير من الأمثلة الحسنة يبقى السؤال الكبير: لماذا فشلتْ أغلب المساعدات الخارجيّة الغربيّة بهذا الشكل الذريع؟ أُقدِّرُ تقريبًا أنّه لكلّ دولار واحد من المساعدات الخارجيّة –خصوصًا المساعدات الثنائيّة، العون التقنيّ، المساعدة المشروطة، والمساعدات الاقتصاديّة والغذائيّة والعسكريّة، يُنفَق 20 سنتًا على النفقات الإداريّة للدولة المانحة (دفع رواتب مسؤوليها)، و 20 سنتًا إلى المستشارين الذين تُوظّفهم الدولة المانحة (وهؤلاء المستشارون غالبًا هم من مواطني هذه الدول)، و 30-40 سنتًا إلى تأمين المعدّات أو الخدمات التي تؤمّنها الدولة المانحة (لمساندة صناعات الدولة نفسها). إذا كانت الدولة المستفيدة محظوظة، فإنّها سوف تنال 20-30 سنتًا من كلّ دولار مُنح لها ظاهريًّا. أتحدّى خبراء التنمية في منظّمة التعاون الاقتصاديّ والتنمية وصندوق النقد الدوليّ أن يُقدّموا رقمًا بديلًا إذا اعتقدوا أنّ رقمي غير مصيب.

فساد المساعدات المرسَلة إلى أفغانستان
قد يبدو ادّعائي بأنّ الدولة المستفيدة هي محظوظة إذا حصلت على 20-30 سنتًا من كلّ دولار أمرًا بالغَ القسوة، ولكن يتّضحُ من بعض الأمثلة أنّ البلدان المستفيدة قد تلقّت أقلّ من ذلك بكثير. أنجزت كلير لوكهارت دراسة عن الهدر، وفي هذا السياق قال لها قرويٌّ في أفغانستان: «أودُّ أن أُطلعك على قصة تبخُّر 150 مليون دولار. سمعنا على المذياع عن برنامج إعادة إعمار في منطقتنا لمساعدتنا في إعادة بناء بيوتنا بعد عودتنا من المنفى، وقد فرحنا كثيرًا»، كان ذلك في صيف العام 2002 في قريةٍ تقعُ في منطقةٍ نائية من محافظة باميان في الأراضي الجبليّة الأفغانيّة، تبعدُ عدّة ساعاتٍ عن عاصمة المقاطعة، وهي مُنقطعة تمامًا عن العالم. سارعت وكالاتُ الأمم المتّحدة والمنظّمات غير الحكوميّة لتوفير مشاريع «التأثير السريع» لمساعدة المواطنين الأفغان في أعقاب الحرب، كان بالإمكان أن يُحوِّل مبلغ 150 مليون دولار حياة المواطنين، ولكن لم يحصل ذلك، وقد أوضح الشاب ذلك بقوله:

«لم يحصل إلّا القليل بعد أشهرٍ طويلة. قد نكون أميّين ولكنّنا لسنا أغبياء، فتوجّهنا للاطّلاع على ما يجري، وهذا ما اكتشفناه: حصلتْ وكالةٌ في جنيفا على المال، فأخذت 20 بالمئة، ووكّلت وكالةً أخرى في واشنطن العاصمة بالعمل، وأخذت هذه أيضًا 20 بالمئة، تمّ مجدّدًا التوكيل بالعمل وأُخذ 20 بالمئة وحصل ذلك مرةً أخرى حينما وصل المبلغ إلى كابول. في تلك الأثناء، لم يتبق إلا قليلٌ من المال، ولكنّه كان كافيًا ليقوم أحدهم بشراء الخشب من غرب إيران وشحنه عبر إحدى كارتيلات الشحن التي يملكها مُحافظ إحدى المقاطعات بخمسة أضعاف تكلفة الشحن العاديّ. وصلتْ إلى قُرانا بعض العوارض الخشبيّة في النهاية، ولكنّها كانت كبيرةً وثقيلة جدًا على جُدران الطين التي نستطيعُ بناءها. وعليه، كلُّ ما كان بإمكاننا فعله هو تقطيعها واستخدامها كحطب.»

