البحث في...
إسم البحث
الباحث
اسم المجلة
السنة
نص البحث
 أسلوب البحث
البحث عن اي من هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على كل هذه الكلمات
النتيجة يجب أن تحتوي على هذه الجملة

التمركز الأنكلوساكسوني؛ عقيدة الاستحواذ كحاصل لثقافة الحروب المفتوحة

الباحث :  محمود حيدر
اسم المجلة :  الاستغراب
العدد :  30
السنة :  ربيع 2023م / 1444هـ
تاريخ إضافة البحث :  July / 22 / 2023
عدد زيارات البحث :  495
تحميل  ( 509.107 KB )
إذا كان من تأصيل تاريخيّ لماهيّة التمركز الغربيّ، فإنّ ما تختزنه التجربة التاريخيّة الأميركيّة يختزل الصورة المكثْفة التي اختبرها الاستعمار الكلاسيكيّ للغرب الأوروبيّ، إلّا أنّ استقراء التجربتين التاريخيّتين الأميركيّة والأوروبيّة، يُظهر لنا كيف اتخذت العمليّة الاستعماريّة في الفلسفة السياسيّة الأميركيّة نحوًا مغايرًا لما ألِفَتْه أوروبا حين أسّست الدولة/ الأمّة وأقامت على أساسها إستراتيجيّات التوسّع خارج حدود القارّة. ذلك ما سيبدو واضحًا إذا ما وقفنا على ماهية التجربة الأميركيّة في تعاطيها مع بقية العالم. والباحثون في منطق هذه التجربة يجزمون بأنّ ما كان مجرّد حلم في أوروبا صار إمكانًا واقعيًّا ساريًا في الزمن بالنسبة لأميركا، غير أنّ عدم الاعتراف بحدود نهائيّة، والحرص على إبقاء الحدود مفتوحة، وفهم هذه الحدود بما هي حالة لا تعدو أن تكون تخومًا أو عتبات لا بدّ من كسرها وتخطّيها، إنّما هي علامات دلَّت على مزاعم لكينونة تستمدّ ماهيّتها من إرادة حرب، أو من أفعال حربيّة أصليّة في فهمها لنفسها.

كلمات مفتاحيّة: طوباويّة الفضاءات المفتوحة – إيديولوجيّة العنف – فلسفة التبرير – التكيُّف البراغماتيّ – الاستثناء الأميركيّ.

المقدمة
في سياق التحليل التاريخيّ لماهيّة السلوك الأميركيّ حيال الآخر العالميّ مجتمعات ودولًا وشعوب يرى الباحثان الأميركيّان مايكل هاردت وأنطونيو نيغري أنّ معنى أميركا الجوهريّ يكمن في تمركزها المحوريّ وفقًا لمبدأ العنف الذي يجري تسويغه تحت مسمّى «طوباوية الفضاءات المفتوحة»[2]. ثمّ يسوقان في هذا الإطار ثلاث سمات مخصوصة تحكم التجربة التاريخيّة الأميركيّة:
السمة الأولى: مركزيّة السلطة القائمة على البراغماتيّة، وفكرة كهذه تعني أنّ السلطة في أميركا مؤسّسة على الإنتاج والتراكم الرأسماليّ الذي يقع في رأس سلم القيم؛ وبالتالي فإنّ معيار الإنتماء إلى الأمّة الأميركيّة هو الاعتقاد بفرادة أميركا وسيادتها على العالم عبر القوّة المفروضة ورأس المال؛ ولذلك فالسيادة بمدلولها الأميركيّ لا تتمثّل في ضبط الجمهور فقط، بل تتبلور بوصفها نتيجة تضافر الطاقات المنتجة للجمهور.
السمة الثانية: المبدأ الجديد للسيادة -وهو مبدأ مفارق للتجربة الكلاسيكيّة الأوروبيّة- يُنتج حدّه الداخليّ الخاصّ، سوى أنّه بعد أن أقرّ بحدوده الداخليّة، يروح ينفتح بقوّة عجيبة نحو الخارج، سعيًا إلى تعميم النموذج.
السمة الثالثة: النزوع الأميركيّ نحو مشروع مفتوح وتوسّعي، يعمل فوق ملعب بلا حدود[3].

إنّ هذه الرؤية المفارقة للنموذج السيادي الأميركيّ، سوف تسهم في رسم اللوحة الإجمالية لذلك الطراز الفريد من مفاهيم السيادة الحديثة، بل أكثر من هذا، فإنّها ستمنح الجغرافيّا الأميركيّة فلسفتها الخاصّة، وهي فلسفة آيلة وفقًا لسيرورتها التاريخيّة إلى إنجاز ما سمّي بـ«السيادة ذات اللون الإمبراطوريّ الممتدّ على مساحة العالم كلّه». وهذا ما يُلاحظ عندما يشار إلى الأطوار الأربعة التي عَبَرَتْها أميركا منذ تأسيسها وحتى أيّامنا الحاضرة. وهي:

الأوّل: الذي يبدأ من إعلان الاستقلال حتى الحرب الأهليّة.
الثاني: الممتدّ من إمبرياليّة روزفلت إلى إصلاحيّة ولسون الأمميّة.
الثالث: من فترة نيوديل (New Deal) أو الصفقة الجديدة، إلى الحرب الباردة.

والرابع والأخير: وهو الذي دشّنته الحركات الاجتماعيّة في الستينات من القرن العشرين، واستمرّ حتى تفكّك الكتلة الشيوعيّة. ما يهمّنا هنا في معرض هذا التحقيب هو أنّ كلّ الأطوار المذكورة من التاريخ الدستوريّ للولايات المتّحدة، إنّما يخصّص مرحلة تتجه نحو تحقيق السيادة الإمبراطوريّة، لكن الدلالة الأعمق في هذه الرحلة نجدها في النتائج الخطيرة لهذا التصوّر؛ حيث تؤدّي فكرة أنّ البوتقة الأميركيّة هي مصهر تهجين للأعراق المختلفة، إلى «تدمير الفكرة المتعالية للأمّة، والعمل على إعادة بناء الفضاء العموميّ على أساس الهجرة الحرّة للجماهير»[4].

فلسفة التمركز كمعادل لتسويغ العنف
لعلّ هذا الفهم التأسيسيّ لنوع السيادة الأميركيّ سيشكل الوعاء الثقافيّ والمرجعيّ للأحقاب السياسيّة المتعاقبة؛ إذ عند هذا المنعطف المعرفيّ من فهم أميركا لنفسها أمكن لنا التعرّف على مغزى حرب إبادة الهنود الحمر، ذلك ان الحدود لا تكون مفتوحة على اللاّمتناهي إلّا بقدر ما يتّم تجاهل، وعلى نحو إرادي، وجود السكّان الأصليّين، بمعنى أن يتمّ تصوّرهم باعتبارهم طبقة معزولة من النوع الإنسانيّ، أي بوصفهم جزءًا تحت - إنسانيّ من المحيط الطبيعيّ. وبالرغم من أنّ ذلك سيؤدّي إلى تناقض صارخ بين ما يقوله الدستور عن الحرّيّة، وبين إبادة الهنود الحمر، فإنّ هذا الدستور لم يعِشْ هذا التناقض «كأزمة»، بل اكتفى بإقصاء ضحاياه خارج آلته الحقوقيّة (...)؛ ولأنّ الأميركيّين ليسوا من جسد واحد، ولأنّ ممارسة الديموقراطيّة بوصفها فضاء مفتوحًا هي متلازمة مع «مفهوم مفتوح وديناميكيّ للشعب والجمهور والناس، ولأن الأميركيّين أيضًا وأيضًا، شعب في حالة هجرة/ خروج ومحتلّ لأقاليم جديدة فارغة، أو هي أُفرِغَت... فإنّ الفضاء الأميركيّ، لم يكن فقط منذ البداية، فضاءً متوسّعًا (إلى الخارج) وبلا حدود، بل أيضًا فضاءً متكثِّفًا (إلى الداخل)، أي أنّه فضاء تقاطع ومصهر (melting pot) وتهجين مستمرّ»[5].

كيف تظاهرت صورتا «التوسُّع» و«التكثُّف» في الاختبارات الأميركيّة المعاصرة؟
ما كان لأحد أن يتصوَّر مدى ما بلغته الأيديولوجيا السياسيّة الأميركيّة وهي تستعيد نظريّة الاحتلال بوصفها فضيلة لا غنى للعالم عنها في رحلة القرن الحادي والعشرين.

الذين نظَّروا «للإمبراطوريّة الفاضلة»، أمثال لويس لافام رئيس تحرير مجلّة هاربرز (Harper s Magazine)، وبالطبع الفريق المتحلِّق حول الرئيس جورج دبليو بوش، أولئك فقط كانوا على يقين ممّا ذهبوا إليه. الأمر بالنسبة إلى هؤلاء يتعدَّى الجانب الأخلاقيّ كما أراده التنوير الغربيّ سحابة ثلاثة قرون متواصلة، إنَّهم ينطلقون من قَبْليّة اعتقاديّة تعود في جذورها إلى ثقافة الاستيطان الأنكلوساكسونيّ، ومؤدّاها أنَّ التاريخ لا تعمِّره البراءة؛ إذ البراءة عندهم ـ حسب وصف غراهام غرين الكاتب المسرحيّ الإنكليزيّ ـ تشبه مجذومًا أبكم أضاع جَرَسَه، ثمّ راح يطوف العالم، ولا يقصد ضررًا لأحد...
وبناء على عقيدة المحافظين الأميركيّين الجدد إنَّ ما ينبغي على أميركا أن تفعله لكي تحقِّق رسالتها إلى العالم، هو النأي بنفسها عن البراءة وأن تمضي بعيدًا في السجيّة الماكيافيلليّة القائلة بفضيلة «أن تخيف الآخر بدل أن تكسب حبّه لك»...

عندما خسرت الولايات المتّحدة مقعدها في لجنة حقوق الإنسان التابعة لهيئة الأمم المتّحدة في جنيف في مطلع أيار/ مايو من العام 2001، أصيب كثيرون في نيويورك وواشنطن بالدهشة الحقيقيّة. جلُّ هؤلاء كانوا من النُّخب الأميركيّة والغربيّة التي صدَّقت ما تختزنه العمارة الأيديولوجيّة من براءات ذات صلة بالقانون الدوليّ، وشرعة حقوق الإنسان، وقيم الديمقراطيّة. للوهلة الأولى لم يعرف أولئك المخدوعون ما إذا كان الذي سمعوه إشاعة خاطئة أو نكتة حمقاء، وتساءلوا: كيف يمكن لمثل هذه الأمور أن تحدث.. وأين ذهب التعقُّل؟ وحسبُهم أنَّ أميركا هي التي أوجدت مفهوم حقوق الإنسان، وهي التي هرعت دائمًا إلى إنقاذ الأطفال المفقودين، وانتشال الديمقراطيّات الفاشلة. ولم يحدث قط أن استُبعدت الولايات المتّحدة من غُرف لجنة الضمير خلال أربعة وخمسين عامًا من وجودها، كذلك لم يسبق أن حدث في الذاكرة الحيّة أن تتعرَّض القوّة العظمى الوحيدة في العالم إلى مثل هذه السخرية غير المستحقَّة على أيدي أتباعها الجاحدين[6].
يومئذٍ كان بديهيًّا أن يصبّ الأميركيّون جامّ غضبهم على الأوروبيّين، وبالأخصّ على فرنسا، فبناء على ما بيَّن منظِّرو اليمين الأميركيّ فإنَّ الفرنسيّين تحديدًا خانوا الأمانة والتبعيّة وصوَّتوا لإخراج الولايات المتّحدة من واحدة من أهمّ وأخطر أسلحة الدعاية والتدخّل في شؤون العالم، ومع ذلك فإنَّ القضيّة لم تتوقّف عند هذا النوع الطبيعيّ من ردّات الفعل.
كان ثمّة ما هو أدنى إلى المفارقة؛ إذ إنَّ «المطبخ الفلسفيّ-الأيديولوجيّ» للإدارة الأميركيّة سينبري إلى إسكات المحتجِّين والمدهوشين، ثمّ ليمضي في عزفٍ منفرد مؤْثّرًا اللاّمبالاة وإدارة الظهر لهذه القضيّة، معتبرًا أنَّ أميركا ليست في حاجة إلى مَنْ يمنحها شهادة سلوك حسن، أو يصحِّح خطأ ترى إليه على أنَّه جزء عزيز في مسلكها العامّ.

إنَّ هذا ما سيعبِّر عنه الكاتب في مجلّة «التايم» تشارلز كروثامر (Charles Krauthammer) على نحو لا شَوْب في صراحته: «ليست أميركا مجرّد مواطن عالميّ، إنَّها السلطة المهيمنة في العالم، أكثر هيمنة من أيّ قوّة أخرى منذ عهد روما. ووفقًا لذلك، فإنَّ أميركا في وضع يؤهِّلها لإعادة تشكيل المعايير، وتغيير التوقّعات وخلق حقائق جديدة، أمّا كيف يكون ذلك؟ فيكون -برأيه- عن طريق إظهار إرادة غير اعتذاريّة لا سبيل إلى تغييرها»[7] ..
المسألة إذًا، هي وجوب أن تفعل أميركا أيّ شيء من دون أن تبرِّر أو أن تعتذر. وحتى لو جرى ذلك الفعل مجرى إيذاء أمم وشعوب بأكملها، فلا ينبغي أن يُحجِمَ القادة عن إتمام المساحة المتبقِّية لبلوغ الهدف. فالاعتذار بحسب هذا الاعتقاد يشكِّل منقصة لصاحبه، وإخلالًا في شبكة المعايير والمفاهيم التي تتأسَّس عليها إستراتيجيّات التحكُّم بالأوضاع.

ثقافة الاستهتار بالآخر
على هذه الفلسفة السياسيّة المتجدّدة سيغيب منطق الإقناع والتحاور في العلاقات الدوليّة. وبدا أنَّ منعطفًا كهذا راح يؤتي أُكْلَه مع «الانتصارات المدوِّية» التي خاضتها الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001. والمثل العراقيّ سيعزِّز هذا المنطق، حيث أفلحت الولايات المتّحدة في جعله شبيهًا بالمَثَلَين اليوغوسلافيّ والأفغانيّ، لكن ثمّة جانب آخر من المشهد لا يبدو أنَّه سيكون مريحًا، أو مربحًا، للسلوك الأميركيّ المُشار إليه. فالولايات المتّحدة ربحت الحروب التي خاضتها حين استعملت الحدّ الأقصى من جبروتها العسكريّ، لكنَّها راحت بعد ذلك تجد صعوبات جمّة في ربح السلام، وهذا ما ذهب إليه الخبير الإستراتيجيّ الفرنسيّ باسكال بونيفاس الذي أكَّد أنَّ أميركا بدأت تفقد حبّ الناس لها، بل إنَّها صارت مكروهة على امتداد العالم أجمع.

