البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

نهاية التمركز الغربيّ وتعدّد المركزيّات كبداية لنظام عالميّ جديد

الباحث :  علي مطر
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  30
السنة :  ربيع 2023م / 1444هـ
تاريخ إضافة البحث :  July / 22 / 2023
عدد زيارات البحث :  911
تحميل  ( 459.781 KB )
منذ سقوط جدار برلين، وتحوّل النظام العالميّ إلى أحاديّ القطب، لا تزال الـولايات المتّحدة الأميركيّة هي المهيمنة والمؤثّرة على مفاصل هذا النظام، ولا يمكن أن يحصل شيء على الساحة السياسيّة الدوليّة وفي مطلق الجغرافيا السياسيّة لبلدان هذا النظام دون موافقتها. لقد تحدّثت أدبيّات سياسيّة كثيرة بعد أحداث 11 أيلول عن مؤشّرات عديدة متوقّعة لمستقبل هذا النظام، منها ما أكد بقاءه على الأحاديّة، ومنها ما تحدّث عن بدء أفول هذه السيطرة، ولا شكّ في أنّ الطرفين لم يخطئا التقدير، لكن كلّ بحسب نظريّته ونظرته لتلك الفترات الزمنيّة.
ولا ينتهي الحديث عن تغيّرات النظام الدوليّ، حيث يتصاعد الجدل الآن بين المتخصّصين في الإستراتيجيّات الدوليّة من أجل فهم البيئة المحيطة بالدول، وطبيعة التصوّرات حول نظام العلاقات الدوليّة من قِبل الفاعلين الدوليين. وفي الآونة الأخيرة، كثر الحديث عن حقيقة تبدّل معالم هذا النظام، الذي تحوّل إلى نظام القطب الواحد عقب سقوط جدار برلين وانهيار الاتّحاد السوفياتيّ، ولكن مع مرور ما يقارب الثلاثة عقود بات يتحوّل إلى نظام متعدّد الأقطاب.

كلمات مفتاحيّة: التمركز الغربيّ ـ التعدّديّة القطبيّة ـ الفاعلين الدوليّين ـ الاستقرار العالميّ ـ نهاية التاريخ.

المقدّمة
الحقائق التي نشهدها بشكل يوميّ تجعلنا نميل إلى القول إنّ ما يحصل في تركيبة النظام الدوليّ ما هي إلّا مرحلة انتقاليّة تحمل موجات عاتية ذات خطورة شديدة على الاستقرار العالميّ، قد تؤدّي إلى تراجع هيمنة واشنطن، لا سيّما مع تثبيت روسيا والصين نفسيهما كلاعبين أساسيّين في هذا النظام، إلى جانب دول أخرى ـ وإن كانت إدارة البيت الأبيض هي التي تتربّع حتّى الآن على عرش هذا النظام ـ لكن يبدو أنّنا سنشهد نهاية لهذا التاريخ، بأسلوب مغاير عما تحدّث عنه فرانسيس فوكوياما في كتابه «نهاية التاريخ» والذي يقوم على تصوير الولايات المتّحدة الأميركيّة على أنّها المسيطر الأبديّ على هذا العالم فيما مقابل سقوط كلّ الحضارات، لتبدو أميركا كمشهد هوليود يستخدم في الحرب الناعمة، على أساس انعدام وجود أي تقدم في مجال المبادئ والأنظمة الأساسية.

ما يزيد الوضع خطورة الآن في هذا النظام العالميّ والتحوّلات التي قد تحصل هو الخطر الذي يمكن للشعوب أن تتعرّض له في أمنها واستقرارها وسلامة حياتها، حيث تعمل القوى المسيطرة بشراسة للحفاظ على مكانتها في قمّة النظام، بينما تسعى القوى المتسلّقة إلى تغيير شكل علاقات القوّة. لا سيّما أنّ ثمّة دراسات تنشر في الولايات المتّحدة عن اقتراب حصول نظام تعدّد القطبيّة وحصول انتقال تاريخيّ، وكأنّنا أمام جدار برلين جديد ربما يكون من أوكرانيا؛ لذا وأمام إمكانيّة تراجع المركزيّة الغربيّة وتقدّم مركزيّات جديدة أو تعدّد المركزيّات، فإنّنا سنبحث إشكاليّة واضحة في بحثنا هذا تتمحور حول نهاية التمركز الغربيّ، فهل نحن أمام نهاية التمركز الغربيّ وتعدّد المركزيّات كبداية لنظام عالميّ جديد؟ وما هي تأثيرات الأحداث الجارية في العالم على كافة المستويات على هذه التحوّلات؟

من أجل الإجابة على إشكاليّتنا فقد قسمنا بحثنا كالتالي:
المبحث الأوّل: المركزيّة الغربيّة ومخاض النظام الدوليّ
المبحث الثاني: الانتقال نحو تعدّد المركزيّات في النظام الدوليّ

المبحث الأوّل: المركزيّة الغربيّة ومخاض النظام الدوليّ
مهّدت المركزيّة الغربيّة التي قامت بعد خوض حروب متعدّدة لرواية مفادها أنّ لها الخصوصيّة المطلقة لصناعة تاريخ العالم، وأنّ الحضارة تنطلق منها وتنتهي إليها، معتبرة أنّها مطلقة صلاحيّة السيطرة، وأنّ المجتمعات الأخرى التي تريد أن تبلغ درجة التقدّم التي وصل إليها الغرب ليس أمامها إلّا الأخذ بالأسباب ذاتها التي أخذ بها الغربيّون، وليس أمامها إلّا التخلّص من خصوصيّاتها الثقافيّة؛ لأنّ تلك الخصائص هي المسؤولة عن تخلّفها، وهي المعيقة لتطوّره، وفي هذا المبحث سوف نبحث عن المركزيّة الغربيّة في النظام الدوليّ، من خلال تقسيم المبحث إلى ثلاثة مطالب، هي: المطلب الأوّل: المركزيّة الغربيّة للنظام الدوليّ، وحمل المطلب الثاني عنوان سمات النظام الدوليّ بعد الحرب العالميّة الثانية، فيما أتى المطلب الثالث تحت عنوان: النظام الدوليّ بعد الحرب الباردة.

المطلب الأوّل: المركزيّة الغربيّة للنظام الدوليّ
لم تقف المركزيّة الغربيّة عند حدود تقديم رؤية غربيّة للعالم؛ بل تقدّمت بمشروع سياسيّ على صعيد العالم هو: مشروع تجانس الإنسانيّة المستقبليّ من خلال تعميم النموذج الغربيّ دون غيره، وخطورة هذا المشروع متأتّية من أنّه سوّغ التوسّع الغربيّ، واحتلال العالم، وإبادة الحضارات العريقة، وأحيانًا إبادة شعوب بأكملها، كما حصل في حالة فتح الأميركيّتين وأستراليا وغيرها. وجرى بذل جهد جبّار، طوال القرون الخمسة الأخيرة في معظم أرجاء المعمورة، لزرع بذور النموذج الغربيّ في كثير من تفاصيل الحياة، وفي الوقت ذاته شهد العالم انهيار نماذج ثقافيّة لا تحصى.
و«يتعذّر تحديد الوقت الذي وُلد فيه مفهومان متلازمان هما: أوروبا والغرب، فهما من تمخّضات تلك الحقبة الطويلة والمتقلِّبة، التي يُصطلح عليها بـالعصر الوسيط، الحقبة التي طوّرت جملة من العناصر الاجتماعيّة والدينيّة والسياسيّة والثقافيّة، فاندمجت لتشكّل هويّة أوروبا، وبانتهاء تلك الحقبة، ظهر إلى العيان مفهوم الغرب. وسرعان ما رُكّب من المفهومين المذكورين مفهوم جديد هو أوروبا الغربيّة، وهو مفهوم لم يمتثل للمعنى الجغرافيّ الذي يوحي به، فقد راهن على المقاصد الثقافيّة والسياسيّة والدينيّة، ومن ثَمّ ثبّت مجموعة من الصفات والخصائص العرقيّة والحضاريّة والدينيّة على أنّها ركائز ثابتة تشكّل أسس هويّة الغرب، وغذّى هذا الاختزال ولادة مفهوم حديث ذي طبيعة إشكاليّة هو المركزيّة الغربيّة.

في الوقت الذي جعل مفهوم المركزيّة الغربيّة من الغرب عالما خالدًا في تاريخه وثقافته ودوره الحضاريّ في العالم، فإنّه مارس إقصاءً منقطع النظير لكلّ ما هو ليس غربيًّا، دافعًا به إلى خارج الفُلك التاريخيّ الذي أصبح الغرب مركزه، وأباح لنفسه حقّ استغلاله والسيطرة عليه؛ وبذلك اقترنت ولادة العصر الحديث مع الممارسة الغربيّة في ميادين المعرفة، والصناعة، والاكتشافات الجغرافيّة، وبناء مؤسّسة الدولة بركائزها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والعسكريّة والسياسيّة. لقد جرى تأويل العالم على أنّه حقل غربيّ لا يجوز لغير الغربيّين الانتفاع بخيراته. وأفضى كلّ ذلك إلى نوع من التمركز حول الذات بوصفها المرجعيّة الأساسيّة لتحديد أهمّيّة كلّ شيء وقيمته، وإحالة الآخر إلى مكوّن هامشيّ، لا ينطوي على قيمة بذاته، إلّا إذا اندرج في سياق المنظور الذي يتّصل بتصوّرات الذات المتمركزة حول نفسها. هذا من ناحية التاريخ الثقافيّ والسياسيّ، أمّا من ناحية الفرضيّة التي استقامت عليها المركزيّة الغربيّة، فإن كلّ مركزيّة لا بدّ أن تقوم على فكرة الاختلاق السرديّ الخاصّ لماض مرغوب يُشبع تطلّعات آنيّة، ويوافق رغبات قائمة، فهذه سُنن المركزيّات، وبمواجهة الحاجة إلى توازن ما تُصطَنع ذاكرة مركزيّة توافق تلك التطلّعات والحاجات»[2].
«لقد استمرّ النظام الدوليّ منذ القرن السابع عشر وحتّى الحرب العالميّة الثانية تحت السيطرة الأوروبيّة، بحيث إن الحديث عن النظام القارّيّ الأوروبيّ كان يعني الحديث عن النظام الدوليّ في تلك الحقبة. ففي مرحلة معاهدة وستفاليا الشهيرة، كانت الدول الفاعلة في النظام الدوليّ هي: هولندا، السويد، النمسا. ثمّ تقدّمت بريطانيا في القرن الثامن عشر، ودول الحلف في العام 1815 (النمسا، بروسيا، روسيا). وفي أوائل القرن العشرين تقدّمت كلّ من: فرنسا، ألمانيا، روسيا، بريطانيا، النمسا، المجر وإيطاليا. حتى الحرب العالميّة الثانية، كان النظام الدوليّ متعدّد الأقطاب من القوى الأوروبيّة، على رغم بروز قوّتي اليابان والولايات المتّحدة. أمّا بعد هذه الحرب، فإنّ النظام الدوليّ بات ثنائيّ القطب، أو أنّه أصبح نظام القطبيّة الثنائيّة بعد تقدّم الاتحاد السوفياتيّ والولايات المتّحدة إلى مركزّي التأثير الأهمّ في مجمل العلاقات الدوليّة»[3].