وفقًا لأرقام منظّمة التعاون الاقتصاديّ والتنمية المدقَّقة رسميًّا، فإنّ مبلع 150 مليون دولار كان «مساعدة» غربيّة لأفغانستان، ولكن في الواقع كان المستفيد الحقيقيّ المصالح والشركات الغربيّة ومحافظ محليّ فاسد بينما حصل الأفغان على الحطب. هل هذا مثالٌ استثنائيّ أو دليلٌ على الأخطاء التي تحصل «بشكلٍ طبيعيّ»؟
ما يُقدَّر بسبعين بالمئة من المساعدات المرسَلة إلى أفغانستان بين عاميّ 2002 و 2004 قد أُنفِقت على النفقات الداخليّة لوكالة الأمم المتّحدة. من المؤسف أنّ فشل المساعدات الغربيّة إلى أفغانستان لم يقف عند هذا الحدّ، حيث يُشيرُ غاني ولوكهارت -وهما مستشاران سابقان للأمم المتّحدة حول شؤون أفغانستان- إلى برنامج الوكالة الأميركيّة للتنمية الدوْليّة عام 2005 الذي استهدف إنشاء المدارس في أفغانستان، فعلى الرغم من أنّ الوكالة كانت قد وعدت حكومة أفغانستان ببناء 1,100 مدرسة خلال عامَين، إلا أنّها بَنَت ثمانية مدارس فقط خلال هذا الوقت، وانهارت ستّة منها. أُجريت مقابلاتٌ مع مواطنين في العام 2007 في أفغانستان عبّروا عن شعورهم بالخيانة من المجتمع الدوليّ نظرًا إلى الهدر وانعدام الفاعليّة والفساد. تُبيّن هكذا قصص حسب تعبيرَ غاني ولوكهارت من أنّه «عوضًا عن فتح النشاط التجاريّ المشروع أمام البلدان، تُشكِّلُ منظومة العون جانبَ الرأسماليّة الاستغلاليّ المتأصِّل». لا أشكّ أنّ أغلب قادة الغرب سوف يصرفون النظر عن هذه الأمثلة من أفغانستان ويعتبرونها استثناءات، ولكنني لا أعتقد أنّها كذلك بل هي أمثلة أشدّ حدّةً لما يحصلُ فعليًّا.