«البارانويا» الأميركيّة التي بلغت ذروتها مع السنة الأولى للألفية الثالثة نظرت إلى النقد الأوروبيّ والفرنسيّ على الخصوص بعين السخرية والاستهتار، ولقد سبق للكاتب الأميركيّ لويس لافام أن ساجل النزعة الانتقاديّة لأميركا لدى الفرنسيّين. سوف يلاحظ أنَّ الفرنسيّين لم يستوعبوا ما يسمّيه بـ»مذهب البراءة الأميركيّة» بشكلٍ كامل، هذا المذهب الذي فهمه البيوريتانيّون (حركة إصلاح بروبستاتنتيّة سعت إلى تطهير الكنيسة الإنكليزيّة من بقايا الباباويّة الرومانيّة الكاثوليكيّة في القرنين 16 و17).. الأوائل في براري ماساتشوسيتس الموحشّة، على أنَّه اختيّارهم من قبل الرَّب (...) وفي معرض إعطاء المذهب الأميركيّ بعده الميتافيزيقيّ، يزعم «لافام» أنَّ الله اختار أميركا لتكون موقع إنشاء الجنّة الأرضيّة، فقد كان الهدف الأميركيّ عادلًا دومًا، ولم يكن هنالك أيّ شيء أبدًا يمكن أن يُقال فيه أنَّه غلطة أميركا. ويضيف: «إنَّ الأجيال المتلاحقة والسياسيّين الأميركيّين عبَّروا عن إيمانم هذا بكلماتٍ مختلفة من مثل: «أميركا الأمل الأخير للبشريّة»، «أميركا سفينة الأمان» وناشرة الحضارة الخ.. إلَّا أنَّه سيذهب إلى مسافة أبعد في خلع الأوصاف، فيعلن أنَّ «الشرّ لم يكن أبدًا جزءًا عضويًّا من المشهد الأميركيّ أو الشخصيّة الأميركيّة. فالشرّ -على ادّعائه- سلعة قاتلة ومستوردة من دون ترخيص من خارج، إنَّما هو مرضٌ أجنبيّ يتمّ تهريبه عن طريق الجمارك في شحنة «فلسفة ألمانيّة» أو أرز آسيويّ (...)؛ ولأنَّ أميركا بريئة بالتعريف، فقد يخونها الآخرون دومًا، كما في «بيرل هاربر» وليتل بيغ هورن، وخليج الخنازير، وبما أنَّه تمَّت خيانتنا، نستطيع دومًا أن نبرِّر استخدامنا للوسائل الوحشيّة، أو المخالفة للروح المسيحيّة في سبيل الدفاع عن سفينة الأمان في وجه خيانة العالم[8].
لم يكن عرض هذا الكلام فقط للردّ على ما يسمّيه لويس لافام عدم فهم الفرنسيّين وجهلهم بحقيقة «الروح السياسيّة الأميركيّة»، بل هو يعني أكثر من رسالة دأبت المسيحيّة الصهيونيّة الحاكمة في الولايات المتّحدة على توجيهها إلى العالم كلّه منذ وقت بعيد.

وما المقصود من هذه الرسالة اليوم فإنَّه يتعدَّى الكلّيّات الاعتقاديّة، فهي تتوجَّه إلى الذين يطالبون بوجوب قيام مرجعيّة أمميّة تعيد الاعتبار للقانون الدوليّ؛ ولأنَّ القوانين تدخل في صلب «البراءة» التي أسقطها الأميركيّون من حسابهم، فلا حاجة إليها كما يقول «لافام». فالقوانين -عنده- «وُضعت لغير المحظوظين الذين وُلدوا دون جينات الفضيلة».
إنَّ هذا الحد المُشْرَع على اللاّمتناهي في التفكير الأميركيّ الجديد، هو الذي يؤسِّس لأميركا القرن الحادي والعشرين، وسنجد من تظاهرات هذه الرؤية اللاّهوتية ما لا حصر من الأحداث اللاّحقة. حيث تصبح القوانين الدوليّة وشرعة الأخلاق التي تحكم التوازنات في النظام العالميّ، مجرّد نصوص لا فائدة منها.

ظلَّ ريتشارد نيكسون الرئيس الأميركيّ الأسبق يردِّد في خُطَبِهِ العصماء الموجَّهة إلى الجيش والشعب هذه الكلمات: «الله مع أميركا، الله يريد أن تقود أميركا العالم». في ذلك الوقت كانت حرب فيتنام تتجه إلى جحيمها المحتوم. وكان عليه لكي يشحذ الهمم ويدفع حجج منتقديه أن يستعيد ثقافة المؤسِّسين الأوائل ليبيِّن أنّ لاهوت القوّة ليس إلّا منحة إلهيّة لدفع الشرّ في عالم ممتلئ بالفوضى.
في خلال السنوات الانتقاليّة بين نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحاليّ أسقطت الولايات المتّحدة في يدها صفوة أوراق اللعبة الكونيّة الرئيسة، لقد صار اتّخاذ أيّ قرار، وتقرير أيّ حلّ نهائيّ دون رضاها ضربًا من المستحيل، فما الذي نستطيع انتزاعه من المشهد العامّ؟؟..

مع نهاية الحرب الباردة أخذ منظِّرو الاستفراد الأميركيّ يصوغون المقدِّمات العمليّة لفلسفة السيادة المطلقة. كان كلّ شيء في المقدّمات النظريّة جاهزًا. العامل الأيديولوجيّ شكَّل أساسًا ثقافيًّا ودعائيًّا لهذه الفلسفة. ولنا أن نعرف أنَّ الولايات المتحدة مرَّت ضمن سيرورة تاريخيّة ساهمت الأيديولوجيا شيئًا فشيئًا في تكوينها، فقد قامت -هذه الفلسفة- انطلاقًا من نواة أيديولوجيّة ذات محورين: الأوّل: الاعتقاد بأنَّ أميركا مكلَّفة برسالة، والثاني: اليقين بأنَّ أداء هذه الرسالة يستلزم استخدام كلّ الوسائل بلا تحريم. وممّا يميِّز السياسة الأميركيّة منذ مولدها: الثبات في العمل على قَدْرِ الديمومة في متابعة الهدف، وكذلك مواصلة الجوهر الأيديولوجيّ المولِّد للعمل. ولا شكّ في أنَّ هذه السياسة بلغت ذروة تحقّقها في فجر القرن الثامن عشر، وزادت أيضًا في مطلع القرن التاسع عشر، لكنّ ميشال بوغنون موردان في كتابه «أميركا التوتاليتاريّة» (L’Amérique Totalitaire) الصادر في باريس في العام 1997[9] يذهب إلى «أنَّ الأيديولوجيا الأميركيّة لم تتورَّع عن خلع صفة الأزليّة على نفسها، حيث إنَّ ادّعاء الرسالة الإلهيّة لم يغب يومًا عن ناظرها. ثمّ يورد كلامًا لمعاون الرئيس السابق بيل كلينتون لشؤون الأمن القوميّ أنطوني لاك، يقول فيه: «إنَّ مصالحنا ومُثُلنا لا تلزمنا بالتدخُّل وحسب، بل تلزمنا أيضًا بالقيادة(...)» يضيف: «من واجبنا تطوير الديمقراطيّة واقتصاد السوق في العالم؛ لأنَّ هذا يحمي مصالحنا وأمننا، ولأنَّ الأمر كذلك يتعلَّق بانعكاس القيم، حيث هي في آن قيم أميركية وعالميّة»(...). وهكذا فإنَّ انتصار الأميركيّين الأبرز [يعلَّق بوغنون] هو، بكل تأكيد، الحضور الكلِّيّ لأيديولوجيّتهم. فالليبراليّة، وهي أكثر عقيدة اقتصاديّة خالصة، تمثِّل أيضًا رؤية قويمة للعالم، استقبلها الكثير من المالكين ومجموعات المصالح بوصفها نعمة وخلاصًا. لقد صارت الليبراليّة ـ حسب بوغنون ـ رؤية وعقيدة تخدمان مصالح الأميركيّين وتنقذان المظاهر الأخلاقيّة على الأقلّ، ما دامت الليبراليّة، كمفهوم، تنطوي على ركيزة دينيّة. وهو ما كان لاحظه دو توكفيل لجهة وجوب اعتبار الدين بالنسبة للأميركيّين بمثابة المؤسسة السياسيّة الأولى، ثمّ إنَّ جمهور الناس، أولئك الذين لا يفهمون شيئًا كثيرًا من الألعاب السياسيّة والاقتصاديّة، اقتنعوا بفعل الحملات الإعلاميّة، بعدم وجود أيّ عقيدة أفضل من هذه العقيدة (...) ولقد رأينا منذ الأصل، وقبل أن تصبح أميركا هي الولايات المتّحدة، أنَّها كانت تزعم شموليّة نمطها التنظيميّ الخاصّ. ولم يَسْعَ مفكِّروها -من أساتذة وكتَّاب وكهنة ورجال دولة- لحظة واحدة إلى إخفاء هدفهم الأخير وهو: فرض نمط حياتهم على بقيّة العالم. وذلك عبر آليّات أخلاقيّة تكتظّ بالتعالي على الآخر، أي آخر. منها في المقام الأوّل، بما يسمّيه بوغنون بـ«القدوة»[10]. أي من خلال تأدية عروض مثيرة تُظهر «الصورة الساطعة لأمَّة جديدة اختارها الله لغاية وحيدة هي تزويد كلّ الشعوب بالرسالة الوحيدة ذات المستقبل المصوغ بصورة زاهية، ثم في المقام الثاني بوضع الآخر جبرًا في منطقة القبول بالقدر الأميركيّ. فثمة يقين لدى «فقهاء الأمركة» بأنَّ إذعان الآخرين عنوة -كائنًا ما كان شكل الإكراه- أمرٌ محتوم في مواجهة هذه الممانعة أو تلك. فأميركا تعتقد نفسها وتريدها كلّيّة لا تُضاهى. وبهذه الصفة، لا تتصوّر ذاتها إلَّا متفوِّقة على مجمل المناطق التي يتحرَّك في داخلها أفراد وأمم، وترى أنَّ من واجبها احتواءها. إنَّها -على ما يزعم فقهاؤها- هي العالم، ما دامت العناية الإلهيّة أمرت بذلك، وما دامت تجسِّد نصاب العالم المقبل وفقًا للخطط الإلهيّة. ومن المقدَّر -تبعًا لهذا الزعم- أن تقع على كاهلها مسؤوليّة إملاء قانونها، القانون الذي شرَّعته السماء، وفرضته على الأمم والشعوب»[11].

حين سئل الرئيس تيودور روزفلت عمّا إذا كانت الإستراتيجيّة الأميركيّة العليا عازمة على تشييد فضائها الإمبراطوريّ -وكان ذلك في مستهلّ القرن العشرين- أنكر ما يرمي إليه سائله وقال: «إنَّ البلد الذي قام على فضيلة الحرّيّة، يصعب عليه أن يقع في خطيئة الامبراطوريّة!».
هل يبيِّن مثل هذا «الإنكار» أنَّ ثمّة منطقة نائمة في العقل الأميركيّ تستيقظ في المحطّات الكبرى للتاريخ.. أم أنّ هذه المنطقة التي يصدر منها كلام كهذا، هي مجرّد دائرة صغيرة يجري استخدامها متى دعت الحاجة؟
ربما كان روزفلت على شيء من يقين، من أنّ قوله هذا لا يتعدّى حدود الأخلاق النظريّة، وحين حرص على نفي الطموح الإمبراطوريّ، مساويًا بينه وبين الخطيئة، كان يعي كم للخطاب الأخلاقيّ من أثر حاسم في لعبة القوى وتكوين حقائق التاريخ، فالضرورة الإيديولوجيّة للخطاب السياسيّ، إذًا هي التي ستحمل الرئيس الأميركيّ على ما يمكن وصفه بالجمع بين متناقضين يشغلان الفكر السياسيّ الأميركيّ في ذلك الوقت: قيم الحرّيّة، والطموح الإمبراطوريّ/ الاستعماريّ.

هل أميركا إمبراطوريّة؟ هل هي إمبرياليّة جديدة؟ أم أنّها دولة/ أمّة من ذلك النوع السياسيّ الذي يمكث في «منطقة استثنائيّة» بعد حادثين تاريخيّين متقاربين وعظيمي الشأن: نهاية الحرب الباردة (1990) وزلزال الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر (2001)؟...
كانت الولايات المتّحدة الأميركيّة أثناء الحرب الباردة إمبرياليّة من طراز خاصّ. لم تقم بعمليّات الإخضاع والهيمنة على طريقة الإمبرياليّتين البريطانيّة والفرنسيّة عبر الاستعمار المباشر للدول المستعمرة، كان عليها أن تتبع حكاية «القرصان الأكبر» الذي يقطع الطريق على القراصنة الصغار ويلتهم حصادهم. لقد عمدت الولايات المتّحدة إلى إخضاع القوى الإمبرياليّة القديمة لنظامها الخاصّ؛ لذا لم تؤدِ الحرب الباردة التي شنّتها الولايات المتحدة إلى هزيمة العدوّ الاشتراكيّ، وربما لم يكن ذلك هدفها الأوّل في حقيقة الأمر قطّ. لقد انهار الاتحاد السوفياتيّ تحت وطأة تناقضاته الداخليّة الخاصّة. ولم تفعل الحرب الباردة، في الحدود القصوى، أكثر من إفراز بعض شروط العزلة التي ما برحت، عبر تردّد أصدائها في الكتلة السوفياتيّة نفسها، أن ضاعفت تلك التناقضات القابلة للانفجار. لعلّ أهمّ آثار الحرب الباردة هو التعرُّف على خطوط الهيمنة داخل العالم الإمبرياليّ. تلك الخطوط التي دأبت على تسريع عمليّة تدهور القوى القديمة، ورفع مستوى مبادرة الولايات المتحدة على صعيد تأسيس نظام إمبراطوريّ. وبحسب عدد من المفكّرين الإستراتيجيّين، فإنّه لو لم يكن قد تمَّ الإعداد مسبقًا لنمط جديد من المبادرة الهيمنيّة، لما خرجت الولايات المتّحدة منتصرة في نهاية الحرب الباردة. فالمسألة تتعلّق ببعد تاريخيّ للتكوين الأميركيّ السياديّ، فالمشروع الإمبراطوريّ هو مشروع سلطة متشابكة يشكّل المرحلة أو الصيغة الرابعة من التاريخ الدستوريّ الأميركيّ. وعلى ما يبيِّن مايكل هاردت وأنطونيو نيغري في كتابهما إمبراطوريّة العولمة الجديدة[12] فإنَّ تحقيق فكرة السيادة والهيمنة الأميركيّة اتخذ مسيرة طويلة تطوّرت عبر مراحل مختلفة من تاريخ الولايات المتّحدة الدستوريّ، فالمعروف أنّ الدستور الأميركيّ، كوثيقة مكتوبة بقي دونما تغيير ذي شأن، (باستثناء بعض التعديلات) غير أنّ الدستور يجب فهمه بوصفه منظومة مادّيّة من التفاسير والممارسات الحقوقية التي يعتمدها المحلّفون والقضاة، بل والأفراد في المجتمع. وبالفعل فإنَّ هذا التأسيس المادّيّ، الاجتماعيّ قد تغيَّر جذريًّا منذ تأسيس الجمهوريّة. ويذهب بعض علماء القانون والتاريخ السياسيّ إلى تقسيم أميركا الدستوريّ إلى أربع مراحل أو أربعة نظـم متمايزة[13].