وتجدر الإشارة إلى أنّ ثمّة تصنيف آخر للنظام الدوليّ، انطلاقًا من الطبيعة السياسيّة والفكريّة، كأن يكون متجانسًا من حيث دراسة تجانس الأنظمة السياسيّة للدول الأوروبيّة على سبيل المثال. أو يكون غير متجانس كما كانت الحال أيّام القطبيّة الثنائيّة، بين 1945 و1990، إبان اشتداد المنافسة الشاملة في الحرب الباردة بين القوّتين العظيمتين.

المطلب الثاني: سمات النظام الدوليّ بعد الحرب العالميّة الثانية
لا شكّ أنّ الحرب العالميّة الثانية أحدثت تحوّلًا جذريًّا في النظام الدوليّ، الذي بدأ ينتقل من سيطرة التعدّديّة الأوروبيّة، إلى نظام الثنائيّة القطبيّة، وبعد الحرب التي أودت بحياة ملايين البشر، تمّ التأكيد على مبادئ متعدّدة لا يقلّ أحدها أهمّيّة على الآخر، خاصّة أنّها مهّدت لنهاية الاستعمار، ومنها مبدأ الحقّ في تقرير المصير، ومبدأ تأكيد السيادة الوطنيّة، وإصلاح نظام الأمن الجماعيّ، إنّ «أولى السمات التي اتّسم بها النظام الدوليّ ما بعد الحرب العالميّة الثانية هي التأكيد على دور الشعوب وحقّها في تقرير مصيرها، هذا المبدأ الذي كان من أهمّ النقاط الـ14 للرئيس الأميركيّ ولسن[4]، والذي لم يتحقّق في ظلّ عصبة الأمم بسبب استمرار الدول الاستعماريّة في الحفاظ على إمبراطوريّاتها. وبعد نهاية الحرب الثانية وإنشاء منظّمة الأمم المتحدة، أتى التركيز واضحًا على الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان وما يتضمّنه من حقوق اقتصاديّة واجتماعيّة كما أكّدت عليه الدول الاشتراكيّة بالخصوص، وحقّ تقرير المصير للشعوب كشرط أوّليّ لكافّة الحقوق، وأداة للتحرّر من الاستعمار بالنسبة لدول العالم الثالث، ولكن مع ذلك فإنّ نظام ما بعد الحرب العالميّة الثانية لم يجعل العالم أكثر استقرارًا، بل أدّى إلى فرز القوى الكبرى من جديد ليتشكّل فيما بعد نظام الثنائيّة»[5].
المبدأ الثاني الأساسيّ الذي تمّ إرساؤه بعد الحرب الثانية هو مبدأ تأكيد السيادة الوطنيّة، فالنظام الدوليّ لما بعد الحرب سيحافظ على الدعائم الرئيسيّة للعلاقات الدوليّة كما تطوّرت منذ معاهدات وستفاليا، فالدولة السيّدة تبقى الأساس. ولم تنل منها الثورة الفرنسيّة، ولا حركة القوميّات، حيث رأينا أنّ مبدأ السيادة الوطنيّة لم يهاجم بسلطة الدولة، وإنّما تعرض إلى أساس السلطة في الدولة.

أمّا المبدأ الثالث الذي كان يفترض أن يقوم على تأمين الأمن والسلام العالميّ، فهو إصلاح نظام الأمن الجماعيّ، حيث إنّ الأسس التي اعتمد عليها نظام ما بعد الحرب العالميّة الثانية حاولت أن تتجاوز الأخطاء التي أدّت إلى فشل نظام الأمن الجماعيّ في ظلّ عصبة الأمم، فالدول الرئيسة الكبرى ألقي على عاتقها تحمّل مسؤوليّة ضمان حفظ الأمن والسلم الدوليّ، فتمّ إنشاء هيئة الأمم المتّحدة من منطلق جديد يجعلها الهيئة الدوليّة الوحيدة التي تحتكر حقّ استعمال القوّة مع الحقّ في مواجهة الدول التي تلجأ إلى شكل من أشكال الحرب في العلاقات الدوليّة، وقد تمّ تجاوز مبدأ الإجماع في مجلس الأمن الدوليّ، ولكن مع تكريس دور الدول الكبرى في تحمّل مسؤوليّة ضمان الأمن والسلم الدوليّين، حيث أعطيت حقّ الاعتراض على أيّ قرار لا يتّفق ومصالحها. وتمّ الاتفاق على إنشاء جيش أمميّ يناط بقيادة أركان حرب مرتبطة بمجلس الأمن[6].
ولكي يتمّ ترسيخ نظام دوليّ ما بعد الحرب العالميّة الثانية قائم على التعاون، تمّ وضع أسس تعاون اقتصاديّ واجتماعيّ على الأمد البعيد، وقد تمّ ذلك «انطلاقًا من طروحات الوظيفة التي تعتبر أنّ مسائل الحرب والسلم يمكن معالجتها من خلال أرضيّة جديدة تؤمن إيجاد التواصل والتعاون بين الانتلجنسيا العالميّة، وذلك من خلال إنشاء وكالات دوليّة وظيفيّة تسمح لخبراء في المجالات الحياتيّة المختلفة، مثل الصحّة والتربية والزراعة، بوضع البرامج المشتركة وتنسيق التعاون الدوليّ، وبالتالي خلق ظروف تسمح بالتوصل إلى هويّة عالميّة، كما تمّ إنشاء نظام دوليّ اقتصاديّ ينظّم الأمور النقديّة والماليّة ويضمن استقرار العلاقات التجاريّة بين الدول»[7].

إلّا أنّ النظام الدوليّ سواء السياسيّ أو الاقتصاديّ الذي أتى بعد الحرب الثانية والتي خلّفت ملايين القتلى والجرحى والمشرّدين، ظلّ قائمًا على المركزيّة الغربيّة، ولم يراع وجود حضارات وثقافات مختلفة وكيانات وأطروحات أخرى مغايرة، وبذلك منذ بدايته كانت نتائج بقائه غير واضحة؛ لأنّه أتى ليعبّر عن توازن القوى المهيمنة بعد الحرب، واستمدّ واقعيّته من الاعتراف بدور الدول الكبرى المؤثّرة في العلاقات الدوليّة؛ لذلك وفي وجود هذه الأسس والمواصفات والسمات الرئيسيّة، برزت مباشرة مع نهاية الحرب، سيبدأ عهد جديد من العلاقات الدوليّة يتميّز بمحطات أساسيّة أبرزها الحرب الباردة التي عرفها العالم بعد الحرب، والتي تشكّل استمرارًا للسياسة الكلاسيكيّة لتوازن القوى في ظلّ القواعد والمفاهيم الكلاسيكيّة ترافقها تطوّرات دوليّة ستبدأ بطرح الشكّ في مضمون هذه القواعد وكيفيّة تطبيقها.
ونتيجة التركيبة الجديدة في النظام العالميّ بعد الحرب لم يدم السلم العالميّ طويلًا، فقد أفرزت الحرب العالميّة الثانية تبدلًا مهمًّا في القوى الكبرى المهيمنة، فقد تزعزعت مكانة الدولة الاستعماريّة التقليديّة، وفقدت إمبراطوريّاتها الاستعماريّة ونفوذها العالميّ، وتمّ تدريجيًّا حصول الأقاليم المستعمرة على الحرّيّة والاستقلال السياسيّ. وقد تأكّد في المقابل بروز قوّتين عالميّتين تمتلك من الطاقات والإمكانيّات الاقتصاديّة والعسكريّة ما يتجاوز قدرة الدول الأخرى، وهما الولايات المتّحدة الأميركيّة والاتحاد السوفياتي. لقد خرجت الولايات المتّحدة الأميركيّة من الحرب، بخلاف الدول الكبرى الأخرى، قويّة عسكريًّا واقتصاديًّا، ورغم أنّ تدخّلها كان حاسمًا، فإنّ الحرب بقيت بعيدة عن أراضيها، وقد أمكنها خلال الحرب أن تطوّر منشآتها الاقتصاديّة، ومع انتهاء الحرب برزت كقوّة عالميّة رئيسة لها مصالح اقتصاديّة مباشرة في ضمان السلم العالميّ، ويلقي على عاتقها دور التدخّل المباشر من أجل ضمان استقرار العلاقات الاقتصاديّة الدوليّة أمام وهن الدول الرأسماليّة الأوروبيّة[8].
قامت الولايات المتّحدة بدعم الدول الرأسماليّة التي انهكتها الحرب، معتبرة أنّها الوسيلة الوحيدة لضمان قيم ومصالح عالم الغرب الرأسماليّ في ظلّ قيادتها السياسيّة والاقتصاديّة ومن أجل مواجهة الشيوعيّة العالميّة التي تدعّمت في أوروبا الشرقيّة، وذلك من أجل أن تهيمن على النظام الدوليّ، في مقابل ذلك برز الاتحاد السوفياتيّ بعد الحرب كقوّة أساسيّة؛ لما يملكه من طاقات بشريّة واقتصاديّة وعسكريّة، فإنّه رغم الخسائر الفادحة التي مني بها، إذ إنّه تحمّل القسط الأكبر من ويلات الحرب، فقد برز في السنوات الأولى بعد الحرب نظام اشتراكيّ عالميّ يتزعّمه الاتحاد السوفياتيّ في مقابل النظام الرأسماليّ.