طبيعة مُساعدات صندوق النقد الدوليّ
وجد ويليام إيسترلي وكلوديا ويليامسون في دراسة مُوثَّقة بدقّة حول المساعدات الخارجيّة بعنوان «الخطاب في مقابل الواقع: أفضل ممارسات وكالات المساعدات وأسوأها» أنّ ما بين 50 إلى 80 بالمئة من المساعدات خلال أغلب فترة الثمانينيّات إلى مُنتصف التسعينيّات قُيِّدت بإنفاق المستفيدين لأموال المساعدات على البضائع والخدمات من الدول المانحة، والتصويت تماشيًا معها في المنتديات الدوليّة كالأمم المتّحدة، أو اتّباع الإرشادات السياسيّة كفتح الأسواق أمام مُنتجات الدول المانحة. تدنّت المساعدات المقيَّدة بعد الحرب الباردة بشكلٍ كبير، ممّا يُشيرُ إلى أنّ المانحين الغربيّين لم يعودوا يرون ضرورة شراء الولاء، فقد صُمّمت المساعدات الغربيّة لكي تكون آليّةً لرشوة الدول النامية ودفعها لدعم المصالح الغربيّة، بينما كانت مصالح الدول المستفيدة هامشيّة في أفضل الأحوال. لهذا السبب، يذكرُ غاني ولوكهارت أنّ المساعدات أصبحت «بشكلٍ سريع في هذا السياق العالميّ وسيلةً لمكافأة الحكّام استنادًا إلى توافق سياساتهم الخارجيّة مع إحدى القوى العُظمى أو تناقضها معها، وليس سعي هؤلاء وراء أجندة تنمية مُحدّدة»[5].
كلّما انضمّت دولةٌ نامية إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتّحدة، تجدُ فجأةً أنّ حجم المساعدات الخارجيّة يزداد خلال عامي وجودها في المجلس، لماذا؟ يعودُ تصويت الدولة النامية فجأةً بالنفع على مصالح الدولة المانحة، ولهذا السبب تحصلُ الدولة النامية على مزيدٍ من المساعدات الخارجيّة، فالمساعدات تابعة «للمصالح»، وإذا تجرّأت الدولة النامية على التصويت ضدّ مصالح الدولة المانحة في مجلس الأمن، يتمّ تهديدها بخفض المساعدات الخارجيّة أو يُطبّق ذلك فعلًا بحقّها. بإيجاز، تُستَخدَم المساعدات الخارجيّة الهادفة نظريًّا لمساعدة «الفقراء» كأداةٍ للابتزاز في العلاقات الدولية. دقّق ثلاثة باحثين في مُعطياتٍ تتعلّقُ بـ 191 دولة في الفترة الممتدّة بين 1951-2004، ووجدوا علاقةً قويّة بين العضويّة المؤقّتة في مجلس الأمن وبين المشاركة في برامج صندوق النقد الدوليّ، وتوصّلت دراسةٌ أخرى إلى أنّ مُتوسِّط المساعدات الأميريكيّة يرتفع 54 بالمئة، ومُتوسّط مساعدات الأمم المتّحدة للتنمية يزداد 7 بالمئة حينما تُنتَخَب دولةٌ ما في مجلس الأمن.

على سبيل المثال، نالت الغابون استقلالها عام 1960، ولكنّها لم تدخل في اتفاقٍ مع صندوق النقد الدوليّ حتى العام 1978، بعد خمسة أشهرٍ تقريبًا من الانضمام إلى مجلس الأمن للمرّة الأولى صوّتت الغابون خلال عضويّتها في مجلس الأمن على عدّة قراراتٍ مهمّة، وانحازت إلى جانب أميركا وفرنسا وألمانيا وكندا ضدّ الاتّحاد السوفييتيّ في قضايا مثل القوّة المؤقّتة للأمم المتّحدة في لبنان أو استقلال نامبيا، ولكن الغابون دعمت بعض القرارت التي تُدين جنوب أفريقيا والتي أحجمت أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وكندا عن التصويت عليها، فقام صندوق النقد الدوليّ بصرف نصف القرض المتّفق عليه للغابون البالغ 15 مليونًا من حقوق السحب الخاصّة[6].