ـ مرحلة أولى: تمتدّ من إعلان الاستقلال إلى الحرب الأهليّة وعمليّة إعادة البناء.
ـ مرحلة ثانية: وهي مثقلة بالتناقضات، وتتزايد مع الحقبة التقدّميّة، مغطيَّة انعطافة القرن، من مبدأ تيودور روزفلت الإمبرياليّ، إلى إصلاحيّة وودرو ولسون الأمميّة.
ـ مرحلة ثالثة: وتمتدّ من ما يسمّى الصفقة الجديدة (New Deal) والحرب العالميّة الثانية إلى فترات اشتداد الحرب الباردة.
ـ مرحلة رابعة: وهي التي سبق أن أشرنا إلى بعض وجوهها، وهي بدأت في الستينات عبر نشاط الحركات الاجتماعيّة واستمرّت إلى حين تفكيك الاتحاد السوفياتيّ وكتلة أوروبا الشرقيّة، فالمراد من حصيلة هذه المراحل الدستورية القول، إنّ كلًّا منها شكّل خطوة إلى الأمام في التشكُّل التاريخيّ للسيادة الإمبراطوريّة للولايات المتّحدة[14].

حقبة روزفلت والحلم الأمبراطوريّ
عندما وصلت الأزمة الماليّة الكبرى سنة 1929 جاء الإنقاذ بانتخاب «فرانكلين روزفلت» (ابن عم الرئيس الذي سبقه تيودور روزفلت) ومع الرئاسة الأولى لروزفلت الثاني 1932. وبعد سياسة العدل الاجتماعيّ الجديد التي أعلنها وطبَّقها وعادت بها الولايات المتحدة إلى حياتها الطبيعيّة ـ أخذ الحلم الإمبراطوريّ يشغل نخبها السياسيّة والبيت الأبيض في المقدّمة. ومن واشنطن كان فرانكلين روزفلت يتابع ما يجري في أوروبا وشغله «صراع الإمبراطوريّات»، الذي عاد (كما لو كان متوقّعًا) يتجدّد مرّة أخرى دافعًا إلى القارّة نذر عواصف تتجمّع من جديد. لقد بدأت إيطاليا تشهد صعودًا للحركة الفاشيّة بقيادة «بنيتو موسوليني» الذي وصل إلى السلطة، وشعاره مرّة أخرى هو الشعار الرومانيّ القديم في وصف البحر الأبيض المتوسّط بـ«أنّه بحرنا».

وفي ألمانيا التي نهضت من وسط ركام الهزيمة في الحرب العالميّة الأولى، ونفضت عن نفسها رداء الهوان الذي فرضته عليها معاهدة فرساي، سيجري انتخاب أدولف هتلر، وستصعد النازية إلى السلطة في قلب أوروبا الغربيّة، ثمّ ليعلن هتلر أنّه جاء ليحيي «الرايخ الثالث» الذي ينبغي أن يعيش ألف عام كما كان يقول[15].
في اليابان كانت الصورة مشابهة، حيث كان الحزب العسكريّ المطالب بالتوسّع اليابانيّ باتجاه العالم انطلاقًا من آسيا الشرقيّة/ الجنوبيّة يمسك بسلطة القرار في طوكيو، فارضًا نفسه على الإمبراطور هيروهيتو.

أمّا في روسيا فقد ازدادت سطوة الزعيم السوفياتيّ جوزيف ستالين الذي خلف لينين في قيادة الحزب والدولة. لقد أمسك ستالين البلاد الشاسعة القويّة بقبضة فولاذيّة، مستغلًّا موارد بلد هو الآخر بحجم قارّة، ومحاولًا أن يبني من التخلّف القيصريّ دولة صناعيّة قادرة على المنافسة والتفوّق. لقد كان تقدير روزفلت آنذاك أنَّ ثمّة حربًا عالميّة تلوح في الأفق، وتوقع أنّها سوف تدور بالدرجة الأولى بين ألمانيا وإيطاليا من ناحية وبريطانيا وفرنسا من الناحية الأخرى. وبدت تلك الصورة المحتملة أمام عينيه شديدة الوضوح. وفي ذلك الوقت المبكر لم يكن لدى «روزفلت» تصوّر واضح لمسلك الاتحاد السوفياتيّ ولا لمسلك اليابان، ولعلّه ظنَّ أنّ كلا البلدين سوف ينتظر حتّى يرى اتجاه العواصف ثمّ يقرّر كيف يستفيد من هبوبها ويستغلّ التطوّرات والنتائج[16].
لكنّ المراقبة الأميركيّة لصورة العالم آنئذٍ راحت تتّخذ مسلكًا مخصوصًا، بحيث ترصد بدقّة اتجاهات القوّة بين الإمبرياليّات المتحاربة من دون أن تستغرق في حروب مباشرة غير محسوبة النتائج بالكامل لصالحها. بينما كان الطموح الإمبراطوريّ وتحقيق السيادة العالميّة هو الناظم المركزيّ للاستراتيجيّة الأميركيّة العليا.

لقد كانت مجمل تقديرات الرئيس روزفلت الثاني تركِّز على العلامات الفارقة التالية:
أوّلًا: الحرب التي تلوح نُذُرَها الآن هي -الفرصة السانحة للولايات المتّحدة لكي تقفل صفحة الإمبراطوريّات القديمة، وتفتح صفحة الإمبراطوريّة الأميركيّة؛ لأنّها وحدها الأجدر على «فرض سلام» تقدر عليه مواردها وطاقاتها- وهي ليست قادرة على ذلك فقط، وإنّما هي تستحقّه؛ لأنّها قلعة الغنى في العالم وذروة تقدّمه.
ثانيًا: فيما يتعلّق بالصراع الأوروبيّ، وهو دائرة الحرب الأساسيّة، كانت خطّة الولايات المتّحدة، لأنَّ الإمبراطوريّات الجديدة تكون أكثر عنفوانًا من تلك القديمة، وبالتالي فإنَّ «هتلر» لا يجب أن ينتصر، وكذلك «موسوليني».
ثالثًا: هذا معناه أنَّ بريطانيا وفرنسا لا بد أن تخرجا من حمام الدم الأوروبيّ سالمتين، وفي الوقت نفسه غير قادرتين هذه المرة على الاحتفاظ بامبراطوريتهما الشاسعة (في آسيا وإفريقيا). وهذا معناه أيضًا، أن انتصار الحلفاء والأوروبيّين يصح أن يتم داخل حدود لا يمكن تجاوزها، وإلاَّ فإنَّ ما حدث بعد الحرب العالميّة الأولى سوف يتكرّر بعد الحرب العالميّة الثانية، ولا تتمكَّن الولايات المتّحدة من فرض رأيها ورؤيتها لمصائر العالم فوق سطوة إمبراطوريّاته القديمة المتهالكة...
رابعًا: من الأنسب للولايات المتّحدة هذه المرة أيضًا، أن تظلّ بعيدة عن ميادين القتال حتى آخر لحظة. على أنّها خلافًا لموقف «ويلسون» والحرب العالميّة الأولى لن تعلن حيادها «فكرًا» و«فعلًا»، وإنَّما عليها أن تكشف وتظهر انحيازها الفكريّ ضدّ النازيّة؛ لأنَّ تلك مسألة أخلاقيّة، وأمّا عمليًّا، فإنَّها سوف تترك بريطانيا وفرنسا وحدهما وسط «عاصفة الحرب» وتراقب هي من بعيد حتّى ينزف كلا الطرفين دمه، ويترنَّح تحت مطارق الحديد.
خامسًا: إذا كانت سياسة الاتحاد السوفياتيّ واليابان هي الانتظار والمتابعة حتى تظهر حركة الموازين، فإنَّ الولايات المتّحدة سوف يتعيَّن عليها التذرُّع بالصبر الطويل، وهي قادرة على ذلك بحكم أمان المحيطات، ففي حين أنَّ روسيا متلاصقة من الشرق مع غرب أوروبا، بحيث يصل إليها صدى المدافع، فإنَّ الولايات المتّحدة بعيدة. كما أنّ حال اليابان هو الشيء نفسه، لأنَّ اليابان على تماس مباشر مع أطراف الإمبراطوريّتين البريطانيّة والفرنسيّة في آسيا (الهند والهند الصينيّة). وعليه أخذت تنشأ تلك المقولة الذهبيّة التي ترى أنَّ الولايات المتّحدة تقدر وتملك أن تكون آخر الصابرين لكي تكون أوّل الوارثين[17].

سوف تضع الحرب العالميّة الثانية أوزارها لتسفر عن استئناف واقعيّ لرحلة أميركا في ما وراء الحدود. وفي هذا المسار سيُفتح الباب للولايات المتّحدة الأميركيّة لتحفر مجراها الجيوـ استراتيجيّ بوصفها دولة عالميّة. لقد أفلحت الولايات المتّحدة في أن ترِث الإمبرياليّات التقليديّة، وأن تؤسِّس على هذا الإرث آليّات جديدة للسيطرة الأمنيّة والاقتصاديّة والإعلاميّة، اصطلح على هذه الحقبة في أوساط اليسار العالميّ بـ حقبة الاستعمار الجديد. وبقطع النظر عن مدى صحّة أو مطابقة هذا الاصطلاح للواقع التاريخيّ الدوليّ بسبب من دخالة الأيديولوجيا المكثّفة وأثرها في نشوئه، فإنَّه سيأخذ سياقه الفعليّ في نظام الصراع اللاَّحق الذي حكم العالم بما عُرف بـ«الحرب الباردة».
لقد كشفت الحرب الباردة حقائق مدويّة ما كان لها أن تظهر لولا أن أصبحت الولايات المتّحدة وجهًا لوجه مع العالم. لم تعد إيديولوجيا الحرّيّة، والديمقراطيّة، وحقوق الإنسان و الليبراليّة الاقتصاديّة، مجرّد حجاب يخفي وراءه نزعة الهيمنة، صارت هذه الأخيرة بآليّاتها، ووقائعها، وأنساقها، وأنظمتها، هي الحاكمة والمحدِّدة لعلاقة أميركا بالعالم؛ إذ على نزعة الهيمنة ستنشأ المقدّمات الفعليّة للعالميّة الأميركيّة، فخلال الحرب الباردة، بل وعبر مسيرة القرن العشرين، بات واضحًا بصورة متزايدة باطراد، أنَّ الولايات المتّحدة شقَّت طريقها باتجاه العالم تحت شعار إمبراطوريّة الحرّيّة.
على أنَّ هذا الإغراء بالحرّيّة سيؤدّي ـ ضمن معادلة الحامي للحرّيّة والمتسلّط على مقادير الثروة العالميّة ـ إلى ظاهرة استعماريّة أكثر عمقًا واتّساعًا. بعبارة أخرى، ما لبثت حماية البلدان في سائر أرجاء العالم من الشيوعيّة، أن أصبحت متعذّرة التمييز، فكان لا مناص من تحقيق السيطرة بأساليب وتقنيات إمبرياليّة. وفي هذا المعنى لم تعد تكتفي بوراثة الحصاد الإمبرياليّ التقليديّ لتمضي في صناعة مفاهيم جديدة للسيطرة، بل إنّها عمدت إلى استرجاع الآليّات التقليديّة للاستعمار البائد. ولعلَّ التجربة الفيتناميّة في هذا الإطار هي التجربة الأكثر دلالة وسطوعًا على هذا النوع من السيطرة. فلقد كانت الحرب في فيتنام متناغمة مع الاستراتيجيّة السياسيّة العالميّة القائمة على حماية «العالم الحرّ» من الشيوعيّة. غير أنَّ هذه الحرب لم يكن بوسعها أن تكون، عمليًّا، إلاَّ عمليّة استئناف في العمق لأشكال السيطرة الأوروبيّة التقليديّة. وليس من شكّ في أنَّ الهزيمة التي لحقت بأميركا في فيتنام ستكون واعظًا لها لتغادر السياق الكلاسيكيّ للسيطرة وتتجه إلى صياغات استراتيجيّة جديدة تقوم على حكم امبراطوريّ من طراز جديد.

إنَّ الجدل العميق الذي اشتعل داخل حقول الفكر الإستراتيجيّ الأميركيّ بعد حرب فيتنام قد أدَّى ـ بحسب زبينغيو بريجنسكي ـ إلى اعتراف متزايد بضرورة إعادة تحديد دور أميركا العالميّ. ذلك أنَّ اندفاع أميركا في العالم بنموّها الخاص، وبفعل حربين عالميّتين جعلها تتحرّك بنشاط في البداية، ثمّ تضمن، استعادة الغرب لاقتصاده ولأمنه العسكريّ. وهذا الوضع ـ النابع من الضرورة المتميّزة بالهموم العسكريّة الثقيلة ـ أخذ يتحوّل بشكل تصاعديّ نحو مزيد من التورّط في المشاكل الأكثر أساسيّة، والتي تواجه الإنسانيّة في الثلث الأخير من القرن العشرين. ويرى بريجنسكي أنَّ جون كينيدي هو الذي سيمسك بروح الوضع الأميركيّ الجديد في العالم، حيث قال عن نفسه إنّه أوّل رئيس أميركيّ يعتبر العالم كلّه من شؤون السياسة المحلّيّة بمعنى أو بآخر. ومن المؤكَّد أنَّ كينيدي كان أوّل رئيس «عالميّ» للولايات المتّحدة، فروزفلت برغم كلّ اتجاهاته الدوليّة كان يؤمن في الأساس باتفاق عالميّ يشبه اتفاق 1815، حيث «الأربعة الكبار» كان لهم دوائر نفوذ خاصّة؛ أمّا ترومان فلقد تجاوب قبل كلّ شيء لتحدٍّ شيوعيّ معيّن، وأظهرت سياساته أنّها تعطي أولويّة واضحة للمشاكل الإقليميّة، واستمر أيزنهاور على الطريق نفسه مطبِّقًا بين الحين والآخر سوابق أوروبيّة على مناطق أخرى. وهذه التحوّلات كانت معبِّرة عن تغيُّر دور الولايات المتّحدة، إلاَّ أنَّه مع كينيدي كان الشعور بأنَّ كلّ قارّة قادرة، وكلّ شعب له الحقّ في أن يتوقّع القيادة والطموح من أميركا، وإنَّ أميركا ملزمة بالقدر نفسه من الانغماس والتورّط في كلّ قارّة وكلّ شعب. إنَّ أسلوب كينيدي المثير ـ كما يلاحظ بريجنسكي ـ أنّه ركَّز على الطابع الإنسانيّ العالميّ للمهمّة الأميركيّة، بينما كان افتتانه الرومانسيّ بفتح الفضاء يعكس قناعته بأنَّ زعامّة أميركا العالميّة ضروريّة لفعاليّة دورها العالميّ[18].