«إنّ جذور الخلاف التي كانت قائمة ما بين الاتحاد السوفياتيّ كطليعة للثورة الاشتراكيّة في العالم منذ نجاح الثورة البولشيفيّة سنة 1917، وبين الدول الرأسماليّة ستشتدّ حدّتها بعد الحرب وتؤدّي عمليًّا إلى بروز نظامين عالميّين يتواجهان ويعتمد كلّ منهما على أنظمة سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة مختلفة جدًّا، والصراع الذي اشتدّت حدّته بين هذين النظامين هو ما يسمّى بالحرب الباردة التي استمرّت حتى بداية الستينات. وقد كان أوّل من أدخل هذه العبارة قيد التداول الكاتب وولتر ليبمان من خلال المقالات والكتاب الذي أصدره تحت هذا العنوان، وقد اشتدّت حدّة هذه الحرب وأمكن تنظيمها مع اندلاع مشكلتي ألمانيا واليونان، حيث برزت في الولايات المتّحدة الدعوة من أجل استعمال سياسة القوّة. وقد كانت النتائج المباشرة لهذا الواقع الدوليّ هي تجاوز أسس السلام التي وضعت بعد الحرب والتي كانت تفترض اتفاق الكبار، فمعظم القضايا السياسيّة أصبحت ترتبط بالاستقطاب الثنائيّ، وبما يتّفق عليه في واشنطن وموسكو»[9].
لقد استفادت الولايات المتّحدة الأميركيّة من الحرب العالميّة الثانية بشكل كبير، فقد دمَّرت الحرب كلًّا من أوروبا والاتحاد السوفياتيّ والصين واليابان، فالتقطت الولايات المتّحدة هذه اللحظة التاريخيّة في سعيها نحو الإمبرياليّة والسيطرة الكونيّة، فهي تنتج نصف الإنتاج الصناعيّ العالميّ وتحتكر التكنولوجيا الحديثة التي ستحدّد مسار التطوّر في النصف الثاني من القرن العشرين، يضاف إلى ذلك احتكارها للسلاح النوويّ، الذي حسم الحرب وأرعب كلّ دول العالم في ذلك الوقت. كان غورباتشوف أوّل من أطلق عبارة النظام العالميّ الجديد في خطابه أمام الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة عام 1988، مؤكّدًا على دور الأمم المتّحدة كإطار وحيد لحلّ المنازعات الدوليّة، وضرورة احترام مبادئ وقواعد الشرعيّة الدوليّة. وبدأ الحديث عن الحدّ من السلاح النوويّ والتخلّي عن سياسة سباق التسلّح، ومن ثمّ حاول الرئيس الأميركيّ جورج بوش قطف ثمار ذلك بالإعلان عن نظام عالميّ جديد أمام الكونغرس في 11 أيلول 1990 «أكثر تحرّرًا من الإرهاب وأكثر مناعة في إقرار العدالة وأكثر أمنًا في السعي من أجل السلام»[10]. وقد تمّ الإعلان عن هذا الموضوع خلال التعبئة التي قامت بها الولايات المتّحدة الأميركيّة لحشد أكبر دعم لسياستها تجاه أحداث الخليج بعد احتلال الكويت من قبل العراق، ومن ثمّ خطاب جورج بوش أمام الكونغرس الأميركيّ بتاريخ 6 آذار 1991.

المطلب الثالث: النظام الدوليّ بعد الحرب الباردة
أدّى سقوط الاتحاد السوفياتيّ إلى قيام نظام الأحادّيّة القطبيّة، وبدأت أطروحات قيادة الولايات المتّحدة للنظام الدوليّ تغزو العالم، وقد اعتبر فرانسيس فوكوياما في كتابه «نهاية التاريخ» أنّ الديمقراطيّة الليبراليّة وقيمها عن الحرّيّة والفرديّة والمساواة والعولمة والليبراليّة الاقتصاديّة تشكّل ذروة التطوّر الأيديولوجيّ للإنسان بعد إجماع معظم الناس على صلاحيّتها وعدم وجود بديل أفضل، وقد ارتبط العالم بعد الحرب الباردة، بظهور العامل الثقافيّ في السياسة الدوليّة، وذلك على نحو أدّى إلى بروز التعاون الثقافيّ الذي يعزّز فرص التعاون في مجالات الاقتصاد والسياسة. وفي مجال السياسة، كان ذلك يعني أن تكون الثقافة عاملًا مؤثّرًا في حركة الصراع الدوليّ وإدارته، وذلك على نحو غير مسبوق.

ومن ملامح مرحلة ما بعد الحرب الباردة صعود كبير في ظاهرة الأصوليّة الدينيّة على مستوى العالم، فمع سقوط الشيوعيّة حدث فراغ ملأته، أو حاولت ملأه، عناصر عديدة منها الولايات المتّحدة والمعسكر الغربيّ، ولكن كانت الجماعات الأصوليّة الدينيّة أحد اللاعبين الذين حاولوا استثمار ذلك الفراغ لصالحهم، بحيث تكون أطرافًا أكثر تأثيرًا في حركة العلاقات الدوليّة مما كان عليه الوضع أثناء الحرب الباردة[11].
وقد اندفعت تلك الجماعات والتيّارات نحو بناء نموذج بديل يقوم على أساس تطوّرات «جهاديّة تكفيريّة» تستخدمه في صراعها ليس مع قوى كبرى بالضرورة، ولكن مع دول عربيّة، ومع ذلك التغيّر في حركة العلاقات الدوليّة وديناميّاتها في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، أصبحت القضايا والمشكلات والخيارات والمصالح الاقتصاديّة تحتلّ موقعًا أكثر تقدّمًا مما كانت عليه في الماضي.
وفي ذلك السياق، لم تعد ثمّة عداءات أو صداقات أيديولوجيّة مطلقة تقود حركة العلاقات الدوليّة، وخصوصًا إذا كنّا نتحدّث في الإطار الذي لا توجد فيه الجماعات والقوى الأيديولوجيّة المتطرّفة دينيًّا أو وطنيًّا. ومن ملامح التغيّر في حركة العلاقات الدوليّة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة أنّ القوّة الدوليّة المهمّة والمؤثّرة لم تعد قاصرة على الغرب الأميريكيّ والأوروبيّ، بل اتّسع ليشمل قوى آسيا (الصين واليابان والهند وأوراسيا (روسيا الاتحاديّة) وأميركا اللاتينيّة (البرازيل)، وإفريقيا، (جنوب إفريقيا)؛ ونتيجة لذلك، ولتنوّع الأطراف الدوليّة المؤثّرة (دولٌ سبق ذكرها في السطور أعلاه والتكتلات والتجمعات والمنظّمات الاقتصاديّة والسياسيّة والعسكريّة) تعدّدت القضايا العالميّة التي تشكّل أجندة النظام العالميّ، ولم تعد عسكريّة أو إستراتيجيّة فقط، بل ضمّت قضايا عالميّة إنسانيّة وسياسيّة واقتصاديّة، وكذلك اتّسع نطاق حركة العلاقات الدوليّة، ولم يعد قاصرًا على أوروبا التي كانت مركز حركة العلاقات الدوليّة لثلاثة قرون من الزمن، بل ولم يعد ممكنًا تجاهل أيّ منطقة جغرافيّة بزعم أنّها صغيرة أو بعيدة أو ضعيفة، ورغم أنّ ذلك التحوّل يمثّل تحدّيًا أمام النظام الدوليّ الجديد؛ لأنّ أجندته أصبحت أثقل وزنًا وأوسع نطاقًا، وقد لا يكون، أيضًا، من السهل دمج القوى الدوليّة الجديدة العديدة باهتماماتها وانشغالاتها ومصالحها المتعدّدة أو المتنوّعة، مما يجعل النظام الدوليّ الجديد أكثر تعقيدًا وأكثر تركيبًا، وبالتالي ربما يكون التعامل معه، على الأقلّ من الناحية النظريّة، أكثر صعوبة مما كان عليه الوضع في المرحلة السابقة. ولكن في المقابل، فإنّ خريطة النظام الدوليّ الجديد لا تمنع تطوير إطار جديد لذلك النظام. فالأحادية القطبيّة، التي وجدت في مدّة محدودة عقب عام 1991، والتي كانت تبدو أبسط، من الناحية النظريّة، أرهقت الولايات المتّحدة التي كانت تبدو أو ترغب في أن تكون قطبًا واحدًا.

وهكذا تتعدّد وتتنوّع التحدّيات التي تواجه النظام الدوليّ في مرحلته الراهنة؛ ولذلك انعكس ذلك الأمر على رؤية الاتجاهات النظريّة للتغيّر، أو التطوّر في النظام الدوليّ، فثمّة اتجاه معارض لفكرة تأسيس نظام دوليّ جديد، وهو اتجاه يوجد أساسًا في بلاد العالم الثالث. أمّا في الولايات المتّحدة، فيتّجه الفكر إلى الأخذ باتجاه أحاديّ يضع الولايات المتحدة، بالطبع منفردة، على رأس النظام الدوليّ. ويرى اتجاه ثالث أنّ بنية النظام الدوليّ لم تتغيّر؛ لأنّه ظلّ ثنائيًّا، ولكنّه تغيّر من ثنائيّة الشرق الاشتراكيّ والغرب الرأسماليّ، إلى ثنائيّة الشمال المتقدّم والجنوب المتخلّف. والاتجاه الرابع يرى أنّ النظام الدوليّ أصبح متعدّد الأقطاب، نتيجة تنافس عدد من القوى الكبرى، الأمر الذي أنهى مرحلة القطبيّة الأحاديّة.

أمّا الاتجاه الخامس والأخير، فيرى أنّ التوجّه الرئيس هو التوجّه نحو العالميّة، من حيث القضايا (أجندة النظام) أو القديم والقواعد المحرّكة له، أو الاعتماد المتبادل كأساس لحركة العلاقات الدوليّة الاقتصاديّة والثقافيّة[12]. ورغم النجاحات التي تمّ تحقيقها في بعض المجالات السياسيّة والأمنيّة بعد انتهاء حدّة الصراع بين شرق وغرب وتبدّل معادلة الردع النوويّ فإنّ القول بالنظام الدوليّ أو العالميّ الجديد برز بأنّه وهم لا يعبّر عن تطلّعات أو تمنّيات الذين يدعون بولادته أو بوجوده. فلم يتمّ تأكيد دور الأمم المتّحدة ولم يتمّ الأخذ بإصلاحات قد تؤدّي إلى تخفيف الهوّة بين شمال غنيّ وجنوب فقير[13]. كما زادت النزاعات وفشلت الأمم المتحدة في حلّ الكثير من النزاعات، فيما كانت الولايات المتّحدة الأميركيّة تشنّ حروبًا متعدّدة دون الالتفات إلى الشرعيّة الدوليّة كما حصل في أفغانستان عام 2001م ومن ثمّ العراق عام 2003.