ينبغي أن يُساهم هذا الرابط المفروغ منه بين مساعدات صندوق النقد الدوليّ والمصالح الغربيّة في مجلس الأمن بإزالة أيّ شكوك حول كون صندوق النقد الدوليّ والبنك الدوليّ منظّمتين عالميّتين مُستقلّتين، إلّا أنّهما قد أدّيا دور الأداة بيد القوة الغربيّة الجيوسياسيّة. في الواقع، حتى رؤساء المنظّمتين الأقوياء نسبيًّا والمستقلّون قد وجودوا أنفسهم عاجزين أمام مُجابهة الضغوط المباشرة للحكومة الأمريكيّة. من المهم أن نؤكّد أنّ البنك الدوليّ وصندوق النقد العالميّ قد سمحا لأنفسهما بالرضوخ للضغط والانخراط في بعض الأنشطة غير المنطقيّة أبدًا وحتى الأنشطة غير الأخلاقيّة.
يروي جوزف ستيغليتس، وهو حائزٌ على جائزة نوبل، قصةً صادمة حول صندوق النقد الدوليّ وإثيوبيا: «عام 1996، سدّدت إثيوبيا قرضًا لمصرفٍ أميركيّ مُبكرًا باستخدام بعض احتياطاتها. كانت العمليّة منطقيّة للغاية، رُغم طبيعة رهنها (طائرة)، كانت تدفعُ إثيوبيا فائدةً أعلى بكثير على قرضها ممّا كانت تتلقّاه إزاء احتياطاتها، ولكنّ أميركا وصندوق النقد الدوليّ عارضا ذلك»[7]، وبنتيجة هذه المعارضة علّق صندوق النقد الدوليّ برامجه في إثيوبيا. بإيجاز، وبما أنّ مصرفًا أميركيًّا قد مُنع من قرضٍ ذي فائدة عالية ورهنٍ مضمون، استخدمت وزارة الماليّة الأميركيّة صندوقَ النقد الدوليّ لمعاقبة إثيوبيا. وعليه، حدّدت المصالح التجاريّة لمصرفٍ واحد سياسة أميركا وصندوق النقد الدوليّ (ملاحظة: إذا كانت هذه القصّة غير واقعيّة، يجب أن يفتح صندوق النقد الدوليّ كتبه ليكشف الحقيقة، ولكن من المؤسف أنّه حينما يفعل ذلك سوف نكتشفُ سيلًا من هذه القصص الحزينة).

لا أقصد أن أظلم صندوق النقد والبنك الدوليّين، ولا أشكّ أنّه يُمكنهما تحديد العديد من الأمثلة على الإحسان إلى الدول الفقيرة النامية. حصلت المنظّمتان عمومًا على تغطية إيجابيّة تفوقُ التغطية السلبيّة في الإعلام الغربيّ، وأمّا أغلب المنشورات الغربيّة فهي تميلُ نحو إبراز الأبعاد الإيجابيّة، حتى حينما انتقد الإعلام الغربيّ هاتين المنظّمتين على حالات الفشل الظاهريّة، نادرًا ما وجّه لهما الانتقاد لكونهما أداتَين للقوة الغربيّة تهدفان إلى تعزيز المصالح الغربيّة بشكلٍ رئيسيٍّ. من المفيد أن يُفكّر الإعلام الغربيّ: لماذا لا يُلاحظ ما يراه باقي العالم بشكلٍ واضح عن هاتين المنظّمتين؟ لقد انحنت المنظّمتان للآمال والمصالح الغربيّة في تحليلهما للعالم وعملهما المتمثّل بتوزيع المساعدات.
كشف «مكتب التقويم المحلّيّ» التابع لصندوق النقد الدوليّ (في تقرير عن سبب عدم توقُّع الصندوق للأزمة الماليّة الغربيّة عاميّ 2008-2009) أنّ صندوق النقد الدوليّ التزم بشكلٍ وثيق بمصالح القطاع الماليّ الأميركيّ وليس (بتحذيرات) خبير الاقتصاد الرئيسيّ في المنظّمة؛ لا يصدم هذا الخبر أيّ صانع سياسة قديم في العالم، وهو معروفٌ جيّدًا، ولكن لماذا بقيت الجماهير جاهلة لهذه الحقيقة؟ لماذا لم تكتب الصحافة العالميّة عن هذا الخبر؟ يقع مركز صندوق النقد الدوليّ في العاصمة واشنطن، مأوى أكثر الصحافة حرّيّةً في العالم، فلماذا لم تكشف هذه الصحافة الحرّة أنّ المنظّمة التي صُمّمت لخدمة مصالح 7 مليار إنسان تخدمُ الآن مصالح 300 مليون نسمة فقط؟ الجواب البسيط هو أنّه رُغم أنّ الإعلام الأميركيّ قد أبلى بلاءً حسنًا في تحدّي السياسات المحليّة الأمريكيّة، إلا أنّه أضحى على العموم مُشجعًا للمصالح الأميركيّة في الخارج، مع أنّ صحيفة واشنطن بوست تقع على بُعد مسافةٍ قريبة من صندوق النقد الدوليّ ولديها سُمعة بالكشف عن القضايا مثل حادثة واترغايت، إلّا أنّها لم تكشف عن الفساد الفكريّ لصندوق النقد الدوليّ، الهيئة المالّية الأقوى في العالم. ما يزيدُ الأمور سوءًا هو أنّ الإعلام الأميركيّ قد ساهم في تعزيز أسطورةٍ على درجة موازية من الخطورة، فمنذ أن أصبح التهجُّم على الأمم المتّحدة رياضةً سياسيّة في واشنطن، لم تتوقّف التقارير في الإعلام الغربيّ حول الفشل البيروقراطيّ والسياسيّ للأمم المتّحدة. لطالما حصلت مقارنة ضمنيّة بين الأداء الفقير للأمم المتّحدة في نيويورك والأداء المعاصِر والفعّال لصندوق النقد والبنك الدوليّ.