حقبة كنيدي وإيديولوجيّة الهيمنة الأحاديّة
في خلال الحقب الرئاسيّة الأميركيّة التي تلت حقبة كينيدي لم تغادر جدليّة الهيمنة على العالم وحمايته الرسالية المدَّعاة العقل الإستراتيجيّ الحاكم في الولايات المتحدة. كان ثمّة استيقاظ دائم لنزعتي الهيمنة والمهمّة الرساليّة، وإن كانت هذه الأخيرة باقية على الدوام كذريعة إيديولوجيّة تسوّغ لمنطق القوّة وتمهِّد له سبيل الفلاح.

في كتابهما[19] الذي نشراه في باريس عام 2003 تحت عنوان: ( أميركا المقبلة: قياصرة البنتاغون الجدد) يبيِّن الباحثان الإستراتيجيّان الفرنسيّان جيرار شاليان (Gerard Chaliand) وأرنو بلان (Arnaud Blin) الخلفيّة التاريخيّة والثقافيّة التي تحمل الفكر السياسيّ الأميركيّ على الجمع الدائم بين هاتين النزعتين المفارقتين (الهيمنة والرساليّة)، ثمّ يتساءلان عن السبب الذي يجعل إدارة جورج بوش الثاني تحرص وتقاتل بحزم للحيلولة دون ظهور قوّة منافسة لها على وجه الأرض، وعن موضوعيّة البحث عن الدوافع المحرِّكة لهذه الإدارة فيما ترفعه من شعارات. وللإجابة يؤكّدان أنَّ الجذور التاريخيّة هي وحدها التي يمكن أن تمدّنا بالمشهد وخلفيّته معًا. فتاريخ أميركا منذ توماس جيفرسون وحتى جورج دابليو بوش عرف ظهور توجّهين اثنين، توزّعت بينهما الإدارات: أحدهما مثالي حالم، والآخر واقعيّ مكيافيلليّ شرس. ولكي نعبِّر عن الأمر بلغة فلسفيّة، نستطيع القول إنَّ إحداهما تعود إلى الفيلسوف الإنجليزيّ توماس هوبز القائل: «إنَّ الإنسان ذئب لأخيه الإنسان»، في حين تعود الأخرى إلى كانط الفيلسوف المثاليّ «الترانساندانتاليّ»، المتسامي، العالميّ، وإلى جان جاك روسو أيضًا، وهما اللذان تحدَّثا عن إمكانيّة «السلام الدائم» و«التعايش السلميّ» العالميّ، وكانا يريان إلى الإنسان كائنًا محكومًا بالأخلاق والنوايا الطيّبة والطبيعة الخيّرة على عكس هوبز ومكيافيللي، ومن هذا المنطلق فإنَّ أميركا الواعظ الإنجيليّ جيمي كارتر تختلف -سياسيًّا وموضوعيًّا- عن أميركا المحافظ اليمينيّ المتطرّف رونالد ريغان، تمامًا كما أنَّ إدارة الداعية الديمقراطيّ الساعي إلى تحقيق رسالة أميركا بإشاعة الحرّيّة في العالم -بيل كلينتون- تختلف عن إدارة اليمينيّ المحافظ وذي التوجّه الإمبرياليّ جورج دبليو بوش المرتمي في أحضان جماعة المحافظين الجدد، بكلّ مشروعها وأطروحاتها المتطرّفة الكوسموبوليتيّة. ويرى المؤلّفان أنَّ تاريخ الولايات المتّحدة كمشروع سياسيّ عرف مرحلتين رئيسيّتين، إحداهما أطلقها الآباء المؤسّسون وقدّمت هذه الدولة الهائلة كمشروع طوباويّ من قبيل «مدينة الشمس» لكامبانيلا، أو «مدينة الله» لتوماس مور، ومشروعها الانكفاء على نفسها واستغلال مواردها الهائلة لتحقيق دولة الرفاه التي تجسّد الفضيلة أخلاقيًّا، والعدالة سياسيًّا، والتي تتعاطى دائمًا مع السياسة الخارجيّة من المفهوم المثاليّ الأخلاقويّ وأحيانًا التقويّ الطهوريّ.
أمّا المرحلة الثانية، فتبدأ منذ الحرب العالميّة الثانية حين أصبحت أميركا قوّة عظمى، وبالتالي وجدت نفسها تخرج من حدودها السوسيو-تاريخيّة التي اعتادت عليها لتمارس الهيمنة على العالم، وأيضًا -ويا للمفارقة- لتتبادل الأدوار مع أوروبا التي كانت خلال المرحلة السالفة الذكر، خصوصًا في القرن التاسع عشر تلعب دورًا إمبرياليًّا، وتتعاطى مع السياسة بالمفهوم الهوبزيّ الماكيافيلليّ، والتي جنحت منذ انتهاء الحرب، وبضغط من موروثها الفاشيّ-النازي إلى التعايش السلميّ، وإلى تغليب المفهوم المثاليّ للتعاطي مع السياسة عامّة، والخارجيّة منها خاصّة.
وإذا كانت أيديولوجيا فتوحات أوروبا الاستعماريّة في القرن التاسع عشر تحرص على تعميم «رسالة الرجل الأبيض»، فإنَّ العنوان الذي سيرفعه قياصرة «البنتاغون» الآن للخروج بالدور الأميركيّ إلى الحد الأقصى من حلمه إلى واقعيته هو «نشر النموذج الأميركيّ «عبر العالم، وذلك تعبيرًا عن إيمان راسخ لدى الأميركيّين عامّة بما يعتبرونه رسالة قدرهم ترويجها وإشاعتها عبر العالم هي «القدر البيِّن للشعب الأميركيّ»، الذي يعني أنَّ أميركا قبل أن تكون دولة أو قوّة عظمى هي فكرة ورسالة عظيمة وحلم جميل حافل بالوعود[20].

عندما وضعت الحرب الباردة أوزارها التي ظلّت على مدى نحو نصف قرن تقيِّد الطموحات الجيو ـ استرإتيجيّة للولايات المتّحدة، صار سهلًا إحداث تغيير راديكاليّ في آليّات صنع تلك الطموحات، فإذا كان رونالد ريغان قد أوصل النزاع مع الشيوعيّة السوفياتيّة إلى نهايته المدوّية ممثّلة بسقوطها، فإنَّ جورج بوش الأوّل سيكمل ما تبقّى من آثارها في الشرق الأوسط عبر حرب الخليج الثانية في العام 1991. لكن الرئيس بيل كلينتون الذي سيخلف الرئيس بوش سيتّخذ لنفسه منحنًى آخر، من دون أن يقطع مع المنطق الإجماليّ لمن سبقوه إلى الإدارة. فعلى رأي الذين درسوا سياساته، فإنَّ كلينتون كان أوّل رئيس أميركيّ منذ أيام فرانكلين روزفلت يصوغ أفكاره حول القضايا العالميّة من دون أن يضطر لمواجهة الاتحاد السوفياتيّ. وفي خطابه عن «حال الأمّة» في شهر كانون الثاني/ يناير 1999، استعاد كلينتون صدى الكلمات التاريخيّة التي أطلقها الملياردير والقطب الإعلاميّ الشهير هنري لوس في شباط/ فبراير 1931، أي قبل عشر سنوات من دخول الولايات المتّحدة الحرب العالميّة الثانية. يومها قال لوس: «إنَّ الأميركيّين فشلوا طوال العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين في التنبُّه إلى مدى سيطرة بلدهم على مصير العالم، وهذا ما جعل المسار التاريخيّ للبشريّة يأخذ منعطفًا بائسًا..» ثمّ يضيف: «إنَّ أميركا كمركز فعّال للحلقات الدائمة التوسّع في حقل الأعمال.. أميركا كمركز تدريب لخدّام الجنس البشريّ المَهَرَة.. أميركا الكريمة التي تؤمن مجدّدًا أنّ العطاء مبارك أكثر من الأخذ، وأميركا كمحطّة لتوليد المثل العليا في الحرّيّة والعدالة ـ من المؤكّد أنّه من جميع هذه العناصر يمكن أن نكوِّن رؤى عن القرن العشرين نستطيع أن نكرّس أنفسنا لها بكلّ محبّة ونشاط وحماس».. وبعد ثمانية وخمسين عامًا نظر كلينتون إلى قصديّة لوس نظرة المقتدي والمقلِّد، لا سيما لناحية وجوب أن يبسط الأميركيّون أيديهم للقرن الأميركيّ. فقد ظهرت أطروحة لوس كما لو أنّها أطروحة مأثورة ينبغي الأخذ بها عن ظهر قلب، غير أنَّ هذه الاستعادة التي أخضعت للتأويل الإيجابيّ من جانب كلينتون، أي بوصفها صيغة للتعاون بين الأمم.. سرعان ما تهافتت وعادت إلى غائيّتها الأولى كمادّة أيديولوجيّة وسياسيّة وثقافيّة لأمركة العالم».