المبحث الثاني: الانتقال نحو تعدّد المركزيّات في النظام الدوليّ
منذ سقوط الاتحاد السوفياتيّ وانتقال النظام الدوليّ إلى الآحاديّة القطبيّة، أو إلى المركزيّة الغربيّة بقيادة الولايات المتّحدة الأميركيّة، لم ير العالم استقرارًا وأمانًا، فقد شنّت الولايات المتّحدة الأميركيّة حروبًا متعدّدة لتثبيت هيمنتها، وعلى الرغم من ذلك بدأ العالم يشهد في السنوات الأخيرة مخاض نظام دوليّ جديد متعدّد الأقطاب لينهي أطروحة التمركز الغربيّ، ما تقدّم سوف نتحدّث عنه في هذا المبحث الذي قسمناه إلى ثلاثة مطالب هي:

المطلب الأوّل: فشل منظّمة الأمم المتحدة
المطلب الثاني: تراجع النموذج الأميركيّ
المطلب الثالث: فشل النظام القائم والانتقال إلى التعدّديّة

المطلب الأوّل: فشل منظّمة الأمم المتحدة
تعصف بالعالم منذ تأسيس الأمم المتّحدة عام 1945 أزماتٌ وصراعاتٌ ونزاعاتٌ، تجعل البحث عن إصلاح هذه المنظّمة التي فشلت في حلّ الكثير من الأزمات، ضرورة ملحّة من أجل تجنيب النظم الدوليّ حروب وصراعات خطرة تهدّد أمنه وسلمه.
«لقد انطلقت منظّمة الأمم المتّحدة من فكرة جاءت بها الولايات المتّحدة الأميريكيّة، في مواجهة كلّ من بريطانيا ورئيس وزرائها آنذاك ونستون تشرشل؛ حيث اقترحت إنشاء ثلاثة مجالس إقليميّة ليتم تمثيل كلّ هذه المجالس من طرف قوّاتٍ كبيرةٍ ذات علاقة مباشرة بالنزاع الممكن قيامه في المنظّمة المعنيّة والتي يمسّها هذا النزاع مباشرة. وتمّ التأكيد على إقامة منظّمةٍ دوليّةٍ عالميّةٍ تتكوّن من دولٍ ذات سيادة مهمّتها تحقيق الأمن الجماعيّ والمحافظة على الأوضاع القائمة بدلًا من إقامة نظام للتفاوض والتمثيل. وخلال الإعداد لإنشاء منظّمة الأمم المتّحدة كان ثمّة مشروع يتمثّل في إقامة نظام دوليّ جديد يضمّ دولًا متّفقة، ولها اتجاه سياسيّ ودوليّ مشترك. وتحقيق هذه الأهداف كانت من وراء إنشاء منظّمة الأمم المتّحدة، رغم عدم تماشي هذه الأهداف والذهنيّات والثقافات والوسائل المتوفّرة لدى الدول آنذاك، ويظهر هذا التناقض لدى الدول الكبرى التي أرادت أن تقيم منظّمة حسب مقاييسها، والعمل على تحقيق مراكز ومصالح هذه الدول الكبرى»[14]. اصطدم عمل المنظّمة الدوليّة بالحرب الباردة الأميركيّة السوفياتيّة، وتأثّر بالصراع الاشتراكيّ الليبراليّ، ومن ثمّ أتى غزو نظام صدام حسين في العراق للكويت، وطريقة معالجة مجلس الأمن لهذا النزاع، ليؤكّد عمق التحوّلات على النظام العالميّ وعلى دور الأمم المتّحدة، وكانت الآمال قد انتعشت أثناء حرب الخليج الثانية، متصوّرة أنّ انتهاء الحرب الباردة بين الشرق والغرب سيفتح الطريق أمام قيام نظام عالميّ جديد تلعب فيه الأمم المتّحدة دورًا رئيسًا، غير أنّ تطوّر الأحداث اللاحقة أكّد على انفراد الولايات المتحدة الأميركيّةبقيادة النظام العالميّ، والذي كان له تأثير شديد السلبيّة على الأمم المتّحدة وخاصّة مجلس الأمن، الذي تحوّل إلى أداة في يد الولايات المتّحدة الأميركيّة[15].
ومن ثمّ بدأ يتأكّد ذلك، مع قضيّة الحرب على الإرهاب، وغزو أفغانستان ومن ثمّ غزو العراق، وقد «شكّلت الحرب على الإرهاب سابقة خطيرة على صعيد العلاقات الدوليّة من حيث إنّها تستند في الظاهر على قرارات الشرعيّة الدوليّة، بينما أدّت في الحقيقة إلى استبعاد الأمم المتحدة وتهميش دورها وحلول الولايات المتّحدة الأميركيّة مكانها في الحرب على الإرهاب، فاستقالة مجلس الأمن من مسؤوليّته الرئيسة في حفظ السلم والأمن الدوليّين بمقتضى القرار 1368 أدّت إلى أمركة واضحة للشرعيّة الدوليّة، كما أنّ الالتزامات المفروضة على مختلف الدول بقرار 1373 الصادر في 28 سبتمبر/ أيلول 2001 بدعوى مكافحة الإرهاب أدّت إلى تسخير المشروعيّة الدوليّة لخدمة مصالح وأهداف الولايات المتحدة الأميركيّة، هذا ما تأكد عند قيامها باحتلال العراق في 2003 والذي تمّ دون تفويض مجلس الأمن وبدل من أن يدين المجلس الاحتلال ويطالب بانسحاب قوّات الاحتلال رضخ للأمر الواقع وكلّف قوات الاحتلال بإدارة العراق والتي تحوّلت تسميتها إلى قوات متعدّدة الجنسيّات من دون أن تشارك الأمم المتحدة في قيادتها أو إدارتها، ولم يطرأ أيّ تبديل على تشكيل قوات الاحتلال أو قيادتها أو مهامها»[16].

إنّ دعوات الإصلاح لمنظّمة الأمم المتّحدة ووكالاتها ليست بجديدة، يمكن القول إنّ البعض بدأ بالمطالبة بالإصلاحات منذ تأسيس المنظّمة، وفي انطلاق القرن الواحد والعشرين زادت المطالبات والدعوات حتّى من بعض الدول الدائمة العضويّة في مجلس الأمن للإصلاح ومنها فرنسا وبريطانيا، فضلًا عن الصين وروسيا، لكي تتناسب مسيرة الأمم المتّحدة مع التطوّر الحاصل في العالم، إلّا أنّ هيمنة الولايات المتحدة الأميركيّة على النظام الدوليّ دائمًا، ما كانت تمنع ذلك من أجل الإبقاء على هذه الأداة في النظام الدوليّ الأحاديّ القطب. في خطابٍ للأمين العام للأمم المتّحدة كوفي عنان في مقر الأمم المتحدة بنيويورك يوم 30 تموز/ يوليو2005 قال «إنَّنا نعيش أزمة نظام دولي»، وهذا واضح فيما يقوله الخبراء الأميركيّون أيضًا، الذين يدعون صراحة إلى الوصول للحظة خطيرة في العلاقات الدوليّة، ومنهم هنري كسينجر الذي حذّر دائمًا من الخطورة التي سترافق التحوّل من نظام دوليّ أحاديّ يقوم على الهيمنة الأميركيّة، إلى نظام متعدّد الأقطاب تكون واشنطن فيه حجر أساس؛ لأنّ التحوّل برأي هؤلاء أصبح أمرًا ضروريًّا في ظلّ صعود القوّتين الصينيّة والروسيّة.

وعلى خطى عنان، كان بان كي مون، وكذلك الأمين العام الحاليّ للأمم المتّحدة أنطونيو غوتيريش، الذي دعا إلى ضرورة السير بهذه الإصلاحات، وقام بعقد اجتماعات عدّة من أجل ذلك، ويركّز في دعواتها على إصلاح مجلس الأمن، حيث قال في نهاية العام 2020 إنّه «يتعيّن أن يكون لدول العالم النامية صوت أقوى وأوسع نطاقًا بكثير في صنع القرار العالميّ»، جاء ذلك في رسالة مسجلة بالفيديو، للمشاركين في منتدى جائزة نوبل للسلام حول «التعدّديّة والحوكمة العالميّة في أعقاب جائحة كورونا»، لكنّه قال إنّ «الدول التي تتصدّر العالم منذ أكثر من 7 عقود، ترفض التفكير في الإصلاحات، وحقوق التصويت في مجلس الأمن ونظام برتون وودز مثال على ذلك».

ورغم أنّ تلك القضايا حازت على قرارات صريحة إلّا أنّ آليّة العمل والضوابط المحدّدة لعمل الجمعيّة العامّة كما وردت في الميثاق الأمميّ عطّلتا تلك القرارات، وبالتالي جعلت هذه القرارات العديد من تلك القضايا خارج الشرعيّة الدوليّة، في حين بقيت معظمها تنتظر، وفي مقدّمتها القضيّة الفلسطينية التي تعدّ أبرز تحدّ أمام المنظّمة. أمّا على مستوى مجلس الأمن فإنّ تشكيلته تعاني خللًا واضحًا، وعليه يمكن القول إنّ من أكبر العيوب التي تشوب مجلس الأمن هي عدم ملاءمة تشكيلته الحاليّة لخريطة وموازين القوى الجديدة في النظام الدوليّ الراهن»[17]. إذًا، يعكس فشل التنظيم الدوليّ فشل النظام الدوليّ القائم، لذا فإنّ إصلاح الأمم المتّحدة أصبح ضرورة أمام ما يتعرّض له الأمن الدوليّ من اهتزازات، فضلًا عمّا يحصل من تبدّلات على مستوى النظام الدوليّ ككلّ.

المطلب الثاني: تراجع النموذج الأميركيّ
لا ينفي المنظّرون الأميركيّون أطروحة تراجع الهيمنة العالميّة للولايات المتّحدة، ويحاولون من خلال تقبّل هذا الواقع، التخطيط لهذا التراجع وإدارته بالشكل الذي يصل ببلادهم إلى أن تكون إحدى القوى الرئيسيّة بدلًا من أن تنهار. وعلى حدّ تعبير المفكّر الأميركيّ الشهير روبرت كابلان، فإنّه ليس ثمّة شيء أفضل بالنسبة إلى بلاده من تهيئة العالم لاحتمال زوالها، وترتيب آليّة مناسبة للتراجع المتناسق كي تطيل من أمد بقائها كأمّة قويّة، مشيرًا إلى أنّ العولمة التي اخترعتها الولايات المتّحدة لترسيخ هيمنتها على العالم استغلّتها قوى أخرى (على رأسها الصين) كأداة لتقويض النفوذ الأميركيّ من داخل هذا النظام.

ويشكّل السعي الحثيث للوقوف في وجه الهيمنة الدوليّة الأميركيّة سببًا واضحًا لتأجيج الصراعات العالميّة، بالتالي فإنّ تشكيل تحالف ضدّ الهيمنة الأحاديّة القطبيّة للولايات المتّحدة الأميركيّة، والتحوّل من مجرّد التماشي واحتواء السيطرة، إلى البدء في الانتقال إلى المواجهة، يعني بدء التراجع في النظام القائم على الهيمنة، ما يؤدّي إلى استخلاص نتائج تُظهر أنّ مشروع الهيمنة يتداعى، خصوصًا أمام تحوّل النظام الدوليّ إلى التعدّديّة القطبيّة. لقد أشار كتّاب أميركيّون إلى أنّ أغلبيّة القوى العظمى خسرت قيادتها، ليس بسبب سعيها للهيمنة، بل لأنّ القوى المناوئة الأخرى قامت بتوازن مضادّ بوجهها[18].
ويمكننا القول إنّ الولايات المتّحدة بدأت تخسر سيطرتها القطبيّة أو أحاديّتها بين الأقطاب، منذ تورّطها في غزو العراق عام 2003، بعدما بحثت قبل ذلك عن العدو المفقود، فوجدت ضالّتها بعد أحداث أيلول 2001 في تنظيم «القاعدة». وها هي اليوم أصبحت تواجه منافسات دوليّة، بل إقليميّة أيضًا، كما يحصل في علاقتها مع إيران، وذلك بهدف إعادة التوازن إلى النظام الدوليّ، لا سيما أنّ ثمّة من يضاهيها عسكريًّا، أو على أقلّ تقدير قادر على مواجهتها وتوجيه ضربات قاسية إلى أمنها إن لم نقل هزيمتها، فضلًا عن أنّ قدرتها على المناورة عبر فرض عقوبات اقتصاديّة دائمة، قد لا تكون الورقة الرابحة دائمًا، خصوصًا في ظلّ وجود إمكانيّة المواجهة كما في الحرب التجاريّة مع الصين. إضافة إلى ما تقدّم، لم تنجح قوّتها الناعمة دائمًا، على عكس الصين مثلًا، التي تظهر أقلّ تهديدًا للعالم منها[19].