المساعدات الغذائيّة الأنانيّة
لا ينبغي أن نعتبر السجلّ الفقير للبنك العالميّ وصندوق النقد الدوليّ في تعزيز المصالح العالميّة مقابل المصالح الغربيّة استثناءً في السجلّ الإنسانيّ للغرب على الساحة العالميّة، بالعكس، يُعدّ ذلك مثالًا جيّدًا على الأداء السيّئ للغرب في مهمّته المعلَنة المتمثِّلة بمساعدة سائر العالم. يُمكن اقتباس أحد الأمثلة من ميدانٍ يعتقدُ فيه العديد من الغربيّين أنّ الغرب يؤدّي دورًا مُحسنًا للغاية، لا نُبالغ إذا قُلنا إنّ كثيرين في الغرب يعتقدون أنّه لولا المساعدات الغذائيّة الغربيّة، لكان الملايين من البشر بحالةٍ أسوأ؛ لهذا السبب، قد يُصدَم كثيرون حينما يكتشفون أنّ الملايين في العالم الثالث هم أسوأ حالًا بسبب المساعدات الغذائيّة الغربيّة.

حدّد فريدريك موسو -وهو زميلٌ أقدم في مؤسّسة أوكلاند ومُستشار مشهور عالميًّا حول الأمن الغذائيّ- النقاطَ التالية على أنّها المشاكل الرئيسة المرتبطة بالمساعدات الغذائيّة:

 1) المنظومة مُنقادة للمانحين
 2) تُعزِّزُ المنظومة المصالح الوطنيّة للدول المانحة
 3) المنظومة أداة للسياسة الخارجيّة
 4) تنقاد المؤسّسات الدوليّة التي تُوزِّعُ المساعدات الغذائيّة للمصدِّرِين
 5) الهدف ليس التنمية بالضرورة

موسو ليس المنتقد الوحيد للمساعدات الغذائيّة. يُبيِّنُ كريستوفر باريت –وهو خبيرٌ اقتصاديّ في جامعة كورنيل- أنّ المساعدات الغذائيّة الأميركيّة الحكوميّة التي تُطعِمُ 70 مليون إنسان سنويًّا بمبلغ ملياري دولار هي بطيئة، باهظة الثمن، وكثيرًا ما تكون فاقدة للفاعليّة. يذكرُ باريت على وجه الخصوص أنّ الهدف الحقيقيّ من المساعدات الغذائيّة الأميركيّة هو دعم أسعار المزارع المحليّة، دعم الصادرات الزراعيّة التجاريّة، وتعزيز أهداف أميركا الجيو-إستراتيجيّة: «افتُتحت المساعدات الغذائيّة الأميركيّة لمحاولة تعزيز التجارة، التخلُّص من الفائض، ودعم الصناعة البحريّة. كلّ هذه الأهداف تشتبكُ معًا في المساعدات الغذائيّة، ليس الهدف الرئيسيّ أصلًا إطعام الجائعين، ولكن هكذا يتمُّ ترويجه فقط». يدّعي باريت أنّ 50 سنتًا تقريبًا من كلّ دولار تُنفقه الحكومة على المساعدات الغذائيّة لا يُنفَق فعليًّا على الطعام، بل على الشحن والمعالجة وغيرها من المصاريف. «مع أنّ المساعدات الغذائيّة على مدى الخمسين سنة الماضية لا تُقدَّر بثمن، وقد أنقذت فعليًّا حياة مئات الملايين أو ساعدتهم، إلّا أنّها تؤدّي دون المستوى بكثير من طاقتها الفعليّة، يحصلُ ذلك بشكلٍ كبيرٍ؛ لأنّها تُحاول أن تخدم أهدافًا كثيرة ومُتنوّعة وقديمة الطراز إلى حدٍّ كبير»[8].