حقبة المحافظين الجدد ونظريّة أميركا هي العالم كلّه
سوف تظهر أطروحة العالميّة الأميركيّة بقوّة أكبر بعد الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001. فلم يكن للعقيدة السياسيّة الأميركيّة بعد هذا التاريخ سوى إماطة اللثام عن واحدة من أبرز أطروحاتها المعاصرة، عنينا بها أطروحة: «أميركا هي العالم، والعالم هو أميركا».
إنَّ تجديد هذه الأطروحة بعد هذا التاريخ، ينطوي بلا ريب على فاعليّة كثيفة؛ ذلك لأنَّ عالميّة أميركا هذه المرّة لم تعد مجرّد شعار ينبغي إخراجه من القوّة إلى الفعل. فالعالميّة الأميركيّة بعد انصرام الحرب الباردة، ثمّ بعد زلزال الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، غدت واقعًا موضوعيًّا وذاتيًّا بالنسبة لدولة كأميركا راحت تتصرّف حيال أيّ وضع في العالم بصفته وضعًا متّصلًا بقوّة بالأمن القوميّ الأميركيّ..
إذا كان الخطاب السياسيّ ميّالًا كالعادة إلى ضربٍ من الديماغوجيا لإظهار محاسن الطموح الإمبراطوريّ للولايات المتّحدة، فالخطاب الإعلاميّ الموجَّه يبدو أقلّ تكلُّفًا في ارتداء الأقنعة. هذا ما سيجدُّ في بيانه الباحثان البريطانيّان ضياء الدين سارادار وميريل وين ديفيس في مقالتهما المشتركة التي وَضَعَاها تحت عنوان «أميركا هي العالم والعالم هو أميركا»[21]. يستهلّ الباحثان مقالتهما بالإشارة إلى المسلسل التلفزيونيّ الشهير (ألياس) Alias الذي تعرضه محطة آي. بي. سي (A.B.C) الأميركيّة، فقد قرَّرا أنَّ صراحة هذا المسلسل الذي يروي قصة طالبة تعمل في الخفاء كعميلة سرّيّة من مستوى عالٍ، توسّع إلى حدّ كبير أفق المعرفة بالنسبة إلينا جميعًا. فقد صُنِّف «ألياس» بأنّه برنامج ترفيهيّ مسلٍّ لا يستدعي أيّ اهتمامات، لكن هذا المسلسل العاديّ والسطحيّ، والذي يحبس الأنفاس عبر حبكة غريبة، يكشف للمُشاهد أشياء كثيرة عن أميركا والطريقة التي تنظر بها إلى العالم. يضيف صاحبا المقالة:
إنَّ السينما والتلفزيون يعكسان «الواقع» ويوجدانه في الوقت نفسه. وكما أشار إلى ذلك الروائيّ والناقد الإيطاليّ أمبرتو إيكو، فإنّهما لم يكتفيا بنقل أيديولوجيا، بل إنّهما الأيديولوجيا الأميركيّة في حدِّها الأقصى(...) بهذه الدلالة تتمظهر أميركا بوصفها هي العالم، بحسب مسلسل «ألياس»؛ إذ يمكن أن ينتقل سير أحداث حلقة نموذجيّة بسرعة الضوء من لوس أنجلوس إلى القاهرة أو إلى موسكو، وإلى روما أو إلى أوكسفورد، وإلى توسكانا أو إلى جنيف، ومن مستشفى للأمراض العقليّة في بوخارست إلى صحراء أرجنتينيّة قبل أن يعود إلى لوس أنجلوس. إذًا، ليست بقية العالم سوى شرفة أميركا، حيث يُقدّم الأشرار -أعداء الـ«سي.آي.إي» و« SD-6»- باعتبارهم الآخرين، ويؤدّون دورهم ويظلّون على ما هم عليه، وحيثما تقود المهمّات العمليّة السرّيّة، فإنَّ العالم بأسره، وباستثناء بعض التفاصيل الثانويّة وبعض السكّان الأصليّين المثيرين للإعجاب، يشبه تمامًا لوس أنجلوس، حيث يتمّ تصوير المسلسل. وحيثما توجه سيدني نظرها، فإنّها تكتشف الأفق نفسه. لذا ليس مفاجئًا أنّها تنتقل في العالم غير الأميركيّ كما تنتقل في حديقتها الخلفيّة، وأنّها تعود من كلّ مهمّة وكأنّها لم تقم إلَّا بجولة صغيرة في مركز تجاريّ مجاور، أمّا في ما يتعلّق بأعدائها، فإنّهم موجودون في كلّ مكان ومن كلّ الأجناس -عرب وصينيّون وروس وكوبيّون- ويعملون جميعًا كشبكات مستقلّة وسرّيّة.
إنَّ ما يعرضه «ألياس» بثقة كبيرة -كما يبيِّن الباحثان- ليس القول إنَّ أميركا تريد أن تحكم العالم، وإنّما التأكيد على أنّها تحكمه بالفعل بكلّ بساطة. فالدول-الأمم، والحدود الجغرافيّة، والهيكليّات السياسيّة، تتحوّل إلى مجرّد سخافة، فالمهم هو وجود شبكات متنافسة تسعى كلّ منها إلى ضمان مصالحها على المسرح العالميّ ـ مسرح يغفل التنافس بين القوى العظمى، بما أنّه ليس هناك سوى قوّة عظمى وحيدة ومصدر وحيد للنظام العامّ. وعليه، فإنَّ الحديث عن «أمبراطوريّة أميركيّة» أو عن «إمبرياليّة أميركيّة»، في ظلّ نظام طبيعيّ من هذا النوع، يصبح بلا معنى، مثلما تغدو هذه الخطب والتحليلات باطلة إلى حدّ خطير؛ إذ إنَّ فكرة الإمبراطوريّة تعني وجود مستعمرات يتمّ فيها قمع سكّان يرفضون الخضوع. كما إنَّ الإمبرياليّة هي حاضرة مزدهرة وتسعى جاهدة للسيطرة على الأسواق وفرض قوانينها على بلد بعيد. والعالم حاليًّا يمثِّل امتدادًا للمجتمع الأميركيّ؛ إذ -تحديدًا- يلتحق الأفراد والجماعات بحماس بثقافتها وقيمها، وهكذا تصبح المسافة، كما يظهر مسلسل «اليأس» ذلك بمهارة كبرى، بلا أيّ معنى. فباستثناء «دول مارقة» شاذّة، لم يعد هناك «بلدان بعيدة»، ثمّة حاجة إلى «إخضاعها للنفوذ» من جانب الإمبرياليّة الواضحة للعيان. إذًا، لا تقدّم أميركا نفسها كقوّة إمبرياليّة بالية تبحث عن «دوائر نفوذ» وتتنافس مع إمبراطوريّات أخرى؛ وإنّما تتقدّم بوصفها قوّة عظمى لا مثيل لها. وعليه، كيف يفاجئنا بأن ينظر مسلسل «ألياس» إلى العالم بصفة كونه أميركا؟[22]
يجيب صاحبا المقالة على سؤالهما، بضرب من الاستفهام المنطقيّ، فلئن كان العالم هو أميركا، فهذا يعني أنّ مصالح أميركا هي بالضرورة مصالح العالم، وإنّ أولئك الذين يعملون ضدّ مصالح أو ثقافة أو رؤية أميركا للعالم، يلحقون الضرر في الحقيقة برفاه العالم وأمنه (...)، هذا هو المنطق الذي حكم كلّ التدخّلات العسكريّة الأميركيّة منذ أكثر من قرن. كانت المعادلة بسيطة جدًّا: تدخّلت أميركا عسكريًّا في الخارج بسهولة وباستمرار، تمامًا مثلما تنطلق العميلة المزدوجة الخارقة «سيدني» في مهمّة، وهكذا أرسلت الولايات المتّحدة قوّاتها إلى الصين وكوريا وفيتنام وأندونيسيا، وكذلك إلى بلدان أكثر قربًا مثل كوستاريكا وغواتيمالا وغرانادا في عقود الحرب الباردة. وعلى أثر تفجيرات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر مباشرة، نشر المناضل الأميركيّ من أجل السلام والمتعاون المنتظم مع المجلّة المتطرفة «كونتر بانتش» زولتان غروسمان قائمة تحت عنوان: «قرن من التدخّلات العسكريّة الأميركيّة: من ونديد كني إلى أفغانستان»، وقد جرى إعدادها استنادًا إلى أرشيف الكونغرس، ولحساب البحوث في مكتبة الكونغرس. وتحصي القائمة 134 تدخّلًا محدودًا أو واسع النطاق، عالميًّا أو داخليًّا، ممتدّة زمنيًّا على فترة 111 عامًا بين عامي 1890 و2001، وتظهر هذه الوثيقة أنَّ الولايات المتحدة قامت حتى نهاية الحرب العالميّة الثانية بـ 15،1 تدخّلًا سنويًّا كمعدّل وسطيّ، ثمّ وصل هذا الرقم إلى 29،1 تدخّلًا خلال الحرب الباردة. أمّا بعد سقوط جدار برلين، فقد ارتفع الرقم ليبلغ تدخلين سنويًا؛ وعليه كلّما توسَّعت الإمبرياليّة الأميركيّة العظمى، تزايدت التدخّلات من أجل حماية «مصالحها». إلى ذلك، وكما يبيِّن جوهان غالتنغ، مدير «ترانسند» (شبكة إنترنت من أجل السلام والتنمية) في «البحث عن السلام» (2002)، فإنَّ التوزيع الجغرافيّ للتدخّلات تبدّل أيضًا في فترة ما بعد الحرب. ففي مرحلة أولى، ركَّزت الولايات المتّحدة تدخّلاتها بعنف شديد في شرق آسيا (كوبا، فيتنام، أندونيسيا، وكذلك إيران). ثمّ جاء دور أوروبا الشرقية (بما في ذلك الاتحاد السوفياتيّ).
لكن العمليّات العسكريّة كانت هذه المرة أقلّ عنفًا ظاهرًا بسبب وجود قوى عظمى منافسة، وفي المرحلة الثالثة، تركزت التدخّلات في أميركا اللاتينيّة، بدءًا من كوبا قبل أن تشمل القسم الأكبر من القارّة. وقد مورس العنف هذه المرة على مستويات متدنّية ومرتفعة، لكنّها لم تصل إلى المستوى الذي بلغته في شرق آسيا. أمّا في المرحلة الرابعة، والتي نشهدها حاليًّا، فإنّها تمتد من الشرق الأدنى إلى آسيا الوسطى: بعد فلسطين وإيران، ثمّ ليبيا والمنطقة اللبنانيّة-السوريّة، انتقلت العمليّات إلى العراق في التسعينات، ثمّ إلى أفغانستان والعراق مطلع القرن الواحد والعشرين. بكلام آخر، تحوّلت أهداف هذه التدخّلات من المجتمعات الكونفوشوسيّة والبوذيّة إلى الثقافات المسيحيّة والكاثوليكيّة، ثمّ إلى الحضارة الإسلاميّة. إنّ بقيّة شعوب العالم يكوِّنون إلى حدّ كبير جدًّا الفكرة التي لديهم عن أميركا، وكذلك نظرة أميركا إليهم، من خلال المسلسلات التلفزيونيّة، على غرار «ألياس» وأفلام هوليوود، مثل فيلم «القرار الأخير» أو «منع التجوّل»، لكن هذا الإدراك يستند أيضًا إلى تجربة معيوشة ـ على سبيل المثال سلوك الولايات المتّحدة في منابر دوليّة، على غرار الأمم المتّحدة ـ على أنّ هذا السلوك ليس مختلفًا بتاتًا عن سلوك «SD-6» في مسلسل «ألياس»: بما أنّنا نهيمن على العالم، يمكننا أن نتصرّف إلى حدّ كبير كما يحلو لنا. وكما كتب الأمين العام السابق للأمم المتحدة بطرس بطرس غالي في كتابه «الأمم المتّحدة المهزومة: مأثرة الولايات المتّحدة ـ الأمم المتحدة»، فإنَّ الأمم المتحدة هي حاليًّا ملكيّة حصريّة لقوّة عظمى وحيدة ـ الولايات المتّحدة ـ التي تستغلّ، من خلال استخدام الترهيب والتهديدات و حقّ النقض (الفيتو)، المؤسّسة الدوليّة لخدمة مصالحها فقط؛ إذ إنّ الولايات المتّحدة تستخدم المنظّمة وفق ما يناسبها لتشريع تحرّكاتها وتشكيل الإئتلافات وفرض عقوبات على «الدول المارقة». أمّا عندما يتصدى لها الرأي العام العالميّ، فإنّها تعامل المنظّمة باحتقار كبير[23].

الثقافة الذرائعيّة كطريق إلى الهيمنة المطلقة
إذم توجد ممارسة مركّبة للهيمنة على العالم، هي ممارسة تجمع بين السلوك الإمبرياليّ التقليديّ، الدخول العسكريّ المباشر، وممارسة الاحتلال، وتسويغ الحروب بذريعة الأمن الدوليّ..، وبين السلوك الإمبراطوريّ الذي لا يرى أيّ شأن في العالم مهما كانت مؤثّراته الأمنيّة والاقتصاديّة والثقافيّة إلَّا شأنًا أميركيًّا داخليًّا. ذلك كان شأن الإمبراطوريّات القديمة، فهي إمبراطوريّات جامعة لم تكن ترى العالم فيما وراء حدودها، إلّا انطلاقًا من رؤية مركزيّة مبنيّة على المنطق الذي تحدّده المصالح العليا لدولة ما وراء الحدود. وهنا يبدو المثال الأميركيّ صارخًا.
ينقل الفيلسوف الألمانيّ المعاصر يورغن هابرماس عن المؤرّخ أريك هوبز باوم قوله عن القرن العشرين بأنّه قرن أميركيّ بامتياز. ثمّ يعلِّق على هذا في شيء من السخرية المرَّة، إنّه يحقّ للمحافظين الجدد الذين حكموا أميركا في مستهلّ القرن الحادي والعشرين، أن ينظروا إلى أنفسهم بوصفهم «منتصرين»، وأن يتّخذوا مثالًا لنظام عالميّ جرت إقامته على الانتصارات المحقَّقة التي أحرزتها الولايات المتّحدة منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية ـ في أوروبا وفي جنوب شرق آسيا إثر هزيمتي ألمانيا واليابان، وفي أوروبا الشرقيّة إثر انهيار الاتحاد السوفياتيّ. وقد جرى تأويل مرحلة ما بعد التاريخ هذه ـ بحسب اصطلاح فرانسيس فوكوياما، على ضوء النزعة الليبراليّة، فمن شأن ذلك أن يجنِّبنا الخوض في مماحكة حول الأهداف المعياريّة: فماذا يمكن بالفعل أن يحظى به الناس أفضل من تعاظم السوق الحرّة على المستوى العالميّ وتعاظم عدد الدول الليبراليّة؟..

ثمّة لدى الأيديولوجيا الأميركيّة ما يسوِّغ المقولة الأمنيّة بتظاهراتها المختلفة، سواء لناحية الحرب الاستباقيّة التي تفترض عدوًّا قد يهاجم في أيّ لحظة، أو لناحية إسقاط ما يسمّيه أصحاب النزعة الذرائعيّة من المحافظين الجدد، أنظمة الشرّ، أو الحكومات الراعية للإرهاب. هؤلاء يعترفون أنَّ الحرب غير الشرعيّة تبقى عملًا متعارضًا مع القانون الدوليّ، غير أنّ من شأن النتائج الضارّة أن تنزع أيّ طابع شرعيّ عن النيّات الحسنة، أي تلك القائلة بوجوب عدم الحرب بسبب من لا شرعيّتها، والسؤال الذي يطلقه فلاسفة المحافظين في وجه مؤيّدي القانون الدوليّ هو التالي: لماذا لا يَسَعُ النتائج الحسنة أن تمتلك، على نحو استدلاليّ، القدرة على إخفاء الطابع الشرعيّ؛ ذلك أنّ المقابر الجماعيّة، والزنزانات تحت الأرض وشهادات الذين تعرّضوا للتعذيب، لا تترك في نهاية المطاف، مجالًا لأيّ شكّ حول الطبيعة الإجراميّة لنظام الحكم. (العراق ـ يوغوسلافيا الصربيّة مثالًا)...
هكذا تتشكَّل ذرائعيّة العقل الأمنيّ الأميركيّ ليمضي في صياغة أنظمة الأمن الإقليميّة والدوليّة على وفق زمن أميركا للقرن الحادي والعشرين. إنّه يريد أن يواجه العالم بمعياريّة جديدة حول شرعيّة الحرب الاستباقيّة، أو البدء بالحرب ضدّ أيّ حالة سياديّة لمجرّد الظنّ بأنّ هذه الحالة قد تشكّل خطرًا على السلام الدوليّ.
في مجالنا السياسيّ العموميّ -يقول هابرماس- أدَّى هذا الأمر إلى نمطين من ردود الفعل. هناك ردّ فعل الذرائعيّين الذين يؤمنون بالقوّة المعياريّة لما هو حدثيّ، ويثقون بأحكامهم العمليّة؛ ويرسمون الحدود السياسيّة للأخلاق، مثمّنين ثمار الانتصار على المدى المنظور؛ ذلك أنهم يرون أنَّ إعمال التفكير في صوابيّة الحرب هو أمر عقيم؛ لأنَّ الحرب، في الأثناء، غدت واقعًا تاريخيًّا. ثمّ هناك ردّ فعل الذين استسلموا، بدافع الانتهازيّة أو الاقتناع، أمام الحَدَثّي؛ إذ يرى هؤلاء أنّ الإصرار على التمسّك بالقانون الدوليّ بات أمرًا ينمُّ عن جمود عقائديّ، ويبرّرون موقفهم قائلين إنَّ التنديد بمخاطر وتكاليف العنف العسكريّ إنّما هو تغاض عن القيمة الحقَّة الوحيدة: أي الحرّيّة السياسيّة.
هذان منحيان لردّ الفعل يمكن وصفهما بقصر النظر؛ إذ إنّهما يتناولان بانتقاد سطحيّ «النزعة الأخلاقيّة الباهتة»، غير أنّهما يغضان الطَّرْفَ عن تفسير ما يودّ المحافظون الجدد في واشنطن أن يجعلوه بديلًا لتدجين العنف الدوليّ بواسطة القانون الدوليّ. فالحقيقة أن ما يجابه به المحافظون الجدد هؤلاء أخلاق القانون الدوليّ، ليس هو النزعة الواقعيّة ولا نزعة الفهم الرومانسيّ للحرّيّة، فإنَّ فرض النجاح السياسيّ الأعظم -أي النزعة الليبراليّة- عبر الهيمنة، لجعله نظامًا عالميًّا هوأمرٌ يمكن تبريره أخلاقيًّا أيضًا، وإن اقتضى تحقيقه اللجوء إلى وسائل تتعارض مع القانون الدوليّ.
وبالطبع فإنَّه ضمن هذه المعياريّة تحتفظ القوّة الأميركيّة الأعظم بحقِّها في التفرُّد في العمل، حتّى باستخدام السلاح، لتدعيم موقعها المهيمن في مواجهة أيّ غريم محتمل، غير أنَّ ممارسة سلطة عالميّة ما ليست في نظر هؤلاء المنظريّن الجدد، غاية في حدّ ذاتها، فما يميِّز المحافظين الجدد عن المدرسة «الواقعيّة»، هي رؤية سياسيّة عالميّة لأميركا منعتقة من السبُل الإصلاحيّة لسياسة الأمم المتّحدة الخاصّة بحقوق الإنسان، وهي سياسة لا تخلّ بالأهداف الليبراليّة (لسياسة الأمم المتّحدة على هذا الصعيد)، لكنّها تحطّم القيود الحضاريّة التي يفرضها ميثاق الأمم المتحدة[24].
سوف يمضي الحاكمون الجدد للبيت الأبيض، وتحديدًا أولئك الذين انقشع حكمهم عن فلسفة جديدة بعد زلزال 11 أيلول/ سبتمبر 2001، إلى جعل هذه القاعدة أساسًا لعقيدتهم: «إذا تحرّكت أميركا تغيَّر العالم»، فما الذي يمنع حين تشعر أميركا القرن الحادي والعشرين أن تهديدًا ما لعالميّتها ينبغي القضاء عليه من دون سابق إنذار.
إنّها نظريّة الاستباق في الحرب أو «الحرب الاستباقيّة» (Preemptive). على الرغم من أنَّ هذه النظريّة أخذت متسعًا من النقاش بين الخبراء الإستراتيجيّين بعد الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، تبقى نظريّة مستعادة بامتياز. فهي ليست جديدة في تاريخ الاستراتيجيّات الأميركيّة. توجد محطات في التاريخ الحديث من القرن التاسع عشر، والقرن العشرين ولغاية اليوم، شهدنا فيها إطلاق شعارات مفادها العام: عندما تتحرّك أميركا يتغيَّر العالم». ويبيِّن الخبراء في هذا الصدد، أنّ هذه الشعارات أو هذه الأطروحة وجدت حقولها التطبيقيّة بالفعل، ففي الحرب العالميّة الأولى رأينا مبادئ وترتيبات جديدة، وفي الحرب العالميّة الثانية أدخلت الولايات المتّحدة الأميركيّة عنصرًا جديدًا إلى العالم، وهو العنصر النوويّ والحرب الشاملة «Global War» و«Total War». وقد تغيَّر العالم بعد الحرب العالميّة الثانية، أنشأت أميركا المؤسّسات من الأمم المتّحدة في سان فرنسيسكو، وصولًا إلى المؤسّسات الماليّة للسيطرة على أمور معيّنة، مثل صندوق النقد الدوليّ (IMF) والبنك الدوليّ (World Bank) وبالتالي كلّ الأنظمة والمعاهدات لمزيد من السيطرة على العالم. وكانت مقاربة أميركا للعالم، تكتسب شكلًا معيّنًا، بصرف النظر عن المقاربة الأوروبيّة[25].