وتُعدّ مرحلة التحوّل من نظام دوليّ إلى آخر، من أخطر المراحل في العلاقات الدوليّة. وهنا يحذّر وزير الخارجيّة الأميركيّ الأسبق هنري كيسنجر الولايات المتّحدة الأميركيّة من الانعزال عمّا يجري في العالم، كذلك يحذّر في كتابه النظام العالميّ من خطورة الانتقال إلى الميدان المفتوح لأكثر المساعي التوسّعيّة وأكثر اللاعبين عنادًا، وهو يجزم بأنّ المفهوم العامّ الذي يستند إليه النظام العالميّ في عصرنا الحديث يمرّ بأزمة حقيقيّة، ولعلّ الاضطرابات والحروب الدائرة رحاها في أكثر من منطقة في العالم خير دليل على عمق هذه الأزمة. ويرى كيسنجر أنّ النظام العالميّ الجديد يستحيل أن يكون أحاديَّ القطب، بل ينبغي أن يكون متعدّد الأقطاب، مشتركًا بين الولايات المتّحدة والصين، معتبرًا أن لا مناصَ من عالم متعدّد الأقطاب، يسوده اقتصاد السوق.
ويقول بول كينيدي في كتابه: «صعود القوى العظمى وهبوطها» إنّ وصول الولايات المتّحدة إلى نقطة «التمدّد الزائد» للإمبراطوريّة، هو سبب الاختلالات الاجتماعيّة والاقتصاديّة البنيويّة التي تفاقمت في الولايات المتّحدة في العقود الماضية.

من ناحيته يقول جورج فريدمان في كتابه «العشريّة القادمة» الصادر في العام 2011؛ إنّ الولايات المتّحدة وجدت نفسها تصارع في عالمٍ معقّد بسبب «التوسّع الزائد» غير المخطط له، حيث امتدت مصالحها وقوّاتها في معظم أرجاء العالم.
ويعيد المؤرّخ الأميريكيّ موريس بيرمان في دراسة له بعنوان (Why America Failed: The Roots of Imperial Decline) التراجع الأميريكيّ إلى عوامل أربعة تدفعه باستمرار، وهي: تنامي الفوارق الاقتصاديّة والاجتماعيّة في المجتمع الأميريكيّ، وتناقص العائد من الاستثمارات في البنى الاجتماعيّة، وتراجع الفكر النقديّ، ثمّ ما أسماه الموت الروحيّ للولايات المتحدة، بل إنّه يعيد بعض هذه التناقضات إلى بنية قيميّة متناقضة بين الشمال الذي تسيطر عليه فكرة السعي المتواصل لملكيّة الثروة دون أيّ قيود، وبين الجنوب الذي تسيطر عليه قيم الشجاعة والشرف والودّ.

ويرجع بعض المحلّلين هذا التراجع، إلى تراجع الليبراليّة وبداية سقوط النموذج الليبراليّ، حيث يقول باتريك ج. دنيين في كتابه لماذا فشلت الليبراليّة؟ WHY LIBERALISM FAILED إنّ نهاية الليبراليّة في الأفق، كما أنّه يُوضح أنّ النظام الليبراليّ يتآكل ويتلاشى من داخله، لأسباب نظريّة وعمليّة لا يمكن إصلاحها مرّة أخرى، فيرى أنّ هذا الانهيار قد يستمر سنوات طويلة، لكن نهاية هذا النظام حتميّة كما هو حال كلّ الأيديولوجيّات التي نشأت ثمّ اندثرت في الماضي. وهو يؤكّد على تزايد عدم الرضى عن النظام الليبراليّ، فالاختلال على المستوى السياسيّ، التفاوت الاقتصاديّ، سيطرة التكنولوجيا، التمزّق الاجتماعيّ وتزايد النزعة الفرديّة وغياب الشعور بالألفة وغيرها من المشاكل سوف تتفاقم بالمجتمعات الغربيّة. بناءً على ذلك فإنّ نهاية الليبراليّة في الأفق ومسألة وقت لا غيرح لذلك فهو يؤكّد أنّ المشكلة ليست في برنامج أو ممارسة الليبراليّة، بل بالنظام الليبراليّ نفسه.
ويمكن ملاحظة الكثير من المؤشّرات التي تدلّ على تراجع قوّة أميركا في العالم، خاصّة لجهة تغيّر الرأي العام العالميّ من الهيمنة الأميركيّة، لا سيّما بعد الحرب في أوكرانيا، وقد نشرت جامعة كامبريدج في هذا السياق دراسة تحت عنوان «عالم منقسم: روسيا والصين والغرب» تفحص من خلالها كيف تتغيّر مواقف الرأي العام حول العالم تجاه القوى الدوليّة الكبرى، الصين وروسيا والولايات المتّحدة الأميركيّة، في أعقاب حرب أوكرانيا، وصعود الصين، والتحدّيات التي تواجهها الديمقراطيّة الأميركيّة، حيث قامت الدراسة بتنسيق ودمج البيانات من ثلاثين مشروعًا إحصائيًا عالميًا تغطي مجتمعة 137 دولة تمثل 97% من سكان العالم[20].

وبيّنت الدراسة أنّ الديمقراطيّات الغربيّة تقف بحزم أكثر من أيّ وقت مضى خلف الولايات المتّحدة. كما أنّ الحرب في أوكرانيا حفّزت المجتمعات الديمقراطيّة والليبراليّة في جميع أنحاء العالم إلى اتخاذ موقف أكثر تأييدًا لأميركا. لكن في مساحات شاسعة من البلدان الممتدّة من أوراسيا القارّيّة إلى إفريقيا نجد أنّ المجتمعات اقتربت أكثر من الصين وروسيا على مدار العقد الماضي. نتيجة لذلك، فإنّ الصين وروسيا تتقدّمان بفارق ضئيل على الولايات المتّحدة في شعبيّتها بين الدول النامية.
وبيّنت الدراسة أنّ العالم اليوم ممزّقٌ بين مجموعتين متعارضتين: تحالف بحريّ من الديمقراطيّات بقيادة الولايات المتّحدة، وكتلة أوروبيّة آسيويّة من الدول غير الليبراليّة أو الأوتوقراطيّة، التي تتمحور حول روسيا والصين.

ومن النتائج المهمّة لهذه الدراسة، أنّ العالم انقسم إلى دوائر ليبراليّة وغير ليبراليّة، فمن بين 1.2 مليار شخص يسكنون الديمقراطيّات الليبراليّة في العالم، فإنّ (75%) لديهم وجهة نظر سلبية تجاه الصين، و87% لديهم نظرة سلبيّة تجاه روسيا. ولكن المهمّ أنّه على الرغم من ذلك، فإنّه بالنسبة لـ6.3 مليار شخص الذين يعيشون في بقية العالم، فإنّ الصورة معكوسة، ففي هذه المجتمعات يشعر 70% بإيجابيّة تجاه الصين، و66% تجاه روسيا.

ما تقدّم، يبيّن لنا مدى الانقسام الحاصل في العالم، والذي على أساسه سوف تزداد التجاذبات، ليس على مستوى الدول فقط، إنّما على مستوى الشعوب أيضًا، لأنّ الرأي العام العالميّ يتأثّر بالانقسام والتجاذب الحاصل على كلّ المستويات وبكلّ المعايير والأطروحات، فالدول التي تتصارع على القوّة والنفوذ في العالم هي التي تؤثّر في شعوبها، إلّا أنّ المسار العام يبيّن تقدّمًا عالميًّا واضحًا لرافضي الليبراليّة والهيمنة الأميركيّة، فيما يزداد تأييد الدول الأخرى كروسيا والصين خاصّة من قبل الدول النامية والأكثر فقرًا، ويمكن الإشارة إلى بعض مؤشّرات تراجع القوّة الأميركيّة.

الصعود الروسيّ الصينيّ
يشكّل الصعود الصينيّ والروسيّ أحد أبرز العوامل التي بدأت تبدل صورة الدولة الأميركيّةالقادرة على قيادة العالم وحلّ مشكلاته، خاصّة في عدم القدرة على كسر روسيا من خلال الحرب الأوكرانيّة، وهناك تتداخل بعض المؤشّرات السياسيّة والعسكريّة مع الصعود الصينيّ الروسيّ في مقابل التراجع الأميركيّ، ومنها سباق التسلّح لحفظ التوازن العسكريّ مع روسيا والصين لناحية نشر القوّات وتوجيه الصناعات الدفاعيّة وأولويّات الإنفاق، حيث نجد أنّ الولايات المتحدة الأميركيّة تنفق ما يضاهي 900 مليار دولار على الأمور التسليحيّة في الميزانيّة السنويّة، في مقابل رخص الإنتاج الموجود لدي روسيا والصين وإيران وكوريا الشماليّة، علمًا أنّ هذه الدول المنافسة لواشنطن تمتلك سلاحًا نوويًّا أيضًا، كروسيا والصين وكوريا الشماليّة.
كذلك تأتي في هذا السياق السياسات المختلفة في تحقيق الأهداف، حيث نشهد تحوّلًا أميركيًّا كبيرًا نحو تحقيق الأهداف من خلال التحالفات الدوليّة وتخفيف العبء عن كاهل الولايات المتّحدة الأميركيّة، وهذا ما يغيّر صورة القوّة الأميركيّةالقادرة على التدخّل السريع. والاكتفاء بتأمين تمويل للحرب ودعم تسليحيّ عند الاضطرار من دول ذات مصالح مشتركة كما هو حاصل في الحرب الأوكرانية.