التعدُّديّة وتقديم المساعدات للبلدان الفاسدة
الأسوأ من ذلك هو أنّ التعدُّد غير الضروريّ للمؤسّسات التابعة لأطراف مُختلفة في ميدان المساعدات الغذائية قد شكّل فوضى، عوضًا عن مؤسّسةٍ واحدة، نُلاحظ التنافس بين هذه المؤسّسات العالميّة: منظّمة الطعام والزراعة، برنامج الغذاء العالميّ، والصندوق الدولي للتنمية الزراعيّة. وفقًا لتقريرٍ أجرته منظّمة أوكسفام، تتلقّى إثيوبيا 70% من مُساعداتها الغذائيّة من الولايات المتّحدة، ولكن تأتي هذه المساعدة بتكلفة كبيرة، حيث يتحتّمُ إنفاق أموال المساعدات الغذائيّة على الطعام المنتَج في أمريكا، ويجب توضيب نصفه على الأقل في أمريكا، وينبغي أن يُنقَل أغلبه عبر السفن الأمريكيّة. لكلّ دولار واحد من المساعدات تقريبًا، يُنفِق دافع الضرائب الأميركيّ دولارين على النقل.

مُجددًا، تُهيمن المصالح الغربيّة وليس مصالح المستفيدين الفقراء. بالفعل، حينما يتعلّق الأمر بتوزيع المساعدات الغربيّة، فإنّ المصالح الغربيّة أهمّ من القيم الغربيّة، كانت مهمّة الغرب نظريًّا خلال الحرب الباردة هي ترويج الديمقراطيّة، أمّا عمليًّا، فقد فعل الغرب عكس ذلك تمامًا، حيث زادت حصة مساعدات الأنظمة الاستبداديّة الداعمة لأمريكا من 45% في العام 1960 إلى نحو 70% في العام 1990. في تحدٍ لحاجات المستفيدين والقيم المعلَنة للدول المانحة، خُصِّصت المساعدات بشكلٍ واضحٍ لتحقيق نتائج السياسة الخارجيّة التي تعودُ بالنفع على المانحين.
يُظهِرُ إجراءُ أيّ تدقيقٍ موضوعيّ وقوعَ فسادٍ كبيرٍ على جهتيّ الدول المانحة والمستفيدة. سوف يتفاجأ كثيرٌ من مُواطني الغرب حينما يكتشفون أنّ الدعم الغربيّ للدول «الفاسدة» قد ارتفع ولم يتدنّ رُغم الادّعاءات المتكرّرة على خلاف ذلك. وفقًا لإيسترلي وويليامسون، ارتفعت المساعدات المرسَلة إلى البلدان الفاسدة في الفترة الممتدة بين 1994 و2008 من نحو 20% إلى 80% تقريبًا، في تناقضٍ واضحٍ بين خطاب المانحين والواقع.
ستيفن غرين هو أحد الأشخاص الأسمى أخلاقيًّا الذين التقيتُ بهم، وهو واعظٌ أصبح بشكلٍ مُفاجئ المدير التنفيذيّ لمصرف HSBC ومن ثمّ وزير التجارة والاستثمار في حكومة ريئس الوزراء ديفيد كامرون. ألّف غرين كتابًا رائعًا حول الخير الذي يُمكن أن يُحقّقه الرجال والنساء في العالم بعنوان «القيمة الحسنة: أفكارٌ حول المال والأخلاق والعالم القلق». يصفُ غرين في هذا الكتاب جهودَ شابّين من أستراليا وبريطانيا أقدما على إنقاذ الأيتام في كينيا والهند. من المفاجئ أنني اضطربتُ بشدّة حينما قرأتُ هذه القصّة وقرّرتُ بعد التفكير أن أُشاركه همومي، أخبرته بمنتهى الصراحة أنّه رُغم قصص الشابّين التي تمسّ القلوب إلا أنّها تحوي جانبًا سلبيًّا؛ لأنّها تُخلِّدُ الأسطورة التي تنصُّ أنّ الرجال البيض الشجعان المستعدّين للذهاب إلى أماكن بعيدة هم وحدهم من يستطيعون إنقاذَ العالم. أضفتُ أنّ التجربة الآسيوية تُقدِّمُ فكرةً مُختلفة؛ فقط حينما اقتنع الآسيويّون أنّه يُمكن تحسين وضعهم بأنفسهم، انطلقت مُجتمعاتهم.