سبعة عوامل إستراتيجيّة
ثمّة إذًا تواصليّة في العقل الإستراتيجيّ الأميركيّ على اختلاف أحقابه وتمرحله، وهي تواصلية تعدّ مبدأ التفوق والغلبة، سواء في حيِّز الأمن أساسًا، أو في المجالات الاقتصاديّة والسياسيّة أساسًا لها، والواقع أنّه لا يمكن النظر إلى ما آلت إليه استراتيجيّة السيطرة المفتوحة على المجال العالميّ بأسره، إلاَّ في إطار الفهم التاريخيّ لتطوّر العقل الإستراتيجيّ الأميركيّ بأحيازه المختلفة. ولئن كانت إستراتيجيّة بناء النظام العالميّ الجديد والسيادة عليه بمواصفات وشروط أميركية خاصّة هي السائدة بعد الحرب الباردة، فإنَّ منعطف الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر سيؤسِّس لهذه الإستراتيجيّة ويطلقها كغرابٍ ضارٍ في فضاء العالم. وعلى ما يبيِّن ج. جون إكنبري، الخبير الإستراتيجيّ الأميركيّ وأستاذ الجيوبولتيك في جامعة جور جتاون، فإنَّ ثمّة إستراتيجيّة كبرى جديدة، أخذت تبدو ملامحها لأوّل مرة منذ فجر الحرب الباردة. وهي تقوم على كونها استجابة مباشرة للإرهاب، ولكنّها تشمل أيضًا رؤية أوسع لكيفيّة استخدام الولايات المتّحدة للقوة ولتنظيم النظام العالميّ. وبحسب هذا النموذج (الباراديجم ) الجديد، فإنَّ على أميركا أن تكون أقلّ التزامًا بشركائها وبالقواعد الدوليّة والمؤسّسات فيما هي تتقدَّم للقيام بدور أكثر إفراديّة واستباقيّة في مهاجمة التهديدات الإرهابيّة ومواجهة الدول المارقة التي تسعى للحصول على أسلحة الدمار الشامل. فالولايات المتحدة ستستخدم قوّتها العسكريّة التي لا مثيل لها في إدارة النظام الكونيّ. ولهذه الإستراتيجيّة الكبرى الجديدة سبعة عناصر، فهي تبدأ بالتزام أساسيّ بالحفاظ على عالم أحاديّ القطب ليس للولايات المتّحدة أيّ ندّ منافس فيه، ولا يمكن السماح لأيّ ائتلاف قوًى لا يشمل الولايات المتّحدة أن يهيمن فيه، ولقد جعل بوش في حزيران/ يونيو 2002 من هذه النقطة أساسًا للسياسة الأميركيّة الأمنيّة؛ إذ قال في حفل التخريج في كلّيّة وست بوينت العسكريّة: «إنّ أميركا تملك قوّة عسكريّة لا يمكن تحدّيها، وهي تنوي أن تحافظ على ذلك ـ بحيث تجعل من سباقات التسلّح المزعزعة للاستقرار في الحقب الماضية بلا معنى، وبما يحصر الخلافات بشؤون التبادل التجاريّ وقضايا السلم الأخرى». وبالتالي فإنَّ الولايات المتّحدة لن تسعى لتحقيق الأمن من خلال الإستراتيجيّة الواقعيّة الأكثر تواضعًا والتي تقوم على العمل من داخل نظام كونيّ متوازن القوى، وهي لن تسعى لتحقيق إستراتيجيّة ليبراليّة تقوم معها المؤسّسات والديمقراطيّة والأسواق المتكاملة بالتخفيف من أهمّيّة سياسات القوّة في شكل عامّ، بل إنَّ أميركا ستكون أقوى كثيرًا من الدول الرئيسة الأخرى إلى حدّ ستختفي معه التنافسات الإستراتيجيّة والتنافس بين القوى العظمى، الأمر الذي سيكون لمصلحة الجميع، وليس لمصلحة الولايات المتّحدة فحسب[26].

ولقد سبق لهذا الهدف أن ظهر في شكل مقلق في نهاية إدارة بوش «الوالد» حينما سرَّبت وزارة الدفاع، البنتاغون، مذكّرة كتبها آنذاك بول ولفوويتز، وقال فيها إنّه مع انهيار الاتحاد السوفياتيّ يتعيَّن على الولايات المتّحدة أن تعمل على الحؤول دون ظهور منافسين في أوروبا وآسيا، إلاَّ أنَّ التطوّرات التي حصلت في التسعينات جعلت من هذا الهدف الإستراتيجيّ غير ذي صلة، فلقد نمت الولايات المتّحدة بسرعة تفوق كثيرًا القوى الرئيسة الأخرى، وأبطأت من تخفيض إنفاقها العسكريّ، وزادت من الإنفاق على التطوير التكنولوجيّ لقوّاتها. ولقد بات الهدف اليوم جعل هذه المزايا دائمة ـ كناية عن أمر واقع سيدفع الدول الأخرى إلى التخلّي عن محاولة اللحاق بها، ولقد وصف بعض المفكّرين هذه الاستراتيجيّة بـ«الاختراق» الذي تقوم فيه الولايات المّتحدة بالتحرّك بسرعة كبيرة لتحقيق أفضليّات تكنولوجيّة (في الأتمتة واللايزر والأقمار الصناعيّة، والذخائر فائقة الدقّة في الإصابة... إلخ)، بحيث لا يعود من الممكن لأيّ دولة أو إئتلاف من الدول تحدّيها، سواء أكان في زعامتها الكونيّة أو في دورها الحمائيّ أو المنقذ. إلى ذلك فهناك عنصر آخر يتمثَّل في تحليل جديد ودراميّ للتهديدات الكونيّة وكيفيّة مهاجمتها، فالحقيقة الجديدة المروّعة تتمثّل في أنّه بات في وسع مجموعات صغيرة من الإرهابيّين -وربما بمساعدة دول خارجة على القانون- أن تحصل قريبًا على أسلحة دمار شامل نوويّة أو كيميائيّة أو بيولوجيّة. ولا يمكن، بحسب الإدارة الأميركيّة، استرضاء هذه المجموعات أو ردعها، فلا بدّ من استئصالها. أما العنصر الثالث من عناصر هذه الإستراتيجيّة الجديدة، فيقوم على أنّ مفهوم الردع العائد إلى حقبة الحرب الباردة قد عفا عليه الزمن، وبما أنّ الردع يعمل جنبًا إلى جنب مع السيادة وتوازن القوى، فمع نهاية الردع تأخذ العناصر الأخرى للبناء الواقعيّ بالتداعي؛ إذ لم يعد التهديد اليوم قادمًا من قوى عظمى أخرى يتمّ التعاطي معها من خلال القدرة على ردّ الضربة النوويّة، فليس لهذه المجموعات الإرهابيّة عنوان محدّد، ولا يمكن ردعهم؛ لأنّهم إمّا راغبون في الموت بسبب ما يؤمنون به، أو قادرون على الهرب من الضربة الانتقاميّة، وبالتالي فإنَّ الإستراتيجيّة الواقعيّة القديمة القائمة على بناء الصواريخ وغيرها من الأسلحة القادرة على تحمّل الضربة الأولى والقيام بضربة انتقاميّة تعاقب المهاجم لم تعد تتضمّن الأمن، والخيار الوحيد الباقي هو الهجوم. ويتعيَّن أن يكون استخدام القوّة، كما يحاجج أصحاب هذا الرأي، وقائيًّا بل وربما استباقيًّا ـ الهجوم على التهديدات المحتملة قبل أن تتحوّل إلى مشكلة كبيرة... وبنتيجة ذلك، فإنَّ العنصر الرابع من هذه الإستراتيجيّة الكبرى يتضمّن إعادة تحديد مفهوم السيادة. فبما أنّه لا يمكن ردع هذه المجموعات الإرهابيّة، فيتعيَّن على الولايات المتّحدة أن تكون مستعدّة للتدخّل في أيّ مكان وفي أيّ زمان لتدمير التهديد. فإذا كان الإرهابيّون لا يحترمون الحدود، فعلى الولايات المتحدة ألاَّ تحترمها بدورها، بل إنَّ البلاد التي تُؤوي الإرهابيّين، سواء أكان ذلك لأنّها توافقهم أو لأنّها غير قادرة على تطبيق قوانينها، تتخلى عن حقّها في السيادة. لقد ألمح هاس إلى ذلك في مقال له نُشر مؤخّرًا في «النيويوركر»: «الذي ترونه في هذه الإدارة هو ظهور لمبدأ جديد أو جسم من الأفكار... حول ما يمكن أن تدعونه حدود السيادة. السيادة تستتبع التزامات معيّنة، ومنها عدم ذبح أبناء شعبك، ولكنّها تشمل أيضًا عدم دعم الإرهاب بأيّ طريقة[27].
فإذا فشلت دولة ما في الالتزام بذلك، فإنّها تتخلّى عن بعض المزايا الطبيعيّة التي تمنحها السيادة، بما في ذلك الحقّ بأن تُترك وشأنك في أرضك. وتكتسب الدول الأخرى، بما فيها الولايات المتّحدة حقّ التدخّل، وفي حالة الإرهاب فإنَّ ذلك قد يقود أيضًا إلى الدفاع الوقائيّ عن النفس، وبالتالي فإنّك تملك الحقّ في التدخّل إذا كان لديك ما يجعلك تعتقد أنّ المسألة تكمن في متى تُهاجم، وليس إذا كنت ستهاجم أم لا»[28].
والعنصر الخامس في هذه الإستراتيجيّة الكبرى الجديدة يتمثّل في هذا التقليل العامّ من قيمة القواعد الدوليّة والمعاهدات والشركات الأمنيّة. وهذه النقطة مرتبطة بطبيعة التهديدات الجديدة: فإن كانت المخاطر تزداد وهامش الخطأ في الحرب على الإرهاب ينخفض، فإنَّ المعاهدات والقواعد التي تحدّ وتضبط استخدام القوّة ليست أكثر من إلهاءات مزعجة، فالمهمّة الرئيسة تتمثّل في القضاء على التهديد، لكنّ الإستراتيجيّة الجديدة تنهل أيضًا من نظرة عميقة تشكّك بقيمة المعاهدات الدوليّة أساسًا. ويعود ذلك جزئيًّا إلى إيمان أميركيّ عميق بأنَّ على الولايات المتّحدة ألاَّ تنغمس في عالم المؤسّسات والقواعد المتعدّدة الطرف الفاسد والمقيَّد. وإذا كان الاعتقاد بأنّ سيادة الولايات المتّحدة أمر مقدّس سياسيًّا قد قاد بعض الناس إلى تفضيل العزلة، إلاَّ أنَّ الرأي الأكثر نفوذًا ـ وخصوصًا بعد 11 أيلول/ سبتمبر لا يدعو إلى انسحاب الولايات المتّحدة من العالم، بل إلى العمل في هذا العالم وفق هواها. إنَّ معارضة إدارة بوش لعدد مذهل من المعاهدات والمؤسّسات، من برتوكول كيوتو، إلى المحكمة الجنائيّة الدوليّة، ومؤتمر البيولوجيا تظهر هذا التوجّه الجديد، كذلك فإنَّ الولايات المتّحدة لم توقّع معاهدة رسميّة مع روسيا حول خفض الرؤوس النوويّة إلاَّ بعد إلحاح موسكو، إذ كان الرئيس بوش يفضِّل اتفاقًا (جنتلمان) حبّيًّا.

سادسًا: ترى الإستراتيجيّة الكبرى الجديدة أنّه يتعيَّن على الولايات المتّحدة أن تضطّلع بدور مباشر وغير مقيّد في الردّ على التهديدات.