ضعف السياسة الخارجيّة
ويأخذنا ذلك إلى مؤشر مهمّ أيضًا، يرتبط بضعف النفوذ الدبلوماسيّ الأميركيّ في معالجة الأزمات وحلّ النزاعات الدوليّة، ما يبيّن ضعف الفعاليّة الأميركيّةالخارجيّة، وهذا ما بدأ يظهر أيضًا فقدان ثقة الحلفاء بالإدارة الأميركيّةوضبابيّة المعايير في بناء العلاقات مع الحلفاء والشركاء في عهدي ترامب وبايدن، خاصّة من قبل الأوروبيّين والعرب، وبالتالي فشل تطوير استراتيجيّة جديدة تتجاوز الثغرات السابقة في السياسة الخارجيّة وبناء التحالفات، في مقابل تنامي قدرة المنافسين الإقليميّين ومحاولة الخروج من العباءة الأميركيّةفي بعض الملفّات، كما حصل في الملفّين التركيّ والسعوديّ، كدخول حلفاء أميركا في تحالفات مع منافسيها، مثل العلاقة السعوديّة الروسيّة والصينيّة، وكذلك العلاقة التركيّة الروسيّة، والعلاقة الإيرانيّة الصينيّة الروسيّة، والعلاقة الإيرانيّة الإماراتيّة والقطريّة، هذا فضلًا عن فشل مشروع التطبيع ومشاريع الأمن الإقليميّ التي رسمتها واشنطن لمنطقة الشرق الأوسط، وقد ظهر مدى رفض الشعوب العربيّة للتعايش مع الصهاينة أثناء فعاليّات كأس العالم.

الانكفاء وإستراتيجيّة العقوبات
ومن المؤشّرات المهمّة التي يمكن البناء عليها، هي إستراتيجيّة الانكفاء في تخفيف التركيز على منطقة الشرق الأوسط، والتي تبرز في عدم إيلاء المنطقة أهمّيّة كبرى، والإحجام عن التدخل العسكريّ فيها، والخروج من الحروب التي لا نهاية لها، حيث يعتبر الخروج من أفغانستان أنموذجًا لذلك، والفشل مثلًا في حلّ عقدة البرنامج النوويّ الإيرانيّ.
وفي مقابل هذا الانكفاء، تركّز واشنطن على سياسة العقوبات، بدلًا من التدخّلات العسكريّة ضدّ الدول المناهضة لأميركا، مثل ما يحصل مع إيران وروسيا، علمًا أنّ هذا السلاح لم يعد يجدي نفعًا، وهذا ما يعترف به الأميركيّون أنفسهم، فبعض الدول تمكّنت من كسر جدار العقوبات الأميركيّة والعزلة السياسيّة والحصار الاقتصاديّ مع ما يعنيه ذلك من تسجيل إنجازات جديدة في اختراق السياسة الأميركيّة في العالم، ويمكن النظر هنا إلى ما يحصل حاليًا مع فنزويلّا، حيث بدأت أميركا برفع الحصار عنها للاستفادة النفطيّة منها.

سقوط نموذج الديمقراطيّة الأميركيّة
إنّ أحد أبرز مؤشّرات تراجع هذه الديمقراطيّة هي حادثة الكونغرس، وكذلك الانقسام الحادّ في المجتمع السياسيّ والذي يحصل بسبب عنف متقابل، وقد بدأت منذ عام 2020 التصويب بشكلٍ دائمٍ على الديمقراطيّة الأميركيّة وتراجعها منذ عهد ترامب إلى عهد بايدن والحديث دائمًا عن ضرورة إعادة ترميم صورة أميركا. هذا فضلًا عن حجم الانقسام العميق في المجتمع السياسيّ، وتراجع حجم الثقة بفاعليّة النظام السياسيّ الذي يحكم في الولايات المتّحدة الأميركيّة، وكذلك ضعف صورة الرئيس الأميركيّ في الداخل والخارج.

على المستوى الاقتصاديّ
لا تعكس المؤشّرات عودة انتعاش الاقتصاد الأميركيّ قريبًا في ظلّ ارتفاع الدين العامّ إلى ما يقارب 32 تريليون دولار، وهو يعتبر أعلى مديونيّة حكوميّة في العالم[21]. في وقت يتحوّل جغرافيّة الاقتصاد العالميّ لصالح الصين كونها محرّكًا رئيسًا للنموّ العالميّ، فضلًا عن تراجع القدرة على كبح جماح الصين الاقتصاديّ ومنافستها في الأسواق العالميّة، وتنامي الاستثمارات التجاريّة الصينيّة الضخمة مع حلفاء أميركا وشركائها وخصومها في العالم، بالإضافة إلى إيجاد الصين بديلًا عن الطاقة القادمة من غرب آسيا، والتي تعتبر مضيق ملقا وبحر الصين الجنوبيّ، وهي مناطق غير مستقرّة وقد تخضع للإغلاق في حال توتّرت العلاقات مع الولايات المتحدة بخصوص المسألة التايوانيّة.
أمّا على صعيد اقتصاد الطاقة، فلم تنجح واشنطن في محاصرة روسيا اقتصاديًّا بشكل كامل، فبحسب مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف تستورد الهند أكثر من 760 ألف برميل في اليوم من روسيا منذ الحرب الأوكرانيّة؛ بينما لم تكن تشتري أيّ نفط تقريبًا منها، كما أنّها امتنعت عن التصويت ضدّ روسيا. وتعتبر روسيا من أكبر مورّدي السلاح إلى الهند[22]. كذلك سيكسب الاعتماد على الطاقة من روسيا الصين مرونة أكبر في مواجهة أي تهديدات محتملة من الغرب وتحالفاته في المنطقة مثل تحالف أوكوس الذي يجمع مع أميركا كلًّا من بريطانيا وأستراليا. أضف إلى ذلك، صعود دول شرق أسيا على المستوى السياسيّ والاقتصاديّ، وفتح علاقات جيّدة لها مع الصين، ومن ثمّ صعود منظّمات إقليميّة تعاونيّة مثل منظّمة شنغهاي على حسب منظّمات تسيطر عليها واشنطن.

على المستوى الاجتماعيّ
يعاني الشعب الأميركيّ، من ظاهرة تنامي التسلّح الفرديّ في الشارع الأميركيّ وتنامي نزعات العنصريّة والتمييز العرقيّ داخل المجتمع الأميريكيّ، فقد أظهر تقرير لوزارة العدل الأميركيّة أنّ الشركات الأميركيّة أنتجت في السنوات الـ20 الماضية أكثر من 139 مليون قطعة سلاح ناريّ مخصّصة للبيع للأفراد، بينها 11.3 مليون قطعة أُنتجت في العام 2020 وحده. ازدياد حالات القتل نحو 21 ألف، وكذلك حالات الانتحار 25 ألف خلال عام 2021. ازدياد الفقر بالنسبة إلى معدّلات البطالة، وعدم وجود تأمين صحّيّ لكلّ الأميركيّين.
ازدياد مخاطر حدوث أعمال عنف واضطرابات داخليّة جرّاء حالة الانقسام السياسيّ القائمة في أميركا، يظهر استطلاع للرأي أنّ ما يقرب 9 على 10 من الأميركيّين (أي 88 بالمئة من مواطني الولايات المتّحدة) لديهم خطر متنامٍ من العنف بسبب الخلافات الصراعات السياسيّة الداخليّة، يمكن الرجوع إلى استطلاع أجرته صحيفة «الواشنطن بوست» وشبكة ABC News [23].
المعضلة في حلّ المشكلات الداخليّة الثقافيّة والاقتصاديّة والمؤسّسيّة؛ فيوجد ضعف في المستوى التعليميّ المدرسيّ، ولا تزال الفروق الطبقيّة طبقًا للمقياس الجينيّ عالية، إضافة إلى فقر الأطفال، وتراجع معدّلات الادّخار، ومشكلة احتمال إغلاق باب الهجرة.
انخفاض عدد المتزوجين والولادات، ارتفاع عدد الأطفال الذين يعيشون مع أحد الوالدين فقط، وخاصّة الأمّ، وهذا يسبّب مشكلة الأسرة مع الأم وحدها، وهذا يزيد من الإجهاد الأسريّ والفقر والمعاناة، ومشكلة غياب الأب التي لها عواقب أسريّة ونفسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة كثيرة.
ارتفاع عدد الأسر دون أطفال إلى 71.3%، ومن بين الأسباب المساهمة في هذا الاتجاه شيخوخة السكان، وانخفاض معدلات الخصوبة، وتحوّل كبير في ترتيبات المعيشة – على وجه التحديد، انخفاض بنسبة 44% في البالغين الذين يتعايشون مع الأزواج.
منح تقنين زواج المثليّين عبر الوضع القانونيّ للأزواج من نفس الجنس وزاد عدد الأسر المبلّغ عنها المكوّنة من شركاء من الجنس نفسه بشكل كبير.
معاناة الأطفال من نقص في الرعاية والتربية، والمعاناة العقليّة والنفسيّة والعاطفيّة والمعنويّة والصحّيّة والسلوك العدوانيّ واضطرابات النوم والكوابيس والذعر الليليّ، ومن القلق والتوتّر والكبت والاكتئاب والإحباط واليأس وعدم الثقة بالنفس وقلّة الذكاء والتعاون، وزيادة في نسبة الانتحار، واضطرابات نقص الانتباه ومعاشرة الرفقاء غير الجيّدين، وتضاعف احتمال أن ينخرط الشاب في نشاط إجراميّ.
تزامن تراجع المسيحيّين في الولايات المتحدة مع الارتفاع المستمر في نسبة الأميريكيّين الذين ليس لديهم انتماء دينيّ «غير دينيّ»، فالأشخاص الذين يعرّفون أنفسهم على أنّهم ملحدين أو لا أدريّين (حوالي 7٪ من جميع البالغين في الولايات المتّحدة)، وكذلك أولئك الذين يقولون إنّ دينهم «لا شيء على وجه الخصوص».
يوجد فجوات كبيرة في العرق والدخل وفي وفرة البرامج التي تستهدف مرحلة ما بعد المدرسة، كما أنّ ثمّة مشكلة في نظرة الأهل إلى جيرانهم التي تختلف بشكل حادّ حسب الدخل والعرق[24].
إنّ ما تقدّم، يعكس النقاط التي تظهر تراجع القوّة الأميركيّة، وإن كانت الولايات المتّحدة الأميركيّة لا تزال تتربّع على عرش النظام الدوليّ، ولديها الكثير من عناصر القوّة في المستويات كافّة، إلّا أنّ ذلك لا يعني أنّ أميركا اليوم هي كما كانت عليه إبان سقوط جدار برلين أو غزو أفغانستان والعراق، فإنّ مقابل ترهّل هذه القوّة، أو على أقلّ تقدير تراجعها، يوجد قوّة متعدّدة تسعى إلى الوصول إلى قمّة الهرم، كما أنّ ثمّة دولًا تسعى لكي تثبت نفسها لاعبًا أساسيًّا، سواء أكان على المستوى الدوليّ أو على المستوى الإقليميّ، وبالتالي فإنّ الواقع الحالي يعكس حقيقة أنّ واشنطن لم تعد تمارس سياساتها إلّا من منطلقات ضرورة كسر الآخرين للمحافظة على التفوّق، وليس من نظرة القوّة المطلقة أو ما كان يعرف بالاستثنائية الأميركيّة في العالم.