بإيجاز، من الضروريّ أن تُنمّي المجتمعات التي استُعمرت سابقًا ثقتها بنفسها لكي تنجح. بما أنّني ترعرعتُ في مُستعمرةٍ بريطانيّة، فإنّني قد اختبرتُ الاستعمار الفكريّ الذي أدّى بي إلى الاعتقاد بأنّني مُواطنٌ من الدرجة الثانية. لقد جهِد جيلي لطرد هذه الأسطورة من أذهاننا، نجحنا، فنجحتْ مُجتمعاتنا. قلةٌ فقط في آسيا اليوم يشعرون أنّهم أدنى بأيّ شكلٍ من الأشكال. في هذه البيئة العالمية الجديدة، سوف ينزعج سائر العالم بشكلٍ أقلّ إذا تراجع الغرب بضعة خطوات عن المرتفع الأخلاقيّ الذي ادّعاه لنفسه طويلًا، أو على الأقلّ إذا وافق على اقتسام المكان. يقول ستيفن والت، وهو أستاذ في جامعة هارفرد: «يأخذ الأمريكيّون (على وجه الخصوص) مديحًا فائضًا لقاء التقدُّم العالميّ ويتقبلون لومًا قليلًا في المواضع التي تسبّبت السياسة الأميركيّة بنتائج عكسيّة». يُشيرُ والت أيضًا إلى ما يلي:
«أغلب التصريحات حول «التفرُّد الأميركيّ» تفترضُ أنّ القيم الأميركيّة، المنظومة السياسيّة، والتاريخ الأميركيّ فريدة من نوعها وجديرة بالتقدير العالميّ. تُلمِّح التصريحات أيضًا أنّه مُقَدَّرٌ للولايات المتّحدة ويحقّ لها أن تؤدّي دورًا مُتميِّزًا وإيجابيًّا على المسرح العالميّ. مع أنّ أميركا تتّسمُ ببعض الخصائص الفريدة (مثل المستويات العالية من الالتزام الدينيّ والثقافة السياسيّة التي تمنحُ الامتياز للحرّيّة الفرديّة)، فإنّ السياسة الخارجيّة الأميركيّة تتحدّدُ بشكلٍ رئيسيٍّ عبر قوّتها النسبيّة والطابع التنافسيّ المتأصِّل للسياسات الدوليّة، ومن خلال تركيز الأمريكيّين على خصائصهم الاستثنائية المفتَرَضة، فإنّهم يُعمون أنفسهم عن الأبعاد التي يُشبهون بها الآخرين كثيرًا. هذا الإيمان غير المنازَع فيه بالتفرُّد الأميركيّ يُصعِّبُ على الأميركيّين أن يفهموا لماذا الآخرون هم أقلّ حماسًا تجاه الهيمنة الأميركيّة، وكثيرًا ما تُقلقهم السياسات الأميركيّة وينزعجون ممّا يعتبرونه نفاقًا أميركيًّا، سواء أكان ذلك يتعلّق بامتلاك الأسلحة النوويّة، والالتزام بالقانون الدوليّ، أو بميل أميركا لإدانة سلوك الآخرين والتغاضي عن فشلها الذاتيّ. للمفارقة، ربما كانت السياسة الخارجيّة الأميركيّة لتكون أكثر فاعليّةً إذا كان الأمريكيّون أقلّ اقتناعًا بفضائلهم وأقلّ حماسًا للإعلان عنها»[9].