سابعًا وأخيرًا، فإنَّ الإستراتيجيّة الكبرى الجديدة تقيم وزنًا أقلّ للاستقرار الدوليّ؛ إذ يسود في أوساط أصحاب وجهة النظر الإنفراديّة رأي يمكن وصفه بالعاطفيّ يقوم على ضرورة كسر تقاليد الماضي، فسواء أكان الأمر متعلّقًا بالانسحاب من معاهدة الصواريخ المضادّة للصواريخ البالستيّة، أم الممانعة في توقيع معاهدات رسميّة لنزع السلاح، فإنَّ صنّاع القرار في الولايات المتّحدة مقتنعون بأنّه على بلادهم أن تتخطّى التفكير السائد للحرب الباردة. ولقد لاحظ مسؤولو الإدارة بشيء من الرضى أنّ انسحاب أميركا من معاهدة الصواريخ لم يؤدِّ إلى سباق تسلّح كونيّ، ولكنّه مهَّد الطريق أمام اتفاق تاريخيّ لتخفيض التسلّح بين الولايات المتحدة وروسيا، ويرون إلى هذه الخطوة كبرهان على أنّ تخطّي «الباراديجم» القديم للعلاقات بين القوى العظمى لن يؤدّي إلى هدم البيت الدوليّ، ففي وسع العالم أن يتحمّل مقاربات أمنيّة جديدة في راديكاليّتها. كما إنَّ في إمكانه أن يتأقلم مع الانفراديّة الأميركيّة، بيد أنَّ الاستقرار ليس هدفًا في حدِّ ذاته. فقد تؤدّي السياسة الصقوريّة الجديدة، نحو كوريا الشماليّة على سبيل المثال، إلى زعزعة استقرار المنطقة، ولكن ربما كان ذلك هو الثمن الضروريّ لاقتلاع نظام شرّير وخطر كنظام بيونغ يانغ.
وبحسب المفكّرين النيو إمبرياليّين، فإنَّ الإستراتيجيّات الكبرى الأقدم «من ليبراليّة وواقعيّة لم تعد نافعة؛ ذلك أنَّ الأمن الأميركيّ لن يضمنه، كما يظنّ أصحاب الإستراتيجيّة الواقعيّة، الحفاظُ على الردع والعلاقات المستقرّة بين الدول العظمى، ففي عالم من التهديدات غير المتناظرة، ليس ميزان القوّة العالميّ هو الذي يميل كفّة الحرب أو السلام، كذلك فإنّه ربما كان للإستراتيجيّات الليبراليّة المتعلّقة ببناء النظام على التجارة المفتوحة والمؤسّسات الديمقراطيّة بعض التأثير البعيد المدى على الإرهاب، ولكنّه لا يعالج التهديدات الفوريّة. فالعنف الكارثيّ المجنون بات على عتبة بيتنا -كما يقول الإمبرياليّون الجدد- الأمر الذي يجعل من الجهود الرامية إلى تقوية قواعد المجتمع الدوليّ ومؤسّساته غير ذات قيمة عمليًّا. فإذا تصورنا اسوأ ما يمكن تصوّره والذي يقوم على «أنّنا لا نعرف ما لا نعرفه»، فإنَّ كلّ شيء آخر يصبح ثانويًّا، سواء القواعد الدوليّة أو تقاليد الشراكة أو معايير الديمقراطيّة. إنّها الحرب، وهي كما لاحظ كلاوزفيتز في عبارته الشهيرة: «الحرب هي شيء خطير جدًّا بحيث إنّ الأخطاء الناجمة عن المحبّة والإنسانيّة هي أسوأ أنواع الأخطار»[29].

هذه هي أبرز معالم الدولة الأمنيّة العالميّة. تلك التي توَّجها المحافظون الجدد بما عُرف بـ«عقيدة بوش». حيث سيكون العالم بأجمعه معها، رهينة قوّة ضارية تتحفّز لتنقضّ على فرائسها المفترضة في كلّ لحظة.

التوتاليتارية الذكيّة
مع دخول أميركا حقبة جورج دبليو بوش أخذت تتبلور الصورة الإمبراطوريّة ذات «الطابع الرساليّ التوتاليتاريّ»، لم يعد الأمر بالنسبة للفريق الحاكم مقصورًا على التبشير بدولة عالمية بات كلّ شأن من شؤون العالم شأنًا يخصُّها، ويتّصل اتصالًا عضويًّا بأمنها ومصالحها الجيو-استراتيجيّة.
في نهاية الحرب الباردة، انبرى عدد من الإستراتيجيّين إلى الجزم بأنّه يوجد اليوم نظام عالميّ، وتقوم الولايات المتّحدة في هذا النظام بدور لا ينحصر في الممثّل الأكبر، بل يمتد إلى دور المدبِّر. فبعد محو الخصم السوفياتيّ لم تعد وحدة أوروبا تعود عليهم بأيَّ منفعة، بل العكس، فإذا طاب لهم أن ينظروها بعين الرحمة ويستحسنوا تماسكها، وتاليًا قوَّتها الاقتصاديّة، فإنَّهم لا يستطيعون التسامح بأن تصبح قوّة عظمى جديدة يتقاسمون معها السلطة العالميّة[30].
بل أكثر من هذا، فقد تجاوزت الثقافة التوتاليتاريّة الأميركيّة الجديدة (بمعناها الإمبراطوريّ الممتدّ فوق السيادات القوميّة والوطنيّة) الأخلاق السياسيّة التقليديّة. وهي تصرَّفت، تنظيرًا وتطبيقًا، على النحو الذي يرى إلى تبرير سياسات التمدّد والنفوذ بوصفه أمرًا لا طائل منه. هذا ما صرَّح به هنري كيسينجر حين قال: «ما دام جيل ما بعد الحرب الباردة من القادة الوطنيّين يشعر بالحرج عند التصريح بمبدأ غير اعتذاريّ عن مصالح قوميّة مستنيرة، فإنَّه سيحقِّق شللًا تراكميًّا وليس ارتقاءً أخلاقيًّا». ومرّة أخرى سيقول فرانسيس فوكوياما (منظِّر نهاية التاريخ في بداية التسعينات) كلامًا دالًّا على هذه النقطة: «إنَّ البلد الذي يجعل من حقوق الإنسان عنصرًا أساسيًّا في سياسته الخارجيّة يميل إلى الوعظ الأخلاقيّ عديم الجدوى في أحسن الأحوال، وإلى استخدام العنف المفرط بحثًا عن أهداف أخلاقيّة في أسوأ الأحوال[31].

سوف يؤدّي هذا التصدير النظريّ إلى استيلاد أنساق من أساليب السيطرة لا يكون فيها للقوانين والقيم العالميّة المشتركة فعاليّة تذكر، بل على العكس، فإنَّ مثل هذه القيم ستتحوّل إلى أساليب مجدية للسيطرة، مثلما حدث في جملة من عمليّات غزو السيادات الوطنيّة بذريعة إحلال السلام وحقوق الإنسان وتعميم الديمقراطيّة.
لقد أعجبت الأيديولوجيا الأميركيّة منذ البداية بقصّة القرصان الشهير مورغان، الذي سيمنحها فلسفة استثنائيّة للسيطرة على العالم، وتقول هذه الفلسفة: إنَّ القرصان العاديّ هو الذي يُغِيرُ على السفن المسافرة، ويقتل ركابها الأبرياء وينهب حمولاتها من الأشياء والنقود. أمّا القرصان الذكيّ، فإنَّه لا يُغِيرُ إلّا على سفن القراصنة الآخرين، ينتظرهم قرب مكامنهم عائدين محمَّلين بالغنائم مجهَدين من القتل والقتال، ثم ينقضُّ عليهم محقِّقًا جملة أهداف:

ـ أوّلًا يحصل على كنوز عدَّة سفن أغار عليها القرصان العاديّ، لكن القرصان الذكيّ يحصل عليها جاهزة بضربة واحدة.
ـ لا يرتكب بالقرصنة جريمة، لأنَّه نَهَبَ الذين سبقوه إلى النهب، وعليه فإنَّ ما قام به لم يكن جريمة وإنَّما عقاب عادل.
إنَّ القرصان الذكيّ بهذا الأسلوب يصنع لنفسه مكانة رهيبة ومهابة استثنائيّة.
معنى ذلك أنَّ الولايات المتحدة لا تشغل نفسها بالسيطرة على بلدان مفردة، وإنَّما تأخذ الأقاليم بالحزمة وتبلع الموائد الإمبراطوريّة بكلِّ ما عليها.

هذه الثقافة السياسيّة الأميركيّة ستجد وقائعها منذ أكثر من مئة سنة، وهي تداوم على هذه السجيّة إلى الآن. هناك مثل على هذا: ففي العام 1898 ورد في خطاب عضو الكونغرس عن ولاية فرجينيا ألبرت بيفردج قوله: عليكم أن تتذكَّروا اليوم ما فعله آباؤنا، علينا أن ننصب خيمة الحرّيّة أبعد في الغرب، وأبعد في الجنوب (...) علينا أن نقول لأعداء التوسُّع الأميركيّ إنَّ الحرّيّة تليق فقط بالشعوب التي تستطيع حكم نفسها، وأمّا الشعوب التي لا تستطيع، فإنَّ واجبنا المقدَّس أمام الله يدعونا لقيادتها إلى النموذج الأميركيّ في الحياة؛ لأنَّه نموذج الحقّ مع الشرف، فنحن لا نستطيع أن نتهرَّب من مسؤوليّة وضعتها علينا العناية الإلهيّة لإنقاذ الحرّيّة والحضارة؛ ولذلك فإنَّ العَلَمَ الأميركيّ يجب أن يكون رمزًا لكلِّ الجنس البشريّ.

هذه الداروينيّة السياسيّة لم تغب يومًا عن المعتقد الإستراتيجيّ الأميركيّ، فقد وجدت لها محلًّا في الزوايا السرية لكلِّ إدارة منذ البدايات الأولى للتأسيس، عبر عمليّات الاستيطان الدمويّ، وحروب الإبادة الجماعيّة للسكّان الأصليّين.
كانت بداية الحلم الإمبراطوريّ الأميركيّ الذي خرج ليقوم بدور «آكل الإمبراطوريّات» أواخر القرن التاسع عشر -تشتغل على البدء بالأقرب، أي: إمبراطوريّات إسبانيا والبرتغال- فتلك قوى أصابها الوهن بعدما أفسدها الذهب المنهوب من كنوز قبائل وشعوب أميركا اللاتينيّة، ومع ذلك فهي لا تزال مصمِّمة على ادّعاء العظمة في جنوب ووسط نصف الكرة الغربيّ وتحسب نفسها سيّدة ممتلكات تعتبرها لها، ولها وحدها حقّ الاكتشاف والفتح.
كانت الإغارة على ممتلكات أسبانيا والبرتغال مهمّة سهلة إلى حدّ كبير، ولعلَّها فتحت شهيّة الإمبراطوريّة الجديدة وأكَّدت لها -مرّة أخرى- صحّة نظريّتها في الإغارة على الإمبراطوريّات السابقة للحصول على كلّ شيء -ومرّة واحدة- وليس على مراحل أو على آجال تتغيَّر خلالها الموازين.
ومع بداية القرن العشرين كانت الولايات المتحدة منهمكة تدرس أحوال إمبراطوريّات أوروبا، سواء منها المتهالكة بطول السنين، أو تلك المتماسكة وتصلّب عودُها وتعطي نفسها عمرًا متجدِّدًا بكلِّ الوسائل!

كان ذلك شاغل الولايات المتّحدة الأميركيّة ـ وهي [عارفة أنَّها تخالف به وصية الجنرال «جورج واشنطن» ـ كما أنها مدركة وهي تتابع مجرى الحوادث في أوروبا ـ (بعد توحيد ألمانيا ـ وحرب السبعين ـ وسقوط دولة نابليون الثالث ـ ومشهد كوميونة باريس المؤذن بعصر من الثورات الاجتماعيّة) ـ أنَّ القارّة القديمة مقبلة على حرب عالميّة لإعادة توزيع المستعمرات وشعورها أنَّ القرصنة سانحة لها لكي تخرج إلى أعالي البحار[32].
وكان التحدّي الأكبر الذي يواجه الولايات المتّحدة، هو كيف يمكن إزاحة تلك الإمبراطوريّات القديمة والاستيلاء على ممتلكاتها بتطبيق أسلوب الكابتن «مورغان»، حتّى وإن كانت تجربة الحظوظ في بحار بعيدة ضدّ إمبراطوريّات ما زالت متعافية، ـ يعني أنَّ المهمة هذه المرّة أصعب، فقد كانت إمبراطوريّة كلّ من أسبانيا والبرتغال موجودة في حوض المياه الأميركيّ، كما أنَّ كلتا الإمبراطوريّتين نزل عليها الغروب فعلًا ـ وأمّا في حالة الإمبراطوريّات الأوروبيّة، فإنَّ عمليّة الاستيلاء سوف تتمّ على الشواطئ البعيدة، والشمس هنالك بعد الظهر![33]
من ضمن مقالة له بعنوان «الإمبراطوريّة على الطريقة الأميركيّة» يُفرد محمّد حسنين هيكل قسمًا منها يعرض فيه للصيرورة الإجماليّة للنموّ الإمبراطوريّ الأميركيّ. وهو سيختار لهذا الغرض كتاب ستانلي كارنوف «أميركا تتجِّه إلى العولمة» (America Goes Global). ففي هذا الكتاب يقوم كارنوف بتحليل آليّات الفكر الأميركيّ في تلك اللحظة الإمبراطوريّة من أواخر القرن التاسع عشر، ويعرض مجموعة ملاحظات تبيِّن السِّمات الإجماليّة لحركة الدولة الصاعدة باتجاه السيطرة الإمبراطوريّة، وهذه الملاحظات كما وردت في مقالة هيكل هي التالية:

أنَّ الولايات المتّحدة نشأت ونمت ـ بطبائع الجغرافيا والتاريخ ـ دولة متحرِّكة لا تطيق الوقوف مكانها، وتعتقد أنَّ الوقوف لا يكون إلاَّ استسلامًا لحصار أو تمهيدًا لتراجع، أي أنَّ غرائزها ودوافعها تحفزِّها دائمًا لأن تتقدَّم وتتقدَّم ـ تنتشر وتنتشر.
وحتى تلك اللحظة من الزمن ـ أواخر القرن التاسع عشر ـ كان التقدُّم والتوسُّع يجري على أساس ملء المساحة من خطّ الماء (الأطلسيّ) ـ إلى خطّ الماء (الباسيفيكيّ)، وقد قبلت الولايات المتّحدة ضريبة الحرب الأهليّة لهذا السبب وحده ـ وهو ملء المساحة من الماء إلى الماء بدولة واحدة قويّة.
عمليّة الوصول من الماء إلى الماء تمَّت بسلاح النار في معظم الأحيان، وبسلاح الذهب في بعضها، لأنَّ عددًا من الولايات مثل لويزيانا وآلاسكا جرى شراؤها بالذهب (وكان استعمال الذهب في شراء الولايات أكثر عدلًا من استعمال قطع الزجاج الملوَّن ـ ملء قدح من الخرز ـ وهو بالضبط ما دفعه مهاجرون هولنديّون في صفقة شراء جزيرة «مانهاتن» ـ قلب نيويورك).
فور انتهاء الحرب الأهليّة، فإنَّ الولايات المتحدة مضت تتطلَّع عبر الماء على الناحيتين إلى آسيا وأوروبا، وتشعر بهدير محرِّكاتها الداخليّة توجّهها إلى الشواطئ البعيدة، بادّعاء «مهمّة مقدَّسة» و«قدر محتوم» يكلِّفها بملء كلّ فراغ على الأرض، وتغطية أي غياب للبشر ـ والأميركيّين بخاصّة ـ عن موارد الثروة والغنى.
ثمّ يورد هيكل حادثة أوردها كارنوف في سياق قراءته تلك الحقبة من القرن التاسع عشر، وهي تكشف مدى استغراق الفكر السياسيّ الأميركيّ بأحلام التوسُّع، وشغفه بالقوّة، وبالقدرة الحتميّة على تحقيقها. وبدا واضحًا من تضمينات هيكل في تعليقه على حكايات صاحب الكتاب المشار إليه أنّ الميتافيزيقا السياسيّة التي سنشهد عليها في القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين هي التي تحكم الجذر الفكريّ والأيديولوجيّ للسلوك الإستراتيجيّ الأميركيّ في تحقيق الإمبراطوريّة مترامية الأطراف. تقول الحكاية:
كان الرئيس «ويليام ماكينلي» الذي بدأت أثناء رئاسته أولى محاولات التوسُّع والانتشار الإمبراطوريّ الأميركيّ ـ شخصيّة غريبة، (ومن المدهش أنَّها تحمل وجوه شبه مع الرئيس الأميركيّ الحالي «جورج بوش» ـ فقد كان رجل أعمال وسياسيًّا لا يملك التجربة الناضجة ولا الخلفيّة الثقافيّة التي يعتمد عليها في سياسته وقراره، ولهذا كان جلّ اعتماده على مساعديه وعلى جماعات الضغط من أصحاب المصالح، وقد رُويت عنه ـ فيما يحكيه «ستانلي كارنوف ـ في كتابه عن الإمبراطوريّة الأميركيّة (في آسيا) ـ نكتة شاعت تقول:

«سؤال ـ كيف يتشابه عقل الرئيس «ماكينلي» مع سريره»؟

وردّ السؤال:
«كلاهما لا بد أن يرتِّبه له أحد قبل أن يستعمله!».

ثم يُورد «ستانلي كارنوف» في كتابه مشاهد تبدو ـ كما يعلِّق هيكل ـ وكأنَّها تجري (سنة 2003) في البيت الأبيض ـ وكلامًا يصحّ أن يقوله الساكن يومذاك لهذا البيت الأبيض (الذي كانت تتولّى مستشارته للأمن القوميّ السيّدة «كونداليزا رايس» مهمّة ترتيب عقله كلّ يوم قبل أن يستعمله، تاركة ترتيب سريره لغيرها!).

ويكتب «كارنوف»:
«كانت المناقشات في أميركا محتدمة حول ما ينبغي عمله مع البلدان التي احتلّتها الأساطيل الأميركيّة في الباسيفيك، وكانت فكرة «الإمبراطوريّة» تجربة مستجدّة على الولايات المتّحدة، وكان على الرئيس «ماكينلي» أن يفصل في الأمر بقرار».
وفي أيلول/ سبتمبر 1898 استقبل الرئيس وفدًا من قساوسة جمعيّة الكنائس التبشيريّة، الذين فوجئوا به بعد أن انتهت جلسته معه يقول لهم:
«عودوا إلى مقاعدكم أيها السادة لأنِّي أريد أن أقصّ عليكم نبأ وحي سماويّ ألهمني (Inspiration of divine guidance). أريد أن أقول لكم إنّني منذ أيّام لم أنم الليل بسبب التفكير فيما عسى أن نصنعه بتلك الجزر البعيدة (يقصد الفليبين بالذات) ـ ولم تكن لديَّ أدنى فكرة عمّا يصح عمله، ورُحت أذرع غرفة نومي ذهابًا وجيئة أدعو الله أن يلهمني الصواب، ثمّ وجدت اليقين يحلُّ في قلبي والضوء يسطع على طريقي.
إنَّ هذه الجزر جاءتنا من السماء، فنحن لم نطلبها، ولكنَّها وصلت إلى أيدينا منَّة من خالقنا، ولا يصحّ أن نردّها، وحتى إذا حاولنا ردَّها فلن نعرف لمن؟ ـ ولا كيف؟[34]
هذا النحو القَدَري من الاعتقاد السياسيّ للأميركيين الأوائل، لم يكن حالة عارضة في الثقافة المؤسِّسة للولايات المتّحدة. كانت القَدَرية في أساس النشأة. حيث اعتقد المهاجرون إلى الأرض المكتشفة في ما وراء البحار أنَّهم آتون إلى أرض الوعد الإلهيّ ليقيموا عليها دولتهم الفاضلة. أمّا السؤال عن الحجَّة التي حملت الرئيس ماكينلي على القول إنَّ جزر الفليبّين البعيدة هبطت عليه من السماء، فإنَّما يجد جوابه في عقيدة الاستيطان نفسها، وهي عقيدة توراتيّة خالصة تفصح عنها مكنونات العهد القديم والتأويلات التي أسقطها عليه فقهاء المستعمرين الجدد.
في احقاب متأخّرة من القرن العشرين، وبدايات القرن الحاضر، سوف تبلغ أيديولوجيّة الحرب في الأطروحة الأميركيّة مبلغها الأقصى[35]. ثمّ إنّنا لنجد بالمعاينة التفصيليّة كيف ستهبط الميتافيزيقا من عليائها، لتمارس ما لا حصر له من صنوف الغَلَبة على عوالم الأرض المختلفة. حتى اذا أَزِفَت الألفية الثالثة استحالت الأرض العربيّة والإسلاميّة الواسعة ولما تزل، حقولًا خصيبة لنهاية التاريخ وبداية الجغرافيّا..


لائحة المصادر والمراجع
ج. جون إكنبري، طموح أميركا الإمبرياليّ، «شؤون الأوسط»، العدد 110، ربيع 2003، ترجمة: غسان رملاوي نقلًا عن فصليّة Forign Affairs sep. oct. 2002 vol 81- No5.
حسن ولد المختار، أميركا بين واقعيّة «مكيافيللي» ومثاليّة «روسو»، «الاتحاد»، أبو ظبي 25/ 4/ 2003.
زبيغنيو بريجنسكي، بين عصرين، أميركا والعصر التكنوترونيّ، ترجمة وتقديم محجوب عمر، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى 1980 (287-288).
ضياء الدين سارادار وميريل وين ديفيس، فصل من كتاب نشرته فصلية «شؤون الأوسط»، العدد (110) ربيع 2003، ترجمة: علي جوني والعنوان الكامل للكتاب: Pourquoi le monde deteste-t, il l’Amerique? Paris, e’d. Fayard ,2002..
لويس هـ. لافام، روما الأميركيّة، عن نظريّة الإمبراطوريّة الفاضلة، نقله إلى العربية شادي عمران بطاح، في إطار ملف أعدَّته «مجلة الثقافة العالميّة» الكويت، بعنوان «طبيعة الدولة الفاشلة»، العدد 117، مارس (إبريل) 2003.
مايكل هاردت وأنطونيو نيغري، الإمبراطوريّة، إمبراطوريّة العولمة الجديدة، تعريب فاضل جتكر، مراجعة النص، د.رضوان السيّد، مكتبة العبيكان 2002، الرياض، السعوديّة.
محمّد حسنين هيكل، الإمبراطوريّة على الطريقة الأميركيّة، «وجهات نظر» القاهرة، العدد الخمسون، السنة الخامسة، مارس/ آذار 2003.
محمود حيدر، الدولة المستباحة، من نهاية التاريخ إلى بداية الجغرافيّا، شركة رياض الريّس للكتب والنشر، بيروت الطبعة الاولى 2004.
ميشال بوغنون، موردان، أميركا التوتاليتاريّة، الولايات المتحدة والعالم إلى أين؟، تعريب: د.خليل أحمد خليل، دار الساقي، الطبعة الولى 2002.
الياس حنا، استراتيجيّة الأمن القوميّ الأميركيّ، ندوة «شؤون الأوسط» عدد 110، ربيع 2003.
يورغن هابر ماس «التمثال والثوريّون»، «لوموند»، باريس، السبت 3 أيار/ مايو 2003.

المصادر الأجنبية
M. hardt/ A. Negri, Empire paris: Exils Editeur, 2000.
Bruce Ackerman proposes a periodization of the first three regmes or phases of U.S. Constitutional history. See wetne people: Foundations (Cambridge, Mass: Harvard University press 1991) in particular.
Gerard Chaliand et Arnaud Blim America is back-les Nouveaux Cesars du Pentagoune. Paris 2002.

----------------------------------
[1]*- باحث في الفلسفة والفكر الإسلاميّ، لبنان.
[2]- M. hardt/A. Negri, Empire (paris: Exils Editeur, 2000, PP215- 216).
[3]- Ipid, P210 -211.
[4]- Ipid, M. hardt/A. Negri, Empire P217.
[5]- Ipid, P217.
[6]- لويس هـ. لافام، روما الأميركيّة، عن نظريّة الإمبراطوريّة الفاضلة، نقله إلى العربية شادي عمران بطاح، في إطار ملفّ أعدَّته «مجلّة الثقافة العالميّة» الكويت، بعنوان «طبيعة الدولة الفاشلة»، العدد 117، مارس (إبريل) 2003.
[7]- لافام، المصدر نفسه.
[8]- لافام، المصدر نفسه.
[9]- ميشال بوغنون، موردان، أميركا التوتاليتاريّة، الولايات المتّحدة والعالم إلى أين؟، تعريب: د.خليل أحمد خليل، دار الساقي، الطبعة الأولى 2002 (ص245).
[10]- - ميشال بوغنون، موردان، أميركا التوتاليتاريّة، الولايات المتّحدة والعالم إلى أين؟، تعريب: د.خليل أحمد خليل، دار الساقي، الطبعة الأولى 2002 ، ص243.
[11]- المصدر نفسه، ص246.
[12]- مايكل هاردت وأنطونيو نيغري، الإمبراطوريّة، إمبراطوريّة العولمة الجديدة، تعريب: فاضل جتكر، مراجعة النصّ، د. رضوان السيد، مكتبة العبيكان 2002، الرياض، السعوديّة (ص268).
[13]- Bruce Ackerman proposes a periodization of the first three regmes or phases of U.S. Constitutional history. See wetne people: Foundations (Cambridge, Mass: Harvard University press 1991) in particular pp58- 80.
[14]- مايكل هاردت وأنطونيو نيغري، المصدر نفسه، ص252.
[15]- راجع محمد حسنين هيكل، الإمبراطوريّة على الطريقة الأميركيّة، مجلّة «وجهات نظر»، العدد الخمسون، آذار/ مارس 2003.
[16]- هيكل، محمد حسنين، المصدر نفسه.
[17]- هيكل، محمد حسنين، المصدر نفسه.
[18]- زبيغنيو بريجنسكي، بين عصرين، أميركا والعصر التكنوترونيّ، ترجمة وتقديم: محجوب عمر، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى 1980 (287-288).
[19]- Gerard Chaliand et Arnaud Blim America is back-les Nouveaux Cesars du Pentagoune. Paris 2002.
[20]- راجع حسن ولد المختار، أميركا بين واقعيّة «مكيافيللي» ومثاليّة «روسو»، «الاتحاد»، أبو ظبي 25/ 4/ 2003.
[21]- انظر: ضياء الدين سارادار وميريل وين ديفيس، فصل من كتاب نشرته فصلية «شؤون الأوسط»، العدد (110) ربيع 2003، ترجمة: علي جوني والعنوان الكامل للكتاب:
Pourquoi le monde deteste-t, il l’Amerique? Paris, e’d. Fayard, 2002. P284.
[22]- انظر: ضياء الدين سارادار وميريل وين ديفيس، فصل من كتاب نشرته فصلية «شؤون الأوسط»، العدد (110) ربيع 2003، ترجمة: علي جوني والعنوان الكامل للكتاب:
Pourquoi le monde deteste-t, il l’Amerique? Paris, e’d. Fayard, 2002. P284.
[23]- أنظر ضياء الدين سارادار وميريل وين ديفيس، فصل من كتاب نشرته فصلية «شؤون الأوسط»، العدد (110) ربيع 2003، ترجمة: علي جوني والعنوان الكامل للكتاب:
Pourquoi le monde deteste-t, il l’Amerique? Paris, e’d. Fayard, 2002. P284.
[24]- يورغن هابر ماس «التمثال والثوريّون»، «لوموند»، باريس، السبت 3 أيار/ مايو 2003.
[25]- الياس حنّا، استراتيجيّة الأمن القوميّ الأميركيّ، ندوة «شؤون الأوسط» عدد 110، ربيع 2003.
[26]- ج. جون إكنبري، طموح أميركا الإمبرياليّ، «شؤون الأوسط»، العدد 110، ربيع 2003، ترجمة: غسان رملاوي نقلًا عن فصليّة
Forign Affairs sep. oct. 2002 vol 81- No5
[27]- إكنبري، المصدر نفسه.
[28]- إكنبري، المصدر نفسه.
[29]- إكنبري، المصدر نفسه.
[30]- المصدر نفسه، ص244.
[31]- Tne National Interes - 2001.
[32]- محمّد حسنين هيكل، الإمبراطوريّة على الطريقة الأميركيّة، «وجهات نظر» القاهرة، العدد الخمسون، السنة الخامسة، مارس/ آذار 2003.
[33]- هيكل، المصدر نفسه.
[34]- هيكل، المصدر نفسه.
[35]- محمود حيدر، الدولة المستباحة، من نهاية التاريخ إلى بداية الجغرافيا، شركة رياض الريس للكتب والنشر، بيروت الطبعة الاولى 2004، راجع المقدمة.