المطلب الثالث: فشل النظام القائم والانتقال إلى التعدّديّة
ظنّ العالم أنّ النموذج الأميركيّة سوف يسيطر على العالم لعقود طويلة، وأنّ المركزيّة الغربيّة ستكون هي نهاية الحضارات، أو نهاية العالم حتّى، ونظر الكثيرون للاستثنائيّة الغربيّة، معتبرين أنّ النظام الدوليّ الذي أتى بعد الثنائيّة القطبيّة هو الأفضل للعالم، لكن عند الدخول في تفاصيل العلاقات الدوليّة، «نجد الفوضى في كلّ التفاصيل، فوضى في المحدّدات الفكريّة وفي التطبيق على أرض الواقع. فوضى في انتظام عمل الأمم المتّحدة بوصفها راعية للسلم والأمن الدوليّين، بالتزامن مع فوضى التسلّح، بل والتهديد بالعودة إلى سباق التسلّح. فوضى في العلاقات الاقتصاديّة الدوليّة وما تشهد من حصار وعقوبات وحروب تجاريّة، وبرزت هذه الفوضى في انتشار جائحة كورونا العالميّة، حيث دمّر جزء منها الاقتصاد العالميّ، وفشلت القوى الدوليّة في اعتماد إستراتيجيّة واحدة لمكافحتها، فبدا العالم منقسمًا، بينما تزداد الفوارق بين الشعوب، كما تراجعت فاعليّة القانون الدوليّ العام، وانتشرت الفوضى في الأمن الوطنيّ والعالميّ تحت وطأة تهديدات هيكليّات الدول بالسقوط، وتعثّر تطبيق نظام الأمن الجماعيّ، وتزايدت النزاعات والحروب»[25].
و«في هذا النظام الدوليّ الأحاديّ انتشرت الفوضى في حماية البيئة الطبيعيّة من التلوّث والتدمير والفوضى في تحقيق التنمية المتوازنة المستدامة للشعوب الفقيرة، طالما أنّ المعايير الدوليّة المعتمدة مستندة إلى سياسة القوّة للقوى الدوليّة الكبرى، لا إلى القواعد القانونيّة العامّة وإلى مبدأ التعاون الدوليّ وفق ما نصّ عليه ميثاق الأمم المتّحدة. كما أنّ ثمّة فوضى في معالجة الأزمات الدوليّة والمحلّيّة، كما أنّه لم تصمد وعود العولمة باختصار المسافات، ومعالجة المشكلات الدوليّة، أمام تفاقم الأزمات الدوليّة؛ ذلك لأنّ ربط العولمة بالاقتصاد الليبراليّ، ومحاولة فرض نمط واحد من خلال الأمركة في الاقتصاد وتاليًا في السياسة والأمن، اصطدمت بالفوضى العالميّة»[26]. ونجد في مجال آخر، التدخّل الأميركيّ، وتدخّل الدول الصناعيّة الكبرى في الشؤون الداخليّة للدول على حساب قاعدة السيادة الوطنيّة والمصالح المشتركة. وفي حمأة هذه الفوضى العالميّة، بلغت كلفة التسلّح العالميّ مليارات الدولارات، وهناك أكثر من مليار وثلاثمئة مليون نسمة تحت خطّ الفقر، فيما بلغ عدد ضحايا سوء التغذية المليار نسمة لا لنقص الموارد الطبيعيّة، بل لسوء التوزيع الناتج عن الكولونياليّة المسيطرة على الموارد والثروات؛ ولذا لم تصمد أطروحة نظام القطب الواحد الأميركيّ، هذا إذا افترضنا وجود انتظام عامّ في العلاقات الدوليّة يمكن اعتباره نظامًا. وقد بدأ ذلك عندما أعلن باراك أوباما أنّ الولايات المتّحدة لا تقود العالم بمفردها، وثمّة قوى دوليّة كبرى كالصين وألمانيا وروسيا واليابان، ودول صاعدة في مجموعة العشرين وغيرها، كلّها طامحة لأخذ موقعها في النظام العالميّ، بيد أنّ التعدّد القطبيّ غير محدّد المعالم والضوابط حتى تاريخه، ولا يزال الجميع في حالة من الفوضى العالميّة»[27].

لقد أصبح النظام الدوليّ نتيجة تعدّد القوى الدوليّة الفاعلة فيه، تحكمه جملة من التفاعلات والاعتبارات، خاصّة مع تقدّم الثورة التكنولوجيّة، ما يجعل الانتظام فيه غير محكم وغير دقيق. ومن سمات النظام الدوليّ الحاليّ أنّه يتّصف بالفوضى؛ إذ إنّه يشهد نزاعات دوليّة معقّدة، بعضها مسلّح، وبعضها يأخذ طابعًا اقتصاديًّا أو ثقافيًّا أو سياسيًّا وقانونيًّا. هذا عدا عن غياب الاستقرار في العلاقات الاقتصاديّة الدوليّة بين دول الشمال الصناعيّة ودول الجنوب، بل بين دول الشمال نفسها، وباتت تظهر صعوبة إدارة النظام الدوليّ من جانب قطب واحد، أو قوّة عظمى واحدة، فمسؤوليّة صنع القرار الدوليّ باتت صعبة ومعقّدة بفعل تزايد عدد الفاعلين الدوليّين، إنّهم إلى جانب الدول، المنظّمات الإقليميّة والدوليّة، والشركات المتعدّدة الجنسيّات، فضلًا عن الثورة المعلوماتيّة التي أدخلت الرأي العام أكثر إلى الأزمات، بحيث تنعكس آثار أيّ أزمة محلّيّة أو إقليميّة على النظام الدوليّ برمّته بصورة أكثر عمقًا عما كانت عليه في المراحل السابقة.

لقد تراجعت مقولة نظام القطب الواحد في العقد الأوّل من القرن الواحد والعشرين، فبرزت دولة وازنة في النظام الدوليّ إلى جانب الولايات المتّحدة مثل: الصين وروسيا واليابان والهند والاتحاد الأوروبيّ، وتوجد دول أخرى تتوثّب لكي تأخذ دورها في قيادة النظام الدوليّ مثل: البرازيل والمكسيك وإيران وتركيا وباكستان وكوريا الجنوبيّة. ويمكن القول إنّ النظام الدوليّ لم يعد نظامًا متعدّد الأقطاب على الطريقة التقليديّة التي سادت في القرن الماضي، بقدر ما يتمثّل بمحاور دوليّة متعدّدة الأحجام والنفوذ الدوليّين وسط مناخ عام الفوضى الدوليّة[28]. في المقابل يوجد مَن رفض مقولة النظام العالميّ الجديد، معلّلًا ذلك بحالة الفوضى والصراعات التي انتابت العالم، والتي تصبح معها مثل هذه المقولة نوعًا من الخديعة والوهم، وإنّ نظام ما بعد الحرب الباردة لا يختلف عن سابقه من حيث آليّات اتّخاذ القرار. ويوجد رأي يرى أنّ ما يسمّى بالنظام العالميّ الجديد لا يزال قيد التشكيل، وأنّ معالمه لم تستقرّ بشكل نهائيّ بعد، وأنّ المرحلة الحالية مرحلة انتقاليّة قد تستغرق سنوات عديدة؛ ولذلك يفصل هذا الاتجاه استخدام تعبير النظام الدوليّ المتغيّر للتعبير عن مرحلة التغيّر الراهنة في العلاقات الدوليّة[29].

وتتميز القطبيّة التعدّديّة التي من المفترض أن تحلّ مكان المركزيّة الغربيّة بوجود عدّة دول كبرى، أو أقطاب، لديها موارد وقدرات وإمكانات متعادلة من حيث القوّة والقدرة على ممارسة النفوذ والتأثير على العلاقات الدوليّة في مجالاتها المختلفة العسكريّة والاقتصاديّة والسياسيّة والعلميّة- والتكنولوجيّة، وبما يمكّن كلّ من هذه القوى القطبيّة من استقطاب الدول الأقلّ، أو الأضعف منها[30]. في مقابل ذلك، تتّسم القطبيّة الأحاديّة بوجود درجة عالية من تركّز قدرات القوّة وإمكانات العمل الدوليّ المؤثّر في محيط دولة واحدة مهيمنة على النظام الدوليّ.

وقد يكون الطرف المهيمن الواحد دولة أو مجموعة من الدول المتحالفة فيما بينها، وحيث يكون لهذا القطب من الموارد والإمكانات والقوّة في المجالات الاقتصاديّة والعسكريّة والاجتماعيّة والعلميّة التكنولوجيّة ما يؤهّلها لفرض إرادتها وبسط نفوذها السياسيّ على الوحدات السياسيّة الأخرى المشكّلة للنظام الدوليّ. وبالتالي ففي النظام التعدّديّ يسود نمط التوفيق والمساومات، بينما يسيطر التنافس والصراع في النظام ثنائيّ القطبيّة، وتتصدّر سيادة القطب الواحد ومصالحه وسياساته في النظام الأحاديّ القطبيّة. ولإيديولوجيّة النظام الدوليّ، إن وجدت، تأثير كبير في تحديد هيكله، وفي تحديد عمليّة الانتقال من نظام إلى آخر. ففي النظام متعدّد الأقطاب لا توجد إيديولوجيا واحدة أو مسيطرة أو جامدة، بل توجد سيولة ومرونة ومتّسع يضمّ انتماءات فكريّة متنوّعة دون جمود إيديولوجيّ. وفي النظام الثنائيّ القطبيّة توجد حالة استقطاب إيديولوجيّ، حيث يستخدم كلّ قطب أيديولوجيّته كوسيلة لجذب آخرين نحوه وتأليبهم على القطب الآخر وأيديولوجيّته. أمّا في النظام أحاديّ القطبيّة فتسود أيديولوجيا القطب العالميّ الأوحد الذي يسعى إلى فرض أيديولوجيّته على الآخرين[31]؛ لذلك فإنّ الأفضل لعالمنا اليوم، هو الانتقال نحو نظام متعدّد الأقطاب، لا يقوم على محوريّة التمركز الغربيّ، إلّا أنّ الخطورة تكمن في كيفيّة الانتقال إلى هذا النظام؛ لأنّ الولايات المتحدة الأميركيّة لن تتنازل عن هيمنتها على العالم في كافّة المستويات، وبالتالي فإنّ الدول التي تريد التقدّم نحو قمّة النظام الدوليّ، ستخوص صراعات متعدّدة وربما مريرة للتخلّص من الهيمنة الأميركيّة، وبالتالي أطروحة المركزيّة الغربيّة في قمة النظام الدوليّ.