في هذه الحقبة من الالتقاء -وهذا يحصلُ بشكلٍ مُستقل عن أيّ مُساهمةٍ أميركيّة- فإنّ مفهوم التفرُّد الأميركيّ قد حظي بيومه الذي خلا بل وأصبح مُفارقةً تاريخيّة مُزعزِعة. نستطيع الاتّحاد وسوف نفعل ذلك، ولكن ليس بالشروط الأميركيّة حصرًا.



المصادر والمراجع
1.“Critics Call for Changes to U.S. Food Aid Policy,” Iowa Public Television, July 8, 2005.
2. Ashraf Ghani and Clare Lockhart, Fixing Failed States. New York: Oxford University Press, 2008.
3. Chinua Achebe, “Africa is People,” November 6, 2005.
4. Ilyana Kuziemko and Eric Werker, “How Much Is a Seat on the Security Council Worth?: Foreign Aid and Bribery in the United Nations,” Journal of Political Economy, 2006.
5. Joseph Stiglitz, “Thanks for Nothing,” The Atlantic, October 2001.
6.Judith Clifton and Daniel Dيaz-Fuentes, “From ‘Club of the Rich’ to ‘Globalisation à la Carte’? Evaluating Reform at the OECD,” Global Policy, 2011.
7.Stephen Walt, “The Myth of American Exceptionalism,” Foreign Policy, November 2011.
8.William Easterly. The White Man’s Burden. New York: Penguin, 2006,
- المصدر: مُقتطفات من كتاب "الالتقاء العظيم: آسيا، الغرب، ومنطق العالم الواحد" (The Great Convergence) من تأليف كيشور محبوباني (Kishor Mahbubani, Public Affairs, 2013).

-------------------------------------
[1]*- مفكّر وأستاذ جامعي من سنغافورة.
- المصدر: مُقتطفات من كتاب «الالتقاء العظيم: آسيا، الغرب، ومنطق العالم الواحد» (The Great Convergence) من تأليف كيشور محبوباني (Kishor Mahbubani, Public Affairs, 2013).
- تعريب: هبة ناصر.
[2]- William Easterly. The White Man’s Burden. New York: Penguin, 2006, p.4.
[3]- Chinua Achebe, “Africa is People,” November 6, 2005.
[4]- Judith Clifton and Daniel Díaz-Fuentes, “From ‘Club of the Rich’ to ‘Globalisation à la Carte’? Evaluating Reform at the OECD,” Global Policy, 2011.
[5]- Ashraf Ghani and Clare Lockhart, Fixing Failed States. New York: Oxford University Press, 2008, p.88.
[6]- Ilyana Kuziemko and Eric Werker, “How Much Is a Seat on the Security Council Worth?: Foreign Aid and Bribery in the United Nations”, Journal of Political Economy, 2006.
[7]- Joseph Stiglitz, “Thanks for Nothing,” The Atlantic, October 2001.
[8]- “Critics Call for Changes to U.S. Food Aid Policy,” Iowa Public Television, July 8, 2005.
[9]- Stephen Walt, “The Myth of American Exceptionalism,” Foreign Policy, November 2011.