الخاتمة
إنّ من نتائج البحث في تحولات وتبدّلات النظام الدوليّ، يظهر أنّ الهيمنة الأميركيّة كما رآها فرانسيس فوكوياما، قد لا تكون طويلة، وهو ما كان يخال للمنظريّن الغربيّين أيضًا، حيث بدأت تتغيّر الرؤية الغربيّة والأميركيّة خاصّة لما عرف بالنموذج الأميركيّ الاستثنائيّ، أو بالحلم الأميركيّ، لا سيّما أنّنا نرى الإخفاقات المتعدّدة للإدارات الأميركيّة منذ غزو أفغانستان 2001، ثمّ غزو العراق 2003 مرورًا بالربيع العربيّ، فالحرب على سوريا، ومن ثمّ الحرب الروسيّة الأوكرانيّة، والتي قد تكون أحد المسامير الأخيرة في نعش الأحاديّة ويمكن لها أن تؤدّي في نهاية المطاف إلى انقلاب المشهد في النظام القائم، وما يحصل اليوم من أزمات ما هي إلّا دلائل على إدارة اللعبة التي ما زالت واشنطن تسجّل فيها الأهداف دون أن تمنع شباكها من الاهتزاز.
ويبدو أيضًا في ظلّ هذا التحوّل، أنّ النظام الاقتصاديّ العالميّ القائم على الأحاديّة لن يدوم طويلًا، فكما بدأ الانتقال إلى مرحلة التعدّديّة في السياسة الدوليّة، بات العالم بحاجة فعليّة لنظام اقتصاديّ يقوم على التشارك والدمج بدلًا من الاستئثار، لأنّ الدول لن تصمد كثيرًا في حال استمرّ الاقتصاد العالميّ على ما هو عليه. وبالتالي، فإنّ الدول المتضرّرة لن تسكت كثيرًا عن السياسة الاقتصاديّة الأميركيّة تجاه العالم، وهنا بإمكاننا النظر إلى التحوّلات الاقتصاديّة في روسيا والصين، والتي أصبحت تتخطّى العقوبات الاقتصاديّة، بل تحاربها.
لقد تغيّرت نظرة الغرب، وخصوصًا نظرة النُخب الأميركيّة في مراكز الدراسات والجامعات والصحف إلى الأحادية القطبيّة. وهذا ما يقودنا إلى القول إنّ العالم المتعدّد الأقطاب هو بديل جذريّ للعالم أحاديّ القطب، وهنا يأتي دور الصين التي لم تعُد لاعبًا سهلًا تنظر إليه واشنطن على أنّه تحدٍّ اقتصاديٍّ عالميٍّ، وكذلك يأتي الدور الروسيّ للعب في المجال الجيوستراتيجيّ على الرغم من محاولة محاصرتها وهزيمتها عبر الحرب الأوكرانيّة.
إنّ النظام الدوليّ الذي شهد تقلّبات وتحوّلات عديدة لم يشهد استقرارًا البتّة منذ الحرب العالميّة الأولى ونشوء عصبة الأمم، ومن ثمّ نشوب الحرب العالميّة الثانية، وقيام منظّمة الأمم المتّحدة كبديل لعصبة الأمم التي فشلت في الحفاظ على السلم والأمن الدوليّين، كانت تحكمه المركزيّة الغربيّة الأوروبيّة ومن ثمّ التشاركية الأوروبيّة الأميركيّة، إلى أن أدّى التجاذب بين المعسكرين الغربيّ والشرقيّ وقيام الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتيّ والولايات المتّحدة الأميركيّة، وما شهدته هذه الفترة من تقلّبات وأزمات وصراعات، إلى أن انتهى المطاف بالنظام الدوليّ القائم على المركزيّة الغربيّة أو الآحاديّة الأميركيّة، لكنّه لم يستقرّ، بل شهد الكثير من الأزمات والصراعات، وبدأ فعلًا بالانتقال نحو التعدّد القطبيّ، فهل هذا الانتقال سيكون الأفضل لمستقبل العالم؟ وهل سيحصل هذا الانتقال دون أن يخلّف الدمار والحرب؟

لائحة المصادر والمراجع

الكتب:
إسماعيل صبري مقلّد، العلاقات السياسيّة الدوليّة: النظريّة والواقع، جامعة القاهرة، كلّيّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة، الطبعة الأولى، 2001.
باسل يوسف بجك، العراق وتطبيقات الأمم المتحدة للقانون الدوليّ (1990–2005)، مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت، 2006.
حسام مطر، الهيمنة الساحرة، صادر عن مركز باحث للدراسات، الطبعة الأولى 2018.
حسن العامليّ، تهافت الأسرة الأميركيّة، مركز الأبحاث والدراسات التربويّة، بيروت، 2022.
حسن نافعة، مبادئ علم السياسة، مكتبة الشروق الدوليّة، طبعة أولى، الشارقة 2014.
ريمون حداد، نظريّة العلاقات الدوليّة، دار الحقيقة للطباعة والنشر، بيروت، 2000.
شفيق المصري، النظام العالميّ الجديد، دار العلم للملايين، 1992.
عبد الله إبراهيم، المركزيّة الغربيّة: إشكالية التكوّن والتمركز حول الذات، المركز الثقافيّ الغربيّ، الطبعة الأولى، 1997.
عدنان السيّد حسين، العلاقات الدوليّة، منشورات الجامعة اللبنانيّة، بيروت – 1998.
عدنان السيّد حسين فوضى النظام العالميّ، دار الفرات، بيروت، 2022.

الدراسات:
إسماعيل وساك، الأمم المتحدة نحو عقد اجتماعيّ دوليّ، تقارير ووثائق، المغرب، 2006.
أمينة رباحي، تأثير التحوّلات الإستراتيجيّة في النظام الدوليّ على التنظير في العلاقات الدوليّة، جامعة الجزائر - كلّيّة العلوم السياسيّة والإعلاميّة، المجلّة الأكاديميّة للدراسات الاجتماعيّة والإنسانيّة، 2011.
مصطفى علوي، القطب المنفرد: الولايات المتّحدة الأميركيّة والتغيّر في هيكل النظام العالميّ، المركز العربيّ للبحوث والدراسات، 10/ يناير/ 2015.
عميمر نعيمة، دمقرطة منظّمة الأمم المتّحدة، المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع، الجزائر.

مراجع أجنبيّة:
Joseph S. Nye, What China and Russia Don’t Get About Soft Power, foreignpolicy, April 29, 2013.
https://www.bennettinstitute.cam.ac.uk/blog/a-world-divided.
www.FiscalData.treasury.gov.
https://energyandcleanair.org.
https://abcnews.go.com/US/americans-express-broad-concerns-risk-political-violence-poll/story?id=92621243.

---------------------------------------
[1]*- أستاذ جامعيّ وباحث في العلاقات الدوليّة – لبنان.
[2]- إبراهيم، عبد الله، المركزيّة الغربيّة: إشكاليّة التكوّن والتمركز حول الذات، المركز الثقافيّ الغربيّ، الطبعة الأولى، 1997، ص283.
[3]- السيّد حسين، عدنان، العلاقات الدوليّة، منشورات الجامعة اللبنانيّة. بيروت - 1998، ص15.
[4]- توماس وودرو ويلسون 28 ديسمبر 1856 - 3 فبراير 1924 هو سياسيّ وأكاديميّ أميركيّ شغل منصب الرئيس الثامن والعشرين للولايات المتّحدة من عام 1913 إلى 1921. كان ويلسون من الحزب الديمقراطيّ وترأس جامعة برينستون وكان حاكمًا على ولاية نيوجيرسي.
[5]- حداد، ريمون، نظريّة العلاقات الدوليّة، دار الحقيقة للطباعة والنشر، بيروت، 2000، ص107.
[6]- انظر: مرجع نفسه، ص108.
[7]- مرجع سابق، حداد، ريمون، ص109.
[8]- مرجع سابق، حداد، ريمون، ص111.
[9]- مرجع سابق، السيد حسين، عدنان، العلاقات الدوليّة، ص145.
[10]- المصريّ، شفيق، النظام العالميّ الجديد، دار العلم للملايّين، 1992، ص65.
[11]- مرجع سابق، السيد حسين، عدنان، العلاقات الدوليّة، ص146.
[12]- رباحي، أمينة، تأثير التحوّلات الإستراتيجيّة في النظام الدوليّ على التنظير في العلاقات الدوليّة، جامعة الجزائر كلّيّة العلوم السياسيّة والإعلاميّة، المجلّة الأكاديميّة للدراسات الاجتماعيّة والإنسانيّة، 2011.
[13]- مرجع سابق، ريمون حداد، ص148.
[14]- عميمر، نعيمة، دمرطقة منظّمة الأمم المتحدة، المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع، الجزائر، ص624.
[15]- انظر: نافعة، حسن، مبادئ علم السياسة، مكتبة الشروق الدوليّة، 2014، طبعة أولى، الشارقة، ص556.
[16]- بجك، باسل، العراق وتطبيقات الأمم المتّحدة للقانون الدوليّ (1990–2005)، مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت، 2006، ص9.
[17]- وساك، إسماعيل، الأمم المتحدة نحو عقد اجتماعيّ دولي، تقارير ووثائق، المغرب، 2006، ص215.
[18]- للمزيد حول هذه النقطة انظر الدكتور حسام مطر، «الهيمنة الساحرة»، صادر عن مركز باحث للدراسات، الطبعة الأولى 2018.
[19]- Joseph S. Nye, What China and Russia Don’t Get About Soft Power, foreignpolicy, April 29, 2013.
[20]- https://www.bennettinstitute.cam.ac.uk/blog/a-world-divided-2/
[21]- www.FiscalData.treasury.gov
[22]- https://energyandcleanair.org
[23]-https://abcnews.go.com/US/americans-express-broad-concerns-risk-political-violence-poll/story?id=92621243
[24]- للمزيد يمكن الرجوع، إلى كتاب، العامليّ، حسن، تهافت الأسرة الأميركيّة، مركز الأبحاث والدراسات التربويّة، بيروت، 2022.
[25]- عدنان، السيد حسين فوضى النظام العالميّ، دار الفرات، بيروت، 2022، ص8.
[26]- مرجع نفسه، ص9.
[27]- مرجع نفسه، ص9-10.
[28]- مرجع سابق، عدنان، السيد حسين فوضى النظام العالميّ، ص11.
[29]- مقلّد، إسماعيل صبري، العلاقات السياسيّة الدوليّة: النظريّة والواقع، جامعة القاهرة، كلّيّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة، الطبقة الأولى، 2001
[30]- صبري مقّلد، إسماعيل، أصول العلاقات الدوليّة: إطار عام، جامعة القاهرة، كلّيّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة، 2007.
[31]- علوي، مصطفى، القطب المنفرد: الولايات المتّحدة الأميريكيّة والتغيّر في هيكل النظام العالميّ، المركز العربيّ للبحوث والدراسات، 10/يناير/2015 - 12:00 م، http://www.acrseg.org/36519